الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 184271 / تحميل: 6204
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

دينه وإبادة أنصاره، وهو ابن أعدى قريش لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أبو سفيان الذي قاد حروب المشركين ضدّ النَّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم تكن عند معاوية الصلاحية الذاتية للخلافة الإسلامية، ولا الأهلية الموضوعية التي تجعله راجحاً في ميزان العقلاء وعند رجال الإسلام.

ولقد قال له الإمام عليعليه‌السلام في كتاب إليه: «ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعيَّة، وولاة الاُمّة؟ بغير قدم سابق، ولا شرف باسق »(15) .

السابع: بيّن الإمامعليه‌السلام في المقابل انّه الأحقّ بالخلافة المستوعب لجميع صفات الخليفة الشرعي التي لم تكن متوفرة في معاوية، فهو من جهة النسب سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وابن فاطمة بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشبل عليعليه‌السلام ، وهو الذي قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه وفي أخيه الإمام الحسينعليهما‌السلام : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجَنّة » وانّهما إمامان قاما أو قعدا، فهو الممثّل الرسمي لجدّه وأبيه، ثم انّه الذي بايعه المسلمون طائعين غير مُكرَهين الأمر الذي كان المدار عندهم(16) في الصعود إلى عرش الخلافة، وانّ معاوية نفسه يعلم بأحقّيتهعليه‌السلام : «فانّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منكَ عند الله وعند كل أوّاب حفيظ، ومَن له قلب منيب ».

ولقد قال معاوية يوماً لابنه يزيد جواباً على استغراب له في معاملته مع الإمام الحسنعليه‌السلام في أحد المواقف بعد الصلح: يا بني إنّ الحقّ فيهم(17) .

وقد أشار إلى هذا الإمامعليه‌السلام في كلام له مع معاوية بعد الصلح، حيث عقّب معاوية على كلام للإمامعليه‌السلام يذكر فيه فضله بقوله: «أظن نفسك يا حسن تنازعك إلى الخلافة »، فقال الإمامعليه‌السلام : «ويلك يا معاوية إنّما الخليفة مَن سار بسيرة رسول الله وعمل بطاعة الله، ولعمري إنّا لأعلام الهدى ومنار التقى، ولكنّك يا معاوية ممّن أباد السنن، وأحيا البدع، واتخذ عباد الله خولا، ودين الله لعباً »(18) .

الثامن: بيّن الإمامعليه‌السلام ما عليه معاوية من الباطل وسأله أن يدع التمادي

١٢١

فيه فقال له: «فدع التمادي في الباطل » ووصفه بأنّه باغ والبغي هو تجاوز الحق إلى الباطل، قال تعالى:( انّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ) (19) ، يُقال بغى الجرح أي تجاوز الحد في إفساده، وبغت المرأة بغاء إذا فجرتْ وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها(20) .

وإنّ معاوية ممّن يتمادى في الغي أيضاً حيث قال له الإمامعليه‌السلام : «وإن أبيتَ إلاّ التمادي في غيّكَ » وقد وصفه من قبل بهذا الوصف الإمام عليعليه‌السلام بقوله في رسالة له: «وانّ نفسكَ قد أولجتْكَ شراً، وأقحمتْكَ غياً، وأوردتْكَ المهالك، وأوعرتْ عليكَ المسالك »(21) ، وقال له في رسالة اُخرى إليه: «وأرديتَ جيلاً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيّك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات، وتتلاطم بهم الشُّبهات »(22) .

التاسع: إنّ الذي حمل الإمامعليه‌السلام على كتابة هذه الرسالة إلى معاوية إنّما هو الإعذار في ما بينه وبين الله عزّ وجل في أمره، ولتكون الحجّة على معاوية أوقع عند أهل الرأي والحجى.

العاشر: بيّن الإمامعليه‌السلام انّ خلافته هي الأصلح للمسلمين، فكل فعل مضاد يبديه معاوية فهو خروج على مصلحتهم العليا.

الحادي عشر: دعوة من الإمامعليه‌السلام إلى معاوية أن يكف عن الولوغ في دماء المسلمين، وأن يحقنها فلقد شرب منها حتى الثّمالة وغرق فيها إلى الآخر.

• جواب معاوية:

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي ..

فهمتُ ما ذكرتَ به محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أحقّ الأوّلين والآخرين بالفضل كلّه ..

وذكرتَ وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنازع المسلمين الأمر من بعده وتغلبهم على

١٢٢

أبيك، فصرحتَ بتهمة فلان وفلان وأبي عبيدة وحواري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصلحاء والمهاجرين والأنصار فكرهتُ ذلك لكَ، إنّكَ امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين ولا المسيء ولا اللّئيم، وأنا أحب لكَ القول السديد والذكر الجميل، انّ هذه الاُمّة لما اختلفتْ بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم ولا قرابتكم من نبيّكم ولا مكانكم في الإسلام وأهله، فرأت الاُمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيّها، ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعوامهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاماً وأعلمها بالله وأحبّها له وأقواها على أمر الله فاختاروا أبا بكر، وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل، والناظرين للاُمّة، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة، ولم يكونوا متّهمين ولا في ما أتوا بالمخطئين، ولو رأى المسلمون أن فيكم مَن يغني غناءه ويذب عن حريم الإسلام ذبّه ما عدلوا بالأمر إلى غيره رغبة عنه.

وقد فهمتُ الذي دعوتني إليه من الصلح، والحال في ما بيني وبينكم اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو علمت أنّكَ أضبط منّي للرعية، وأحوط على هذه الاُمّة، وأحسن سياسة، وأقوى على جمع الأموال، وأكيد للعدو، لأجبتُكَ إلى ما دعوتني إليه، ورأيتُكَ لذلك أهلاً، ولكن قد علمتُ أنّي أطول منك ولاية، وأقدم منك بهذه الاُمّة تجربة، وأكبر منك سناً فأنت أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فأدخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي، ولك ما في مال العراق بالغاً ما يبلغ، تحمله إلى حيث أحببت، ولك خراج أي كور العراق شئت، معونة لك على نفقتك، يجبيها أمينك، ويحملها إليك في كل سنة، ولك أن لا نستولي عليك بالإساءة ولا تقضى دونك الاُمور، ولا تُعصى في أمر أردتَ به طاعة الله، أعاننا الله وإيّاك على طاعته إنّه سميع مجيب الدعاء والسلام »(23) .

لا يخفى على مَن خبر كتب التاريخ والسير، واطّلع على حوادث السقيفة،

١٢٣

ثم عرف النفسية التي يتمتّع بها بنو عبد الدار، أن يدرك المغالطات التي اندست في هذه الرسالة والتلاعب بالعواطف والإثارات، ولذا قال الكاتب المصري توفيق أبو علم: « وكما يقول الدكتور أحمد رفاعي في كتابه ( عصر المأمون ) إنّ هذه الرسالة حوت بعض المغالطات، فقد جاء فيها: « إنّ هذه الاُمّة لما اختلفت بينها، لم تجهل فضلكم، ولا سابقتكم للإسلام، ولا قرابتكم من نبيّكم الخ »(24) .

• ونذكر هنا بعض ما يلاحظ على هذه الرسالة:

الأوّل: إنّ معاوية أضاف لقب أمير المؤمنين إلى نفسه وهو لم ينص على خلافته ولم يُبايَع من قِبَل المسلمين، وهذا تحدّ صارخ منه في وجه الاُمّة وعدم المبالاة بقوانين الإسلام ولا الاحترام لمشاعر المسلمين.

الثاني: إنّه موّه الأمر ولم يذكر حوادث ما بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبرز في معرض الدفاع عن صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّه الرجل المؤمن الذي يربأ بالإمام الحسنعليه‌السلام عن الكلام عن أولئك المتقدمين، بينما لم يذكر الإمامعليه‌السلام إلاّ ما جرى بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأي محدّث ينقل حدثاً تاريخياً خطيراً لعب دوره الكبير في حياة الاُمّة الإسلامية وأثّر في اتجاه سيرها، وإنّما ذكره لينبّه معاوية وأتباعه بأنّ الأمر الذي نطلبه منك هو حقّ لنا في أعناق المسلمين وإن خرج عن دائرته حفنة من السنين لظروف طارئة، فهو تذكير وإشارة لمَن ألقى السمع وهو منيب، ولم يكن خافياً على معاوية ذلك الأمر، ولذا كان يعيب الإمام علياًعليه‌السلام بما صنع به في تلك الأيام في كتاب له إليه، فأجابه الإمامعليه‌السلام بقوله: «وقلتَ: انّي كنتُ اُقاد كما يُقاد الجمل المخشوش حتّى اُبايع؛ ولعمر الله لقد أردتَ أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت! وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه! وهذه حجتي إلى غيرك

١٢٤

قصدها، ولكنّي أطلقتُ لك منها بقدر ما سنح من ذكرها »(25) .

