الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 184179 / تحميل: 6198
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وقصدت أن احلي هذا المصنف المشنّف بما لا يرده جمع الإجماع ، وأردت أن يرتفع مستطير الشعاع ، مكشوف القناع ، ولم المظه ما يرويه الغلاة ، ولم احبّره بما يستلذه الغواة ، وختمت مجموعي هذا بقصة المختار ، الذي شفى صدور الأبرار ، من تلك الأوتار ، وبمقتل عبيد الله بن زياد الأبتر ، بصمصام إبراهيم بن الأشتر ، لا طفئ من قلوب أهل الإسلام نائرة أرثتها عصابة لا تنطفي في الآجلة نارها ، واسترحض عار باغية لا يرحض في العاجلة عارها ، حين استهانوا برد المعقول ، وعصوا دواعي العقول ، وباءوا من الله بالغضب والمقت ، واستحقوا منه ما استحق أصحاب السبت ، وإن استمرت في خلال ذلك للأشقياء جولة على السعداء ، واستفحلت للبغاة وطأة على الشهداء ، ليكرم الله تعالى منقلب ذريه الرسول ومآبهم. ويجزل لهم بالشهادة ثوابهم ، ثمّ إنّ الله تعالى أرسل على عبيد الله بن زياد ، صاعقة ابراهيم بن الأشتر الكمي ابن الكمي ، والسري ابن السري ، فأزهق نفسه ، وكوّر شمسه ؛ فاذاقه شطر وبال ما احتطب ، وجزاء ما اكتسب ، وجعل الذي بجبينه معصوبا ، والسيف على رأسه مصبوبا ، وسلّ عليه وعلى من انحاز إليه ؛ من تلك الفرقة اللعينة ، وضامه من تلك الجثث الخبيثة ، سيفا دامي الغرار ، يحكم على رقاب هؤلاء الأغرار ، ومد يده الطويلة الباع الى اجتياحهم ، وأشرع رمحا مسبوكا من ريقة الرقشاء الى انتهاكهم ، وطهر أديم الأرض من أدناس هؤلاء العارمين الالمين ، وتركهم في مصابهم جاثمين ،( فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) الأنعام / ٤٥.

٢١
٢٢

الفصل الاول

في ذكر شيء من فضائل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

٢٣
٢٤

١ ـ انبأني شيخ الدّين أبو الحسن عليّ بن أحمد بن حمويه الجويني ، أخبرنا أحمد بن قتيبة الحروجردي ، أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو بكر محمّد بن عبد الله العبدي ، أخبرنا محمّد بن أحمد بن أبي العوام ، أخبرنا بهلول بن المورق ، أخبرنا موسى بن عبيدة ، أخبرنا عمرو بن عبد الله بن نوفل ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «قال لي جبرائيلعليه‌السلام : قلبت الأرض مشارقها ومغاربها ، فلم أجد رجلا أفضل من محمّد ، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها ، فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم».

٢ ـ وأخبرنا الشيخ الصالح العالم العدل أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم بن أبي سهل الكروخي الهروي ، عن مشايخه الثلاثة : القاضي أبي عامر محمود بن القاسم الأزدي ؛ وأبي نصر عبد العزيز بن محمّد الترياقي ؛ وأبي بكر أحمد بن عبد الصمد الغورجي (رحمهم‌الله ) ثلاثتهم ، عن أبي محمّد عبد الجبار بن محمّد الجراحي ، عن أبي العبّاس محمّد بن أحمد

٢٥

المحبوبي ، عن الإمام الحافظ عيسى بن محمّد بن عيسى الترمذي ، أخبرنا الحسين بن زيد الكوفي ، أخبرنا عبد السلم بن حرب ، عن ليث ، عن الرّبيع ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا أوّل النّاس خروجا إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشرهم إذا يئسوا ، لواء الحمد يومئذ بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربّي ولا فخر».

٣ ـ وبهذا الإسناد عن أبي عيسى الترمذي ، أخبرنا الحسين بن يزيد ، أخبرنا عبد السلم بن حرب ، عن يزيد بن أبي جالد ، عن المنهال بن عمرو ، عن أبي عبد الله بن الحرث ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا أوّل من تنشق عنه الأرض فأكسى الحلّة من حلل الجنّة ، ثمّ أقوم عن يمين العرش وليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري».

٤ ـ وبهذا الإسناد عن أبي عيسى الترمذي ، أخبرنا محمّد بن بشار ، أخبرنا أبو عاصم ، أخبرنا سفيان الثوري ، عن ليث ـ وهو ابن أبي سليم ـ حدّثني كعب ، حدّثني : أبو هريرة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «سلوا الله لي الوسيلة» قالوا : يا رسول الله! وما الوسيلة؟ قال : «أعلى درجة في الجنّة لا ينالها إلّا رجل واحد أرجو أن أكون أنا».

٥ ـ وبهذا الإسناد عن أبي عيسى الترمذي ، أخبرنا ابن أبي عمر ، أخبرنا سفيان ، عن ابن جدعان ، عن أبي نصرة ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبيّ يومئذ ، آدم فمن سواه إلّا تحت لوائي ، وأنا أوّل من تشقّ عنه الأرض ولا فخر».

٦ ـ وبهذا الإسناد عن أبي عيسى الترمذي ، أخبرنا عليّ بن نصر بن عليّ الجهضمي ، أخبرنا عبد الله بن عبد المجيد ، أخبرنا رفعة بن صالح ، عن

٢٦

سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : جلس ناس من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظرونه ، قال : فخرج حتّى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم ، فقال بعضهم : عجبا انّ الله اتّخذ من خلقه خليلا اتّخذ إبراهيم خليلا! وقال آخر : ما ذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليما! وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه! وقال آخر : آدم اصطفاه الله!

فخرج عليهم فسلّم وقال : «قد سمعت كلامكم وعجبكم ان ابراهيم خليل الله وهو كذلك ، وموسى نجي الله وهو كذلك ، وعيسى روح الله وكلمته وهو كذلك ، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أوّل من يحرك حلق الجنّة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر».

٧ ـ أخبرنا العلّامة فخر خوارزم أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ره) ، أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام أبو عليّ الحسن بن علي بن أبي طالب الفرزادي ـ بالري ـ ، أخبرنا الشيخ الفقيه الزاهد أبو بكر طاهر بن الحسين بن عليّ السّمان ، أخبرنا عمّي الشيخ الزاهد الحافظ أبو سعد إسماعيل بن علي بن الحسين السّمان الرّازي ، أخبرنا أبو عمر ؛ وعبد الواحد ابن محمّد بن عبد الله الفارسي ، أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن إسحاق المصري ، أخبرنا الرّبيع بن سليمان المرادي ، أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، حدّثني العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «فضلت على الأنبياء بست : اعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، واحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا

٢٧

ومسجدا ، وأرسلت إلى النّاس كافة ، وختم بيّ الأنبياء».

٨ ـ وبهذا الإسناد ، عن أبي سعد السّمان هذا ، أخبرنا أبو نصر محمّد ابن عليّ بن الحسين الخفاف ، وعليّ بن محمّد بن أحمد بن يعقوب ـ قراءة عليهما ـ قالا : حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن خالد ، أخبرنا أبو سهل موسى ابن نصر ، أخبرنا يعلى بن عبيد ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن مالك ، عن مكحول ، قال : كان لعمر على رجل من اليهود حق فأتاه فطلبه ، فقال عمر : لا ، والّذي اصطفى محمّدا على البشر لا افارقك وأنا أطلبك بشيء ، فقال اليهودي : ما اصطفى محمّدا على البشر.

فلطمه عمر ، فقال : بيني وبينك أبو القاسم ، فجاءه فقال : إنّ عمر قال : والّذي اصطفى محمّدا على البشر ، فقلت : ما اصطفى محمّدا على البشر فلطمني ، فقال (صلّى الله عليه) : «أنت يا عمر! فارضه من لطمه. بلى يا يهودي! آدم صفي الله ؛ وإبراهيم خليل الله ؛ وموسى نجي الله ؛ وعيسى روح الله ؛ وأنا حبيب الله. بلى يا يهودي! تسمى الله باسمين سمى بهما امتي : هو السّلام وسمى أمّتي المسلمين ، وهو المؤمن وسمى أمّتي المؤمنين. بلى يا يهودي! طلبتم يوما ذخر لنا اليوم ، وغد لكم ، وبعد غد للنصارى. بلى يا يهودي! أنتم الأوّلون ونحن الآخرون السّابقون يوم القيامة. بلى يا يهودي! إنّ الجنّة محرمة على الأنبياء حتّى أدخلها ، وهي محرمة على الامم حتّى تدخلها امتي».

