الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل3%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182750 / تحميل: 6098
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

سُورَة

الزّخرف

مكيّة

وَعَدَدُ آياتِها تسعُ وثمانونَ آية

٥
٦

سورة الزّخرف

محتوى سورة الزّخرف :

سورة الزخرف من السورة المكيّة ، إلّا الآية (٤٥) منها ، فإنّ جمعا من المفسّرين اعتبرها مدنيّة ، وربّما كان السبب هو أنّ ما تبحثه الآية يتعلق على الأغلب بأهل الكتاب ، أو بقصّة المعراج ، وكلا البحثين يتناسب مع المدينة أكثر. وسنوضّح المطلب في تفسير هذه الآية إن شاء الله تعالى.

وعلى أيّة حال ، فإنّ طبيعة السور المكّيّة ـ والتي تدور غالبا حول محور العقائد الإسلاميّة من المبدأ والمعاد والنبوّة والقرآن والإنذار والتبشير ـ منعكسة ومتجلّية فيها.

ويمكن تلخيص مباحث هذه السورة بصورة موجزة ، في سبعة فصول :

الفصل الأوّل : وهو بداية السورة ، ويتحدّث عن أهمّية القرآن المجيد ، ونبوّة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومواجهة المشركين لهذا الكتاب السماوي.

الفصل الثّاني : يذكر قسما من أدلّة التوحيد في الآفاق ، ونعم الله المختلفة على البشر.

الفصل الثّالث : ويكمّل هذه الحقيقة عن طريق محاربة الشرك ، ونفي ما ينسب إلى اللهعزوجل من الأقاويل الباطلة ، ومحاربة التقاليد العمياء ، والخرافات والأساطير ، كالتشاؤم من البنات ، أو الإعتقاد بأنّ الملائكة بنات اللهعزوجل .

الفصل الرّابع : ينقل جانبا من قصص الأنبياء الماضين وأممهم ، وتاريخهم لتجسيد هذه الحقائق. ويؤكّد على حياة إبراهيم وموسى وعيسىعليهم‌السلام بصورة

٧

خاصّة.

الفصل الخامس : يتعرض إلى مسألة المعاد ، وجزاء المؤمنين ، ومصير الكفّار المشؤوم ، ويحذّر المجرمين ويهدّدهم بتهديدات وتحذيرات وإنذارات قويّة.

الفصل السّادس : وهو من أهمّ فصول هذه السورة ، ويتناول القيم الباطلة التي كانت ولا تزال حاكمة على أفكار الأشخاص المادّيين ، ووقوعهم في مختلف الاشتباهات حينما يقيّمون مسائل الحياة ويزنونها بالميزان الدنيويّ حتّى أنّهم كانوا يتوقّعون أن ينزل القرآن الكريم على رجل غني عظيم الثراء ، لأنّهم كانوا يعتبرون قيمة الإنسان في ثرائه! لهذا نرى القرآن في آيات عديدة من هذه السورة يهاجم هذا النمط من التفكير الساذج والجاهل ويحاربه ، ويوضح المثل الإسلاميّة والإنسانيّة السامية.

الفصل السّابع : وهو فصل المواعظ والنصائح العميقة المؤثّرة حيث يكمل الفصول الأخرى ، ليجعل من مجموع آيات السورة دواء شافيا تماما يترك أقوى الأثر في نفس السامع.

وقد أخذ اسم هذه السورة (الزخرف) من الآية (٣٥) منها ، والتي تتحدث في القيم المادّية.

فضل تلاوة السّورة

لقد ذكر فضل عظيم لتلاوة هذه السورة في الرّوايات الإسلاميّة في مختلف كتب التّفسير والحديث ، ومن جملتها ما ورد في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الزخرف ، كان ممن يقال له يوم القيامة : يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ، ادخلوا الجنّة»(١) .

لا شكّ أنّ الخطاب بـ( يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) هو عين

__________________

(١) مجمع البيان ، بداية ، سورة الخزوف.

٨

ما ورد في الآية (٦٨) ، وجملة( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) أخذت من الآية (٧٠) ، وجملة( بِغَيْرِ حِسابٍ ) من لوازم الكلام ، وقد وردت في عدّة من آيات القرآن الأخرى.