الثالث: إنّ قوله: « فرأت الاُمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها...الخ »، فيه الكثير من الإعلام المزيّف الذي طالما حارب به معاوية واتّخذه سلاحاً حاداً في كثير من المواقع التي مرّ بها وكادت تعصف به رياحُ الحقّ، فهل اجتمعت الاُمّة على الأوّل؟! إذن ما الذي حمل الثلاثة من المهاجرين على الذهاب إلى سقيفة بني ساعدة وإجراء المفاوضات الحادّة مع الأنصار وترك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجى على فراش الموت لم يوار الثرى بعد، وهو صهر أوّلهما وثانيهما! وهل كان غيرهم من قريش بل من المهاجرين هناك؟ وهل بايع علي والعباس والفضل بن العباس وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار و و ..

مَنْ أهل الدين والسبق وعلِّية المسلمين؟! ألم تقل الأنصار في لحظة من لحظات السقيفة: « لا نبايع إلاّ علياً »(26) ألم يقل الخليفة الثاني كانت بيعة أبي بكر فلتة!(27) وحسبنا في التعليق ما ورد في الكتاب السابق للإمام عليعليه‌السلام : «وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا، وهو قوله سبحانه وتعالى: ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) (28) وقوله تعالى: ( انّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) (29) ،فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة .

ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار في يوم السقيفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلجُّوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم ».

الرابع: كيف اختارت الاُمّة أفضلها وأحبّها إلى الله وأعلمها به وأذبّها عن حريم الإسلام، وعليعليه‌السلام فيهم وهو الذي قال عنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ مع الحق والحق مع علي، وأنا مدينة العلم وعليّ بابها، أقضاكم عليّ، لأعطينّ الراية

١٢٥

غداً رجلاً كراراً غير فرار يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله »، بعد ان رجع الأوّل والثاني يجبّن كل منهما أصحابه وأصحابه يجبنونه، ومَن الذي وقف يدافع عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم اُحد؟ ومَن الذي قام لعمرو بن ود يوم الأحزاب حينما اقتحم الخندق وطلب المبارزة فشلّت حركة المسلمين وقبضوا على أنفاسهم، أقام غير عليعليه‌السلام فأردى عمرو صريعاً؟ حتى سجّل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمتيه الخالدتين: «برز الإسلام كلُّه إلى الشرك كلِّه، وضربة علي يوم الخندق تعدل عمل الثقلين! »، ومَن الذي قال فيه جبرئيل: «لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي! » ثم ألم يقل الخليفة الثاني أقيلوني فلستُ بخيركم؟(30) .

وكان معاوية كثيراً ما يردّد هذه الإفضلية جرياً على عادة الإعلام الاُموي فذكر ذلك إلى الإمام عليعليه‌السلام في كتابه السابق فأجاب عنه: «وزعمتَ أنّ أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذكرتَ أمراً إن تمّ اعتزلك كُلّه وإن نقص لم يلحقك ثلمه، وما أنتَ والفاضل والمفضول، والسائس والمسوس! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء، والتمييز بين المهاجرين الأوّلين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم! هيهات لقد حنّ قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها مَن عليه الحكم لها! ألا تربع أيّها الإنسان إلى ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخّرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب ولا ظفر الظافر »(31) .

الخامس: ادعى أنّه فهم من كتاب الإمامعليه‌السلام دعوته إلى الصلح، ولم يكن في كتاب الإمامعليه‌السلام للصلح عين ولا أثر، فهل ترى فهم دعوى الصلح من قول الإمامعليه‌السلام : «فدع التمادي في الباطل، وادخل في ما دخل فيه الناس من بيعتي »؟!.

السادس: التناقض الواضح في كلمات معاوية، فهو يستفيد دعوته إلى الصلح في الوقت الذي يقول فيه: فأنتَ أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني.

١٢٦

السابع: إذا لم يكن الإمام الحسنعليه‌السلام أحوط على اُمّة جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غيره، كائناً مَن كان، فهل الأحوط عليها معاوية! الذي فعل ما فعل أيام صفّين، وقتل مَن قتل من الصحابة الكرام والبدريين الأجلاّء؟

الثامن: قوله: « وأقوى على جمع الأموال » إن كان الجمع من مصادره المشروعة فالإمامعليه‌السلام أعرف بها من معاوية لأعرفيته بكتاب الله وسنّة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو ربيب الرسالة ورضيعها، وابن صوت العدالة الإنسانية في الأرض. وإن لم يكن الجمع من مصادره المشروعة فما أبعد الإمامعليه‌السلام عن ذلك.

التاسع: إنّ الاُمور التي جعلها مرجّحاً له في طرف الميزان لم تكن كذلك في الرؤية الإسلامية الهادفة لأعلاء كلمة الله في الأرض، فما قيمة كبر السن وطول الولاية وما إلى ذلك أن لم تكن في رضا الله وطاعته. ولو كان لكبر السن أهمية في المنظور الإسلامي لما كان اُسامة بن زيد أميراً على جيش مؤتة وفيه أكابر الصحابة وشيوخهم، ولقد قال أبو قحافة حينما سمع بتنصيب ابنه خليفة على المسلمين: « ..لم ولوه؟ قالوا: لسنه. قال: أنا أسنّ منه »(32) .

العاشر: إنّ منطق معاوية في قوله: « ولك ما في بيت مال العراق » منطق المخادع الذي يريد أن يستولي على الملك بأي طريق، وليس منطقه منطق الطالب للحقّ ومَن تهمّه مصلحة المسلمين، وإلاّ فما يعني قوله: ولك ما في بيت مال العراق بالغاً ما يبلغ! أليست هي المساومة بعينها على شيء ليس له؟ وقد أخطأ معاوية مرماه حينما عرض على الإمامعليه‌السلام هذا العرض الدنيوي الزائل، وهل كان الإمامعليه‌السلام إلاّ كأبيه القائل: «يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري »؟!

هذا بعض ما يؤخذ على رسالة معاوية ومنطقها، والذي يظهر أنّ الإمامعليه‌السلام لم يعبأ بهذه الرسالة فلم يجب عنها بشيء، ممّا أثار حفيظة معاوية فظهر بصورة اُخرى غير الصورة التي حاول أن يبرز بها في الرسالة الاُولى، فكتب إلى الإمامعليه‌السلام كما

١٢٧

يروي ابن أبي الحديد: « أما بعد فانّ الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس، وايأس من أن تجد فينا غميزة، وإن أنت أعرضتَ عمّا أنت فيه وبايعتني وفيتُ لك ما وعدتُ، وأجريت لك ما شرطت، وأكون في ذلك كما قال أعشى بن قيس بن ثعلبة:

وإن أحدٌ أسدى إليك أمانةً

فأوفِ بها تدعى إذا متَّ وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنىً

ولا تُجفهِ إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي وأنت أولى الناس بها »(33) .

قال توفيق أبو علم: « ويقول بعض رجال التاريخ إنّ هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد، إنّما بعثها معاوية إلى الإمام الحسنعليه‌السلام بعدما اتصل اتصالاً وثيقاً برجال العراق وقادته وضمنوا له تنفيذ خطّته، فالغالب أنّه لم يكتب ذلك إلاّ بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له »(34) .

ولكن المحتمل غير ذلك كما سيظهر عن قريب من تتابع الحوادث ومجريات الاُمور.

والذي تجدر الإشارة إليه تهديد معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام بالقتل إن هو لم يسلم الأمر إليه، وفيه الشيء الكثير من أخلاق آل اُميّة وروح معاوية.

الرسالة الثانية:

أجاب الإمامعليه‌السلام معاوية برسالة مختصرة:

«أمّا بعد فقد وصل إليّ كتابك فيه ما ذكرت، وتركتُ جوابك خشية البغي، وبالله أعوذ من ذلك، فاتبع الحقّ فانّك تعلم من أهله: وعليّ إثم أن أقول فأكذب »(35) .

قال توفيق أبو علم: « وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين

١٢٨

الإمام ومعاوية.

وعلى أثرها علم معاوية أنّه لا يجديه خداعه وأباطيله، ولا تنفع مغالطاته السياسية »(36) .

وليس الأمر كما قال، بل هناك رسائل اُخرى متبادلة بينهما كما ستأتي، وقد صدق حكمه في أنّ الإمامعليه‌السلام لم ينخدع باُطروحة معاوية ومغالطاته السياسية، وكيف ينخدع ابن أبي طالب الذي عرف معاوية وما يحمله من طموحات الرياسة والملك، وما يتلوّن به من أساليب الخديعة والمكر، وأين يبعد عن الإمام الحسنعليه‌السلام قول أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام في معاوية وهو يحذّر زياد ابن أبيه منه: «فاحذره، فإنّما هو الشيطان، يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ليقتحم غفلته ويستلب لبّه » (37) .

• ظرف الرسالة:

ظرف هذه الرسالة يقرب من ظرف الرسالة السابقة، مع وضوح الرؤية في موقف معاوية وإصراره على التمادي في باطله، وانّه سوف يفعل كل ما يخدم سياسته، ويمهّد له طريق الاستيلاء ولو كان ذلك هو قتل الإمام الحسن نفسه.

