الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 184485 / تحميل: 6219
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) )

التّفسير

ظهرت علامات القيامة!

تعكس هذه الآيات صورة عن وضع المنافقين ، وطريق تعاملهم مع الوحي الإلهي ، وكلمات النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومسألة قتال أعداء الإسلام ومحاربتهم.

وقد ورد الحديث حول المنافقين في السور المدنية كثيرا ، في حين لا نرى أثرا

٣٦١

للحديث حولهم في السور المكية ، وذلك لأنّ مسألة النفاق ظهرت بعد انتصار الإسلام وتسلّمه السلطة والقوّة ، حيث أصبح المشركون في موقع ضعف وانهيار ، بحيث لم يكن باستطاعتهم إظهار مخالفتهم ، ولذلك اضطروا إلى التلبّس بالإسلام ليأمنوا غضب المسلمين الحقيقيين ، أمّا في الباطن فإنّهم لم يألوا جهدا في التآمر ضد الإسلام ، وكان يهود المدينة الذين كانوا يتمتّعون بقوة عسكرية واقتصادية لا يستهان بها ، يعتبرون سندا للمنافقين.

وعلى أي حال ، فقد توغّل هؤلاء بين المسلمين المخلصين ، وكانوا يحضرون عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشاركون في صلاة الجمعة ، إلّا أنّ تعاملهم تجاه آيات القرآن كان يفضح ما تنطوي عليه سرائرهم وقلوبهم المريضة.

تقول الآية الأولى من الآيات مورد البحث :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ) وكان مرادهم من ذلك الرجل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ تعبير هؤلاء في شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلماته البليغة ، كان من القبح والبذاءة إلى درجة تدل على أنّهم لم يؤمنوا بالوحي السماوي قط.

«آنفا» من مادة (أنف) ، ولما كان للأنف بروزا متميّزا في وجه الإنسان ، فإنّ هذه الكلمة تستعمل في شأن أشراف القوم ، وكذلك تستعمل في مورد الزمان المتقدم على زمان الحال ، كما جاء في الآية مورد البحث.

ثمّ إنّ التعبير بـ( لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) يوحي بأنّ إحدى علامات المؤمن امتلاكه الوعي الكافي ، فكما أنّ العلم مصدر الإيمان ، فكذلك هو وليد الإيمان وحاصله.

إلّا أنّ القرآن الكريم قد أجابهم جوابا قاطعا ، فقال : إنّ كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن غامضا ولا معقّدا ، بل( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الجملة الثّانية علّة للجملة الاولى ، أي إنّ اتباع الهوى يسلب الإنسان القدرة على إدراك الحقائق وتمييزها ، ويلقي الحجاب على قلبه ، بحيث

٣٦٢

أنّ قلوب متبعي الهوى تصبح كالظرف المختوم ، فلا يدخله شيء ، ولا يخرج منه شيء.

ويقف المؤمنون الحقيقيون في الطرف المقابل لهؤلاء ، وعنهم تتحدّث الآية التالية فتقول :( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ) .

نعم ، لقد خطا هؤلاء الخطوة الأولى بأنفسهم ، واستخدموا عقلهم وفطرتهم في هذا المسير ، ثمّ أخذ الله سبحانه بيدهم كما وعدهم من قبل ، فزادهم هدى إلى هداهم ، وألقى نور الإيمان في قلوبهم ، وشرح صدورهم ورزقهم حسن الفكرة والنظر. هذا من الناحية العقائدية.

وأمّا من الناحية العملية فإنّه سبحانه يحيي فيهم روح التقوى ، حتى أنّهم يشمئزون من الذنب والمعصية ، ويعشقون الطاعة والعمل الصالح.

إنّ هؤلاء يقفون من الناحيتين في الطرف المقابل للمنافقين الذين أشارت إليهم الآية السابقة ، فقد طبع على قلوبهم فلا يفقهون شيئا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّهم يتّبعون أهواءهم في العمل ، أمّا المؤمنون فإنّ هدايتهم تعظم يوما بعد يوم ، وتتضاعف تقواهم في مجال العمل.

وتحذّر الآية التالية أولئك المستهزئين الذين لا إيمان لهم ، فتقول :( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ) .

أجل ، إنّ هؤلاء لم يذعنوا للحق حيث كان الإيمان واجبا عليهم ، ومفيدا لهم ، بل كانوا في طغيانهم يعمهون ، وبآيات الله يستهزئون ، غير أنّهم يوم يرون الحوادث المرعبة وبداية القيامة تهزّ العالم وتزلزله ، يصيبهم الفزع ويظهرون خضوعهم ويؤمنون ، ولا ينفعهم يومئذ إيمانهم وخضوعهم.

إنّ هذه العبارة تشبه تماما أن نقول لإنسان : أتنتظر حتى يشرف بك مرضك على الموت ، ولا ينفع حينئذ علاج ، ثمّ تدعو الطبيب وتأتي بالدواء؟ انهض واسرع إلى المعالجة وتناول الدواء قبل أن تفقد هذه الفرصة ، فإنّ السعي الآن ذو فائدة ،

٣٦٣

وبعد اليوم لا ينفع.

«الأشراط» جمع (شرط) ، وهي العلامة ، وعلى هذا فإنّ أشراط الساعة إشارة إلى علامات اقتراب القيامة.

وللمفسرين أقوال كثيرة حول المراد من علامات اقتراب القيامة هنا ، حتى كتبت رسائل مختصرة ومفصّلة ، في هذا الباب. إلّا أنّ الكثير يعتقدون أنّ المراد من «أشراط الساعة» في الآية ـ مورد البحث ـ هو ظهور شخص النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويشهد لذلك الحديث المروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضمّ إصبعيه السبابة والوسطى(١) .

وعدّ البعض مسألة «شقّ القمر» ، وقسما آخر من حوادث عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أشراط الساعة أيضا.

لقد وردت أحاديث عديدة في هذا الباب ، وقد اعتبرت شيوع كثير من المعاصي بين الناس بالذات من علامات اقتراب القيامة ، كالحديث الذي يرويه «الفتال النيسابوري» (ره) في روضة الواعظين ، عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويشرب الخمر ، ويفشو الزنا»(٢) .

بل ، حتى الحوادث المهمّة والمؤثرة ، كقيام المهدي ـ أرواحنا له الفداء ـ عدّت من أشراط الساعة.

لكن ينبغي أن نذكر أنّنا نبحث تارة في أشراط الساعة بصورة مطلقة ، فنسأل : ما هي علامات اقتراب القيامة؟ وأخرى نبحث في مورد خصوص الآية. والمطلب في مورد الآية هو ما قلناه. وأمّا حول علامات اقتراب القيامة بصورة مطلقة فقد وردت بحوث وروايات كثيرة في الكتب الإسلامية المعروفة ، وسنشير إليها فيما يأتي(٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ، تفسير القرطبي ، تفسير في ظلال القرآن ، وتفاسير أخرى ، في ذيل الآيات مورد البحث ، بتفاوت يسير في التعبير.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٣٧.

(٣) يتّضح ممّا قلناه أنّ ليس المراد من جملة : (فقد جاء أشراطها) تحقق كلّ علامات القيامة وظهورها في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل المراد أنّ بعضها قد ظهر ، وهو يخبر عن اقتراب القيامة ، وإنّ كانت بعض الأشراط ستتحقق وتتّضح فيما بعد.

٣٦٤

هل أن ظهور النبي من علامات قرب القيامة؟

يطرح هنا سؤال ، وهو : كيف عدوا ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علامات اقتراب القيامة ، وقد مرّ إلى الآن خمسة عشر قرنا ولا أثر للقيامة؟

والإجابة عن هذا السؤال تتّضح بملاحظة واحدة ، وهي أنّنا يجب أن نقارن بين ما مرّ من الدنيا وما بقي منها ، وسيظهر من خلال هذه المقارنة أن ما بقي من عمر الدنيا قليل جدا ، وهو سريع الانقضاء ، كما ورد في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه كان يخطب في أصحابه قبيل الغروب ، فقال : «والذي نفس محمّد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلّا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه ، وما بقي منه إلّا اليسير»(١) .

وتقول آخر آية من هذه الآيات وكاستخلاص لنتيجة البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول الإيمان والكفر ، ومصير المؤمنين والكفّار :( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) أي : اثبت على خط التوحيد ، فإنّه الدواء الشافي ، واعلم أنّ أفضل وسيلة للنجاة هو التوحيد الذي بيّنت الآيات السالفة آثاره.

