الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 184412 / تحميل: 6212
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

فلينظر العاقل من نفسه : هل يجوز له أن يقلّد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته ويحتجّ به غدا يوم القيامة ، وهو يوجب الكفر والإلحاد؟!

وأيّ عذر لهم عن ذلك وعن الكفر والإلحاد؟!

( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) (٢) ؟!

هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى ، وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنّه يلزم منها نسبة الله سبحانه إلى كلّ خسيسة ورذيلة! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فليحذر المقلّد وينظر كيف هؤلاء القوم الّذين يقلّدونهم؟! فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والإيضاح اتّباعهم ، كفاهم بذلك ضلالا!

وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتّباع الأهواء ، عرفوا الحقّ بعين الإنصاف وفّقهم الله لإصابة الصواب.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة النساء ٤ : ٧٨.

٣٠١

وقال الفضل (١) :

قد عثرت على ما فصّلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من كتب الأشاعرة ومن فضلات المعتزلة.

ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم كمثل الزبّال يمرّ على نجاسة رجل أكل بالليل بعض الأطعمة الرقيقة كماء الحمّص ، فجرى في الطريق ، فجاء الزبّال وأخذ الحمّص من نجاسته وجعل يلحسه ويتلذّذ به.

فهذا ابن المطهّر النجس! كالزبّال يمرّ على فضلات المعتزلة ويأخذ منها الاعتراضات ويكفّر بها سادات العلماء ، ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر ، يحسب أنّه يحسن صنعا ، نعوذ بالله من الضلال ، والله الهادي.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٠.

٣٠٢

وأقول :

قد عرفت أنّه لم يشتمل كلامه إلّا على التمويه ، الذي لا ينفعه حين الندامة ، ولا يكون له عذرا يوم القيامة ، والعجب منه أنّه يجازي المصنّف بما يدلّ على أنّه فاعل مختار.

فإذا كان الله تعالى هو الذي خلق تكفير المصنّف لهم ، فلينتصف من الله تعالى لا من المصنّف ، وليحارب الله تعالى لا المحلّ الذي لا أثر له أصلا.

ولينظر العاقل أنّ الذي وقع في البين من المخاصمة والعداء كلّه من الله سبحانه ، فيكون لاعبا ، أو من عبيده؟!

وهل يحسن من الله تعالى أن يفعل ذلك ثمّ يعاقب غيره على ما لا أثر له فيه؟! تعالى الله عمّا يصفون.

* * *

٣٠٣
٣٠٤

إبطال الكسب

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

المطلب الثاني عشر

في إبطال الكسب

إعلم أنّ أبا الحسن الأشعري وأتباعه لمّا لزمهم هذه الأمور الشنيعة والإلزامات الفظيعة والأقوال الهائلة ، من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته ، وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شابه ذلك ، التجأ إلى ارتكاب قول توهّم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات( وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ) (٢) ، فقال مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه إنكار العلوم الضرورية ، كما هو دأبه(٣) وعادته في ما تقدّم من إنكار الضروريات ، فذهب إلى إثبات الكسب للعبد ، فقال :

الله تعالى يوجد الفعل ، والعبد مكتسب له(٤) ، فإذا طولب بتحقيق

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة ص ٣٨ : ٣.

(٣) كان في الأصل : « رأيه » ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

(٤) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، مقالات الإسلاميّين :٥٣٩.

٣٠٥

الكسب وما هو؟ وأيّ وجه يقتضيه؟ وأيّ حاجة تدعو إليه؟ اضطرب هو وأصحابه في الجواب عنه

فقال بعضهم : معنى الكسب خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل ، وعدمه عقيب اختياره العدم ، فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق الله الفعل عند اختيار العبد(١) .

وقال بعضهم : معنى الكسب أنّ الله تعالى يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر ألبتّة ، لكنّ العبد يؤثّر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية ، فأصل الفعل من الله تعالى ، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد(٢) .

وقال بعضهم : إنّ هذا الكسب غير معلوم ولا معقول مع أنّه صادر عن العبد(٣) .

* * *

__________________

(١) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ ٥٩ ـ ٦٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، العلم الشامخ : ٣١٩ عن ابن الهمام.

(٢) انظر : تمهيد الأوائل : ٣٤٧ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٤ ـ ٨٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٤ ، العلم الشامخ : ٣٢١ عن أبي منصور السمرقندي.

(٣) انظر : شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، العلم الشامخ : ٣١٧ و ٣٢٥ حكاية عن والد السبكي.

٣٠٦

وقال الفضل (١) :

قد مرّ أنّ مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : أنّ أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله تعالى ، مكسوبة للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلّا له هذا مذهب الشيخ(٢) .

ولو رجع المنصف إلى نفسه علم أنّه على متن الصراط المستقيم في التوحيد ، وتنزيه الله تعالى عن الشركاء في الخلق ، مع إثبات الكسب للعبد ، حتّى تكون قواعد الإسلام ، ورعاية أحكام التكليف والبعثة والثواب والعقاب محفوظة مرعيّة ، من غير تكلّف إيجاد الشركاء في الخلق.

ونحن إن شاء الله تعالى نفسّر كلام الشيخ ونكشف عن حقيقة مذهبه على وجه يرتضيه المنصف ، وينقاد لصحّته المتعسّف ، فنقول :

يفهم من كلام الشيخ أنّه فسّر كسب العبد للفعل بمقارنة الفعل لقدرته وإرادته تارة ، وفسّره بكون العبد محلّا للفعل تارة.

وتحقيقه : إنّ الله تعالى خلق في العبد إرادة يرجّح بها الأشياء ، وقدرة يصحّح بها الفعل والترك.

ومن أنكر هذا فقد أنكر أجلى الضروريات عند حدوث الفعل.

وهاتان الصفتان موجودتان في العبد حادثتان عند حدوث الفعل ،

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٣.

(٢) تقدّم في الصفحة ١١٣ من هذا الجزء.

٣٠٧

فإذا تهيّأ العبد بقبول هاتين الصفتين لإيجاد الفعل ، وذلك الفعل ممكن ، والممكن إذا تعلّقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح ، فهو يوجد لا محالة بقدم الإرادة القديمة الدائمة الإلهية ، والقدرة القديمة ، فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا من الإرادة والقدرة الحادثة.

والصفة القوية تغلب الصفة الضعيفة ، كالنور القوي يقهر النور الضعيف ويغلبه.

فلمّا أوجد الله تعالى الفعل ، وكان قبل الإيجاد تهيّأت صفة اختيار العبد إلى إيجاد الفعل ، ولكن سبقت القدرة الإلهية فأحدثته ، فبقي للفعل نسبتان :

نسبة إلى العبد ؛ وهي أنّ الفعل كان مقارنا لتهيّؤ الإرادة والاختيار نحو تحصيل الفعل ، وحصول الفعل عقيب تهيّئه ، فعبّر الشيخ عن هذه النسبة بالكسب ؛ لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء والثواب والعقاب على فعل العبد.

ونسبة إلى الله تعالى ؛ وهو أنّه كان مخلوقا لله تعالى ، موجدا منه.

وهذا معنى كون الفعل مخلوقا لله تعالى مكسوبا للعبد.

ثمّ إنّ فعل العبد صفة للعبد ، فيكون العبد محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف هو محلّ لصفته ، كالأسود فإنّه محلّ للسواد ، فيجوز أن يقال ـ باعتبار كون الفعل صفة له ـ : إنّه كسبه ؛ ومعنى الكسب كونه محلّا له.

والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب ، بواسطة كونه محلّا لليبوسة المفرطة.

وهل يحسن أن يقال : لم ترتّب الإحراق على الحطب لسبب كونه محلّا لليبوسة؟! والحال أنّ الحطب لم يحصل بنفسه هذه اليبوسة! وأيّ

٣٠٨

ذنب للحطب؟! وهل هذا الإحراق إلّا الظلم والجور والعدوان؟!

