الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 183878 / تحميل: 6190
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

سُورَة

الزّخرف

مكيّة

وَعَدَدُ آياتِها تسعُ وثمانونَ آية

٥
٦

سورة الزّخرف

محتوى سورة الزّخرف :

سورة الزخرف من السورة المكيّة ، إلّا الآية (٤٥) منها ، فإنّ جمعا من المفسّرين اعتبرها مدنيّة ، وربّما كان السبب هو أنّ ما تبحثه الآية يتعلق على الأغلب بأهل الكتاب ، أو بقصّة المعراج ، وكلا البحثين يتناسب مع المدينة أكثر. وسنوضّح المطلب في تفسير هذه الآية إن شاء الله تعالى.

وعلى أيّة حال ، فإنّ طبيعة السور المكّيّة ـ والتي تدور غالبا حول محور العقائد الإسلاميّة من المبدأ والمعاد والنبوّة والقرآن والإنذار والتبشير ـ منعكسة ومتجلّية فيها.

ويمكن تلخيص مباحث هذه السورة بصورة موجزة ، في سبعة فصول :

الفصل الأوّل : وهو بداية السورة ، ويتحدّث عن أهمّية القرآن المجيد ، ونبوّة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومواجهة المشركين لهذا الكتاب السماوي.

الفصل الثّاني : يذكر قسما من أدلّة التوحيد في الآفاق ، ونعم الله المختلفة على البشر.

الفصل الثّالث : ويكمّل هذه الحقيقة عن طريق محاربة الشرك ، ونفي ما ينسب إلى اللهعزوجل من الأقاويل الباطلة ، ومحاربة التقاليد العمياء ، والخرافات والأساطير ، كالتشاؤم من البنات ، أو الإعتقاد بأنّ الملائكة بنات اللهعزوجل .

الفصل الرّابع : ينقل جانبا من قصص الأنبياء الماضين وأممهم ، وتاريخهم لتجسيد هذه الحقائق. ويؤكّد على حياة إبراهيم وموسى وعيسىعليهم‌السلام بصورة

٧

خاصّة.

الفصل الخامس : يتعرض إلى مسألة المعاد ، وجزاء المؤمنين ، ومصير الكفّار المشؤوم ، ويحذّر المجرمين ويهدّدهم بتهديدات وتحذيرات وإنذارات قويّة.

الفصل السّادس : وهو من أهمّ فصول هذه السورة ، ويتناول القيم الباطلة التي كانت ولا تزال حاكمة على أفكار الأشخاص المادّيين ، ووقوعهم في مختلف الاشتباهات حينما يقيّمون مسائل الحياة ويزنونها بالميزان الدنيويّ حتّى أنّهم كانوا يتوقّعون أن ينزل القرآن الكريم على رجل غني عظيم الثراء ، لأنّهم كانوا يعتبرون قيمة الإنسان في ثرائه! لهذا نرى القرآن في آيات عديدة من هذه السورة يهاجم هذا النمط من التفكير الساذج والجاهل ويحاربه ، ويوضح المثل الإسلاميّة والإنسانيّة السامية.

الفصل السّابع : وهو فصل المواعظ والنصائح العميقة المؤثّرة حيث يكمل الفصول الأخرى ، ليجعل من مجموع آيات السورة دواء شافيا تماما يترك أقوى الأثر في نفس السامع.

وقد أخذ اسم هذه السورة (الزخرف) من الآية (٣٥) منها ، والتي تتحدث في القيم المادّية.

فضل تلاوة السّورة

لقد ذكر فضل عظيم لتلاوة هذه السورة في الرّوايات الإسلاميّة في مختلف كتب التّفسير والحديث ، ومن جملتها ما ورد في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الزخرف ، كان ممن يقال له يوم القيامة : يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ، ادخلوا الجنّة»(١) .

لا شكّ أنّ الخطاب بـ( يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) هو عين

__________________

(١) مجمع البيان ، بداية ، سورة الخزوف.

٨

ما ورد في الآية (٦٨) ، وجملة( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) أخذت من الآية (٧٠) ، وجملة( بِغَيْرِ حِسابٍ ) من لوازم الكلام ، وقد وردت في عدّة من آيات القرآن الأخرى.

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذه البشارة العظمى ، والفضيلة التي لا تقدّر ، لا تحصل بمجرّد التلاوة الخالية من التدبر والإيمان والعمل الصالح ، لأنّ التلاوة مقدّمة للفكر ، والإيمان والعمل الصالح ثمرة له.

* * *

٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) )

التّفسير

ذنوبكم لا تمنع رحمتنا!

مرّة أخرى نواجه الحروف المقطّعة في بداية هذه السورة ، وهي حروف (حم) ، وهذه رابع سورة تبدأ بـ( حم ) وتتلوها ثلاث سور أخرى أيضا ، فتشكّل هذه السور السبعة بمجموعها (أسرة حم) وهي بالترتيب : المؤمن ، فصلت ، الشورى ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، والأحقاف.

وقد بحثنا الحروف المقطّعة بصورة مفصّلة فيما سبق (راجع بداية سورة البقرة ،

١٠

بداية آل عمران ، أوّل الأعراف ، بداية سورة «فصلت» في خصوص حم).

ويقسم تعالى بالقرآن الكريم في الآية الثّانية ، فيقول :( وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ) . قسما بهذا الكتاب الواضحة حقائقه ، والبيّنة معانيه ومفاهيمه ، والظاهرة دلائل صدقه ، والمبيّنة طرق هدايته ورشاده.

ثمّ يضيف :( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (١) .

إنّ كون القرآن عربيّا ، إمّا بمعنى أنّه «نزل بلغة العرب التي هي أوسع لغات العالم في بيان الحقائق ، وقادرة على تبيان دقائق المطالب بكل جمال ودقّة في التعبير.

أو بمعنى فصاحته ـ لأنّ أحد معاني كلمة (عربي) هو «الفصيح» وهي إشارة إلى أنا قد جعلناه في منتهى الفصاحة وغايتها ، لتظهر الحقائق جيّدا من خلال كلماته وجمله ، ويدركها الجميع جيدا.

والطّريف أنّ القسم وجوابه ـ هنا ـ شيء واحد ، فهو تعالى يقسم بالقرآن أنّه جعل القرآن عربيّا ليستفيد الجميع منه ويعقلوا آياته ، وربّما كان هذا إشارة إلى أنّه لم يكن هناك شيء أجلّ من القرآن ليقسم به ، فإنّ ما هو أسمى من القرآن نفس القرآن ، لأنّ كلام الله سبحانه ، وكلام الله مبيّن لذاته المقدّسة.

ولا يدلّ التعبير بـ (لعل) على أنّ الله سبحانه يشكّ في تأثير القرآن ، أو أنّ الكلام هنا عن الرجاء والأمل الذي يصعب الوصول إليه وتحقّقه ، بل إنّه يشير إلى تفاوت الأرضيّات الفكرية والأخلاقيّة لسامعى آيات القرآن الكريم ، ويشير أيضا إلى أنّ تأثير القرآن يستلزم توفر شروطا معيّنة أشير إليها إجمالا بكلمة (لعل). وقد أوردنا تفصيلا أكثر لهذا المعنى في ذيل الآية (٢٠٠) من آل عمران.