وبناء على هذا ، فلا يعني هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عالما بالتوحيد بل المراد الاستمرار في هذا الخط ، وهذا يشبه تماما ما ذكروه في تفسير الآية :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) في سورة الحمد ، بأنّها لا تعني عدم الهداية من قبل ، بل تعني : ثبّتنا على خط الهداية.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد التدبّر في أمر التوحيد أكثر ، والارتقاء إلى المقامات الأسمى ، حيث أنّه كلمّا تدبّر البشر فيه أكثر ، وطالعوا آيات الله بدقّة أكبر ، فإنّهم سيصلون إلى مراتب أرقى ، والتدبّر بما قيل في الآيات السالفة في مورد الإيمان والكفر ، عامل يؤثر بحدّ ذاته في زيادة الإيمان والكفر.

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ٤٨.

٣٦٥

والتّفسير الثّالث أنّ المراد : الجوانب العملية للتوحيد ، أي : اعلم أنّ الملجأ والمأوى الوحيد في العالم هو الله تعالى ، فالتجئ إليه ، ولا تطلب حل معضلاتك إلّا منه ، ولا تخف سيل المشاكل ، ولا تخش كثرة الأعداء.

ولا تنافي بين هذه التفاسير الثلاثة ، فمن الممكن أن تجمع في معنى الآية.

وبعد هذه المسألة العقائدية ، تعود الآية إلى مسألة التقوى والعفّة عن المعصية ، فتقول :( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) .

لا يخفى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرتكب ذنبا قط بحكم مقام العصمة ، وأمثال هذه التعابير إشارة إلى ترك الأولى ، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ، أو إلى أنّه قدوة للمسلمين.

وجاء في حديث : أنّ حذيفة بن اليمان يقول : كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي ، فقلت : يا رسول الله إنّي لأخشى أن يدخلني لساني في النّار ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأين أنت من الاستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة»(١) . وجاء في بعض الروايات أنّه كان يستغفر في اليوم سبعين مرّة.

إذا كان الآخرون يستغفرون ممّا ارتكبوا من المعاصي والذنوب ، فإنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر الله من تلك اللحظة التي شغل فيها عن ذكره ، أو أنّه ترك فعل الأحسن وفعل الحسن.

وهنا نكتة جديرة بالانتباه ، وهي أنّ الله سبحانه قد شفع للمؤمنين والمؤمنات ، وأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستغفر لهم لتسعهم رحمته ، ومن هنا يتبيّن عمق مسألة «الشفاعة» في الدنيا والآخرة ، وكذلك تتبيّن أهمية التوسّل وكونه مشروعا.

ويقول سبحانه في ذيل الآية ، وكتبيان للعلّة( وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ ) فهو يعلم ظاهركم وباطنكم ، كتمانكم وعلانيتكم ، سرّكم ونجواكم ، بل ويعلم حتى نيّاتكم ، وما توسوس به أنفسكم ، ويخطر على أذهانكم ، وما يجري في ضمائركم ،

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ١٠٢ ، ذيل الآيات مورد البحث.

٣٦٦

ويعلم حركاتكم وسكناتكم ، ولهذا وجب عليكم التوجّه إليه ورفع الأكف بين يديهو وطلب العفو والمغفرة والرحمة منه.

«المتقلّب» : هو المكان الذي يكثر التردّد عليه ، و «المثوى» هو محل الاستقرار(١) .

والظاهر أنّ لهاتين الكلمتين معنى واسعا يشمل كلّ حركات ابن آدم وسكناته ، سواء التي في الدنيا أم في الآخرة ، في فترة كونه جنينا أم كونه من سكان القبور ، وإن كان كثير من المفسّرين قد ذكر لهما معاني محددة :

فقال بعضهم : إنّ المراد حركة الإنسان في النهار ، وسكونه في الليل.

وقال آخرون : إنّ المراد مسير الإنسان في الحياة الدنيا ، واستقراره في الآخرة.

وقال بعض آخر : إنّ المراد تقلّب الإنسان في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، وثباته في القبر.

وأخيرا ذكر البعض أنّ المراد : حركاته في السفر ، وسكناته في الحضر.

ولكن كما قلنا ، فإنّ للآية معنى واسعا يشمل كلّ هذه المعاني.

* * *

بحث

ما هي أشراط الساعة؟

قلنا سابقا : إنّ الأشراط جمع شرط ، وهي العلامة ، ويقال لعلامات اقتراب القيامة : أشراط الساعة ، وقد بحثت كثيرا في مصادر الشيعة والسنّة ، ولم يشر القرآن إليها إلّا في هذه الآية.

ومن أجمع الأحاديث وأكثرها تفصيلا في هذا الباب ، الحديث الذي رواه ابن

__________________

(١) بناء على هذا ، فإنّ (متقلّب) اسم مفعول جاء هنا بمعنى المكان ، إلّا أنّ جماعة يعتبرونه مصدرا ميميا يعني الانتقال من حال الى حال. غير أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب بملاحظة قرينة مقابلته بالمثوى الذي لا ريب في كونه اسم مكان.

٣٦٧

عباس عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضية حجّة الوداع ، وهو يعلّمنا كثيرا من المسائل ، ويحتوي على نكات ودقائق كثيرة ، ولهذا نورده كاملا :

قال ابن عباس : حججنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة الوداع وهي آخر حجّة حجّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ـ فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال : «ألا أخبركم بأشراط الساعة»؟ فكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رحمة الله عليه فقال : بلى يا رسول الله.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلوات ، واتباع الشهوات ، والميل مع الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يليهم أمراء جورة ، ووزراء فسقة ، وعرفاء ظلمة ، وأمناء خونة».

فقال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يكون المنكر معروفا ، والمعروف منكرا ، ويؤتمن الخائن ، ويخوّن الأمين ، ويصدّق الكاذب ، ويكذّب الصادق».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها تكون إمارة النساء ، ومشاورة الإماء ، وقعود الصبيان على المنابر ، ويكون الكذب ظرفا ، والزكاة مغرما ، والفيء مغنما ، ويجفو الرجل والديه ويبرّ صديقه ، ويطلع الكوكب المذنب».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة [ويبذل كل منهما قصارى جهد خارج المنزل لتحصيل المال] ويكون

٣٦٨

المطر غيضا ، ويغيض الكرام غيضا ، ويحتقر الرجل المعسر ، فعندها تقارب الأسواق ، قال هذا : لم أبع شيئا ، وقال هذا : لم أربح شيئا ، فلا ترى إلّا ذاما لله».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها يليهم أقوام إن تكلّموا قتلوهم ، وإن سكتوا استباحوهم ، ليستأثرون بفيئهم ، وليطؤن حرمتهم ، وليسفكن دماءهم ، وليملؤن قلوبهم دغلا ورعبا ، فلا تراهم إلّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين».

فقال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها يؤتى بشيء من المشرق ، وشيء من المغرب [فقوانين من الشرق ، وقوانين من الغرب] يلون أمّتي ، فالويل لضعفاء أمّتي منهم ، والويل لهم من الله ، لا يرحمون صغيرا ، ولا يوقّرون كبيرا ، ولا يتجافون عن مسيء ، جثّتهم جثة الآدميين ، وقلوبهم قلوب الشياطين».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها ، وتشبه الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، وتركب ذوات الفروج السروج [ويظهرن أنفسهن] فعليهن من أمّتي لعنة الله».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : إنّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف الكنائس وتحلى المصاحف [دون أن يعمل بها] وتطول المنارات ، وتكثر الصفوف ، قلوب متباغضة ، وألسن مختلفة».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تحلّى ذكور أمّتي بالذهب ، ويلبسون الحرير والديباج ، ويتّخذون جلود النمور صفافا».

٣٦٩

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يظهر الزنا ، ويتعاملون بالعينة والرشا ، ويوضع الدين وترفع الدنيا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يكثر الطلاق ، فلا يقام لله حد ، ولن يضرّوا الله شيئا [وإنّما يضرّون أنفسهم]».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها تظهر القينات والمعازف ، وتليهم أشرار أمّتي».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : وعندها يحج أغنياء أمّتي للنزهة ، ويحج أوساطها للتجارة ، ويحج فقراؤهم للرياء والسمعة ، فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير الله ، ويتّخذونه مزامير ، ويكون أقوام يتفقّهون لغير الله ، ويكثر أولاد الزنا ، ويتغنّون بالقرآن ، ويتهافتون بالدنيا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : ذاك إذا انتهكت المحارم ، واكتسبت المآثم ، وسلّط الأشرار على الأخيار ، ويفشو الكذب ، وتظهر اللجاجة ، وتفشو الفاقة ، ويتباهون في اللباس ، ويمطرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكوبة والمعازف ، وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذلّ من الأمة ، ويظهر قرّاؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم ، فأولئك يدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها لا يخشى الغني على الفقير ،

٣٧٠

حتى أنّ السائل يسأل في الناس فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفه شيئا».