إن حسن ذلك حسن أن يقال : لم جعل الله تعالى الكافر محلّ الكفر ثمّ أحرقه بالنار؟!

والعاقل يعلم أنّه لا يحسن الأوّل فلا يحسن الثاني!

فرّغ جهدك لنيل ما حقّقناه في هذا المقام في معنى الكسب الأشعري ، لئلّا يبقى لك شبهة ، فهذا نهاية التوضيح.

ولكنّ المعتزلي عمي بصره فعظم ضرره ، ألقته الشبهة في مهواة غائلة ، واغتاله القول(١) في مهمّة(٢) هائلة ، ونعم ما قلت شعرا :

ظهر الحقّ من الأشعري والنور جلي

طلع الشمس ولكن عمي المعتزلي(٣)

فانظر إلى هذا الحلّي الجاهل ، كيف افترى في معنى الكسب ، وخلط المذاهب والأقوال ، كالحمار الراتع في جنة عالية ، قطوفها دانية ، والله تعالى يجازيه!

* * *

__________________

(١) في نسخة إحقاق الحقّ : الغول ؛ ولعلّها الأنسب.

(٢) المهمّة : كلّ ما نواه المرء من فعل أو أمر وأراده وعزم عليه وهمّ بأن يفعله ؛ انظر : تاج العروس ١٧ / ٧٦٤ و ٧٦٧ مادّة « همم ».

(٣) نقول : لا ندري ممّ نتعجّب؟! أمن علم هذا الرجل وبراعته في علم الكلام؟! أم من فصاحته وبلاغته ونبوغه في الشعر ومعرفته بالمعاني؟! أم من خلقه الرفيع العالي؟!

والعجب كلّ العجب ممّن يتّبع هذا وأمثاله ويدافع عنهم دون علم ودراية!! ولكن كما قال أبو الطيّب المتنبّي :

شبيه الشيء منجذب إليه

وأشبهنا بدنيانا الطغام

فليتأمّل!

٣٠٩

وأقول :

ظهر لك من تضاعيف الكلمات أنّ الكسب بمعزل عن الحقّ ، وأنّ التنزيه الذي موّهوا به من باب تسمية الشيء باسم ضدّه ، إذ لم يشتمل إلّا على إنكار العدل والرحمة ، وإثبات العبث في التكليف والبعثة.

وأمّا ما ادّعاه من التحقيق ، ففيه وجوه من الخلل :

أمّا أوّلا : فلأنّ قوله : « فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا » ، خطأ ؛ لأنّ تميّز الإرادة والقدرة القديمتين عن الحادثتين لا يوجب أن يوجد الله سبحانه أفعال العباد ، ولا يوجب التزاحم بينهما حتّى تحصل الغلبة.

نعم ، يوجب التزاحم لو قلنا : إنّ قدرة الله على الشيء تستلزم فعله له ، كما يظهر من بعض ما يحكى عن الرازي(١) ، ويظهر من الخصم في المبحث الآتي ، حيث إنّه في أثناء كلامه على قول المصنّف : « وأيضا دليلهم آت » إلى آخره ، قال : « فالاختيار مقدور لله تعالى فيكون مخلوقا لله تعالى ».

ولكن لا يمكن أن يقال : إنّ القدرة تستلزم فعل كلّ مقدور ، لعدم اقتضاء ذاتها له ، وللزوم أن يكون كلّ ممكن فرض موجودا لأنّه مقدور ، أو انحصار قدرته بالموجودات ، وهو كما ترى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إثبات التهيّؤ لإرادة العبد لا فائدة فيه ، إذ لا يصحّح اللوازم الفاسدة من العقاب للعبد بلا ذنب ، والعبث في البعثة والتكليف ،

__________________

(١) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ٢١.

٣١٠

ونحوها ؛ على أنّه إن زعم أنّ التهيّؤ أثر للعبد فقد خرج عن مذهبه ، وإلّا فلا يثمر تكلّفه إلّا تطويل مسافة الجبر.

وأمّا ثالثا : فلأنّ قوله : « لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء » إن أراد به أنّ لفظ الكسب في القرآن يراد به المعنى الذي اصطلحه الأشاعرة ، فهو باطل ؛ لأنّه اصطلاح جديد ، فاللازم حمله على معناه اللغوي ، وهو : العمل(١) .

وأيّ دلالة في ذكر الكسب ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ على كون المراد هو الكسب الأشعري حتّى يحمل عليه؟!

وإن أراد به أنّ وجود لفظ الكسب في القرآن ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ سبب لتسمية المعنى الذي تصوّره الأشعري بالكسب ، ففيه :

إنّا لو تصوّرنا وجها للسببية ، فلا يثبت به إلّا تصحيح الاصطلاح ، لا حمل الكتاب العزيز عليه ، كما هي عادتهم.

وأمّا رابعا : فلأنّ قوله : « إنّ فعل العبد صفة للعبد فيكون محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف محلّ لصفته » ، باطل ؛ لأنّ أفعال الله تعالى صفات له ، لذا يوصف بالمحيي ، والمميت ، والخالق ، والرازق ، ونحوها ، وهو ليس محلّا لها بنحو محلّيّة الأسود للسواد الذي مثّل به.

ثمّ إنّ ما فرّعه عليه بقوله : « فيجوز أن يقال باعتبار كون الفعل صفة له : إنّه كسبه » ، غير تامّ ؛ فإنّه يستدعي أن يقال باعتبار كون أفعال الله تعالى صفة له : إنّه كسبها ، وهو باطل ؛ لأنّ الكسب لا يطلق إلّا حيث يكون الفاعل قاصدا لجلب النفع له أو دفع المضرّة عنه.

__________________

(١) انظر مادّة « كسب » في : لسان العرب ١٢ / ٨٧ ، المصباح المنير : ٢٠٣.

٣١١

وأمّا خامسا : فلأنّ قوله : « والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب » ، ظاهر الفساد ، فإنّه يستلزم صحّة العقاب على الطول والقصر ؛ لأنّه محلّ لهما ، ولا يكون الاختيار فارقا ما دام غير مؤثّر ، ولذا قاس الإنسان على الحطب ، وقاس كفره على يبوسة الحطب ، وهذا القياس فاسد ؛ لعدم الضرر والأذى على الحطب لانتفاء الشعور والإحساس عنه ، ولذا لا يكون الإحراق ظلما له ، بخلاف عذاب الحسّاس الذي لا ذنب منه ولا أثر له بالمعصية أصلا.

فيا عجبا ممّن يتفوّه بهذه الكلمات ، ويزعم أنّه لا تبقي معها شبهة ، وأنّ صاحبها على متن الصراط ، وما هو إلّا كبيته الذي سمّاه شعرا!!

* * *

٣١٢

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

وهذه الأجوبة فاسدة

أمّا الأوّل : فلأنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال ، فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه.

وأيّ فرق بينهما؟! وأيّ حاجة وضرورة إلى التمحّل بهذا؟! وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى الله تعالى ، وأن ينسب الله تعالى إلى الظلم والجور والعدوان وغير ذلك ، وليس بمعلوم.

وأيضا : دليلهم آت في نفس هذا الاختيار ، فإن كان صحيحا امتنع إسناده إلى العبد وكان صادرا عن الله تعالى ، وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به.

وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار ، إمّا العبد أو الله تعالى ، فلا وجه للمخلص بهذه الواسطة ، وإن لم يكن موجبا ، لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ، فيكون الفعل من الله تعالى لا غير ، من غير شركة للعبد فيه.

وأيضا : العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله تعالى الفعل عقيبه ، ويخلق الله تعالى الفعل ابتداء من غير تقدّم اختيار ، فحينئذ ينتفي المخلص بهذا العذر(٢) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٦.

(٢) في المخطوط : القدر.

