الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156610 / تحميل: 6129
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ودلائل هذه القدرة العظيمة واضحة جليّة في عظمة السماوات ونظامها الخاصّ الحاكم عليها أيضا(١) .

وهناك كلام بين المفسّرين في المراد من( وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) :

فقال بعضهم معناه توسعة الرزق من قبل الله على العباد بواسطة نزول الغيث ، وقال بعضهم معناه توسعة الرزق من جميع الجهات ، وقال بعضهم معناه غنى الله وعدم حاجته ، لأنّ خزائنه من السعة بحيث لا تنفذ ولا تنقص مهما كان عطاؤه!

إلّا أنّه مع ملاحظة موضوع خلق السماء في الجملة السابقة ومع الأخذ بنظر الإعتبار ما اكتشفه العلماء من اتّساع العالم عن طريق المشاهدات الحسّية المؤيّدة ، يمكن الوقوف على معنى أكثر لطافة لهذه الآية ، وهو أنّ الله خلق السماوات ويوسعها دائما.

والعلم الحديث [المعاصر] يقول ليست الكرة الأرضية وحدها تتضخّم وتثقل على أثر جذب المواد السماوية تدريجا ، بل السماء أيضا في اتّساع دائم ، أي أنّ بعض النجوم المستقرّة في المجرّات تبتعد عن مركز مجرّاتها بسرعة هائلة حتّى أنّ هذه السرعة لها أثرها في الاتّساع في كثير من المواقع!.

ونقرأ في كتاب «حدود النجوم» بقلم الكاتب «فرد هويل» : أنّ أقصى سرعة لابتعاد النجوم عن مركزها حتّى الآن ٦٦ ألف كيلومتر في الثانية ، والمجرّات التي هي أبعد منها ـ في نظرنا ـ ومض نورها قليل جدّا حتّى أنّه من الصعب تحديد سرعتها ، والصور الملتقطة من السماء تدلّ على أهميّة هذا الكشف وأنّ الفاصلة ما

__________________

(١) وقع خطأ أو اشتباه عند بعض المفسّرين وغيرهم هنا ، وينبغي التنويه إليه.

أ ـ قال بعض المفسّرين أنّ للأيد «معنيين» : «القدرة» و «النعمة» مع أنّ الأيد تعني القدرة لغة إلّا أنّ اليد تجمع على أيدي وجمع جمعها أياد تأتي بمعنى القدرة والنعمة ، وقد ذكرنا المعنيين أيضا في الآية (١٧) من سورة ص تبعا للمرحوم الطبرسي صاحب مجمع البيان ونصحّحه هنا

ب ـ جاء في المعجم المفهرس لمحمّد فؤاد عبد الباقي ذكر اليد في الآية محلّ البحث بيائيين (أييد) ويظهر أنّ هذا الاشتباه ناشئ من بعض الرسم في كتابة المصاحف وإلّا فإنّ المفسّرين ذكروا معنى القدرة لليد.

١٢١

بين هذه المجرّات تتّسع أكثر من المجرّات القريبة منّا بسرعة(١) .

ثمّ يتحدّث المؤلّف عن سرعة هذه المجرّات «السنبلة والأكليل والشجاع وغيرها» فيبيّن سرعتها العجيبة المذهلة في هذا الكتاب(٢) .

ولنصغ إلى بعض العبارات للاستاذ «جان الدر» إذ يقول :

«إنّ أحدث وأدقّ تقدير طول الأمواج التي تبثّها النجوم يكشف الستار عن وجه حقيقة عجيبة ومحيّرة أي أنّها تكشف لنا أنّ مجموع النجوم التي يحويها العالم تبتعد عن مركزها بسرعة دائما وكلّما كانت الفاصلة بينها وبين مركزها ازدادت سرعتها.

فكأنّ جميع النجوم كانت مجتمعة في هذا المركز ثمّ تفرّقت عنه مجاميع كبيرة من النجوم واتّجه كلّ منها إلى اتّجاه خاصّ».