ثمّ يتطرق القرآن إلى بيان ثلاث صفات أخرى لهذا الكتاب السماوي ، فيقول :( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ويشير في الصفة الأولى إلى أنّ القرآن الكريم قد حفظ وأثبت في أمّ الكتاب لدى الله سبحانه ، كما نقرأ ذلك أيضا في

__________________

(١) الواو في (والكتاب المبين) للقسم ، وجواب هذا القسم جملة( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) .

١١

الآية (٢٢) من سورة البروج :( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) .

والآن ، لنر ما هو المراد من «أم الكتاب» ، أو «اللوح المحفوظ»؟

«الأم» في اللغة تعني أصل كل شيء وأساسه ، وإنّما يقول العرب للأم أمّا لأنّها أساس العائلة ومأوى الأولاد ، وعلى هذا فإنّ (أم الكتاب) يعني الكتاب الذي يكون أساسا لكل الكتب السماويّة ، وهو ذلك اللوح المحفوظ لدى الله سبحانه ، والمصون من كل تغيير وتبديل وتحريف إنّه كتاب علم الله المحفوظ لديه ، والذي أدرجت فيه كل حقائق العالم ، وكل حوادث الماضي والمستقبل ، وكل الكتب السماويّة ، ولا يستطيع أي أحد أن يصل إليه ويعلم ما فيه ، إلّا إذا أراد الله سبحانه أن يعلم أحدا بالمقدار الذي يريدهعزوجل .

وهذا وصف عظيم للقرآن الذي ينبع من علم الله اللامتناهي ، وأصله وأساسه لديه سبحانه ، ولهذا يقول في الصفة الثّانية : (لعليّ) وفي الثالثة (حكيم).

إنّ الشيء الذي ينبعث من علم الله اللامتناهي يجب أن يكون بهذه الصفات.

واعتقد البعض أنّ سموّ القرآن وعلوّ مقامه نابع من أنّه فاق كلّ الكتب السماويّة ، ونسخها جميعا ، وهو في أرفع مراتب الإعجاز.

واعتبر البعض الآخر علوّ القرآن لاحتوائه على حقائق لا تدركها أفكار البشر ، وهي بعيدة عن مدى ما تستوعبه عقولهم ـ إضافة إلى الحقائق التي يفهمها الجميع من ظاهر القرآن.

ولا تتضارب هذه المعاني فيما بينها حيث تجتمع كلّها في مفهوم (عليّ).

وهنا مسألة تستحق الانتباه ، وهي أنّ (الحكيم) صفة للشخص عادة ، لا الكتاب ، لكن لمّا كان هذا الكتاب السماوي بنفسه معلما عظيما وناطقا بالحكمة ناشرا لها ، فإنّ هذا التعبير في محله تماما.

وقد وردت كلمة «الحكيم» بمعنى المستحكم الحصين أيضا ، وكلّ هذه المعاني جمعت في اللفظة المذكورة ، وهي صادقة في شأن القرآن الكريم ، لأنّه حكيم بكل

١٢

هذه المعاني.

وفي الآية التّالية يخاطب المنكرين للقرآن والمعرضين عنه ، فيقول :( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ) ؟

صحيح أنّكم لم تألوا جهدا في مخالفتكم للحق وعدائه ، ووصلتم في المخالفة إلى حدّ الإفراط والإسراف ، إلّا أنّ رحمة الله سبحانه واسعة بحدّ لا تشكل هذه الأعمال المناوئة حاجزا في طريقها ، ونظر ننزل باستمرار هذا الكتاب السماوي الذي يوقظكم ، وآياته التي تبعث الحياة فيكم ، حتّى تهتزّ القلوب التي لها أدنى حظ من الاستعداد وتثوب إلى طريق الحقّ ، وهذا هو مقام رحمة الله العامّة ، أي : رحمانيته التي تشمل العدوّ ، والصديق ، والمؤمن والكافر.

جملة( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ ) جاءت هنا بمعنى : أفنصرب عنكم ، لأنّ الراكب إذا أراد أن يحوّل دابّته إلى طريق آخر ، فإنّه يحوّله بضربه بالسوط أو بشيء آخر ، ولذلك فإنّ كلمة الضرب تستعمل في مثل هذه الموارد بدلا من الصرف(١) .

«الصفح» في الأصل بمعنى جانب الشيء وطرفه ، ويأتي أيضا بمعنى العرض والسعة ، وهو في الآية بالمعنى الأوّل ، أي : أنحول عنكم هذا القرآن الذي هو أساس التذكرة إلى جانب وطرف آخر؟

«المسرف» من الإسراف ، وهو تجاوز الحدّ ، إشارة إلى أنّ المشركين وأعداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقفوا عند حدّ في خلافهم وعدائهم مطلقا.

ثمّ يقول في عبارة قصيرة كشاهد على ما قيل ، وتسلية لخاطر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتهديدا للمنكرين المعاندين :( وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

إنّ هذه المخالفات وأنواع السخرية لم تكن لتمنع لطف الله ورحمته أبدا ، فإنّها فيض متواصل من الأزل إلى الأبد ، ووجود يعمّ عطاؤه كلّ العباد ، بل إنّه سبحانه قد

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

١٣

خلقهم للرحمة( وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) (١) ، ولهذا فإنّ إعراضكم وعنادكم سوف لا يمنع لطفه مطلقا ، وينبغي أن لا يفتر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون الحقيقيّون ، فإنّ لهذا الإعراض عن الحق واتباع الشهوات والهوى والميول تاريخا طويلا.

لكن ، ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء بأنّ لطف الله اللامتناهي سيحول دون عقابهم في النهاية ، لأنّ العقاب بنفسه من مقتضى حكمته ، ولذلك يضيف في الآية التالية :( فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) .

فالآية تخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنّنا سبق وأن ذكرنا لك نماذج كثيرة من هذه الأقوام العاصية الطاغية ، وأوحينا إليك تفصيل حالهم بدون زيادة أو نقصان ، وكان من بينهم أقوام أقوى وأشدّ من مشركي العرب كثيرا ، ولهم إمكانيّات وثروات وأفراد وجيوش وإمكانات واسعة كفرعون وآل فرعون ، والتاريخ ، وأوضح من ذلك أن تتدبّروا ما نزل في القرآن في شأنهم لتعلموا أيّها الطغاة المعاندون أنّكم لستم في مأمن من عذاب الله الأليم أبدا.

«البطش» ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ بمعنى أخذ الشيء بالقوّة ، وهنا اقترن بكلمة «أشدّ» وتعطي مفهوم شدّة القوّة والقدرة أكثر.

