الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182906 / تحميل: 6267
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (١) .

وعبارة (يوفي) مشتقّة من (وفى) وتعني إعطاؤه حقّه تاما كاملا. وعبارة (بغير حساب) تبيّن أن للصابرين أفضل الأجر والثواب عند الله ، ولا يوجد عمل آخر يبلغ ثوابه حجم ثواب الصبر والاستقامة.

والشاهد على هذا القول ما جاء في الحديث المعروف الذي رواه الإمام الصادقعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي جاء فيه : «إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ، ولم ينشر لهم ديوان ، ثمّ تلا هذه الآية :( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (٢) .

والبعض يعتقد أنّ هذه الآية تخصّ الهجرة الأولى للمسلمين ، أي هجرة مجموعة كبيرة من المسلمين إلى أرض الحبشة تحت قيادة جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام ، وكما قلنا مرارا رغم أنّ أسباب النّزول توضيح مفهوم الآية ، إلّا أنّها لا تحددها.

أمّا المنهج الخامس فقد ورد فيه أمر الإخلاص والتوحيد الخالي من شوائب الشرك ، وهنا تتغير لهجة الكلام بعض الشيء ، ويتحدث الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وظائفة ومسئولياته ، إذ يقول :( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) .

ثم يضيف :( وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) . وهذا هو المنهج السادس الذي يعترف بأنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أول الناس إسلاما وتسليما لأوامر البارئعزوجل .

أمّا المنهج السابع والأخير فيتناول مسألة الخوف من عقاب البارئعزوجل يوم القيامة ، قال تعالى :( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ

__________________

(١) «بغير حساب» من الممكن أن تكون متعلقة بـ (يوفى) ، أو أنها (حال) لـ (أجرهم) لكن الاحتمال الأول أنسب.

(٢) تفسير مجمع البيان ذيل آيات البحث ، ونفس المعنى مع اختلاف بسيط ورد في تفسير القرطبي نقلا عن الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام عن جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤١

عَظِيمٍ ) .

التأمل في هذه الآيات يكشف بوضوح عن أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عبد من عباد الله ، وهو مكلف أيضا بعبادة الله بإخلاص ، لأنّه ـ هو أيضا ـ يخاف العذاب الإلهي ، وهو مكلّف بإطاعة الأوامر الإلهية ، كما أنّه مكلّف بتكاليف وواجبات أثقل وأعظم من تكاليف الآخرين ، ولذا يجب أن يكون أفضل وأسمى من الآخرين.

إنّه لم يدّع الألوهية أبدأ ، ولم يخط خطوة واحدة خارج مسير العبودية ، بل إنّه يفتخر ويتباهى بهذا المقام ، ولهذا السبب كان قدوة وأسوة ، وهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يفضّل نفسه على الآخرين ، وهذا دليل على عظمته وأحقّيته ، فهو ليس كالمدّعين الكذّابين الذين كانوا يدعون الناس إلى عبادتهم ، ويعتبرون أنفسهم أرقى من البشر ، وأنّهم من معدن ثمين أفضل من الناس ، وأحيانا يدعون أتباعهم إلى التبرع سنويا بالذهب والجواهر بقدر وزنهم.

إنّه يقول : إنّي لست مثل السلاطين المتجبرين على رقاب الناس الذين يكلفون الناس ببعض التكاليف ويعتبرون أنفسهم «فوق تلك التكاليف» وهذا في الواقع إشارة إلى موضوع تربوي هامّ ، وهو أنّ كلّ إنسان ـ مربيا كان أم قائدا ـ عليه أن يكون السباق في تنفيذ من أجلها ما يمليه عليه نهجه ، فيجب أن يكون أوّل مؤمن بشريعته أو سنته وأكثر الساعين والمضحين كي يؤمن الناس بصدقه ، ويتخذونه أسوة وقدوة لهم في كلّ الأمور. ومن هنا يتضح أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن أوّل مسلم من حيث الزمان وحسب ، وإنّما كان أوّل إسلاما من كلّ النواحي ، من ناحية الإيمان والإخلاص ، والعمل ، والتضحية ، والجهاد ، والصمود ، والمقاومة ، وتأريخ حياة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤيد هذه الحقيقة بصورة جيدة.

بعد استعراض المناهج السبعة المذكورة في الآيات أعلاه (التقوى ، الإحسان ، الهجرة ، الصبر ، الإخلاص ، التسليم ، الخوف).

ولكون مسألة الإخلاص لها ميزات خاصة في مقابل العلل المختلفة للشرك ،

٤٢

تعود الآيات لتؤكّد عليها مرّة أخرى ، إذ تقول وبنفس اللهجة السابقة :( قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ) (١) .

أما أنتم فاعبدوا ما شئتم من دون الله :( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) .

ثمّ تضيف :( قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) .

أي إنّهم لم يستثمروا طاقاتهم وعمرهم ، ولا من عوائلهم وأولادهم لإنقاذهم ، ولا لإعادة ماء الوجه المراق إليهم ، وهذا هو الخسران العظيم :( أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) .

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تصف إحدى صور الخسران المبين ، إذ تقول :( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) .

وبهذا الشكل فإنّ أعمدة النيران تحيط بهم من كلّ جانب ، فهل هناك أعظم من هذا؟ وهل هناك عذاب أشدّ من هذا؟

«ظلل» جمع (ظلّة) على وزن «سنّة» وتعني الستر الذي ينصب في الجهة العليا. وطبقا لهذا فإنّ إطلاق هذه الكلمة على ما يفرش تحت اهل النّار اطلاق مجازي ومن باب التوسع في معنى الكلمة.

بعض المفسّرين قالوا : بما أنّ أصحاب النّار يتقلبون بين طبقات جهنم ، فإنّ ستائر النّار محيط بهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم. والآية (٥٥) من سورة العنكبوت تشبه هذه الآية :( يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

هذا في الحقيقة تجسيد لأحوالهم وأوضاعهم في هذه الدنيا ، إذ أن الجهل والكفر والظلم محيط بكلّ وجودهم ، ومستحوذ عليهم من كلّ جانب ، ثمّ تضيف الآية مؤكّدة وواعظة إياهم :( ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ) .

إضافة كلمة (العباد) إلى لفظ الجلالة في هذه الآية ، ولعدّة مرّات اشارة إلى أنّ

__________________

(١) تقديم (اسم الجلالة) والذي هو مفعول (اعبد) يفيد الحصر هنا ، وقوله (مخلصا له ديني) التي هي حال يؤكّد معنى الحصر.

٤٣

تهديد البارئعزوجل لعباده بالعذاب إنّما هو لطف ورحمة منه ، وذلك كي لا يبتلى عباده بمثل هذا المصير المشؤوم ، ومن هنا يتضح أنّه لا حاجة لتفسير كلمة (العباد) هنا على أنّها تخصّ المؤمنين ، فهي تشمل الجميع ، كي لا يأمن أحد من العذاب الإلهي.

* * *

ملاحظات

١ ـ حقيقة الخسران!

يرى الراغب في مفرداته أنّ الخسران يعني ذهاب رأس المال كلّه أو بعضه ، وأحيانا تنسب إلى الإنسان ، عند ما يقال : (الشخص الفلاني خسر) وأحيانا تنسب إلى العمل عند ما يقولون : (خسرت تجارته).

وتستخدم كلمة (خسران) أحيانا في حالة فقدان الثروة الظاهرية ، كالمال والجاه ، الدنيوي ، وأحيانا أخرى تستخدم في حالة فقدان ثروة معنوية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب ، وهذا هو الشيء الذي سمّاه البارئعزوجل (الخسران المبين) فكلّ خسران ذكره البارئعزوجل في القرآن الكريم إنّما يشير إلى المعنى الثّاني وليس إلى الخسران الخاص بثروات الدنيا وتجارتها(١) .

وقد شبّه القرآن الإنسان بتجارة الأثرياء الذين يدخلون أسواق التجارة العالمية برؤوس أموال كبيرة ، فالبعض منهم يجني أرباحا كبيرة ، والبعض الآخر يخسر خسارة فادحة.

آيات كثيرة في القرآن المجيد تطرقت إلى مثل هذا التعبير والتشبيه ، حيث توضح الحقيقة التالية : إنّ النجاة من العذاب الإلهي لا تتحقق بالجلوس وانتظار

__________________

(١) مفردات الراغب مادة (خسر).