٩ ـ قال : وفي «المراسيل» عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ـ في حديث طويل ـ : «إذا كان يوم القيامة فأوّل من يقوم من قبره الصّادق النّاطق النّاصح المشفق محمّدعليه‌السلام فيأتيه جبرائيل بالبراق ، وميكائيل بالتاج ، وإسرافيل بالقضيب ، ورضوان بالحلتين ، ثمّ ينادي جبرائيل : أين قبر

٢٨

محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فتقول الأرض : حملتني الرياح مع الجبال فدكتا دكة واحدة ، فلا أدري أين قبر محمّدعليه‌السلام ؟ فيرتفع من قبره عمود من نور إلى عنان السماء ، فيبكي جبرائيل بكاء شديدا ، فيقول له ميكائيل : ما يبكيك؟ فيقول : وما يمنعني من البكاء وهذا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم من قبره ويسألني عن امته ، وأنا لا أدري أين أمّته؟

قال : ثم ينصدع القبر فإذا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قاعد ينفض التراب من رأسه ولحيته ، ثمّ يلتفت يمينا وشمالا ، فلا يرى من العمران شيئا ، فيقول : يا جبرائيل! بشرني ، فيقول ابشّرك بالبراق السباق الطائر في الآفاق ، فيقول : بشرني ، فيقول : ابشرك بالتاج ، فيقول بشّرني ، فيقول : ابشرك بالقضيب والخلتين ، فيقول : بشّرني بامتي لعلّك خلفتهم بين أطباق النيران ، أو لعلّك تركتهم على شفير جهنم ، أو لعلّك تركتهم في أيدي الزبانية ، فيقول : ما رأيتهم؟ ولكنّهم بعد في لحودهم ، وما انشقّت الأرض عن آدمي قبلك؟ فيقوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويخرج من قبره ، ويمسح جبرائيل التراب من رأسه ولحيته ، ويضع التّاج على رأسه ، ويأخذ القضيب بيده ، فيدنو الى البراق ليركبها فتفرّ عنه ، فيقول جبرائيل : أما تستحين أيّتها البراق ، فهذا محمّد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! فتقول البراق : وعزة ربّي وجلاله ، لا يركبني حتّى يضمن لي أن أكون في شفاعته ، فإنّ ربّي غضب اليوم غضبا لم يغضبه فيما مضى ، ولا يغضبه فيما بقي ، فيضمن لها محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعته فتخضع برأسها ثمّ يركبها ، فإذا هو ـ بيت المقدس ـ على درّة بيضاء ، والكعبة بجنبها ، والمساجد حولها.

قال : فيسجد النبيّعليه‌السلام ، ويثني على الله بما لم يثن عليه أحد قبله ، فيقول له الجبّار: يا محمّد! فيقول : لبيك وسعديك ، والخير بين يديك ؛

٢٩

والمهدي من هديت ، عبدك بين يديك ، لا ملجأ ولا منجأ إلّا إليك ، تباركت ربّنا وتعاليت ، وهذا هو المقام المحمود في قوله تعالى :( عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) الاسراء / ٧٩ ، فيقول تعالى : ارفع رأسك ، سل تعط واشفع تشفع ، وإذا نداء : يا رضوان! زخرف الجنان ، ويا مالك! سعر النيران ، ويا محمّد! قرب امتك الى الميزان ، فيقولعليه‌السلام : هلموا إلى العرض على الرحمن ، فيقولون : دعنا نشبع من النظر إلى وجهك فقد عشنا في حبّك ومتنا في حبّك وبعثنا في حبّك ؛ وإذا اكتحلنا من عزتك فسقنا الى من شئت ، فإنّ شوقنا إليك أكبر من شوقنا إلى الجنان والجواري والغلمان.

فينظرون إلى وجهه ساعة ثمّ يسوقهم سوق الراعي الشفيق غنمه ، وهو مع الملائكة جاث بين يدي الجبّار ، فيتعلّق بإزاء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أربعة من الرّسل : إبراهيم خليل الرّحمن ؛ فيقول : لا أسألك ولدي ؛ وموسى كليم الله ، فيقول : لا أسألك أخي هارون ؛ وداود صفي الله ، ويقول : لا أسألك سليمان ؛ وعيسى روح الله ، ويقول : لا أسألك مريم ؛ ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول : لا أسألك نفسي أسألك المذنبين من أمّتي.

فتقول جهنم : من هذا الّذي يشفع كلّ إنسان لنفسه وهو يشفع لامته؟ فيقول جبرائيل : هذا محمّد المصطفى ، فتقول جهنم : يا ربّي وإلهي وسيّدي! نج محمّد وامّته من حرّي وبردي وهوامي وسلاسلي وأغلالي وألوان عذابي» ـ والقصة طويلة.

١٠ ـ وقال أهل التذكر : فضل الحبيب على الخليل ، لأن الخليل طلب الطهارة لنفسه ولأهل بيته على ما قال :( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) ابراهيم / ٣٥ ، والحبيب اعطي ذلك من غير مسألة على ما قال تعالى :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) الأحزاب / ٣٣.

٣٠

والخليل طلب الذكر على ما قال :( وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) الشعراء / ٨٤ ، والحبيب كفي ذلك على ما قال تعالى :( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) الشرح / ٤.

والخليل سأله الجنّة على ما قال :( وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ) الشعراء / ٨٥ ، والحبيب اعطي ذلك من غير مسألة على ما قال :( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) الكوثر / ١.

والخليل يحتسب الله عند المحنة فيقول :( حَسْبُنَا اللهُ ) آل عمران / ١٧٣ ، والحبيب كفي ذلك على ما قال :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ ) الأنفال / ٦٤.

والخليل يقتدى به في خصلة من خصاله على ما قال تعالى :( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) البقرة / ١٢٥. والحبيب يقتدى به في جميع خصاله على ما قال تعالى :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) الأحزاب / ٢١.

والخليل يطلب الهداية على ما قال :( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) الصافات / ٩٩ ، والحبيب كفي ذلك على ما قال تعالى :( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ) الضحى / ٧ ،( وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) الفتح / ٢.

والخليل يقول :( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) الشعراء / ٨٢ ، والحبيب يقال له :( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) الفتح / ٢.

والخليل سأل الرؤية للمناسك على ما قال :( وَأَرِنا مَناسِكَنا ) البقرة / ١٢٨ ، والحبيب أري الآيات من غير مسألة على ما قال :( لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) الإسراء / ١.

وقالوا أيضا : فضل الحبيب على الكليم ؛ لأن الكليم سأل شرح الصدر على ما قال:( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) طه / ١٢٥ ، والحبيب اعطي ذلك من غير مسألة على ما قال تعالى :( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) الشرح / ١.

٣١

والكليم سجدت السحرة لعصاه ؛ والحبيب سجدت الأوثان لقضيبه.

والكليم قال في حقّ قومه( فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) المائدة / ٢٥ ؛ والحبيب قال : «اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون».

والكليم حصل عند ضرب عصاه على ما قال :( فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) الشعراء / ٦٣ ؛ والحبيب حصل عند تفرق أصابعه على ما قال :( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) القمر / ١.

والكليم طلب رضى الله على ما قال :( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ) طه / ٨٤ ؛ والحبيب يطلب رضاه على ما قال :( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) الضحى / ٥.

والكليم معراجه الى الطور ؛ والحبيب معراجه الى البيت المعمور وإلى بساط النور.

والكليم ضرب الحجر فانفجر منه الماء ؛ والحبيب انفجر من أصابعه الماء.

ونوح له السفينة على الماء ؛ ومحمّد له البراق الطيار في الهواء (صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليهم‌السلام ).

١١ ـ أخبرنا عين الأئمة أبو الحسن عليّ بن أحمد الكرباسي ، أخبرنا عماد الدّين محمّد بن إبراهيم الوتري ، أخبرنا الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد البخاري ، أخبرنا إسحاق الرّازي ، أخبرنا القاضي أبو العباس أحمد ابن محمّد بن إبراهيم ـ بخوارزم الري ـ ، أخبرنا أبو بكر محمّد بن حمويه النيشابوري بها ، أخبرنا محمّد بن الوليد البغدادي ـ بمكة ـ ، أخبرنا إبراهيم ابن صرمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «فضلت على آدم بخصلتين : كان شيطاني كافرا فأعانني الله تعالى

٣٢

عليه حتى أسلم ، وأزواجي كنّ عونا لي ، وكان شيطان آدم كافرا وزوجته كانت عونا له على خطيئته».