والضمير في( مِنْهُمْ ) يعود على مشركي العرب الذين خوطبوا في الآيات السابقة ، إلّا أنّهم ذكروا هنا بصيغة الغائب ، لأنّهم ليسوا أهلا للاستمرار في مخاطبتهم من قبل الله تعالى.

واعتبر بعض كبار المفسّرين جملة( وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) إشارة إلى المطالب التي جاءت في السورة السابقة ـ سورة الشورى ـ حول جماعة من هؤلاء. إلّا أنّه لا دليل لدينا على هذا التحديد ، خاصّة وأنّه قلّما أشير إلى حوادث الأمم الماضية في سورة الشورى ، في حين وردت بحوث مفصّلة حولهم في سور أخرى من القرآن.

__________________

(١) هود ، الآية ١١٩.

١٤

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذه الآية تشبه ما مرّ في الآية (٧٨) من سورة القصص ، حيث تقول :( أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ) ؟!

أو ما مرّ في الآية (٢١) من سورة المؤمن حيث حذّرت مشركي العرب إذ تقول :( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ) ؟!

* * *

١٥

الآيات

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) )

التّفسير

بعض أدلّة التوحيد :

من هنا يبدأ البحث حول التوحيد والشرك ، فتستعين الآيات بفطرة هؤلاء وطينتهم لإثبات التوحيد ، وبعد أن تبيّن الأدلّة الموجودة في عالم الوجود ، وتذكر

١٦

خمسة نماذج من مواهب الله العظيمة وتثير فيهم حسّ الشكر ، تتطرّق إلى إبطال اعتقادهم الخرافي فيما يتعلق بالأصنام ومختلف أنواع الشرك.

يقول سبحانه في القسم الأوّل :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) .

إنّ هذا التعبير الذي ورد بتفاوت يسير في أربع آيات من القرآن الكريم ـ العنكبوت ، لقمان ، الزمر والزخرف في الآية التي نبحثها(١) ـ دليل على كون معرفة الله سبحانه أمر فطري مغروس في طينة البشر وطبيعتهم من جانب. ومن جانب آخر يدلّ على أنّ المشركين كانوا مقرّين بأن خالق السماوات والأرض هو الله سبحانه ، ولم يكونوا يعترفون بأنّ معبوداتهم خالقة إلّا في موارد نادرة.

ومن جانب ثالث فإنّ هذا الاعتراف أساس ودعامة لإبطال عبوديّة الأصنام ، لأنّ الذي يكون أهلا للعبادة هو خالق الكون ومدبّره ، لا الموجودات التي لا حظّ لها في هذا المجال ، وبناء على هذا ، فإنّ اعترافهم بكون الله سبحانه خالقا كان دليلا قاطعا على بطلان مذهبهم ودينهم الفاسد.

والتعبير بالعزيز الحكيم والذي يبيّن قدرة الله المطلقة ، وعلمه وحكمته ، وإن كان تعبيرا قرآنيّا ، إلّا أنّه لم يكن أمرا ينكره المشركون ، لأنّ لازم الاعتراف بكون الله سبحانه خالقا للسماء والأرض وجود هاتين الصفتين فيه. وهؤلاء المشركين كانوا يعتقدون بعلم أصنامهم وقدرتها ، فكيف بالله الذي يعتقدون أنّ أصنامهم وسيلة إليه ، وتقربّهم إليه زلفى؟!

ثمّ يشير سبحانه إلى خمس نعم من نعم الله العظيمة ، والتي تعتبر كلّ منها نموذجا من نظام الخلقة ، وآية من آيات الله سبحانه ، فيقول أولا :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ

__________________

(١) جاء في موضعين آخرين من القرآن اعتراف هؤلاء بكون الله خالقا ، غايته أن أحدهما في شأن نزول المطر من السماء (العنكبوت ـ ٦٣) والآخر في كون الله سبحانه خالقهم (الزخرف ـ ٨٧).

١٧

الْأَرْضَ مَهْداً ) .

إنّ لفظتي «المهد» و «المهاد» تعني المحلّ الذي أعدّ للجلوس والنوم والاستراحة ، ويقال في الأصل للمكان الذي يضعون فيه الطفل لينام «مهد».

أجل إنّ الله سبحانه جعل الأرض مهدا للإنسان ، ومع أنّ لها عدّة حركات بفعل قانون الجاذبيّة ، ورغم الطبقة الغازيّة العظيمة التي أحاطت بها من كلّ جانب ، فإنّها هادئة ومستقرّة بحيث لا يشعر ساكونها بأيّ إزعاج ونعلم أنّ الهدوء النفسي هو الدعامة الأساسيّة للاستفادة من النعم الأخرى والتنعّم بها ، ولا شكّ أنّ هذه العوامل المختلفة ما لم تنسجم مع بعضها ، ويكمل بعضها بعضا ، فليس بالإمكان تحقّق هذا الهدوء والاطمئنان مطلقا.

ثمّ يضيف سبحانه لتبيان النعمة الثانية :( وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) .

لقد أشير إلى هذه النعمة عدّة مرات في القرآن المجيد (سورة طه ـ ٥٣ ، الأنبياء ـ ٣١ ، النحل ـ ١٥ وغيرهنّ) ، وهي من النعم التي غفل عنها الكثيرون ، لأنّا نعلم أنّ التضاريس تعمّ كلّ اليابسة تقريبا ، وفيها الجبال العظيمة والصغيرة والتلال والهضاب ، والبديع أن توجد بين أعظم سلال جبال العالم فواصل يستطيع الإنسان أن يشقّ طريقه من خلالها ، وقلما اتفق أن تكون هذه الجبال سببا لانفصال أقسام الكرة الأرضية عن بعضها تماما ، وهذا واحد من أسرار نظام الخلقة ، ومن مواهب الله سبحانه وعطاياه للعباد.

وإضافة إلى ما مرّ ، فإنّ كثيرا من أجزاء الكرة الأرضية ترتبط مع بعضها بواسطة طرق المواصلات البحريّة ، وهذا يدخل أيضا في عموم معنى الآية(١) .

واتضح ممّا قلناه أنّ المراد من جملة( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) هو الهداية إلى الهدف ، واكتشاف مناطق الأرض المختلفة ، بالرغم من أنّ البعض اعتبرها إشارة إلى

__________________

(١) كلمة «السبل» ـ جمع سبيل» ـ تطلق على الطرق البرّية والبحريّة ، كما نقرأ في الفقرة (٤٢) من دعاء الجوشن «يا من في البرّ والبحر سبيله».

١٨

الهداية لأمر التوحيد ومعرفة الله. ولا مانع من جمع هذين المعنيين.

وذكرت الموهبة الثالثة ـ وهي موهبة نزول المطر ، وإحياء الأراضي الميّتة ـ في الآية التالية :( وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) من قبوركم يوم البعث.

إنّ التعبير بكلمة «قدر» إشارة لطيفة إلى النظام الخاص الذي يحكم نزول الأمطار ، حيث أنّها تنزّل بمقدار كاف يكون مفيدا ومثمرا ، ولا يؤدّي إلى الخسارة والإتلاف.