• زمن الرسالة:

يحتمل أنّها كانت في أواخر شهر شوال أو أوّل شهر ذي القعدة، من السنة نفسها، فانّ مدّة السير بين الكوفة والشام تستغرق سبعة إلى عشرة أيام، وقد كتب الإمامعليه‌السلام رسالته الاُولى في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك أو أوائل شهر شوال كما احتملناه سابقاً، فإذا ما وضعنا ذلك في الحسبان مع أيام السفر ذهاباً وإياباً، وبقاء الرسول في الشام ولو لأيام معدودة، والمدة الفاصلة بين

١٢٩

جواب معاوية ورسالته الثانية للإمامعليه‌السلام يكون الوقت التقريبي لزمن الرسالة يحوم حول ما ذكرناه.

• الرسالة الثالثة:

لمّا بلغ معاوية ابن أبي سفيان وفاة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وبيعة الناس لابنه الإمام الحسنعليه‌السلام ، دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة، ورجلاً من القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار، ويفسدا على الحسن الاُمور، فانكشف أمرهما لدى الإمام الحسنعليه‌السلام بأمر باستخراج الحميري من عند لحّام ( حجّام ) بالكوفة فاُخرج وأمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سُلَيم فأخرج وضربت عنقه.

• ثم كتب الإمامعليه‌السلام إلى معاوية:

«أمّا بعد فانّك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال وأرصدت العيون كأنّك تحبّ اللقاء، وما أشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله، وبلغني أنّك شمتّ بما لم يشمت به ذو الحجى، وإنّما مثلك في ذلك كما قال الأوّل:

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تزوّد لاُخرى مثلها فكأن قَدِ

فانّا ومن قد مات منّا لكالذي

يروح فيمسي في المبيت ويغتدي(38)

• زمن الرسالة:

يظهر أنّ هذه الرسالة جاءت عقيب الرسالة المذكورة ثانياً، فانّ تلك كانت جواباً على كتاب، وهذه ابتداء خطاب، ثم انّ المستفاد من كلام مجموعة من المؤرخين انّ هذه هي الرسالة الاُولى للإمامعليه‌السلام ، وهو جدّ بعيد، فانّ المقارنة بين

١٣٠

لسانها ولسان الرسالة التي ذكرناها أوّلاً تقضي بما أثبتناه، فانّ طبيعة الاُمور ومجاريها قائمة على أن يرسل الخليفة الجديد إلى ولاة المناطق بخبر استخلافه ويطلب منهم البيعة، ثم انّه من المستبعد جداً أن يرسل الإمامعليه‌السلام إلى معاوية بهذه اللّهجة الصارخة والشدة في الخطاب وبيان الاستعداد لحربه - كما في هذه الرسالة -، ثم يرسل له بعد ذلك بالمطالبة وأنّه الأحقّ منه.

• ظرف الرسالة:

اتضحت ملامح الأزمة وخيوطها بشكل أكبر، فالظرف ظرف تأزّم واستعداد للحرب وتهيؤ للقتال، فانّ الإمامعليه‌السلام ثابت على موقفه وطريقته في الأمت والعوج وإظهار الدّين وإبقاء الحق عند أهله، ورفض معاوية جملة وتفصيلاً، وفي المقابل يقف معاوية متمنياً الخلافة مصرّاً على الملك، طالباً لما يريد بأي ثمن كان، ويحتمل أنّ الإمامعليه‌السلام قد وصل إلى مسامعه ما أرسله معاوية إلى عمّاله في هذه الآونة، فقد أرسل إليهم بعد أن جاءه جواب الإمامعليه‌السلام السابق وعرف منه العزم على الحرب وعدم التفكير في قبوله أبداً: « من عبد الله أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان، ومن قبله من المسلمين، سلام عليكم فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوّكم وقاتل خليفتكم: إنّ الله بلطفه وحسن صنيعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهودكم وجندكم وحسن عدّتكم، فقد أصبتم بحمد الله الصبر وبلغتم الأمل وأحلّ الله أهل البغي والعدوان والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(39) .

وقد علّق الاستاذ توفيق أبو علم على هذه الرسالة بقوله: « والذي يلفت النظر

١٣١

في هذه الرسالة أن ينسب معاوية البغي والعدوان إلى الإمام عليعليه‌السلام ، مع أنّ جنود معاوية هم الباغون ولقد قتلوا الصحابي الجليل عمّار بن ياسر وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له: «تقتلك الفئة الباغية » كما يلفت النظر شماتة معاوية في الإمامعليه‌السلام .

ولمّا وصلت هذه الرسالة إلى عمّاله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثّهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول اللهعليه‌السلام وسبطه »(40) .

• معطيات الرسالة:

الأوّل: إنّ معاوية أرسل الأعين إلى أهم مركزين سياسيين في حكومة الإمامعليه‌السلام - الكوفة والبصرة - للاحتيال والاغتيال، فهو يريد بذلك التجسّس على الإمامعليه‌السلام ومعرفة ما يدور في أوساط دولته، وأن يفسد الأمر على الإمامعليه‌السلام بإشاعة الأخبار الكاذبة، وإحباط المعسكر الإسلامي وتخويفه، وإحداث البلبلة في صفوفه، وغرس الفتنة في داخل حكومة الإمامعليه‌السلام والوسطين الكوفي والبصري، وأمّا الاغتيال فلعل معاوية كانت تمنيه نفسه باغتيال الإمامعليه‌السلام من ذلك الوقت ليستتب له الأمر، كما يظهر من تحذيره السابق، أو اغتيال بعض الشخصيات الشيعية المهمّة اجتماعياً وعسكرياً حتى تضعف قوة جيش الإمام وتنهار معنوياته، أو هما معاً.

الثاني: إنّ حنكة الإمامعليه‌السلام وحزمه في مواجهة الاُمور اقتضيا أن يسلك طريق الشدّة ممّا أفشل مخطط معاوية المشؤوم، فأمر بإعدام الجاسوسين طبقاً لقوله تعالى:( إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا ) (41) .

الثالث: استعداد الإمامعليه‌السلام لحرب معاوية بدون أي تردّد أو خوف، فهذه الأعين القادمة رسل حرب وليست برسل سلام.

١٣٢

الرابع: إنّ معاوية قد شمت بقتل الإمامعليه‌السلام ، وذو الحجى لا ينبغي له أن يشمت بموت أحد أو قتله، لا سيما وأنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام قد ضرب وهو قائم يصلّي في محرابه وقد تعلّقت روحه بالعالم الآخر على يقين ممّا هو عليه قائلاً: «فزتُ وربّ الكعبة ».

• جواب معاوية:

«أمّا بعد فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرتَ فيه، ولقد علمتُ بما حدث فلم أفرح ولم أحزن ولم أشمت ولم آس، وإنّ علياً أباك لكما قال الأعشى:

فأنت الجواد وأنت الذي

إذا ما القلوب ملأن الصدورا

جدير بطعنة يوم اللقا

ء يضرب منها النساء النمورا

وما مزبد من خليج البحا

ريعلو الأكام ويعلو الجسورا

بأجود منه بما عنده

فيعطي الألوف ويعطي البدورا »(42)

وقد علّق على هذه الرسالة أيضاً توفيق أبو علم بقوله: « وتلمس في هذه الرسالة دهاء معاوية وخداعه وخوفه من الحسنعليه‌السلام ، وذلك لمدحه وثنائه على الإمام عليعليه‌السلام ، وإنكاره لما أظهره من الفرح بموته، ولولا ذلك لما سجّل لخصمه هذا الثناء العاطر »(43) .

• الرسالة الرابعة:

كتب معاوية إلى الإمام الحسنعليه‌السلام : « يا بن عم، لا تقطع الرحم الذي بينك وبيني، فإنّ الناس قد غدروا بك وبأبيك من قبلك »(44) .

• جواب الإمامعليه‌السلام :

«إنّما هذا الأمر لي والخلافة لي ولأهل بيتي، وإنّها لمحرّمة عليك وعلى

١٣٣

أهل بيتك، سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله لو وجدتُ صابرين عارفين بحقّي غير منكرين، ما سلمتُ لك ولا أعطيتك ما تريد »(45) .

• ظرف الرسالة:

يقول المؤرخون: لمّا توفرت لمعاوية القوّة الهائلة من الجند وأصحاب المطامع توجّه إلى العراق فلمّا انتهى إلى جسر منبج، وعلم الإمامعليه‌السلام بذلك أمر بالصلاة جامعة ثم اعتلى المنبر فقال:

«أمّا بعد، فانّ الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً، ثم قال لأهل الجهاد: اصبروا إنّ الله مع الصابرين، فلستم أيّها الناس نائلين ما تحبّون إلاّ بالصبر على ما تكرهون، إنّه بلغني أنّ معاوية بلغه ما أزمعنا على المسير إليه فتحرّك لذلك، أخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم في النخيلة حتى ننظر وتنظرون ونرى وترون ».