٣١٣

وقال الفضل (١) :

قد علمت معنى الكسب كما ذكره الشيخ(٢) ، وأمّا هذه الأقوال التي نقلها عن الأصحاب فما رأيناها في كتبهم ، ولكن ما أورد على تلك الأقوال فمجاب

أمّا ما أورد على القول الأوّل ، وهو : « إنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال » ، فباطل ؛ لأنّهما من جملة الصفات ، وهو يدّعي أنّهما من جملة الأفعال ، وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة [ والاختيار ] ممّا يخلقها الله تعالى في العبد ، والعبد بهما يرجّح الفعل(٣) .

فالحمد لله الذي أنطقه بالحقّ على رغم منه ، فإنّه صار قائلا بأنّ أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، ولكن ربّما يدفعه بأنّه من الأفعال الاضطرارية ، وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراريّ.

وأمّا قوله : « دليلهم آت في نفس هذا الاختيار » ، وبيانه : إنّ الاختيار فعل من الأفعال فيكون مخلوقا لله تعالى ؛ لأنّه ممكن ، وكلّ ممكن فهو مقدور لله تعالى ، فالاختيار مقدور لله ، فيكون مخلوقا لله تعالى ، فكيف يقال : إنّ الفعل يخلقه الله تعالى عقيب الاختيار؟!

فجوابه : إنّ الاختيار من الصفات التي يخلقها الله تعالى أوّلا في العبد ، كسائر صفاته النفسانية ، وكيفيّاته المعقولة والمحسوسة ، ثمّ يترتّب

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٣٤.

(٢) انظر الصفحتين ١١٣ و ٣٠٧.

(٣) الإمامية لا تقول بذلك على إطلاقه ، وسيأتي ردّ المصنّف1 عليه.

٣١٤

عليه الفعل ، فلا يأتي ما ذكره من المحذور ؛ لأنّا نختار أنّ الدليل صحيح ، وليس هو مستندا إلى العبد وهو صادر عن الله تعالى.

وأمّا قوله : « وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار » إلى آخر الدليل.

فجوابه : إنّا نختار أنّ الاختيار صادر عن الله تعالى لا عن العبد.

وأيضا : نختار أنّ الاختيار يدلّ العبد ليس موجبا للفعل.

قوله : « لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ».

قلنا : ممنوع لما مرّ من أنّ الاختيار صفة توجب للعبد التوجّه نحو تحصيل الأفعال ، ويخلق الفعل عقيب توجيه العبد للاختيار ، والفعل مقارن لذلك الاختيار ، وليس الأكل كذلك ، فالفرق واضح(١) .

وأمّا قوله : « العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقيبه ».

فنقول : هذا هو المدّعى ، والمراد بالجواز هو الإمكان الذاتي وإن خالفته العادة ، ونحن لا نريد مخلصا بإثبات وجوب خلق الفعل عقيب الاختيار.

* * *

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١١٣.

٣١٥

وأقول :

ينبغي أن نذكر هنا بعض ما في « شرح المقاصد » لتعرف صدق المصنّف في ما حكاه عنهم ، فإنّه بعد بيان أنّ فعل العبد واقع بقدرة الله وحدها ، وأنّ العبد كاسب ، قال :

« لا بدّ من بيان معنى الكسب دفعا لما يقال إنّه اسم بلا مسمّى ، فاكتفى بعض أهل السنّة ، بأنّا نعلم بالبرهان أنّ لا خالق سوى الله تعالى ، ولا تأثير إلّا للقدرة القديمة ، ونعلم بالضرورة أنّ القدرة الحادثة للعبد تتعلّق ببعض أفعاله ، كالصعود دون البعض كالسقوط ، فيسمّى أثر تعلّق القدرة الحادثة كسبا وإن لم تعرف حقيقته.

قال الإمام الرازي : هي صفة تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة الله تعالى ، فإنّ الصلاة والقتل مثلا كلاهما حركة ، ويتمايزان بكون إحداهما طاعة والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به التمايز ، فأصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وخصوصية الوصف بقدرة العبد ، وهي المسمّاة ب‍ :

الكسب(١) .

وقريب من ذلك ما يقال : إنّ أصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وتعيّنها بقدرة العبد ، وهو كسب ، وفيه نظر.

وقيل : الفعل الذي يخلقه الله تعالى في العبد يخلق معه قدرة للعبد متعلّقة به ، يسمّى كسبا للعبد ، بخلاف ما إذا لم يخلق معه تلك القدرة.

__________________

(١) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، وانظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ١٠.

٣١٦

وقيل : إنّ للعبد قدرة تختلف بها النسب والإضافات فقط ، كتعيين أحد طرفي الفعل والترك وترجيحه ، ولا يلزم منها وجود أمر حقيقي ، فالأمر الإضافي الذي يجب من العبد ولا يجب عند وجود الأثر هو الكسب.

و هذا ما قالوا هو ما يقع به المقدور بلا صحّة انفراد القادرية ، وما يقع في محلّ قدرته ، بخلاف الخلق ، فإنّه ما يقع به المقدور مع صحّة انفراد القادرية ، وما يقع لا في محلّ قدرته.

فالكسب لا يوجب وجود المقدور ، بل يوجب ـ من حيث هو كسب ـ اتّصاف الفاعل بذلك المقدور ؛ ولهذا يكون مرجعا لاختلاف الإضافات ، ككون الفعل طاعة أو معصية ، حسنا أو قبيحا ، فإنّ الاتّصاف بالقبيح بقصده وإرادته قبيح ، بخلاف خلق القبيح ، فإنّه لا ينافي المصلحة والعاقبة الحميدة ، بل ربّما يشتمل عليهما.

وملخّص الكلام ما أشار إليه الإمام حجّة الإسلام ، وهو : إنّه لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقا لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو أنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا ، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه عندنا بالاكتساب.

إلى أن قال : فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تسمّى كسبا له ، وباعتبار نسبتها إلى قدرة الله تعالى خلقا ، فهي خلق للربّ ووصف للعبد وكسب له ، وقدرته خلق للربّ ووصف للعبد وليس بكسب له(١) »(٢) .

وإنّما أطلنا بنقل كلامه لتعرف حال أساطينهم فضلا عن مثل هذا

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد : ٦٠.

(٢) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٣١٧

الخصم.

ويكفي في بطلان هذه الكلمات مجرّد النظر فيها ، مع أنّ الكسب ـ بأيّ معنى فسّر ـ إن كان من فعل الله تعالى دون العبد فلا فائدة في إثباته ، وإن كان من أثر العبد فقد خالفوا مذهبهم ولم يكن موجب لإثباته وإنكار تأثير العبد في الفعل.

ولو لا تعلّق القصد بردّ ما أورده الخصم لكان الأولى الإعراض عن مثله ، إلّا إنّه لا مناص من ردّه ، فنقول :

أمّا ما ذكره من أنّ الإرادة من جملة الصفات ، فصحيح ، سواء أراد بالصفات ما كان من مقولة الكيف ، أو ما لوحظ فيه جهة التلبّس لا الحدوث ، لكن لا ينافي أن تكون الإرادة فعلا باعتبار حدوثها ، ولذا يقول المتكلّمون : إنّ الله تعالى فاعل للعدل والرحمة والمغفرة باعتبار حدوثها منه ، وموصوف بها باعتبار تلبّسه بها(١)

فصحّ قول المصنّف : « إنّ إرادة العبد من جملة الأفعال ».

على أنّه لا أثر للاصطلاح والتسمية ، فإنّ كلام المصنّف في الصدور الذي يسلّمه القائل بالقول الأوّل ، فأورد عليه أنّه إذا جازصدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه إلى آخره.

وأمّا قوله : « وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة ممّا يخلقها الله تعالى في العبد »

فإن أراد أنّها ربّما يخلقها الله تعالى ، فلا يضرّنا القول به ، وإن أراد أنّها مخلوقة له دائما ، فكذب علينا ، كيف؟! وقد سبق أنّ العبد فاعل لها ،

__________________

(١) انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي ٣ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٣١٨

قادر عليها وجودا وعدما ، ولو بالقدرة على أسبابها!

