الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 184463 / تحميل: 6218
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ورابعاً : بأن الشيخ الطوسي نقل اجماع الإمامية على العمل بجميع الاخبار « التي رووها في تصانيفهم ، ودونوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ، ولا يتدافعونه الخ »(1) .

( وصرح الشيخ محمد بن الحسن الحر : بأن الشيخ الطوسي ، وغيره نقلوا « الاجماع على العمل بروايات الجميع الموجودة في الكتب المعتمدة »(2) . فاذا كشف ذلك الاجماع عن اقتران احاديث اصحابه بقرائن الصحة فليكشف هذا الاجماع عن اقتران احاديث جميع تصانيفنا ، وأصولنا بذلك.

لكن فقهاءنا لم يلتزموا به. كما أنهم لم يلتزموا بما جزم به الاخباريون من احتفاف جميع احاديث كتبنا الموثوق بها بالقرائن المفيدة للعلم بصدورها ولم يعملوا عند فقد النصوص بفتاوى الشيخ ابي الحسن علي بن بابويه الواردة في رسالته ( الشرائع ) ، مع ان الشهيد في ( الذكرى ) ، والمفيد الثاني ولد الشيخ الطوسي ، نقلا عمل قدماء الفقهاء بتلك الفتاوى « عند اعواز النصوص تنزيلا لفتاواه منزلة رواياته ». وذكر الشيخ الانصاري : ان غير واحد حكى ذلك عن القدماء(3) .

وعلى تقدير كشف ذلك الاجماع عن تلك القرائن لشخص ، وحصول الوثوق له بصدور تلك الاحاديث تكون حجة في حقه ، كما هو شأن كل وثوق شخصي.

__________________

1 ـ عدة الاصول ص 51.

2 ـ الوسائل ج 3 ـ الفائدة 7.

3 ـ فرائد الاصول ص 98 ـ 311.

٦١

اصحاب الاجماع لا يروون إلا عن ثقة

الرابع : ان أصحاب الاجماع لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة؛ فيلزم العمل باحاديثهم لذلك. وهذه الدعوى لم تثبت بالصراحة في حق جميع اولئك الجماعة ، وانما ذكرها الشيخ الطوسي في ثلاثة منهم ، محمد بن ابي عمير ، وصفوان بن يحيى ، واحمد بن محمد بن ابي نصر ، وعطف عليهم « غيرهم من الثقات الذين عرفوا : بانهم لا يروون ، ولا يرسلون إلا عمن يوثق به » على ما سبق(1) ، ولذا نقل الشهيد في ( الذكرى ) وغيره عن فقهائنا ، قبول مراسيل اولئك الثلاثة فحسب. للنص عليهم والاجمال في غيرهم. هذا بلحاظ الاصل والقاعدة.

وأما عند العمل والتطبيق فنراهم اغفلوا البزنطي ، وصفوان ، وخصوا ابن ابي عمير بالذكر ، ولاجله أورد الشيخ المامقاني بقوله : « ونراهم في الفقه لم يلتزموا بذلك إلا في حق ابن ابي عمير ، ولا ارى للقصر عليه وجهاً ، لان المستند في حق مراسيل ابن أبي عمير هو الاجماع المزبور ، وهو مشترك بينهم ، فقبوله في ابن ابي عمير ، والاغماض عنه في يونس وصفوان ، والبزنطي مما لم افهم وجهه »(2) .

ويورد على الشيخ المامقاني بذكره ليونس مع الثلاثة ، ولم يذكره الشيخ الطوسي في كلامه. كا يورد على الوحيد البهبهاني باهماله للبزنطي في قوله ـ عند ذكر امارات الوثاقة ـ : « ومنها رواية صفوان بن يحيى ، وابن ابي عمير عنه ، فانها إمارة الوثاقة ، لقول الشيخ في ( العدة ) : إنهما لا يرويان

__________________

1 ـ انظر ص 41.

2 ـ مقباس الهداية ص 49.

٦٢

 إلا عن ثقة »(1) . مع ان الشيخ الطوسي عد البزنطي ثالثاً لهما. نعم ألحقه الوحيد بهما في ذيل كلامه ، لكنه لا وجه لفصله عنهما اولا ليحتاج الى الحاقه.

و ناقش الشيخ النوري الفقهاء في قبول مراسيل اولئك الثلاثة فحسب وعده من الخطأ المحض ، وصرح : بان الشيخ الطوسي ناظر الى اصحاب الاجماع ، وانهم لا يروون ، ولا يرسلون إلا عن ثقة ، ومقتضاه قبول مراسيلهم جميعاً. وقال : « إلا ان المنصف المتأمل في هذا الكلام لا يرتاب في ان المراد من قوله : من الثقات الذين الخ ، أصحاب الاجماع المعهودين اذ ليس في جميع ثقات الرواة جماعة معروفون وبصفة خاصة مشتركون فيها ممتازون بها عن غيرهم غير هؤلاء ، فان صريح كلامه ان فيهم جماعة معروفين(2) عند الاصحاب بهذه الفضيلة ، ولا تجد في كتب هذا الفن من طبقة الثقات عصابة مشتركين في فضيلة غير هؤلاء »(3) .

لكن هذا يتوقف على الجزم بان الشيخ الطوسي ناظر في كلامه الى أصحاب الاجماع ، فيشترك الجميع في هذا الحكم ، ولا يختص بأولئك الثلاثة ، لكنه لم يثبت. ولم يحتمله احد من كلامه ، ولذا استدل القائلون بحجية أحاديث اصحاب الاجماع بعدة وجوه ، ولم يشيروا إلى كلام الشيخ ولو جرى فيهم لكان اولى بالذكر.

والذي يبدو لي من كلام الشيخ الطوسي انه بصدد بيان كبرى كلية وهي قبول مراسيل كل من علم بأنه لا يرسل إلا عن ثقة ، ثمّ طبقها على اولئك الثلاثة ، لأنهم بعض مصاديقها. وعليه فتحتاج عند تطبيقها على

____________

1 ـ تعليقة منهج المقال ص 10.

2 ـ الوارد في النص ( معروفون ) ولكنه غلط.

3 ـ مستدرك الوسائل ج 3 ص 758.

٦٣

غيرهم الى احراز عدم ارسالهم عن غير الثقة. ولذا اختلف الفقهاء في مراسيل بعض الاعاظم ، فقبلها جماعة لما احرزوا ذلك منهم ، وردها آخرون لعدم احرازه ، على ما سيأتي.

نعم سبق أن جماعة فسروا جملة ( تصحيح ما يصح عن اصحاب الاجماع ) بقبول ما صح عنهم من الاحاديث مطلقاً ، بلا فرق بين مسانيدهم ومراسيلهم ، ومرافيعهم ، ومقاطيعهم ، فتكون مراسيلهم حجة لهذا الاجماع لا لما ذكره الشيخ الطوسي. ولذا قال الشيخ محمد حسن في ( جواهره )(1) عند ذكره مرسلاً لحريز : « وخبر حريز وإن كان مرسلا ، إلا انه في السند حماد ، وهو ممن اجمعت العصابة على ( تصحيح ما يصح عنه ) ، فلا يقدح ضعف من بعده ». لكنه سبق الاشكال على هذا الاجماع من عدة وجوه ، فلا يصلح مدركاً لحجية مراسيل اولئك الجماعة.

 حاديث الثلاثة

يبقى البحث في خصوص أحاديث البزنطي ، وصفوان ، وابن ابي عمير حيث ذكر الشيخ الطوسي انهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة ، ونقل عن الطائفة انها سوّت بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم ، فان تم ذلك حصل امتياز لهؤلاء الرواة الثلاثة ، ولزم العمل باحاديثهم اجمع مسانيد ومراسيل.

لكن ناقش فيه استاذنا المحقق الخوئي : بأن الظاهر من عبارة الشيخ الطوسي انه اجتهد في دعواه أن اولئك الثلاثة لا يروون ، ولا يرسلون إلا عن ثقة ، حيث قال : « فان كان ممن يعلم بأنه لا يرسل إلا عن ثقة الخ ». وليس هذا شهادة منه بوثاقة من يروون عنه ، وإنما هو استعلام من حالهم

__________________

1 ـ الجواهر ج 2 ص 316.

٦٤

بحسب اجتهاده ، فلا يكون حجة في حقنا.

ويورد عليه ، بأنه منافي لما نقله الشيخ الطوسي من تسوية الطائفة بين مراسيل اولئك الثلاثة ، ونظائرهم ، وبين ما اسنده غيرهم ، لظهوره في ان عدم إرسال الثلاثة عن غير الثقة كان معروفاً لدى الطائفة ولاجله اعتمدت على مراسيلهم ، فلا يكون اجتهاداً منه.

وأجاب الاستاذ عن ذلك : بان الشيخ الطوسي ، وإن نقل عن الطائفة التسوية بين مراسيل الثلاثة ، ومسانيد غيرهم ، إلا انه اجتهد في أن سبب ذلك عدم ارسالهم عن غير الثقة ، ولم ينقله لنا عن الطائفة.