وتباطأ الناس واثّاقلوا عن الذهاب خوفاً من جيش الشام، وبعد مداولات كلامية بين بعض الشخصيات الشجاعة وعامّة الناس أزمعوا على المسير، ثم لمّا ركب الإمامعليه‌السلام تخلّف عنه الكثير ولم يوفوا بما وعدوه به، فقام خطيباً وقال:

«غررتموني كما غررتم مَن كان قبلي، مع أي إمام تقاتلون بعدي؟ مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن بالله ولا برسوله قط، ولا أظهر الإسلام هو وبنو اُميّة إلاّ فرقاً من السيف؟ لو لم يبق لبني اُميّة إلاّ عجوز درداء، لبغت دين الله عوجاً، وهكذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

ثم وجّه إليه قائداً من كندة في أربعة آلاف، وأمره أن يعسكر في الأنبار، وعلم به معاوية فأرسل إليه رسلاً وكتب إليه معهم: انّك إن أقبلت إليّ اُولِّك كور الشام والجزيرة، غير منفس عليك، وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم فقبض

١٣٤

الكندي المال وقلب على الإمام الحسنعليه‌السلام ، وصار إلى معاوية في مائتي رجل من خاصّته وأهل بيته.

فبلغ ذلك الإمام الحسنعليه‌السلام فقام خطيباً وقال:

«هذا الكندي توجّه إلى معاوية وغدر بي وبكم، وقد أخبرتكم مرّة بعد مرّة أنّه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا ».

ثم أرسل آخر من مراد وأخبره أنّه سيغدر كما غدر الكندي فحلف له بالإيمان المغلظة التي لا تقوم لها الجبال - على حدّ تعبير المؤرخين -، أنّه لا يفعل، فقال الإمامعليه‌السلام انّه سيغدر، وصدقت نبوءة الإمامعليه‌السلام فيه، ففعل كما فعل الأوّل إزاء ثمن بخس. حينها بعث معاوية إلى الإمام برسالته المتقدّمة.

ظرف رسالة الإمامعليه‌السلام :

ثم انّ الإمامعليه‌السلام أخذ طريق النخيلة فعسكر عشرة أيام فلم يحضره إلاّ أربعة آلاف فانصرف إلى الكوفة فصعد المنبر وقال:

«يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين، ولو سلّمتُ له الأمر فأيم الله لا ترون فرجاً أبداً مع بني اُميّة، والله ليسومونكم سوء العذاب حتى تتمنّوا أنّ عليكم جيشاً جيشاً، ولو وجدتُ أعواناً ما سلّمتُ له الأمر، لأنّه محرّم على بني اُميّة فأف وترحاً يا عبيد الدنيا ».

ثم انّ القائد العام لجيش الإمامعليه‌السلام ابن عمّه عبيد الله بن العباس المثكول من معاوية بولديه قد غدر هو الآخر بثلثي مقدمة الجيش الذي سار إلى معاوية.

وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية: إنّا معك وإن شئت أخذنا الحسن وبعثناه إليك.

١٣٥

هذه ظرف رسالة الإمامعليه‌السلام ، والذي يظهر من البحار نقلاً عن الخرايج(46) :

أنّ الإمامعليه‌السلام كتبها بعد طعنه في فخذه والهجوم على الفسطاط، والذي يترجّح لمَن يراقب الأحداث أنّها كُتبت بعدما ذكرناه، والرسالة الاُخرى وهي الخامسة تقريباً كانت بعد الهجوم على الفسطاط.

وفي هذه الفترة بالذات نشر معاوية شائعة الصلح بينه وبين الإمامعليه‌السلام في أوساط مقدّمة الجيش، كما نشر شائعة التحاق قيس بن سعد القائد العام لجيش الإمامعليه‌السلام بعد عبيد الله بن العباس بمعاوية في أوساط مَن بقي مع الإمامعليه‌السلام ، ممّا أدى إلى زعزعة جيش الإمامعليه‌السلام وانهيار ما تبقّى عندهم من معنويات، وقد أخذت شائعات معاوية محلها في النفوس المريضة ممّن يحبون الدعة والراحة.

• معطيات الرسالة:

الأوّل: ركّز الإمامعليه‌السلام على عدم شرعية خلافة معاوية، وأنّها محرّمة عليه وعلى أهل بيته - بني اُميّة - كما جاء عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما سوف يحصل لمعاوية إنّما هو ملك لا يلبث أن يزول.

الثاني: إنّ لكثير من الذين مع الإمامعليه‌السلام ليسوا على شيء من ناحية العقيدة، والقليل منهم مَن يعرف الإمامعليه‌السلام حقّ معرفته، وأنّه إمام مُفترَض الطاعة من قِبَل الله يُسمَع له ويُطاع، وهذا ما بيّنه الإمامعليه‌السلام بعد الصلح أيضاً، وانّهم غير صابرين على الحرب، وإلاّ فعلى أسوأ التقادير وعدم الإيمان منهم بأنّه إمام مُفترَض الطاعة فلا أقل أنّه قائدهم وزعيمهم وأميرهم الذي بايعوه.

• الرسالة الخامسة:

كتب معاوية إلى الإمامعليه‌السلام في الهدنة والصلح وأنفذ إليه كتب أصحابه

١٣٦

الذين ضمنوا له الفتك به وتسليمه إلى معاوية، واشترط على نفسه عند استجابته إلى الصلح شروطاً كثيرة وعقد له عقوداً.

• فكتب إليه الإمام الحسنعليه‌السلام بعدما سيأتي من الحوادث في ظروف الرسالة:

«أمّا بعد فإنّ خطبي انتهى إلى اليأس من حقّ أحييه وباطل أميته، وخطبك خطب مَن انتهى إلى مراده، وإنّني اعتزل هذا الأمر، ولي شروط اشترطها لا تبهظك إن وفيت لي بها بعهد، ولا تخف إن غدرت، وستندم يا معاوية كما ندم غيرك ممّن نهض في الباطل، أو قعد عن الحقّ حين لم ينفع الندم، والسلام »(47) .

• ظروف الرسالة:

ذكر الشيخ الصدوق في العلل: دسّ معاوية إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجر بن الحارث وشبث بن ربعي دسيساً، أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه، إنّك إن قتلتَ الحسن بن علي فلك مائتا ألف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي، فبلغ الحسنعليه‌السلام فاستلأم ولبس درعاً وكفرها(48) ، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة بهم إلاّ كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يلبث فيه، لما عليه من اللأمة، ثم لمّا صار الإمامعليه‌السلام في مظلم ساباط ضرب الإمامعليه‌السلام بخنجر أو معول مسموم فعمل فيه(49) .

فقال الحسنعليه‌السلام : «ويلكم والله إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظن أنّي إن وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين لدين جدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّي أقدر أن أعبد الله عزّ وجل وحدي، ولكنّي كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم، يستسقونهم ويستطعمونهم، بما جعله الله لهم

١٣٧

فلا يسقون ولا يطعمون، فبعداً وسحقاً لما كسبت أيديهم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون »(50) .

• معطيات الرسالة:

الأوّل: إنّ طلب الإمامعليه‌السلام للخلافة الظاهرية أعني السلطة الزمنية لم يكن هو الهدف والغاية التي يطمح لها، بل كان طلبه لها ما هو أسمى من ذلك بكثير، فإنّ الهدف الأساس للإمامعليه‌السلام إنّما هو إحياء الحق وإماتة الباطل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، أمّا وقد بلغ الأمر إلى أن يسلم الإمامعليه‌السلام أسيراً إلى معاوية فيقتله أو يطلقه فتكون سبّة على بني هاشم إلى أبد الدهر، أو يقتل غيلة بدون أي فائدة تجنى من وراء ذلك، فالصلح مع معاوية خير وأولى، حفاظاً على نفسه وإبقاء على أهل بيته والخلّص من شيعته، مع الشروط التي ستقيّد معاوية إن هو عمل بها، أو يبقى عار التخلّف عنها صورة ماثلة أمام الأجيال تحكي ما انطوت عليه سريرته من حب المُلك والسلطان بأي طريق أتى ومن أي مسلك حصل.

الثاني: قدّم الإمامعليه‌السلام استعداده للتنازل لمعاوية بالأمر، وإنّه شرّ لمعاوية في معاده، فإنّه جاء إلى الأمر بغير طريقه المشروع وأخذه من أهله بالمكر والخديعة والقهر والغلَبَة.

فلا يعني تنازل الإمامعليه‌السلام عن الخلافة الظاهرية إعطاء الشريعة لمعاوية.

الثالث: إنّ معاوية سوف يندم على سيّئ صنيعه كما ندم غيره ممّن نهض في الباطل أو قعد عن الحق حيث لم ينفع الندم.

وقد علّق الشيخ الصدوقرحمه‌الله على هذه النقطة من كلام الإمامعليه‌السلام بقوله: « فإن قال قائل: مَن هو النادم القاعد؟ قلنا: هو الزبير، ذكره أمير المؤمنين صلوات الله عليه: ما أيقن بخطأ ما أتاه، وباطل ما قضاه وبتأويل ما عزاه، فرجع

١٣٨

عنه القهقرى، ولو وفى بما كان في بيعته لمحا نكثه، ولكنّه أبان ظاهراً الندم، والسريرة إلى عالمها.