١٢ ـ وفي رواية أبي سعيد الخدري ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : جاء جبرائيل إلى النبيّعليه‌السلام وقال : إنّ ربّك يقرؤك السّلام ، ويقول : أتدري بما رفعت ذكرك؟ قال : «لا أدري» ، قال : يقول : إذا ذكرت ذكرت معي.

١٣ ـ أخبرنا الشيخ الإمام فخر الأئمّة أبو الفضل بن عبد الرّحمن الحفر بندي إجازة ، أخبرنا الشيخ الإمام أبو محمّد الحسن بن أحمد السمرقندي ، أخبرنا أبو القاسم عبد الرّحمن بن أحمد بن محمّد بن عبدان العطار ؛ وإسماعيل بن أبي نصر عبد الرّحمن الصابوني ؛ وأحمد بن الحسين البيهقي ، قالوا : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا عليّ بن حمّاد العدل إملاء ، أخبرنا هارون بن العبّاس الهاشمي ، أخبرنا جندل بن والق ، أخبرنا عمرو ابن أوس الأنصاري ، أخبرنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة عن سعيد بن المسيّب ، عن ابن عبّاس ، قال : أوحى اللهعزوجل إلى عيسى : يا عيسى! آمن بمحمّد ، ومر من أدركه من أمّتك أن يؤمنوا به ؛ فلولا محمّد ما خلقت آدم ، ولو لا محمّد ما خلقت الجنّة والنّار ، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه : لا إله إلا الله مح ـ أي نصف اسم محمّد ـ فسكن.

قال أبو عبد الله الحافظ : هذا حديث صحيح الإسناد ؛ ولم يخرجه الشيخان.

١٤ ـ وبهذا الإسناد ، عن أبي عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو سعد عمرو ابن محمّد بن منصور العدل ، أخبرنا أبو الحسن محمّد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، أخبرنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري ، أخبرنا إسماعيل بن مسلمة ، أخبرنا عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن

٣٣

جدّه ، عن عمر بن الخطّاب قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لما اقترف آدم الخطيئة ، قال : يا ربّ! أسألك بمحمّد لما غفرت لي ، فقال الله تعالى : يا آدم! كيف عرفت محمّدا ولم أخلقه؟ قال : يا ربّ! لأنّك لمّا خلقتني بيدك ، ونفخت فيّ من روحك ؛ رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا : لا إله إلّا الله محمّد رسول الله ، فعلمت أنّك لم تضف لاسمك إلّا أحبّ الخلق إليك.

فقال اللهعزوجل : صدقت يا آدم! إنّه لا حبّ الخلق إليّ إذا سألتني بحقّه فقد غفرت لك ، ولو لا محمّد ما خلقتك.

قال أبو عبد الله الحافظ : وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجه الشيخان.

١٥ ـ أخبرنا الثقة أبو بكر محمّد بن عبيد الله بن نصر بن الزاغوني ـ بمدينة السّلام ـ ، أخبرنا محمّد بن إسحاق أبو الحسن الباقرحي ، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم ، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي ، أخبرنا أبي أحمد بن عامر ، أخبرنا أبو الحسن عليّ بن موسى الرّضا ، حدّثني أبي موسى بن جعفر ، حدّثني أبي جعفر بن محمّد ، حدّثني أبي محمّد بن عليّ الباقر ، حدّثني أبي عليّ بن الحسين ، حدّثني أبي الحسين بن عليّ ، حدّثني أبي عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ موسى سأل ربّه فقال : يا ربّ! اجعلني من أمّة أحمد؟ فأوحى الله إليه : يا موسى! إنّك لا تصل إلى ذلك».

١٦ ـ أخبرنا عين الأمّة أبو الحسن علي بن أحمد الكرباسي ، أخبرنا عماد الدّين أبو عبد الله محمّد بن إبراهيم التوبري ، أخبرنا الشيخ الإمام شمس الأئمّة أبو محمّد عبد العزيز بن أحمد الحلواني (ره) ، حدّثنا الشيخ

٣٤

الحافظ أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن محمّد ، أخبرنا الشيخ الفقيه أبو نصر أحمد بن سهل ، أخبرنا ابن شهاب قال : قال عليّ بن إبراهيم ، قال مقاتل ابن سليمان ـ رفعه ـ :

إنّما فضل الله تعالى نبيّه محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله على النبيّينعليهم‌السلام ، وفضل امّته على جميع الامم لفضل منزلته عنده : إنّه من أسرع النّاس خروجا من الارض يوم القيامة إذا بعثوا ، وسيّد النبيين إذا حشروا ، وإمامهم إذا سجدوا ، وخطيبهم إذا وفدوا ، وشافعهم إذا جنوا ، وقائدهم إلى الجنّة إذا دخلوا ، وأقربهم مجلسا من الله تعالى إذا اجتمعوا ، يتكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الربّ تعالى فيصدقه ، ويسأله فيعطيه ، ويشفع فيشفعه ، ويعطيه الحوض المورود ، والشفاعة المقبولة ، ويبعثه المقام المحمود ، والكرم يومئذ له ، ومفاتيح الجنّة بيده ، وقد اتّخذه الله خليلا ، وكلّمه تكليما ، وجعله حكيما ، وبعثه نبيّا ، واتخذه شهيدا ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وغفر له ما لم يعلم ومما هو عامل ، وعلّمه الأسماء ، وزينه بالتقوى ، ودنا إليه فتدلّى عند سدرة المنتهى ، وأعطاه مكان التوراة السبع المثاني ، ومكان الزبور المئين ، وفضله ربّه بالحواميم والمفصل ، وأعطاه جوامع الخير وفواتحه ، وأعطاه اسمه الأعظم ، وخواتيم سورة البقرة ـ وهو كنز الرّحمن ـ ، وأعطاه الكوثر ـ وهو نهر في الجنّة حافتاه قباب الدر ـ فيها أزواجه ، وذلك النهر يطرّد مثل الشهد أشدّ بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، طينته مسك أذفر ورضراضه الدر.

ومما فضله الله تعالى به أنّ ليلة أسرى به مثل له النبيّونعليه‌السلام فصلّى بهم وهم خلفه يقتدون به ، وممّا فضله الله تعالى به أنّه عاين تلك الليلة الجنّة والنّار فلما عرج الى السّماء وسلّمت عليه الملائكة عاين قوم موسى فآمنوا به وهم الّذين من وراء الصين ، وذلك أنّ بني إسرائيل حين عملوا بالمعاصي ،

٣٥

وقتلوا الّذين يأمرون بالقسط ، دعا قوم موسى وهم بالأرض المقدّسة ، فقالوا : اللهم! اخرجنا من بين أظهرهم ، فاستجاب الله لهم فجعل لهم سربا في الأرض فدخلوا فيه ، وجعل لهم نهرا يجري ، وجعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم فساروا فيه سنة ونصفا وذلك من بيت المقدس إلى مجلسهم الّذي هم فيه ، فأخرجهم الله تعالى إلى الأرض الّتي يجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطين فيها ليست لهم ذنوب ولا معاصي ، فأتاهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الليلة ومعه جبرائيل فآمنوا به وصدقوه ، فعلمهم الصّلاة ثم قالوا : إنّ موسى قد بشرهم به.

ومما فضله الله تعالى به أنّه بعث إليه ملكا يخبره بملك من كان قبله ، وملك من يكون بعده الى يوم القيامة ، وملك الآخرة ، فقال : «اللهمّ! اجمعهما لي في الآخرة».

وممّا فضله الله تعالى به أنّ ملك الموت أتاه ليقبض روحه فلم يدخل عليه إلا بإذنه ، وأمر ملك الموت أن يخيره بين تركه وقبض روحه ، فاستنظره النبيّ حتّى يلقى أخاه جبرائيل ـ صلوات الله عليهما ـ ، فعرج ملك الموت ولقي جبرائيل ، فخيره جبرائيل : إما ميتة طيبة ، واما حياة لا هرم فيها.

وممّا فضله الله تعالى به أنّ اسرافيل هبط عليه ولم يهبط على أحد من الرّسل قبله ولا بعده ، وميكائيل عن يساره فعرض عليه : إمّا أن يكون نبيّا عبدا ، وإمّا أن يكون ملكا ، فأوما إليه جبرائيل بالتواضع ، فقال نبيّا عبدا ، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله «فرأيت بين عيني إسرافيل كلّ شيء نزل عليّ قبل نزوله».