صحيح أنّه قد يؤدّي بعض الأحيان إلى حدوث فيضانات ، وجريان سيول ، وتدمير الأراضي ، إلّا أنّ هذه الحالات استثنائيّة ، ولها صبغة التحذير ، فالأعمّ الأغلب من الأمطار مفيدة ومربحة ، فنموّ كلّ الأشجار والنباتات والأزهار والمزارع المثمرة ، من بركة نزول المطر الموزون هذا ، ولو لم يكن لنزول المطر نظام ، لما حصلت كلّ هذه البركات.

الآية الثانية تستخدم جملة «أنشرنا» ـ من مادّة النشور ـ لتجسيد انبعاث عالم النباتات ، فإنّ الأراضي اليابسة التي تضمّ بدور النباتات كما تضمّ القبور أجساد الموتى ، تتحرك وتحيا بنفخة صور نزول المطر ، وتهتزّ فتخرج أموات النبات رؤوسها من التراب ، ويقوم محشرها وتقع قيامتها التي تمثل صورة لقيامة البشر ، والتي أشير إليها في نهاية هذه الآية وفي آيات عديدة أخرى من القرآن المجيد.

وبعد ذكر نزول المطر وحياة النباتات ، يشير في المرحلة الرّابعة إلى خلق أنواع الحيوانات ، فيقول سبحانه :( وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ) .

إنّ التعبير بـ «الأزواج» كناية عن أنواع الحيوانات بقرينة ذكر النباتات في الآية السابقة ، بالرغم من أنّ البعض اعتبرها إشارة إلى كلّ أنواع الموجودات ، سواء الحيوان والنبات والجماد ، لأنّ قانون الزوجيّة يحكمها جميعا ، فلكلّ جنس ما يخالفه : السماء والأرض ، الليل والنهار ، النور والظلام ، المرّ والحلو ، اليابس

١٩

والرطب ، الشمس والقمر ، الجنّة والنّار ، إلّا ذات الله المقدّسة فإنّها أحديّة ، ولا سبيل للزوجيّة إليها أبدا.

لكن كما قلنا ، فإنّ القرائن الموجودة توحي بأنّ المراد هو «أزواج الحيوانات» ، ونعلم أنّ قانون الزوجيّة سنّة حياتيّة في كلّ الكائنات الحيّة ، والعيّنات النادرة الاستثنائية لا تقدح بعموميّة هذا القانون.

واعتبر البعض «الأزواج» بمعنى أصناف الحيوانات ، كالطيور والدواب والمائيّات والحشرات وغيرها.

وفي المرحلة الخامسة تبيّن الآيات آخر نعمة من هذه السلسلة ، وهي المراكب التي سخّرها الله سبحانه للبشر لطيّ الطرق البريّة والبحريّة ، فيقول سبحانه :( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) .

إنّ هذه النعمة هي إحدى مواهب الله سبحانه للبشر ، وكراماته التي منّ بها عليهم ، وهي لا تلاحظ في الأنواع الأخرى من الموجودات ، وذلك أنّ الله سبحانه قد حمل الإنسان على المراكب التي تعينه في رحلاته البحريّة والصحراويّة ، كما جاء ذلك في الآية (٧٠) من سورة الإسراء :( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً ) .

والحقّ أنّ وجود هذه المراكب يضاعف أنشطة الإنسان ويوسّع حياته عدّة أضعاف ، وحتّى الوسائل السريعة السير التي نراها اليوم ، والتي صنعت بالاستفادة من مختلف خواصّ الموجودات ، ووضعت تحت تصرّف الإنسان ، فإنّها من ألطاف الله الظاهرة ، تلك الوسائل التي غيّرت وجه حياته ، ومنحت كلّ شيء السرعة ، وأهدت له كلّ أنواع الراحة.

وتذكر الآية التالية الهدف النهائي لخلق هذه المراكب فتقول :( لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) .

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

غمار الموت بكل رحابة صدر. فكلما ازدحمت عليه المصائب، وتراكمت عليه الآلام، وتزاحمت الجراحات على جسده الشريف كلّما كان وجهه الكريم يتلألأ إشراقاً وبهجة؛ لأنّه - وهو العبد المطيع - كان يقترب من ربه، رب العزة والقدرة.

وهكذا، فإنّ تلك الإرادة هي سرّ خلق الإنسان، فلولا إرادة الصدّيقين، ولولا المشيئة التي امتحن الله (عزّ وجلّ) بها النبيين والصالحين من عباده، لما كان لهذا الخلق من حكمة.

فالله تبارك وتعالى لم يخلق الإنسان لكي يفسد في الأرض ويسفك الدماء كما ظنّت الملائكة؛ فقد كان تعالى يعلم ما لا يعلمون، ويعلم بعلمه الأزلّي أنّ بين أبناء آدم، ومن بين هذا التراب واللحم والأعصاب سوف يسمو اُناس ليرتقوا إلى أعلى علّيين، وليصلوا إلى تلك الدرجة التي قال عنها جبرائيلعليه‌السلام : ولو دنوت أنملة لاحترقت(١) .

الإرادة حكمة الخلق

ولذلك فإنّ هذه الإرادة، الإرادة الإنسانيّة التي تتحدّى الشهوات، وثقل المادة، والحنين إلى التراب، وضغوط الإرهاب، والإعلام المضلّل، هذه الإرادة هي فلسفة وحكمة خلق الإنسان على هذا الكوكب، بل إنّني استطيع أن اُقرّر وبكلِّ ثقة واطمئنان بأنّ هذه الإرادة هي حكمة خلق الكون بأسره.

إنّ الله جلّ وعلا الذي يقول للشيء كن فيكون، ويخلق بين الكاف والنون مجرّات ومنظومات شمسيّة هائلة، لا يقدّر ولا يقيّم الوجود بسبب

____________________

بحار الأنوار ١٨ / ٣٨٢.

١٠١

 ضخامته تلك، بل إنّه تعالى إنّما يقيم ويكرّم شيئاً واحداً هو إرادة الإنسان، حبّ الله، والإيثار، والشهادة، وتسامي الإنسان من أرض الشهوات إلى اُفق الحبّ الإلهي.

كربلاء خلاصة بطولات التاريخ

ومن المعلوم أنّ هناك في تاريخ الأنبياءعليهم‌السلام العديد العديد من التضحيات، والأعمال والإنجازات المتميّزة التي لا يكاد العقل البشري يبلغها، ولكن كل تلك المكارم والتضحيات والإيثار والفداء تجمّعت مرة واحدة في كربلاء خلال فترة زمنية قصيرة.