تحقيق البحث

والتحقيق أن مدرك القول : بأن اولئك الثلاثة لا يروون ، ولا يرسلون إلا عن ثقة ، احد امور ثلاثة ذكرها الشهيد الثاني في ( درايته ) موجزاً(1) وبسطنا البحث والجواب عنها هنا.

الاول : استقراء حال جميع من يروون ، ويرسلون عنه من الرواة فلم ير فيهم ضعيف. والجواب عنه.

أولا : عدم تصريح احد بذلك الاستقراء.

وثانياً : عدم إمكانه في المراسيل للجهل بمن ارسل عنه ، خصوصاً مراسيل ابن ابي عمير التي امتازت على غيرها. ولذا قال الشهيد الثاني : إن دون اثبات هذا المعنى خرط القتاد ، وإن صاحب ( البشرى ) نازعهم في ذلك. فان ابن ابي عمير قد اضطر الى الارسال بسبب ضياع كتبه ، فهو نفسه قد غاب عنه اسماء بعض الذين روى عنهم ، فكيف يمكن لغيره

__________________

1 ـ الدراية للشهيد الثاني ص 48 ـ 49.

٦٥

 الاطلاع عليهم ، ليعرف حالهم.

قال الشيخ النجاشي في ابن أبي عمير : « وقيل : إن أخته دفنت كتبه في حالة استتاره وكونه في الحبس اربع سنين ، فهلكت الكتب ، وقيل بل تركتها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت ، فحدّث من حفظه ، ومما كان سلف له في ايدي الناس ، فلهذا اصحابنا يسكنون الى مراسيله »(1) ولا ندري كيف صار ضياع كتبه ، وتلفها سبباً للسكون الى مراسيله.

وقال الشيخ الكشي : « وذهبت كتب ابن ابي عمير ، فلم يخلص كتب احاديثه فكان يحفظ أربعين مجلداً ، فسماه نوادر ، فلذلك يوجد احاديث متقطعة الاسانيد »(2) .

وثالثاً : أنه ثبت رواية اولئك الثلاثة عن بعض الضعفاء ، فلم يبق وثوق للاخذ بتلك الكلية المدعاة ، وهي : لا يروون إلا عن ثقة.

ا لثاني : شهادة اولئك الثلاثة واخبارهم : بانهم لا يروون ، ولا يرسلون الا عن ثقة. والجواب عنه.

أ ولا : عدم نقل احد تلك الشهادة عن اولئك الثلاثة ، فلا طريق لثبوتها.

وثانياً : انها كسائر الشهادات بتعديل الرواة يمكن معارضتها بجرح الثقات الآخرين لهم على تقدير ثبوته ، وبما ان الراوي مجهول في المراسيل لم يثبت عدم جرحه ليخلص توثيقه عن المعارض. ولذا قال الشهيد الثاني : « اذا قال الثقة : حدثني ثقة ، ولم يبينه لم يكف ذلك الاطلاق والتوثيق في العمل بروايته ، وان اكتفينا بتزكية الواحد ، اذ لابد على تقدير الاكتفاء بتزكيتة من تعيينه ، وتسميته لينظر في امره ، هل اطلق القوم عليه التعديل او تعارض كلامهم فيه ، او لم يذكروه. لجواز كونه ثقة عنده ، وغيره

____________

1 ـ رجال النجاشي ص 229.

2 ـ رجال الكشي ص 363.

٦٦

 قد اطلع على جرحه بما هو جارح عنده ـ أي عند هذا الشاهد بثقته ـ وانما وثقه بناء على ظاهر حاله ، ولو علم به لما وثقه. وأصالة عدم الجارج مع ظهور تزكيته غير كاف في هذا المقام اذ لابد من البحث عن حالة الرواة على وجه يظهر به احد الامور الثلاثة من الجرح ، او التعديل ، او تعارضهما ، حيث يمكن »(1) .

نعم اختار جماعة كفاية مثل هذا التوثيق ، بدليل ان العبرة في باب الجرح ، والتعديل بالظن ، وهو يحصل من ذلك. قال الوحيد البهبهاني عند ذكر امارات الوثاقة ، والمدح : « ومنها ان يقول الثقة : حدثني الثقة وفي افادته التوثيق المعتبر خلاف معروف. وحصول الظن منه ظاهر ، واحتمال كونه في الواقع مقدوحاً لا يمنع الظن ، فضلا عن احتمال كونه ممن ورد فيه قدح كما هو الحال في سائر التوثيقات ، فتأمل الخ »(2) .

فالاكتفاء بمثل هذا التوثيق يبتني على القول بكفاية الظن بالوثاقة. وسيأتي البحث عنه في مبحث ( انسداد باب العلم في التوثيقات ).

و اكتفى المحقق الحلي بقول الراوي : اخبرني بعض اصحابنا. اذا عنى الامامية وإن لم يصفه بالعدالة اذا لم يصفه بالفسق. وعلل ذلك بقوله : « لان اخباره بمذهبه شهادة بانه من اهل الامانة ولم يعلم منه الفسق المانع من القبول. فان قال : عن بعض اصحابه. لم يقبل ، لامكان ان يعني نسبته الى الرواة واهل العلم ، فيكون البحث فيه كالمجهول ».

وقد تعجب منه الشيخ حسن بن الشهيد الثاني بد اشتراطه العدالة في الراوي. واورد عليه بان الاصحاب لا ينحصرون في العدول. على ان « التعديل انما يقبل مع انتفاء معارضة الجرح له ، وانما يعلم الحال مع تعيين

____________

1 ـ الدراية للشهيد الثاني ص 73.

2 ـ تعليقة منهج المقال ص 11.

٦٧

المعدل وتسميته لينظر هل له جارح الخ »(1) .

و ثالثاً : ثبوت رواية اولئك الثلاثة عن بعض الضعفاء ، فنحتمل ان يكون هو الذي ارسلوا عنه فكيف يصح الاخذ بمراسيلهم.

الثالث : ان حسن الظن باولئك الثلاثة لورعهم ، واحتياطهم في امور الدين يقضي بان لا يروون ، ولا يرسلون الا عن ثقة. والجواب عنه.

أولا : ان الورع والاحتياط لا يختص باولئك ، بل يوصف به كثير من رواة احاديث أهل البيت (ع) ، فيلزم العمل بجميع ما رووه مسانيد ومراسيل ، اخذاً بقاعدة ( حسن الظن ) ، بل متى حسن الظن براوي انه لا يروي ، ولا يرسل الا عن ثقة لزم العمل باحاديثه ، وان لم يكن من وجوه الرواة.

وثانياً : ان ذلك اجتهاد ممن ادى حسن ظنه بهم الى تلك النتيجة لا شهادة بوثاقة من ارسلوا او رووا عنه ، فيختص الحكم بمن اجتهد بذلك وحصل له الوثوق دون غيره. وسبق ان الشيخ الطوسي اعطى قاعدة كلية وهي قبول مراسيل كل من علم : بانه لا يرسل إلا عن ثقة ، وطبقها على اولئك الثلاثة ، فاذا علم الفقيه ذلك من حال راوي لزمه العمل بمراسيله.

ولذا حكي عن الشيخ محمد بن الحسن الحر في ( التحرير ) ، والشيخ البهائي في شرح ( الفقيه ) ، وظاهر الفاضل السبزواري في ( الذخيرة ) ، جعل مراسيل الصدوق كالمسانيد. وقال الفاضل المقداد في ( التنقيح ) في حق الشيخ الطوسي : « ومثله لا يرسل إلا عن ثقة ». كما قال في حق ابن ابي عقيل مثله. وقال الشهيد في ( الذكرى ) عند ارسال ابن الجنيد رواية عن اهل البيت (ع) : « وارساله في قوة المسند ، لانه من اعاظم العلماء » ومقتضى هذا التعليل قبول مراسيل الاعاظم مطلقاً. وقال صاحب ( التكملة )

____________

1 ـ معالم الاصول ص 198.

٦٨

إن مراسيل النجاشي كالمسانيد.

قال الشيخ المامقاني بعد نقل ذلك : « يظهر مما سمعته من الشهيد في ( الذكرى ) ، والفاضل المقداد في ( التنقيح ) القول : بان كل ثقة لا يرسل ، ولا يروي الا عن ثقة الخ »(1) .

وسبق نقله ذلك عن جماعة بدليل ان « رواية الفرع عن الاصل تعديل له ، لان العدل لا يروي الا عن العدل وإلا لم يكن عدلا ، بل كان مدلساً وغاشاً »(2) . وضعفها ظاهر.

ولما لم يقم دليل يمكن الركون اليه في ان اولئك الثلاثة لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة كانت المناقشة في مراسيل ابن ابي عمير معروفة لدى الاصحاب(3) . وصرح جماعة بعدم قبولها. منهم الشهيد الثاني ، والسيد ابن طاووس(4) ، والمحقق في ( المعتبر ) ، والشيخ محمد السبط(5) .