ومما فضله الله به أنّه أعطاه خمسا لم يعطهن أحد قبله : أنّه بعث إلى الجن والإنس الى يوم القيامة ، وإنما كان يبعث الأنبياء إلى قومهم والى أرضهم ، وأنّه جعلت له الأرض طهورا ومسجدا ، وأنّه حلت له الغنائم ولم

٣٦

تكن للأنبياء والرّسل حلالا ، وأنّه نصر على عدوه بالرعب مسيرة شهر ، وأنّه اعطي الشفاعة دون النبيّين في الآخرة وتلك الشفاعة العامة ، وذلك أنّ الله جعل لكلّ نبيّ دعوة في الدّنيا والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أخّرها في الآخرة لامته.

وهذه الخصال لم تكن لأحد من ولد آدم.

ومما فضله الله به ان السماء لم تحرس ولم ترم بالكواكب قبل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا بعث حرست الملائكة السماء ، ورمت الشياطين بالشهب.

ومما فضله الله بن أنّه أخذ الله ميثاقه قبل النبيّين وأخذ له ميثاق النبيين بالتسليم والرضا والتصديق به.

وممّا فضله الله به في الآخرة أنّه أوّل من يسأل ، وأوّل من يدعى ، وأوّل من يشفع ، وأوّل من يأخذ بحلقة الجنّة.

ومما فضله الله به أنّ في الجنّة درجة تسمى ـ الوسيلة ـ في أعلى عليين من الجنان فهي له خاصة. وكانعليه‌السلام كثيرا ما يقول : «إنّ في الجنّة درجة لا ينالها إلا رجل واحد ـ يعني نفسه ـ وهي الوسيلة.

وممّا فضله الله به انّه جعل نساءه معه في الجنّة في خير البقاع ، ورفع ذكره في العالمين ، فكلما ذكر اللهعزوجل ذكر النبيعليه‌السلام معه في : يوم الجمعة ، وفي العيدين ، وفي مواقف الحج والعمرة ، وحول البيت والصفا والمروة ، وعند الجهاد ، وفي كل خطبة ـ حتّى خطبة النساء عند النكاح ـ ، وفي الأذان والإقامة والصلاة ، فكلّما ذكر الله تعالى ذكرعليه‌السلام معه ، وهو قوله :( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) الشرح / ٤.

وممّا فضله الله به أنّ الشيطان لم يسلط عليه في شيء.

وممّا فضله الله به أنّه أمر جبرائيل أن يأمر خازن النّار أن يكشف عن باب من أبواب النّار لينظر إليها.

٣٧

ومما فضله الله تعالى به أنّ ابليس أمر ماردا من الجن يقال له : «الأبيض» أن يأتيه فأتى ، وتمثل بصورة كأنّه يوحى إليه وهو يصلي ، فبعث الله جبرائيل ، فلمّا انصرف النبيّ إذا جبرائيل بينه وبين الشيطان فدفعه جبرائيل بيده ، فوقع من «مكّة» إلى «الهند» فانزل الله فيه :( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) التكوير / ٢١ ، فتلك قوة جبرائيلعليه‌السلام .

وممّا فضله الله تعالى به أنّ جبرائيل أتاه بسورة الأنعام ، ومعه سبعون ألف ملك ـ لهم زجل من التسبيح والتحميد ـ حتّى كادت الأرض ترج فخر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ساجدا.

ومما فضله الله تعالى به أنّ الله تعالى أمر ملائكته يحفظونه من بين يديه ومن خلفه.

ومما فضله الله تعالى به أنّ الشياطين كانوا يختلسون من الأنبياء عند الوحي ، ثمّ تلقي الشياطين على ألسن الكهنة والعرافين ممّا يستمعون من السّماء ، ثمّ يخبرون النّاس بما هو كائن ، فإذا قال نبيّهم : يكون كذا وكذا ، قالوا : قد سمعنا هذا قبل هذا ، فعصم الله تعالى نبيّه (صلواته عليه وآله) وآمنه ، وحرست السماء بالملائكة ، ورميت الشياطين بالشهب ، وحفظت الملائكة محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الوحي فلا يستمعون.

وممّا فضله الله تعالى به أنّه لا يدخل جنّة عدن احد قبله ـ وهي دار الرّحمن وموضع عرشه ـ ، وجنّة عدن قصبة الجنّة وهي مشرفة على الجنان ، وباب جنّة عدن لها مصراعان من زمرد من نور بينهما كما بين المشرق والمغرب.

ومما فضله الله تعالى به أنّه جعلت له ليلة القدر خيرا من ألف شهر يستبشر بها حملة العرش.

٣٨

ومما فضله الله تعالى به أنّه غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وفتح له فتحا يسيرا ، ونصره نصرا عزيزا ، وهداه صراطا مستقيما.

١٧ ـ أخبرنا سيّد الحفّاظ أبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمي ـ فيما كتب إليّ من همدان ـ ، قال : سمعت في «مسند» أحمد بن حنبل ، و «معجم» الطبراني ، باسنادهما عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا محمّد النبيّ الأمين ـ ثلاث مرات ـ ولا نبيّ بعدي ، اوتيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه ، وعلمت كم خزنة النّار؟ وكم حملة العرش؟ ومحو ربّي ، وعوفيت امتي ، فاسمعوا واطيعوا ما دمت فيكم ، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله ، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه.

١٨ ـ قال : وسمعت في «المفاريد» برواية ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، إنّي لا افتخر بالعطاء والنعم ، وإنّما أفتخر بالمعطي والمنعم».

١٩ ـ قال : وفي ـ رواية عائشة ـ قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا أشبه بأبي آدم ، وكان إبراهيم خليل الرّحمن أشبه النّاس بيّ خلقا وخلقا».

٢٠ ـ قال : وفي ـ رواية أنس ـ قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا أوّل من يأخذ بحلقة الجنّة فاقعقعها».

٢١ ـ قال : وفي ـ رواية ابن عمر ـ وهو في «جامع» أبي عيسى ، و «معجم» الطبراني ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا أوّل من تنشق عنه الأرض فأجلس جالسا في قبري فينفتح لي باب الى السماء بحيال رأسي حتّى أنظر إلى العرش ، ثمّ ينفتح لي باب من تحتي إلى الأرض السّابعة فأنظر إلى الثرى ، ثمّ ينفتح لي باب عن يميني فأنظر إلى الجنّة ومنازل أصحابي ، وأنّ الأرض تحرّكت تحتي ، فقلت لها : مالك ، أيتها الأرض؟

٣٩

قالت : إنّ ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي فأكون كما كنت إذ لا شيء فيّ».

٢٢ ـ قال : وفي ـ رواية أبي هريرة ؛ وأبي سعيد ـ قالا : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا أوّل من يوضع له الصراط على النّار فأمر عليه فأدخل الجنّة».

وفضائل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر من أن نحيط بها ، وإنّما أشرنا إلى نبذ منها ليتبرك بيداءة الكتاب ، فمن أراد الاكثار من ذلك فعليه بمجموعي في فضائل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابي الموسوم «بالأربعين» ، وصلّى الله على محمّد وآله وسلّم.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

لم يفرق أبدا بين العبيد والأحرار من ناحية الشخصية الإنسانية ، وجعل التقوى معيارا للتمييز بينهم ، ولذلك أجاز للعبيد أن يتقلّدوا مسئوليات مهمّة ، ويتسنّموا مناصب اجتماعية مهمّة ، حتى أنّ العبيد يمكنهم أن يشغلوا منصب القضاء(١) .

وقد أنيطت بالعبيد في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مراكز هامة وحسّاسة ، ابتداء من قيادة الجيش ، وحتى المناصب الحسّاسة الأخرى.

وقد كان الكثير من كبار صحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبيدا ، أو رقيقا أعتقوا ، وكان الكثير منهم يؤدّون واجبهم كمستشارين ومعاونين لعظماء الإسلام وقادته ، ويمكن ذكر أسماء سلمان وبلال وعمار بن ياسر وقنبر من ضمن هذه القافلة.

وبعد أن انتهت غزوة بني المصطلق تزوّج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجارية عتيقة من هذه القبيلة ، وكان هذا الزواج سببا في إطلاق سراح كلّ أسرى القبيلة.

المادة الرابعة : المعاملة الإنسانية مع العبيد

لقد وردت في الإسلام تعليمات كثيرة حول الرفق بالعبيد ومداراتهم ، حتى أنّها أشركتهم في حياة مالكيهم.