٤٤

هذا وذاك ، وإن السبيل الوحيد للنجاة هو الاستفادة من الثروة ، وبذل الجهود والمساعي في هذه التجارة الكبيرة ، لأنّ كلّ شيء يعطى بثمن ، ولا يعطى بالمعاذير!

وقد يتساءل البعض : ما هي أسباب وصف خسارة المشركين والمذنبين بالخسران المبين؟

الجواب هو :

أوّلا : لأنّهم باعوا أفضل ثروة لديهم ـ أي العمر والعقل والإدراك والعواطف الانسانية ـ بدون مقابل.

ثانيا : لو أنّهم باعوا تلك الثروة من دون أن يشتروا العذاب والعقاب لكان أمرا هينا بعض الشيء ، لكنّ الأمر لم يكن كذلك إذ أنّهم بخسرانهم لتلك الثروة العظيمة هيأوا لأنفسهم عذابا أليما وعظيما.

ثالثا : إنّ هذه الخسارة التي لا يمكن أن تعوّض بأيّ ثمن ، وهذه هي (الخسران المبين).

٢ ـ ما هو المراد من الآية :( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ )

عبارة( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ ) جاءت بصيغة أمر تهديدي ، وهذا الأسلوب يستعمل عند ما لا تؤثر النصيحة والموعظة بالشخص المجرم والمذنب ، إذ أنّ آخر ما يقال له : (افعل ما تشاء ، ولكن انتظر العقاب أيضا) ويعني أنّك وصلت إلى درجة لا تستحقّ معها النصيحة والموعظة ، وأنّ مصيرك وعلاجك هو العذاب الأليم.

٣ ـ من هم الأهل؟

الآيات المذكورة أعلاه تقول : إنّ أولئك الخاسرين لم يخسروا ثروة وجودهم فحسب ، وإنّما خسروا أهليهم أيضا.

٤٥

بعض المفسّرين قال : إنّ المراد من (أهل) هم أتباع الإنسان والسائرون على نهجه.

والبعض الآخر فسّرها بأنّها تعني الزوجات القاصرات الطرف في الجنّة ، اللواتي خسرهن المشركون والمجرمون.

والبعض الآخر يقول : إنّها تعني العائلة والأرقاب في الدنيا.

والمعنى الأخير ـ مع الالتفات إلى أنّه المعنى الأصلي لهذه الكلمة ـ يعد أنسب من الجميع ، لأن الكافر يخسر أهله يوم القيامة ، إذ ينفصلون عنه وإن كانوا مؤمنين ، وأما إذا كانوا مشركين فمضافا إلى أنّهم لا ينفعونهم ، سيكونون سببا في زيادة العذاب الأليم.

* * *

٤٦

الآيات

( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) )

التّفسير

عباد الله الحقيقيون :

استخدم القرآن الكريم مرّة اخرى أسلوب المقارنة في هذه الآيات ، إذ قارن بين عباد الله الحقيقيين والمشركين المعاندين الذين لا مصير لهم سوى نار جهنّم ، قال تعالى :( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى ) .

ولكون كلمة (البشرى) جاءت هنا بصورة مطلقة وغير محدودة ، فتشمل كافة

٤٧

أنواع البشرى بالنعم الإلهية المادية والمعنوية ، وهذه البشرى بمعناها الواسع تختص فقط بالذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وعمدوا إلى عبادة الله وحده من خلال إيمانهم به وعملهم الصالح.

وكلمة «طاغوت» من مادة (الطغيان) تعني الاعتداء وتجاوز الحدود ، ولذا فإنّها تطلق على كلّ متعدّ ، وعلى كلّ معبود من دون الله ، كالشيطان والحكام المتجبرين (وتستعمل هذه الكلمة للمفرد والجمع)(١) .

فعبارة( اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ) بمعناها الواسع تعني الابتعاد عن كلّ أشكال الشرك وعبادة الأصنام وهو النفس والشيطان ، وتجنب الانصياع والاستسلام للحكام المتجبرين الطغاة.

أمّا عبارة( أَنابُوا إِلَى اللهِ ) فإنّها تجمع روح التقوى والزهد والإيمان ، وأمثال هؤلاء يستحقون البشرى.

ويجب الالتفات إلى أنّ عبادة الطاغوت لا تعني فقط الركوع والسجود له ، وإنّما تشمل كلّ طاعة له ، كما ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام «من أطاع جبارا فقد عبده»(٢) .

ثم تعرج الآية على تعريف العباد الخاصّين فتقول :( فَبَشِّرْ عِبادِ (٣) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

الآيتان المذكورتان بمثابة شعار إسلامي ، وقد بيّنتان حرية الفكر عند المسلمين ، وحرية الإختيار في مختلف الأمور.

__________________

(١) بعض المفسّرين ، ومنهم الزمخشري صاحب الكشّاف يعتقدون أنّ أصل كلمة (طاغوت) هو (طغوت) على وزن (فعلوت) (كملكوت) ، ثمّ تقدمت لام الفعل على عين الفعل وأصبحت (طغوت) ، وبعد إبدال الواو بالألف أصبحت (طاغوت) ويستدل صاحب الكشّاف على هذا الكلام من عدّة مصادر (تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٢٠).

(٢) مجمع البيان ، الجزء السابع ، الصفحة ٤٩٣ ، ذيل آية البحث.

(٣) (عباد) كانت في الأصل (عبادي) وقد حذفت الياء وعوض عنها بالكسرة.

٤٨

ففي البداية تقول (بشر عباد) ثمّ تعرّج على تعريف أولئك العباد المقربين بأنّهم أولئك الذين لا يستمعون لقول هذا وذاك ما لم يعرفوا خصائص وميزات المتكلم ، والذين ينتخبون أفضل الكلام من خلال قوّة العقل والإدراك ، إذ لا تعصب ولا لجاجة في أعمالهم ، ولا تحديد وجمود في فكرهم وتفكيرهم ، إنّهم يبحثون عن الحقيقة وهم متعطشون لها ، فأينما وجدوها استقبلوها بصدور رحبة ، ليشربوا من نبعها الصافي من دون أيّ حتى يرتووا.

إنّهم ليسوا طالبين للحق ومتعطشين للكلام الحسن وحسب ، بل هم يختارون الأجود والأحسن من بين (الجيد) و (الأجود) و (الحسن) و (الأحسن) ، وخلاصة الأمر فإنّهم يطمحون لنيل الأفضل والأرفع ، وهذه هي علامات المسلم الحقيقي المؤمن الساعي وراء الحق.

أمّا ما المقصود من كلمة (القول) في عبارة( يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ) فإنّ المفسّرين أعطوا عدّة آراء لتفسيرها ، منها :

البعض فسّره بأنّه يعني (القرآن) الذي يحتوي على الطاعات والمباحات ، واقتفاء الأحسن يعني اقتفاء الطاعات.

والبعض الآخر فسّرها بأنّها تعني مطلق الأوامر الإلهية المذكورة في القرآن وغير المذكورة فيه.

ولكن لم يتوفّر أيّ دليل على هذين التّفسيرين ، بل أن ظاهر الآية يشتمل كلّ قول وحديث ، فالمؤمنون هؤلاء يختارون من جميع الكلمات والأحاديث ما هو (أحسن) ، ليترجموه في أعمالهم.

والطريف في الأمر أنّ القرآن الكريم حصر في الآية المذكورة أعلاه الذين هداهم الله بأولئك القوم الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه ، كما أنّه اعتبر العقلاء ضمن هذه المجموعة ، وهذه إشارة إلى أنّ أفراد هذه المجموعة مشمولون بالهداية الإلهية الظاهرية ، والباطنية ، الهداية الظاهرية عن طريق العقل والإدراك ،

٤٩

والهداية الباطنية عن طريق النور الإلهي والإمداد الغيبي ، وهاتان مفخرتان كبيرتان للباحثين وراء الحقيقة ذوي التفكير الحرّ.

ولكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرغب ـ بشدّة ـ في هداية المشركين والضالين ، وكان يتألّم كثيرا لانحراف أولئك الذين لم يعطوا آذانا صاغبة للحقائق ، فأنّ الآية التالية عمدت الى مواساته بعد أن وضحت له حقيقة أنّ عالمنا هذا هو عالم الحرية والامتحان ، ومجموعة من الناس ـ في نهاية الأمر ـ يجب أن تدخل جهنم ، إذ قالت :( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) (١) .