قال سلمان : وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : «إي والذي نفسي بيده. يا سلمان : فعندها يتكلم الرويبضة».

قال سلمان : ما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي وأمّي؟

قال : «يتكلّم في أمر العامة من لم يكن يتكلّم ، فلم يلبثوا إلّا قليلا حتى تخور الأرض خورة ، فلا يظن كلّ قوم إلّا أنّها خارت في ناحيتهم ، فيمكثون ما شاء الله ، ثمّ يمكثون في مكثهم ، فتلقي لهم الأرض أفلاذ أكبادها» قال : «ذهبا وفضة» ، ثمّ أومأ بيده إلى الأساطين ، فقال : مثل هذا ، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة ـ ويحل أمر الله ـ فهذا يعني معنى قوله :( فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ) (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، وتفسير الصافي ، ذيل الآية مورد البحث.

٣٧١

الآيات

( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) )

التّفسير

يخافون حتى من اسم الجهاد!

تبيّن هذه الآيات المواقف المختلفة للمؤمنين والمنافقين تجاه الأمر بالجهاد ، تكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول هذين الفريقين.

٣٧٢

تقول الآية الأولى :( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ) سورة يكون فيها أمر بالجهاد ، يوضح واجبنا تجاه الأعداء القساة الجلّادين الذين لا منطق لهم سورة تبعث آياتها نور الهداية في قلوبنا ، وتضيء أرواحنا بنورها الوهّاج ، هذا حال المؤمنين.

وأمّا المنافقون :( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) .

فعند سماع اسم الحرب يصيبهم الهلع ، ويضطرب كيانهم أجمع ، وتتوقف عقولهم عن التفكير ، وتتسمّر عيونهم ، وينظرون إليك كمن يوشك على الموت ، وهذا أبلغ وأروع تعبير عن حال المنافقين الجبناء الخائفين.

إنّ سبب اختلاف تعامل المؤمنين والمنافقين مع أمر الجهاد ، ينبع من أن الفريق الأوّل قد علقوا آمالهم بالله سبحانه لإيمانهم القوي به ، فهم يرجون عنايته ولطفه ونصرته ، ولا خوف لديهم من الشهادة في سبيله.

إنّ ميدان الجهاد بالنسبة إلى هؤلاء ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم ، ميدان الشرف والفضيلة ، ميدان تفجّر الاستعدادت والقابليات ، وهو ميدان الثبات والمقاومة والإنتصار ، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان.

إلّا أنّه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة ، ميدان هزيمة ومفارقة لذائذ الدنيا ، وهو أخيرا ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض!

والمراد من «السورة المحكمة» ـ باعتقاد بعض المفسّرين ـ هي السور التي ذكرت فيها مسألة الجهاد. لكن لا دليل على هذا التّفسير ، بل الظاهر أنّ «المحكم» هنا بمعنى المستحكم والثابت والقاطع ، والخالي من أي غموض أو إبهام ، حيث يقع المتشابه في مقابلة أحيانا ، ولمّا كانت آيات الجهاد تتمتّع عادة بحزم استثنائي ، فإنّها تنسجم مع مفهوم هذه اللفظ أكثر ، إلّا أنّها ليست منحصرة فيه.

والتعبير بـ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) تعبير يستعمل في لسان القرآن في شأن

٣٧٣

المنافقين عادة ، وما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد ضعفاء الإيمان لا ينسجم مع سائر آيات القرآن ، بل ولا مع الآيات السابقة لهذه الآيات والتي بعدها ، التي تتحدّث جميعا عن المنافقين.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تضيف في النهاية جملة قصيرة ، فتقول :( فَأَوْلى لَهُمْ ) .

إنّ جملة( فَأَوْلى لَهُمْ ) تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة ، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر(١) .

وفسّرها البعض بأنّها تعني : الموت أولى لهم ، ولا مانع من الجمع بينها كما أوردنا في تفسير الآية.

وتضيف الآية التالية :( طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) (٢) .

إنّ التعبير بـ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) يمكن أن يكون في مقابل الكلمات الهزيلة المنكرة التي كان يتفوّه بها المنافقون بعد نزول آيات الجهاد ، فقد كانوا يقولون تارة( لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ) (٣) ، وأخرى :( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) (٤) ، وثالثة كانوا يقولون :( هَلُمَّ إِلَيْنا ) (٥) ، من أجل إضعاف المؤمنين وإعاقتهم عن التوجّه إلى ميدان الجهاد.

ولم يكونوا يكتفون بعدم ترغيب الناس في أمر الجهاد ، بل كانوا يبذلون قصارى جهودهم من أجل صدّهم عن الجهاد ، أو تثبيط معنوياتهم وعزائمهم على الأقل.

ثمّ تضيف الآية :( فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) وسيرفع

__________________

(١) اعتقد جماعة أنّ معنى الجملة يصبح : يليه مكروه ، وهو يعادل معنى ويل لهم.

(٢) (طاعة) مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير : طاعة وقول معروف أمثل لهم ، واعتبرها البعض خبرا لمبتدأ محذوف ، وكان التقدير : أمرنا طاعة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

(٣) التوبة ، الآية ٨١.

(٤) الأحزاب ، الآية ١٢.

(٥) الأحزاب ، الآية ١٨.

٣٧٤

رؤوسهم في الدنيا ، ويمنحهم العزّة والفخر ، ويؤدّي إلى أن ينالوا الثواب الجزيل ، والأجر الكبير ، والفوز العظيم في الآخرة.

وجملة( عَزَمَ الْأَمْرُ ) تشير في الأساس إلى استحكام العمل ، إلّا أنّ المراد منها هنا الجهاد ، بقرينة الآيات التي سبقتها والتي تليها.

وتضيف الآية التالية :( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) (١) لأنّكم إن أعرضتم عن القرآن والتوحيد ، فإنّكم سترجعون إلى جاهليّتكم حتما ، ولم يكن في الجاهلية إلّا الفساد في الأرض ، والإغارة والقتل وسفك الدماء ، وقطيعة الرحم ، ووأد البنات. هذا إذا كانت «توليّتم» من مادة «تولّي» بمعنى الإعراض.

غير أنّ كثيرا من المفسّرين احتمل أن تكون من مادة «ولاية» ، أي : الحكومة ، فيكون المعنى : إنّكم إذا توليّتم زمام السلطة فلا يتوقع منكم إلّا الضلال والفساد وسفك الدماء وقطيعة الرحم.

وكأنّ جمعا من المنافقين قد اعتذر من أجل أن يفرّ من ميدان الجهاد بأنّا كيف نطأ ساحة الحرب ونقتل أرحامنا ونسفك دماءهم ، وعندها سنكون من المفسدين في الأرض؟

فيجيبهم القرآن قائلا : ألم تقتلوا أرحامكم وتسفكوا دماءهم ، ولم يظهر منكم إلّا الفساد في الأرض يوم كانت الحكومة بأيديكم؟ إن هذا إلّا تذرّع وتهرّب ، فإنّ الهدف من الحرب في الإسلام هو إخماد نار الفتنة ، لا الفساد في الأرض ، والهدف اقتلاع جذور الظلم وإزالته من الوجود ، لا قطع الرحم.

وقد ورد في بعض الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ هذه الآية في بني

__________________

(١) بالرغم من أنّ القليل من المفسّرين قد بحث في تركيب هذه الآية ، لكن يبدو أنّ (إن توليّتم) جملة شرطية وقعت بين اسم «عسى» وخبرها ، وجزاء إن الشرطية مجموع جملة (فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض) ، والتقدير : إن توليّتم عن كتاب الله فهل يترقب منكم إلّا الفساد في الأرض؟

٣٧٥

أمية الذين لم يرحموا صغيرا ولا كبيرا ، بل سفكوا دماء الجميع حتى أقاربهم لمّا تسلّموا زمام الحكم(١) .

من المعلوم أنّ بني أمية جميعا ، ابتداء من أبي سفيان إلى أبنائه وأحفاده ، كانوا مصداقا واضحا لهذه الآية ، وهذا هو المراد من الرواية ، إذ أنّ للآية معنى واسعا يشمل كلّ المنافقين الظالمين والمفسدين.