ولندرس في هذا المجال القرآن الكريم الذي سجّل تاريخ الأنبياء في أصدق وأوضح مظاهره المشرقة؛ فماذا فعل النبي آدم، وماذا فعل النبي نوح، وماذا فعل النبي إبراهيمعليهم‌السلام ؟ وماذا كانت سيرة النبي موسى والنبي عيسىعليهما‌السلام ؟

لقد فعلوا أشياء كثيرة، ولكنها تجسّدت جميعاً في كربلاء؛ ولذلك فإننا نقف أمام ضريح الإمام الحسينعليه‌السلام لنقول:« السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله » (١) .

وبالطبع فإنّي لا أعلم متى كلّم الله تعالى الحسين الشهيدعليه‌السلام ، ولكنني قرأت في التأريخ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال عن شهيد من شهداء الإسلام إنّ الله سبحانه كلّمه مجابهة، ولا ريب أن سيّد الشهداء

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام / ٤٢٨.

١٠٢

وحجة الله أحرى بأن يكلّم مشافهة بعد شهادته؛ ولذلك فقد أضحىعليه‌السلام وريث موسى كليم الله.

ثمّ إنّ السبط الشهيد هو وارث عيسى روح الله، ومن المعلوم أنّ عيسى بن مريمعليه‌السلام لم يكن يمتلك من حطام الدنيا شيئاً، وهذه كانت خصيصة متميّزة في حياته؛ فهو لم يكن يمتلك بيتاً، ولا أثاثاً، ولا زوجةً، ولا أولاداً، ولا أموالا، إلى درجة أنّه لم يكن يمتلك حتّى وطناً؛ ولذلك سمّي بـ (المسيح)؛ لإنه كان يسيح في الأرض، وكان يلتحف السماء، ويفترش التراب، ويأكل مما تنبته الأرض.

أمّا الإمام الحسينعليه‌السلام فقد كان يمتلك كل شيء دون أن يملكه شيء، وهذا هو أعظم الزهد؛ فقد كانعليه‌السلام يمتلك الأموال الطائلة التي جاء بها إلى كربلاء، كما كان يمتلك أفضل الأصحاب، وأحسن الاُخوان، وأفضل الأولاد وأبرّهم، ولكنه أعطى في لحظة واحدة كلَّ ما كان يمتلكه، وقدّمه قرباناً لربّه؛ ولذلك صحّ أن نقف أمام ضريحه المقدّس ونقول:« السلام عليك يا وارث عيسى روح الله » .

الشهادة كرامة عظيمة

والسؤال المهمّ الذي نريد أن نطرحه في هذا المجال هو: كيف بلغ السبط الشهيدعليه‌السلام تلك الدرجة العليا، وما هي التربية التي تلقّاها بحيث أصبح مهيّأًً لهذه الكرامة الإلهية العظيمة؟

للجواب على ذلك نقول: إنّ الشهادة كرامة عظيمة من الله تعالى للإنسان، لا يؤتاها إلاّ مَن هيَّأ في نفسه أسبابها وعواملها. ومن المعلوم أنّ كلمات الإنسان رسول عقله، والتعبير عن شخصيته، ونحن عندما نقرأ

١٠٣

أدعية أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام وخصوصاً قمة أدعيته وذروتها جميعاً المتمثلة في دعاء يوم عرفة، فإننا سنكتشف شخصيته، وندرك أن هذه الشخصية تتلخص في كلمة واحدة، وهي أنّهعليه‌السلام حبيب الله؛ فهوعليه‌السلام يخاطب ربه قائلاً:« ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك » (١) .

لقد كانعليه‌السلام يقف الساعات الطوال في صحراء عرفة، ودموعه تجري على خديه دون أن يشعر بالتعب؛ لأنّه كان يقف بين يدي حبيبه، وقد كان هذا هو ديدنه حتّى في اللحظات الأخيرة من حياته الشريفة؛ حيث ازدحم عليه ما يقرب من ثلاثين الفاً كلّهم يريدون سفك دمه، ومع ذلك فإنّه لم يطلب من بارئه أن ينقذه وينجيه، بل كانت كلماته كلمات إنسان عارف بالله تعالى، فكان يقول:« اللَّهمَّ أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيٌّ عن الخلايق، عريض الكبرياء … » (٢) .

ذعر الحكم الاُموي من الإمام الحسين عليه‌السلام

وبعد استشهاد الإمام الحسنعليه‌السلام ، وتفاقم الانحرافات التي بدت من معاوية، كان الأخير يحاول أن يستميل أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام ويشتري رضاه أو سكوته على الأقل، ولكن الحسينعليه‌السلام كان كزبر الحديد أمامه لا يلين.

وفي هذا المجال يروى أن مروان كان حاكماً من قبل معاوية على المدينة، وأنّه كتب رسالة إلى أميره يقول فيها: أمّا بعد، فقد كثر اختلاف

____________________

(١) مفاتيج الجنان - دعاء الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عرفة / ٢٧٣.

(٢) مفاتيح الجنان - أعمال اليوم الثالث من شعبان / ١٦٤.

١٠٤

الناس إلى حسين، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(١) .

وهنا لننظر بتأمل ودقة في جواب معاوية لمروان: اترك حسيناً ما تركك ولم يظهر لك عداوته ويبد صفحته، وأكمن عنه كمون الثرى إنشاء الله، والسّلام(٢) .

وبعد فترة يقترح مروان على معاوية إبعاد الإمامعليه‌السلام عن يثرب، وفرض الإقامة الجبرية عليه في الشام؛ ليقطعه عن الاتّصال بأهل العراق. ولم يرتضِ معاوية ذلك، فرد عليه: وأردت والله أن تستريح منه وتبتليني به(٣) ! فقد كان معاوية يعلم حق العلم أنّ الحسينعليه‌السلام إذا جاء إلى الشام فإنّ هذا البلد سينقلب عليه.

ثم يبعث معاوية برسالة إلى الإمام الحسينعليه‌السلام مضمّناً تلك الرسالة بعض التهديدات، فيقول: فقد اُنهيت إليّ عنك اُمور إن كانت حقاً فإنّي لم أظنها بك رغبة عنها، وإن كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها … فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك؛ فانك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّقِ الله يا حسين في شق عصا الاُمّة، وأن تردهم في فتنة ...(٤) .

الردّ الحاسم

ولننظر فيما يلي نظرة تأمّل ودقّة في جواب الإمام الحسينعليه‌السلام على تلك الرسالة التهديدية:« أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنه

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٢٣.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه / ٢٢٤.

١٠٥

انتهت إليك عني اُمور … أمّا ما ذكرت أنه رُقي إليك عني، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشاؤون » .

وهنا يوضحعليه‌السلام أنّ جهاز الحكم لا يمكنه أن يكسب ثقة الناس من خلال سياسة الاستخبارات والجاسوسية؛ لأنّ الوشاة والنمّامين يفرّقون قبل أن يوحّدوا. ثمّ ينفيعليه‌السلام أن يكون قد أعدّ العدة لشن حرب عسكرية ظاهرية ضد معاوية؛ لأنّ سياسته وإستراتيجيته كانتا تقومان على أساس تشكيل معارضة قوية ضد الحكم الاُموي، تتفجّر بعد معاوية وتستمر إلى ما شاء الله.