والنادم القاعد عبد الله بن عمر بن الخطاب، فانّ أصحاب الأثر رووا في فضائله بأنّه قال: مهما آسى من شيء فإنّي لا آسى على شيء أسفي على أنّي لم أقاتل الفئة الباغية مع علي. وهذه عائشة روى الرواة أنّها لما أنّبها مؤنّب في ما أتته، قالت:

« قضي القضاء وجفّت الأقلام.

والله لو كان لي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرون ذكراً مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فثكلتهم بموت وقتل، كان أيسر عليّ من خروجي على ( علي ) ومسعاي التي سعيت فإلى الله شكواي لا إلى غيره ».

وهذا سعد بن أبي وقاص لما أنهي إليه أن علياًعليه‌السلام قتل ذا الثدية، أخذه ما قدم وما أخر، وقلق ونزق وقال: والله لو علمتُ أنّ ذلك كذلك لمشيت إليه ولو حبوا(51) .

هذه آخر الرسائل قبل كتاب الصلح، فيما وجدته بين يدي من مصادر.

• المعطيات الرئيسة للرسائل:

الأوّل: تركيز الإمامعليه‌السلام على شرعية خلافته دون معاوية، وانّه هو الأحقّ بتولّي زعامة المسلمين لما يتمتع به من صفات جسدية ونفسية، ظاهرية ومعنوية، ذاتية ونسبية، مضافاً إلى النص عليه من قِبَل صاحب الرسالة الخاتمة، الذي هو المدار في عملية الاستخلاف الشرعي.

وأمّا معاوية فهو طالب مُلك وسلطان يتمتّع به قليلاً ثم ما يبرح حتى يسأل عن ما اقترفته يداه، وانّ الخلافة محرّمة عليه وعلى أهل بيته بنصّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٣٩

الثاني: إنّ المجتمع الكوفي ولا سيما الجيش المفترض أن يكون هو المعتمد في القيادة وتثبيت أركان الدولة والمحافظة على أمن واستقرار البلاد، لم يكن جيشاً مؤهّلاً لهذه المهام، كما أنّه لم يكن مؤهّلاً للدخول في حرب مع معاوية وأهل الشام المجتمعين على باطلهم - على حدّ تعبير الإمام عليعليه‌السلام -، فإنّه جيش مذبذب قد تنازعته الأهواء وعصفت به رياح الفتن وتناوشته الإشاعات من مكان قريب، ففيه الخوارج الطالبون ثأراً من معاوية، فهم ينتظرون راية تظلهم ينطوون تحت لوائها لإنجاز مهمتهم، ولا يهمّهم - بعد ذلك - الانقلاب على قائدهم بعد ذلك، لا سيما وأن قائدهم هو الإمام الحسنعليه‌السلام بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قاتل آبائهم وإخوانهم وأصحاب الرأي عندهم، وفيه رؤساء القبائل والقادة الذي غرتهم الدنيا بزخارفها فكتبوا إلى معاوية ما كتبوا في شأن الإمام الحسنعليه‌السلام ، وفيه أعين بني اُميّة الذين انبثّوا داخل معسكر الكوفة ليثيروا الإشاعات ويثبّطوا العزائم ويضعّفوا الهمم، وفيه عامّة الناس وغوغاؤهم الذين لم يؤمنوا بالإمام الحسنعليه‌السلام كإمام مفترَض الطاعة، وقد سئموا الحرب وملّوها، فلم تعد عندهم طاقة عليها كما لا صبر لهم على الجهاد، فلم يبق مع الإمامعليه‌السلام ممّن يعرف حقّه إلاّ أفراد قلائل.

وقد حاول الإمامعليه‌السلام بشدّته في رسالته، وصلابته في موقفه، وتوبيخه لهم وخطبه فيهم، أن يرفع من معنوياتهم، وينفخ في نفوسهم العزيمة من جديد، ويضخ في عروقهم الدم الحر، ويبث في قلوبهم الحماس والإقدام، إلاّ انّهم لم يعطوه النصف من أنفسهم فلم يجد لكلامه آذاناً صاغية ولا قلوباً واعية تعي عواقب الاُمور، وتدرك مغبّة الوهن والضعف، فباؤوا بغضب من الله وخسران مبين، وانتهت حالهم إلى أن صاروا أذلاّء تحت سيطرة بني اُميّة يسومونهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وقد صدقت نبوءة الإمامعليه‌السلام في خطبته فيهم.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الدهريين وأمثالهم كانوا يقولون بوجود عقل للأفلاك ، ويعتقدون أنّ تدبير هذا العالم بيدها.

إن هذه العقائد الخرافية انقرضت بمرور الزمان ، خاصّة وقد ثبت بتقدم علم الهيئة عدم وجود شيء باسم الأفلاك ـ الكرات المتداخلة الصافية ـ في الوجود الخارجي أصلا ، وأن لنجوم العالم العلوي بناء كبناء الكرة الأرضية بتفاوت ما غاية في الأمر أنّ بعضها مظلم ويكتسب نوره من الكرات الأخرى ، وبعضها الآخر مشتعل ومنير.

إنّ الدهريين كانوا يذمون الدهر ويسبونه أحيانا عند ما تقع حوادث مرّة مؤلمة.

غير أنّه ورد في الأحاديث الإسلامية عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا تسبوا الدهر ، فإنّ الله هو الدهر»(١) ، وهو إشارة إلى أنّ الدهر لفظ ليس إلّا ، فإنّ الله سبحانه هو مدبر هذا العالم ومديره ، فإنّكم إنّ أسأتم القول بحق مدبر هذا العالم ومديره ، فقد أسأتم بحق اللهعزوجل من حيث لا تشعرون.

والشاهد على هذا الكلام حديث آخر روي كحديث قدسي عن الله تعالى أنّه قال : «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر! بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار»(٢) .

لكن قد استعمل الدهر في بعض التعبيرات بمعنى أبناء الأيّام ، وأهل الزمان الذين شكا العظماء من عدم وفائهم ، كما نقل في الشعر المنقول عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، حيث أنشد ليلة عاشوراء :

يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحب وطالب قتيل

والدهر لا يقنع بالقليل

وعلى هذا فللدهر معنيان : الدهر بمعنى الأفلاك والأيّام ، والذي كان محل

__________________

ـ الوثنيين ، حيث كانوا يقولون : إنّنا نموت دائما ثمّ نحيا في أبدان أخرى في هذا العالم. إلّا أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع جملة (وما يهلكنا إلّا الدهر) والتي تتحدث عن الهلاك والفناء فقط. (فتأمل!).

(١) تفسير مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٧٨.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٥٩٩١.

٢٢١

اهتمام الدهريين ، حيث كانوا يظنونه حاكما على نظام الوجود وحياة البشر.

والدهر بمعنى أهل العصر والزمان وأبناء الأيّام.

ومن المسلّم أنّ الدهر بالمعنى الأوّل أمر وهمي ، أو نقول أنّه اشتباه في التعبير حيث أطلق اسم «الدهر» بدل اسم الله المتعالي الحاكم على كلّ عالم الوجود. أمّا الدهر بالمعنى الثّاني فهو الشيء الذي ذمه كثير من الأئمة والعظماء ، لأنّهم كانوا يرون أهل زمانهم خادعين مذبذبين لا وفاء لهم.

على أية حال ، فإنّ القرآن الكريم أجاب هؤلاء العبثيين بجملة وجيزة عميقة ، تلاحظ في موارد أخرى من القرآن الكريم أيضا ، فقال :( وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) .

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (٢٨) من سورة النجم في من يظنون أنّ الملائكة بنات الله سبحانه :( وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) .

وقد ورد هذا المعنى أيضا في القول بقتل المسيح ، النساء ـ ١٥٧ ، وعقيدة مشركي العرب في الأصنام ، يونس ـ ٦٦.

وهذا أبسط وأوضح دليل يلقى على هؤلاء بأنّكم لا تملكون أي شاهد أو دليل منطقي على مدعاكم ، بل تستندون في دعواكم إلى الظن والتخمين فقط.

وأشارت الآية التالية إلى إحدى ذرائع هؤلاء الواهية وحججهم الباطلة فيما يتعلق بالمعاد ، فقالت :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١) .

كان هؤلاء يرددون أنّ إذا كان حياة الأموات وبعثهم حقّا فأحيوا آباءنا كنموذج لادعائكم ، حتى نعرف مدى صدقكم ، ولنسألهم عمّا يجري بعد الموت ، وهل يصدّقون ما تقولونه أم يكذبونه؟

__________________

(١) «حجتهم» في الآية المذكورة خبر كان ، و (أن قالوا ...) اسمها.