عبارة( حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) إشارة إلى آيات مشابهة ، كالآية (٨٥) من سورة ص التي تقول بشأن الشياطين وأتباعهم :( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

ومن البديهي أنّ حتمية تعذيب هذه المجموعة لا تحمل أيّ طابع إجباري ، بل إنّهم يعذبون بسبب الأعمال التي ارتكبوها ، ونتيجة إصرارهم على ارتكاب الظلم والذنب والفساد ، بشكل يوضح أنّ روح الإيمان والتعقل كانت ميّتة في أعماقهم ، وأنّ وجودهم كان قطعة من جهنم لا أكثر.

من هنا يتبيّن أنّ قوله تعالى :( أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) هو إشارة إلى حقيقة أنّ كونهم من أصحاب النّار يعد أمرا مسلما به وكأنّهم الآن هم في قلب جهنم ، حتّى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو (رحمة للعالمين) لا يستطيع إنقاذهم من العذاب ، لأنّهم قطعوا كافّة طرق الاتصال بالله سبحانه وتعالى ولم يبقوا أيّ سبيل لنجاتهم.

ولبعث السرور في قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولزيادة الأمل في قلوب المؤمنين ،

__________________

(١) في الحقيقة ، إنّ الآية تحوي جملة محذوفة تدل عليها الجملة التي تلتها ، وتقديرها (أفأنت تخلصه) إذ يصبح تقدير الجملة كالتالي (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تخلصه (بقرينة الجملة التالية) أفأنت تنقذ من في النّار) وقال البعض الآخر : إن تقدير الآية هو كالتالي (أفمن حقت عليه كلمة العذاب ينجو منه).

٥٠

جاء في آخر الآية :( لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ ) .

فإن كان أهل جهنم مستقرين في ظلل من النّار ، كما ورد في الآية السابقة :( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) فإنّ لأهل الجنّة غرفا من فوقها غرف اخرى ، وقصور فوقها قصور اخرى ، لأنّ منظر الورود والماء والأنهار والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة والبهجة بشكل أكثر.

«غرف» جمع «غرفة» من مادة «غرف» وعلى وزن حرف ـ بمعنى تناول الشيء ولذا يطلق على من يتناول الماء بكفه ليشربه «غرفة» ثمّ أطلقت على الطبقات العليا من المنازل.

وكشفت الآية أيضا عن أن غرف أهل الجنّة الجميلة قد زينت بأنهار تجري من تحتها( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) نعم ، هذا وعد الله( وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ ) (١) .

* * *

بحوث

١ ـ منطق حرية التفكير في الإسلام

الكثير من المذاهب الوضعية تنصح أتباعها بعدم مطالعة ومناقشة مواضيع وآراء بقية المذاهب ، إذ أنّهم يخافون من أن تكون حجّة الآخرين أقوى من حجّتهم. الضعيفة وبالتالي فقدان اتباعهم.

إلّا أنّ الإسلام ـ كما شاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه ـ ينتهج سياسة الأبواب المفتوحة في هذا المجال ، إذ يعتبر المحققين هم عباد الله الحقيقيين الذين لا يرهبون سماع آراء الآخرين ، ولا يستسلمون لشيء من دون أي قيد أو شرط ،

__________________

(١) يقول «الزمخشري» في الكشاف :( وَعْدَ اللهِ ) منصوب لكونه مفعولا مطلقا للتأكيد ، ولأنّ عبارة( لَهُمْ غُرَفٌ ) تعني وعدهم الله غرفا.

٥١

ولا يتقبلون كلّ وسواس.

الإسلام الحنيف يبشّر الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه ، الذين لا يكتفون بترجيح الجيد على السيء ، وإنّما ينتخبون الأحسن ثمّ الأحسن من كلّ قول ورأي.

ويوبّخ ـ بشدّة ـ الجهلة الذين يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم كلما سمعوا صوت الحق ، كما ورد في قول نوحصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما شكى قومه للبارئعزوجل :( وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ) (١) .

وأساسا فإنّ المذهب القوي الذي يملك منطقا قويا لا يرهب أقوال الآخرين ، ولا يخاف من طرح آراء تلك المذاهب ، لأنّه أقوى منها وهي التي ينبغي أن تخافه.

هذه الآية وضعت ـ في نفس الوقت الذين يتبعون أيّ قول يقال لهم من دون أيّ تفكير في مدي صدقه ، وحتى أنّهم لا يحققون ولا يبحثون فيه بقدر ما تبحث الأغنام عن الغذاء الجيد في المراعي ، وضعتهم خارج صف (أولوا الألباب) والذين (هداهم الله). فهاتان الصفتان تختصّان بالذين لم يبتلوا الاستسلام المفرط من دون أيّ قيد أو شرط ، والذين لم يفرطوا في تعصبهم الجاهلي الأعمى.

٢ ـ الردّ على بعض الأسئلة

من الممكن أن تطرح على ضوء البحث السابق عدّة أسئلة ، منها :

١ ـ لماذا يمنع الإسلام بيع وشراء كتب الضلال.

٢ ـ لماذا يحرم إعطاء القرآن الكريم بيد الكفار.

٣ ـ كيف يمكن لإنسان ليس له إلمام بموضوع ما أن ينتخب ويميز الجيد من

__________________

(١) سورة نوح ، الآية ٧.

٥٢

السيء ، ألا يستلزم هذا المعنى الدور؟

الجواب على السؤال الأوّل واضح ، لأنّ البحث المتعلّق بالآيات المذكورة أعلاه يتناول أقوالا يؤمل منها الهداية ، ففي أي وقت يتضح بعد البحث والتحقيق أن الكتاب الفلاني هو مضل فإنّه يخرج من هذا الأمر ، فالإسلام لا يسمح بأن يسلك الناس في طريق ثبت انحرافه. وبالطبع فإنّه ما دام الأمر لم يثبت لأحد ، أي ما زال الشخص في حالة التحقيق عن المذاهب الأخرى لقبول الدين الصحيح ، لا بأس بمطالعة كلّ تلك الكتب ، ولكن بعد ثبوت ذلك الأمر يجب اعتبارها مادّة سامّة ، ويجب إبعادها عن متناول الجميع.

أمّا بالنسبة إلى السؤال الثّاني ، فإنّه لا يجوز إعطاء القرآن لغير المسلم إن كان ذلك الشخص يهدف إهانة وهتك القرآن ، ولكن إن حصل علم بأن ذلك الكافر يفكر حقّا بالتحقيق في الإسلام من خلال القرآن للوصول إلى هذا الهدف ، فإن إعطاء القرآن هنا لا يعدّ أمرا ممنوعا ، بل يعدّ واجبا ، والعلماء الذين حرّموا ذلك لا يقصدون هذا المعنى.

ولهذا فإنّ الجمعيات الإسلامية الكبيرة تصرّ بشدّة على ترجمة القرآن إلى بقية اللغات الحية في العالم ، ليوضع تحت تصرف المتعطشين لمعرفة الحقيقة.

وأمّا بشأن السؤال الثّالث ، فيجب الالتفات إلى أنّه في كثير من الأحيان لا يستطيع شخص ما إنجاز عمل ما ، ولكن عند ما ينجزه الآخرون يتمكن هو من تشخيص الجيد من الرديء في ذلك العمل.

وعلى سبيل المثال ، من الممكن أن يوجد شخص لا إطلاق له بفنّ الإعمار والبناء حتى أنّه لا يستطيع وضع لبنتين فوق بعضهما البعض بصورة صحيحة ، ولكنّه يستطيع تمييز البناء الجيد ذي الكيفية العالية من البناء السيء غير المتناسق ، كما أنّ هناك أشخاصا كثيرين ليسوا بشعراء ، إلّا أنّهم يتمكون من تقييم أشعار شعراء كبار وتميزها عن الأشعار الفارغة التي ينظمها بعض ناظمي الشعر. هناك

٥٣

أشخاص ليسوا برياضيين ولكنّهم يتمكنون من التحكيم بين الرياضيين ، وانتخاب الجيد منهم.

٣ ـ نماذج من الروايات الإسلامية التي تؤكد على حرية التفكير

وردت بعض الأحاديث الإسلامية في تفسير الآيات المذكورة أعلاه ، كما وردت أحاديث مستقلة تؤكّد على هذا الموضوع ، ومنها ما ورد عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، خاطب فيه أحد أصحابه وهو هشام بن الحكم قائلا : «يا هشام ، إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه ، فقال( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) »(١) .