وحيث انجر البحث الى مراسيل الأحاديث فقد ناسب التحدث عنها ولو موجزاً. فنقول :

مراسيل الأحاديث

عرف الشهيد الثاني المرسل من الاحاديث ب‍‌ « ما رواه عن المعصومعليه‌السلام من لم يدركه ». وقال : « والمراد بالادراك هنا التلاقي في ذلك الحديث المحدث عنه ، بان رواه عنه بواسطة ، وان ادركه بمعنى اجتماعه به ونحوه. وبهذا المعنى يتحقق ارسال الصحابي عن النبي (ص) ، بان يروي الحديث عنه (ص) بواسطة صحابي آخر الخ »(6) . فتارة تهمل الواسطة

__________________

1 ـ مقباس الهداية ص 50.

2 ـ مقباس الهداية ص 48.

3 ـ منتهى المقال ص 9.

4 ـ الدراية للشهيد الثاني ص 48 ـ 49.

5 ـ مقباس الهداية ص 49.

6 ـ الدراية للشهيد الثاني ص 47.

٦٩

لنسيان او غيره ، واخرى تذكر بلفظ مبهم ، كقول الراوي : عن رجل او عن بعض اصحابنا. ونحوه ، والكل مرسل.

و اختلف في حجية المرسل ، فاختار جماعة حجيته مطلقاً اذا كان المرسل ثقة ، سواء كان صحابياً ، ام جليلاً ام غيرهما ، وسواء اسقط واحداً من السند ام اكثر. وهو المحكي عن البرقي ووالده من الإمامية ، وجمع من العامة. منهم الآمدي ، ومالك ، واحمد ، وابو هاشم ، واتباعه من المعتزلة ، بل حكي عن بعضهم جعله اقوى من المسند واستدلو عليه بامور واضحة الوهن(1) .

وادعى الشيخ الطوسي عمل الطائفة بالمراسيل اذا لم يعارضها من المسانيد الصحيحة ، كعملها بالمسانيد(2) . ومقتضاه حجية المرسل مطلقاً بشرط عدم معارضة المسند الصحيح.

لكن المشهور عدم حجيته. وهو المنسوب الى المحقق ، والعلامة ، والشهيدين ، وسائر من تأخر عنهم من فقهاء الامامية ، كما نسب الى الحاجبي والعضدي ، والبيضاوي ، والرازي ، والقاضي ابي بكر ، والشافعي ، وغيرهم من العامة(3) . وجعله الشهيد الثاني اصح الاقوال للاصوليين ، والمحدثين مستدلا عليه بقوله : « وذلك للجهل بحال المحذوف ، فيحتمل كونه ضعيفاً ويزداد الاحتمال بزيادة الساقط ، فيقوى احتمال الضعف. ومجرد روايته عنه ليس تعديلا ، بل اعم »(4) فوثاقة الراوي ، او حسنه شرط في قبول روايته ، ولم يثبت في المرسل. كما لم يثبت ان ابن أبي عمير ونظائره من الثقات لا يرسلون إلا عن ثقة ، كي تقبل مراسيلهم مطلقاً. كما التزم به الشافعي في سعيد بن المسيب.

____________

1 ـ مقباس الهداية ص 48.

2 ـ عدة الاصول ص 63.

3 ـ مقباس الهداية ص 48.

4 ـ الدراية للشهيد الثاني ص 48.

٧٠

نعم لو اعتمدنا على احاديث اصحاب الاجماع مطلقاً ، تفسيراً لجملة ( تصحيح ما يصح عنهم ) بكفاية صحة السند اليهم ، صحت مراسيلهم وامتازت على غيرها. لكن سبق الاشكال في اصل الاجماع ، وفي تفسير جملته بذلك.

كما انه اذا التزمنا بانجبار ضعف سند الحديث باشتهار عمل الفقهاء به ثبت حجية المرسل الذي عملوا به. ولذا قال استاذنا المحقق الحكيم ـ بعد ذكره لمرسلة ايوب بن نوح الواردة في صلاة العاري ـ : « وإرسالها غير قادح لاعتماد جماعة من الاكابر عليها ، كالفاضلين ، والشهيدين ، والمحقق الثاني ، وغيرهم »(1) . وسيأتي البحث عن ذلك مفصلا.

وقد يحصل الوثوق والاطمينان بصدور المرسل عن المعصوم (ع) فيكون حجة لذلك ، كما في كل حديث حصل الوثوق بصدوره. ولا يبعد حصوله في بعض المراسيل التي تسالم الفقهاء على العمل بها ، كالنبوي الشريف « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » حيث استدل به الفقهاء على ضمان اليد ما أخذته في عدة مباحث.

رواية أصحاب الاجماع عن الضعيف

وسبق الاشارة الى أن ابن أبي عمير ونظائره قد ثبت روايتهم عن بعض الضعفاء. وذلك يوهن دعوى الشيخ الطوسي : انهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة. كما يوهن الاعتماد على احاديث أصحاب الاجماع مطلقاً ، بناء على ان الملاك في قبولها وثاقة من يروون عنه.

وقد رد المحقق في ( المعتبر ) بعض الروايات بالطعن في سندها.

__________________

1 ـ المستمسك ج 5 ص 317.

٧١

 ثمّ قال : « ولو قال قائل : إن مراسيل ابن ابي عمير يعمل بها الاصحاب منعنا ذلك ، لان في رجاله من طعن الأصحاب فيه ، فاذا ارسل احتمل أن يكون الراوي احدهم »(1) .

فمن الذين روى عنهم أصحاب الاجماع الحكم بن عتيبة. روى عنه الفضيل في ( الفقيه ) في باب ميراث الجنين ، وروى جميل بن دراج عن زكريا بن يحيى الشعيري عنه في ( الكافي ) في باب من اوصى وعليه دين وكذا في اقرار بعض الورثة بدين في كتاب الميراث(2) . مع ان الكشي ترجمه ، وذكر عدة روايات في ذمه(3) . كما حكي ذمه عن كتاب ( التحرير الطاووسي )(4) .

و منهم عمرو بن جميع الأزدي البصري قاضي الري ، فان له كتاباً رواه عنه يونس بن عبد الرحمن(5) مع ان الشيخ الطوسي ، والشيخ النجاشي ضعفاه صريحاً(6) .

ومنهم جماعة لم يذكروا بتوثيق ، او مدح ، فهم مجهولون ، كالحكم الاعمى. روى عنه الحسن بن محبوب في ( الفقيه ) في باب احكام المماليك والاماء في كتاب النكاح. وروى عنه ايضاً مرتين في ( الكافي ) في باب حد القاذف(7) . وقال الشيخ الطوسي : « له أصل رويناه بالاسناد الأول عن ابن ابي عمير عن الحسن بن محبوب عن الحكم الأعمى »(8) . وكالحكم

____________

1 ـ مقباس الهداية ص 49.

2 ـ جامع الرواة ج 1 ص 266.

3 ـ رجال الكشي ص 137.

4 ـ تنقيح المقال ج 1 ص 358.

5 ـ الفهرست للشيخ الطوسي ص 111.

6 ـ رجال الشيخ الطوسي ص 249 ، ورجال الشيخ النجاشي ص 205.

7 ـ جامع الرواة ج 1 ص 264.

8 ـ الفهرست للشيخ الطوسي ص 62.

٧٢

 بن أيمن ، روى عنه ابن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى(1) .

ويمكن القول بان أمثال هذين الحكمين ، وإن لم يرد فيهم مدح او توثيق ، إلا أن رواية ابن ابي عمير ، ونظائره عنهم تكفي في وثاقتهم.

ومنهم علي بن ابي حمزة البطائني. فان له اصلا رواه عنه الشيخ الطوسي باسناده عن احمد بن ابي عبد الله ، واحمد بن محمد بن عيسى عن ابن ابي عمير ، وصفوان بن يحيى جميعاً عنه(2) . وروى عنه احمد بن محمد بن ابي نصر البزنطي أيضاً ، حيث قال الشيخ الصدوق : « وما كان فيه عن علي بن ابي حمزة فقد رويته عن محمد بن الحسين بن ابي الخطاب ، عن احمد بن محمد بن أبي نصر ، عن علي بن ابي حمزة »(3) وينصرف الى البطائني ، لانه المعروف صاحب الاصل دون الثمالي الثقة.

فروى عنه هؤلاء الثلاثة الذين هم ملتقى دعوى الشيخ الطوسي ، واجماع الشيخ الكشي. مع ان ضعفه قد اشتهر ، وأصبح مضرباً للأمثال وبما انه مكثر من الرواية ، وهناك قائل بقبول روايته بل توثيقه ، ناسب جداً بسط البحث عن حاله. فنقول.

____________

1 ـ جامع الرواة ج 1 ص 264.

2 ـ الفهرست للشيخ الطوسي ص 96 ـ 97.

3 ـ الفقيه ج 4 ص 87 ـ 88 ، شرح المشيخة.

٧٣

٧٤

ـ 3 ـ

حياة البطائني ـ عَليّ بن ابي حمزة

٧٥

أدلة ضعف البطائني

ترجمه النجاشي بقوله : « علي بن أبي حمزة واسم أبي حمزة سالم البطائني ابو الحسن مولى الأنصار كوفي. وكان قائد أبي بصير يحيى بن القاسم. وله أخ يسمى جعفر بن أبي حمزة. روى عن أبي الحسن موسى ، وروى عن أبي عبد اللّهعليهما‌السلام ، ثم وقف ، وهو أحد عمد الواقفة ، وصنف كتباً عدة »(1) ثم ساق كتبه.