يقول النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل ، وليكسه ممّا يلبس ، ولا يكلفه ما يغلبه ، فإن كان ما يغلبه فليعنه»(٢) .

ويقول عليعليه‌السلام لغلامه قنبر : «أنا أستحيي من ربّي أن أتفضل عليك ، لأنّ رسول الله يقول : ألبسوهم ممّا يلبسون ، وأطعموهم ممّا تأكلون»(٣) .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «وإن كان أبي ليأمرهم ـ أي غلمانه ـ فيقول : كما

__________________

(١) الشرائع ، كتاب القضاء.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ٧٤ ، صفحة ١٤١ ، حديث ١١.

(٣) المصدر السابق ، صفحة ١٤٤ ، حديث ١٩.

٣٤١

أنتم ، فيأتي ، فإن كان ثقيلا قال : بسم الله ، ثمّ عمل معهم»(١) .

لقد كانت معاملة الإسلام مع العبيد في هذه المرحلة الانتقالية حسنة إلى الحدّ الذي أكّد عليها حتى الغرباء عن الإسلام وحمدوها ومجّدوها.

وكنموذج لذلك نذكر ما يقوله «جرجي زيدان» في تأريخ تمدّنه : إنّ الإسلام رحيم بالعبيد كلّ الرحمة ، وقد أوصى نبيّ الإسلام بالعبيد كثيرا ، ومن جملة ما قاله : لا تكلفوا العبد ما لا يطيق ، وأطعموه ممّا تأكلون.

ويقول في موضع آخر : لا تنادوا مماليككم بيا غلام ، ويا جارية ، بل قولوا : يا بني ، ويا ابنتي!

والقرآن أيضا أوصى بالرقيق وصايا رائعة ، فهو يقول : اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، ولا تعاملوا آباءكم وأمّهاتكم وأولي أرحامكم واليتامى والفقراء والجيران ، البعيد منهم والقريب ، والأصدقاء ، والمشرّدين ، والرقيق ، إلّا بالحسنى ، فإنّ الله لا يرضى بالعجب والرضى من النفس(٢) .

المادة الخامسة : أقبح الأعمال بيع الإنسان

يعد بيع العبيد وشراؤهم من أبغض المعاملات في الإسلام ، حتى ورد في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شرّ الناس من باع الناس»(٣) . وهذا التعبير كاف لتوضيح وجهة نظر الإسلام في شأن العبيد ، ويبيّن اتجاه حركة البرامج الإسلامية ، وما تريد تحقيقه والوصول إليه.

والأروع من ذلك أنّ الإسلام قد اعتبر سلب حرية البشر ، وتبديلهم إلى سلعة تباع وتشترى ، من الذنوب التي لا تغفر ، فقد ورد في حديث عن نبيّ الإسلام

__________________

(١) المصدر السابق ، صفحة ١٤٢ ، حديث ١٣.

(٢) تاريخ التمدّن ، المجلد ٤ ، صفحة ٥٤.

(٣) المستدرك ، المجلد ٢ ، كتاب التجارة ، باب ١٩ ، حديث ١.

٣٤٢

الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تعالى غافر كلّ ذنب إلّا من جحد مهرا ، أو اغتصب أجيرا أجره ، أو باع رجلا حرا»(١) .

وطبقا لهذا الحديث فإنّ اغتصاب حقوق النساء ، والعمال ، وسلب حرية البشر ثلاثة ذنوب لا تغفر.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ الإسلام لم يبح الاسترقاق إلّا في مورد أسرى الحرب ، وحتى في هذا المورد لا يكون الاسترقاق إلزاميا ، وكان ذلك في عصر ظهور الإسلام ، غير أنّنا نرى العبودية والاسترقاق متفشّية في الدول الغربية بعد عدّة قرون من ظهور الإسلام حيث كان المستعمرون يشنّون الحملات والهجمات الشرسة على بلدان السود ، ويقبضون على البشر الأحرار ويحوّلونهم إلى رقيق يباعون ويشترون ، وقد بلغ بيع وشراء العبيد حدّا رهيبا ، بحيث كان يباع في كلّ سنة (٠٠٠ ، ٢٠٠) عبدا في بريطانيا أواخر القرن الثامن عشر ، وكانوا يأخذون مائة ألف نسمة من أفريقيا كل عام ، ويرسلونهم إلى أمريكا كعبيد(٢) .

وخلاصة القول : إنّ الذين يعترضون على برنامج الإسلام في مسألة الرقيق قد سمعوا كلاما لم يتأمّلوا فيه ، ولم يطّلعوا الاطلاع الكافي على أصول البرنامج وهدفه ، وهو «تحرير العبيد تدريجيا» ، ومن دون خسائر ، أو إنّهم وقعوا تحت تأثير المغرضين الذين يظنون أنّ هذه نقطة ضعف كبيرة في الإسلام ، وطلبوا لها وزمروا ، وسخّروا لها وسائل الإعلام ، إلّا أنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئا.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ١٠٣ ، صفحة ١٦٨ ، حديث ١١.

(٢) الميزان ، الجزء ٦ ، صفحة ٣٦٨.

٣٤٣

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) )

التّفسير

( إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ) : تستمر هذه الآيات في ترغيب المؤمنين في جهاد أعداء الحق ، وهي ترغّبهم في الجهاد بتعبير رائع بليغ ، فتقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ) .

إنّ التأكيد على مسألة «الإيمان» إشارة إلى أنّ إحدى علامات الإيمان الحقيقي هو جهاد أعداء الحق.

٣٤٤

وعبارة( تَنْصُرُوا اللهَ ) تعني ـ بوضوح ـ نصرة دينه ، ونصرة نبيّه ، وشريعته وتعليماته ، ولذلك وردت نصرة الله إلى جانب نصرة رسوله في بعض آيات القرآن الكريم ، كما نقرأ في الآية (٨) من سورة الحشر :( وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) .

ومع أنّ قدرة الله سبحانه غير محدودة ، ولا قيمة لقدرة المخلوقات حيال قدرته ، غير أنّه يعبّر بنصرة الله ليوضح أهمية الجهاد والدفاع عن دين الله ، ولا يوجد تعبير أعظم من هذا لتبيان أهمية هذا الموضوع.

ولنر ما هو هذا الوعد الذي وعد الله به المجاهدين إذا ما دافعوا عن دينه؟

يقول أوّلا( يَنْصُرْكُمْ ) أمّا كيف يتمّ ذلك؟ فإنّ الطرق كثيرة ، فهو سبحانه يلقي في قلوبكم نور الإيمان ، وفي نفوسكم وأرواحكم التقوى ، وفي إرادتكم القوّة والتصميم أكثر ، وفي أفكاركم الهدوء والاطمئنان.

ومن جانب آخر يرسل الملائكة لمدكم ونصرتكم ، ويغيّر مسار الحوادث لصالحكم ، ويجعل أفئدة الناس تهوي إليكم ، ويجعل كلماتكم نافذة في القلوب ، ويصيّر نشاطاتكم وجهودكم مثمرة. نعم ، إنّ نصرة الله تحيط بالجسم والروح ، من الداخل والخارج.

إلّا أنّه سبحانه يؤكّد على مسألة تثبيت الأقدام من بين كلّ أشكال النصرة ، وذلك لأنّ الثبات أمام العدو أهم رمز للانتصار ، وإنّما يكسب الحرب الذين يصمدون ويستقيمون أكثر ، ولذلك نقرأ في قصة محاربة طالوت ـ القائد العظيم لبني إسرائيل ـ لجالوت ـ المتسلّط الجائر القوي ـ أنّ المؤمنين القليلين الذين كانوا معه عند ما واجهوا جيش العدو الجرار ، قالوا :( رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) .

ونقرأ في الآية التي بعدها :( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ ) .

أجل ، إنّ نتيجة ثبات القدم هي النصر المؤزّر على العدو.

٣٤٥

ولمّا كانت حشود العدو العظيمة ، وأنواع معداتهم وتجهيزاتهم قد تشغل فكر المجاهدين في سبيل الله أحيانا ، فإنّ الآية التالية تضيف :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) (١) .

«تعس» ـ على وزن نحس ـ بمعنى الانزلاق والهوي ، وما فسّره البعض بأنّه الهلاك والانحطاط ، فهو لازمه في الواقع لا معناه.

وعلى كلّ حال ، فإنّ المقارنة بين هذين الفريقين عميقة المعنى جدّا ، فالقرآن يقول في شأن المؤمنين( يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ) وفي شأن الكافرين( أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) .

وبصيغة اللعنة ، ليكون التعبير أبلغ وأكثر جاذبية وتأثيرا.