وتوضح الآية التالية المصير النهائي لهؤلاء القوم المنافقين المفسدين المتذرّعين بأوهى الحجج فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ) .

إنّ هؤلاء يظنّون أنّ الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة ، قطيعة للرحم ، وفسادا في الأرض ، أمّا كلّ الجرائم التي ارتكبوها في الجاهلية ، والدماء البريئة التي سفكوها أيّام تسلطهم ، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم وهم أحياء يستغيثون ، كانت قائمة على أساس الحق والعدل! لعنهم الله إذ لا أذن واعية لهم ، ولا عين ناظرة بصيرة!

ونقرأ في رواية عن الإمام علي بن الحسين ، أنّه قال لولده الإمام الباقرعليه‌السلام : «إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه ، فإنّي وجدته ملعونا في كتاب اللهعزوجل في ثلاثة مواضع ، قال اللهعزوجل : فهل عسيتم ...»(٢) .

«الرحم» في الأصل محل استقرار الجنين في بطن أمّه ، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل الأقرباء ، لأنّهم نشأوا وولدوا من رحم واحد.

وجاء في حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاثة لا يدخلون الجنّة : مدمن خمر ، ومدمن سحر ، وقاطع رحم»(٣) .

__________________

(١) راجع : نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٤٠.

(٢) أصول الكافي ، المجلد ٢ ، باب «من تكره مجالسته» ، الحديث ٧. أمّا الآيتان اللتان وردتا في بقية الحديث فإحداهما الآية (٢٥) من سورة الرعد ، والأخرى الآية (٢٧) من سورة البقرة ، وقد ورد اللعن في إحداهما صريحا ، وفي الأخرى كناية وتلميحا.

(٣) التّفسير الأمثل ذيل الآية (٧٧) من سورة المائدة (نقلا عن الخصال).

٣٧٦

ولا يخفى أنّ لعن الله تعالى لهؤلاء القوم ، وطردهم من رحمته ، وكذلك سلبهم القدرة على إدراك الحقائق ، لا يستلزم الجبر ، لأنّ ذلك جزاء أعمالهم ، وردّ فعل لسلوكهم وأفعالهم.

وتناول آخر آية من هذه الآيات ذكر العلة الحقيقية لانحراف هؤلاء القوم التعساء ، فقالت :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ؟

نعم ، إنّ عامل مسكنة هؤلاء وضياعهم أحد اثنين : إمّا أنّهم لا يتدبّرون في القرآن ، برنامج الهداية الإلهية ، والوصفة الطبية الشافية تماما ، أو أنّهم يتدبّرونه ، إلّا أنّ قلوبهم مقفلة نتيجة اتباع الهوى والأعمال التي قاموا بها من قبل ، وهي مقفلة بشكل لا تنفذ معه أي حقيقة إلى قلوبهم.

وبتعبير آخر ، فإنّهم كرجل ضلّ طريقه في الظلمات ، فلا سراج في يده ، ولا هو يبصر إذ هو أعمى ، فلو كان معه سراج ، وكان مبصرا ، فإنّ الاهتداء إلى الطريق في أي مكان سهل ويسير.

«الأقفال» جمع قفل ، وهي في الأصل من مادة القفول أي الرجوع ، أو من القفيل ، أي الأشياء اليابسة ، ولمّا كان المتعارف أنّهم إذا أغلقوا الباب وقفلوها بقفل ، فكلّ من يأت يقفل راجعا ، وكذلك لمّا كان القفل شيئا صلبا لا ينفذ فيه شيء ، لذا فقد أطلقت هذه الكلمة على هذه الآلة الخاصة.

* * *

بحث

القرآن كتاب فكر وعمل :

تؤكّد آيات القرآن المختلفة على حقيقة أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم ليس للتلاوة وحسب ، بل إنّ الهدف النهائي منه هو الذكر ، والتدبّر في عواقب الأمور والإنذار ، وإخراج البشر من الظلمات ، والشفاء والرحمة والهداية.

٣٧٧

فنقرأ في الآية (٥٠) من سورة الأنبياء :( وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ ) .

وفي الآية (٢٩) من سورة ص :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) .

وجاء في الآية (١٩) من سورة الأنعام :( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) .

وتقول الآية الأولى من سورة إبراهيم :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) .

وأخيرا ، جاء في الآية (٨٢) من سورة الإسراء :( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

ولهذا ، فإنّ القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين ، ويكون في صميمها لا على هامشها ، وعليهم أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم ، وأن ينفذوا كلّ أوامره ، وأن يجعلوا خطوط حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.

لكنّ ، جماعة من المسلمين ـ مع الأسف الشديد ـ لا يتعاملون مع القرآن إلّا على أنّه مجموعة أوراد وأذكار ، فهم يتلونه جميعا تلاوة مجرّدة ، ويهتمون أشدّ الاهتمام بالتجويد ومخارج الحروف وحسن الصوت ، وأكثر شقاء المسلمين وتعاستهم يكمن في أنّهم أخرجوا القرآن عن كونه دستورا جامعا لحياة البشر ، واكتفوا بترديد ألفاظه ، وقنعوا بذلك.

والجدير بالانتباه أنّ الآيات مورد البحث تقول بصراحة : إنّ هؤلاء المنافقين المرضى القلوب لم يتدبّروا في القرآن ، فلاقوا هذا المصير الأسود.

«التدبّر» من مادة دبر ، وهو تحقيق وبحث نتائج الشيء وعواقبه ، بعكس «التفكر» الذي يقال غالبا عن علل الشيء وأسبابه ، واستعمل كلا التعبيرين في القرآن.

لكن ، ينبغي أن لا ننسى أنّ الاستفادة من القرآن تحتاج إلى نوع من تهذيب النفس وجهادها ، وإن كان القرآن بنفسه معينا في تهذيبها ، لأنّ القلوب إذا كانت

٣٧٨

مقفلة بأقفال الهوى والشهوة ، والكبر والغرور ، واللجاجة والتعصّب ، فسوف لا يلجها نور الحق ، وقد أشارت الآيات ـ مورد البحث ـ إلى هذا المعنى.

وما أروع كلام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في خطبته حول صفات المتّقين ، إذ يقول : «أمّا الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطّلعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم»(١) .

حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام :

ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير جملة :( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) : «إنّ لك قلبا ومسامع ، وإنّ الله إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه ، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا ، وهو قول اللهعزوجل :( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) (٢) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣ ، المعروفة بخطبة همام.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٤١.

٣٧٩

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) )

التّفسير

أفلا يتدبّرون القرآن :

تواصل هذه الآيات الكلام حول المنافقين ومواقفهم المختلفة ، فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ ) .

وبالرغم من أنّ البعض احتمل أنّ هذه الآية تتحدّث عن جماعة من الذين

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

غير أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب ، لأنّ «التعزير» أولا : معناه في الأصل المنع وذبّ الأعداء والدفاع عن «الشخص» ، ولا يصحّ ذلك في شأن الله إلّا على سبيل «المجاز» فحسب!

وأهم من ذلك هو شأن نزول الآية ، إذ أنّها نزلت بعد صلح الحديبية وكان بعضهم يسيء التعامل مع النّبي ولا يحترم مقامه الكريم ، وقد نزلت الآية لتنبه المسلمين على ما ينبغي عليهم من الوظائف بالنسبة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ لا ينبغي أن ننسى أنّ الآية هي بمثابة النتيجة للآية السابقة التي وصفت النّبي بأنّه «شاهد ومبشر ونذير» وهذا الأمر يهيء الأرضية المناسبة للآية التي بعدها.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة قصيرة إلى مسألة «بيعة الرضوان» وقد جاء التفصيل عنها في الآية (١٨) من السورة ذاتها!

وتوضيح ذلك هو : كما قلناه آنفا إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى في منامه كما تقول التواريخ أنّه دخل مع أصحابه مكّة ، فتوجّه على أثر هذه الرؤيا مع ألف وأربعمائة صحابي إلى مكّة ، إلّا أنّ قريشا صمّمت على منعه وهو على مقربة من مكّة فتوقف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه في منطقة الحديبيّة وتمّ تبادل المبعوثين بين قريش والنّبي حتى انتهى الأمر إلى معاهدة صلح الحديبيّة!