وورد حديث آخر عن الأمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية المذكورة أعلاه ، قال فيه: «هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه ، لا يزيد فيه ولا ينقص»(٢) .

وبالطبع ، فإنّ تفسير( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) هو المقصود في هذا الحديث ، لأن إحدى علامات اتباع القول الحسن ، هو أن لا يضيف الإنسان من عنده أي شيء على القول ، وينقله ذاته للآخرين.

ونقرأ في البلاغة في حقل الكلمات القصار لأمير المؤمنينعليه‌السلام : (الحكمة ضالة المؤمن ، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»(٣) .

٤ ـ سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسبابا لنزول هذه الآيات ، ومنها ، أنّ الآية :( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا

__________________

(١) الكافي ، المجلد الأول ، كتاب العقل الحديث (١٢).

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٨٦ ، الحديث ٣٤.

(٣) نهج البلاغة ، قصار الكلمات ، الخطبة (٨٠).

٥٤

الطَّاغُوتَ ) والآية التي تلتها نزلنا بحق ثلاثة أشخاص (لم يستسلموا في عهد الجاهلية لغوغاء المشركين في مكّة) كانوا يقولون لا إله إلا الله ، والثلاثة هم (سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وزيد بن عمرو)(١) .

وقد ورد اسم (سعيد بن زيد) بدلا (زيد بن عمرو) في بعض الرّوايات(٢) .

والبعض الآخر قال : إنّ الآية :( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) نزلت بشأن (أبي جهل) وأمثاله(٣) .

وغير مستبعد أن تكون هذه الرّوايات من قبيل تطبيق الآية على المصاديق الواضحة وليس أسبابا للنزول.

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ومجمع البيان ذيل آيات البحث.

(٢) الدر المنثور نقلا عن تفسير الميزان ، المجلد ١٧ ، صفحة ٢٦٧.

(٣) القول هذا أورده صاحب تفسير روح المعاني نقلا عن آخرين.

٥٥

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) )

التّفسير

الذين هم على مركب من نور!!

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم مرّة اخرى دلائل التوحيد والمعاد ، ليكمل البحوث التي تناولت مسألة الكفر والإيمان الواردة في الآيات السابقة. إذ تشرح أحد آثار عظمة وربوبية البارئعزوجل في نظام عالم الكون ، وذلك عند ما تشير إلى مسألة (نزول المطر) من السماء ، ثمّ إلى نمو آلاف الأنواع من الزرع بمختلف الألوان بعد أن تسقى من ماء عديم اللون ، وإلى مراحل نموها حتى وصولها إلى المرحلة النهائية وتقول موجهة الخطاب الى النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره القدوة لجميع المؤمنين( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي

٥٦

الْأَرْضِ ) (١) .

قطرات المطر التي تبعث الحياة حينما تنزل من السماء تمتصها الطبقة الأولى من طبقات الأرض ، وعند ما تنفذ إلى داخل هذه الطبقة تقف عند طبقة اخرى في الأرض ولا تتمكن من النفوذ خلالها ، لتبعث مرّة اخرى إلى سطح الأرض بصورة عيون وقنوت وآبار.

كلمة (سكله) تعني (نفوذ مياه الأمطار في داخل قشرة الأرض) وهذه إشارة مختصرة لما ذكرناه آنفا.

«ينابيع» هي جمع (ينبوع) مشتقّة من (نبع) وتعني فوران الماء من داخل الأرض. ولو كانت للأرض قشرة واحدة لا تمتلك القابلية على الامتصاص ، فإنّ مياه الأمطار النازلة سوف تتجه بأكملها بعد هطولها إلى البحار لتصب فيها من دون أن تخزن داخل قشرة الأرض ، وفي هذه الحالة ينعدم وجود العيون والقنوات والآبار. وإذا كانت الأرض ذات قشرة واحدة نفوذية تماما ، فإنّ كلّ مياه الأمطار تتجه نحو أعمق مناطق باطن الأرض ، وفي تلك الحالة يستحيل الوصول إليها واستخراجها ، فتنظيم قشرة الأرض بحيث توجد طبقتان إحداها نفوذية والأخرى غير نفوذية ، وبدرجات معينة ، كلّ ذلك ثمّ وفق حسابات خاصة ، تبيّن قدرة البارئعزوجل .

والملفت للنظر أنّ قشرة الأرض تكون أحيانا ذات طبقات متعددة ، بعضها نفوذي والبعض الأخرى غير نفوذي ، ومرتبة الواحدة فوق الأخرى ويستفاد منها في عمليات حفر الآبار (السطحية) و (العميقة) و (نصف العميقة).

وتضيف الآية فيما بعد :( ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ) ذات الأشكال المختلفة.

__________________

(١) «ينابع» على ما هو المشهور يكون منصوبا بنزع الخافض ، وهو جمع ينبوع من نبع الماء (راجع تفسير روح المعاني ، ج ٢٣ ، ص ٢٥٦ ، روح البيان ، ج ٨ ، ص ٩٣.

٥٧

أي مختلف الأنواع كالحنطة والشعير والزر والذرة ، ذات الأشكال المختلفة والألوان الظاهرية المتعددة ، فمنها الأخضر الغامق ، والأخضر الفاتح ، وبعضها ذو أوراق عريضة وكبيرة ، والبعض الآخر ذو أوراق دقيقة وصغيرة.

وممّا يذكر أن كلمة (زرع) تطلق على النباتات ذات الساق الدقيق ، فيما تطلق كلمة (شجر) على الأشجار ذات السيقان القوية ، وكلمة (زرع) ذات معان كثيرة تشمل النباتات الطبيعية التي لا يمكن الاستفادة منها للغذاء ، وأنواع الورد ونباتات الزينة والأعشاب الطبيعة التي يؤخذ منها الدواء ، وأحيانا نرى في غصن واحد ، ولربّما في وردة واحدة عدّة ألوان جميلة جذابة ، تسبح وتوحد البارئعزوجل بلسان صامت.

ثمّ تنتقل الآية إلى مرحلة اخرى من مراحل حياة هذه النباتات ، إذ تقول :( ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ) (١) حيث تعصف به الرياح من كلّ جانب لتقلعه من مكانه بسبب ضعف سيقانه ويضيف تعالى :( ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً ) .

نعم ، إن في هذا لذكرى لأصحاب القول وأهل العلم( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ) .

هذا المشهد يذكّر الإنسان بالنظام الدقيق والعظيم الذي وضعه البارئعزوجل لعالم الوجود ، وإنّه تذكير بنهاية الحياة وانطفاء شعلتها ، ومن ثمّ بمسألة البعث وعودة الأموات إلى الحياة. فرغم أنّ هذا المشهد يتعلّق بعالم النبات ، إلّا أنّه ينبّه الإنسان إلى أن مثل هذا الأمر سوف يتكرر في حياته وعمره هو أيضا مع وجود بعض الاختلاف في مدّة الأعمار ، ولكن الأساس واحد إذ يبدأ بالولادة يتدرج إلى النشاط والشباب ، ومن ثمّ الذبول والكهولة ، وفي النهاية الموت.

وكتتمة لهذا الدرس الكبير في التوحيد والمعاد ، تنتقل الآيات إلى المقارنة

__________________

(١) «يهيج» من مادة (هيجان) ولها معنيان في اللغة ، الأوّل هو جاف النبات واصفراره ، والثّاني هو التحرك والانتفاض ، ومن الممكن أو يعود المعنيان إلى أصل واحد ، لأنّ النبات حينما يجفّ فإنه يستعد للانفصال والانتشار والتحرك والهيجان.

٥٨

بين المؤمنين والكافرين ، كي توضح حقيقة أنّ القرآن والوحي السماوي هما كقطرات المطر التي تهطل على الأرض ، وكما أنّ الأرض التي لها الاستعداد هي التي تستفيد من قطرات المطر ، فكذلك القلوب المستعدة لبناء ذاتها بالاستعانة بلطف الله ، هي ـ فقط ـ التي تستفيد من آيات الله ، وذلك طبقا لقوله تعالى :( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) (١) كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور!!