وأمّا حمده لله تعالى على إقرار المصنّف بأنّ بعض أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، فمن المضحك ، إذ لم يظهر من المصنّف اختيار أنّ إرادة العبد صادرة عن الله تعالى إن لم يظهر منه الخلاف ، ومجرّد قول أصحابه به ـ لو سلّم ـ لا يستلزم أن يقول المصنّف به ، إذ ليس هو من أصول الدين.

على أنّ القول بأنّ بعض أفعالنا مخلوق لله تعالى لا ينافي مذهبنا ؛ لأنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في الإيجاب الكلّي حيث يقولون : إنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى(١) ، ونحن نمنعه ، فلا ينافي الإيجاب الجزئي.

ثمّ إنّ معنى قول الخصم : « ولكن ربّما يدفعه » إلى آخره ؛ هو أنّ المصنّف قد يجيب عن ذلك بأنّ الإرادة والاختيار ليسا محلّ النزاع ؛ لأنّ النزاع إنّما هو في الأفعال الاختيارية ، وليست الإرادة والاختيار صادرين بالاختيار.

وفيه : إنّ المصنّف لا يجيب بهذا ؛ لأنّ الإرادة عنده فعل اختياري(٢) ، أي من آثار قدرة العبد ، وإنّما يجيب بخطأ الخصم ، حيث زعم أنّ الإرادة عندنا من أفعال الله تعالى ، كما عرفت.

ثمّ إن أراد بقوله : « وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراري » إنكار كون الاختيار فعلا ، فباطل ؛ لما عرفت من معنى الفعل.

وإن أراد به دعوى أنّ الاختيار مسبوق بالاختيار ، لزمه التسلسل.

__________________

(١) الإبانة عن أصول الديانة : ٤٦ ، تمهيد الأوائل : ٣٤١ ، المواقف : ٣١١.

(٢) مناهج اليقين : ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٣١٩

وإن أراد به أنّ الاختيار من آثار قدرة العبد ، فنعم الوفاق ، ولزمهم إشكال المصنّف بقوله : « إن جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه ».

وأمّا ما أجاب عن قول المصنّف : « ودليلهم آت في نفس الاختيار »

ففيه : إنّ إشكال المصنّف إنّما هو على صاحب القول الأوّل الذي يذهب إلى أنّ الاختيار صادر عن العبد ، ومنه يعلم ما في جوابه أيضا عن الإشكال الثالث بقوله : « فجوابه : إنّ الاختيار صادر عن الله لا عن العبد ».

وأمّا ما ذكره من الفرق بين الاختيار والأكل

ففيه : إنّ التوجّه الذي يوجبه الاختيار ـ كما زعم ـ إن كان أثرا للعبد كان خروجا عن مذهبه ، وإلّا فأيّ فائدة في إثبات التوجّه غير تطويل مسافة الجبر؟! ضرورة أنّ الفرق المهمّ بين الاختيار والأكل مثلا ، هو الفرق في مقام تأثير العبد في الفعل بوجه من الوجوه ، لا الفرق كيفما كان ، وإلّا فالفروق كثيرة.

واعلم أنّ الأشاعرة لمّا رأوا مفاسد الجبر زعموا أنّ المخلص منها يحصل بوجود القدرة والاختيار في العبد ؛ لأنّهما هما المحقّقان للكسب ، وإن كانا معا من فعل الله تعالى كأصل الفعل ، فحينئذ يكون وجود الاختيار لازما لا مناص منه ليكون به المخلص ، فإذا جعلوه عاديا غير لازم الوجود واقعا ، لا سيّما والعاديّات قد تتخلّف ، لم يكن مخلصا.

وهذا هو مقصود المصنّف في كلامه الأخير.

وقد توهّم الخصم أنّ المصنّف ادّعى أنّ مخلصهم بإثبات وجوب

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

معنى غزير

إنّ الآخرين حين يريدون إظهار مزيد من العلاقة بمن يشاركهم في المنهج والعمل ، يعبّرون عنهم بالرفاق ، «أو الرفيق للمفرد» إلّا أنّ الإسلام رفع مستوى الارتباط والحب بين المسلمين إلى درجة جعلها بمستوى أقرب العلائق بين شخصين وهي علاقة الأخوين التي تقوم العلاقة بينهما على أساس المساواة والتكافؤ.

فعلى هذا الأصل الإسلامي المهم فإنّ المسلمين على اختلاف قبائلهم وقوميّاتهم ولغاتهم وأعمارهم يشعرون فيما بينهم بالأخوّة وإن عاش بعضهم في الشرق والآخر في الغرب

ففي مناسك الحج مثلا حيث يجتمع المسلمون من نقاط العالم كافة في مركز التوحيد تبدو هذه العلاقة والارتباط والانسجام والوشائج محسوسة وميدانا للتحقق العيني لهذا القانون الإسلامي المهم

وبتعبير آخر إنّ الإسلام يرى المسلمين جميعا بحكم الأسرة الواحدة ويخاطبهم جميعا بالإخوان والأخوات ليس ذلك في اللفظ والشعار ، بل في العمل والتعهدات المتماثلة أيضا ، جميعهم (أخوة وأخوات).

وفي الروايات الإسلامية تأكيد على هذه المسألة أيضا ولا سيما في ما يخص الجوانب العملية ونحن نذكر هنا على سبيل المثال بعضا من الأحاديث التالية :

١ ـ ورد عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه»(١) .

٢ ـ وورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى»(٢) .

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٣ ، ص ٣٣٢ (كتاب الصحبة والمعاشرة) الباب الثاني.

(٢) المصدر السابق.

٥٤١

٣ ـ ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة»(١) .

٤ ـ كما نقرأ حديثا آخر عنهعليه‌السلام يقول فيه : «المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشّه ولا يعده عدة فيخلفه»(٢) .

وهناك روايات كثيرة في مصادر الحديث الإسلامية المعروفة في ما يتعلّق بحق المؤمن على أخيه المسلم وأنواع حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وثواب زيارة الإخوان المؤمنين «والمصافحة والمعانقة» وذكرهم وإدخال السرور على قلوبهم وخاصة قضاء حاجاتهم والسعي في إنجازها وإذهاب الهم والغم عن القلوب وإطعام الطعام وإكسائهم الثياب وإكرامهم واحترامهم ، ويمكن مطالعتها في أصول الكافي في أبواب مختلفة تحت العناوين الآنفة.

٥ ـ وفي ختام هذا المطاف نشير إلى رواية هي من أكثر الروايات «جمعا» في شأن حقوق المؤمن على أخيه المؤمن التي تبلغ ثلاثين حقّا!

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للمسلم على أخيه ثلاثون حقّا ، لا براءة له منها إلّا بالأداء أو العفو!

يغفر زلّته ، ويرحم عبرته ، ويستر عورته ، ويقيل عثرته ، ويقبل معذرته ، ويرد غيبته ، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلّته ويرعى ذمّته ، ويعود مرضه ، ويشهد ميّته ، ويجيب دعوته ، ويقبل هديته ، ويكافئ صلته ، ويشكر نعمته ، ويحسن نصرته ، ويحفظ حليلته ، ويقضي حاجته ، ويشفع مسألته ، ويسمّت عطسته ، ويرشد ضالّته ، ويردّ سلامه ، ويطيب كلامه ، ويبرّ أنعامه ، ويصدق أقسامه ، ويوالي وليّه ، ولا يعاديه ، وينصره ظالما ومظلوما ، فأمّا نصرته ظالما فيردّه عن ظلمه ، وأمّا نصرته مظلوما فيعينه على أخذ حقّه ، ولا يسلمه ولا يخذله ، ويحب له من الخير

__________________

(١ ، ٢) ـ أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٣٣ (باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض الحديث ٣ و٤).

٥٤٢

ما يحبّ لنفسه ، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه»(١) .

وعلى كلّ حال فإنّ واحدا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض هو مسألة الإعانة وإصلاح ذات البين كما ورد في الآيات المتقدّمة والروايات الآنفة «وكان لنا في التفسير الأمثل بحث في «إصلاح ذات البين» ذيل الآية الأولى من سورة الأنفال»

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٢٣٦.

