الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182443 / تحميل: 6250
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ الدنيا إنّما هي دار إمتحان وابتلاء ، والله سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة ، وربّما يضع الله الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الامتحان الغنى والفقر ، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتّع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة ، أم أنّه يطأ كلّ ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق ممّا تفضّل الله به عليه ، أم لا؟

ورغم أنّ البعض قد حصر الآية من حيث التطبيق في مجموعة خاصّة كاليهود ، أو المشركين في مكّة ، أو جميع الملاحدة الذين أنكروا الأديان الإلهيّة ، ولكن يبدو أنّ للآية مفهوما عامّا يمكن أن تكون له مصاديق في كلّ عصر وزمان ، وإن كان مصداقها حين نزولها هم اليهود أو المشركون فتلك ذريعة عامّة يتشبّثون بها على مرّ العصور ، وهي قولهم : إذا كان الله هو الرازق إذا لماذا تريدون منّا أن نعطي الفقراء من أموالنا؟ وإذا كان الله يريد أن يرى هؤلاء محرومين فلما ذا تريدون منّا إغناء من أراد الله حرمانه؟ غافلين عن أنّ نظام التكوين قد يوجب شيئا ، ويوجب نظام التشريع شيئا غيره.

فنظام التكوين ـ بإرادة الله ـ أوجب أن تكون الأرض بجميع مواهبها وعطاياها مسخّرة للبشر ، وأن يعطي البشر حريّة انتخاب الأعمال لطي طريق تكاملهم ، وفي نفس الوقت خلق الغرائز التي تتنازع الإنسان من كلّ جانب.

ونظام التشريع أوجب قوانين خاصّة للسيطرة على الغرائز وتهذيب النفوس ، وتربية الإنسان عن طريق الإيثار والتضحية والتسامح والإنفاق ، وذلك الإنسان الذي لديه الأهلية والاستعداد لأن يكون خليفة الله في الأرض ، إنّما يبلغ ذلك المقام الرفيع من هذا الطريق ، فبالزكاة تطهر النفوس ، وبالإنفاق ينتزع البخل من القلوب ، ويتحقّق التكافؤ ، وتقلّ الفواصل الطبقية التي تفرز آلاف العلل والمفاسد في المجتمعات.

وذلك تماما كما يقول شخص : لماذا ندرس؟ أو لماذا نعلّم غيرنا؟ فلو شاء الله

٢٠١

سبحانه وتعالى لأعطى العلم للجميع ، فلا تكون هنالك حاجة إلى التعلّم! فهل يقبل ذلك عاقل(١) ؟

جملة( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) والتي ورد التأكيد فيها على صفة الكفر ، في حين يمكن أن يكتفي بالضمير ، إشارة إلى أنّ هذا المنطق الخرافي والتعلّل إنّما ينبع من الكفر!

ولسان حال المؤمنين بقولهم :( أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) إشارة إلى أنّ المالك الأصلي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى ، وإن كانت تلك الأموال أمانة في أيدينا أو أيديكم لأيّام ، ويا لهم من بخلاء أولئك الذين لم يكونوا حاضرين لأن يحولوا المال إلى آخرين بأمر صاحب المال؟!

أمّا جملة :( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فلتفسيرها توجد احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أنّها تتمّة ما قاله الكفّار للمؤمنين.

الثاني : أنّه كلام الله سبحانه وتعالى يخاطب به الكفّار.

الثالث : أنّه تتمّة ما قاله المؤمنون للكفّار.

ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب ، لأنّه يتّصل مباشرة بحديث الكفّار السابق ، وفي الحقيقة إنّهم يريدون معاملة المؤمنين بالمثل ونسبتهم إلى الضلال المبين.

* * *

__________________

(١) بعض المفسّرين احتمل التّفسير التالي وهو : أنّ العرب كانوا مشهورين بالضيافة في ذلك الزمان ، وما كانوا يمتنعون عن الإنفاق ، وكان هدف الكفّار هو الاستهزاء بالمؤمنين الذين كانوا ينسبون الأشياء والأمور جميعها إلى المشيئة الإلهية ، فكانوا يقولون لهم : إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يغني الفقراء فما الحاجة إلى إنفاقنا ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الذي أوردناه هو الأنسب (راجع التبيان ، وتفسير القرطبي ، وروح المعاني).

٢٠٢

الآيات

( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) )

التّفسير

صيحة النشور!

بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفّار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة ، تتعرّض هذه الآيات إلى الحديث عن استهزائهم بالقيامة ، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.

مضافا إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.

٢٠٣

تقول الآية الكريمة الاولى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) . فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة ، فمعنى هذا أنّكم لستم صادقين في حديثكم.

الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم ، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى :( ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) .

فكلّ ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم ، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب ، ليتخلّف وراءها صمت مطبق ، وتخلو الأرض من أي صوت أو إزعاج.

وفي حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّى تقوم ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتّى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم»(١) .

جملة «ما ينظرون» هنا بمعنى «ما ينتظرون» ، فكما يقول (الراغب) في مفرداته «النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته ، وقد يراد به التأمّل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص ، وهو الرويّة ، والنظر الانتظار».

«صيحة» صاح : رفع الصوت ، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت ، وصيح الثوب كذلك ، ويقال : بأرض فلان شجر قد صاح ، إذا طال فتبيّن للناظر لطوله ، ودلّ على نفسه بصوته.

«يخصّمون» من مادّة «خصم» بمعنى النزاع.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٢٧. وذكرت هذه الرواية بتفاوت قليل في تفسير «القرطبي» و «روح المعاني» وغيرهما.

٢٠٤

أمّا فيم كانوا يختصمون؟ لم تذكر الآية ذلك ، ولكن من الواضح أنّ المقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والأمور المعيشية الاخرى ، ولكن البعض يرى : إنّه تخاصم في أمر «المعاد» ، والمعنى الأوّل أنسب على ما يبدو ، وإن كان اعتبار شمول الآية لكلا المعنيين ، وأي نوع من النزاع والخصومة ليس ببعيد.

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الضمائر المتعدّدة في الآية جميعها تعود على مشركي مكّة الذين كانوا يشكّكون في أمر المعاد ، ويستهزئون بذلك بقولهم : متى تقوم الساعة؟

ولكن المسلّم به أنّ الآية لا تقصد أشخاص هؤلاء ، بل نوعهم «نوع البشر الغافلين عن أمر المعاد» لأنّهم ماتوا ولم يسمعوا تلك الصيحة السماوية أبدا «تأمّل بدقّة»!!

على كلّ حال ، فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع ، وهذا أوّلا. وأمّا ثانيا فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه ، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كلّ شيء وتنتهي الدنيا بأسرها.

لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلا :( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) .

في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله ، يحاول جاهدا أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله ، ثمّ يقوم بإنجاز بعض الأمور المعلّقة ، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصيّة أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الأمور الاخرى.

ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضا فهل بقي أحد حيّا ليستمع الوصيّة؟ أو يجتمع الأولاد مع امّهم على سرير الأب ـ مثلا ـ ويحتضنونه ويحتضنهم لكي يسلم الروح بطمأنينة؟ لا أبدا ، فلا إمكان لأي من هذه

٢٠٥

الأمور.

وما نلاحظه من تنكير التوصية في التعبير القرآني هنا إنّما هو إشارة إلى أنّ الفرصة لا تسنح حتّى لوصية صغيرة أيضا.

ثمّ تشير الآيات إلى مرحلة اخرى ، مرحلة الحياة بعد الموت. فتقول :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) .

التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد ، وتنتفض من القبر بشرا سويّا ، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة ، وكما أنّهم ماتوا جميعا بصيحة واحدة ، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد ، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة الله سبحانه وتعالى ، ولا حياتهم كذلك ، تماما كما هو الحال في جمع الجنود في الجيوش ، بنفخة بوق واحدة ينهضون جميعا من فرشهم ويخرجون من خيمهم ، ويقفون في صفّ واحد ، وإحياء الموتى وبعثهم بالنسبة إلى الله سبحانه بهذه البساطة والسرعة.