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذه البشارة العظمى ، والفضيلة التي لا تقدّر ، لا تحصل بمجرّد التلاوة الخالية من التدبر والإيمان والعمل الصالح ، لأنّ التلاوة مقدّمة للفكر ، والإيمان والعمل الصالح ثمرة له.

* * *

٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) )

التّفسير

ذنوبكم لا تمنع رحمتنا!

مرّة أخرى نواجه الحروف المقطّعة في بداية هذه السورة ، وهي حروف (حم) ، وهذه رابع سورة تبدأ بـ( حم ) وتتلوها ثلاث سور أخرى أيضا ، فتشكّل هذه السور السبعة بمجموعها (أسرة حم) وهي بالترتيب : المؤمن ، فصلت ، الشورى ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، والأحقاف.

وقد بحثنا الحروف المقطّعة بصورة مفصّلة فيما سبق (راجع بداية سورة البقرة ،

١٠

بداية آل عمران ، أوّل الأعراف ، بداية سورة «فصلت» في خصوص حم).

ويقسم تعالى بالقرآن الكريم في الآية الثّانية ، فيقول :( وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ) . قسما بهذا الكتاب الواضحة حقائقه ، والبيّنة معانيه ومفاهيمه ، والظاهرة دلائل صدقه ، والمبيّنة طرق هدايته ورشاده.

ثمّ يضيف :( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (١) .

إنّ كون القرآن عربيّا ، إمّا بمعنى أنّه «نزل بلغة العرب التي هي أوسع لغات العالم في بيان الحقائق ، وقادرة على تبيان دقائق المطالب بكل جمال ودقّة في التعبير.

أو بمعنى فصاحته ـ لأنّ أحد معاني كلمة (عربي) هو «الفصيح» وهي إشارة إلى أنا قد جعلناه في منتهى الفصاحة وغايتها ، لتظهر الحقائق جيّدا من خلال كلماته وجمله ، ويدركها الجميع جيدا.

والطّريف أنّ القسم وجوابه ـ هنا ـ شيء واحد ، فهو تعالى يقسم بالقرآن أنّه جعل القرآن عربيّا ليستفيد الجميع منه ويعقلوا آياته ، وربّما كان هذا إشارة إلى أنّه لم يكن هناك شيء أجلّ من القرآن ليقسم به ، فإنّ ما هو أسمى من القرآن نفس القرآن ، لأنّ كلام الله سبحانه ، وكلام الله مبيّن لذاته المقدّسة.

ولا يدلّ التعبير بـ (لعل) على أنّ الله سبحانه يشكّ في تأثير القرآن ، أو أنّ الكلام هنا عن الرجاء والأمل الذي يصعب الوصول إليه وتحقّقه ، بل إنّه يشير إلى تفاوت الأرضيّات الفكرية والأخلاقيّة لسامعى آيات القرآن الكريم ، ويشير أيضا إلى أنّ تأثير القرآن يستلزم توفر شروطا معيّنة أشير إليها إجمالا بكلمة (لعل). وقد أوردنا تفصيلا أكثر لهذا المعنى في ذيل الآية (٢٠٠) من آل عمران.

ثمّ يتطرق القرآن إلى بيان ثلاث صفات أخرى لهذا الكتاب السماوي ، فيقول :( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ويشير في الصفة الأولى إلى أنّ القرآن الكريم قد حفظ وأثبت في أمّ الكتاب لدى الله سبحانه ، كما نقرأ ذلك أيضا في

__________________

(١) الواو في (والكتاب المبين) للقسم ، وجواب هذا القسم جملة( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) .

١١

الآية (٢٢) من سورة البروج :( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) .

والآن ، لنر ما هو المراد من «أم الكتاب» ، أو «اللوح المحفوظ»؟

«الأم» في اللغة تعني أصل كل شيء وأساسه ، وإنّما يقول العرب للأم أمّا لأنّها أساس العائلة ومأوى الأولاد ، وعلى هذا فإنّ (أم الكتاب) يعني الكتاب الذي يكون أساسا لكل الكتب السماويّة ، وهو ذلك اللوح المحفوظ لدى الله سبحانه ، والمصون من كل تغيير وتبديل وتحريف إنّه كتاب علم الله المحفوظ لديه ، والذي أدرجت فيه كل حقائق العالم ، وكل حوادث الماضي والمستقبل ، وكل الكتب السماويّة ، ولا يستطيع أي أحد أن يصل إليه ويعلم ما فيه ، إلّا إذا أراد الله سبحانه أن يعلم أحدا بالمقدار الذي يريدهعزوجل .