وفي عملية تبادل السفراء والمبعوثين ، أمر عثمان مرّة أن يبلغ أهل مكّة ـ من قبل النّبي ـ أنّه لا يريد الحرب ولا القتال وإنّما يريد العمرة فحسب ، إلّا أنّ المشركين من أهل مكّة أوقفوا عثمان مؤقتا وكان هذا الأمر سببا أن يشيع بين المسلمين خبر قتل عثمان ، ولو كان هذا الموضوع صحيحا لكان دليلا على إعلان قريش الحرب ومنازلة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك

فإنّ النّبي قال : «لا نبارح مكاننا «الحديبيّة» حتى نأخذ البيعة من قومنا» ، فطلب تجديد البيعة فاجتمع المسلمون وبايعوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت شجرة هناك على أن لا يتركوا النبي وراءهم ظهريّا وأن يقاتلوا مع النّبي أعداءه ويذبّوا عنه ما دام فيهم طاقة على ذلك.

٤٤١

فبلغ هذا الأمر سمع المشركين ودبّ الرعب فيهم ، وهذا ما دعاهم إلى الصلح مع النبي. ومن هنا سمّيت مبايعة المسلمين نبيّهم تحت الشجرة بيعة الرضوان حيث وردت الإشارة إليها في الآية (١٨) من السورة ذاتها :( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) .

وعلى كلّ حال فإنّ القرآن يتحدّث عن مبايعة المسلمين في الآية محلّ البحث فيقول:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) !

و «البيعة» معناها المعاهدة على اتّباع الشخص وطاعته ، وكان المرسوم أو الشائع بين الناس أنّ الذي يعاهد الآخر ويبايعه يمد يده إليه ويظهر وفاءه ومعاهدته عن هذا الطريق لذلك الشخص أو لذلك «القائد» المبايع!.

وحيث أنّ الناس يمدّون أيديهم «بعضهم إلى بعض» عند البيع وما شاكله من المعاملات ويعقدون المعاملة بمد الأيدي و «المصافحة» فقد أطلقت كلمة «البيعة» على هذه العقود والعهود أيضا. وخاصة أنّهم عند «البيعة» كأنّما يقدّمون أرواحهم لدى العقد مع الشخص الذي يظهرون وفاءهم له.

وعلى هذا يتّضح معنى( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) إذ إنّ هذا التعبير كناية عن أنّ بيعة النّبي هي بيعة الله ، فكأنّ الله قد جعل يده على أيديهم فهم لا يبايعون النّبي فحسب بل يبايعون الله ، وأمثال هذه الكناية كثيرة في اللغة العربية!.

وبناء على هذا التّفسير فإنّ من يرى بأنّ معنى هذه الجملة( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) هو أنّ قدرة الله فوق قدرتهم أو أنّ نصرة الله أعظم من نصرة الناس وأمثال ذلك لا يتناسب تأويله مع شأن نزول الآية ومفادها وإن كان هذا الموضوع بحدّ ذاته صحيحا.

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا :( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (١) .

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ كلمة (عليه) في الآية الآنفة جاءت على خلاف ما نعهده ، إذ ضمّ الضمير وهو الهاء هنا ، وقد وجّه

٤٤٢

كلمة «نكث» مشتقة من «نكث» ومعناها الفتح والبسط ثمّ استعملت في نقض العهد(١) .

والقرآن في هذه الآية ينذر جميع المبايعين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ يثبتوا على عهدهم وبيعتهم فمن ثبت على العهد فسيؤتيه الله أجرا عظيما ومن نكث فإنّما يعود ضرره عليه ولا ينال الله ضرره أبدا بل إنّه يهدّد وجود المجتمع وكرامته وعظمته ويعرّضه للخطر بنقضه البيعة!.

وقد ورد ـ في كلام ـ عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله : «إنّ في النّار لمدينة يقال لها الحصينة ، أفلا تسألوني ما فيها؟! فقيل له : ما فيها يا أمير المؤمنين؟! قال : فيها أيدي الناكثين»(٢) .

ومن هنا يتّضح بجلاء قبح نقض البيعة من وجهة نظر الإسلام!! وفي هذا المجال هناك بحوث في «البيعة في الإسلام» وحتى «قبل الإسلام» وكيفية البيعة وأحكامها ستأتي بأذن الله في ذيل الآية (١٨) من هذه السورة ذاتها!.

* * *

__________________

بعض المفسّرين إلى أنّ هذا أصله «هو» وبعد حذف الواو يأتي مضمونا أحيانا مثل له وعنه ويأتي مكسورا أحيانا لأنه يلي الياء ككلمة «عليه الله» وحيث أنّ كلمة «عليه» هنا تلاها لفظ الجلالة فقد ضم الضمير في «عليه» ينسجم مع تضخيم اللام في لفظ الجلالة «الله».

(١) «النكث» بفتح النون مصدر و «النكث» بكسر النون اسم مصدر.

(٢) بحار الأنوار ، الجزء ٦٧ ، الصفحة ١٨٦.

٤٤٣

الآيات

( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) )

التّفسير

اعتذار المخلفين :

ذكرنا ـ في تفسير الآيات الآنفة ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجّه من المدينة إلى مكّة مع ألف وأربعمائة من صحابته «للعمرة»!.

٤٤٤

وقد أبلغ عن النّبي جميع من في البادية من القبائل أن يحضروا معه في سفره هذا ، إلّا أنّ قسما من ضعيفي الإيمان لووا رؤوسهم عن هذا الأمر وأعرضوا عنه وكان تحليلهم هو أنّ المسلمين لا يستطيعون الحفاظ على أرواحهم في هذا السفر في حين أنّ كفار قريش كانوا في حالة حرب مع المسلمين وقاتلوهم في أحد والأحزاب على مقربة من المدينة ، فإذا توجّهت هذه الجماعة القليلة العزلاء من كلّ سلاح نحو مكّة وعرّضت نفسها إلى العدو المدجّج بالسلاح. فكيف ستعود إلى بيوتها بعدئذ؟!

إلّا أنّهم حين رأوا المسلمين وقد عادوا إلى المدينة ملاء الأيدي وافرين قد حصلوا على امتيازات تستلفت النظر من صلح الحديبيّة دون أن تراق من أحدهم قطرة دم ، عرفوا حينئذ خطأهم الكبير وجاؤوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعتذروا إليه ، ويبرّروا تخلّفهم عنه ويطلبوا منه أن يستغفر لهم!

غير أنّ الآيات آنفة الذكر نزلت ففضحتهم وأماطت عنهم اللثام.

وعلى هذا ، فالآيات هذه ـ تبيّن حالة المخلّفين ضعاف الإيمان بعد أن بيّنت الآيات السابقة حال المنافقين والمشركين لتتمّ حلقات البحث ويرتبط بعضها ببعض!

تقول هذه الآيات :( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) .

إنّهم لم يكونوا صادقين حتى في توبتهم! فأبلغهم يا رسول و( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً ) ؟!

فليس على الله بعزيز ولا عسير أن يحفكم بأنواع البلاء والمصائب وأنتم في دار أمنكم وبين أهليكم وأبنائكم كما لا يعزّ عليه أن يجعلكم في حصن حصين من بأس الأعداء ولو كنتم في مركزهم!

٤٤٥

إنّما هو جهلكم الذي دعاكم إلى هذا التصور والاعتقاد!

أجل( بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) .

وأقصى من هذا فهو خبير بأسراركم ونيّاتكم وهو يعلم جيدا أنّ هذه الحيل والحجج الواهية لا صحة لها ولا واقعيّة والواقع هو أنّكم متردّدون ضعيفو الإيمان. وهذه الأعذار لا تخفى على الله ولا تحول دون عقابكم أبدا!

الطريف هنا أنّه يستفاد من لحن الآيات ومن التواريخ أيضا أنّ هذه الآيات نزلت عند عودة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ، أي أنّها قبل مجيء المخلّفين للاعتذار إليه ـ أماطت اللثام عنهم وكشفت الستار وفضحتهم!.

ومن أجل أن ينجلي الأمر ويتّضح الواقع أكثر يميط القرآن جميع الأستار فيقول :( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ) .

أجل ، إنّ السبب في عدم مشاركتكم النّبي وأصحابه في هذا السفر التاريخي لم يكن هو كما زعمتم ـ انشغالكم بأموالكم وأهليكم ـ بل العامل الأساس هو سوء ظنّكم بالله ، وكنتم تتصوّرون خطأ أنّ هذا السفر هو السفر الأخير للنبي وأصحابه وينبغي الاجتناب عنه!

وما ذلك إلّا ما وسوست به أنفسكم( وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ ) .