وذكره الشيخ الطوسي في ( الفهرست )(2) ، وفي كتاب ( الرجال )(3) في أصحاب الامام الكاظم (ع) ، ونص على وقفه فيهما كما ذكره في أصحاب الامام الصادق (ع) من كتاب الرجال(4) .

فلم يتعرض له النجاشي في ( رجاله ) ، ولا الشيخ الطوسي في ( كتابه ) بمدح ، ولا قدح سوى الوقف الذي اشتهر به ، ودعا اليه.

وصرح الشيخ الطوسي بذمه في كتاب ( الغيبة ) عند ذكره وكلاء الامام الكاظم (ع) المذمومين ، فقال : « فأما المذمومون منهم فجماعة منهم علي بن أبي حمزة البطائني ، وزياد بن مروان القندي ، وعثمان بن عيسى الرواسي ، كلهم كانوا وكلاء لأبي الحسن موسى (ع) ، وكان عندهم أموال جزيلة ، فلما مضى أبو الحسن موسىعليه‌السلام وقفوا طمعاً في الأموال ، ودفعوا إمامة الرضا (ع) وجحدوه »(5) .

وأورد عدة روايات في ذمه في الفصل الذي عقده لذكر السبب

__________________

1 ـ رجال النجاشي ص 175.

2 ـ انظر ص 96.

3 ـ انظر ص 353.

4 ـ انظر ص 242.

5 ـ الغيبة للشيخ الطوسي ص 227

٧٦

الباعث لقوم على القول بالوقف ، فقال : « فروى الثقات : أن أول من أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي حمزة البطائني ، وزياد بن مروان القندي وعثمان بن عيسى الرواسي. طمعوا في الدنيا ، ومالوا الى حطامها ، واستمالوا قوماً ، فبذلوا لهم شيئاً مما اختانوه من الأموال ، نحو حمزة بن بزيع ، وابن المكاري ، وكرام الخثعمي ، وأمثالهم ».

وروى بسنده عن يونس بن عبد الرحمان أنه قال : « مات أبو ابراهيمعليه‌السلام وليس من قوّامه أحد إلا وعنده المال الكثير ، وكان ذلك سبب وقفهم ، وجحدهم موته طمعاً في الأموال ، كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار ، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار. فلما رأيت ذلك ، وتبينت الحق ، وعرفت من أمر أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ما علمت تكلمت ، ودعوت الناس اليه. فبعثا إلي وقالا : ما يدعوك الى هذا؟ إن كنت تريد المال فنحن نغنيك ، وضمنا لي عشرة آلاف دينار ، وقالا : كف. فأبيت وقلت لهما : إنا روينا عن الصادقينعليهم‌السلام أنهم قالوا : إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه ، فان لم يفعل سلب نور الإيمان. وما كنت لأدع الجهاد وأمر اللّه على كل حال ، فناصباني وأضمرا لي العداوة ».

وروى بسنده عن يعقوب بن يزيد الانباري ، عن بعض أصحابه قال : « مضى أبو ابراهيم (ع) وعند زياد القندي سبعون ألف دينار فأما ابن أبي حمزة فانه أنكره ، ولم يعترف بما عنده الخ ».

وروى بسنده أن يحيى بن مساور قال : « حضرت جماعة من الشيعة وكان فيهم علي بن أبي حمزة ، فسمعته يقول : دخل علي بن يقطين على أبي الحسن موسىعليه‌السلام فسأله عن أشياء فأجابه. ثم قال أبو الحسنعليه‌السلام : يا علي صاحبك يقتلني قال علي : فمن لنا بعدك

٧٧

يا سيدي. فقال (ع) : علي ابني هذا (ع) فقال يحيى بن الحسن لحرب : فما حمل علي بن أبي حمزة على أن برئ منه وحسده. قال : سألت يحيى بن مساور عن ذلك ، فقال : حمله ما كان عنده من ماله اقتطعه ليشقيه في الدنيا والآخرة ».

و روى بسنده عن أبي داود ، قال : كنت أنا وعتيبة بياع القصب عند علي بن أبي حمزة البطائني ، وكان رئيس الواقفة ، فسمعته يقول : قال لي أبو ابراهيمعليه‌السلام إنما أنت وأصحابك ـ يا علي ـ أشباه الحمير الخ ».

وروى بسنده عن احمد بن عمر ، قال : « سمعت الرضا (ع) يقول في ابن أبي حمزة : أليس هو الذي يروي أن رأس المهدي يهدى الى عيسى بن موسى ، وهو صاحب السفياني. وقال : إن أبا إبراهيم يعود الى ثمانية أشهر ، فما استبان لهم كذبه؟ ».

وروى بسنده عن محمد بن سنان ، قال : « ذكر علي بن أبي حمزة عند الرضاعليه‌السلام فلعنه. ثم قال : إن علي بن أبي حمزة أراد أن لا يعبد اللّه في سمائه وأرضه ، فأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ، ولو كره اللعين المشرك. قلت : المشرك. قال : نعم واللّه وإن رغم أنفه ، كذلك هو في كتاب اللّه ، يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ، وقد جرت فيه ، وفي أمثاله ، إنه أراد أن يطفئ نور اللّه »(1) .

وذكره الشيخ الكشي في موارد ثلاثة من كتاب ( رجاله )(2) .

وذكر فيها عدة روايات في ذمه ، فروى بعدة طرق ما نقله الشيخ الطوسي عن أبي داود.

__________________

1 ـ أنظر هذه الروايات في كتاب ( الغيبة ) للشيخ الطوسي ص 46 ، وما بعدها.

2 ـ أنظر ص 255 ـ 277 ـ 288.

٧٨

وروى عن ابن مسعود ، عن علي بن الحسن بن فضال أنه قال : « علي بن أبي حمزة كذاب متهم ، روى أصحابنا : أن أبا الحسن الرضا (ع) قال ـ بعد موت ابن أبي حمزة ـ : إنه أقعد في قبره ، فسئل عن الأئمةعليهم‌السلام فأخبر بأسمائهم حتى انتهى إلي ، فسئل فوقف ، فضرب على رأسه ضربة امتلأ قبره ناراً ».

وروى عن ابن مسعود أنه قال : « سمعت علي بن الحسن يقول : ابن أبي حمزة كذاب ملعون ، قد رويت عنه أحاديث كثيرة ، وكتبت تفسير القرآن من أوله الى آخره ، إلا أني لا أستحل أن أروي عنه حديثاً واحداً ».

وروى بسنده عن يونس بن عبد الرحمان قال : « مات أبو الحسن (ع) وليس من قوامه أحد إلا وعنده المال الكثير ، فكان ذلك سبب وقوفهم وجحودهم موته ، وكان عند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار ».

وروى بسنده عن محمد بن الفضل عن أبي الحسن (ع) قال : « قلت جعلت فداك إني خلفت ابن أبي حمزة ، وابن مهران ، وابن أبي سعيد اشد اهل الدنيا عداوة لك. فقال لي : ما ضرك من ضل اذا اهتديت ، إنهم كذبوا رسول اللّه (ص) وسمعته يقول ـ في ابن ابي حمزة ـ : « أما استبان لكم كذبه ، أليس هو الذي يروي أن رأس المهدي يهدى الى عيسى بن موسى ، وهو صاحب السفياني. وقال : إن أبا الحسن يعود الى ثمانية أشهر؟ ».

وروى بسنده عن يونس بن عبد الرحمان. قال : « دخلت على الرضا (ع) فقال لي : مات علي بن أبي حمزة. قلت : نعم. قال (ع)

٧٩

قد دخل النار. قال : ففزعت(1) من ذلك. قال (ع) : أما أنه سئل عن الامام بعد موسى أبي (ع) فقال : إني لا أعرف إماماً بعده. فقيل لابنه. فضرب في قبره ضربة اشتعل قبره ناراً ».

و روى بسنده عن احمد بن محمد ، عن أبي الحسن (ع) أنه قال : « لما قبض رسول اللّه (ص) جهد الناس في إطفاء نور اللّه ، فأبى اللّه إلا أن يتم نوره بأمير المؤمنين (ع) ، فلما توفي أبو الحسن (ع) جهد علي بن أبي حمزة في إطفاء نور اللّه ، فأبى اللّه إلا أن يتم نوره الخ ».

وروى بسنده عن اسماعيل بن سهل عن بعض أصحابنا حديثاً طويلاً عرض فيه النقاش الدائر بين البطائني والامام الرضا (ع) حول إمامته. وجاء في آخره : أن البطائني قال : « إنا روينا أن الامام لا يمضي حتى يرى عقبه. فقال أبو الحسن (ع) : أما رويتم في هذا الحديث غير هذا. قال : لا. قال (ع) : بلى واللّه لقد رويتم إلا القائم ، وأنتم لا تدرون ما معناه ، ولمَ قيل. قال له علي : بلى واللّه إن هذا لفي الحديث. قال له ابو الحسن (ع) : ويلك كيف اجترأت على شيء تدع بعضه. ثم قال : يا شيخ إتق اللّه ، ولا تكن من الصادين عن دين اللّه تعالى ».