أمّا القاسية قلوبهم ، فهم الذين لا تؤثر بهم المواعظ ولا الوعيد ولا البشرى ، ولا الآيات القرآنية المؤثرة ، ولا ينمي مطر الوحي الباعث للحياة عندهم ثمار التقوى والفضيلة ، وبصورة موجزة يمكن القول بأنّهم كالنباتات التي لا طراوة فيها ولا أوراق ولا ثمار ولا ظلّ.

نعم( أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

«القاسية» مشتقّة من (قسوة) وتعني الخشونة والصلابة والتحجر ، لذلك تطلق صفة (قاسية) على الأحجار الصلبة ، ويقال للقلوب التي لا تظهر أي استجابة لنور الحق والهداية ، ولا تلين ولا تستسلم لها ، ولا تسمح بنفوذ نور الحقّ والهداية إليها (قلوب قاسية).

على آية حال ، فإنّ هذه العبارة جاءت في مقابل (انشراح الصدر) وسعة الروح ، لأنّ الرحابة والاتساع كناية عن الاستعداد للاستقبال ، فالشارع والبيت الواسع يمكنهما أن يضمّا أناسا كثيرين ، وكذلك الصدر الواسع والروح المنشرحة ، فإنّها مستعدّة لتقبّل حقائق أكثر.

ونقرأ في إحدى الرّوايات أنّ ابن مسعود قال : سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تفسير هذه الآية :( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ )

__________________

(١) هذه الآية تتضمّن جملة محذوفة تتضح من خلال الجملة التي تليها وعند تقديرها تصبح الآية (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور).

٥٩

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح».

ثم قلنا : يا رسول الله ما هي علامات انشراح الصدر؟ فقال : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله»(١) .

أمّا علي بن إبراهيم فيقول في تفسيره أن عبارة :( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) نزلت في حقّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . وقد ورد في تفاسير اخرى أنّ عبارة :( فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) نزلت بحقّ (أبي لهب وأبنائه)(٢) .

ومن الواضح أنّ أسباب النّزول هنا هي في الحقيقة من باب تطبيق المفهوم العام على المصاديق الواضحة.

إنّ ما يلفت النظر في عبارة :( فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) أنّ النور والضياء جعل هنا بمثابه مركبة يركبها المؤمنون تفسير بهم بسرعة عجيبة ومسير واضح وقدرة على طواف العالم كلّه.

* * *

بحث

عوامل (شرح الصدر) و (قسوة القلب)

الناس ليسوا على وتيرة واحدة من حيث قبول الحق وإدراك الأمور ، فالبعض يتمكّن من إدراك الحقيقة بمجرّد إشارة واحدة أو جملة قصيرة ، وهذا يعني أنّ تذكيرا واحدا يكفي لإيقاظهم فورا ، وموعظة واحدة قادرة على إحداث صيحات في أرواحهم وفي حين أنّ البعض الآخر لا يتأثّر بأبلغ الكلمات وأوضح الأدلّة وأقوى العبارات ، وهذه المسألة ليست بالأمر السهل أو الهيّن.

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد الثامن ، الصفحة ٥٦٩١ (تفسير سورة الزمر ذيل آيات البحث) نقل هذا الحديث مع اختلاف جزئي عن (روضة الواعظين) للشيخ المفيد.

(٢) تفسير الصافي ذيل آيات البحث.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ودلالته على إمامة عليّ وولده ظاهرة من وجوه :

الأوّل : إنّ تصريحه بأنّ الكتاب والعترة لا يفترقان ، دالّ على علمهم بما في الكتاب ، وأنّهم لا يخالفونه قولا وعملا.

والأوّل دليل الفضل على غيرهم ، والأفضل أحقّ بالإمامة.

والثاني دليل العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيرهم.

الثاني : إنّه جعلهم عديلا(١) للقرآن ، فيجب التمسّك بهم مثله ، واتّباعهم في كلّ أمر ونهي ، ولا يجب اتّباع شخص على الإطلاق إلّا النبيّ أو الإمام المعصوم.

الثالث : إنّه عبّر عن الكتاب والعترة ب‍ « خليفتين » ، كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّفرحمه‌الله (٢)

وحديث أحمد في « مسنده »(٣) ، عن زيد بن ثابت ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله ، وأهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ».

ومن الواضح أنّ خلافة كلّ شيء بحسبه ، فخلافة القرآن بتحمّله أحكام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومواعظه ، وإنذاره ، وسائر تعاليمه ؛ وخلافة الشخص بإمامته ، وقيامه بما تحتاج إليه الأمّة ، ونشر الدعوة ، وجهاد المعاندين.

الرابع : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر في مفتتح الحديث قرب موته ، كقوله : «يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب »(٤)

__________________

(١) العدل والعدل والعديل : النّظير والمثيل ؛ انظر : لسان العرب ٩ / ٨٤ مادّة « عدل ».

(٢) تقدّم آنفا في الصفحة ٢٣٧.

(٣) ص ١٨٢ و ١٨٩ من الجزء الخامس. منهقدس‌سره .

(٤) راجع ما تقدّم في الصفحتين ٢٣٦ و ٢٣٧.

٢٤١

أو قوله : «كأنّي قد دعيت فأجبت »(١)

أو نحو ذلك كما في أحاديث مسلم(٢) ، وأحد حديثي الحاكم(٣) ، وحديث أحمد عن زيد بن أرقم(٤) ، وحديثه عن أبي سعيد(٥) .

ثمّ قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم الثّقلين » ؛ ومن المعلوم أن ذا السلطان والولاية ، الذي له نظام يلزم العمل به بعده ، إذا ذكر موته وقال : « إنّي تارك فيكم فلانا ، وكتابا حافظا لنظامي » ، لم يفهم منه إلّا إرادة العهد إلى ذلك الشخص بالإمرة بعده ؛ خصوصا وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه » ، أو : «من كنت وليّه فعليّ وليّه » ، كما في حديثي الحاكم وغيرهما(٦) .

ولا يبعد أنّ وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالثّقلين كانت في غدير خمّ ، أو أنّه أحد مواردها(٧) ؛ لقوله في حديث مسلم : « خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٥ / ٤٥ ح ٨١٤٨ وص ١٣٠ ح ٨٤٦٤.

(٢) صحيح مسلم ٧ / ١٢٢ و ١٢٣.

(٣) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١١٨ ح ٤٥٧٦.

(٤) ص ٣٦٧ من الجزء الرابع. منهقدس‌سره .

(٥) ص ١٧ من الجزء الثالث. منهقدس‌سره .

(٦) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١١٨ ح ٤٥٧٦ و ٤٥٧٧ ، المعجم الكبير ٥ / ١٦٦ ـ ١٦٧ ح ٤٩٦٩ ـ ٤٩٧١ وص ١٧١ ـ ١٧٢ ح ٤٩٨٦ ، فوائد سمّويه : ٨٤ ح ٨١.

(٧) لقد صدع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحديث الثّقلين في مواطن متعدّدة ومواقف شتّى ، وقد أحصيت تلك المواقف فكانت خمسة ؛ مرّة يوم عرفة من حجّة الوداع ، وأخرى بعد انصرافهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الطائف ، وتارة على منبره في المدينة ، وتارة أخرى يوم غدير خمّ ، وآخرها في حجرته المباركة في مرضه الذي توفّي فيه والحجرة غاصّة بأصحابه.

راجع تفصيل ذلك في : تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات ١ / ١٠٤ ـ ١٠٧ ، حديث الثّقلين تواتره ، فقهه : ٣٣ ـ ٣٥.

٢٤٢

بماء يدعى خمّا »(١) ، ولقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض الأحاديث : «من كنت مولاه فعليّ مولاه »(٢) ، فإنّه صادر بالغدير ، فيكون قد عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في خمّ بالخلافة إلى أهل البيت عموما ، وإلى عليّ خصوصا ، فكان الخليفة بعده أمير المؤمنين ، ثمّ الحسنان.

وقد بيّنّا في الآية الثالثة أنّ أهل البيت لا يشمل بقيّة أقارب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) .

الخامس : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتّبعتموهما » ، كما في أحد حديثي الحاكم ، وصحّحه على شرط الشيخين(٤)

ونحوه ما في « الصواعق »(٥) وصحّحه

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «قد تركت فيكم الثّقلين خليفتين ، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي » ، كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّفرحمه‌الله (٦)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي » ، كما في حديث الترمذي عن زيد بن أرقم(٧)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا » ، كما

__________________

(١) صحيح مسلم ٧ / ١٢٢ ، المعجم الكبير ٥ / ١٨٣ ح ٥٠٢٨.