ويستنتج العلماء من ذلك أنّ العالم كانت له نقطة بداية وشروع(٣) .

ويقول «جورج جاموف» في كتاب خلق العالم في هذا الصدد «إنّ فضاء العالم المتشكّل من ملياردات المجرّات في حالة انبساط سريعة ، والحقيقة هي أنّ عالمنا ليس في حالة من السكون ، بل انبساطه مقطوع به والإذعان إلى أنّ عالمنا منبسط يهيئ المفتاح لخزينة أسرار معرفة العالم لأنّه إذا كان العالم الآن في حالة الانبساط فيلزم أن يكون في زمان ما في حالة انقباض شديد(٤) .

وليس العلماء المذكورون آنفا يعترفون بهذه الحقيقة فحسب فإنّ هناك آخرين ذكروا هذا المعنى في كتاباتهم ويجرّنا نقل كلماتهم إلى الإطالة.

وممّا يستجلب النظر أنّ التعبير بـ( إِنَّا لَمُوسِعُونَ ) دالّة على الدوام

__________________

(١) حدود النجوم ، ص ٣٣٨ إلى ص ٣٤٠.

(٢) حدود النجوم ، ص ٣٣٨ ـ ٣٤٠.

(٣) بداية العالم ونهايته ، الصفحات ٧٤ ـ ٧٧ بتلخيص.

(٤) المصدر السابق.

١٢٢

والاستمرار ، فهي جملة اسمية ذات اسم فاعل ، كما أنّها تدلّ على أنّ هذا الاتّساع موجود دائما وكان ولا يزال ، وهذا يؤيّد تماما ما وصل إليه العلم الحديث أنّ جميع النجوم والمجرّات كانت مجتمعة في البداية في مركز واحد «بوزن خاصّ له ثقل خارق» ثمّ انفجرت انفجارا عظيما مثيرا (مرعبا) وعلى أثر ذلك تلاشت أجزاء العالم وظهرت بصورة كرات وهي بسرعتها في حالة الاتّساع والابتعاد (عن المركز).

وأمّا التعبير الوارد في شأن خلق الأرض( فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ) ففي كلمة «ماهدون» لطافة تدلّ على أنّ الله مهّد الأرض بجميع وسائل الراحة للإنسان ، لأنّ «الماهد» مأخوذ من المهد ، ومعناه ما يعدّ للطفل من الفراش أو أي محل للاستراحة ، فمثل هذا المحل ينبغي أن يكون هادئا محفوظا ليّنا دافئا مطمئنا ، وجميع هذه الأمور متوفّرة في الأرض!.

وبأمر الله أضحت الحجارة ليّنة وتبدلّت إلى تراب هذا من جهة ، وصلابة الجبال وقشر الأرض القوي من جهة ثانية جعلت الأرض تقاوم الجزر والمدّ ، ومن جهة ثالثة فإنّ الغلاف الجوّي المحيط بالأرض يخفّف من وطأة حرارة الشمس ويحفظها وهو بمثابة اللحاف لها كما أنّه يصدّ النيازك والأحجار العظيمة التي تهوي من السماء إلى الأرض فيمنعها من النفوذ إليها فتتلاشى عنده وتتحوّل رمادا.

وهكذا فإنّ الله هيّأ جميع وسائل الراحة لاستقبال الإنسان الذي هو ضيف الله في هذه الكرة الأرضية.

وبعد خلق السماء والأرض تصل النوبة إلى خلق الموجودات المختلفة في السماء والأرض وأنواع النباتات والحيوانات فتقول الآية التالية في هذا الشأن( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

ويعتقد كثير من المفسّرين أنّ كلمة «الزوجين» هنا معناها الأصناف المختلفة

١٢٣

وأنّ الآية تشير إلى أصناف الموجودات المختلفة في هذا العالم التي تبدو على شكل زوج زوج كالليل والنهار ، والنور والظلمة ، والبحر واليابسة ، والشمس والقمر ، والذكر والأنثى وغيرها.