لأنّكم تخيّلتم أنّ الله أرسل نبيّه في هذا السفر وأودعه في قبضة أعدائه ولن يخلصه ويحميه عنهم!( وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً ) ـ أي هالكين ـ في نهاية الأمر!.

وأي هلاك أشدّ وأسوأ من عدم مشاركتهم في هذا السفر التأريخي وبيعة الرضوان وحرمانهم من المفاخر الأخر ثمّ الفضيحة الكبرى وبعد هذا كله ينتظرهم العذاب الشديد في الآخرة ، أجل لقد كان لكم قلوب ميتة فابتليتم بمثل هذه العاقبة!.

وحيث أنّ هؤلاء الناس ـ ضعاف الإيمان ـ أو المنافقين هم أناس جبناء

٤٤٦

وتائقون الى الدعة والراحة ويفرّون من الحرب والقتال فإنّ ما يحلّلونه إزاء الحوادث لا ينطبق على الواقع أبدا ومع هذه الحال فإنّهم يتصوّرون أنّ تحليلهم صائب جدّا.

وبهذا الترتيب فإنّ الخوف والجبن وطلب الدعة والفرار من تحمل المسؤوليات يجعل سوء ظنّهم في الأمور واقعيا ، فهم يسيئون الظنّ في كلّ شيء حتى بالنسبة الى الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ونقرأ في نهج البلاغة من وصية للإمام عليعليه‌السلام إلى مالك الأشتر قوله : «إنّ البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظنّ بالله»(١) .

حادثة «الحديبيّة» والآيات محل البحث ، كلّ ذلك هو الظهور العيني لهذا المعنى ، ويدلّل كيف أنّ مصدر سوء الظنّ هو من الصفات القبيحة حاله حال البخل والحرص والجبن!.

وحيث أنّ هذه الأخطاء مصدرها عدم الإيمان فإنّ القرآن يصرّح في الآية التالية قائلا:( وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً ) (٢) . و «السعير» معناه اللهيب.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يقول القرآن ومن أجل أن يثبت قدرة الله على معاقبة الكفار والمنافقين :( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

وممّا يسترعي النظر أنّ موضوع المغفرة مقدّم هنا على العذاب ، كما أنّ في آخر الآية تأكيدا على المغفرة والرحمة أيضا ، وذلك لأنّ الهدف من هذه التهديدات جميعا هو التربية ، وموضوع التربية يوجب أن يكون طريق العودة مفتوحا بوجه

__________________

(١) نهج البلاغة : من رسالة له «برقم ٥٩».

(٢) أسلوب الجملة ونظمها كان ينبغي أن يكون : فقل : «إنّا اعتدنا لهم سعيرا» : إلّا أنّ القرآن حذف الضمير خاصة وجعل مكانه الاسم الصريح «الكافرين» ليبيّن أنّ علة هذا المصير المشؤوم هو الكفر بعينه

٤٤٧

الآثمين حتى الكفار. وخاصة أنّ أساس كثير من هذه الأمور السلبية هو الجهل وعدم الاطلاع ـ فينبغي أن يبعث في مثل هؤلاء الأفراد الأمل على المغفرة بمزيد من الرجاء ، فلعلّهم يؤوبون نحو السبيل!.

* * *

ملاحظة

تعليل الذنب وتوجيهه مرض عام :

مهما كان الذنب كبيرا فإنّه ليس أكبر من تبريره وتوجيهه ، لأنّ المذنب المعترف بالذنب غالبا ما يؤوب للتوبة ، لكنّ المصيبة تبدأ حين يقوم المذنب بتبرير ذنوبه ، فلا ينغلق باب التوبة بوجه الإنسان فحسب بل يتجرّأ على الذنب ويشتدّ على مقارفته!

وهذا التعليل أو التوجيه يقع أحيانا لحفظ ماء الوجه وتحسبا من الافتضاح ، ولكنّ أسوأ من هذا كلّه حين ينخدع به الضمير و «الوجدان»!

وهذا التعليل ليس أمرا جديدا ، ويمكن العثور على أمثال له على امتداد التاريخ البشري ، وكيف وجّه أكبر مجرمي التاريخ جناياتهم لخداع أنفسهم بتوجيهات مضحكة تجعل كلّ إنسان غارقا في ذهوله وتعجّبه منها!.

والقرآن المجيد الذي يسعى لتربية وصناعة الإنسان يعالج مسائل من هذا الباب كثيرة منها ما قرأناه في الآيات الآنفة ـ محلّ البحث ـ

ولا بأس بأن نقف على آيات أخرى لإكمال البحث في هذا الصدد.

١ ـ كان العرب المشركون يتذرّعون أحيانا بسيرة السلف لتوجيه شركهم وتبريره وكانوا يقولون :( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) !(١) .

كما كانوا يتذرّعون أحيانا بنوع من الإجبار فكأنّهم مجبرون! ويقولون :( لَوْ

__________________

(١) سورة الزخرف ، ٢٣.

٤٤٨

شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا ) (١) .

٢ ـ كما كان بعض ضعفاء الإيمان يأتون إلى النّبي أحيانا متذرّعين عن عدم مشاركتهم في الحرب بأن بيوتهم عورة( وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ) (٢) .

٣ ـ وربّما تذرّعوا بعدم ذهابهم إلى الحرب لأنّ وجوه نساء الرومان النضرة تسلب قلوبهم وتفتنهم!!( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ) !(٣) .

٤ ـ وربّما تذرّعوا بانشغالهم بأموالهم وأهليهم ونسائهم فيوجّهون ذنبهم الكبير في الفرار عن طاعة أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هي الحال في الآيات الآنفة ـ محل البحث ـ

٥ ـ والشيطان أيضا وجّه عدم طاعته لله بمقايسة خاطئة فقال :( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) !(٤) .

٦ ـ وفي العصر الجاهلي ومن أجل أن يوجّهوا ذنبهم الكبير وخطأهم في وأد البنات كانوا يقولون نخشى أن تؤسر بناتنا في الحرب وإن غيرتنا وناموسنا يدعوننا إلى قتلهن ودسّهنّ في التراب! وربّما قالوا إنّما نقتل الأطفال خشية الاملاق كما صرّحت به سورة الإسراء وغيرها في القرآن.

كما أنّه يظهر من بعض الآيات أنّ المجرمين يتشبّثون بالكبراء والاقتداء بهم في توجيه ذنوبهم( وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (٥) .

والخلاصة إنّ بلاء توجيه الذنب بلاء واسع شمل طائفة عظيمة من الناس عامّهم وخاصهم ، وخطره الكبير أنّه يغلق سبل الإصلاح في وجوههم وربّما غيّر حتى

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٤٨.

(٢) الأحزاب ، الآية ١٣.

(٣) التوبة ، الآية ٤٩.

(٤) الأعراف ، الآية ١٢.

(٥) سورة الأحزاب ، ٦٧.

٤٤٩

الواقعيات وأعطاها وجها آخر عند المذنبين!

فكثير من يوجّه الخوف والجبن بأنّه : احتياط.

والحرص بأنّه تأمين على الحياة في «المستقبل».

والتهوّر بأنّه حسم وجرأة.

وضعف النفس بالحياء!

وعدم الاكتراث بالزهد.

وارتكاب الحرام بالحيلة الشرعية.

والفرار من تحمّل المسؤولية بعدم ثبوت الموضوع!!

والتقصير والتفريط بالقضاء والقدر.

وهكذا يغلق الإنسان بيده سبيل نجاته!

وبالرغم من أنّ هذه المفاهيم كلّا منها له معنى صحيح في محلّه وموقعه ، ولكن الإشكال في أنّها حرّفت واتخذت نتيجة مقلوبة ، وكم نال المجتمعات البشرية والأسر والأفراد من أضرار من هذا المنفذ!! حفظنا الله جميعا من هذا البلاء العظيم «آمين».

* * *

٤٥٠

الآيات

( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) )

التّفسير

المخلّفون الانتهازيّون :

يعتقد أغلب المفسّرين أنّ هذه الآيات ناظرة إلى «فتح خيبر» الذي كان في

٤٥١

بداية السنة السابعة للهجرة وبعد صلح الحديبيّة! وتوضيح ذلك أنّه طبقا للرّوايات حين كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعود من الحديبيّة بشّر المسلمين المشتركين بالحديبيّة ـ بأمر الله ـ بفتح خيبر ، وصرّح أن يشترك في هذه الحرب من كان في الحديبيّة من المسلمين فحسب ، وأنّ الغنائم لهم وحدهم ولن ينال المخلّفين منها شيء أبدا.