نعم ، إنّ الكافرين إذا انزلقوا وزلّت أقدامهم ، فليس هناك من يأخذ بأيديهم لينقذهم من الهلكة ، بل إنّهم سينحدرون إلى الهاوية سريعا وبسهولة ، أمّا المؤمنون ، فإنّ الملائكة الرحمة تهب لنجدتهم ونصرتهم ، ويحفظونهم من المنزلقات والمنحدرات ، كما نقرأ ذلك في موضع آخر ، حيث تقول الآية (٣٠) من سورة فصلت :( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) .

إنّ أعمال المؤمنين مباركة ، أمّا أعمال الكافرين فإنّها بائرة ولذلك فهي تزول وتفنى سريعا.

وتبيّن الآية التالية علّة سقوط هؤلاء ، وجعل أعمالهم هباء منثورا ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) .

لقد أنزل الله سبحانه دين التوحيد قبل كلّ شيء ، إلّا أن هؤلاء نبذوه وراء ظهورهم وأقبلوا نحو الشرك.

لقد أمر الله سبحانه بالحق والعدالة ، والعفّة والتقوى ، غير أنّهم أعرضوا عنها جميعا ، واتجهوا صوب الظلم والفسّاد ، بل إنّهم تشمئز قلوبهم إذا ذكر اسم الله تعالى

__________________

(١) «تعسا» مفعول مطلق لفعل مقدّر ، والتقدير : تعسهم تعسا ، وجملة (أضلّ أعمالهم) عطف على هذا الفعل المقدّر ، وكلاهما بصيغة اللعنة ، مثل (قاتلهم الله) ، ومن الواضح أنّ اللعنة من قبل الله تعني وقوعها.

٣٤٦

وحده :( وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) (١) .

وإذا كان هؤلاء يتنفّرون من هذه الأمور ، فمن الطبيعي أن لا يخطوا خطوة في هذا المسير ، ولقد كانت كلّ مساعيهم وجهودهم في مسير الباطل وخدمته ، فمن الطبيعي أيضا أن تحبط كلّ هذه الأعمال.

وجاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «كرهوا ما أنزل الله في حق علي»(٢) .

ومعلوم أنّ التعبير( ما أَنْزَلَ اللهُ ) معنى واسعا ، ومسألة ولاية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أحد مصاديقه الواضحة ، لا أنّ معناه منحصر فيها.

ولمّا كان القرآن الكريم في كثير من الموارد يعرض للظالمين العاصين نماذج محسوسة ، فقد دعاهم هنا أيضا إلى التدبّر في أحوال الماضين ، فقال :( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) ؟

ومن أجل أن لا يظنّ هؤلاء أنّ ذلك المصير المشؤوم كان مختصّا بالأقوام الطاغين الماضين ، فقد أضافت الآية :( وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها ) (٣) .

فلا يظنّوا أنّهم في منأى من العقاب المشابه لذلك العقاب إن هم عملوا أعمالا تشابه أعمال الماضين ، فليسيروا في الأرض ولينظروا آثار الذين من قبلهم ، ثمّ لينظروا مستقبلهم من خلال سنن التأريخ.

والجدير بالانتباه أنّ (دمّر) من مادة (تدمير) ، وهي من الأصل بمعنى الإهلاك والإفناء ، أمّا إذا أتت مع (على) فإنّها تعني إهلاك كلّ شيء حتى الأولاد والأهل والعشيرة والأموال الخاصّة بالإنسان(٤) . وعلى هذا فإنّ هذا التعبير بيان لمصيبة أليمة ، خاصة بملاحظة لفظ (على) الذي يستعمل عادة في مورد التسلط ، وبذلك يصبح معنى الجملة ، إنّ اللهعزوجل قد صبّ عذابه على رؤوس هؤلاء الأقوام

__________________

(١) الزمر ، الآية ٤٥.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٣) ضمير «أمثالها» يعود إلى العاقبة التي تستفاد من الجملة السابقة.

(٤) تفسير روح المعاني ، وروح البيان ، والفخر الرازي.

٣٤٧

وأموالهم وكلّ ما يتعلّق بهم فأفناها جميعا.

وقد بحثنا موضوع «السير في الأرض» ـ والذي يؤكّد عليه القرآن المجيد مرارا كبرنامج توعية مؤثر ـ بصورة مفصّلة في ذيل الآية (١٣٧) من سورة آل عمران ، والآية (٤٥) من سورة الروم.

وتناولت آخر آية ـ من الآيات مورد البحث ـ سبب حماية الله المطلقة للمؤمنين ودفاعه عنهم ، وإهلاكه الكافرين الطغاة ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) (١) .

«المولى» بمعنى الولي والناصر ، وبذلك فإنّ الله سبحانه قد تولّى أمر المؤمنين ودفاعه عنهم ، وإهلاكه الكافرين الطغاة ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ ، مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) (٢) .

«المولى» بمعنى الولي والناصر ، وبذلك فإنّ الله سبحانه قد تولّى أمر المؤمنين ونصرتهم ، أمّا الكافرون فقد أخرجهم من ظل ولايته ، ومن الواضح أنّه تعالى يعين أولئك المستظلين بظل ولايته ، ويدفع عنهم النوائب ، ويزيل عن طريقهم العراقيل ، ويثبّت أقدامهم ، وأخيرا فإنّهم ينالون مرادهم بنصرة الله ومعونته. أمّا أولئك الخارجون عن ولايته فإنّ أعمالهم ستحبط ، وتكون عاقبتهم الهلاك.

وهنا يأتي سؤال ، وهو : إنّ الآية مورد البحث قد ذكرت أنّ الله سبحانه مولى المؤمنين فقط ، في حين أنّه سبحانه وصف في بعض آيات القرآن الأخرى بأنّه مولى الجميع حتى الكافرين ، كما في الآية (٣٠) من سورة سورة يونس حيث تقول :( وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

وتتّضح الإجابة على هذا السؤال بملاحظة نكتة واحدة ، وهي : إنّ ولاية الله العامّة ـ وهي كونها خالقا مدبّرا ـ تعم الجميع ، أمّا الولاية الخاصّة ، وعنايته الخاصة المقترنة بأنواع الحماية والنصرة ، فإنّها لا تشمل إلّا المؤمنين(٣) .

وقال البعض : إنّ هذه الآية أرجى آية في القرآن ، لأنّها أدخلت كلّ المؤمنين ،

__________________

(١ ، ٢) ـ المشار إليه بـ (ذلك) هي عاقبة المؤمنين الحسنة ، وعاقبة الكافرين المشؤومة ، واللتان أشير إليهما في الآيات السابقة.

(٣) فسّر البعض ـ كالآلوسي في روح المعاني ـ «المولى» في الآية مورد البحث بالناصر ، وفي آية سورة يونس وأمثالها. بالمالك

٣٤٨

العالم منهم والجاهل ، الزاهد والراغب ، الصغير والكبير ، المرأة والرجل ، الشاب والكهل ، أدخلتهم تحت حماية الله ورعايته الخاصة ، ولم تستثن حتى المؤمنين العاصين ، فهو سبحانه يظهر رعايته في المواقف الحسّاسة واللحظات الحرجة ، والحوادث والمصائب والنكبات ، وكلّ فرد منّا قد أحسّ بهذه الرعاية طيلة مدة حياته ، وفي التأريخ شواهد كثيرة على ذلك.

وقد ورد في حديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بعد غزوة تحت شجرة وحيدا فحمل عليه مشرك بسيف فقال له : من يخلّصك منّي؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الله» فسقط المشرك ـ فأخذت الكافر رعدة ، وهوى على الأرض ـ السيف ، فأخذه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له : «فمن يخلّصك منّي»؟ قال : لا أحد ، ثمّ أسلم(١).

نعم ، الله مولى الذين آمنوا ، وإنّ الكافرين لا مولى لهم.

* * *

__________________

(١) روح البيان ، المجلد ٨ ، صفحة ٥٠٣.

٣٤٩

الآيات

( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) )

التّفسير

عاقبة المؤمنين والكافرين :

لمّا كانت الآيات السابقة تتحدّث عن الصراع الدائم بين الحق والباطل ، والإيمان والكفر ، فإنّ الآيات مورد البحث تبيّن عاقبة المؤمنين والكفّار من خلال مقارنة واضحة ، وهي بذلك تريد أن توضح أنّ هذين الفريقين لا يختلفان في الحياة الدنيا وحسب ، بل إنّ الاختلاف بينهما سيكون أوسع في الآخرة ، فتقول :( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

٣٥٠

وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) (١) .