٥٤٣

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون لهاتين الآيتين شأنا «في نزولهما» بل شؤونا مختلفة ، منها أنّ جملة( لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ) نزلت في «ثابت بن قيس» خطيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان ثقيل السمع وكان حين يدخل المسجد يجلس إلى جنب النّبي ويوّفر له المكان عنده ليسمع حديث النبي ، وذات مرّة دخل المسجد والمسلمون كانوا قد

٥٤٤

فرغوا من صلاتهم وجلسوا في أماكنهم ، فكان يشقّ الرجوع ويقول : تفسّحوا ، تفسّحوا حتى وصل إلى رجل من المسلمين فقال له : اجلس (مكانك هنا) فجلس خلفه مغضبا حتى انكشفت العتمة فقال ثابت لذلك الرجل : من أنت فقال : أنا فلان فقال له ثابت : ابن فلانة؟! وذكر اسم أمّه بما يكره من لقبها وكانت تعرف به في زمان الجاهلية فاستحيى ذلك الرجل وطأطأ برأسه إلى الأرض ، فنزلت الآية ونهت المسلمين عن مثل هذا العمل

وقيل إنّ جملة( وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ ) نزلت في أم سلمة إحدى أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّها كانت تلبس لبوسا خاصا أو لأنّها كانت قصير فكانت النساء يسخرن منها ، فنزلت الآية ونهت عن مثل هذه الأعمال!.

وقالوا إنّ جملة( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) نزلت في نفرين من الصحابة اغتابا صاحبهما «سلمان» لأنّهما كانا قد بعثاه نحو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليأتيهما بطعام منه ، فأرسل النّبي سلمان نحو «أسامة بن زيد» الذي كان مسئول بيت المال فقال أسامة ليس عندي شيء الآن فاغتابا أسامة وقالا إنّه بخيل وقالا في شأن سلمان : لو كنّا أرسلناه إلى بئر سميحة لغاض ماؤها «وكانت بئرا غزيرة الماء» ثمّ انطلقا ليأتيا أسامة وليتجسّسا عليه ، فقال لهما النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّي أرى آثار أكل اللحم على أفواهكما : فقالا يا رسول الله لم نأكل اللحم هذا اليوم فقال رسول الله : أجل تأكلون لحم سلمان وأسامة. فنزلت الآية ونهت المسلمين عن الاغتياب(١) .

* * *

التّفسير

الاستهزاء وسوء الظنّ والغيبة والتجسّس والألقاب السيئة حرام!

حيث أنّ القرآن المجيد اهتمّ ببناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٣٥ ، والقرطبي في تفسيره ، إذ ذكر هذا الشأن مع شيء من التفاوت.

٥٤٥

الأخلاقية فإنّه بعد البحث عن وظائف المسلمين في مورد النزاع والمخاصمة بين طوائف المسلمين المختلفة بين في الآيتين محل البحث قسما من جذور هذه الاختلافات ليزول الاختلاف (بقطعها) ويحسم النزاع!

ففي كلّ من الآيتين الآنفتين تعبير صريح وبليغ عن ثلاثة أمور يمكن أن يكون كلّ منها شرارة لاشتعال الحرب والاختلاف ، إذ تقول الآية الأولى من الآيتين محل البحث أوّلا :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ) .

لأنّه( عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ) .

( وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ ) .

والخطاب موجّه هنا إلى المؤمنين كافة فهو يعم الرجال والنساء وينذر الجميع أن يجتنبوا هذا الأمر القبيح ، لأنّ أساس السخرية والاستهزاء هو الإحساس بالاستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك إذ كانت تبعث على كثير من الحروب الدامية على امتداد التاريخ!

وهذا الاستعلاء أو التكبّر غالبا ما يكون أساسه القيم المادية والظواهر المادية فمثلا ، فلان يرى نفسه أكثر مالا من الآخر أو يرى نفسه أجمل من غيره أو أنّه يعد من القبيلة المشهورة والمعروفة أكثر من سواها ، وربما يسوقه تصوّره بأنّه أفضل من الجماعة الفلانية علما وعبادة ومعنوية إلى السخرية منهم ، في حين أنّ المعيار الواقعي عند الله هو «التقوى» التي تنسجم مع طهارة القلب وخلوص النيّة والتواضع والأخلاق والأدب!.

ولا يصحّ لأي أحد أن يقول أنا أفضل عند الله من سواي ، ولذلك عد تحقير الآخرين والتعالي بالنفس من أسوأ الأمور وأقبح العيوب الأخلاقية التي يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية في حياة الناس جميعا.

ثمّ تقول الآية في المرحلة الثانية :( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) .

كلمة «تلمزوا» هي من مادة «لمز» على زنة «طنز» ومعناها تتّبع العيوب

٥٤٦

والطعن في الآخرين ، وفسّر بعضهم الفرق بين «الهمز» و «اللمز» بأنّ «اللمز» عدّ عيوب الناس بحضورهم ، و «الهمز» ذكر عيوبهم في غيابهم ، كما قيل أنّ «اللمز» تتبّع العيوب بالعين والإشارة في حين أنّ «الهمز» هو ذكر العيوب باللسان «وسيأتي تفصل هذا الموضوع بإذن الله في تفسير سورة الهمزة»

الطريف أنّ القرآن في تعبير «بأنفسكم» يشير إلى وحدة المؤمنين وأنّهم نسيج واحد ، ويبيّن هنا بأنّ جميع المؤمنين بمثابة النفس الواحدة فمن عاب غيره فإنما عاب نفسه في الواقع!.

وتضيف الآية في المرحلة الثالثة أيضا قائلة :( وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ) .

هناك الكثير من الأفراد الحمقى قديما وحديثا ، ماضيا وحاضرا مولعون بالتراشق بالألفاظ القبيحة ، ومن هذا المنطلق فهم يحقّرون الآخرين ويدمّرون شخصياتهم وربما انتقموا منهم أحيانا عن هذا الطريق وقد يتّفق أنّ شخصا كان يعمل المنكرات سابقا ، ثمّ تاب وأناب وأخلص قلبه لله ، ولكن مع ذلك نراهم يرشقونه بلقب مبتذل كاشف عن ماضيه!

الإسلام نهى عن هذه الأمور بصراحة ومنع من إطلاق أي اسم أو لقب غير مرغوب فيه يكون مدعاة لتحقير المسلم

ونقرأ في بعض الأحاديث أنّ «صفية بنت حيي بن أخطب» المرأة اليهودية التي أسلمت بعد فتح خيبر وأصبحت زوجة النّبي ـ جاءت صفية يوما إلى النّبي وهي باكية العين فسألها النّبي عن سبب بكائها فقالت : إنّ عائشة توبّخني وتقول لي يا ابنة اليهودي ، فقال لها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلم لا قلت لها : أبي هارون وعمّي موسى وزوجي محمّد فكان أن نزلت هذه الآية ـ محل البحث ـ(١) .

ولذلك فإنّ الآية تضيف قائلة :( بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ ) أي قبيح جدّا على من دخل في سلك الإيمان أن يذكر الناس بسمات الكفر.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٣٦.

٥٤٧

واحتمل بعض المفسّرين احتمالا آخر لهذه الجملة المذكورة آنفا وهي أنّ الله نهى المؤمنين أن يرضوا بأسماء الفسق والجاهلية لأنفسهم بسبب سخرية الناس ولتحاشي استهزائهم.

ولكن مع الالتفات إلى صدر الآية وشأن النّزول المذكور يبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب.

وتختتم الآية لمزيد التأكيد بالقول :( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

وأي ظلم أسوأ من أن يؤذي شخص بالكلمات اللاذعة و «اللاسعة» والتحقير واللمز قلوب المؤمنين التي هي «مركز عشق» الله وأن يطعن في شخصياتهم ويبتذل كرامتهم التي هي أساس شخصيتهم.

ماء وجوههم الذي هو أساس حياتهم الأهم.