(٢) المعجم الكبير ٥ / ١٦٦ ـ ١٦٧ ح ٤٩٦٩ ـ ٤٩٧١ وص ١٧١ ـ ١٧٢ ح ٤٩٨٦.

(٣) راجع : ج ٤ / ٣٥١ ـ ٣٨٠ من هذا الكتاب.

(٤) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١١٨ ح ٤٥٧٧.

(٥) في المقام السابق [ ص ٢٣٠ ]. منهقدس‌سره .

(٦) تقدّم آنفا في الصفحة ٢٣٧.

(٧) سنن الترمذي ٥ / ٦٢٢ ح ٣٧٨٨.

٢٤٣

في حديث الترمذي عن جابر(١) ، وحديث أحمد عن أبي سعيد(٢) .

فإنّ كلّ واحد من هذه الأقوال صريح في بطلان خلافة المشايخ الثلاثة ؛ لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رتّب عدم ضلال أمّته دائما وأبدا على التمسّك بالثقلين.

وبالضرورة ، أنّ الضلال واقع ولو أخيرا ؛ لاختلاف الأديان وفساد الأعمال ، فيعلم أنّهم لم يتمسّكوا في أوّل الأمر بالعترة والكتاب ، وأنّ خلافة الثلاثة خلاف التمسّك بهما ، ولذا وقع الضلال.

ولا يرد النقض بأنّ الأمّة تمسّكت بالعترة ـ حين بايعت عليّاعليه‌السلام ـ ومع ذلك وقع الضلال المذكور ؛ وذلك لأنّ المراد هو التمسّك بالعترة كالكتاب بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بلا فصل.

على أنّ الأمّة لم تتمسّك بعليّعليه‌السلام بعد مبايعته ؛ لمخالفة الكثير منهم له حتّى انقضت أيّامه بحرب الأمّة.

فأين تمسّكها بالعترة؟! وأين تمسّكها بالكتاب ، وهو قد قاتلهم على تأويله؟!(٣) .

فإن قلت : لعلّ المراد : أنّكم إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ما دمتم متمسّكين بهما ، فلا يدلّ ضلالهم أخيرا على عدم تمسّكهم أوّلا.

قلت : هذا احتمال خارج عن الظاهر ، حتّى بلحاظ قوله ـ في خبري الترمذي المذكورين ـ : «ما إن تمسّكتم به » و « ما إن أخذتم به » ؛ لأنّ « ما » فيهما مفعول به ل‍ «تركت » و «تارك » ، لا ظرفية زمانية.

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ / ٦٢١ ح ٣٧٨٦.

(٢) ص ٥٩ من الجزء الثالث. منهقدس‌سره .

(٣) راجع : ج ٥ / ٨٥ وما بعدها من هذا الكتاب.

٢٤٤

فقد ظهر من هذه الوجوه الخمسة دلالة الحديث على أنّ الإمامة في العترة الطاهرة ، لا على مجرّد الوصيّة بأخذ العلم منهم.

ولو سلّم ، فمن الواضح دلالة الحديث على وجوب أخذ العلم منهم ، وعدم جواز مخالفتهم ، كالقرآن ، وحينئذ فيجب اتّباع قولهم في الإمامة ، وفي صحّة إمامة شخص وعدمها ؛ لأنّه من أخذ العلم منهم.

ومن المعلوم أنّ عليّا خالف في إمامة أبي بكر ـ ولو في بعض الأوقات ـ ، فتبطل ولو في الجملة ، وهذا خلاف مذهب القوم.

فكيف وقد ادّعى أنّ الحقّ له من يوم وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حين موته هوعليه‌السلام ، وتظلّم منهم مدّة حياته ـ كما سبق(١) ـ؟!

وأيضا : لم تتّبع الأمّة عترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمر الخمس والمتعتين وكثير من الأحكام ، فيكونون ضلّالا!

وما أدري متى تمسّكت الأمّة بالعترة؟!

أفي زمن أمير المؤمنين؟! أو في زمن أبنائه الطاهرين؟! وقد تركوا كلّا منهم حبيس بيته لا يسمع له قول ، ولا يتّبع له أمر ، ولا يؤخذ منه حكم.

بل جعلوا عداوتهم وسبّهم دينا ، وحاربوهم بالبصرة والشام والكوفة ، وسبوا نساءهم سبي الترك والديلم!

فهل تراهم مع هذا قد تمسّكوا بهم ، أو نبذوهم وراء ظهورهم وانقلبوا على الأعقاب ، كما ذكره سبحانه في عزيز الكتاب(٢) ؟!

__________________

(١) راجع : ج ٤ / ٢٨٠ ـ ٢٩٦ من هذا الكتاب.

(٢) كما في قوله تعالى :( وَما مُحَمَّدٌ إِلأَرَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ

٢٤٥

هذا ، ولا يخفى أنّ الحديث دالّ على بقاء العترة إلى يوم القيامة لأمور :

الأوّل : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه : «إنّي تارك فيكم الثّقلين » ؛ فإنّه دالّ على أنّه ترك فيهم ما يحتاجون إليه ، وما هو كاف في حصول حاجتهم.

وبالضرورة ، أنّه لو لم يدل الثقلان لم يكفيا ؛ لأنّ الأمّة محتاجة مدى الدهر إلى الأحكام والحكّام.

الثاني : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا » ؛ فإنّ تأبيد عدم الضلال موقوف على تأبيد ما يتمسّك به.

الثالث : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لن يفترقا » ؛ فإنّه لو لم يكن في وقت من الأوقات من هو قرين الكتاب من العترة ، لافترق الكتاب عنهم.

وقد أقرّ ابن حجر في عبارته السابقة بإفادة الحديث بقاء العترة إلى يوم القيامة(١)

وقال بعد ذلك : « وفي أحاديث التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة ، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك ؛ ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما يأتي ، ويشهد لذلك الخبر السابق : (في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ) »(٢) إلى آخره.

__________________

أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤.

(١) راجع الصفحة ٢٤٠ من هذا الجزء.

(٢) الصواعق المحرقة : ٢٣٢.

٢٤٦

أقول :

أراد بالخبر السابق ، ما نقله قبل هذا الكلام عن الملّاء في « سيرته » ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإن أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا من توفدون »(١) .

وليت شعري ، إذا علم ابن حجر ذلك ، فما باله أنكر إمامة العترة ، ودان بإمامة أضدادهم ، وتمسّك بالشجرة الملعونة في القرآن؟!

وكيف حلّ له أن يترك الأخذ ممّن ينفون عن الدين تحريف الضالّين ، ويرجع في أحكامه إلى من حرّفوا الدين ، بشهادة مخالفتهم لمن ينفون عنه التحريف؟!

بل لم يكتف ابن حجر وأصحابه حتّى عيّنوا لأخذ الأحكام أئمّتهم الأربعة ، وحرّموا الرجوع إلى أهل البيت!

فهل هذا من التمسّك بالكتاب والعترة اللذين لا يفترقان إلى يوم القيامة؟!

هذا كلّه في حديث الثّقلين(٢) .

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٢٣١ ؛ وانظر : ذخائر العقبى : ٤٩ ، جواهر العقدين : ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(٢) وانظر تخريج الحديث مفصّلا في : ج ٢ / ١٨٧ ه‍ ١ من هذا الكتاب.

وراجع ما كتبه السيّد عليّ الحسيني الميلاني ـ حفظه الله ورعاه ـ في الأجزاء

٢٤٧

وأمّا غيره ممّا ذكره المصنّفرحمه‌الله :

فالخبر الأوّل قد رواه أحمد(١) ، ورواه الترمذي في مناقب عليّ من « سننه » وحسّنه(٢) .

ودلالته على أنّ الإمامة في العترة الطاهرة ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ساواهم معه دون من سواهم ، في أنّ من أحبّهم نال تلك المنزلة الرفيعة والمرتبة السامية ، الدالّة على الفضل عند الله سبحانه والقرب منه.

فيثبت لهم الفضل على غيرهم ، وتكون الإمامة بهم.

ومثله في الدلالة على المطلوب الخبر الثاني ، الذي حكاه المصنّف عن أحمد ، عن جابر ؛ ولم أجده في « مسنده » ، ولا يبعد أنّه ممّا نالته يد الإسقاط كما هو العادة(٣) !