إلّا أنّه كما ذكرنا سابقا ذيل الآيات المشابهة لهذه الآيات أيضا أنّ الزوجية في مثل هذه الآيات يمكن أن تكون إشارة إلى معنى أدقّ ، لأنّ كلمة «الزوج» تطلق عادة على جنسي الذكر والأنثى ، سواء في عالم الحيوانات أو النباتات ، وإذا ما توسّعنا في استعمال هذه الكلمة فإنّها ستشمل جميع الطاقات الموجبة والسالبة (ـ و+) ومع ملاحظة ما جاء في القرآن( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) ويشمل جميع الموجودات لا الموجودات الحيّة فحسب. فيمكنها أن تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ جميع أشياء العالم مخلوقة من ذرّات موجبة وسالبة ، ومن المسلّم به هذا اليوم من الناحية العلمية أنّ الذرّات مؤلّفة من أجزاء مختلفة ، منها ما يحمل طاقة سالبة تدعى بالألكترون ، ومنها ما يحمل طاقة موجبة وتدعى بالبروتون.

فبناء على ذلك لا داعي أن نفسّر الشيء بالحيوان أو النباتات حتما أو أنّ نفسّر الزوج بمعنى الصنف «لمزيد الإيضاح ذكرنا شرحا مفصّلا ذيل الآية ٧ من سورة الشعراء» وينبغي الالتفات أنّه في الوقت ذاته يمكن الجمع بين التّفسيرين.

وجملة( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ـ تشير إلى أنّ الزوجية والتعدّد في جميع أشياء العالم تذكّر الإنسان بأنّ الله خالق هذا العالم واحد أحد ، لأنّ التثنية والتعدّد من خصائص المخلوقات.

وقد جاءت الإشارة إلى هذا المعنى في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام إذ قال : «بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، واليبس بالبلل والخشن باللين ، والصرد بالحرور مؤلّفا بين متعادياتها مفرقا بين متدانياتها دالّة بتفريقها على مفرقها ، وبتأليفها على مؤلّفها وذلك قوله :( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ

١٢٤

تَذَكَّرُونَ ) »(١) .

ويضيف القرآن في الآية التالية مستنتجا ممّا تقدّم من الأبحاث التوحيدية قائلا :( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

والتعبير بـ «الفرار» هنا تعبير لطيف وبليغ ، لأنّ الفرار يطلق في ما إذا واجه الإنسان موجودا أو حادثا مخيفا من جهة ، وهو من جهة اخرى يعرف مكانا يلتجئ إليه فيسرع من مكان المواجهة إلى ذلك المكان ويلتجئ إلى نقطة الأمن والأمان فالآية تقول : فرّوا من عقيدة الشرك الموحشة وعبادة الأصنام إلى التوحيد الخالص الذي هو منطقة الأمن والأمان الواقعي.

ففرّوا من عذاب الله وتوجّهوا نحو رحمته!

فرّوا من عصيانه وعناده وتوسّلوا بالتوبة إليه.

والخلاصة : فرّوا من السيّئات والقبائح وعدم الإيمان وظلمة الجهل والعذاب الدائم والتجأوا إلى رحمة الحقّ وسعادته الأبدية.

ولمزيد التأكيد ، يستند القرآن إلى وحدانية العبادة لله الأحد فيقول :( وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

ويحتمل أنّ الآية السابقة ـ تدعوا إلى أصل الإيمان بالله! وهذه الآية تدعو إلى وحدانية ذاته المقدّسة فيكون تكرار جملة : «إنّي لكم منه نذير مبين» في المورد الأوّل على أنّه إنذار على ترك الإيمان بالله ، وفي المورد الآخر إنذار على الشرك وعبادة الأصنام ، وهكذا فإنّ كلّ جملة وإن تكرّرت تشير إلى موضوع مستقلّ!