ولذا اشتهر بين الفقهاء ، والرجاليين ضعفه ، وعدم العمل بروايته فأدرجه العلامة الحلي في القسم الثاني من ( خلاصته ) الذي أعده للضعفاء من الرواة ، والذين لا يعمل بروايتهم. وقال عنه : إنه أحد عمد الواقفة.

__________________

1 ـ الظاهر أن فزعه من اجل ذكر النار ، وعذابها ، فان المؤمنين إذا ذكرت النار عندهم وجلت قلوبهم. ولم يكن فزعه من أجل دخول البطائني فيها ، لأن يونس هو الذي كان يندد به ، ويعلن عن كذبه ، وبدعه ، وليس من الغريب أن يدخل المبدع المضلل النار.

٨٠

وقد نقل جمع آخر من علماء السنة ، وكبائر علماء الشيعة هذه الحادثة في كتب عديدة ، تارة بدون ذكر الآية أعلاه ، وأخرى مع ذكرها(١) .

إنّ القرائن الموجودة في الآيات توحي بأن هذا الحديث المعروف من قبيل تطبيق المصداق ، لا أنه سبب النّزول ، وبتعبير آخر : فإنّ سبب نزول الآية هو قصة عيسى وقول المشركين وأصنامهم ، لكن لما وقع لعليعليه‌السلام حادث شبيه لذاك بعد ذلك القول التاريخي للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هذه الآية هنا ليبين أنّ هذا الحادث كان مصداقا لذاك من جهات مختلفة.

ولئلا يتوهموا أنّ الله سبحانه محتاج لعبوديتهم ، وأنّه يصر عليها ، فإنّه تعالى يقول في الآية التالية :( وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ) ملائكة تخضع لأوامر الله ، ولا تعرف عملا إلّا طاعته وعبادته.

واختار جمع من المفسّرين تفسيرا آخر للآية ، يصبح معنى الآية على أساسه : ولو نشاء لجعلنا أبناءكم ملائكة يخلفونكم في الأرض. بناء على هذا فلا تعجبوا من أن يولد المسيح من دون أب ، فإنّ اللهعزوجل قادر على أن يخلق ملكا من الإنسان ، وهو نوع يختلف عنه(٢) .

ولما كان تولد الملك من الإنسان لا يبدوا مناسبا ، فقد فسّره بعض كبار المفسّرين بولادة الأبناء الذين يتمتعون بصفات الملائكة ، وقالوا : إنّ المراد : لا تعجبوا من أن تكون لعبد كالمسيح القدرة على إحياء الموتى ، وإبراء المرضى بإذن الله ، وهو في الوقت نفسه عبد مخلص مطيع لأمر الله ، فإنّ الله قادر على أن يخلق

__________________

(١) لمزيد الاطلاع راجعوا : كتاب إحقاق الحق ، المجلد ٣ ، صفحة ٣٩٨ وما بعدها ، تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، صفحة ٦٠٩. وما بعدها ، وتفسير مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) اختار التّفسير الأوّل ، الطبرسي في مجمع البيان ، والشيخ الطوسي في التبيان ، وأبو الفتوح الرازي وآخرون. أما التّفسير الثّاني فقد نقله القرطبي والآلوسي في روح المعاني ، والزمخشري في الكشاف ، والمراغي ، على أنه المعنى الوحيد للآية ، أو أنّه أحد معنيين لها.

٨١

من أبنائكم من تكون فيه كل صفات الملائكة وطبائعهم(١) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية أكثر من الجميع ، وهذه التفاسير بعيدة(٢) .

والآية التالية إشارة إلى خصيصة أخرى من خصائص المسيحعليه‌السلام فتقول : إنّ عيسى سبب العلم بالساعة( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) إمّا أن ولادته من غير أب دليل على قدرة الله اللامتناهية ، فتحل على ضوئها مسألة الحياة بعد الموت ، أو من جهة نزول المسيحعليه‌السلام من السماء في آخر الزمان طبقا لروايات عديدة ، ونزوله هذا دليل على اقتراب قيام الساعة.

يقول جابر بن عبد الله : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ينزل عيسى بن مريم ، فيقول أميرهم : تعالى صلّ بنا ، فيقول : لا ، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة من الله لهذه الأمّة»(٣) .

ونقرأ في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم»(٤) .

وعلى أية حال ، فإنّ إطلاق (العلم) على المسيح نوع من التأكيد والمبالغة ، وهو إشارة إلى أن نزوله من علامات القيامة حتما.

واحتمل أيضا أن يعود الضمير في (أنه) على القرآن ، وعلى هذا يكون معنى الآية : إنّ نزول القرآن الذي هو آخر الكتب السماوية ، دليل على اقتراب الساعة ، ويخبر عن قيام القيامة.

غير أنّ الآيات السابقة واللاحقة حول عيسى تقوي التّفسير الأوّل.

ثمّ تقول الآية بعد ذلك : إنّ قيام الساعة حتم ، ووقوعها قريب ،( فَلا تَمْتَرُنَّ بِها )

__________________

(١) الميزان ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) طبقا للتفسير الأوّل ، فإنّ (من) للبدلية ، وبناء على التّفسيرين الثّاني والثّالث فإنّ (من) للإنشاء ، والابتداء.

(٣) نقل هذا الحديث صاحب مجمع البيان عن صحيح مسلم في ذيل الآيات مورد البحث.

(٤) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث ، وتفسير روح المعاني ، المجلد ٥ ، صفحة ٨٨.

٨٢

لا من حيث الإعتقاد بها ولا من حيث الغفلة عنها.

( وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) وأي صراط أكثر استقامة من الذي يخبركم بالمستقبل الخطير الذي ينتظركم ، ويحذركم منه ، ويدلكم على طريق النجاة من أخطار يوم البعث؟!

إلّا أن الشيطان يريد أن يبقيكم في عالم الغفلة والارتباط بها ، فاحذروا :( وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

لقد أظهر عداءه لكم منذ اليوم الأوّل ، مرّة عند وسوسته لأبيكم وأمكم ـ آدم وحواء ـ وإخراجهما من الجنّة ، وأخرى عند ما أقسم على إضلال بني آدم وإغوائهم ، إلّا المخلصين منهم ، فكيف تخضعون أمام هكذا عدو لدود أقسم على أذاكم ودفعكم إلى الهاوية السحيقة؟ وكيف تسمحون له أن يتسلط على قلوبكم وأرواحكم ، وأن يمنعكم عن طريق الحق بوساوسه المستمرة؟!

* * *

٨٣

الآيات

( وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) )

التّفسير

الذين غالوا في المسيح :

مرت الإشارة إلى جانب من خصائص حياة المسيحعليه‌السلام في الآيات السابقة ، وتكمل هذه الآيات ذلك البحث ، وتؤكّد بالخصوص على دعوة المسيح إلى التوحيد الخالص ، ونفي كل شكل من أشكال الشرك.

تقول الآية أوّلا :( وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) وبهذا فقد كانت «البينات» ـ أي آيات الله والمعجزات ـ رأسمال عيسى ، إذ كانت تبين حقانيته من جانب ، وتبين من جانب آخر الحقائق

٨٤

المرتبطة بالمبدأ والمعاد واحتياجات حياة البشر.

ويصف عيسىعليه‌السلام محتوى دعوته بـ «الحكمة» في عبارته ، ونحن نعلم أن أساس الحكمة هو المنع من شيء بقصد إصلاحه ، ثمّ أطلقت على كل العقائد الحقّة ، وبرامج الحياة الصحيحة التي تصون الإنسان من أنواع الانحراف في العقيدة والعمل ، وتتناول تهذيب نفسه وأخلاقه ، وعلى هذا فإنّ للحكمة هنا معنى واسعا يشمل «الحكمة العلمية» و «الحكمة العملية».

ولهذه الحكمة ـ إضافة إلى ما مرّ ـ هدف آخر ، وهو رفع الاختلافات التي تخلّ بنظام المجتمع ، وتجعل الناس حيارى مضطربين ، ولهذا السبب نرى المسيحعليه‌السلام يؤكّد على هذه المسألة.

وهنا يطرح سؤال التفت إليه أغلب المفسّرين ، وهو : لماذا يقول :( قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) ولم لا يبيّن الجميع؟

وقد ذكرت أجوبة عديدة لهذا السؤال ، وأنسبها هو :

إنّ الاختلافات التي بين الناس نوعان : منها ما يكون مؤثرا في مصيرهم من الناحية العقائدية والعملية ، ومنها ما يكون في الأمور غير المصيرية ، كالنظريات المختلفة حول نشأة المنظومة الشمسية والسماوات ، وكيفية الأفلاك ، والنجوم ، وماهية روح الإنسان ، وحقيقة الحياة ، وأمثال ذلك.