«أجداث» جمع «جدث» وهو القبر ، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية ، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديدا من نفس المواد السابقة.

واستخدام صيغة الماضي في الفعل «نفخ» إشارة إلى عدم وجود أدنى شكّ في وقوع مثل هذا الأمر ، وكأنّه لثباته وحتميته قد وقع فعلا.

«ينسلون» من مادّة «نسل» والنسل الانفصال عن الشيء ـ كما يقول الراغب في المفردات ويضيف ـ يقال : نسل الوبر عن البعير والقميص عن الإنسان ، و ومنه نسل إذا عدا ، والنسل الولد لكونه ناسلا عن أبيه.

وقوله تعالى :( رَبِّهِمْ ) كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية الله كلّها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.

وعلى كلّ حال ، فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ نهاية هذا العالم وبداية

٢٠٦

العالم الآخر يكون كلاهما على شكل حركة عنيفة وغير متوقّعة ، وسوف نتعرّض إلى تفصيل هذا الموضوع في تفسير الآية (٦٨) من سورة الزمر إن شاء الله.

تضيف الآية التالية :( قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) .

نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلّا من الاعتراف الواضح الصريح بالحقائق ، الآية تصوّر القبور «بالمراقد» والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث المعروف «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون».

ففي البدء يستغربون انبعاثهم ويتساءلون عمّن بعثهم من مرقدهم؟ ولكنّهم يلتفتون بسرعة ويتذكّرون بأنّ أنبياء الله الصادقين ، وعدوهم بمثل هذا اليوم ، فيجيبون أنفسهم قائلين:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) ولكن وا أسفاه إنّنا كنّا نستهزئ بكلّ ذلك!

! وعليه فإنّ هذه الجملة هي بقيّة حديث هؤلاء المتكبّرين الكفرة بالمعاد والبعث ، ولكن البعض ذهب إلى أنّ حديث الملائكة أو المؤمنين ، وذلك على ما يبدو خلاف ظاهر الآية ، ولا داعي ولا ضرورة له ، لأنّ اعتراف الكفّار والمنكرين للمعاد في ذلك اليوم لا ينحصر بهذه الآية ، ففي الآية (٩٧) من سورة الأنبياء( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ التعبير بـ «مرقد»(١) يوضّح أنّهم في عالم البرزخ كانوا بحالة شبيهة بالنوم العميق ، وكما ذكرنا في تفسير الآية (١٠٠) من سورة «المؤمنون» ، فإنّ البرزخ بالنسبة إلى أكثر الناس الذين هم على الوسط من الإيمان أو الكفر هو حالة شبيهة بالنوم ، وفي حال المؤمنين أصحاب المقامات

__________________

(١) يأتي تارة بمعنى اسم مكان ، واخرى اسم للنوم ، أي مصدر ميمي.

٢٠٧

الرفيعة ، أو الكفّار الموغلين في الكفر والجحود فإنّ البرزخ بالنسبة إليهم عالم واضح المعالم ، وهم فيه أيقاظ يهنأون في النعيم أو يصطرخون في العذاب.

احتمل بعضهم أيضا أنّ هول ودهشة القيامة شديدان إلى درجة أنّ العذاب في البرزخ يكون شبه النوم بالنسبة إلى ما يرونه في القيامة.

ثمّ تقول الآية لبيان سرعة النفخة :( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) .

وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت ، كما كان الأمر عند هلاكهم ، فالصيحة الاولى للموت ، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.

واستخدام تعبير «الصيحة» والتأكيد عليها بـ «واحدة» وكذلك التعبير بـ «إذا» في مثل هذه الموارد ، إنّما هو للإشارة إلى وقوع غير المتوقّع ، والتعبير بـ( هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) بصيغة الجملة الاسمية دليل على الوقوع السريع لهذا المقطع من القيامة.

واللهجة الحازمة لهذه الآيات تترك أعمق الأثر في القلوب ، وكأن هذه الصيحة تقول : يا أيّها الناس النائمون ، أيّتها الأتربة المتناثرة ، أيّتها العظام المهترئة! انهضوا انهضوا واستعدّوا للحساب والجزاء فما أجمل الآيات القرآنية ، وما أروع إنذاراتها المعبّرة!!

* * *

٢٠٨

الآيات

( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) )

التّفسير

أصحاب الجنّة فاكهون!

هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر ، ثمّ ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفّار الطالحين ، فتقول الآية الكريمة الاولى :( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) .

فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئا ، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئا ، ولن يكون هنالك أدنى ظلم أو اضطهاد لأحد حتّى بمقدار رأس الإبرة.

ثمّ تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلا حيّا عليها فتقول :( وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

إنّ ظاهر الآية ـ ومن دون تقدير مضمر ـ يهدف إلى القول بأنّ جزاءكم جميعا

٢٠٩

هو نفس أعمالكم ، فأي عدالة أفضل وأعلى من هذه العدالة؟!

وبعبارة اخرى : فإنّ الأعمال الحسنة والسيّئة التي قمتم بها في هذه الدنيا سترافقكم في ذلك العالم أيضا ، ونفس تلك الأعمال ستتجسّد هناك وترافقكم في جميع مراحل الآخرة ، في المحشر وبعد نهاية الحساب.

فهل أنّ تسليم حاصل عمل إنسان إليه أمر مخالف للعدالة؟

وهل أنّ تجسيد الأعمال وقرنها بعاملها ظلم؟

ومن هنا يتّضح أن لا معنى للظلم أساسا في مشهد يوم القيامة ، وإذا كان يحدث في الدنيا بين البشر أن تتحقّق العدالة حينا ويقع الظلم أحيانا كثيرة ، فذلك لعدم إمكان ربط الأعمال بفاعليها.

جمع من المفسّرين تصوروا أنّ الجملة الأخيرة أعلاه تتحدّث عن الكفّار والمسيئين الذين سيرون عقابا على قدر أعمالهم ، دون أن تشمل المؤمنين ، بلحاظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد جزاهم وأثابهم بأضعاف ما يعادل أعمالهم.

ولكن بملاحظة ما يلي ينحلّ هذا الاشتباه ، وهو أنّ الحديث هنا هو حديث عن العدالة في الثواب والعقاب وأخذ الجزاء حسب الاستحقاق ، وهذا لا ينافي أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يزيد المؤمنين من فضله ، فهذه مسألة «تفضل» وتلك مسألة «استحقاق».

ثمّ تنتقل الآيات لتتعرّض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة ، وقبل كلّ شيء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول :( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ ) .

«شغل» : ـ على وزن سرر ـ و «شغل» ـ على وزن لطف ـ : كليهما بمعنى العارض الذي يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه ، سواء كان ممّا يبعث على المسرّة أو الحزن ، ولكن لإلحاقه كلمة «فاكهون» التي هي جمع «فاكه» وهو المسرور الفرح الضاحك ، يمكن استنتاج أنّ المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه

٢١٠

والمنصرف تماما عن التفكير في أي قلق أو ترقّب ، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه ، وحتّى أنّه ينسى تماما هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية ، تلك المواقف التي لو لا نسيانها فإنّها حتما ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب ، وبناء على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على انشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر(١) .

وبعد التعرّض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاخرى وشرط الاستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاخرى ، ينتقل إلى ذكر بقيّة النعم فيقول تعالى :( هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ ) (٢) .

«أزواج» تشير إلى الزوجة التي يعطيها الله في الجنّة ، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.

وأمّا ما احتمله البعض من أنّها بمعنى «النظائر» كما في الآية ـ ٢٢ سورة الصافات( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ) الآية فيبدو بعيدا. خصوصا أنّ (أرائك) جمع «أريكة» وهي الحجلة على السرير. كما يقول أرباب اللغة(٣) .