إلّا أنّ عبيد الدنيا الجبناء لمّا فهموا من القرائن أنّ النّبي سينتصر في المعركة المقبلة قطعا ـ وأنّه ستقع غنائم كثيرة في أيدي جنود الإسلام ـ أفادوا من الفرصة فجاءوا الى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يأذن لهم بالاشتراك في حرب خيبر ، وربّما توسّلوا بهذا العذر ، وهو أنّهم يريدون التكفير عن خطئهم السابق والتوبة من الذنب وأن يتحمّلوا عبء المسؤولية ، والخدمة الخالصة للإسلام والقرآن ويريدون الجهاد مع رسول الله في هذا الميدان ، وقد غفلوا عن نزول الآيات آنفا وأنّها كشفت حقيقتهم من قبل كما نقرأ ذلك في الآية الأولى من الآيات محل البحث ـ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ ) .

ولا نجد ذلك في هذا المورد فحسب ، بل في موارد كثيرة نجد هؤلاء الطامعين يركضون وراء اللقمة الدسمة التي لا تقترن بألم. ويهربون من المواطن الخطيرة وساحات القتال كما نقرأ ذلك في الآية (٤٢) من سورة التوبة :( لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ ) .

وعلى كلّ حال فإنّ القرآن الكريم يقول ردا على كلام هؤلاء الانتهازيين وطالبي الفرص( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ ) ثمّ يضيف قائلا للنبي :( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا ) .

وليس هذا هو كلامي بل( كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ) وأخبرنا عن مستقبلكم أيضا.

إنّ أمر الله أن تكون غنائم خيبر خاصّة بأهل الحديبيّة ولن يشاركهم في ذلك

٤٥٢

أحد. لكنّ هؤلاء المخلّفين الصلفين استمروا في تبجّحهم واتهموا النّبي ومن معه بالحسد كما صرّح القرآن بذلك :( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا ) .

وهكذا فإنّهم بهذا القول يكذّبون حتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعدّون أساس منعهم من الاشتراك في معركة خيبر الحسد فحسب.

وفي ذيل الآية يصرّح القرآن عن حالهم فيقول :( بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً ) .

أجل إنّ أساس جميع شقائهم وسوء حظهم هو جهلهم وعدم فقاهتهم ، فالجهل ملازم لهم أبدا ، جهلهم بالله سبحانه وعدم معرفة مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهلهم عن مصير الإنسان وعدم توجّههم إلى أنّ الثروة في الدنيا لا قرار فيها ، فهي زائلة لا محالة!.

صحيح أنّهم أذكياء في المسائل المادية والمنافع الشخصية ، ولكن أي جهل أعظم من أن يبيع الإنسان جميع كيانه وكلّ شيء منه بالثروة!

وأخيرا وطبقا لما نقلته التواريخ فإنّ النّبي الأكرم وزّع غنائم خيبر على أهل الحديبيّة فحسب ، حتى الذين لم يشتركوا في خيبر وكانوا في الحديبيّة جعل لهم النّبي سهما من غنائم خيبر ، وبالطبع لم يكن لهذا المورد أكثر من مصداق واحد وهو «جابر بن عبد الله الأنصاري»(١) .

واستكمالا لهذا البحث فإنّ الآية التالية تقترح على المخلّفين عن الحديبيّة اقتراحا وتفتح عليهم باب العودة فتقول :( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

فمتى ما ندمتم عن أعمالكم وسيرتكم السابقة ورفعتم اليد عن عبادة الدنيا وطلب الراحة ، فينبغي أن تؤدّوا امتحان صدقكم في الميادين الصعبة وأن تسهموا فيها مرّة أخرى ، وإلّا فإنّ اجتناب الميادين الصعبة ، والمساهمة في الغنائم

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، الجزء ٣ ، الصفحة ٣٦٤.

٤٥٣

وميادين الراحة غير مقبول بأي وجه ودليل على نفاقكم أو ضعف إيمانكم وجبنكم.

الطريف هنا أنّ القرآن كرر التعبير بالمخلّفين في آياته ، وبدلا من الاستفادة من الضمير فقد عوّل على الاسم الظاهر.

وهذا التعبير خاصة جاء بصيغة اسم المفعول «المخلّفين» أي المتروكين وراء الظهر ، وهو إشارة إلى أنّ المسلمين المؤمنين حين كانوا يشاهدون ضعف هؤلاء وتذرعهم بالحيل كانوا يخلّفونهم وراء ظهورهم ولا يعتنون أو يكترثون بكلامهم! ويسرعون إلى ميادين الجهاد!.

ولكنّ من هم هؤلاء القوم المعبّر عنهم بـ «أولي بأس شديد» في الآية وأي جماعة هم؟! هناك كلام بين المفسّرين

وجملة( تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) تدلّ على أنّهم ليسوا من أهل الكتاب ، لأنّ أهل الكتاب لا يجبرون على قبول الإسلام ، بل يخيّرون بين قبوله أو دفع الجزية والحياة مع المسلمين على شروط أهل الذمّة.

وإنّما الذين لا يقبل منهم إلّا الإسلام هم المشركون وعبدة الأصنام فحسب ، لأنّ الإسلام لا يعترف بعبادة الأصنام دينا ويرى انّه لا بدّ من إجبار الناس على ترك عبادتها.

ومع الالتفات إلى أنّه لم تقع معركة مهمّة في عصر النّبي بعد حادثة الحديبيّة مع المشركين سوى فتح مكّة وغزوة حنين ، فيمكن أن تكون الآية المتقدّمة إشارة إلى ذلك وخاصّة غزوة حنين لأنّها اشترك فيها أولو بأس شديد من «هوازن» و «بني سعد».

وما يراه بعض المفسّرين من احتمال أنّ الآية تشير إلى غزوة (مؤتة) التي حدثت مع أهل الروم فهذا بعيد ، لأنّ أهل الروم كانوا كتابيين.

واحتمال أنّ المراد منها الغزوات التي حدثت بعد النّبي ومن جملتها غزوة

٤٥٤

فارس واليمامة ، فهذا أبعد بكثير ، لأنّ لحن الآيات مشعر بأنّ الحرب ستقع في زمان النبيّ ولا يلزمنا أبدا أن نطبّق ذلك على الحروب التي حدثت بعده ، ويظهر أنّ للدوافع السياسية أثرا في بعض الأفكار المفسّرين في هذه القضية!.

وهنا ملاحظة جديرة بالتأمّل وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعدهم بالقول أنّهم سيغنمون في الحروب والمعارك المقبلة ، لأنّ الهدف من الجهاد ليس كسب الغنائم بل المعوّل عليه هو ثواب الله العظيم وهو عادة إنّما يكون في الدار الآخرة!

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو أنّ الآية (٨٣ : من سورة التوبة تردّ ردّا قاطعا على هؤلاء المخلّفين فتقول :( فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ ) .

في حين أنّ الآية محل البحث تدعوهم إلى الجهاد والقتال في ميدان صعب( سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) . فما وجه ذلك؟

ولكن مع الالتفات إلى الآية (٨٣) في سورة التوبة تتعلق بالمخلّفين في معركة تبوك الذين قطع النّبي الأمل منهم ، أمّا الآية محل البحث فتتحدّث عن المخلّفين عن الحديبيّة ، وما يزال النّبي يأمل فيهم المشاركة ، فيتّضح الجواب على هذا الاشكال!.

وحيث أنّ من بين المخلّفين ذوي أعذار لنقص عضوي في أبدانهم أو لمرض وما الى ذلك فلم يقدروا على الاشتراك في الجهاد ، ولا ينبغي أن نجحد حقهم ، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تبيّن أعذارهم وخاصّة أنّ بعض المفسّرين قالوا إنّ جماعة من المعوّقين جاؤوا إلى النّبي بعد نزول الآية وتهديدها للمخلّفين بقولها( يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ) ، فقالوا : يا رسول الله ما هي مسئوليتنا في هذا الموقع؟ فنزل قوله تعالى :( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) .

وليس الجهاد وحده مشروطا بالقدرة ، فجميع التكاليف الإلهيّة هي سلسلة من

٤٥٥

الشرائط العامة ومن ضمنها الطاقة والقدرة ، وكثيرا ما أشارت الآيات القرآنية إلى هذا المعنى وفي الآية (٢٨٦) من سورة البقرة نقرأ تعبيرا كليا عن هذا الأصل وهو :( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) .

وهذا الشرط ثابت بالأدلة النقلية والعقليّة!.