وقلنا إنّ في كل من الآيتين ـ محل البحث ـ ثلاثة أحكام في مجال الأخلاق الاجتماعية. فالأحكام الثلاثة في الآية الأولى هي «عدم السخرية» و «ترك اللمز» و «ترك التنابز بالألقاب».

والأحكام الثالثة في الآية الثانية هي «اجتناب سوء الظن» و «التجسّس» و «الاغتياب».

في هذه الآية يبدأ القرآن فيقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) .

والمراد من «كثيرا من الظن» الظنون السيّئة التي تغلب على الظنون الحسنة بين الناس لذلك عبّر عنها بـ «الكثير» وإلّا فإنّ حسن الظن لا أنّه غير ممنوع فحسب ، بل هو مستحسن كما يقول القرآن في الآية (١٢) من سورة النور :( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) .

وممّا يلفت النظر أنّه قد نهي عن كثير من الظنّ ، إلّا أنّه في مقام التعليل تقول الآية :( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) ولعلّ هذا الاختلاف في التعبير ناشئ من أنّ الظنون

٥٤٨

السيّئة بعضها مطابق للواقع وبعضها مخالف له ، فما خالف الواقع فهو إثم لا محالة ، ولذلك قالت الآية :( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) وعلى هذا فيكفي هذا البعض من الظنون الذي يكون إثما أن نتجنّب سائر الظنون لئلا نقع في الإثم

! وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو أنّ الظنّ السيء أو الظن الحسن ليسا اختياريين (غالبا) وإنّما يكون كل منهما على أثر سلسلة من المقدّمات الخارجة عن اختيار الإنسان والتي تنعكس في ذهنه ، فكيف يصح النهي عن ذلك؟!

وفي مقام الجواب يمكن القول بأنّه :

١ ـ المراد من هذا النهي هو النهي عن ترتيب الآثار ، أي متى ما خطر الظنّ السيء في الذهن عن المسلم فلا ينبغي الاعتناء به عمليّا ، ولا ينبغي تبديل أسلوب التعامل معه ولا تغيير الروابط مع ذلك الطرف ، فعلى هذا الأساس فإنّ الإثم هو إعطاء الأثر وترتّبه عليه.

ولذلك نقرأ في هذا الصدد حديثا عن نبيّ الإسلام يقول فيه : «ثلاث في المؤمن لا يستحسن ، وله منهنّ مخرج فمخرجه من سوء الظن ألّا يحقّقه»(١) إلى آخر الحديث الشريف.

٢ ـ يستطيع الإنسان أن يبعد عن نفسه سوء الظن بالتفكير في المسائل المختلفة ، بأن يفكر في طريق الحمل على الصحة ، وأن يجسّد في ذهنه الاحتمالات الصحيحة الموجودة في ذلك العمل ، وهكذا يتغلب تدريجا على سوء الظنّ!

فبناء على هذا ليس سوء الظن شيئا (ذا بال) بحيث يخرج عن اختيار الإنسان دائما! لذلك

فقد ورد في الروايات أنّه : «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه ، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٦٩.

٥٤٩

محملا»(١) .

وعلى كلّ حال فإنّ هذا الأمر واحد من أكثر الأوامر والتعليمات جامعيّة ودقّة في مجال روابط الإنسان الاجتماعية الذي تضمن الأمن في المجتمع بشكل كامل! وسيأتي بيانه وتفصيله في فقرة البحوث.

ثمّ تذكر الآية موضوع «التجسّس» فتنهى عنه بالقول :( وَلا تَجَسَّسُوا ) !.

و «التجسّس» و «التحسّس» كلاهما بمعنى البحث والتقصّي ، إلّا أنّ الكلمة الأولى غالبا ما تستعمل في البحث عن الأمور غير المطلوبة ، والكلمة الثانية على العكس حيث تستعمل في البحث عن الأمور المطلوبة أو المحبوبة! ومنه ما ورد على لسان يعقوب في وصيته ولده!( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) (٢) .

وفي الحقيقة إنّ سوء الظن باعث على التجسّس ، والتجسس باعث على كشف الأسرار وما خفي من أمور الناس ، والإسلام لا يبيح أبدا كشف أسرار الناس!

وبتعبير آخر إنّ الإسلام يريد أن يكون الناس في حياتهم الخاصة آمنين من كل الجهات ، وبديهي أنه لو سمح الإسلام لكلّ أحد أن يتجسّس على الآخرين فإنّ كرامة الناس وحيثيّاتهم تتعرض للزوال ، وتتولد من ذلك «حياة جهنمية» يحسّ فيها جميع أفراد المجتمع بالقلق والتمزّق!.

وبالطبع فإنّ هذا الأمر لا ينافي وجود أجهزة «مخابرات» في الحكومة الإسلامية لمواجهة المؤامرات ، ولكنّ هذا لا يعني أنّ لهذه الأجهزة حق التجسّس في حياة الناس الخاصّة «كما سنبيّن ذلك بإذن الله فيما بعد».

وأخيرا فإنّ الآية تضيف في آخر هذه الأوامر والتعليمات ما هو نتيجة الأمرين السابقين ومعلولهما فتقول :( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) .

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب التهمة وسوء الظن ، الحديث ٣ ، وقد ورد شبيه هذا المعنى في نهج البلاغة مع شيء من التفاوت في «الكلمات القصار ، رقم ٣٦٠».

(٢) يوسف ، الآية ٨٧.

٥٥٠

وهكذا فإنّ سوء الظن هو أساس التجسس ، والتجسس يستوجب إفشاء العيوب والأسرار ، والاطلاع عليها يستوجب الغيبة ، والإسلام ينهى عن جميعها علة ومعلولا!

ولتقبيح هذا العمل يتناول القرآن مثلا بليغا يجسّد هذا الأمر فيقول :( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) !.

أجل ، إنّ كرامة الأخ المسلم وسمعته كلحم جسده ، وابتذال ماء وجهه بسبب اغتيابه وإفشاء أسراره الخفية كمثل أكل لحمه.

كلمة «ميتا» للتعبير عن أنّ الاغتياب إنّما يقع في غياب الأفراد ، فمثلهم كمثل الموتى الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم ، وهذا الفعل أقبح ظلم يصدر عن الإنسان في حق أخيه!.

أجل ، إنّ هذا التشبيه يبيّن قبح الاغتياب وإثمه العظيم.

وتولي الروايات الإسلامية ـ كما سيأتي بيانها ـ أهمية قصوى لمسألة الاغتياب ، ونادرا ما نجد من الذنوب ما فيه من الإثم إلى هذه الدرجة.

وحيث أنّه من الممكن أن يكون بعض الأفراد ملوّثين بهذه الذنوب الثلاثة ويدفعهم وجدانهم إلى التيقّظ والتنبّه فيلتفتون إلى خطئهم ، فإنّ السبيل تفتحه الآية لهم إذ تختتم بقوله تعالى :( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) .

فلا بدّ أن تحيا روح التقوى والخوف من الله أوّلا : وعلى أثر ذلك تكون التوبة والإنابة لتشملهم رحمة الله ولطفه.

* * *

بحوث

١ ـ الأمن الاجتماعي الكامل

! إنّ الأوامر أو التعليمات الستة الواردة في الآيتين آنفتي الذكر (النهي عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والتجسس والاغتياب) إذا نفّذت

٥٥١

في المجتمع فإنّ سمعة وكرامة الأفراد في ذلك المجتمع تكون مضمونة من جميع الجهات ، فلا يستطيع أحد أن يسخر من الآخرين ـ على أنه أفضل ـ ولا يمدّ لسانه باللمز ، ولا يستطيع أن يهتك حرمتهم باستعمال الألقاب القبيحة ولا يحقّ له حتى أن يسيء الظن بهم ، ولا يتجسس عن حياة الأفراد الخاصة ولا يكشف عيوبهم الخفية (باغتيابهم).

وبتعبير آخر إنّ للإنسان رؤوس أموال أربعة ويجب أن تحفظ جميعا في حصن هذا القانون وهي : «النفس والمال والناموس وماء الوجه».