التعبير بـ «ظلال» إشارة إلى أنّ أشجار الجنّة تظلّل الأسرة والتخوت التي يجلس عليها المؤمنون في الجنّة ، أو إشارة إلى ظلال قصورهم ، وكلّ ذلك يدلّل على وجود الشمس هناك ، ولكنّها ليست شمسا مؤذية ، نعم فإنّ لهم في ذلك الظلّ الملائم لأشجار الجنّة سرورا ونشاطا عظيمين.

__________________

(١) يرى «الراغب» في مفرداته بأنّ «فاكهة» تطلق على كلّ أنواع الثمار والفواكه ، و «فاكه» الحديث الذي يأنس به الإنسان وينشغل به عن غيره. ويرى «ابن منظور» في لسان العرب أنّ «فكاه» بمعنى المزاح ، و «فاكه» يطلق على الإنسان المرح.

(٢) هناك احتمالات عديدة في إعراب الجملة ، وأفضلها أنّ «هم» مبتدأ ، و «متكئون» خبر ، و «على الأرائك» متعلّق به ، و «في ظلال» متعلّق به أيضا أو متعلّق بمحذوف.

(٣) لسان العرب ـ مفردات الراغب ـ مجمع البيان ـ القرطبي ـ روح المعاني ـ وتفاسير اخرى.

٢١١

إضافة إلى ذلك فإنّ( لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ) .

يستفاد من آيات القرآن الاخرى أنّ غذاء أهل الجنّة ليس الفاكهة فقط ، ولكن تعبير الآية يدلّل على أنّ الفاكهة ـ وهي فاكهة مخصوصة تختلف كثيرا عن فاكهة الدنيا ـ هي أعلى غذاء لهم ، كما أنّ الفاكهة في الدنيا ـ كما يقول المتخصّصون ـ أفضل وأعلى غذاء للإنسان.

«يدعون» أي يطلبون ، والمعنى أنّ كلّ ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه ، فما يتمنّوه من شيء يحصل ويتحقّق على الفور.

يقول العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان : العرب يستخدمون هذا التعبير في حالة التمنّي ، فيقول : «ادع عليّ ما شئت» أي تمنّ عليّ ما شئت

وعليه فإنّ كلّ ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ ، والله عنده حسن الثواب.

وأهمّ من كلّ ذلك ، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها :( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) (١) .

هذا النداء الذي تخفّ له الروح ، فيملؤها بالنشاط ، هذا النداء المملوء بمحبّة الله ، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اخرى. نعم فسماع نداء المحبوب ، النداء الندي بالمحبّة ، المعطّر باللطف ، يغمر سكّان الجنّة بالحبور الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا ، بل ويفيض عليه.

ففي رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنّة ، وذلك قول الله تعالى :( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) قال فينظر إليهم وينظرون إليه

__________________

(١) اختلف حول إعراب «قولا» وأنسب ما ذكر هو اعتبارها (مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره «يقول قولا».

٢١٢

فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم»(١) .

نعم فإنّ جذبة مشاهدة المحبوب ، ورؤية لطفه ، تبعث اللذّة والشوق في النفس بحيث أنّ لحظة واحدة من تلك المشاهدة العظيمة لا يمكن مقارنتها بأيّة نعمة ، بل بالعالم أجمع ، وعشّاق رؤيته والنظر إليه هائمون في ذلك إلى درجة أنّه لو قطعت عنهم تلك الإفاضة المعنوية فإنّهم يحسّون بالحسرة والألم ، وكما ورد في حديث لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام «لو حجبت عنه ساعة لمتّ»(٢) .

الملفت للنظر أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ سلام الله الذي ينثره على المؤمنين في الجنّة ، هو سلام مستقيم بلا واسطة ، سلام منه تعالى ، وأي سلام ذلك الذي يمثّل رحمته الخاصّة! أي أنّه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة فيه ، ويا لها من نعمة عظيمة!!

* * *

ملاحظة

أنواع «السلام» المنثور على أهل الجنّة

الجنّة هي «دار السلام» كما ورد في الآية (٢٥) من سورة يونس حيث نقرأ :( وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ) .

وأهل الجنّة الذين يسكنون هناك ، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون عليهم الجنّة( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) (٣) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، مجلّد ٢٣ ، صفحة ٣٥.

(٢) روح البيان ، مجلّد ٧ ، صفحة ٤١٦.

(٣) الرعد ، ٢٤.

٢١٣

ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلّمون عليهم( وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) .(١)

وعند ما يدخلون الجنّة يقابلون بسلام وتحيّة الملائكة.

وحينما تقبض الأرواح يتلقّى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .(٢) ويسلّم بعضهم على بعض( تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) .(٣)

وأخيرا ، أسمى وأعظم سلام هو سلام اللهعزوجل ( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) .

الخلاصة :( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) .(٤)

والسلام ليس لفظا فحسب ، بل سلام يؤدّي إلى خلق الهدوء والسلامة ، وينفذ في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.

* * *

__________________

(١) الأعراف ، ٤٦.

(٢) النحل ، ٣٢.

(٣) إبراهيم ، ٢٣.

(٤) الواقعة ، ٢٦.

٢١٤

الآيات

( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) )

التّفسير

لماذا عبدتم الشيطان؟!

مرّ في الآيات السابقة جانب من المصير المشوّق لأهل الجنّة ، وفي هذه الآيات مورد البحث جانب بئيس من مصير أهل النار وعبدة الشيطان.

أوّلا : يخاطبون في ذلك اليوم خطابا تحقيريا( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

فأنتم ربّما دخلتم في صفوف المؤمنين في الدنيا وتلونتم بلونهم تارة ، واستفدتم من حيثيتهم واعتبارهم ، أمّا اليوم «فامتازوا عنهم» وأظهروا بشكلكم الأصلي الحقيقي.

هذا في الحقيقة هو تحقّق للوعد الإلهي الوارد في الآية (٢٨) من سورة ص حيث يقول الباريعزوجل :( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ

٢١٥

فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .

وعلى كلّ حال ، فظاهر الآية هو التمييز في العرض بين المجرمين والمؤمنين ، وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل احتمالات اخرى من جملتها : تفريق صفوف المجرمين أنفسهم إلى مجموعات فيما بينهم ، أو انفصال المجرمين عن شفعائهم ومعبوداتهم ، أو انفصال المجرمين كلّ واحد عن الآخر ، بحيث يكون ذلك العذاب الناتج عن الفراق مضافا على عذاب الحريق في جهنّم.

ولكن شمولية الخطاب لجميع المجرمين ، ومحتوى جملة «وامتازوا» تقوّي المعنى الأوّل الذي أشرنا إليه.

الآية التالية تشير إلى لوم الله تعالى وتوبيخه المجرمين في يوم القيامة قائلا :( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا العهد الإلهي أخذ على الإنسان من طرق مختلفة ، وكرّر على مسمعه مرّات ومرّات :( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (١)

جرى هذا التحذير وبشكل متكرّر على لسان الأنبياء والرسل :( وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (٢) .

وكذلك في الآية (١٦٨) من سورة البقرة نقرأ :( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

ومن جانب آخر فإنّ هذا العهد أخذ على الإنسان في عالم التكوين ، وبلسان إعطاء العقل له ، إذ أنّ الدلائل العقلية تشير بشكل واضح إلى أنّ على الإنسان أن لا يطيع من تصدّى لعداوته منذ اليوم الأوّل وأخرجه من الجنّة ، وأقسم على إغواء

__________________

(١) الأعراف ، ٢٧.

(٢) الزخرف ، ٦٢.

٢١٦

أبنائه من بعده.

ومن جانب ثالث فقد أخذ هذا العهد على الإنسان بالفطرة الإلهيّة للناس على التوحيد ، وانحصار الطاعة في الله سبحانه ، وبهذا لم تتحقّق التوصية الإلهية هذه بلسان واحد ، بل بعدّة ألسنة وأساليب ، وامضى هذا العهد والميثاق.