ومن الواضح أنّ الأنبياء مكلّفون أن ينهوا الاختلافات من النوع الأوّل ويقتلعوها بواسطة تبيان الحقائق ، ولكنّهم غير مكلّفين برفع أي اختلاف كان حتى وإن لم يكن له تأثير في مصير الإنسان مطلقا.

ويحتمل أيضا أن تبيان بعض الاختلافات نتيجة وغاية لدعوة الأنبياء ، أي إنّهم سيوفقون أخيرا في حل بعض هذه الاختلافات ، أمّا حلّ جميع الاختلافات في الدنيا فإنّه أمر غير ممكن ، ولذلك تبيّن آيات متعددة من القرآن المجيد أن أحد خصائص القيامة هو ارتفاع كل الاختلافات وانتهاؤها ، فنقرأ في الآية (٩٢) من

٨٥

سورة النحل :( وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .

وقد جاء هذا المعنى في الآيات ، ٥٥ ـ آل عمران ، ٤٨ ـ المائدة ، ١٦٤ ـ الأنعام ، ٦٩ ـ الحج ، وغيرها(١) .

وتضيف الآية في النهاية :( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) .

بعد ذلك ، ومن أجل أن ترفع كل نوع من الإبهام في مسألة عبوديته ، تقول الآية :

( إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ) .

الملفت للانتباه تكرار كلمة «الرب» مرّتين في هذه الآية ، مرّة في حقّه ، وأخرى في حق الناس ، ليوضح للناس أنّي وإيّاكم متساوون ، وربّي وربّكم واحد. وأنا مثلكم محتاج في كل وجودي إلى الخالق المدبر ، فهو مالكي ودليلي.

وللتأكيد أكثر يضيف :( فَاعْبُدُوهُ ) إذ لا يستحق العبادة غيره ، ولا تليق إلّا به ، فهو الرب والكل مربوبون ، وهو المالك والكل مملوكون.

ثمّ يؤكّد كلامه بجملة أخرى حتى لا تبقى لمتذرع ذريعة ، فيقول :( هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (٢) .

نعم ، إنّ الصراط المستقيم هو طريق العبودية لله سبحانه ذلك الطريق الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج ، كما جاء في الآية (٦١) من سورة يس :( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .

لكن العجب أن يختلف أقوام من بعده مع كل هذه التأكيدات :( فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) (٣) :

__________________

(١) قال بعض آخر من المفسّرين : إنّ (بعض) هنا بمعنى الكل ، أو أن التعبير بـ( بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) إضافة موصوف إلى الصفة ، أو أن هذا التعبير إشارة إلى أنّي أبيّن لكم أمور الدين وحسب ، لا اختلافاتكم في أمر الدنيا. إلّا أن أيّا من هذه التفاسير لا يستحق الاهتمام.

(٢) ورد نظير هذه الآية بتفاوت يسير في سورة مريم ـ ٣٦ ، وسورة الأنعام ـ ٥١ ، وتكرار هذا المعنى تأكيد على أن عيسىعليه‌السلام قد أتمّ الحجة على جميع هؤلاء في مورد عبوديته وكونه عبد الله سبحانه.

(٣) الضمير في (بينهم) يعود إلى الذين خاطبهم المسيحعليه‌السلام في الآية السابقة ، ودعاهم إلى عبودية الله سبحانه.

٨٦

فالبعض ذهب إلى أنّه الرب الذي نزل إلى الأرض!

وبعض آخر اعتبره ابن ربّه.

وآخرون بأنّه أحد الأقانيم الثلاثة (الذوات المقدسة الثلاثة : الأب ، والابن ، وروح القدس).

وهناك فئة قليلة فقط هم الذين اعتبروه عبد الله ورسوله ، غير أن عقيدة الأغلبية هي التي هيمنت ، وعمت مسألة التثليث والآلهة الثلاثة عالم المسيحية.

وقد نقل في هذا الباب حديث تاريخي جميل أوردناه في ذيل الآية (٣٦) من سورة مريم.

ويحتمل أيضا في تفسير الآية ، أنّ هذا الاختلافات لم يكن بين المسيحيين وحسب ، بل حدث بين اليهود والنصارى في المسيح ، فغالى أتباعه فيه ، وأو صلوه إلى مقام الألوهية ، في حين اتهمه وأمّه الطاهرة أعداؤه بأشنع الاتهامات ، وهكذا سلوك الجاهلين وعرفهم ، بعضهم صوب الإفراط ، وآخرون نحو التفريط ، أو هم ـ على حد تعبير أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ـ بين محب غال وبين مبغض قال ، حيث يقولعليه‌السلام : «هلك فيّ رجلان : محب غال ، ومبغض قال»(١) !

وكم هي متشابهة أحوال هذين العظيمين!

وهددهم الله سبحانه في نهاية الآية بعذاب يوم القيامة الأليم ، فقال :( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) (٢) .

نعم ، إنّ يوم القيامة يوم أليم ، فطول حسابه أليم ، وعقوباته أليمة ، وحسرته وغمه أليمان ، وخزيه وفضيحته أليمان أيضا.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة. الكلمات القصار : ١١٧.

(٢) ينبغي الانتباه إلى أن (أليم) صفة لليوم لا للعذاب.

٨٧

الآيات

( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) )

التّفسير

ماذا تنتظرون غير عذاب الآخرة؟

كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول عبدة الأوثان العنودين ، وكذلك حول المنحرفين والمشركين في أمّة عيسىعليه‌السلام ، والآيات مورد البحث تجسد عاقبة أمرهم ، يقول تعالى :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ؟

لقد طرح هذا السؤال بصورة الاستفهام الإنكاري ، وهو في الحقيقة بيان لواقع حال أمثال ، هؤلاء الأفراد ، كما نقول في مقام ذم شخص لا يصغي إلى نصيحة ناصح ، ويهيء عوامل فنائه بيده : إنّه بانتظار حتفه فقط!

٨٨

والمراد من «الساعة» في هذه الآية ـ ككثير من آيات القرآن الأخرى ـ هو يوم القيامة ، لأنّ الحوادث تقع سريعة حتى كأنّها تحدث في ساعة واحدة.

وجاءت هذه الكلمة ـ أيضا ـ بمعنى لحفظة انتهاء الدنيا ، ولما لم يكن بين هذين المعنيين كبير فرق ، فمن الممكن أن يكون هذا التعبير شاملا لكلا المعنيين.

وعلى أية حال ، فقد وصف قيام الساعة ، الذي يبدأ بانتهاء الدنيا المفاجئ ، بوصفين في الآية أعلاه : الأوّل : كونه بغتة ، والآخر : عدم علم عامة الناس بتأريخ وقوعها وحدوثها.

من الممكن أن يحدث حدث فجأة ، ولكنّا نتوقع حدوثه من قبل ، ونكون على استعداد لمواجهة المشاكل التي تنجم عنه ، إلّا أن سوء الحظ والتعاسة في أن تقع فاجعة قاسية وصعبة جدّا ، بصورة مفاجئة ونحن غافلون عنها تماما.

هكذا بالضبط حال المجرمين ، فهم يؤخذون وهم في غفلة تامة ، بحيث تصور الروايات الواردة عن نبيّ الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فتقول : «تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعجة ، والرجلان يطويان الثوب ، ثمّ قرأصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (١) .

وأي شيء آلم من أن يكون الإنسان غافلا أمام مثل هذه الحادثة التي ليس فيها أي طريق أو منفذ للرجوع والخلاص ، ويغرق في أمواجها من دون أن يكون معدّا لمستلزمات النجاة؟

ثمّ رفعت الآية الغطاء عن حالة الأخلاء الذين يودّ بعضهم بعضا ، ويسيرون معا في طريق المعصية والفساد ، والاغترار بزخارف الدنيا ، فتقول :( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) (٢) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ، المجلد ٢٥ ، صفحة ٨٩.

(٢) «الأخلاء» جمع (خليل) ـ من مادة خلة ـ بمعنى المودّة والمحبّة ، وأصلها من الخلل ـ على وزن شرف ـ أي الفاصلة بين جسمين ، ولما كانت المحبة والصداقة كأنّها تنفذ في أعماق القلب وثناياه ، فقد استعملت فيها هذه الكلمة.

٨٩

إن هذه الآية التي تصف مشهدا من مشاهد القيامة ، تبيّن بوضوح أنّ المراد من الساعة في الآية السابقة هو يوم القيامة أيضا ، اليوم الذي تنفصم فيه عرى العلاقات الأخوية والصداقة والرفقة ، إلّا العلاقات التي قامت لله وفي الله وباسمه.

إن تبدل مثل هذه المودة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعي ، لأنّ كلا منهم يرى صاحبه أساس تعاسته وسوء عاقبته ، فأنت الذي دللتني على هذا الطريق ودعوتني إليه ، وأنت الذي زينت الدنيا في نظري ورغبتني فيها وأطمعتني.

نعم ، أنت الذي أغرقتني في بحر الغفلة والغرور ، وجعلتني جاهلا بمصيري ، غافلا عنه.