وقد تقدّم في الآية الحادية والأربعين ما يصدّق هذا الحديث(٤) .

__________________

١ ـ ٣ من موسوعته « نفحات الأزهار » ، من بحوث علمية في ما يتعلّق بالحديث وما يرتبط به.

وأمّا في ما يخصّ لفظ « كتاب الله وسنّتي » الوارد في بعض روايات الجمهور ، فانظر :

ما كتبه السيّد عليّ الحسيني الميلاني في كتابه « حديث الثّقلين : تواتره ، فقهه كما في كتب السنّة ».

ورسالته في حديث الوصيّة بالثّقلين : الكتاب والسنّة.

وكذلك ما كتبه الشيخ جلال الدين الصغير ـ حفظه الله ـ في كتابه : عصمة المعصوم عليه‌السلام وفق المعطيات القرآنية : ٢٠٥ ـ ٢٤٢.

(١) في الجزء الأوّل ، ص ٧٧. منهقدس‌سره .

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٥٩٩ ـ ٦٠٠ ح ٣٧٣٣.

(٣) تقدّم تخريجه مفصّلا في الصفحة ٢٣٥ ه‍ ٣ من هذا الجزء ؛ فراجع!

(٤) راجع : ج ٥ / ٢٠٠ ـ ٢٠١ من هذا الكتاب.

٢٤٨

ونقل السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ما هو قريب منه ، عن ابن مردويه ، بسند فيه عبّاد بن يعقوب ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مثلي مثل شجرة ، أنا أصلها ، وعليّ فرعها ، والحسن والحسين ثمرتها ، والشيعة ورقها ، فأيّ شيء يخرج من الطيّب إلّا الطيّب »(١) .

قال ابن الجوزي : « عبّاد ، رافضي ، يروي المناكير »(٢) .

أقول :

لا وجه لذكر حديثه في « الموضوعات » ، وإلّا لجرّ الطعن إلى صحاحهم ؛ لأنّه ممّن روى له البخاري في « صحيحه » ، وروى له الترمذي ، وابن ماجة ، ووثّقه جماعة(٣) .

__________________

(١) اللآلئ المصنوعة ١ / ٣٤٥.

(٢) الموضوعات ١ / ٣٩٧.

(٣) انظر : تهذيب الكمال ٩ / ٤٣٣ رقم ٣٠٨٨ ، ميزان الاعتدال ٤ / ٤٤ رقم ٤١٥٤ ، تهذيب التهذيب ٤ / ١٩٩ رقم ٣٢٣٩ ، تقريب التهذيب ١ / ٢٧٤ رقم ٣٢٣٩ ، هدي الساري مقدّمة فتح الباري : ٥٧٩ ، وقد وضعوا له رمز البخاري والترمذي وابن ماجة.

وعبّاد هو : أبو سعيد عبّاد بن يعقوب الأسدي الرّواجني الكوفي ، المتوفّى سنة ٢٥٠ ه‍.

ومن جملة ما تثبت به وثاقته ـ فضلا عن كونه من رجال البخاري والترمذي وابن ماجة ـ رواية كبار أعلام الجمهور ومحدّثيهم عنه ، وتوثيقهم له ؛ فقد روى عنه أبو حاتم والبزّار وابن خزيمة.

وقال عنه أبو حاتم : شيخ ، ثقة.

وقال الحاكم : كان ابن خزيمة يقول عنه : حدّثنا الثقة في روايته.

وقال الدارقطني : صدوق.

وقال إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة : لو لا رجلان من الشيعة ما صحّ لهم

٢٤٩

وليست مناكيره عندهم إلّا رواياته في فضل آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله !

قال ابن عديّ : « روى أحاديث في الفضائل أنكرت عليه » كما حكاه عنه في « ميزان الاعتدال »(١) .

وأظهر من الحديثين المذكورين في الدلالة على مذهب الإماميّة حديث الزمخشري(٢) ؛ فتبصّر واعتبر!

* * *

__________________

حديث ؛ عبّاد بن يعقوب ، وإبراهيم بن محمّد بن ميمون.

وقال الذهبي : صادق في الحديث.

وقال ابن حجر مرّة : بالغ ابن حبّان فقال : يستحقّ الترك.

وقال أخرى : رافضيّ مشهور ، إلّا أنّه كان صدوقا.

(١) ميزان الاعتدال ٤ / ٤٤ رقم ٤١٥٤ ؛ وانظر : الكامل في ضعفاء الرجال ٤ / ٣٤٨ رقم ١١٨٠.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٣٦ ـ ٢٣٧ ؛ فراجع!

٢٥٠

٢٦ ـ حديث الكساء

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

السادس والعشرون : في « مسند أحمد بن حنبل » ، من عدّة طرق ، وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » ، عن أمّ سلمة ، قالت : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيتي ، فأتت فاطمة فقال : ادعي زوجك وابنيك.

فجاء عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، وكان تحته كساء خيبري ، فأنزل الله :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ ) يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(٢) .

فأخذ فضل الكساء وكساهم به ، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء وقال :هؤلاء أهل بيتي.

فأدخلت رأسي البيت وقلت : وأنا معهم يا رسول الله.

قال :إنّك إلى خير (٣) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٢٨.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

(٣) انظر : مسند أحمد ١ / ٣٣١ وج ٣ / ٢٥٩ و ٢٨٥ وج ٤ / ١٠٧ وج ٦ / ٢٩٢ و ٣٠٤ و ٣٢٣.

وأخرجه رزين العبدري في « الجمع بين الصحاح الستّة » من موطّأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وصحيح الترمذي والنسخة الكبيرة من

٢٥١

وقد روي نحو هذا المعنى من « صحيح أبي داود »(١)

و « موطّأ مالك »(٢)

و « صحيح مسلم » في عدّة مواضع وعدّة طرق(٣) .

* * *

__________________

صحيح النسائي.

راجع : عمدة عيون صحاح الأخبار : ٨٨ ح ٣٤ و ٣٥.

(١) انظر : سنن أبي داود ٤ / ٤٣ ح ٤٠٣٢ باب في لبس الصوف والشعر!! وطالته يد الخيانة فبترت الحديث ، فلم يبق منه إلّا : « خرج رسول الله وعليه مرط مرحّل من شعر أسود » فجاء ناقص المعنى!!

(٢) عمدة عيون صحاح الأخبار : ٨٨ ـ ٨٩ ح ٣٤ و ٣٦ و ٣٧ عن « الموطّأ ».

(٣) صحيح مسلم ٧ / ١٣٠ ـ ١٣١ كتاب الفضائل / باب فضائل أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢٥٢

وقال الفضل(١) :

إنّ الأمّة اختلفت فيها أنّها في من نزلت؟ وظاهر القرآن يدلّ على أنّها نزلت في أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وإن صدق في النقل عن « الصحاح » فكانت نازلة في آل العباء ، وهي من فضائلهم ، ولا تدلّ على النصّ بالإمامة.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٧ / ٤٧٥.

٢٥٣

وأقول :

سبق في الآية الثالثة ما فيه تبصرة ومعتبر(١) .

وليت شعري ، كيف تكون ذاهبة الرجس ، طاهرة عند الله سبحانه ، من ضرب مثلها في الكتاب العزيز بامرأة نوح وامرأة لوط(٢) ؟!

* * *

__________________

(١) تقدّم في مبحث آية التطهير ، في ج ٤ / ٣٥٦ ـ ٣٨٠ ؛ فراجع!

(٢) إشارة إلى قوله تعالى :( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) سورة التحريم ٦٦ : ١٠.

وراجع مبحث الآية ٣٤ ، وهي قوله تعالى :( وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) سورة التحريم ٦٦ : ٤ ، في ج ٥ / ١٥٩ ـ ١٦٣ من هذا الكتاب.

وانظر : ج ٤ / ٣٥٩ ه‍ ٢ و ٣ من هذا الكتاب.

٢٥٤

٢٧ ـ حديث : أهل بيتي أمان لأهل الأرض

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

السابع والعشرون : في « مسند أحمد بن حنبل » ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت ذهبوا ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ، ذهب أهل الأرض »(٢) .

ورواه صدر الأئمّة موفّق بن أحمد المكّي(٣) .

وفي « مسند أحمد » : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهمّ إنّي أقول كما قال أخي موسى : [ اللهمّ ] ( اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ) (٤) ،عليّا

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٢٩.