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ «العبادة» الواردة الإشارة إليها في جملة( لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) بمعنى «الطاعة» ، لأنّ العبادة لا تنحصر بمعنى الركوع والسجود فقط ، بل إنّ من مصاديقها الطاعة. كما ورد في الآية (٤٧) من سورة «المؤمنون»( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ) وفي الآية (٣١) من التوبة نقرأ :( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ) .

والجميل أنّه ورد في رواية عن الصادقعليه‌السلام تعليقا على الآية بقوله : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(١) .

وعن الصادقعليه‌السلام أيضا أنّه قال : «من أطاع رجلا في معصية فقد عبده»(٢) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»(٣) .

الآية التالية تأكيد أشدّ وبيان لوظيفة بني آدم ، تقول الآية الكريمة :( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .

أخذ على الإنسان العهد بأن لا يطيع الشيطان ، إذ أنّه أعلن له عن عداوته بشكل واضح منذ اليوم الأوّل ، فهل يطيع عاقل أوامر عدوّه!؟ هذا من جانب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٨٩ ، حديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩١ ، حديث ٨ و ٩.

(٣) المصدر السابق.

٢١٧

ومن جانب آخر ، أخذ عليه العهد بطاعة الله سبحانه وتعالى ، لأنّ سبيله هو الصراط المستقيم ، وهذا في الحقيقة أعظم محرّك للبشر ، لأنّ الإنسان ـ مثلا ـ لو كان في وسط صحراء قاحلة محرقة ، وكانت حياته وحياة عياله في معرض خطر قطّاع الطرق والضواري ، فأهمّ ما يفكّر به هو العثور على الطريق المستقيم الآمن الذي يؤدّي إلى المقصد ، الطريق السريع والأسهل للوصول إلى منزل النجاة.

ويستفاد كذلك من هذا التعبير ضمنا بأنّ الدنيا ليست بدار القرار ، إذ أنّ الطريق لا يرسم لأحد إلّا لمن يريد الذهاب إلى مقصد آخر.

وللتعريف بهذا العدو القديم أكثر فأكثر يضيف تعالى :( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) .

ألا ترون ماذا أحلّ بأتباعه من المصائب.

ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أي مصير مشؤوم وصل إليه من عبد الشيطان؟ آثار مدنهم المدمّرة أمام أعينكم ، والعاقبة المؤلمة التي وصلوا إليها واضحة لكلّ من يمتلك القليل من التعقّل والتفكّر.

إذن لماذا أنتم غير جادّين في معاداة من أثبت أنّه عدو لكم مرّات ومرّات؟ ولا زلتم تتّخذونه صديقا بل قائدا ووليّا وإماما!!

«الجبلّ» الجماعة تشبيها بالجبل في العظم (كما يقول الراغب في مفرداته).

و «كثيرا» للتأكيد على كثرة من اتّبع الشيطان من كافّة المستويات الاجتماعية في كلّ مجتمع.

ذكر بعضهم أنّ «الجبلّ» بحدود عشرة آلاف نفر ، أو أكثر ، وما دون ذلك لا يكون جبلّا(١) ، ولكن البعض الآخر لم يلتزم بتلك الأرقام(٢) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ العقل السليم يوجب على الإنسان أن يحذر بشدّة من عدوّ

__________________

(١) انظر روح المعاني والفخر الرازي.

(٢) المصدر السابق.

٢١٨

خطر كهذا ، لا يتورّع عن أي شيء ، ولا يرحم أي إنسان أبدا ، وقرابينه في كلّ زاوية ومكان هلكى صرعى ، فلا ينبغي له أن يغفل عنه طرفة عين أبدا ، ولنقرأ ما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام :

«فاحذروا ـ عباد الله ـ عدوّ الله ، أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد ، وأغرق إليكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب ، فقال : ربّ بما أغويتني لازينّن لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٢ (القاصعة).

٢١٩

الآيات

( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) )

التّفسير

يوم تسكت الألسن وتشهد الأعضاء!!

تعرّضت الآيات السابقة ، إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهيّة وإلى مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة.

هذه الآيات تواصل البحث حول الموضوع نفسه أيضا.

نعم ، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنّم للمجرمين الكافرين يذكّرهم الله بوعده ، والآية تشير إلى ذلك فتقول :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

العالم ، وكانت في حركة دائبة ، وليست مثل السفن العادية التي لها مرفأ تتجه إليه مقتدية بالنجوم.

لقد كان الهدف السفينة نفسها ، والنجاة من الغرق ، حتى غاظ الماء واستوت على الجودي.

إضافة إلى ذلك فإنّ بعض الرّوايات الواردة في كتب أهل السنة تنقل عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف في الدين»(١) .

٣ ـ تفسير «ومن يقترف حسنة ...»

«اقترف» في جملة :( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) مأخوذة في الأصل من (قرف) على وزن (حرف) وتعني قطع القشرة الإضافية من الشجرة ، أو من الجروح الحاصلة ، حيث تكون أحيانا علامة على شفاء الجرح وتحسنه ، هذه الكلمة استخدمت فيما بعد في الاكتساب سواء كان حسنا أو سيئا.

ولكن كما يقول الراغب ـ فإن هذا المصطلح استخدم في السيئات أكثر ممّا هو في الحسنات (بالرغم من أن الآية التي نبحثها استخدمته في الحسنات). لذلك فإن هناك مثل معروف يقول : الاعتراف يزيل الاقتراف.

والطريف في الأمر أنّ بعض التفاسير تنقل عن ابن عباس و (السدّ) أن المقصود من (اقتراف الحسنة) في الآية الشريفة هو مودة آل محمّد(٢) .

وجاء في حديث ذكرناه سابقا عن الإمام الحسن بن عليعليه‌السلام : «اقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت».

__________________

(١) نقل (الحاكم) هذا الحديث عن ابن عباس في المجلد الثّالث (المستدرك) ص ١٤٩ ، ثمّ يقول : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(٢) مجمع البيان ـ نهاية الآيات التي نبحثها ، وتفسير الصافي والقرطبي.

٥٢١

وواضح أنّ المقصود من هذه التفاسير أن معنى اكتساب الحسنة لا يتحدد بمودّة أهل البيتعليهم‌السلام ، بل له معنى أوسع وأشمل ولكن بما أن هذه الجملة وردت بعد قضية مودّة ذي القربى ، لذا فإن أوضح مصداق لاكتساب الحسنة هو هذه المودّة.

٤ ـ مكان نزول هذه الآيات

هذه السورة (سورة الشورى) من السور المكّية ، كما قلنا في البداية ، إلّا أن بعض المفسّرين يعتقدون أن هذه الآيات الأربع (٢٣ ـ ٢٦) نزلت في المدينة ، وسبب النّزول الذي ذكرناه في بداية تفسير هذه الآيات يشهد على هذا المعنى.

وأيضا فإنّ الرّوايات التي تفسر أهل البيت بعلي وفاطمة وابنيهما الإمام الحسن والحسينعليهما‌السلام تناسب هذا المعنى ، لأنّنا نعلم أن زواج علي من سيدة النساءعليهما‌السلام تمّ في المدينة ، وولادة الحسن والحسينعليهما‌السلام كانتا في العام الثّالث والرابع الهجري على ما رواه المؤرخون.

* * *

٥٢٢

الآيات

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) )

التّفسير

يقبل التوبة عن عباده :

هذه الآيات تعتبر استمرارا للآيات السابقة في موضوع الرسالة وأجرها ، ومودّة ذوي القربى وأهل البيتعليهم‌السلام .

فأوّل آية تقول : إن هؤلاء القوم لا يقبلون الوحي الإلهي ، بل :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ) وهذا الإعتقاد وليد أفكارهم حيث ينسبونه إلى الخالق.

في حين :( فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ) ويجردك من قابلية إظهار هذه الآيات.

٥٢٣

وفي الحقيقة ، فإن هذا الأمر إشارة إلى الاستدلال المنطقي المعروف ، وهو أنّه إذا ادعى شخص النبوة ، وجاء بالآيات البينات والمعاجز ، وشمله النصر الإلهي ، فلو كذب على الخالق فإن الحكمة الإلهية تقتضي سحب المعاجز منه وفضحه وعدم حمايته ، كما ورد في الآيات (٤٤) إلى (٤٦) من سورة الحاقة :( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) .