٢٢٢

نعم ، هذا هو دليلهم الأجوف لأنّ الله سبحانه قد أبان للبشر قدرته على إحياء الأموات بطرق مختلفة ، فإنشاء أوّل الإنسان من التراب ، وتحولات النطفة العجيبة في الرحم ، وخلق السماء الواسعة والأرض ، وإحياء الأراضي الميتة بعد هطول الأمطار عليها ، ذكرت كلها كأسانيد حية على إمكان القيامة والبعث الجديد ، وكأفضل دليل على هذا المعنى ، وبعد كلّ هذا لا حاجة إلى دليل آخر.

وبغض النظر عن ذلك ، فإنّ هؤلاء كانوا قد أثبتوا أنّهم لا هدف لهم إلّا التذرع والتوسل بالحجج ، للاستمرار في ضلالهم واعتقادهم المنحرف ، فإذا كشف لهم عن مشهد إحياء الأموات فرضا فرأوه بأم أعينهم ، فإنّهم سيقولون مباشرة : إنّه سحر ، كما قالوا ذلك في الموارد المشابهة.

إنّ التعبير بـ «الحجة» في مورد قول هؤلاء الفارغ هو كناية في الحقيقة عن أنّ هؤلاء لا دليل لهم إلّا عدم الدليل.

* * *

٢٢٣

الآيات

( قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) )

٢٢٤

التّفسير

الكلّ جاث في محكمة العدل الإلهي :

هذه الآيات في الحقيقة جواب آخر على كلام الدهريين ، الذين كانوا ينكرون المبدأ والمعاد ، وقد أشير إلى كلامهم ، في الآيات السابقة ، فتقول الآية أوّلا :( قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

لم يكن هؤلاء يعتقدون بالله ولا باليوم الآخر ، ومحتوى هذه الآية استدلال عليهما معا ، حيث أكّدت على مسألة الحياة الأولى. وبتعبير آخر ، فإنّ هؤلاء لا يستطيعون أن ينكروا أصل وجود الحياة الأولى ، ونشأة الموجودات الحية من موجودات ميتة ، وهذا يشكل من جهة دليلا على وجود عقل وعلم كلي شامل ، إذ هل يمكن أن توجد الحياة على هذه الهيئة المدهشة ، والتنظيم الدقيق والأسرار العجيبة المعقدة ، والصور المتعددة ، والتي أذهلت عقول كلّ العلماء ، من دون أن يكون لها خالق قادر عالم؟

ولهذا نرى آيات القرآن المختلفة تؤكّد على مسألة الحياة كأحد آيات التوحيد وأدلته البينة.

ومن جهة أخرى ، تقول لهم : كيف يكون القادر على إنشاء الحياة الأولى عاجزا عن إعادتها ثانيا؟

أمّا التعبير بـ( لا رَيْبَ فِيهِ ) حول القيامة ، والذي يخبر عن حتمية وقوعها وحدوثها ، لا عن إمكانها ، فهو إشارة إلى قانون العدل الإلهي ، حيث لم يصل كلّ صاحب حق الى حقّه في هذه الحياة الدنيا ، ولم يلاق كلّ المعتدين والظالمين جزاءهم ، ولو لا محكمة القيامة العادلة ، فإن العدالة الإلهية لا مفهوم لها حينئذ.

ولما كان كثير من الناس لا يتأمل هذه الدلائل ولا يدقق النظر فيها ، فإنّ الآية تضيف في النهاية :( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

إن أحد أسماء يوم القيامة المار ذكره في هذه الآية هو :( يَوْمَ الْجَمْعِ ) لأنّ جميع

٢٢٥

الخلق من الأولين والآخرين ، وعلى اختلاف طبقات البشر وأصنافهم يجمعون في ذلك اليوم في مكان واحد. وقد ورد هذا التعبير في عدّة آيات أخرى من القرآن الكريم أيضا ، ومن جملتها الشورى ـ ٧ ، والتغابن ـ ٩.

أمّا الآية التالية فهي دليل آخر على مسألة المعاد ، وقد قرأنا الشبهة المطروحة حوله في آيات القرآن الأخرى ، فتقول :( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فلما كان مالكا لتمام عالم الوجود الواسع وحاكما عليه ، فمن المسلم أن يكون قادرا على إحياء الموتى ، ومع وجود تلك القدرة المطلقة لا تكون عملية الإحياء بالأمر العسير.

لقد جعل الله سبحانه هذا العالم مزرعة للآخرة ، ومتجرا وافر الربح إلى ذلك العالم ، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) لأنّهم فقدوا رأس مالهم ـ وهو العمر ـ ولم يتجروا فيه ، ولم يشتروا متاعا إلّا الحسرة والندم.

إنّ الحياة والعقل والذكاء ومواهب الحياة الأخرى هي رأس مال الإنسان في سوق التجارة هذا ، لكن اتباع الباطل يبادلونه بمتاع فان سريع الزوال ، ولذلك فإنّهم حين يأتون يوم القيامة ، يوم لا ينفع إلّا القلب السليم والإيمان والعمل الصالح سيرون خسارتهم الباهظة بأم أعينهم ، ولات ساعة مندم.

«يخسر» من الخسران ، وهو فقدان رأس المال ، وينسب أحيانا إلى نفس الإنسان ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ فيقال : خسر فلان ، وأحيانا إلى تجارته فيقال : خسرت تجارته.

ومع أنّ أبناء الدنيا لا يستعملون هذا التعبير إلّا في موارد المال والمقام والمواهب المادية ، مع أنّ الأهم من الخسارة المادية هو فقدان رأس مال العقل والإيمان والثواب.

أمّا «المبطل» ـ من مادة «إبطال» ـ فلها في اللغة معان مختلفة ، كإبطال الشيء ،

٢٢٦

والكذب ، والاستهزاء والمزاح ، وطرح أمر باطل وذكره ، وكلّ هذه المعاني يمكن أن تقبل في مورد الآية.

الأشخاص الذين أبطلوا الحق ، والذين نشروا عقيدة الباطل وأهدافه ، والذين كذبوا أنبياء الله ، وسخروا من كلامهم ، سيرون خسرانهم المبين في ذلك اليوم.

وتجسّد الآية التالية مشهد القيامة بتعبير بليغ مؤثر جدّا ، فتقول :( وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ) .

يستفاد من بعض كلمات المفسّرين أنّ أصحاب الدعوى في الماضي كانوا يجلسون على هذه الهيئة في مجلس القضاء ليميزوا عن الآخرين ، وسيجثو الجميع يوم القيامة في تلك المحكمة الكبرى لتتم محاكمتهم.

ويمكن أيضا أن يكون هذا التعبير علامة على استعدادهم لتقبل أي أمر أو حكم يصدر بحقّهم ، لأنّ من كان على أهبة الاستعداد يجثو على الركب.

أو أنّه إشارة إلى ضعف هؤلاء وعجزهم وخوفهم واضطرابهم الذي سيعانونه.

وجمع كلّ هذه المعاني في مفهوم الآية ممكن أيضا.

وللجاثية معان أخرى ، من جملتها الجمع الكثير المتراكم ، أو جماعة جماعة ، ويمكن أن تكون إشارة إلى تراكم البشر وازدحامهم في محكمة العدل الإلهي ، أو جلوس كلّ أمة وفئة على حدة وبمعزل عن الأمم الأخرى. إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ثمّ تبيّن الآية ثاني مشاهد القيامة ، فتقول :( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) فإنّ هذا الكتاب صحيفة أعمال سجلت فيها كلّ الحسنات والسيئات ، والقبائح والأفعال الجميلة ، وأقوال الإنسان وأعماله ، وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم :( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) (١) .

وتعبير( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) يوحي بأنّ لكلّ أمة كتابا يتعلق بأفرادها

__________________

(١) الكهف ، الآية ٤٩.

٢٢٧

جميعا ، إضافة إلى صحيفة الأعمال الخاصّة بكلّ فرد ولا يبدو هذا الأمر عجيبا إذا علمنا أنّ للإنسان نوعين من الأعمال : الأعمال الفردية ، والأعمال الجماعية ، ولذلك فإن وجود نوعين من صحائف الأعمال يبدو طبيعيا جدّا من هذه الناحية(١) .

والتعبير بـ «تدعى» يوحي بأنّ هؤلاء يدعون إلى قراءة ما في كتبهم ، وهذا المعنى نظير ما ورد في الآية (١٤) من سورة الإسراء :( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) .

ثمّ يأتيهم الخطاب من قبل الله مرّة أخرى ، فيقول مؤكّدا :( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ ) فقد كنتم تفعلون كلّ ما يحلو لكم ، ولم تكونوا تصدقون مطلقا أنّ كلّ أعمالكم هذه تسجل في مكان ما ، ولكن( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

«نستنسخ» من مادة «استنساخ» ، وهي في الأصل مأخوذة من النسخ ، وهو إزالة الشيء بشيء آخر ، فيقال مثلا : نسخت الشمس الظل. ثمّ استعملت في كتابة كتاب عن كتاب آخر من دون أن يمحى الكتاب الأوّل.