وجاء في بعض الرّوايات عن الإمام الصادق أنّ المراد من قوله :( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ) هو الحجّ وزيارة بيت الله(٢) وواضح أنّ المراد هنا ذكر مصداق واحد من المصاديق الواضحة للفرار إلى الله ، لأنّ الحجّ يعرّف الإنسان حقيقة التوحيد

__________________

(١) توحيد الصدوق طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٣٠.

(٢) نقل في تفسير نور الثقلين في هذا الصدد بضعة أحاديث عن الإمامين الباقر والصادق الجزء الخامس ص ١٣٠ ـ ١٣١.

١٢٥

والتوبة والإنابة إلى الله ويمنحه الالتجاء إلى ألطاف الله سبحانه.

* * *

١٢٦

الآيات

( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) )

التّفسير

إنّ الذكرى تنفع المؤمنين :

قرأنا في الآية ٣٩ من هذه السورة أنّ فرعون اتّهم موسىعليه‌السلام عند ما دعاه إلى الله وترك الظلم أنّه ساحر أو مجنون ، فهذا الاتّهام ورد على لسان المشركين في زمان النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا إذ اتّهموه بمثل ما اتّهم فرعون موسى وقد عزّ ذلك على المؤمنين الأوائل والقلائل كما كان يؤلم روح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فالآيات محلّ البحث ومن أجل تسلية النّبي والمؤمنين تقول :( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) (١) .

كانوا يتّهمون الرسل السابقين بأنّهم سحرة لأنّهم لم يجدوا جوابا منطقيا لمعاجزهم الباهرة ، وكانوا يخاطبون رسولهم بأنّه «مجنون» لأنّه لم يكن على

__________________

(١) كذلك خبر لمبتدأ محذوف وتقدير الكلام : الأمر كذلك.

١٢٧

غرارهم ومتلوّنا بلون المحيط ولم يستسلم للأمور الماديّة.

فبناء على ذلك لا تحزن ولا تكترث وواصل المسير بالصبر والاستقامة ، لأنّ مثل هذه الكلمات قيلت في أمثالك يا رسول الله من رجال الحقّ وأهله.

ثمّ يضيف القرآن هل أنّ هذه الأقوام الكافرة تواصت فيما بينها على توجيه هذه التّهمة إلى جميع الأنبياء :( أَتَواصَوْا بِهِ ) ؟!

وكان عملهم هذا إلى درجة من الانسجام ، وكأنّهم اجتمعوا في مجلس ـ في ما وراء التاريخ ـ وتشاوروا وتواصوا على أن يتّهموا الأنبياء عامّة بالسحر والجنون ليخفّفوا من وطأة نفوذهم في نفوس الناس!

ولعلّ كلّا منهم كان يريد أن يمضي من هذه الدنيا ويوصي أبناءه وأحبابه بذلك! ويعقّب القرآن على ذلك قائلا :( بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) (١) .

وهذه هي إفرازات روح الطغيان حيث يتوسّلون بكلّ كذب واتّهام لإخراج أهل الحقّ من الساحة ، وحيث إنّ الأنبياء يأتون الناس بالمعجزات فإنّ خير ما يلصقونه بهم من التّهم أن يسموهم بالسحر أو الجنون ، فبناء على ذلك يكون عامل «وحدة عملهم» هذا هي الروحية الخبيثة والطاغية الواحدة لهم.

ولمزيد التسرّي عن قلب النّبي وتسليته يضيف القرآن :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) .

وكن مطمئنا بأنّك قد أدّيت ما عليك من التبليغ والرسالة( فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ ) .

وإذا لم يستجب أولئك للحقّ فلا تحزن فهناك قلوب متعطّشة له جديرة بحمله وهي في انتظاره.

وهذه الجملة في الحقيقة تذكر بالآيات السابقة التي تدلّ على أنّ النّبي كان يتحرّق لقومه حتّى يؤمنوا ويتأثّر غاية التأثّر لعدم إيمانهم حتّى كاد يهلك نفسه من

__________________

(١) بل في الآية الآنفة للإضراب.

١٢٨

أجلهم.