وقد ذكر بعض المفسّرين احتمالات اخرى في تفسير هذه الجملة ، إلّا أن ما قلناه أعلاه هو أفضل وأوضح التفاسير كما يظهر.

ونلاحظ أيضا أن إحدى التهم التي نسبها الكفار والمشركون إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي أنّه يعتبر أجر الرسالة في مودّة أهل بيته وأنّه يكذب على الخالق في هذا الأمر : (جاء ذلك وفقا للبحث في الآيات السابقة) إلّا أن الآية أعلاه نفت هذه التهمة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن بالرغم من هذا ، فإن مفهوم الآية لا يختص بهذا المعنى ، فأعداء الرّسول كانوا يتهمونه بهذه التهمة في كلّ القرآن والوحي كما تقول الآيات القرآنية الأخرى ، حيث نقرأ في الآية (٣٨) من سورة يونس :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ) .

وورد نفس هذا المعنى باختلاف بسيط في الآيات (١٣) و (٣٥) من سورة هود ، وقسم آخر من الآيات القرآنية ، حيث أنّ هذه الآيات دليل لما انتخبناه من تفسير للآية أعلاه.

ثم تقول الآية لتأكيد هذا الموضوع :( وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ) (١) .

فهذه هي مسئولية الخالق في توضيح الحق وفضح الباطل وفقا لحكمته ، وإلّا

__________________

(١) لاحظوا أنّ «يمح» هي في الأصل كانت (يمحو) حيث سقطت الواو لأن الرسم القرآني ـ عادة ـ هكذا ، مثل( وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ ) (الإسراء ـ ١١) و( سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ) (العلق ـ ١٨) ، إلّا أنّه وفقا للرسم الحديث فإن الواو تذكر في جميع هذه الكلمات ، إلّا أنّها تحذف في القرآن غالبا.

٥٢٤

فكيف يسمح لشخص بالكذب عليه وفي نفس الوقت ينصره ويظهر على يديه المعاجز؟

كما أن من الاخطاء الكبيرة أن يتصور البعض قيام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا العمل مخفيا ذلك عن علم الخالق :( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

وكا قلنا في تفسير الآية ٣٨ من سورة فاطر ، فإنّ (ذات) لا تعني في اللغة العربية عين الأشياء وحقيقتها ، بل هو مصطلح من قبل الفلاسفة(١) ، حيث أن ذات تعني ـ (الصاحب) ، عندها سيكون مفهوم جملة :( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) إن الخالق عليم بالأفكار والعقائد المسيطرة على القلوب ، وكأنما هي صاحبة هذا القلب ومالكته.

وهذه إشارة لطيفة إلى استقرار الأفكار وحاكميتها على قلوب وأرواح الناس (فدقق في ذلك).

وبما أن الخالق يبقي طريق الرجعة مفتوحا أمام العباد ، لذا فإن الآيات القرآنية بعد ذم أعمال المشركين والمذنبين القبيحة تشير إلى أن الأبواب التوبة مفتوحة دائما : ولذا تقول الآية محل البحث :( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ) .

إلّا أنكم إذا تظاهرتم بالتوبة وأخفيتم أعمالا اخرى ، فلا تتصوروا أن ذلك يخفى عن علم الخالق ، لأنّه :( وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ) .

وقلنا في سبب النّزول الذي ذكرناه في بداية الآيات السابقة ، أنّه بعد نزول آية المودّة ، قال بعض المنافقين وضعفاء الإيمان : إنّ هذا الكلام افتراه محمّد على الخالق ، ويريد به أن يذلنا بعده لأقربائه ، عندها نزلت آية :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ) ردّا عليهم ، وعند ما علموا بنزول هذه الآية تندم بعضهم وبكى وبات قلق البال ، في ذلك الوقت نزلت الآية :( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ) وبشرتهم بغفران

__________________

(١) راجع مفردات الراغب.

٥٢٥

الذنب إذا تابوا إلى الله توبة نصوحا.

أمّا آخر آية فتوضح الجزاء العظيم للمؤمنين ، والعذاب الأليم للكافرين في جمل قصيرة فتقول : إنّ الله تعالى يستجيب لدعاء المؤمنين وطلباتهم :( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) . بل :( وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) وسوف يعطيهم ما لم يطلبوا.( وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) .

وقد تمّ ذكر تفاسير مختلفة لأمر الذي سيستجيبه من المؤمنين ، حيث أن بعض المفسّرين حدد ذلك في طلبات معينة ، منها :

أنّه سيستجيب دعاء المؤمنين أحدهم للآخر.

ومنها أنّه سيقبل عباداتهم وطاعاتهم.

ومنها أن ذلك مختص بشفاعتهم لإخوانهم.

ولكن لا يوجد أي دليل على هذا التحديد ، حيث أن الخالق سيستجيب أي طلب للمؤمنين الذين يعملون الصالحات والأكثر من ذلك فإنّه سيهبهم من فضله أمورا قد لا تخطر على بالهم ولم يطلبوها ، وهذا غاية اللطف والرحمة الإلهية بخصوص المؤمنين.

وورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير :( وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) : «الشفاعة لمن وجبت له النّار ممن أحسن إليهم في الدنيا»(١) .

ولا يعني هذا الحديث العظيم في معناه اقتصار الفضل الإلهي بهذا الأمر فحسب ، بل يعتبر أحد مصاديقه الواضحة.

* * *

__________________

(١) تفسير «مجمع البيان» نهاية الآيات التي نبحثها.

٥٢٦

الآيات

( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) )

سبب النّزول

نقل عن الصحابي المعروف (خباب بن الأرث) أن الآية الأولى :( وَلَوْ بَسَطَ ) نزلت فينا ، وذلك بسبب أنّنا كنّا ننظر إلى الأموال الكثيرة لبني قريظة وبني النظير وبني القينقاع من اليهود ، وكنّا نرغب بامتلاكنا لمثل هذه الأموال ، إلّا أن هذه الآية نزلت وحذرتنا من أن الخالق لو بسط لنا في الرزق فسوف نطغى(١) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، تفسير أبو الفتوح الرازي ، وتفسير القرطبي (نهاية الآية التي نبحثها).

٥٢٧

وفي تفسير (الدر المنثور) ورد حديث آخر ، وهو أن هذه الآية نزلت في أهل الصفّة ، لأنّهم كانوا يأملون بتحسن وضع دنياهم(١) .

وهناك تفصيل في نهاية الآيات بخصوص أصحاب الصفة ومن هم؟

التّفسير

المترفون الباغون :

قد يكون ارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة بلحاظ ما ورد في آخر آية من الآيات السابقة من أن الخالق يستجيب دعوة المؤمنين ، وفي أعقاب ذلك يطرح هذا السؤال : لماذا نرى البعض منهم فقراء ، ولا ينالون ما يرغبونه مهما يدعون؟ تقول الآية :( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ) .

وبهذا الترتيب فإنّ تقسيم الأرزاق يقوم على حساب دقيق من قبل الخالق تجاه عباده ، وهذا يحدث بسبب :( إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) .

فهو يعلم بمقدار استيعاب أي شخص فيعطيه الرزق وفقا لمصلحته ، فلا يعطيه كثيرا لئلا يطغى ، ولا قليلا لئلا يستغيث من الفقر.

وجاء ما يشبه هذا المعنى في الآية (٦) و (٧) من سورة العلق :( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) .

وهو حقّا كذلك ، فالبحث في أحوال الناس يدل على هذه الحقيقة الصادقة ، وأنّه عند ما تقبل الدنيا عليهم ويعيشون في رفاهية وسعة ، ينسون الخالق ويبتعدون عنه ويغرقون في بحر الشهوات ، ويفعلون ما لا ينبغي فعله ، ويشيعون الظلم والجور والفساد في الأرض.