ثم يقولعليه‌السلام مهّدداً هو الآخر معاوية:« … وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك » ، أي إن كانت هناك خشية فهي خشيتي من الله تعالى في أن أتركك أنت يا معاوية تتحكم في رقاب المؤمنين،« … ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة » (١) .

جرائم الحزب الاُموي

إنّ هذه الرسالة يكتبها رجل ينبغي أن يكون - حسب زعمهم - مطيعاً لمعاوية بن أبي سفيان الذي سيطر على البلاد الإسلاميّة جميعاً، ولكن لننظر إلى لهجة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام الذي يتحدى الطاغوت الاُموي الجائر، ويستعرض المظالم والجرائم التي ارتكبها بحق المؤمنين الصالحين، وإعلائه في مقابل ذلك لشأن السفلة، وشذّاذ الآفاق، وتسليطهم على رؤوس المسلمين:« ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين، الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ويأمرون بالمعروف،

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٢٥.

١٠٦

 وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة؛ جرأة على الله، واستخفافاً بعهده؟!

أوَلست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة؛ فنحل جسمه واصفرّ لونه، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟!

أوَلست بمدّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمت أنه ابن أبيك، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الولد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعمداً، وتبعت هواك بغير هدى من الله، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام؛ يقتلهم، ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويسمل أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك؟!

أوَلست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زياد أنه على دين عليعليه‌السلام ، فكتبت إليه أن اقتل كلّ مَن كان على دين علي؛ فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين علي هو دين ابن عمهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين؛ رحلة الشتاء والصيف؟!

وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ودينك، ولاُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتقِ شقَّ عصا هذه الاُمّة، وأن تردهم إلى فتنة أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها » (١) .

الفتنة الكبرى

فمن الفتن الكبرى أن يدير اُمور المسلمين رجل مثل معاوية ويزيد، والطغاة الذين يتحكّمون برقاب المسلمين اليوم.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٢٥ - ٢٢٦.

١٠٧

ثمَّ يقولعليه‌السلام :« … ولا أعظم لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من أن اُجاهرك؛ فإن فعلت فإنّه قربة إلى الله، وإن تركته فإني استغفر الله لديني، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري » (١) . فليس الاحتياط في ترك السلاطين؛ فمن حارب السلطان ضَمِنَ الجنّة، ومن ترك محاربته فلقد يمتلك عذراً عند الله تعالى، وقد لا يمتلكلا.

يقولعليه‌السلام مستمراً في لهجته التهديدية:« … وقلت فيما قلت: إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني؛ فكدني ما بدا لك … » (٢) .

 فلنتأمل هذا التحدي الذي صدر من رجل هو في الظاهر من عامة الناس، يخاطب طاغوت زمانه:« فكدني ما بدا لك؛ فإني أرجو أن لا يضرني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك؛ لأنّك قد ركبت جهلك، وتحرّصت على نقض عهدك. ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان، والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقُتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا …

فابشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ احصاها. وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك إياهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث، يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد خسرت

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٢٦.

(٢) المصدر نفسه.

١٠٨

نفسك، وتبرت دينك، وغششت رعيتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقي، والسلام » (١) .

الإعداد للثورة

ولعل هذه المرحلة كانت في اُخريات أيام معاوية؛ حيث جمع الحسينعليه‌السلام في مكة المكرمة وفي أيام الحج كلَّ مَن كان يمتّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بصلة من بقية الأصحاب، ولعل سبعين رجلاً منهم كان قد حضر، بالإضافة إلى التابعين الذين قدم منهم ما يقرب من أربعمئة رجل، بالإضافة إلى المؤمنين الصالحين الذين دعاهم الحسينعليه‌السلام للاجتماع في مكة؛ حيث أقام معهم مؤتمراً سياسياً بيّن لهم فيه الوضع الخطير الذي يسود الاُمّة، ثم أمرهم أن يبلغوا المسلمين، ويعدّوهم للثورة.

وقد هيّأ الإمام الحسينعليه‌السلام كلَّ تلك المقدمات في عصر معاوية، وكان من ضمن ما قالهعليه‌السلام في الأصحاب والتابعين:« أما بعد، فإنّ هذا الطاغية - يعني معاوية -قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم، وعلمتم وشهدتم، وإني اُريد أن أسألكم عن شيء؛ فإن صدقت فصدّقوني، وإن كذبت فكذّبوني.

 اسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثمَّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم؛ فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا؛ فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويغلب، والله متم نوره ولو كره الكافرون » (٢) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٢٦ - ٢٢٧.

(٢) المصدر نفسه / ٢٢٨ - ٢٢٩.

١٠٩

ثمَّ بيّنعليه‌السلام في حديث طويل فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ، والطريق الإسلامي القويم، وأعلن عن منشور ثورته. وهكذا فإنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان قد بدأ - في الواقع - ثورته ضد الحزب الاُموي منذ أيام معاوية، ولكنّ حركته كانت حركة سرية، ثم تحوّلت إلى حركة علنية بعد موت معاوية.

ونحن إذا درسنا التاريخ بعمق ودقة نجد أن نهضة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام هي التي أسقطت، لا الحزب الاُموي فحسب بل تلك القيم الجاهليّة التي كان الاُمويّون يحاولون زرعها في الأمّة؛ أي إنّ الحسينعليه‌السلام نجح في محاربة الردّة الجاهليّة الاُموية، والدليل على نجاحه هو تلك الثورات والانتفاضات التي توالت بعد عصرهعليه‌السلام ، وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا.

١١٠

سر عظمة الإمام الحسينعليه‌السلام

ترى لماذا كتب الله (عزّ وجلّ) عن يمين العرش بأنّ الحسينعليه‌السلام (مصباح هدى وسفينة نجاة) (١) ؟ وكيف جعل السبط الشهيد بمثابة سفينة نوح مَن ركبها نجا ومَن تخلف عنها هلك؟ ولماذا هذه الكرامة البالغة لشخص أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام عند الله، وأنه - كما جاء في الحديث -:« إنّ الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض » (٢) ، أي إنّ أهل السماء أعرف بالحسين وكرامته من أهل الأرض، مع أنّنا نجد أنّ كرامته عند أهل الأرض ليست بالقليلة؟

في كلِّ عام يحلّ علينا موسم محرّم، موسم الحزن الثائر، فنجد الدنيا وكأنها قد انقلبت؛ فالشوارع تتجلّل بالسواد، والناس يفرضون على أنفسهم لباس الحزن، والإذاعات ومحطات التلفاز تبثّ برامج خاصة بهذه المناسبة؛ فهذا الموسم هو نسمة جديدة تهب على قلوب العالمين ليس في المناطق التي يسكنها أتباع أهل البيتعليهم‌السلام فحسب، وإنما في سائر مناطق العالم.