(٢) أخرجه أحمد في « المسند » كما في أرجح المطالب : ٣٢٨ ؛ وانظر : فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ ٢ / ٨٣٥ ح ١١٤٥ ، ينابيع المودّة ١ / ٧١ ح ١ عن عبد الله بن أحمد في « زيادات المسند ».

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام ١ / ١٦٢ ح ٦٥ ؛ وانظر : المعجم الكبير ٧ / ٢٢ ح ٦٢٦٠ ، نوادر الأصول ـ للحكيم الترمذي ـ ٢ / ١٠١ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٦٢ ح ٤٧١٥ ، موضّح أوهام الجمع والتفريق ٢ / ٤٦٣ رقم ٤٦١ ، فردوس الأخبار ٢ / ٣٧٩ ح ٧١٦٦ ، تاريخ دمشق ٤٠ / ٢٠ رقم ٤٦٣٠ ، ذخائر العقبى : ٤٩ ، فرائد السمطين ٢ / ٢٤١ ح ٥١٥ وص ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ح ٥٢١ و ٥٢٢ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٧٤ ، جواهر العقدين : ٢٥٩ ، كنز العمّال ١٢ / ١٠١ ـ ١٠٢ ح ٣٤١٨٨ ـ ٣٤١٩٠.

(٤) سورة طه ٢٠ : ٢٩.

٢٥٥

أخي( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) »(٢) .

* * *

__________________

(١) سورة طه ٢٠ : ٣١ و ٣٢.

(٢) رواه أحمد في « المسند » كما في عمدة عيون صحاح الأخبار : ٣٣٥ ح ٤٥٤ ؛ وانظر : فضائل الصحابة ـ لأحمد ـ ٢ / ٨٤٣ ـ ٨٤٤ ح ١١٥٨ ، ينابيع المودّة ١ / ٢٥٨ ح ٥ ، الدرّ المنثور ٥ / ٥٦٦ عن ابن مردويه والخطيب البغدادي ، الطيوريات : ٧٥٣ ح ٢٥ م ، شواهد التنزيل ١ / ٣٦٩ ـ ٣٧١ ح ٥١١ ـ ٥١٣ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٥٢ ، ذخائر العقبى : ١١٩ ، الرياض النضرة ٣ / ١١٨.

٢٥٦

وقال الفضل(١) :

هذا موافق في المعنى للحديث المذكور قبل ، وهو أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي »(٢) .

ومراد موسى في قوله :( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ، الإشراك في أمر النبوّة ، ودعوة فرعون.

وهذا لا يصحّ هناك ؛ لقوله : «إلّا أنّه لا نبيّ بعدي » ، اللهمّ إلّا أن يراد المشاركة في دفع الكفّار بالحرب وتبليغ العلم.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٧ / ٤٧٦.

(٢) راجع مبحث حديث المنزلة في الصفحة ٨٠ وما بعدها من هذا الجزء.

٢٥٧

وأقول :

سبق دلالة هذا الحديث ورواته في آخر آية من الآيات التي ذكرناها في الخاتمة ؛ فراجع(١) .

وما زعمه من إرادة المشاركة في دفع الكفّار وتبليغ العلم ظاهر البطلان ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما سأل عين ما سأله موسىعليه‌السلام بقوله :( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) .

ومن الواضح أنّ موسى لم يرد المشاركة في دفع الكفّار ؛ لأنّه قد طلب دفعهم بطلب جعله وزيرا ، فإنّ دفع الأعداء أظهر فوائد الوزارة ، فلا حاجة لإعادة هذا الطلب بقوله :( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) .

فينبغي أن يريد المشاركة في النبوّة ، والرئاسة على الأمّة ، وتحمّل العلوم إلى نحو ذلك.

فإذا دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بما دعا به موسىعليه‌السلام ، ثبتت لعليّ المشاركة في كلّ ذلك سوى النبوّة ؛ للدليل المخرج لها.

على أنّ ظاهر الأخبار كون المشاركة من خواصّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلا يراد بها المشاركة في دفع الكفّار وتبليغ العلم ؛ لأنّها لا تخصّ عليّاعليه‌السلام ، إلّا أن يراد بها أعلى مراتب المشاركة في الدفع والتبليغ ، بحيث لا يعدّ غيره مشاركا بالنسبة إليه ، فله وجه.

ولكنّه ـ أيضا ـ مثبت للمطلوب ؛ لأنّه فرع الفضل العظيم على غيره ،

__________________

(١) راجع : ج ٥ / ٤٠٨ وما بعدها من هذا الكتاب.

٢٥٨

والأفضل أحقّ بالإمامة.

وقد تقدّم في الحديث التاسع ما ينفعك ؛ فراجع(١) .

واعلم أنّ الحديث الأوّل ـ الذي حكاه المصنّفرحمه‌الله عن أحمد وموفّق بن أحمد(٢) ـ لم يتعرّض الفضل لجوابه غفلة أو تغافلا ، وقد حكاه غير المصنّف عن « المسند » ، كصاحب « ينابيع المودّة »(٣) ، وابن حجر في « الصواعق »(٤) ، كما ستعرف.

وأنا لم أجده في « المسند » بعد التتبّع ، والظاهر أنّ أيدي التلاعب لعبت في إسقاطه!

ولعلّ الحديث الآخر كذلك(٥) ، ولا ريب أنّه من أدلّ الأمور على إمامة أهل البيتعليهم‌السلام ؛ إذ لا يكون المكلّف أمانا لأهل الأرض إلّا لكرامته على الله تعالى ، وامتيازه في الطاعة والمزايا الفاضلة ، مع كونه معصوما ، فإنّ العاصي لا يأمن على نفسه ، فضلا عن أن يكون أمانا لغيره ، ولا سيّما إذا كان عظيما ، فإنّ المعصية من العظيم أعظم ، والحجّة عليه ألزم.

فإذا كانوا أفضل الناس ومعصومين ، فقد تعيّنت الإمامة لهم ، وهو دليل على بقائهم ما دامت الأرض ، كما هو مذهبنا.

وقد جعل الله تعالى هذه الكرامة العظيمة لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أهل بيته ،

__________________

(١) انظر كلامهقدس‌سره في مبحث حديث المنزلة ، في الصفحات ٨٣ ـ ٨٧ من هذا الجزء.

(٢) تقدّم آنفا في الصفحة ٢٥٥.

(٣) ينابيع المودّة ١ / ٧١ ح ١.

(٤) الصواعق المحرقة : ٢٣٤.

(٥) تقدّم آنفا في الصفحة ٢٥٥.

٢٥٩

فقال سبحانه :( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (١) .

وأشار إلى ذلك ابن حجر في « صواعقه »(٢) ، فقال : « السابعة : قوله تعالى :( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، أشارصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى وجود هذا المعنى في أهل بيته ، وأنّهم أمان لأهل الأرض كما كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله أمانا لهم ، وفي ذلك أحاديث كثيرة ».

ثمّ ذكر أخبارا من جملتها رواية أحمد التي ذكرها المصنّفرحمه‌الله أوّلا(٣) .

وحكى في « كنز العمّال » في فضائل أهل البيت(٤) ، عن ابن أبي شيبة ، ومسدّد ، والحكيم ، وأبي يعلى ، والطبراني ، وابن عساكر ، أنّهم رووا عن سلمة بن الأكوع ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأمّتي ».

وروى الحاكم في « المستدرك » ، وصحّحه(٥) ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ، اختلفوا

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٣٣.

(٢) عند الكلام على الآية السابعة من الآيات الواردة في أهل البيت : [ ص ٢٣٣ ]. منهقدس‌سره .

(٣) الصواعق المحرقة : ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٤) ص ٢١٧ من الجزء السادس [ ١٢ / ١٠١ ـ ١٠٢ ح ٣٤١٨٨ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : نوادر الأصول ـ للحكيم الترمذي ـ ٢ / ١٠١ ، المعجم الكبير ٧ / ٢٢ ح ٦٢٦٠ ، تاريخ دمشق ٤٠ / ٢٠ رقم ٤٦٣٠.

أمّا في مسند أبي يعلى ١٣ / ٢٦٠ ح ٧٢٧٦ فقد جاءت لفظة « أصحابي » بدلا عن لفظة « أهل بيتي » ؛ فلاحظ!

(٥) ص ١٤٩ من الجزء الثالث [ ٣ / ١٦٢ ح ٤٧١٥ ]. منهقدس‌سره .

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607