وهكذا يقول كل واحد منهم لصاحبه مثل هذه المطالب ، إلّا المتقين الذين تبقى روابط أخوتهم ، وأواصر مودّتهم خالدة ، لأنّها تدور حول محور القيم والمعايير الخالدة ، وتتّضح نتائجها المثمرة في عرصة القيامة أكثر ، فتمنحها قوّة إلى قوّتها.

من الطبيعي أنّ الأخلاء يعين بعضهم بعضا في أمور الحياة ، فإن كانت خلتهم على أساس الشرّ والفساد ، فهم شركاء في الذنب والجريمة ، وإن كانت على أساس الخير والصلاح فهم شركاء في الثواب والعطية ، وعلى هذا فلا مجال للعجب من أن يتبدل الخليل من القسم الأوّل الى عدوّ ، ومن القسم الثّاني إلى خليل يشتد حبّه ومودّته أكثر من ذي قبل.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «ألا كل خلّة كانت في الدنيا في غير اللهعزوجل فإنّها تصير عداوة يوم القيامة»(١) .

والآية التالية ـ في الحقيقة ـ تبيان لأوصاف المتقين وأحوالهم ، وبيان لعاقبتهم التي تبعث على الفخر والاعتزاز.

في ذلك اليوم العصيب يقول لهم الله تعالى :( يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) .

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، طبق نقل نور الثقلين ، ج ٤ : صفحة ٦١٢.

٩٠

كم هو جميل هذا النداء؟! نداء مباشر من الله سبحانه من دون واسطة توصله

نداء يبدأ بأحسن الصفات : يا عباد الله! نداء يزيل قلق الإنسان في يوم ليس فيه إلّا القلق والاضطراب نداء يطهر القلب من غم الماضي وحزنه ، وينقيه

نعم ، لهذا النداء هذه المزايا الأربعة المذكورة.

وتبيّن آخر آية ـ من هذه الآيات ـ هؤلاء المتقين والعباد المكرمين بصورة أكثر وضوحا ، بذكر جملتين أخريين ، فتقول :( الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أجل ، هؤلاء هم الذين يخاطبون بمثل هذا الخطاب العظيم ، ويسبحون في تلك النعم.

إن هاتين الجملتين تعريف بليغ باعتقادات هؤلاء وأعمالهم ، فهما تبينان إيمانهم الذي هو أساس عقيدتهم الثابت ، وتبينان إسلامهم في تسليمهم لأمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.

* * *

٩١

الآيات

( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) )

التّفسير

فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين :

تبيّن هذه الآيات جزاء عباد الله المخلصين ، والمؤمنين الصالحين الذين مرّ وصفهم في الآيات السابقة ، وتبشرهم بالجنّة الخالدة مع ذكر سبع نعم من نعمها النفيسة الغالية.

تقول أوّلا :( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) وبذلك فإنّ مضيفهم الحقيقي هو الله تعالى الذي يدعو ضيوفه ويقول لهم : أدخلوا الجنّة.

ثمّ أشارت إلى أول نعمة من تلك النعم ، فقالت :( أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ ) ومن الواضح أنّ كون المؤمنين الرحماء إلى جانب زوجاتهم المؤمنات يمنحهما معا

٩٢

اللذة والسرور ، فإذا كانا شريكين في همّ الدنيا ، فإنّهما سيكونان شريكين في سرور الآخرة ونشوتها.

وقد فسّر بعضهم «الأزواج» هنا بالمتساوين في الدرجة والأصدقاء والأقارب ، فلو صحّ فوجودهم نعمة عظيمة ، إلّا أنّ ظاهر الآية هو المعنى الأوّل.

ثمّ تضيف :( تُحْبَرُونَ ) .

«تحبرون» من مادة حبر ـ وزن فكر ـ أي الأثر المطلوب ، وتطلق أحيانا على الزينة وآثار الفرح التي تظهر على الوجه ، وإذا قيل للعلماء أحبار ، فلآثارهم التي تبقى بين المجتمعات البشرية ، كما يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «العلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة»(١) .

وتقول في بيان النعمة الثالثة :( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ ) فهم يضافون ويخدمون بأفضل الأواني ، وألذّ الأطعمة ، في منتهى الهدوء والاطمئنان والصفاء.

«الصحاف» جمع صحفة ، وهي في الأصل من مادة صحف ، أي التوسع ، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب جمع كوب ، وهي أقداح الماء التي لا عروة لها.

ومع أنّ الكلام في الآية عن الصحاف الذهبية ، دون طعامهم وشرابهم ، إلّا أن من البديهي أنّ الذين يخدمونهم لا يطوفون عليهم بصحاف خالية مطلقا.

وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين أخريين جمعت فيهما كلّ نعم العالم المادية والمعنوية ، فتقول :( وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) ، وعلى قول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : لو أنّ جميع الخلائق قد اجتمعت لوصف أنواع نعم الجنّة ، فسوف لا يقدرون أن يضيفوا شيئا على ما جاء في هذه الجملة أبدا.

وأي تعبير أجمل من هذا التعبير وأجمع منه؟ فهو تعبير بسعة عالم الوجود ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ١٤٧.

٩٣

وبسعبة ما يخطر في أذهاننا اليوم وما لا يخطر ، تعبير ليس فوقه تعبير.

والطريف أن مسألة شهية النفس قد بيّنت منفصلة عن لذة العين ، وهذا الفصل عميق المعنى : فهل هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، من جهة أنّ للذّة النظر أهمية خاصّة تفوق اللذات الأخرى؟ أم هو من جهة أن جملة :( ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ) تبيّن لذات الذوق ، والشم والسمع واللمس ، أمّا جملة :( تَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) فهي تبيان للذة العين والنظر.

ويعتقد البعض أنّ جملة :( ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ) إشارة إلى كلّ اللذات الجسمية ، في حين أن جملة :( تَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) مبينة للذات الروحية ، وأي لذة في الجنة أسمى من أن ينظر الإنسان بعين القلب إلى جمال الله الذي لا يشبهه جمال ، فإنّ لحظة من تلك اللحظات تفوق كل نعم الجنة المادية.

ومن البديهي أنّ شوق الحبيب كلما زاد ، كانت لذة الإلقاء أعظم.

سؤال :

وهنا يطرح سؤال ، وهو : هل أنّ سعة عمومية مفهوم هذه الآية ، دليل على أنّهم يطلبون من الله هناك أن يمنحهم أمورا كانت حراما في الدنيا؟

والجواب :

إنّ طرح هذا السؤال ناتج عن عدم الالتفات إلى نكتة ، وهي أنّ المحرمات والقبائح كالغذاء المضر لروح الإنسان ، ومن المسلم أنّ الروح السالمة الصحيحة لا تشتهي مثل هذه الغذاء ، وتلك التي تميل أحيانا إلى السموم والأغذية المضرة هي الأرواح المريضة.

إنّنا نرى ، بعض المرضى يميلون حتى في حالة المرض إلى تناول التراب أو أشياء أخرى من هذا القبيل ، إلّا أنّهم بمجرّد أن يزول عنهم المرض تزول عنهم

٩٤

هذه الشهية الكاذبة.

نعم ، إنّ أصحاب الجنّة سوف لا يميلون أبدا إلى مثل هذه الأعمال ، لأن ميل الروح وانجذابها إليها من خصائص أرواح أصحاب الجحيم المريضة.

إنّ هذا السؤال يشبه ما ورد في الحديث من أن أعرابيا أتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : هل في الجنّة إبل؟ فإنّي أحبّها حبّا جمّا ، فالتفت إليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يعلم أن في الجنّة نعما سينسى معها الأعرابي الإبل ، وأجابه بعبارة قصيرة فقال : «يا أعرابي ، إن أدخلك الله الجنّة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك»(١) .

وبتعبير آخر : فهناك العالم الذي ينسجم فيه الإنسان مع الحقائق تماما.

وعلى كل حال ، لما كانت قيمة النعمة في كونها خالدة ، فقد طمأنت الآية أصحاب النعيم من هذه الجهة عند ما ذكرت الصفة السادسة فقالت :( وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ ) لئلّا يكدر التفكير في زوال هذه النعمة صفو عيشهم ولذّتهم ، فيقلقوا من المستقبل وما يخبئه.

وهنا ، من أجل أن يتّضح أن كل نعم الجنّة هذه تعطى جزاء لا اعتباطا وعبثا ، تضيف الآية :( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

والطريف في الأمر أنّ الآية تطرح مجازاة الأعمال وكون الجنّة في مقابلها من جهة ، ومن جهة أخرى تجعلها إرثا ، وهو يستعمل عادة في الموارد التي تصل فيها النعمة إلى الإنسان من دون أن يبذل جهدا أو سعيا في تحصيلها ، وهذه إشارة إلى أنّ أعمالكم هي أساس خلاصكم ونجاتكم ، إلّا أن ما تحصلون عليه إذا ما قورن بأعمالكم فهو كالشيء المجاني المعطى من قبل الله تعالى ، وكالهبة حصلتم عليها بفضله.