فلماذا أعطى الله سبحانه هذه الكرامة لأبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؟

____________________

(١) بحار الأنوار ٩١ / ١٨٤، ح١.

(٢) المصدر نفسه.

١١١

نظرات في عظمة الإمام الحسين عليه‌السلام

البعض من الناس عندما يقفون إزاء عظمة عاشوراء، وملحمة كربلاء، فإنّهم يعبّرون عن إعجابهم بالحسينعليه‌السلام ، وبتلك الثورة الناهضة التي ما تزال حيّة في أفئدة الجماهير؛ فهم يقدّرونهعليه‌السلام لأنه كان حراً لم تستعبده السلطة، ولأنه دافع عن حريته، ودعا الناس إلى التحرر.

كل ذلك صحيح، ولكنه ليس كل القضية بل هو جزء بسيط منها؛ فالأحرار كثيرون، وكثير من الناس عاشوا وماتوا أحراراً، في حين أنّنا لا نقدّسهم ولا نقدّرهم كما نقدّس ونقدّر أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام .

والبعض الآخر يرى أنّهعليه‌السلام ناضل وجاهد من أجل إقامة حكم الله في الأرض، وثار من أجل إقامة العدل، وإحياء الدين، وبث روح القيم القرآنية في الاُمّة. وهذا صحيح أيضاً، ولكنه هو الآخر لا يمثل كل القضية؛ فكثيرون هم اُولئك الذين ثاروا من أجل إقامة حكم الله تعالى، وقُتلوا في هذا الطريق، والبعض منهم استطاع أن يحقق هدفه؛ فأقام حكم الله في قطعة معينة من الأرض.

والبعض الآخر يرى أنّ سرّ بقاء ملحمة كربلاء في أنّها كانت ملحمة مأساوية لم ولن تقع في التاريخ ملحمة أشد فظاعة وإيلاماً وحزناً منها، حتّى مضى هذا المثل في التاريخ(لا يوم كيومك يا أبا عبد الله) .

فيوم الحسينعليه‌السلام أعظم من كل يوم؛ فقد اقرح الجفون، وأسبل الدموع، ولكن ليس هذا هو سرّ عظمة أبي عبد اللهعليه‌السلام ؛ فالمآسي في التاريخ كثيرة، والذين قُتلوا ودُمّروا وقُتلت عوائلهم كثيرون؛ من مثل الحسين شهيد فخ، وزيد بن علي اللَّذين تعرّضا للإبادة هما

١١٢

وعوائلهما بشكل فظيع، ومع ذلك فإنّنا لا نجد كلَّ الناس يهتمون بهذه الأحداث، بل لعل أكثرهم لا يعرفون عنها شيئاً.

الخلوص والصفاء

وبناءً على ذلك فإنّ عظمة الحسينعليه‌السلام لا تكمن فقط في أنّ شخصيته كانت شخصيّةً ثائرة حرّة، أو لأنّها تعرضت للإبادة بشكل فظيع. إذاً، فما هو سرّ هذه العظمة؟

للإجابة على هذا السؤال نقول: لا بدّ أن نعلم بأنّ الله سبحانه هو خالق الكون، ومليك السماوات والأرض، وبيده الأمر، وأنّه يرفع مَن يشاء ويضع مَن يشاء، وأنّ مَن تمسّك بحبله رفعه، ومَن ترك حبله وضعه.

ومن المعلوم أنّ الحسينعليه‌السلام تمسك بحبل الله فرفعه، وأخلص العمل له فأخلص الله له ودّ المؤمنين، وجعل له في قلب كلِّ مسلم حرارة. وقديماً عندما خلق الله (تقدّست أسماؤه) آدمعليه‌السلام وأسكنه الجنّة، رأى آدم ما رأى حول العرش من الأنوار، ثمّ علّمه جبرائيل تلك الأسماء والكلمات، ونطق بها، وأقسم على الله (عزّ وجلّ) بتلك الكلمات والأنوار الخمسة فلما ذكر الحسينعليه‌السلام سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي!

قال جبرئيلعليه‌السلام : ولدك هذا يُصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب.

فقال: يا أخي، وما هي؟

قال: يُقتل عطشانَ غريباً، وحيداً فريداً، ليس له ناصرٌ ولا معين … فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى(١) .

وهكذا فإنّ قيمة الإمامعليه‌السلام تكمن في أنّه كان مخلصاً صفياً، فهوعليه‌السلام

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٢٤٥.

١١٣

لو كان يمتلك ألف ابن مثل عليّ الأكبر، وكان عليه أن يضحّي بهم في لحظة واحدة لما تردّد في فعل ذلك؛ لأنه جرّد نفسه عن أهوائه رغم أنهعليه‌السلام كان يحب عليّ الأكبر حباً لا حدّ له، حباً لا يمكن أن يضمره أي أبٍ لابنه؛ لأنّ علياً الأكبر كان أشبه الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خَلقاً وخُلقاً، ومع ذلك فإنّ حب الحسينعليه‌السلام لله تعالى كان أشدّ كما يقول سبحانه:( وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ ) (البقرة/١٦٥).

ونحن إذا رأينا اليوم أنّ الناس يقدّرون أبا عبد اللهعليه‌السلام ، وإذا رأيناهم يحملون إلينا في كل شهر محرم موسماً جديداً وميموناً من ذكراهعليه‌السلام ، فلأن ثورته كانت ثورة ربانية، ولأنه كان أباً للأحرار، وثائراً من أجل الدين، وكان يريد إقامة حكم الله في الأرض، ومع كل ذلك فإنّ هذه المزايا تعّد اُموراً ثانوية.

فالإمام الحسينعليه‌السلام عندما وقف في عرفة وقرأ ذلك الدعاء الخالد الذي هو بحق كنز من كنوز الرحمة، وموسوعة توحيدية كبرى، فإنّه قد جسّد فقرات هذا الدعاء في كربلاء؛ فهو عندما قال وهو متوجّه إلى الله جل جلاله:« إلهي، ماذا فقد من وجدك، وماذا وجد من فقدك » (١) ؟ فإنّه كان يرى أن كل شيء في الوجود، وكل القيم متمثلة في حب الله ومعرفته.

وقد جسّدعليه‌السلام كل ذلك في كربلاء كلما كان يفقد عزيزاً أو ابناً أو أخاً من أعزّ الاُخوان عليه؛ فعلى سبيل المثال فإنّ أبناء واُخوان وأصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام الذين ضرّجوا بدمائهم في كربلاء كان كل واحد منهم يمثّل نجماً في اُفق التوحيد؛ فقد كان بعض أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام أصحاباً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛

____________________

(١) مفاتيح الجنان - دعاء الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عرفة / ٢٧٣.

١١٤

من مثل حبيب بن مظاهر الذي اُوتي علم المنايا والبلايا، ومن مثل مسلم بن عوسجة الذي كان فقيهاً وعالماً من العلماء العظام. ولقد قُتل هؤلاء الواحد تلو الآخر، ومع ذلك فإنّ وجه أبي عبد اللهعليه‌السلام كان يزداد إشراقاً رغم أنّ قلبه كان يتفطّر ألماً عليهم.