وفي تفسير آخر عن (ابن عباس) في هذه الآية ورد أن المقصود من (البغي)

__________________

(١) ينقل الدر المنثور هذا الحديث عن الحاكم والبيهقي وأبي نعيم (ج ٦ ص ٨).

٥٢٨

ليس الظلم والجور ، وإنّما (بغى) تعني (طلب) أي يكون معنى الآية أنّهم يطلبون أكثر ولا يشبعون.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مقبول من قبل عدّة مفسّرين وهو الأفضل كما يظهر ، لأن عبارة :( يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ ) وردت عدة مرات في الآيات القرآنية بمعنى الفساد والظلم في الأرض ، مثل :( فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) (١) و( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) (٢) .

صحيح أن (بغى) وردت بمعنى (طلب) أيضا ، إلّا أنّها متى ما تذكر مع كلمة (في الأرض) فإنها تعني الفساد والظلم في الأرض.

وهنا يطرح سؤالان :

الأوّل : لو كان تقسيم الأرزاق وفق هذا البرنامج ، فلما ذا إذن نرى أشخاصا لهم رزق وفير وقد أفسدوا وطغوا كثيرا في الدنيا ولم يمنعهم الخالق ، سواء على مستوى الأفراد ، أو الدول الناهبة والظالمة؟

وفي الجواب على هذا السؤال يجب الانتباه إلى هذه الملاحظة ، وهي أن بسط الرزق أحيانا قد يكون أسلوبا للامتحان والاختبار ، لأن جميع الناس يجب أن يختبروا في هذا العالم ، فقسم منهم يختبرون بواسطة المال.

وأحيانا قد يكون بسط الرزق لبعض الافراد لكي يعلموا بأن الثروة لا تجلب السعادة ، فعسى أن يعثروا على الطريق ويرجعوا إلى خالقهم ، ونحن الان نرى بعض المجتمعات غرقى بأنواع النعم والثروات ، وفي نفس الوقت شملتهم مختلف المصائب والمشاكل ، كالخوف ، والقتل ، والتلوث الخلقي ، والقلق بأنواعه المختلفة.

فأحيانا تكون الثروة غير المحدودة نوعا من العقاب الإلهي الذي يشمل

__________________

(١) يونس ، الآية ٢٣.

(٢) آية ٤٢ من نفس هذه السورة.

٥٢٩

بعض الناس ، فإذا نظرنا إلى حياتهم من بعيد نراها جميلة ، أمّا إذا تفحصناها عن قرب فسوف نشاهد التاسعة بأدنى حالاتها! ، وفي هذا المجال هناك قصص عديدة لسلاطين الثروة في الدنيا ، حيث يطول بنا المقام لو أردنا سردها.

السؤال الآخر هو : ألا يعني هذا الكلام أنّه متى ما كان الإنسان فقيرا فلا ينبغي له السعي للتوسع في الرزق ، لأن الخالق جعل مصلحته في هذا الفقر؟

وللجواب على هذا السؤال نقول : إنه قد تكون قلة الرزق بسبب كسل الإنسان وتهاونه أحيانا ، فهذا النقص والحرمان ليس ما يريده الله حتما ، بل بسبب أعماله ، والإسلام يدعو الجميع إلى الجهد والجهاد والمثابرة وفقا لتأكيده على أصل السعي وبذل الجهد الذي يشير إليه القرآن في آيات عديدة ، وسنة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة الأطهارعليهم‌السلام .

ولكن عند ما يبذل الإنسان منتهى جهده ، ورغم ذلك تغلق الأبواب في وجهه ، عليه أن يعلم بأن هناك مصلحة معينة في هذا الأمر ، فلا يجزع ، ولا ييأس ، ولا ينطق بالكفر ، ويستمر في محاولاته ويستسلم لرضا الخالق أيضا.

وتجدر الإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن كلمة (عباده) لا تتعارض أبدا مع الطغيان عند بسط الرزق ، لأن هذه العبارة تستخدم في الأفراد الصالحين والسيئين والمتوسطي الحال ، مثل :( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ) .

صحيح أن الخالق ينزل الرزق بقدر حتى لا يطغي العباد ، إلّا أنّه لا يمنعهم أو يحرمهم ، لذا فإن الآية التي بعدها تقول :( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ) .

ولماذا لا يكون هذا :( وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) ؟

هذه الآية تتحدث عن آيات وعلائم التوحيد في نفس الوقت الذي تبيّن فيه نعمة ولطف الخالق ، لأن نزول المطر يشتمل على نظام دقيق للغاية ومحسوب ،

٥٣٠

فعند ما تشرق الشمس على المحيطات تفصل ذرات الماء الدقيقة عن الأملاح وترسلها على شكل سحب إلى السماء ، ثمّ تقوم طبقات الجو العليا الباردة بتكثيفها ، ثمّ تحملها الرياح إلى الأراضي اليابسة ، ثمّ تتحول أخيرا إلى قطرات مطر بسبب برودة الهواء وضغطه الخاص وتهطل على الأرض ، وتنفذ فيها دون تخريب.

نعم ، فلو دققنا النظر في هذا النظام ، فسنجد علائم قدرة الخالق وعلمه متجلية فيه ، فهو الولي الحميد الذي يقوم بتأمين كلّ حاجات العباد وتشملهم ألطافه العديدة.

ولا بدّ القول أن كلمة (غيث) تعني المطر النافع ، كما يقول العديد من المفسّرين وبعض علماء اللغة ، في حين أن (المطر) يطلق على جميع الأنواع الأخرى النافعة والضارة.

لذا ، فبعد تلك الجملة وردت عبارة :( وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ) .

يا له من تعبير لطيف وشامل! فهو ينشر رحمته لإحياء الأراضي الميتة ، ونمو النباتات وتنظيف الهواء ، وتأمين ماء الشرب للإنسان وباقي الكائنات الحية ، والخلاصة في جميع المجالات.

فلو أراد الإنسان أن يدرك مفهوم هذه الجملة القرآنية ، فإنّ عليه أن يتوجه نحو الجبال والسهول بعد نزول المطر وعند ما تشرق الشمس ، كي يشاهد الجمال واللطافة ورحمة الخالق الواسعة وهي تعمر كلّ مكان.

وقد تكوه الاستفادة من كلمة (غيث) بسبب أن لها جذورا مشتركة مع (غوث) المأخوذة من الإغاثة ، ولهذا السبب فإن بعض المفسّرين اعتبر الكلمة أعلاه إشارة إلى أي إغاثة من قبل الخالق بعد اليأس ونشر رحمته(١) .

ولهذه المناسبة ـ أيضا ـ فإن الآية التي بعدها تتحدث عن أهم آيات علم

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : الغوث يقال في النصرة ، والغيث في المطر.

٥٣١

وقدرة الخالق ، حيث تقول :( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) .

فالسموات بعظمتها ، بمجراتها وكواكبها ، بملايين الملايين من النجوم العظيمة اللامعة ، بنظامها الدقيق الذي يبهت الإنسان عند مطالعته لها. والأرض بمنابعها الحياتية ونباتاتها المتنوعة ولورود والفواكه بمختلف البركات والمواهب والجمال! كلها تعتبر آيات وعلائم تدل عليه هذا من جانب.

ومن جانب آخر فالأحياء في الأرض والسماء ، كأنواع الطيور ، ومئات الآلاف من الحشرات ، وأنواع الحيوانات الأليفة والمتوحشة ، والزواحف ، والأسماك بأنواعها وأحجامها ، والعجائب المختلفة الموجودة في كلّ نوع من هذه الأنواع ، والأهم من ذلك حقيقة (الحياة) وأسرارها التي لم يستطع أحد التوصل إلى كنهها بعد آلاف السنين من البحوث لملايين العلماء ، كلّ ذلك هو من آيات الخالق.

والملفت للنظر أن (دابة) تشمل الكائنات الحية المجهرية التي لها حركات لطيفة وعجيبة ، وتشمل الحيوانات الكبيرة العملاقة التي يصل طولها إلى عشرات الأمتار ووزنها إلى عشرات الأطنان ، فكل صنف يسبّح على طريقته الخاصة ويحمد الخالق ، ويبيّن عظمته تعالى وقدرته وعلمه اللامحدود ، بلسان حاله.