ويعتبر البعض هذا التعبير إشارة إلى ما قلناه سابقا من أن لكل إنسان منزلا في الجنّة ومحلا في الجحيم ، فيرث أصحاب الجنّة منازل أصحاب النّار ، ويرث

__________________

(١) روح البيان ، المجلد ٨ ، صفحة ٣٩١.

٩٥

أصحاب النّار أمكنة أصحاب الجنّة!

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأنسب.

والكلام في النعمة السابعة والأخيرة في ثمار الجنّة التي هي من أفضل نعم الله ، فتقول الآية :( لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ ) .

لقد كانت الصحاف والأكواب بيانا لأنواع الأطعمة والأشربة في الواقع ، أمّا الفواكه فلها حسابها الخاص ، وقد أشير إليه في آخر آية من هذه الآيات.

والجميل أنّها تبيّن بتعبير (منها) حقيقة أنّ فاكهة الجنّة كثيرة جدّا بحيث لا تتناولون إلّا جزءا منها ، وعلى هذا فإنّها لا تفنى ، وأشجارها مثمرة دائما.

وجاء في الحديث : «لا ينزع رجل في الجنّة ثمرة من ثمرها إلّا نبت مثلها مكانها»(١) .

كانت هذه بعض نعم الجنّة التي تبعث الحياة في النفوس ، وهي بانتظار ذوي الإيمان القوي البيّن ، والأعمال الصالحة النبيلة.

* * *

__________________

(١) تفسير روح البيان ، الجزء ٨ ، صفحة ١٩٢.

٩٦

الآيات

( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) )

التّفسير

نتمنى أن نموت لنستريح من العذاب :

لقد فصّلت هذه الآيات القول في مصير المجرمين والكافرين في القيامة ، ليتّضح الفرق بينه وبين مصير المؤمنين ـ المطيعين لأمر الله ـ المشرف السعيد من خلال المقارنة بين المصيرين.

تقول الآية الأولى :( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ ) .

«المجرم» من مادة جرم ، وهو في الأصل بمعنى القطع الذي يستعمل في قطع

٩٧

الثمار من الشجرة ـ أي القطف ـ وكذلك في قطع نفس الشجرة ، إلّا أنّه استعمل فيما بعد في القيام بكل عمل سيء ، وربّما كان سبب هذا الاستعمال هو أنّ هذه الأعمال تفصل الإنسان عن ربّه وعن القيم الإنسانية ، وتبعده عنهما.

لكن من المسلم هنا أنّه لا يريد كل المجرمين ، وإنّما المراد هم المجرمون الذين اتخذوا سبيل الكفر سبيلا لهم ، بقرينة ذكر مسألة الخلود والعذاب الخالد ، وبقرينة المقارنة بالمؤمنين الذين مرّ الكلام عنهم في الآيات السابقة. ويبدو بعيدا ما قاله بعض المفسّرين من أنها تشمل كل المجرمين.

ولما كان من الممكن أن يخفف العذاب الدائمي بمرور الزمان ، وتقل شدته تدريجيا ، فإنّ الآية التالية تضيف :( لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) ، وعلى هذا فإنّ عذاب هؤلاء دائم من ناحيتي الزمان والشدّة ، لأنّ الفتور يعني السكون بعد الحدة ، واللين بعد الشدة ، والضعف بعد القوّة كما يقول الراغب في مفرداته.

«مبلس» من مادة «إبلاس» ، وهي في الأصل الحزن الذي يصيب الإنسان من شدة التأثر والانزعاج ، ولما كان هذا الهم والحزن يدعو الإنسان إلى السكوت ، فقد استعملت مادة الإبلاس بمعنى السكوت والامتناع عن الجواب أيضا. ولما كان الإنسان ييأس من خلاص نفسه ونجاته في الشدائد العصيبة ، فقد استعملت هذه المادة في مورد اليأس أيضا ، ولهذا المعنى سمي «إبليس» إبليس ، إذ أنّه آيس من رحمة الله.

على أية حال ، فإنّ هاتين الآيتين قد أكدتا على ثلاث مسائل : مسألة الخلود ، وعدم تخفيف العذاب ، والحزن واليأس المطلق. وما أشد العذاب الذي تمتزج فيه هذه الأمور الثلاثة وتجتمع.

وتنبه الآية التالية إلى أنّ هؤلاء هم الذين أرادوا هذا العذاب الأليم ، واشتروه بأعمالهم وبظلمهم لأنفسهم ، فتقول :( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) .

فكما أن الآيات السابقة قد بينت أن منبع كل تلك النعم اللامتناهية هي أعمال

٩٨

المؤمنين المتقين ، فإن هذه الآيات تعد أعمال هؤلاء الظالمين سبب هذا العذاب الخالد ومنبعه. وأي ظلم أكبر من أن يكذّب الإنسان بآيات الله سبحانه ، ويضرب جذور سعادته بمعول الكفر والافتراء :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ) .(١)

نعم ، إن القرآن يرى ارادة الإنسان وأعماله السبب الأساسي لكل سعادة أو شقاء ، لا المسائل الظنية والوهمية التي اصطنعها البعض لأنفسهم.

ثمّ تطرقت الآية إلى بيان جانب من مذلة هؤلاء ومسكنتهم ، فقالت ،( وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ) فمع أن كل امرئ يهرب من الموت ويريد استمرار الحياة وبقاءها ، إلّا أنّه عند ما تتوالى عليه المصائب أحيانا ويضيق عليه الخناق يتمنى على الله الموت ، وإذا كانت هذه الأمنية قد تحدث أحيانا لبعض الناس في الدنيا ، فانّها تعمّ جميع المجرمين هناك ، فكلهم يتمنى الموت.

ولكن حيث لا فائدة من ذلك ، فإنّ مالك النّار وخازنها يجيبهم :( قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ) (٢) .

والعجيب أنّ خازن النّار يجيبهم بعد ألف سنة ـ برأي بعض المفسّرين ـ وبكل احتقار وعدم اهتمام ، فما أشد إيلام هذا الاحتقار(٣) .

قد يقال : كيف يطلب هؤلاء مثل هذا الطلب مع يقينهم أن لا موت هناك؟ غير أن مثل هذا الطلب طبيعي من إنسان أحاطت به المصائب والآلام ، وقطع أمله من كل شيء.

أجل ، إنّ هؤلاء عند ما يرون كل سبل النجاة مغلقة في وجوههم ، سيطلقون هذه الصرخة من أعماق قلوبهم ، ولكن حق القول عليهم بالعذاب ، فلا فائدة من

__________________

(١) الصف ، الآية ٧.

(٢) «ماكثون» من مادة (مكث) ، وهو في الأصل التوقف المقترن بالانتظار ، وربّما كان هذا التعبير من مالك استهزاء ، كما تقول ـ أحيانا ـ لمن يطلب شيئا لا يستحقه انتظر!

(٣) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث وقال البعض : إنّ المسافة بين السؤال والجواب مائة سنة ، وآخرون : أربعون سنة ، ومهما تكن فإنّها دليل على الاحتقار وعدم الاهتمام.

٩٩

صراخهم ، ولا صريخ لهم.

أمّا لماذا لا يطلب هؤلاء الموت من الله مباشرة ، بل يقولون لمالك :( لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ) ؟ فلأنّهم في ذلك اليوم محجوبون عن ربّهم ، كما نقرأ ذلك في الآية (١٥) من سورة المطففين :( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ولذلك يطلبون طلبتهم هذه من ملك العذاب. أو بسبب أن مالكا ملك مقرب عند الله سبحانه.

وتقول الآية الأخرى ، والتي هي في الحقيقة علة لخلود هؤلاء في نار جهنم :( لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) .

وللمفسّرين رأيان مختلفان في أن هذا الكلام هل هو من قبل مالك خازن النّار ، وأن ضمير الجمع يعود على الملائكة ومنهم مالك ، أم أنّه كلام الله تعالى؟

السياق يوجب أن يكون الكلام كلام مالك ، لأنّه أتى بعد كلامه السابق ، إلّا أنّ محتوى نفس الآية ينسجم مع كونه كلام الله تعالى ، والشاهد الآخر لهذا الكلام الآية (٧١) من سورة الزمر :( وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ) فهنا يعد الملائكة الرسل هم الذين جاؤوا بالحق ، لا هم.

وللتعبير «بالحق» معنى واسع يشمل كل الحقائق المصيرية ، وإن كانت مسألة التوحيد والمعاد والقرآن تأتي في الدرجة الأولى.

وهذا التعبير يشير ـ في الحقيقة ـ إلى أنّكم لم تخالفوا الأنبياء فحسب ، وإنّما خالفتم الحق في الواقع ، وهذه المخالفة هي التي ساقتكم إلى العذاب الخالد الأبدي.

وتعكس الآية التالية جانبا من كراهية هؤلاء للحق واشمئزازهم منه ، وكذلك مناصرتهم للباطل والتمسك به ، فتقول :( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ) (١) فقد حاك هؤلاء الأشرار الدسائس ودبروا المؤامرات لإطفاء نور الإسلام ، وقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتورعوا في إنزال الضربات بالإسلام والمسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

__________________

(١) «أم» في الآية منقطعة ، وهي بمعنى (بل) والإبرام بمعنى الإحكام.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592