والتعابير الواردة في الآيتين محل البحث والروايات الإسلامية تدل على أنّ ماء وجه الأفراد كأنفسهم وأموالهم بل هو أهم من بعض الجهات.

الإسلام يريد أن يحكم المجتمع أمن مطلق ، ولا يكتفي بأن يكفّ الناس عن ضرب بعضهم بعضا فحسب ، بل أسمى من ذلك بأن يكونوا آمنين من ألسنتهم ، بل وأرقى من ذلك أن يكونوا آمنين من تفكيرهم وظنّهم أيضا وأن يحسّ كل منهم أنّ الآخر لا يرشقه بنبال الاتهامات في منطقة أفكاره.

وهذا الأمن في أعلى مستوى ولا يمكن تحقّقه إلّا في مجتمع رسالي مؤمن.

يقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصدد : «إنّ الله حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظنّ به السوء»(١) .

إنّ سوء الظن لا أنّه يؤثر على الطرف المقابل ويسقط حيثيّته فحسب ، بل هو بلاء عظيم على صاحبه لأنّه يكون سببا لإبعاده عن التعاون مع الناس ويخلق له عالما من الوحشة والغربة والانزواء كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «من لم يحسن ظنّه استوحش من كلّ أحد»(٢) .

وبتعبير آخر ، إنّ ما يفصل حياة الإنسان عن الحيوان ويمنحها الحركة والرونق

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٦٨.

(٢) غرر الحكم الصفحة ٦٩٧.

٥٥٢

والتكامل هو روح التعاون الجماعي ، ولا يتحقق هذا الأمر إلّا في صورة أن يكون الاعتماد على الناس (وحسن الظن بهم) حاكما في حين أنّ سوء الظن يهدم قواعد هذا الاعتماد ، وتنقطع به روابط التعاون ، وتضعف به الروح الاجتماعية.

وهكذا الحال في التجسس والغيبة أيضا.

إنّ سيئ النظرة والظن يخافون من كلّ شيء ويستوحشون من كلّ أحد وتستولي على أنفسهم نظرة الخوف ، فلا يستطيعون أن يقفوا على ولي ومؤنس يطوي الهموم ، ولا يجدون شريكا للنشاطات الاجتماعية ، ولا معينا ونصيرا ليوم الشدّة!

ولا بأس بالالتفات إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّ المراد من «الظن» هنا هو الظن الذي لا يستند إلى دليل ، فعلى هذا إذا كان الظن في بعض الموارد مستندا إلى دليل فهو ظنّ معتبر ، وهو مستثنى من هذا الحكم ، كالظن الحاصل من شهادة نفرين عادلين.

٢ ـ لا تجسّسوا!

رأينا أنّ القرآن يمنع جميع أنواع التجسس بصراحة تامّة ، وحيث إنّه لم يذكر قيدا أو شرطا في الآية فيدل هذا على أنّ التجسس في أعمال الآخرين والسعي إلى إذاعة أسرارهم إثم ، إلّا أنّ القرائن الموجودة داخل الآية وخارجها تدل على أنّ هذا الحكم متعلّق بحياة الأفراد الشخصية والخصوصية.

ويصدق هذا الحكم أيضا في الحياة الاجتماعية في صورة أن لا يؤثر في مصير المجتمع.

لكن من الواضح أنّه إذا كان لهذا الحكم علاقة بمصير المجتمع أو مصير الآخرين فإنّ المسألة تأخذ طابعا آخر ، ومن هنا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أعدّ أشخاصا وأمرهم أن يكونوا عيونا لجمع الأخبار واستكشاف المجريات

٥٥٣

واستقصائها ليحيطوا بما له علاقة بمصير المجتمع.

ومن هذا المنطلق أيضا يمكن للحكومة الإسلامية أن تتّخذ أشخاصا يكونون عيونا لها أو منظمة واسعة للإحاطة بمجريات الأمور ، وأن يواجهوا المؤامرات ضد المجتمع أو التي يراد بها إرباك الوضع الأمني في البلاد ، فيتجسّسوا للمصلحة العامة حتى لو كان ذلك في إطار الحياة الخاصة للأفراد!

إلّا أنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يكون ذريعة لهتك حرمة هذا القانون الإسلامي الأصيل ، وأن يسوّغ بعض الأفراد لأنفسهم أن يتجسّسوا في حياة الأفراد الخاصة بذريعة التآمر والإخلال بالأمن ، فيفتحوا رسائلهم مثلا ، أو يراقبوا الهاتف ويهجموا على بيوتهم بين حين وآخر!!

والخلاصة أنّ الحدّ بين التجسس بمعناه السلبي وبين كسب الأخبار الضرورية لحفظ أمن المجتمع دقيق وظريف جدا ، وينبغي على مسئولي إدارة الأمور الاجتماعية أن يراقبوا هذا الحدّ بدقّة لئلّا تهتك حرمة أسرار الناس ، ولئلّا يتهدّد أمن المجتمع والحكومة الإسلامية!.

٣ ـ الغيبة من أعظم الذنوب وأكبرها!

قلنا إنّ رأس مال الإنسان المهم في حياته ماء وجهه وحيثيّته ، وأي شيء يهدّده فكأنّما يهدّد حياته بالخطر.

وأحيانا يعدّ اغتيال وقتل الشخصية أهم من اغتيال الشخص نفسه ، ومن هنا كان إثمه أكبر من قتل النفس أحيانا.

إنّ واحدة من حكم تحريم الغيبة أن لا يتعرّض هذا الإعتبار العظيم للأشخاص ورأس المال آنف الذكر لخطر التمزّق والتلوّث وأن لا تهتك حرمة الأشخاص ولا تلوّث وحيثيّاتهم ، وهذا مطلب مهم تلقاه الإسلام باهتمام بالغ!

والأمر الآخر إنّ الغيبة تولّد النظرة السيئة وتضعف العلائق الاجتماعية وتوهنها

٥٥٤

وتتلف رأس المال الاعتماد وتزلزل قواعد التعاون «الاجتماعي»!

ونعرف أنّ الإسلام أولى أهمية بالغة من أجل الوحدة والانسجام والتضامن بين أفراد المجتمع ، فكلّ أمر يقوي هذه الوحدة فهو محل قبول الإسلام وتقديره ، وما يؤدّي إلى الإخلال بالأواصر الاجتماعية فهو مرفوض ، والاغتياب هو أحد عوامل الوهن والتضعيف

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ الاغتياب ينثر في القلوب بذور الحقد والعداوة وربّما أدّى أحيانا إلى الاقتتال وسفك الدماء في بعض الأحيان.

والخلاصة أنّنا حين نقف على أنّ الاغتياب يعدّ واحدا من كبائر الذنوب فإنّما هو لآثاره السيئة فردية كانت أم اجتماعية!

وفي الروايات الإسلامية تعابير مثيرة في هذا المجال نورد هنا على سبيل المثال بعضا منها!

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل وأربى الربى عرض الرجل المسلم»(١) .

وما ذلك إلّا لأنّ الزنا وإن كان قبيحا وسيئا ، إلّا أنّ فيه جنبة حق الله ، ولكن الربا وما هو أشدّ منه كإراقة ماء وجه الإنسان وما إلى ذلك فيه جنبة حق الناس.

وقد ورد في رواية أخرى أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب يوما بصوت عال ونادى : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه! تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّه من تتّبع عورة أخيه تتّبع الله عورته ومن تتّبع الله عورته يفضحه في جوف بيته»(٢) .

كما ورد في حديث ثالث أن الله أوحى لموسىعليه‌السلام قائلا : «من مات تائبا من

__________________

(١) المحجّة البيضاء ج ٥ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٥٢.

٥٥٥

الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة ، ومن مات مصرا عليه فهو أوّل من يدخل النّار»(١) .

كما نقرأ حديثا آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه»(٢) .

وهذا التشبيه يدلّ على أن الاغتياب كمثل الجرب الذي يأكل اللحم ، فإنّه يذهب بالإيمان بسرعة.