وهذا وصف عظيم للقرآن الذي ينبع من علم الله اللامتناهي ، وأصله وأساسه لديه سبحانه ، ولهذا يقول في الصفة الثّانية : (لعليّ) وفي الثالثة (حكيم).

إنّ الشيء الذي ينبعث من علم الله اللامتناهي يجب أن يكون بهذه الصفات.

واعتقد البعض أنّ سموّ القرآن وعلوّ مقامه نابع من أنّه فاق كلّ الكتب السماويّة ، ونسخها جميعا ، وهو في أرفع مراتب الإعجاز.

واعتبر البعض الآخر علوّ القرآن لاحتوائه على حقائق لا تدركها أفكار البشر ، وهي بعيدة عن مدى ما تستوعبه عقولهم ـ إضافة إلى الحقائق التي يفهمها الجميع من ظاهر القرآن.

ولا تتضارب هذه المعاني فيما بينها حيث تجتمع كلّها في مفهوم (عليّ).

وهنا مسألة تستحق الانتباه ، وهي أنّ (الحكيم) صفة للشخص عادة ، لا الكتاب ، لكن لمّا كان هذا الكتاب السماوي بنفسه معلما عظيما وناطقا بالحكمة ناشرا لها ، فإنّ هذا التعبير في محله تماما.

وقد وردت كلمة «الحكيم» بمعنى المستحكم الحصين أيضا ، وكلّ هذه المعاني جمعت في اللفظة المذكورة ، وهي صادقة في شأن القرآن الكريم ، لأنّه حكيم بكل

١٢

هذه المعاني.

وفي الآية التّالية يخاطب المنكرين للقرآن والمعرضين عنه ، فيقول :( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ) ؟

صحيح أنّكم لم تألوا جهدا في مخالفتكم للحق وعدائه ، ووصلتم في المخالفة إلى حدّ الإفراط والإسراف ، إلّا أنّ رحمة الله سبحانه واسعة بحدّ لا تشكل هذه الأعمال المناوئة حاجزا في طريقها ، ونظر ننزل باستمرار هذا الكتاب السماوي الذي يوقظكم ، وآياته التي تبعث الحياة فيكم ، حتّى تهتزّ القلوب التي لها أدنى حظ من الاستعداد وتثوب إلى طريق الحقّ ، وهذا هو مقام رحمة الله العامّة ، أي : رحمانيته التي تشمل العدوّ ، والصديق ، والمؤمن والكافر.

جملة( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ ) جاءت هنا بمعنى : أفنصرب عنكم ، لأنّ الراكب إذا أراد أن يحوّل دابّته إلى طريق آخر ، فإنّه يحوّله بضربه بالسوط أو بشيء آخر ، ولذلك فإنّ كلمة الضرب تستعمل في مثل هذه الموارد بدلا من الصرف(١) .

«الصفح» في الأصل بمعنى جانب الشيء وطرفه ، ويأتي أيضا بمعنى العرض والسعة ، وهو في الآية بالمعنى الأوّل ، أي : أنحول عنكم هذا القرآن الذي هو أساس التذكرة إلى جانب وطرف آخر؟

«المسرف» من الإسراف ، وهو تجاوز الحدّ ، إشارة إلى أنّ المشركين وأعداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقفوا عند حدّ في خلافهم وعدائهم مطلقا.

ثمّ يقول في عبارة قصيرة كشاهد على ما قيل ، وتسلية لخاطر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتهديدا للمنكرين المعاندين :( وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

إنّ هذه المخالفات وأنواع السخرية لم تكن لتمنع لطف الله ورحمته أبدا ، فإنّها فيض متواصل من الأزل إلى الأبد ، ووجود يعمّ عطاؤه كلّ العباد ، بل إنّه سبحانه قد

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

١٣

خلقهم للرحمة( وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) (١) ، ولهذا فإنّ إعراضكم وعنادكم سوف لا يمنع لطفه مطلقا ، وينبغي أن لا يفتر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون الحقيقيّون ، فإنّ لهذا الإعراض عن الحق واتباع الشهوات والهوى والميول تاريخا طويلا.