وبعد أن أكملعليه‌السلام مهمته قبض قبضة من تراب كربلاء، ووضع جبهته الشريفة عليه وقال:« صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك يا غياث المستغيثين، ما لي رب سواك، ولا معبود غيرك » (١) .

وفي الحقيقة فإنّ ما نعطيه ويعطيه العاملون لتجديد ذكرى أبي عبد اللهعليه‌السلام لو وضع في كفة، ووضعت كلمة الحسينعليه‌السلام هذه في تلك اللحظة، وفي ذلك الموقف في كفة اُخرى لرجحت كلمة الحسين على أعمالنا جميعاً؛ فلقد أعطىعليه‌السلام كلَّ ما يملك في سبيل الله حتّى الطفل الرضيع، وعائلته التي وضعها في بحر من الأعداء الشرسين المتوحشين، ومع كلِّ ذلك فقد قال:« صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك يا غياث المستغيثين، ما لي رب سواك، ولا معبود غيرك » .

وهكذا فإنّ الذي جعل ذكرى الحسينعليه‌السلام خالدة هو أنّ ما كان لله يبقى، والإمام الحسينعليه‌السلام عمل مخلصاً لوجه الله.

ونحن إذا أردنا أن نرضي الخالق تبارك وتعالى، والحسين، وجدّه واُمّه، وأباه وأخاه، والأئمة من ولده (عليهم الصلاة والسّلام جميعاً) فلا بدّ أن نخلص أعمالنا لوجه الله، وأن نفعل كلَّ ما يمكننا من أجل أن نخلّد ونجدّد ذكرى الثورة الحسينيّة حتّى من خلال التظاهر بالعزاء، والبكاء عليه بصوت عالٍ بحيث يسمعنا الآخرون.

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام - للمقرم / ٣٥٧.

١١٥

مأساة تستدر الدموع

وفي هذا المجال روى لي أحد الخطباء قصة طريفة يقول فيها: كنّا نقيم مجالس العزاء على الحسينعليه‌السلام في بلد أجنبي، في صالة نستأجرها كلّ عام، فسألني أحد الأشخاص المسيحيين قائلاً: إنّكم تأتون إلى هذه الصالة وتستأجرونها سنوياً لتبكوا، في حين أنّ الآخرين يستأجرونها لإقامة مجالس الأعراس والأفراح، فلماذا تفعلون ذلك؟!

فقلت له: لأننا في عزاء.

فقال: عزاء مَن؟

فقلت: عزاء سيّدنا وإمامنا وقائدنا.

فقال لي: متى اُصيب، وكيف؟

فقلت: قبل ألف وأربعمئة عام.

فتعجّب من ذلك، وأصابته الدهشة لأننا ما زلنا نبكي على رجل مات قبل مئات السنين. فقلت له: إنّ مقتله لم يكن عادياً؛ فلقد قُتل مظلوماً، وبشكل مأساوي بعد أن دعاه الناس، ووعدوه بالنصرة، فإذا بهم يخذلونه، ويسلمونه للأعداء، ويحيطون به في صحراء قاحلة حيث لا ماء ولا طعام، وحتّى طفله الرضيع لم يسقوه شربة من الماء، بل رموه بدلاً من ذلك بسهم قاتل.

يقول الخطيب: وبعد أن شرحت للرجل المسيحي سبب بكائنا على الإمام الحسينعليه‌السلام إذا به يجهش بالبكاء، وتتقاطر دموعه، ويظهر تعاطفه معنا، ثمّ طلب منّا أن نسمح له بأن يشاركنا في العزاء على أبي عبد اللهعليه‌السلام .

وهكذا فإنّ سر خلود الثورة الحسينيّة يكمن في أنها كانت ثورة ربّانية خالصة لوجه الله الكريم، وأنها كانت من الأحداث التي قدّر الله لها أن تحدث منذ الأزل؛ فقد كانت مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمشيئة الإلهية.

وأمّا بالنسبة للعوامل الاُخرى التي تُذكر في تفسير سر خلود ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام فهي أسباب ثانوية تتفرّع من السبب الرئيس الذي ذكرناه.

١١٦

الفصل الثالث

على هدى الإمام الحسينعليه‌السلام

١١٧

١١٨

كربلاء البداية لا النهاية

( وإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا اُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَآ إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي َقالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وإِلهَ ءَابآئِكَ إبراهيم َوإِسْمَاعِيلَ وإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (البقرة/١٢٧ - ١٣٣).

هل كانت فاجعة الطف الأليمة نهاية أم بداية؟

كثير من الناس يزعمون أنّ هذه الفاجعة كانت نهاية؛ لأنّ أهل البيتعليهم‌السلام ، وفي طليعتهم حجة الله الإمام الحسين بن علي سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قُتلوا بتلك الطريقة المأساوية الأليمة التي لم ولن يأتي

١١٩

الزمان بمثلها؛ ولذلك يبنون كلَّ حياتهم على هذا الأساس. فلأن الإمام الحسينعليه‌السلام قد قُتل واستشهد، وسُبيت عياله وحريمه، إذن لا يمكن لأحد أن يقوم بالسيف ويطالب بالحق؛ لأنّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) لم يستطع أن يقيم دولة الإسلام، فلن تقوم للإسلام دولة أبد الدهر.

وهكذا تتسلسل في خيالاتهم حلقات الهزيمة والانطواء، ويكتفون بأن يُخلّدوا هذه الذكرى بأية طريقة ممكنة، لا لكي يتّخذوا منها منطلقاً، وإنّما لكي يتّخذوا منها مبرّراً وعُذراً وتعلّلاً لكيلا يتحركوا ولا يعملوا شيئاً؛ فالإمام الحسين قُتل ونحن نبكي عليه ونلطم، ونقيم الشعائر المختلفة من أجل إحياء ذكراه وحسب، وكفى الله المؤمنين القتال!

تكامل مسيرة التاريخ

ولكن الحقيقة هي على العكس من ذلك، ففاجعة الطفِّ كانت البداية؛ فمنذ القطرة الأخيرة التي اُريقت من دم أبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه) بدأت شجرة الإسلام بالحياة من جديد، وكان ذلك اليوم بداية الربيع؛ حيث إنّ عشرات الملايين من البشر اهتدوا بأبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه)، وبدأت مسيرة التاريخ تتكامل وتتكامل، وتتحقق كلمة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال:« حسينٌ منّي وأنا من حسين » (١) .

فالبداية كانت في تلك اللحظة التي وقفت فيها الصدّيقة الصغرى زينب الكبرى (سلام الله عليها) في يوم الحادي عشر من شهر محرم سنة إحدى وستين للهجرة، على مصرع أخيها الحسينعليه‌السلام ، وألقت

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٦٥.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592