ومع الالتفات إلى أنّ بواعث الغيبة ودوافعها أمور متعدّدة كالحسد والتكبّر والبخل والحقد والأنانية وأمثالها من صفات دميمة وقبيحة يتّضح السرّ في سبب كون الغيبة وتلويث سمعة المسلمين وهتك حرمتهم لها هذا الأثر المدمّر لإيمان الشخص.

والروايات الإسلامية في هذا الصدد كثيرة ، ونختتم بحثنا هذا بذكر حديث آخرنقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام إذ يقول : «من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروّته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان»(٣) .

إنّ جميع هذه التأكيدات والعبارات المثيرة إنما هي للأهمية القصوى التي يوليها الإسلام لصون ماء الوجه وحيثيّة المؤمنين الاجتماعية ، وكذلك للأثر المخرّب ـ الذي تتركه الغيبة ـ في وحدة المجتمع والاعتماد المتبادل في القلوب ، وأسوأ من كل ذلك أنت الغيبة تسوق إلى إشعال نار العداوة والبغضاء والنفاق وإشاعة الفحشاء في المجتمع. لأنّه حين تنكشف عيوب الناس الخفيّة عن طريق الغيبة لا تبقى لها خطورة في أعين الناس ويكون التلوّث بها في غاية البساطة!

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب الغيبة ، الحديث ١ ـ الآكلة نوع من الأمراض الجلدية.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، الباب ١٥٧ ، الحديث ٢ ، الصفحة ٦٠٨.

٥٥٦

٤ ـ مفهوم الاغتياب؟

«الغيبة» أو الاغتياب كما هو ظاهر الاسم ما يقال في غياب الشخص ، غاية ما في الأمر أنّه بقوله هذا يكشف عيبا من عيوب الناس. سواء كان عيبا جسديا أو أخلاقيّا أو في الأعمال أو في المقال بل حتى في الأمور المتعلّقة به كاللباس والبيت والزوج والأبناء وما إلى ذلك!

فبناء على هذا ما يقال عن الصفات الظاهرة للشخص ، الآخر لا يعدّ اغتيابا ، إلّا أن يراد منه الذم والعيب فهو في هذه الصورة حرام ، كما لو قيل في مقام الذم أنّ فلانا أعمى أو أعور أو قصير القامة أو شديد الأدمة والسمرة أكوس اللحية إلخ

فيتّضح من هذا أنّ ذكر العيوب الخفية بأي قصد كان يعدّ غيبة وهو حرام أيضا ، وذكر العيوب الظاهرة إذا كان بقصد الذم فهو حرام ، سواء أدخلناه في مفهوم الغيبة أم لا؟! كل هذا في ما لو كانت هذه العيوب في الطرف الآخر واقعية ، أمّا إذا لم تكن أصلا فتدخل تحت عنوان «البهتان» وإثمه أشدّ من الاغتياب بمراتب.

ففي حديث ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه ، وأمّا الأمر الظاهر فيه مثل الحدّة والعجلة فلا ، والبهتان أن تقول ما ليس فيه»(١) .

ومن هنا يتبيّن أنّ ما يتبجّح به العوام من أعذار في الغيبة غير مقبول كأن يقول المغتاب : ليس هذا اغتيابا بل هو صفته ، في حين إذا لم يكن قوله الذي يعيبه فيه صفة له فهو بهتان لا أنّه غيبة.

أو أن يقول : هذا كلام أقوله في حضوره أيضا ، في حين أنّ كلامه أمام الطرف الآخر لا يترتّب عليه إثم الاغتياب فحسب ، بل يتحمّل بسبب الإيذاء إثما أكبر ووزرا أثقل.

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب الغيبة والبهت ، الحديث ٧.

٥٥٧

٥ ـ علاج الغيبة والتوبة منها!

إنّ الغيبة كسائر الصفات الذميمة تتحوّل تدريجا إلى صورة مرض نفسي بحيث يلتذ المغتاب من فعله ويحس بالاغتباط والرضا عند ما يريق ماء وجه فلان ، وهذه مرتبة من مراتب المرض القلبي الخطير جدا.

ومن هنا فينبغي على المغتاب أن يسعى إلى علاج البواعث الداخلية للاغتياب التي تكمن في أعماق روحه وتحضّه على هذا الذنب ، من قبيل البخل والحسد والحقد والعداوة والاستعلاء والأنانية!

فعليه أن يطهّر نفسه عن طريق بناء الشخصية والتفكير في العواقب السيئة لهذه الصفات الذميمة وما ينتج عنها من نتائج مشؤومة ، ويغسل قلبه عن طريق الرياضة النفسية ليستطيع أن يحفظ لسانه من التلوّث بالغيبة.

ثمّ يتوجّه إلى مقام التوبة ، وحيث أنّ التوبة من الغيبة فيها «جنبة» حق الناس ، فإنّ عليه إذا كان ممكنا ولا يحصل له أيّ مشكل أو معضل ـ أن يعتذر ممّن اغتابه حتى ولو بصورة مجملة أو معمّاة كأن يقول : إنّني أغتابك أحيانا لجهلي فسامحني واعف عني ولا يطيل في بيان الغيبة وشرحها لئلّا يحدث عامل آخر للفساد أو الإفساد!

وإذا لم يستطع الوصول إلى الطرف الآخر ، أو لا يعرفه ، أو أنّه مضى إلى ربّه فيستغفر له ويعمل صالحا ، فلعلّ الله يغفر له ببركة العمل الصالح ويرضي عنه الطرف الآخر.

٦ ـ موارد الاستثناء!

وآخر ما ينبغي ذكره في شأن الغيبة أنّ قانون الغيبة كأي قانون آخر له استثناءات ، من جملتها أنّه يتفق أحيانا في مقام «الاستشارة» مثلا لانتخاب الزوج أو الشريك في الكسب وما إلى ذلك أن يسأل إنسان أنسانا آخر ، فالأمانة في

٥٥٨

المشورة التي هي قانون إسلامي مسلّم به توجب أن تبيّن العيوب إن وجدت في الشخص الآخر لئلّا يتورّط المسلم في مشكلة ، فمثل هذا الاغتياب بمثل هذا القصد لا يكون حراما.

وكذلك في الموارد الأخرى التي فيها أهداف مهمّة كهدف المشورة في العمل أو لإحقاق الحق أو التظلّم وما إلى ذلك.

وبالطبع فإنّ «المتجاهر بالفسق» خارج عن موضوع الغيبة ، ولو ذكر إثمه في غيابه فلا إثم على مغتابه ، إلّا أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ هذا الحكم خاص بالذنب الذي يتجاهر به فحسب.

وممّا يسترعي الالتفات أيضا هو أنّ الغيبة ليست حراما فحسب ، فالاستماع إليها حرام أيضا ، والحضور في مجلس الاغتياب حرام ، بل يجب طبقا لبعض الروايات أن يردّ على المغتاب ، يعني أن يدافع عن أخيه المسلم الذي يراد إراقة ماء وجهه ، وما أحسن مجتمعا تراعى فيه هذه الأصول الأخلاقية بدقّة!

* * *

٥٥٩

الآية

( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) )

التّفسير

التقوى أغلى القيم الإنسانية :

كان الخطاب في الآيات السابقة موجّها للمؤمنين وكان بصيغة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) وقد نهى الذكر الحكيم في آيات متعدّدة عمّا يوقع المجتمع الإسلامي في خطر ، وتكلّم في جوانب من ذلك.

في حين أنّ الآية محل البحث تخاطب جميع الناس وتبيّن أهم أصل يضمن النظم والثبات ، وتميّز الميزان الواقعي للقيم الإنسانية عن القيم الكاذبة والمغريات الباطلة. فتقول :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ) .

والمراد بـ( خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ) هو أصل الخلقة وعودة أنساب الناس إلى «آدم وحواء» ، فطالما كان الجميع من أصل واحد فلا ينبغي أن تفتخر قبيلة على

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592