وتقول الآية في نهايتها :( وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ ) (١) .

أمّا ما هو المقصود من جمع الأحياء الذي تذكره هذه الآية؟ فقد ذكر العديد من المفسّرين أنّه الجمع للحساب وجزاء الأعمال في القيامة ، ويمكن اعتبار الآيات التي تذكر القيامة بعنوان (يوم الجمع) دليلا على هذا المعنى (مثل الآية ٧ من نفس هذه السورة والآية ٩ من سورة التغابن).

__________________

(١) (إذا) وكما يقول صاحب الكشاف ، تدخل على الفعل المضارع كما تدخل على الفعل الماضي ، مثل( وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ) ولكن الفعل أكثر ما يكون بعد (إذا) على شكل الماضي وقليل جدا على شكله المضارع.

٥٣٢

وهنا قد يطرح هذا السؤال وهو : هل أن جميع الأحياء سيحشرون يوم القيامة ، حتى غير الإنسان؟ حيث يقال أحيانا أن كلمة (دابة) تطلق على غير الإنسان. وهنا ستطرح هذه المشكلة وهي كيف ستحشر الأحياء من غير الإنسان للحساب. في حين أنّها لا تتمتع بعقل ولا اختيار ولا تكليف؟

وقد ورد جواب هذا السؤال في نهاية الآية (٣٨) من سورة الأنعام :( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) .

وقلنا أن حياة العديد من الحيوانات مقترنة مع نظام بديع وعجيب ، فما المانع من أن تكون أعمالها نتاج نوع من العقل والشعور فيها؟ وهل هناك ضرورة لإرجاع جميع هذه الأمور إلى الغريزة؟ وفي هذه الحالة يمكن تصور نوع من الحشر والحساب لها (اقرأ شرحا أكثر لهذا الموضوع في ذيل تفسير الآية ٣٨ من سورة الأنعام).

ويحتمل في تفسير الآية أعلاه أن المقصود من (الجمع) الجانب المقابل لـ (بث) ، أي أن (بت) تشير إلى خلق أنواع الكائنات الحية باختلافها ، ثمّ إذا شاء الخالق (جمعها) وأفناها. فكما أن العديد من الأحياء ـ (على مدى التاريخ) ـ انتشرت بشكل عجيب ، ثمّ انقرضت واختفت فيما بعد. كذلك جمعها وإبادتها يكون بيد الخالق ، فهي في الحقيقة تشبه الآيات التي تقول : يحيي ويميت (أي الخالق).

وبهذا فإنّ قضية حساب الحيوانات سوف تكون أجنبية عن هذه الآية.

النجوم السماوية الآهلة :

من الاستنتاجات المهمّة التي نستنتجها من خلال هذه الآية ، أنّها تدل على وجود مختلف الأحياء في السماوات ، وبالرغم من عدم صدور الرأي النهائي

٥٣٣

للعلماء بهذا الخصوص ، إلّا أنّهم يقولون وعلى نحو الإيجاز : هناك احتمال قوي بوجود عدد كبير من النجوم من بين الكواكب السماوية تحتوي على كائنات حية ، إلّا أن القرآن يصرح بهذه الحقيقة ، من خلال :( وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) .

وما يقوله بعض المفسّرين من احتمال تخصص (فيهما) بالكرة الأرضية غير سديد ، لوجود ضمير المثنى والذي يعود إلى السماء والأرض معا ، وكذلك لا يصح ما قيل في تفسير (دابة) بالملائكة ، لأن دابة تطلق عادة على الكائنات المادية.

ويمكن استفادة هذا المعنى أيضا من خلال الآيات القرآنية المتعددة الأخرى.

وفي حديث ورد عن الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام أنّه قال : «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور»(١) .

وهناك روايات اخرى متعددة في هذا المجال (يمكن مراجعة كتاب «الهيئة والإسلام» لمزيد من المعلومات).

وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن الرحمة الإلهية ، لذا يطرح سؤال في هذا المجال ، وهو كيف تجتمع الرحمة وكل هذه المصائب التي تصيبنا؟

الآية الأخرى تجيب على هذا السؤال وتقول :( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) .

ثم إن هذا الجزاء ليس جزاء على جميع أعمالكم القبيحة ، لأنّه( وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) .

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ـ كلمة نجم ـ المجلد الثّاني ـ ص ٥٧٤ ، نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم القمي.

٥٣٤

ملاحظات

علّة المصائب :

ومن الضروري الانتباه إلى بعض الملاحظات الواردة في هذه الآية :

١ ـ تبيّن هذه الآية وبوضوح أن المصائب التي تصيب الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي (بالرغم من وجود بعض الاستثناءات التي سنشير إليها فيما بعد).

وبهذا الترتيب سيتوضح لنا جانب من فلسفة الحوادث المؤلمة والمشاكل الحياتية.

والطريف في الأمر أنّنا نقرأ في حديث عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه نقل عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «خير آية في كتاب الله هذه الآية ، يا علي ما من خدش عود ، ولا نكبة قدم إلا بذنب ، وما عفى الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه ، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده»(١) .

وهكذا فإنّ هذه المصائب إضافة إلى أنّها تقلل من حمل الإنسان ، فإنها تجعله يتزن في المستقبل.

٢ ـ بالرغم من عمومية الآية وشمولها كلّ المصائب ، لكن توجد استثناءات لكم عامّ ، مثل المصائب والمشاكل التي أصابت الأنبياء والأئمة المعصومينعليهم‌السلام بهدف الاختبار أو رفع مقامهم.

وأيضا المصائب بهدف الاختبار التي تشمل غير المعصومين. أو المصائب التي تحدث بسبب الجهل أو عدم الدقة في الأمور وعدم الاستشارة والتساهل والتي هي آثار تكوينية لأعمال الإنسان نفسه.

وبعبارة اخرى فإن الجمع بين الآيات القرآنية المختلفة ـ والأحاديث ـ

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، ص ٣١ (نهاية الآيات التي نبحثها) وقد ورد ما يشبه هذا الحديث في (الدر المنثور) وتفسير (روح المعاني) مع بعض الاختلاف وذلك في نهاية الآيات التي نبحثها ، والأحاديث في هذا المجال كثيرة.

٥٣٥

يقتضي التخصيص في بعض الموارد بالنسبة لهذه الآية العامة ، وليس هذا موضوعا جديدا ليكون محل نقاش بعض المفسّرين.

وخلاصة القول فإنّ هناك غايات مختلفة للمصائب والمشاكل التي تصيب الإنسان ، حيث تمّت الإشارة إليها في المواضيع التوحيدية وبحوث العدل الإلهي.

فالملكات تنمو وتتكامل تحت ضغط المصائب ، ويكون هناك حذر بالنسبة للمستقبل ، ويقظة من الغرور والغفلة وكفارة للذنب و

وبما أن أغلب أعمال الأفراد لها طبيعة جزائية وتكفيرية ، لذا فإنّ الآية تطرح ذلك بشكل عام.

ولذا فقد ورد في الحديث أنّه وعند ما دخل علي بن الحسينعليه‌السلام على يزيد بن معاوية ، نظر إليه يزيد وقال : يا على ، ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم (إشارة إلى أنّ مأساة كربلاء هي نتيجة أعمالكم).

إلّا أنّ الإمامعليه‌السلام أجابه مباشرة : «كلا ما نزلت هذه فينا ، إنّما نزل فينا :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا من أمر الدنيا ، و، لا نفرح بما أوتينا»(١) .

وننهي هذا الكلام بحديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام فعند ما سئل عن تفسير الآية أعلاه قال : تعلمون أن عليا وأهل بيته قد أصيبوا بالمصائب من بعده ، فهل كان ذلك بسبب أعمالهم؟ في حين أنّهم أهل بيت الطهر ، والعصمة من الذنب ، ثمّ أضاف : نص إنّ رسول الله كان يتوب إلى الله ويستغفر في كلّ يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب ، إنّ الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب(٢) .