لكن ، ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء بأنّ لطف الله اللامتناهي سيحول دون عقابهم في النهاية ، لأنّ العقاب بنفسه من مقتضى حكمته ، ولذلك يضيف في الآية التالية :( فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) .

فالآية تخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنّنا سبق وأن ذكرنا لك نماذج كثيرة من هذه الأقوام العاصية الطاغية ، وأوحينا إليك تفصيل حالهم بدون زيادة أو نقصان ، وكان من بينهم أقوام أقوى وأشدّ من مشركي العرب كثيرا ، ولهم إمكانيّات وثروات وأفراد وجيوش وإمكانات واسعة كفرعون وآل فرعون ، والتاريخ ، وأوضح من ذلك أن تتدبّروا ما نزل في القرآن في شأنهم لتعلموا أيّها الطغاة المعاندون أنّكم لستم في مأمن من عذاب الله الأليم أبدا.

«البطش» ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ بمعنى أخذ الشيء بالقوّة ، وهنا اقترن بكلمة «أشدّ» وتعطي مفهوم شدّة القوّة والقدرة أكثر.

والضمير في( مِنْهُمْ ) يعود على مشركي العرب الذين خوطبوا في الآيات السابقة ، إلّا أنّهم ذكروا هنا بصيغة الغائب ، لأنّهم ليسوا أهلا للاستمرار في مخاطبتهم من قبل الله تعالى.

واعتبر بعض كبار المفسّرين جملة( وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) إشارة إلى المطالب التي جاءت في السورة السابقة ـ سورة الشورى ـ حول جماعة من هؤلاء. إلّا أنّه لا دليل لدينا على هذا التحديد ، خاصّة وأنّه قلّما أشير إلى حوادث الأمم الماضية في سورة الشورى ، في حين وردت بحوث مفصّلة حولهم في سور أخرى من القرآن.

__________________

(١) هود ، الآية ١١٩.

١٤

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذه الآية تشبه ما مرّ في الآية (٧٨) من سورة القصص ، حيث تقول :( أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ) ؟!

أو ما مرّ في الآية (٢١) من سورة المؤمن حيث حذّرت مشركي العرب إذ تقول :( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ) ؟!

* * *

١٥

الآيات

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) )

التّفسير

بعض أدلّة التوحيد :

من هنا يبدأ البحث حول التوحيد والشرك ، فتستعين الآيات بفطرة هؤلاء وطينتهم لإثبات التوحيد ، وبعد أن تبيّن الأدلّة الموجودة في عالم الوجود ، وتذكر

١٦

خمسة نماذج من مواهب الله العظيمة وتثير فيهم حسّ الشكر ، تتطرّق إلى إبطال اعتقادهم الخرافي فيما يتعلق بالأصنام ومختلف أنواع الشرك.

يقول سبحانه في القسم الأوّل :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) .

إنّ هذا التعبير الذي ورد بتفاوت يسير في أربع آيات من القرآن الكريم ـ العنكبوت ، لقمان ، الزمر والزخرف في الآية التي نبحثها(١) ـ دليل على كون معرفة الله سبحانه أمر فطري مغروس في طينة البشر وطبيعتهم من جانب. ومن جانب آخر يدلّ على أنّ المشركين كانوا مقرّين بأن خالق السماوات والأرض هو الله سبحانه ، ولم يكونوا يعترفون بأنّ معبوداتهم خالقة إلّا في موارد نادرة.

ومن جانب ثالث فإنّ هذا الاعتراف أساس ودعامة لإبطال عبوديّة الأصنام ، لأنّ الذي يكون أهلا للعبادة هو خالق الكون ومدبّره ، لا الموجودات التي لا حظّ لها في هذا المجال ، وبناء على هذا ، فإنّ اعترافهم بكون الله سبحانه خالقا كان دليلا قاطعا على بطلان مذهبهم ودينهم الفاسد.