وهنا يبدو سؤال ، وهو : إذا كان الله سبحانه قد أمر باستنساخ أعمال ابن آدم ، ذلك يستلزم أن يكون هناك كتاب قبل النسخ تكتب فيه تلك الأعمال؟ ولذلك فإنّ البعض يعتقد أنّ صحائف أعمال كلّ البشر قد كتبت في اللوح المحفوظ ، والملائكة الموكلون بحفظ أعمال الإنسان يستنسخونها من ذلك اللوح المحفوظ.

إلّا أنّ هذا المعنى لا يتلاءم كثيرا مع الآية مورد البحث ، بل الملائم أحد معنيين هما : إمّا أن يكون الاستنساخ هنا بمعنى أصل الكتابة ـ كما قاله بعض المفسّرين ـ أو أنّ نفس أعمال الإنسان كالكتاب التكويني تنسخ عنه الملائكة الحفظة وتصوره ، ولذلك فقد ورد في آيات أخر من القرآن الكريم التعبير بالكتابة بدل

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الكتاب في الآية أعلاه ، هو الكتاب السماوي الذي أنزل على تلك الأمة. إلّا ظاهر الآية يدل على أنّه صحيفة الأعمال ، خاصة بملاحظة الآية التالية ، وأكثر المفسّرين على ذلك أيضا.

٢٢٨

الاستنساخ ، كما نقرأ ذلك في الآية (١٢) من سورة يس :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) (١) .

وقد ورد تفصيل أوسع حول أنواع الكتب التي تسجل فيها الأعمال ـ صحيفة الأعمال الشخصية ، وصحيفة أعمال الأمم ، والكتاب الجامع العام لكلّ أفراد البشر ـ في ذيل الآية (١٢) من سورة يس.

وتبيّن الآية التالية الجلسة الختامية للمحكمة وإصدار قرار الحكم ، حيث تنال كلّ فئة جزاء أعمالها ، فتقول :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) .

إن ذكر «فاء التفريع» هنا دليل على أنّ نتيجة حفظ الأعمال والمحاسبة وتلك المحكمة الإلهية العادلة ، هي دخول المؤمنين في رحمة الله سبحانه.

وطبقا لهذه الآية ، فإنّ الإيمان ـ وحده ـ غير كاف لأنّ يجعل المؤمنين يتنعمون بهذه الموهبة العظيمة والعطية الجزيلة ، بل إنّ العمل الصالح شرط لذلك أيضا.

والتعبير بـ «ربّهم» يحكي عن لطف الله الخاص ، يكتمل بتعبير «الرحمة» بدل «الجنّة».

وتبلغ بهم نهاية الآية أوج الكمال حينما تقول :( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) .

إنّ لـ «رحمة الله» معنى واسعا يشمل الدنيا والآخرة ، وقد أطلقت في آيات القرآن الكريم على معان كثيرة ، فتارة تطلق على مسألة الهداية ، وأخرى على الإنقاذ من قبضة الأعداء ، وثالثة على المطر الغزير المبارك ، ورابعة على نعم أخرى كنعمة النور والظلمة ، وأطلقت في موارد كثيرة على الجنّة ومواهب الله سبحانه في القيامة.

__________________

(١) ورد في رواية عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «إن لله ملائكة ينزلون كلّ يوم يكتبون فيه أعمال بني آدم». ويقول الشيخ الطوسي في التبيان في ذيل الآية مورد البحث بعد نقل هذه الرواية : ومعنى نستنسخ نستكتب الحفظة ما يستحقونه من ثواب وعقاب ، ونلقي ما عداه ممّا أثبته الحفظة ، لأنّهم يثبتونه جميعا.

٢٢٩

جملة( ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) تكررت مرّة أخرى في الآية (١٦) من سورة الأنعام ، غاية ما هناك أنّ الفوز المبين قيل هناك لأولئك الذين ينجون من عذاب اللهعزوجل :( مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) أمّا هنا فقد قيلت فيمن دخل الجنّة وفي رحمة الله ، وكلاهما في الواقع فوز عظيم : النجاة من العذاب ، والدخول في مستقر رحمة الله سبحانه.

وهنا قد يرد هذا السؤال ، وهو : هل أنّ المؤمنين الذين ليس لهم عمل صالح لا يدخلون الجنّة؟

والجواب : إنّهم يدخلونها لكن بعد أن يروا جزاءهم في جهنم حتى يطهروا ، فإنّ الذين يردون مستقر رحمة الله هذا بعد الحساب مباشرة هم أصحاب العمل الصالح مضافا إلى إيمانهم ، وحسب.

كلمة «الفوز» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني الظفر المقترن بالسلامة ، وقد استعملت في (١٩) موردا من آيات القرآن المجيد ، فوصف الفوز مرّة بالمبين ، وأخرى بالكبير ، أمّا في غالب الآيات فقد وصف بالعظيم. وهو مستعمل عادة في شأن الجنّة ، إلّا أنّه استعمل في بعض الموارد في شأن التوفيق لطاعة الله ومغفرة الذنوب وأمثال ذلك.

وتذكر الآية الآتية مصير من يقع في الطرف المقابل لأولئك السابقين ، فتقول :( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) .

وممّا يلفت النظر أنّ الكلام في هذه الآية عن الكفر فقط ، وأمّا أعمال السوء التي هي عامل الدخول في عذاب الله وسببه فلم يجر لها ذكر ، وذلك لأنّ الكفر وحده كاف لأنّ يدخل صاحبه العذاب ، أو لأنّ التعبير بالمجرمين في ذيل الآية كاف لبيان هذا المعنى.

والنكتة الأخرى هنا أنّه لم يرد كلام عن عقوبات الجحيم ، بل الكلام عن التوبيخ الإلهي لهم وتقريعهم ، وهو يعتبر أشد العذاب وأكبره ، وتهون معه الجحيم

٢٣٠

كلّ عذابها.

وهنا نكتة تستحق الانتباه ، وهي : أنّه يستفاد من هذه الآية أنّ الله سبحانه لن يعذب أحدا من دون أن يبعث الأنبياء ويرسل الرسل وينزل آياته ـ أو كما يصطلح عليه تأكيد أحكام العقل بأحكام الشرع ـ وهذا منتهى لطفه ورحمته سبحانه.

وآخر ملاحظة هي أنّ أكبر مشاكل هؤلاء القوم هو استكبارهم على آيات الله من جهة ، وتماديهم في المعصية والإجرام من جهة أخرى ، وهذا يستفاد من جملة( وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) .

* * *

٢٣١

الآيات

( وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧) )

٢٣٢

التّفسير

يوم تبدو السيئات :

الآية الأولى من هذه الآيات توضيح لما ذكر في الآيات السابقة بصورة مجملة ، توضيح لمسألة استكبار الكافرين على آيات الله ودعوة الأنبياء ، فتقول :( وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) .

التعبير بـ( ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) في حين أنّ معنى القيامة لم يكن غامضا عليهم أو مبهما ، وإن كان شك كلّ لديهم ففي وجودها ، ممّا يوحي بأنّهم كانوا في موضع تكبر وعدم اهتمام ، ولو كانت لدى هؤلاء روح تتبع الحق وطلبه لرأوا أنّ ماهية يوم القيامة أمر واضح ، كما أنّ الدليل عليها بيّن جلي. ومن هنا يتّضح الجواب عن سؤال طرح هنا ، وهو : أنّ هؤلاء إنّ كانوا ـ حقا ـ في شكّ الأمر ، فلا تثريب عليهم ولا إثم؟ لكن الشك لم يكن ناشئا من عدم وضوح الحق ، بل ناتج عن الكبر والغرور والعناد التعصب.

ويحتمل أيضا أن يكون هدفهم من تهافت كلامهم وتناقضه السخرية والاستهزاء.

وتتحدث الآية التالية عن جزاء هؤلاء وعقابهم ، ذلك الجزاء الذي لا يشبه عقوبات المحاكم الدنيوية ، فتقول :( وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ) فستتجسد القبائح والسيئات أمام أعينهم ، وتتّضح لهم ، وتكون لهم قرينا دائما يتأذون من وجوده إلى جانبهم ويتعذبون من صحبته :( وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) (١) .

والأشد ألما من كلّ ذلك هو الخطاب الذي يخاطبهم به الله الرحمن الرحيم ، فيقول سبحانه :( وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) .

__________________

(١) «حاق» من مادة (حوق) ، وهي في الأصل بمعنى الورود ، والنّزول ، والإصابة ، والإحاطة. وقال البعض : إنّ أصلها (حق) ـ بمعنى التحقيق ـ فأبدلت القاف الأولى إلى واو ، ثمّ إلى ألف.

٢٣٣

لقد ورد هذا التعبير بصيغ مختلفة في القرآن الكريم مرارا ، ففي الآية (٥١) من سورة الأعراف :( فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ) .

وجاء هذا المعنى أيضا بأسلوب آخر في الآية (١٤) من سورة ألم السجدة.

لا شك أنّ النسيان لا معنى له بالنسبة إلى الله سبحانه الذي يحيط علمه بكلّ عالم الوجود ، لكنّه هنا كناية لطيفة عن احتقار الإنسان المجرم العاصي وعدم الاهتمام به ، ويلاحظ هذا التعبير حتى في محادثاتنا اليومية ، فنقول : انس فلانا الذي لا وفاء له ، أي عامله كإنسان منسي ، ولا تمنحه المحبة والعطف والوداد ، واترك تفقد أحواله ، ولا تذهب إليه أبدا.