٣ ـ البعض يشكك في أن يكون المقصود من المصائب في هذه الآية مصائب

__________________

(١) تفسير علي بن بن إبراهيم طبقا لنور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٨٠.

(٢) أصول الكافي طبقا لنور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٨١.

٥٣٦

الدنيا ، لأن الدنيا هي دار العمل وليس دار الثواب والجزاء.

وهذا خطأ كبير ، لوجود آيات وروايات متعددة تؤّكد أن الإنسان يرى ـ أحيانا ـ جانبا من نتيجة أعماله في هذه الدنيا ، وما يقال من أن الدنيا ليست دارا للجزاء ولا تتم فيها تصفية جميع الحسابات ، لا يعني عدم الجزاء بشكل مطلق ، حيث أن إنكار هذه الحقيقة يشبه إنكار البديهيات ، كما يقول المطّلعون على المفاهيم الاسلامية.

٤ ـ أحيانا قد تكون المصائب جماعية ، وبسبب ذنوب الجماعة ، كما نقرأ في الآية (٤١) من سورة الروم :( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

وواضح أن هذا يختص بالمجتمعات الإنسانية التي أصيبت بالمصائب بسبب أعمالها.

وورد في الآية ١١ من سورة الرعد :( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) .

وهذه الآيات تدل على وجود ارتباط وعلاقة قريبة بين أعمال الإنسان والنظام التكويني للحياة ، فإذا سار الناس وفقا لأصول الفطرة وقوانين الخلق فستشملهم البركات الإلهية ، وعند فسادهم يفسدون حياتهم.

وأحيانا قد يصدق هذا الأمر بخصوص آحاد الناس ، فكل إنسان سيصاب في جسمه وروحه أو أمواله ومتعلقاته الأخرى بسبب الذنب الذي يرتكبه ، كما جاء في الآية أعلاه(١) .

على أية حال ، فقد يتصور البعض أنّهم يستطيعون الهروب من هذا القانون الإلهي الحتمي. لذا فإن آخر آية في هذا البحث تقول :( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي

__________________

(١) الميزان ، المجلد ١٨ ، ص ٦١.

٥٣٧

الْأَرْضِ ) (١) . وفي السماء بطريق اولى وكيف تستطيعون الهروب من قدرته وحاكميته في حين أن كلّ عالم الوجود هو في قبضته ولا منازع له؟

وإذا كنتم تعتقدون بوجود من سيساعدكم وينصركم ، فاعلموا :( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

قد يكون الفرق بين (الولي) و (النصير) هو أن الولي هو الذي يقوم بجلب المنفعة ، والنصير هو الذي يقوم بدفع الضرر ، أو أن الولي يقال لمن يدافع بشكل مستقل ، والنصير يقال لمن يقف إلى جانب الإنسان ويقوم بنصرته.

وفي الحقيقة فإن آخر آية تجسد ضعف وعجز الإنسان ، والآية التي قبلها عدالة الخالق ورحمته(٢) .

* * *

مسائل مهمّة

الاولى : مصائبكم بما كسبت أيديكم :

يتصور العديد من الناس أن علاقة أعمال الإنسان بالجزاء الإلهي مثل العقود الدنيوية وما تحتويه من الأجر والعقاب ، في حين قلنا ـ مرارا ـ إن هذه العلاقة أقرب ما تكون إلى الارتباط التكويني منه إلى الارتباط التشريعي.

وبعبارة اخرى فإنّ الأجر والعقاب أكثر ما يكون بسبب النتيجة الطبيعية والتكوينية لأعمال الإنسان حيث يشملهم ذلك. والآيات أعلاه خير شاهد على هذه الحقيقة.

وبهذا الخصوص هناك روايات كثيرة في المصادر الإسلامية نشير إلى بعضها

__________________

(١) «معجزين» من كلمة (إعجاز) إلّا أنّها وردت في العديد من الآيات القرآنية بمعنى الهروب من محيط القدرة الإلهية ومن عذابه ، حيث يقتضي معناها ذلك.

(٢) في ظلال القرآن ـ المجلد السابع ص ٢٩٠.

٥٣٨

لتكميل الموضوع :

١ ـ ورد في إحدى خطب نهج البلاغة : «ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش ، فزال عنهم إلّا بذنوب اجترحوها ، لأن الله ليس بظلام للعبيد ، ولو أنّ الناس حين تنزل بهم النقم ، وتزول عنهم النعم ، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نياتهم ، ووله من قلوبهم ، لردّ عليهم كلّ شارد ، وأصلح لهم كلّ فاسد»(١) .

٢ – وهناك حديث آخر عن أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام في (جامع الأخبار) حيث يقول : «إنّ البلاء للظالم أدب ، وللمؤمن امتحان ، وللأنبياء درجة ، وللأولياء كرامة»(٢) .

وهذا الحديث خير شاهد للاستثناءات التي ذكرناها لهذه الآية.

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في الكافي أنّه قال : «إنّ العبد إذا كثرت ذنوبه ، ولم يكن عنده من العمل ما يكفرها ، ابتلاه بالحزن ليكفرها»(٣) .

٤ ـ وهناك باب خاص لهذا الموضوع في كتاب أصول الكافي يشمل ١٢ حديثا(٤) .

وكل هذه هي غير الذنوب التي صرحت الآية أعلاه بأن الخالق سيشملها بعفوه ورحمته ، حيث أنّها ـ بحد ذاتها ـ كثيرة.

الثانية : اشتباه كبير

قد يستنتج البعض بشكل خاطئ من هذه الحقيقة القرآنية ويقول بوجوب الاستسلام لأي حادثة مؤسفة ، إلّا أن هذا الأمر خطير للغاية ، لأنّه يستفيد من هذا الأصل القرآني التربوي بشكل معكوس ويستنتج نتيجة تخديرية.

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الخطبة ١٧٨.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ٨١ ، ص ١٩٨.

(٣) الكافي ، ـ المجلد الثّاني ، كتاب الإيمان والكفر ـ باب تعجيل عقوبة الذنب ـ الحديث ٢.

(٤) المصدر السابق.

٥٣٩

فالقرآن لا يقول أبدا بالاستسلام حيال المصائب وعدم السعي لحل المشاكل ، والركون للظلم والجور والمرض ، بل يقول : إذا شملتك المصائب بالرغم من سعيك ومحاولاتك لدفعها ، فاعلم أن ذلك هو كفارة الذنوب التي قمت بها وارتكبتها ، عليك أن تفكر بأعمالك السابقة ، وتستغفر لذنوبك ، وتصلح نفسك وتكتشف نقاط ضعفك.

وإذا ورد في الروايات أن هذه الآية من أفضل آيات القرآن ، فذلك بسبب تأثيرها التربوي المهم ، ومن جانب آخر تقوم بتخفيف هموم الإنسان ، وتعيد الأمل وعشق الخالق إلى قلبه وروحه.

الثّالثة : من هم أصحاب الصفة؟

الذين يذهبون إلى زيارة قبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، يشاهدون مكانا مرتفعا قليلا عن الأرض في زاوية المسجد وقرب القبر الشريف حيث عزلت أطرافه بشكل جميل عن باقي المسجد ، كما أن الكثير ينتخب هذا المكان لتلاوة القرآن والصلاة.

هذا المكان يذكرنا بمكان (الصفّة) وهو المحل الذي هيأه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمجموعة من الغرباء الذين اعتنقوا الإسلام ولم يكن لديهم مأوى سوى المسجد(١) .

توضيح :

أوّل شخص غريب اعتنق الإسلام ولم يكن يملك مكانا في المدينة هو شاب من أهل اليمامة يسمى (جويبر) حيث أن قصة زواجه الشهيرة مع (الذلفاء) تعتبر من أجمل حوادث محاربة الفواصل الطبقية في التاريخ الإسلامي.

__________________

(١) «صفة» على وزن (غصّة) وتعني في اللغة الصيفية المغطاة بسعف النحل.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607