وبالطبع فإن هذه الجماعة وإن كانت معذورة من الاشتراك في ميادين الجهاد ، إلّا أنّ عليها أن تساهم بمقدار ما تستطيع لتقوية قوى الإسلام وتقدّم الأهداف الإلهية كما نقرأ ذلك في الآية (٩١) من سورة التوبة :( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) .

أي أنّهم إذا لم يستطيعوا أن يؤدّوا عملا بأيديهم ، فلا ينبغي أن يألوا جهدا فيما يقدرون عليه ولا يعتذروا بألسنتهم عنه ، وهذا التعبير الطريف يدلّ على أنّه لا ينبغي الإغماض عن القدرات أبدا ، وبتعبير آخر أنّهم إذا لم يستطيعوا أن يشاركوا في الجبهة فعلى الأقل عليهم أن يحكموا المواضع الخلفية للجبهة!

ولعلّ الجملة الأخيرة في الآية محل البحث تشير أيضا إلى هذا المعنى فتقول :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً ) .

وهذا الاحتمال وارد أيضا ، وهو أنّ بعض الأفراد في المواقع الاستثنائية يعتذرون عن المساهمة [ويسيئون فهم النص] فالقرآن هنا يحذّرهم أنّهم إذا لم يكونوا معذورين واقعا فإنّ الله أعدّ لهم عذابا أليما.

ومن نافلة القول أنّ كون المريض والأعمى والأعرج معذورين خاص بالجهاد ، أمّا في الدفاع عن حمى الإسلام والبلد الإسلامي والنفس فيجب أن يدافع كلّ بما وسعه ، ولا استثناء في هذا المجال!

* * *

٤٥٦

الآيتان

( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) )

التّفسير

رضي الله عن المشتركين في بيعة الرضوان :

ذكرنا آنفا أنّه في الحديبيّة جرى حوار بين ممثلي قريش والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان من ضمن السفراء «عثمان بن عفان» الذي تشدّه أواصر القربى بأبي سفيان ، ولعلّ هذه العلاقة كان لها أثر في انتخابه ممثلا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعثه إلى أشراف مكّة ومشركي قريش ليطلعهم على أنّ النّبي لم يكن يقصد الحرب والقتال بل هدفه زيارة بيت الله واحترام الكعبة المشرّفة بمعية أصحابه إلّا أنّ قريشا أوقفت عثمان مؤقتا وشاع على أثر ذلك بين المسلمين أنّ عثمان قد قتل! فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أبرح مكاني هذا حتى أقاتل عدوّي!

ثمّ جاء إلى شجرة هناك فطلب من المسلمين تجديد البيعة تحتها ، وطلب منهم

٤٥٧

أن لا يقصّروا في قتالهم المشركين وأن لا يولّوا أدبارهم من ساحات القتال(١) .

فبلغ صدى هذه البيعة مكّة واضطربت قريش من ذلك بشدّة وأطلقوا عثمان.

وكما نعرف فإنّ هذه البيعة عرفت ببيعة الرضوان وقد أفزعت المشركين وكانت منعطفا في تاريخ الإسلام.

فالآيتان محل البحث تتحدّثان عن هذه القصة فتقول الأولى :( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) .

والهدف من هذه البيعة الانسجام أكثر فأكثر بين القوى وتقوية المعنويات وتجديد التعبئة العسكرية ومعرفة الأفكار واختبار ميزان التضحية من قبل المخلصين الأوفياء!

وهذه البيعة أعطت روحا جديدا في المسلمين لأنّهم أعطوا أيديهم إلى النبي وأظهروا وفاءهم من أعماق قلوبهم.

فأعطى الله هؤلاء المؤمنين المضحّين والمؤثرين على أنفسهم نفس رسول الله في هذه اللحظة الحسّاسة والذين بايعوه تحت الشجرة أعطاهم أربعة أجور ، ومن أهمّ تلك الأجور والاثابات الأجر العظيم وهو «رضوانه» كما عبّرت عنه الآية (٧٢) من سورة التوبة( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) أيضا.

ثمّ تضيف الآية قائلة :( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) .

سكينة واطمئنانا لا حدّ لهما ، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن الأهل والديار والعدو مدجّج بالسلاح ، في حين أن المسلمين عزّل من السلاح «لأنّهم جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة» فوقفوا كالجبل الأشم لم يجد الخوف طريقا إلى قلوبهم!.

وهذا هو الأجر الثّاني والموهبة الإلهية الأخرى ، وأساسا فإنّ الألطاف الخاصة والإمدادات الإلهية تشمل حال المخلصين والصادقين.

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.

٤٥٨

لذلك فإنّنا نقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه! : «إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول يا ربّ ارزقني حتى افعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير فإذا علم اللهعزوجل ذلك منه بصدق نيّته كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله إنّ الله واسع كريم»(١) .

وفي ذيل هذه الآية إشارة إلى الأجر الثّالث إذ تقول الآية :( وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) .

أجل ، هذا الفتح وهو فتح خيبر كما يقول أغلب المفسّرين [وإن كان يرى بعضهم أنّه فتح مكّة] هو ثالث أجر وثواب للمؤمنين المؤثرين ، المضحّين.

والتعبير بـ «قريبا» تأييد على أنّ المراد منه «فتح خيبر» ، لأنّ هذا الفتح حدث وتحقّق بعد بضعة أشهر من قضيّة الحديبيّة وفي بداية السنة السابعة للهجرة!

والأجر الرابع أو النعمة الرابعة التي كانت على أثر بيعة الرضوان من نصيب المسلمين كما تقول الآية التالية هي :( وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها ) .

وواحدة من هذه الغنائم الكثيرة هي «غنائم خيبر» التي وقعت في أيدي المسلمين بعد فترة قصيرة من قضية الحديبيّة ، ومع الالتفات إلى ثروة اليهود الكثيرة جدّا تعرف أهمية هذه الغنائم.

إلّا أنّ تحديد هذه الغنائم بغنائم خيبر لا دليل قطعي عليه ، ويمكن عدّ الغنائم الأخرى التي وقعت في أيدي المسلمين خلال الحروب الإسلامية بعد فتح (الحديبيّة) في هذه الغنائم الكثيرة!

وحيث أنّ على المسلمين أن يطمئنوا بهذا الوعد الإلهي اطمئنانا كاملا فإنّ الآية تضيف في الختام :( وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

فإذا ما أمركم في الحديبيّة أن تصالحوا فإنّما هو على أساس من حكمته ، حكمة كشف عن إسرارها الأستار مضي الزمن ، وإذا ما وعدكم بالفتح القريب والغنائم

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ١٩٩.

٤٥٩

الكثيرة فهو قادر على أن يلبس وعده ثياب الإنجاز والتحقّق!

وهكذا فإنّ المسلمين المضحّين الأوفياء أولي الإيمان والإيثار اكتسبوا في ظل بيعة الرضوان في تلك اللحظات الحسّاسة انتصارا في الدنيا والآخرة ، في حين أنّ المنافقين الجهلة وضعاف الإيمان احترقوا بنار الحسرات!

ونختم حديثنا بكلام لأمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يتحدّث عن بسالة المسلمين الأوائل وثباتهم وجهادهم الذي لا نظير له ويخاطب ضعاف الإيمان موبّخا إيّاهم على خذلانهم

فيقول : «فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه ومتبوّئا أوطانه ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم. ما قام للدين عمود. ولا اخضرّ للإيمان عود وأيم الله لتحتلبنّها دما ولتتبعنّها ندما!»(١) .

* * *

بحث

البيعة وخصوصيّاتها!

«البيعة» من مادة «بيع» وهي في الأصل إعطاء اليد عند إقرار المعاملة. ثمّ أطلق هذا التعبير على مدّ اليد على المعاهدة ، وهكذا كانت حين كان الشخص يريد أن يعلم الآخر بوفائه له وأن يطيع أمره ويعرفه رسميّا فيبايعه ويمدّ له يده ، ولعلّ إطلاق هذه الكلمة من جهة أنّ كلّا من الطرفين يتعهّد كما يتعهّد ذوا المعاملة فيما بينهما ، وكان المبايع مستعدا أحيانا أن يضحّي بروحه أو بماله أو بولده في سبيل الطاعة! والذي يقبل البيعة يتعهّد على رعايته وحمايته والدفاع عنه!

يقول «ابن خلدون» في مقدمة تأريخه في هذا الصدد «كانوا إذا بايع الأمير جعل أيديهم في يده تأكيدا فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري»(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم ٥٦.

(٢) مقدمة ابن خلدون ، صفحة ١٧٤.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592