والتعبير بالعزيز الحكيم والذي يبيّن قدرة الله المطلقة ، وعلمه وحكمته ، وإن كان تعبيرا قرآنيّا ، إلّا أنّه لم يكن أمرا ينكره المشركون ، لأنّ لازم الاعتراف بكون الله سبحانه خالقا للسماء والأرض وجود هاتين الصفتين فيه. وهؤلاء المشركين كانوا يعتقدون بعلم أصنامهم وقدرتها ، فكيف بالله الذي يعتقدون أنّ أصنامهم وسيلة إليه ، وتقربّهم إليه زلفى؟!

ثمّ يشير سبحانه إلى خمس نعم من نعم الله العظيمة ، والتي تعتبر كلّ منها نموذجا من نظام الخلقة ، وآية من آيات الله سبحانه ، فيقول أولا :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ

__________________

(١) جاء في موضعين آخرين من القرآن اعتراف هؤلاء بكون الله خالقا ، غايته أن أحدهما في شأن نزول المطر من السماء (العنكبوت ـ ٦٣) والآخر في كون الله سبحانه خالقهم (الزخرف ـ ٨٧).

١٧

الْأَرْضَ مَهْداً ) .

إنّ لفظتي «المهد» و «المهاد» تعني المحلّ الذي أعدّ للجلوس والنوم والاستراحة ، ويقال في الأصل للمكان الذي يضعون فيه الطفل لينام «مهد».

أجل إنّ الله سبحانه جعل الأرض مهدا للإنسان ، ومع أنّ لها عدّة حركات بفعل قانون الجاذبيّة ، ورغم الطبقة الغازيّة العظيمة التي أحاطت بها من كلّ جانب ، فإنّها هادئة ومستقرّة بحيث لا يشعر ساكونها بأيّ إزعاج ونعلم أنّ الهدوء النفسي هو الدعامة الأساسيّة للاستفادة من النعم الأخرى والتنعّم بها ، ولا شكّ أنّ هذه العوامل المختلفة ما لم تنسجم مع بعضها ، ويكمل بعضها بعضا ، فليس بالإمكان تحقّق هذا الهدوء والاطمئنان مطلقا.

ثمّ يضيف سبحانه لتبيان النعمة الثانية :( وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) .

لقد أشير إلى هذه النعمة عدّة مرات في القرآن المجيد (سورة طه ـ ٥٣ ، الأنبياء ـ ٣١ ، النحل ـ ١٥ وغيرهنّ) ، وهي من النعم التي غفل عنها الكثيرون ، لأنّا نعلم أنّ التضاريس تعمّ كلّ اليابسة تقريبا ، وفيها الجبال العظيمة والصغيرة والتلال والهضاب ، والبديع أن توجد بين أعظم سلال جبال العالم فواصل يستطيع الإنسان أن يشقّ طريقه من خلالها ، وقلما اتفق أن تكون هذه الجبال سببا لانفصال أقسام الكرة الأرضية عن بعضها تماما ، وهذا واحد من أسرار نظام الخلقة ، ومن مواهب الله سبحانه وعطاياه للعباد.

وإضافة إلى ما مرّ ، فإنّ كثيرا من أجزاء الكرة الأرضية ترتبط مع بعضها بواسطة طرق المواصلات البحريّة ، وهذا يدخل أيضا في عموم معنى الآية(١) .

واتضح ممّا قلناه أنّ المراد من جملة( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) هو الهداية إلى الهدف ، واكتشاف مناطق الأرض المختلفة ، بالرغم من أنّ البعض اعتبرها إشارة إلى

__________________

(١) كلمة «السبل» ـ جمع سبيل» ـ تطلق على الطرق البرّية والبحريّة ، كما نقرأ في الفقرة (٤٢) من دعاء الجوشن «يا من في البرّ والبحر سبيله».

١٨

الهداية لأمر التوحيد ومعرفة الله. ولا مانع من جمع هذين المعنيين.

وذكرت الموهبة الثالثة ـ وهي موهبة نزول المطر ، وإحياء الأراضي الميّتة ـ في الآية التالية :( وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) من قبوركم يوم البعث.