صحيح أنّ كلا الفريقين يعيشون في الدنيا ، ويتنعّمون بمواهبها ولذّاتها ، إلّا أنّ الفرق يكمن في أنّ هدف المؤمنين هو القيام بالأعمال الصالحة ، والأعمال المفيدة البنّاءة لجلب رضى الله تعالى. أمّا الكافرون فإنّ هدفهم ينصب على الأكل والشرب والنوم والتمتّع بالذّات الحياة.

المؤمنون يتحرّكون حركة واعية هادفة ، والكافرون يحيون بلا هدف ، ويموتون بلا هدف ، كالأنعام تماما.

المؤمنون يضعون شروطا كثيرة للتمتع بنعم الحياة ، فهم يدقّقون في مشروعية طرق الحصول عليها ، كما يدقّقون كيف ينفقونها ، أمّا الكافرون فإنّهم كالدّواب لا يهمها أن يكون علفها من أرض صاحبها أن يكون مغصوبا ، وسواء كان من حق يتيم أو عجوز بائسة أم لا؟

عند ما يتنعّم المؤمنون بنعمة ، فإنّهم يفكّرون في واهبها ، ويتدبّرون في آياته ، ويشكرونه عليها ، أمّا الكافر الغافل فلا يفكّر في أي شيء لغفلته ، وهو يضيف إلى حمله حملا جديدا من الظلم والذنوب باستمرار ، ويدني نفسه من الهلاك بعد أن تثقله الأوزار ، حاله في ذلك حال الأغنام السمينة ، فهي كلّما تأكل أكثر ، وتسمن أكثر ، تكون أقرب إلى الذبح.

وقال البعض : إنّ الفرق بين المؤمنين والكافرين ، أنّ المؤمن لا يخلو أكله من ثلاث : الورع عند الطلب ، واستعمال الأدب ، والأكل للسبب. والكافر يطلب للنهمة ، ويأكل للشهوة ، وعيشه في غفلة.

وممّا يستحق الانتباه أنّ القرآن الكريم يقول في شأن المؤمنين :( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ ) ويقول في الكافرين( وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) فإنّ التعبير الأوّل يدلّ على احترام المؤمنين وتقديرهم ، وإنّ الله سبحانه يدخلهم

__________________

(١) كما تأكل في محل نصب مفعول مطلق مقدّر ، والتقدير : يأكلون أكلا كما تأكل الأنعام.

٣٥١

الجنّة ، أمّا التعبير الثّاني ، فإنّه يوحي باحتقار الكفّار الذين خرجوا من ولايته ، وعدم الاهتمام بهم.

واستفاد بعض المفسّرين من جملة :( وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) ـ أي محلهم النّار ـ أنّهم الآن في النّار ، لأنّ الجملة ليست بصيغة الفعل المضارع والمستقبل ، وإنّما هي تخبر عن الحال.

والحقيقة كذلك ، لأنّ أعمال هؤلاء وأفكارهم نار بحد ذاتها ، وهم مبتلون بها ، وقد أحاطت بهم جهنّم من كلّ مكان ، وإن كان هؤلاء الذين هم كالأنعام في غفلة ، كما نقرأ ذلك في الآية (٤٩) من سورة التوبة :( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

وفي بعض آيات القرآن الأخرى شبّه أصحاب النّار بالأنعام ، بل هم أضلّ منها :( أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) (١) ، وقد أوردنا في ذيل هذه الآية شرحا مفصّلا.

ومن أجل إكمال هذا الهدف تقارن الآية التالية بين مشركي مكّة وعبدة الأوثان الماضين ، وبعبارة أوضح ، فإنّها تهدّدهم تهديدا شديدا ، وتؤكّد ضمنيا على بعض جرائمهم الشنيعة التي تدلّ على جواز قتالهم فتقول :( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ ) .

فلا يظنّ هؤلاء أنّ الدنيا مستوسقة لهم إلى درجة أنّهم اجترؤوا على إخراج أشرف رسل الله من أقدس المدن ، فإنّ الأمر لا يدوم كذلك ، فهم بالقياس إلى قوم عاد وثمود والفراعنة ، وجيش أبرهة موجودات ضعيفة عاجزة ، والله قادر على تدميرهم بكلّ سهولة ، والقضاء عليهم يسير على الله سبحانه.

وجاء في رواية عن ابن عباس : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج من مكّة إلى غار ثور ، توجّه إلى مكّة وقال : «أنت أحبّ البلاد إلى الله ، وأنت أحبّ البلاد إليّ ، ولو لا المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منك» ، فنزلت الآية أعلاه تبشّر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٧٩.

٣٥٢

بنصر الله ، وتهدّد الأعداء بالعذاب والعقاب(١) .

وطبقا لسبب النّزول هذا تكون الآية مكيّة ، لكن يبدو أنّ سبب النّزول هذا يتعلّق بالآية (٨٥) من سورة القصص ، وقد ذكره كثير من المفسّرين هناك ، فهو ينسجم مع تلك الآية أكثر ، إذ تقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) (٢) .

والملفت للنظر أنّ الآية نسبت الإخراج إلى نفس مكّة ، في حين أنّ المراد أهلها ، وهذه كناية لطيفة عن تسلّط فئة معيّنة ، على مقدرات المدينة ، وقد ورد نظير ذلك في مواضع أخرى من القرآن المجيد.

ثمّ إنّ التعبير بالقرية ـ وكما قلنا ذلك مرارا ـ يطلق على كلّ مدينة وأرض عامرة مسكونة ، ولا يخص المعنى المتعارف للقرية.

وتطرح آخر الآيات ـ مورد البحث ـ مقارنة أخرى بين المؤمنين والكفار بين فئتين تختلفان في كلّ شيء ، فإحداهما مؤمنة تعمل الصالحات ، وتحيا الاخرى حياة حيوانية بكلّ معنى الكلمة بين فريقين ، أحدهما مستظل بظل ولاية الله سبحانه ، والآخر لا مولى له ولا ناصر ، فتقول :( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) ؟

إنّ الفريق الأوّل قد اختاروا طريقهم عن معرفة صحيحة ، ورؤية واقعية ، وعن يقين ودليل وبرهان قطعي ، وهم يرون طريقهم وهدفهم بوضوح ، ويسيرون نحوه بسرعة.

أمّا الفريق الثّاني فقد ابتلوا بسوء التشخيص ، وعدم إدراك الواقع ، وظلمة المسير والهدف ، فهم في ظلمات الأوهام حائرون. والعامل الأساس في هذه الحيرة والضلالة هو اتباع الهوى والشهوات ، لأنّ الهوى والشهوات تلقي الحجب

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٠٥٥.

(٢) لمزيد من التفصيل حول هذا المطلب يراجع تفسير الآية (٨٥) من سورة القصص.

٣٥٣

على عقل الإنسان وفكره ، فتصوّر له القبيح حسنا ، كما نرى أناسا يفخرون بأعمالهم التي يندى لها الجبين ، وهي وصمة عار في جباههم ، كما جاء ذلك في الآية (١٠٣) من سورة الكهف :( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ) .

«البينة» تعني الدليل الواضح الجلي ، وهي هنا إشارة إلى القرآن ، ومعاجز الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والدلائل العقلية الأخرى.

ومن الواضح أنّ الاستفهام في جملة :( أَفَمَنْ كانَ ) استفهام إنكاري ، أي إنّ هذين الفريقين لا يتساويان أبدا.

ولكن من الذي يزيّن أعمال السوء في أنظار عبدة الهوى ومتبعيه؟ أهو الله سبحانه ، أم هم أنفسهم ، أم الشياطين؟

ينبغي أن يقال : إنّها تصح جميعا ، لأنّ التزيين نسب إلى الثلاثة في آيات القرآن ، فتقول الآية (٤) من سورة النمل :( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ ) .

وجاء في آيات عديدة أخرى ، ومن جملتها الآية (٣٨) من سورة العنكبوت ، التي تقول :( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) .

وظاهر الآية مورد البحث ، وبملاحظة الجملة :( وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) أنّ هذا التزيين ناشئ عن اتباع الهوى ، وقضية كون الهوى والشهوات تسلب الإنسان القدرة على الحس والتشخيص والإدراك الصحيح للحقائق ، قضية يمكن إدراكها بوضوح.

إنّ نسبة التزيين إلى الشيطان ـ طبعا ـ صحيحة أيضا ، لأنّه هو الذي ينصب المكائد ويوسوس للإنسان أن يلجها ، ويزيّن له اتباع الهوى.