ثمّ إنّ هذا التعبير تأكيد آخر ـ بصورة ضمنية ـ على مسألة تجسم الأعمال ، وتناسب الجريمة والعقاب ، لأنّ نسيانهم يوم القيامة في الدنيا يؤدي إلى أن ينساهم الله يوم القيامة ، وما أعظم مصيبة نسيان الله الرحمن الرحيم لفرد من الأفراد ، وحرمانه من جميع ألطافه ومننه.

وذكر المفسّرون هنا تفاسير مختلفة للنسيان تتلخص جميعا في المعنى المذكور أعلاه ، ولذلك لا نرى حاجة لتكرارها.

ثمّ إنّ المراد من نسيان لقاء يوم القيامة ، نسيان لقاء كلّ المسائل والحوادث التي تقع في ذلك اليوم ، سواء الحساب أم غيره ، حيث كانوا ينكرونها.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد نسيان لقاء الله سبحانه في ذلك اليوم ، لأنّ يوم القيامة قد وصف في القرآن المجيد بيوم لقاء الله ، والمراد منه الشهود الباطني.

وتتابع الآية الحديث ، فتقول :( وَمَأْواكُمُ النَّارُ ) وإذا كنتم تظنون أنّ أحدا سيهب لنصرتكم وغوثكم ، فاقطعوا الأمل من ذلك ، واعلموا أنّه( وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

أمّا لماذا ابتليتم بمثل هذا المصير؟ فـ( ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) .

وأساسا فإنّ «الغرور» و «الاستهزاء» لا ينفصلان عن بعضهما عادة ، فإنّ الأفراد

٢٣٤

المغرورين والمتكبرين الذين ينظرون إلى الآخرين بعين الاحتقار يتخذونهم هزوا ويسخرون منهم ، ومصدر الغرور في الواقع هو متاع الدنيا وقدرتها وثروتها الزائلة المؤقتة ، والتي تدع الأفراد الضيقي الصدور في غفلة تامة لا يعيرون معها لدعوة رسل الله أدنى اهتمام ، ولا يكلفون أنفسهم حتى النظر فيها للوقوف على صوابها من عدمه.

وتكرر الآية ما ورد في الآية السابقة وتؤكّده بأسلوب آخر ، فتقول :( فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (١) ، فقد كان الكلام هناك عن مأواهم ومقرهم الثابت ، والكلام هنا عن عدم خروجهم من النّار حيث قال هناك : ما لهم من ناصرين ، وهنا يقول : لا يقبل منهم عذر ، والنتيجة هي أنّ لا سبيل لنجاتهم.

وفي نهاية هذه السورة ، ولإكمال بحث التوحيد والمعاد ، والذي كان يشكل أكثر مباحث هذه السورة ، تبيّن الآيتان الأخيرتان وحدة ربوبية الله وعظمته ، وقدرته وحكمته ، وتذكر خمس صفات من صفات الله سبحانه في هذا الجانب ، فتقول أولا :( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ) لأنّه( رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

«الرّب» بمعنى المالك والمدبر ، والحاكم والمصلح ، وبناء على هذا فكلّ خير وبركة تأتي منه سبحانه ولذلك ، ترجع إليه كلّ المحامد والثناء ، فحتى الثناء على الورد ، وصفاء العيون ، وعذوبة النسيم ، وجمال النجوم ، حمد له وثناء عليه ، فإنّها جميعا تصدر عنه ، وتنمو بفضله ورعايته.

والطريف أنّه يقول مرّة : ربّ السماوات ، وأخرى : ربّ الأرض ، وثالثة : ربّ عالم الوجود والعالمين ، ليفند الإعتقاد بالآلهة المتعددة التي جعلوها للموجودات المختلفة ، ويدعو الجميع إلى توحيد الله سبحانه والإعتقاد بأحديته.

وبعد وصف ذاته المقدسة بمقام الحمد والربوبية ، تضيف الآية في الصفة الثالثة :( وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) لأنّ آثار عظمته ظاهرة في السماء

__________________

(١) أعطينا التوضيح اللازم حول معنى (يستعتبون) وأصلها في ذيل الآية (٥٧) من سورة الروم.

٢٣٥

المترامية الأطراف ، والأرض الواسعة الفضاء ، وفي كلّ زاوية من زوايا العالم.

لقد كان الكلام في الآية السابقة عن مقام الربوبية ، أي كونه تعالى مالكا لأمور عالم الوجود ومدبرا لها ، والكلام هنا عن عظمته ، فكلما دققنا النظر في خلق السماء والأرض وتأملناه ، سنزداد معرفة بهذه الحقيقة ، وتزداد بصيرتنا بها.

وأخيرا تقول الآية في الوصفين الرابع والخامس :( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) وبذلك تكمل مجموعة العلم والقدرة والعظمة والربوبية والمحمودية ، والتي هي مجموعة من أهم صفات الله ، وأسمائه الحسنى.

ولعلها تشير إلى أن : له الحمد فاحمدوه ، وهو الرب فاشكروا له ، وله الكبرياء فكبروه ، وهو العزيز الحكيم فأطيعوه.

وبوصف الله سبحانه بالعزيز والحكيم تنتهي سورة الجاثية كما بدأت بهما ، وكل محتواها وما تضمنته شاهد على عزّة الله سبحانه وحكمته السامية.

اللهمّ ، إنا نقسم عليك بكبريائك وعظمتك ، وبمقام ربوبيتك ، وعزتك وحكمتك ، تثبت أقدامنا في طريق طاعة أوامرك.

اللهمّ ، إنّ كلّ حمد وثناء نؤديه فبتوفيق منك ، وكلّ ما لدينا من بركاتك وألطافك ، فأدم اللهمّ هذه النعم وزدها علينا.

إلهنا : نحن غارقون في بحر إحسانك وكرمك ، فوفقنا لأداء شكرك.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الجاثية

* * *

٢٣٦
٢٣٧

بداية الجزء السّادس والعشرون

من

القرآن الكريم

سورة الأحقاف

مكيّة

وعدد آياتها خمس وثلاثون آية

٢٣٨

سورة الأحقاف

محتوى السورة :

هذه السورة من السور المكية ـ وإن كان جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ بعض آياتها قد نزلت في المدينة ، وسنبحث ذلك في شرح تلك الآيات إن شاء الله تعالى ـ ولما كان زمان نزولها وظروفه زمان مواجهة الشرك ، والدعوة إلى التوحيد والمعاد ومسائل الإسلام الأساسية ، فإنها تتحدث حول هذه الأمور ، وتدور حول هذه المحاور.

ويمكن القول باختصار ، أنّ هذه السورة تتابع الأهداف التالية :

١ ـ بيان عظمة القرآن.

٢ ـ محاربة كلّ أنواع الشرك والوثنية بشكل قاطع.

٣ ـ توجيه الناس إلى مسألة المعاد ومحكمة العدل الإلهي.

٤ ـ إنذار المشركين والمجرمين من خلال بيان جانب من قصة قوم عاد ، الذين كانوا يسكنون أرض «الأحقاف» ، ومنها أخذ اسم هذه السورة.

٥ ـ الإشارة إلى سعة دعوة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكونها عامّة تتخطى حتى حدود البشر ، أي إنّها تشمل طائفة الجن أيضا.

٦ ـ ترغيب المؤمنين وترهيب الكافرين وإنذارهم ، وإيجاد دوافع الخوف والرجاء.

٧ ـ دعوة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى التحلي بالصبر والاستقامة الى أبعد الحدود ،

٢٣٩

والاقتداء بسيرة الأنبياء الماضين.

فضل هذه السورة :

ورد في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل هذه السورة : «من قرأ سورة الأحقاف أعطي من الأجر بعدد كلّ رمل في الدنيا عشر حسنات ، ومحي عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات»(١) .

ولما كانت «الأحقاف» جمع حقف ، وهي الكثبان الرملية التي تتجمع على هيئات مختلفة ، مستطيلة ومتعرجة نتيجة هبوب الرياح في الصحاري ، وكان يقال لأرض قوم عاد «الأحقاف» لأنّها كانت حصباء على هذه الشاكلة ، فإنّ تعبير الحديث أعلاه ناظر إلى هذا المعنى.

ومن البديهي أنّ كلّ هذه الحسنات والدرجات لا تمنح لمجرّد التلاوة اللفظية ، بل التلاوة البناءة المؤدية إلى السير في طريق الإيمان والتقوى ، ولمحتوى سورة الأحقاف هذا الأثر حقّا إذا كان الإنسان طالب حقيقة ومستعدا للعمل والتطبيق.

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من قرأ كلّ ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف لم يصبه اللهعزوجل بروعة في الحياة الدنيا ، وآمنه من فزع يوم القيامة إن شاء»(٢) .

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، بداية سورة الأحقاف.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ونور الثقلين بداية سورة الأحقاف.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592