إنّ التعبير بكلمة «قدر» إشارة لطيفة إلى النظام الخاص الذي يحكم نزول الأمطار ، حيث أنّها تنزّل بمقدار كاف يكون مفيدا ومثمرا ، ولا يؤدّي إلى الخسارة والإتلاف.

صحيح أنّه قد يؤدّي بعض الأحيان إلى حدوث فيضانات ، وجريان سيول ، وتدمير الأراضي ، إلّا أنّ هذه الحالات استثنائيّة ، ولها صبغة التحذير ، فالأعمّ الأغلب من الأمطار مفيدة ومربحة ، فنموّ كلّ الأشجار والنباتات والأزهار والمزارع المثمرة ، من بركة نزول المطر الموزون هذا ، ولو لم يكن لنزول المطر نظام ، لما حصلت كلّ هذه البركات.

الآية الثانية تستخدم جملة «أنشرنا» ـ من مادّة النشور ـ لتجسيد انبعاث عالم النباتات ، فإنّ الأراضي اليابسة التي تضمّ بدور النباتات كما تضمّ القبور أجساد الموتى ، تتحرك وتحيا بنفخة صور نزول المطر ، وتهتزّ فتخرج أموات النبات رؤوسها من التراب ، ويقوم محشرها وتقع قيامتها التي تمثل صورة لقيامة البشر ، والتي أشير إليها في نهاية هذه الآية وفي آيات عديدة أخرى من القرآن المجيد.

وبعد ذكر نزول المطر وحياة النباتات ، يشير في المرحلة الرّابعة إلى خلق أنواع الحيوانات ، فيقول سبحانه :( وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ) .

إنّ التعبير بـ «الأزواج» كناية عن أنواع الحيوانات بقرينة ذكر النباتات في الآية السابقة ، بالرغم من أنّ البعض اعتبرها إشارة إلى كلّ أنواع الموجودات ، سواء الحيوان والنبات والجماد ، لأنّ قانون الزوجيّة يحكمها جميعا ، فلكلّ جنس ما يخالفه : السماء والأرض ، الليل والنهار ، النور والظلام ، المرّ والحلو ، اليابس

١٩

والرطب ، الشمس والقمر ، الجنّة والنّار ، إلّا ذات الله المقدّسة فإنّها أحديّة ، ولا سبيل للزوجيّة إليها أبدا.

لكن كما قلنا ، فإنّ القرائن الموجودة توحي بأنّ المراد هو «أزواج الحيوانات» ، ونعلم أنّ قانون الزوجيّة سنّة حياتيّة في كلّ الكائنات الحيّة ، والعيّنات النادرة الاستثنائية لا تقدح بعموميّة هذا القانون.

واعتبر البعض «الأزواج» بمعنى أصناف الحيوانات ، كالطيور والدواب والمائيّات والحشرات وغيرها.

وفي المرحلة الخامسة تبيّن الآيات آخر نعمة من هذه السلسلة ، وهي المراكب التي سخّرها الله سبحانه للبشر لطيّ الطرق البريّة والبحريّة ، فيقول سبحانه :( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) .

إنّ هذه النعمة هي إحدى مواهب الله سبحانه للبشر ، وكراماته التي منّ بها عليهم ، وهي لا تلاحظ في الأنواع الأخرى من الموجودات ، وذلك أنّ الله سبحانه قد حمل الإنسان على المراكب التي تعينه في رحلاته البحريّة والصحراويّة ، كما جاء ذلك في الآية (٧٠) من سورة الإسراء :( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً ) .

والحقّ أنّ وجود هذه المراكب يضاعف أنشطة الإنسان ويوسّع حياته عدّة أضعاف ، وحتّى الوسائل السريعة السير التي نراها اليوم ، والتي صنعت بالاستفادة من مختلف خواصّ الموجودات ، ووضعت تحت تصرّف الإنسان ، فإنّها من ألطاف الله الظاهرة ، تلك الوسائل التي غيّرت وجه حياته ، ومنحت كلّ شيء السرعة ، وأهدت له كلّ أنواع الراحة.

وتذكر الآية التالية الهدف النهائي لخلق هذه المراكب فتقول :( لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) .

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592