وأمّا نسبته إلى الله سبحانه فلأنّه مسبب الأسباب ، وإليه يرجع كلّ سبب ، فهو الذي أعطى النّار الأحراق ، ومنح الهوى قدرة تغطية الحقائق وإلقاء الحجب عليها

٣٥٤

لئلا يدركها من يتبعه ، وقد أظهر هذا التأثير وأعلنه من قبل ، ولذلك فإنّ أصل المسؤولية يرجع إلى نفس الإنسان.

ويعتقد البعض أنّ جملة :( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) إشارة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجملة التالية ناظرة إلى كفار مكّة ، غير أنّ الظاهر هو أنّ للآية معنى واسعا ، وهذا من مصاديقه.

* * *

٣٥٥

الآية

( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) )

التّفسير

وصف آخر للجنّة :

إنّ هذه الآية وصف لمصير كلّ من المؤمنين والكافرين ، فالفئة الأولى الذين يعملون الصالحات ، والثانية زيّن لهم سوء أعمالهم.

وقد رفعت هذه الآية الغطاء عن ستة أنواع من نعم أهل النعيم ، وعن نوعين من أنواع العذاب الأليم لأصحاب الجحيم ، وهي تحدد عاقبة كلا الفريقين وتوضحها.

تتحدث الآية عن أربعة أنهار في الجنّة ، لكلّ منها سائله ومحتواه الخاص ، ثمّ تتحدث عن فواكه الجنّة ، وأخيرا عن بعض المواهب المعنوية.

٣٥٦

تقول الآية أوّلا :( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) (١) .

«الآسن» يعني النتن ، وبناء على هذا ، فإنّ( ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) تعني الماء الذي لا يتغيّر طعمه ورائحته لطول بقائه وغيره ذلك ، وهذا أوّل نهر من أنهار الجنّة ، وفيه ماء زلال جار طيب الطعم والرائحة.

ثمّ تضيف :( وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ) وذلك أنّ الجنّة مكان لا يعتريه الفساد ، ولا تتغيّر أطعمة الجنّة بمرور الزمن ، وإنّما تتغيّر الأطعمة في هذه الحياة الدنيا ، لوجود أنواع الميكروبات التي تفسد المواد الغذائية بسرعة.

ثمّ تطرّقت إلى ثالث نهر من أنهار الجنّة ، فقالت :( وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) .

وأخيرا تبيّن الآية رابع أنهار الجنّة بأنّه :( وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ) .

وعلاوة على هذه الأنهار المختلفة التي خلق كلّ منها لغرض ، فقد تحدّثت الآية عن فواكه الجنّة في الموهبة الخامسة ، فقالت الآية :( وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) (٢) فستوضع بين أيديهم وتحت تصرفهم كلّ الثمرات والفواكه المتنوّعة الطعم والرائحة ، سواء التي يمكن تصوّرها ، أو التي لا يمكن أن تخطر على أذهاننا اليوم ويصعب تصوّرها.

وأخيرا تتحدث عن الموهبة السادسة التي تختلف عن المواهب المادية السابقة ، إذ أنّ هذه الهبة معنوية روحية ، فتقول :( وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) إذ ستمحو رحمته الواسعة كل هفواتهم وسقطاتهم ، وسيمنحهم الله الاطمئنان والهدوء والرضى ، ويجعلهم من المرضيين عنده والمحبّبين إليه ، وسيكونون مصداق لقوله

__________________

(١) للمفسّرين بحوث كثيرة حول تركيب هذه الآية الشريفة ، والأنسب منها جميعا أن يقال : (مثل الجنّة) مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير : مثل الجنّة التي وعد المتقون جنّة فيها أنهار ، وهذه الآية تشبه ـ في الحقيقة ـ الآية (٣٥) من سورة الرعد التي تقول :( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) .

(٢) للجملة محذوف ، وللتقدير : لهم فيها أنواع من كل الثمرات.

٣٥٧

تعالى :( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١) .

وبذلك فإنّ المؤمنين الطاهرين الصالحين يتمتّعون بأنواع المواهب المادية والمعنوية في الجنان الخالدة ، وفي جوار رحمة الله.

ولنر الآن ماذا سيكون مصير الفريق المقابل للمؤمنين ، أي الكفار؟

تقول الآية متابعة لحديثها :( كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) (٢) .

«الأمعاء» جمع «معي» ـ على وزن سعي ـ و «معا» ـ على وزن غنا ـ وتطلق أحيانا على كلّ ما في البطن ، وتقطيعها إشارة إلى شدّة حرارة هذا الشراب الجهنّمي المرعب ، وقوّة إحراقه.

* * *

ملاحظات

١ ـ أنهار الجنّة الأربعة

يستفاد من آيات القرآن المجيد جيدا أنّ في الجنّة أنهارا وعيونا مختلفة ، ولكلّ منها فائدة ولذّة خاصّة ، وقد ورد ذكر أربعة نماذج منها في الآية المذكورة ، وستأتي نماذج أخرى في سورة الدهر ، وسنذكرها في تفسيرها ، إن شاء الله تعالى.

إنّ التعبير بـ «الأنهار» في شأن هذه الأنواع الأربعة ، يوحي بأنّ كلا منها ليس نهرا واحدا ، بل أنهار عديدة.

لقد قلنا مرارا : إنّ نعم الجنّة ليست بالشيء الذي يمكن التحدّث عنه بألفاظ محادثاتنا اليومية في حياتنا الدنيا ، فإنّ هذه الألفاظ قاصرة عن أن تجسدها

__________________

(١) سورة المائدة ، ١١٩.

(٢) لقد وردت أبحاث كثيرة في تركيب هذه الآية أيضا ، والأنسب منها جميعا أنّ للآية تقديرا هو : أفمن هو خالد في الجنّة التي هذه صفاتها كمن هو خالد في النّار؟

٣٥٨

تماما ، أو أن تعبر عنها بما يعكس حقيقتها ، وكلّ ما تقدر عليه هو أن ترسم في الأذهان شبحا باهت اللون عن تلك الحقائق العظيمة.

لقد أشارت الآية ـ مورد البحث ـ إلى أنهار الماء واللبن والخمر والعسل ، إذ يمكن أن يكون الأوّل لرفع العطش ، وأمّا الثّاني كغذاء ، والثّالث يبعث النشاط والحيوية ، والرابعة يوجد القوّة واللذّة.

والطريف أنّه يستفاد من آيات القرآن الأخرى أنّ كلّ أصحاب الجنّة لا يشربون من كل هذه الأشربة ، بل أنّ لها مراتب يشرب أصحاب كلّ مرتبة من الأشربة الموجودة في درجتهم ، فنقرأ في الآية (٢٨) من سورة المطففين :( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) .

٢ ـ الشراب الطهور

لا يخفى أنّ خمر الجنّة وشرابها لا علاقة له بخمر الدنيا الملوّث مطلقا ، بل هو كما يصفه القرآن في موضع آخر :( لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ ) (١) ، وليس فيه إلّا العقل والنشاط واللذّة الروحية.

٣ ـ أشربة لا يعتريها الفساد

جاء في وصف أنهار الجنّة مرة أنّ ماءها( غَيْرِ آسِنٍ ) ، وأخرى( لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ) ، وهو يوحي بأنّ أشربه الجنّة وأطعمتها تبقى على طراوتها وجدتها ، ولم لا تكون كذلك؟ وإنّما تتغيّر الأطعمة وتفسد بفعل الميكروبات المفسدة ، ولولاها فإنّ أطعمة الدنيا تبقى هي الأخرى على حالتها الأولى ، ولما لم يكن للموجودات المفسدة مكان في الجنّة ، فإنّ كلّ أشيائها صافية ونظيفة وطرية طازجة دائما.

__________________

(١) سورة الصافات ، ٤٧.

٣٥٩

٤ ـ لماذا الفواكه؟

لقد أكّدت الآية مورد البحث ، وكثير من آيات القرآن الأخرى على الفواكه من بين الأطعمة ، الفواكه المتنوّعة المذاق ، وهذا يبيّن أنّ الفاكهة أهم أغذية الجنّة ، وحتى في هذه الدنيا ، فإنّ الفاكهة أفضل وأسلم غذاء للإنسان.

٥ ـ جملة( سُقُوا ) بصيغة الفعل المبني للمجهول ، توضح أنّ أصحاب الجحيم يسقون الماء الحميم بالقوة ، لا بإرادتهم ، وبدل الارتواء في تلك النّار المحرقة فإنّه يقطّع أمعاءهم ، وكما هي طبيعة الجحيم ، فإنّهم يرجعون إلى حالتهم الأولى ، حيث لا موت هناك.

* * *

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592