كما تشير الآية (٦) من سورة الكهف حيث نقرأ فيها :( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) .

.. وبالطبع فإنّ القائد الحقّ ينبغي أن يكون كذلك.

قال المفسّرون : لمّا نزلت هذه الآية حزن النّبي والمؤمنون لأنّهم تصوّروا أنّ هذا آخر الكلام في شأن المشركين وأنّ وحي السماء قد انقطع ويوشك أن يحيق بهم العذاب إلّا أنّه لم تمض فترة قصيرة حتّى نزلت الآية بعدها لتأمر النّبي بالتذكير :( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

فكان أن أحسّ الجميع بالاطمئنان!

والآية تشير إلى أنّ هناك قلوبا مهيّأة تنتظر كلامك يا رسول الله وتبليغك

فإذا ما عاند جماعة ونهضوا بوجه الحقّ مخالفين ، فإنّ هناك جماعة آخرين تتوق إلى الحقّ من أعماق قلوبهم وأرواحهم ويؤثّر فيها كلامك اللّين!

* * *

ملاحظة

لا بدّ من قلوب مهيّأة لقبول الحقّ :

لاحظوا المزارع والفلّاح الذي ينثر البذور ، فقد تقع بعض هذه البذور على الأحجار ، ومن الواضح أنّ ما يقع على الأحجار والصخور لا ينمو!

وبعض هذه البذور يقع على طبقة رقيقة من التراب الذي يغطّي الصخر ، فتثبت هذه البذور وتمدّ جذورها ، إلّا أنّ المكان حيث كان حرجا لا يساعد على امتداد الجذور (لكون الأرض صخرية) فما أسرع من أن تجفّ البراعم وتموت الجذور.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٦١.

١٢٩

ويقع قسم من البذور على أرض ذات تراب صالحة ، إلّا أنّ نبات الشوك والعلف تنمو إلى جانبها ، فحتّى لو أورقت تلك البذور إلّا أنّها ما أسرع أن تغلبها الأشواك وتلتفّ عليها فتموت.

وأحسن هذه البذور حظّا تلك البذور التي تستقرّ في تربة صالحة ولا تعوقها نباتات اخرى فلا يمضي زمن حتّى تنبت وتنمو وتورق وتستوي على سوقها وتعطي ثمارها.

فكلمات الحقّ التي تخرج من أفواه الأنبياء ورسل الله وخلفائهم المعصومين كهذه البذور ، فالقلوب الصخرية لا تتقبّل هذه الكلمات من الأساس ، والقلوب الضعيفة تتقبّلها مؤقتا ثمّ تعرض عنها ، وهناك قلوب مهيّأة للقبول ، لكن الأهواء والصفات الرذيلة والشهوات نابتة فيها ، وهذه الأمور تبطل تأثير تلك الكلمات الحقّة.

القلوب ـ الوحيدة ـ التي تتقبّل كلمات هؤلاء الأئمّة العظام وتنمو فيها وتثمر هي القلوب التي تطلب الحقّ ويحكم عليها البحث عن الحقّ! وخالية من الصفات السلبية والدوافع الدنيوية أيضا وتلك هي قلوب المؤمنين.

أجل( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) !

* * *

١٣٠

الآيات

( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) )

التّفسير

هدف خلق الإنسان من وجهة نظر القرآن :

من أهمّ الأسئلة التي تختلج في خاطر كلّ إنسان هو لم خلقنا؟! وما الهدف من خلق الناس والمجيء إلى هذه الدنيا؟!

فالآيات آنفة الذكر تجيب على هذا السؤال المهم والعام بتعابير موجزة ذات معنى غزير ، وتكمّل البحث الوارد في آخر آية من الآيات المتقدّمة حول تذكير المؤمنين ، لأنّ ذلك من أهمّ الأصول التي ينبغي على النّبي أن يتابعها كما توضّح ـ ضمنا ـ معنى الفرار إلى الله الوارد في الآيات السابقة.

تقول الآيات حاكية عن الله سبحانه :( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

وأنّه غير مفتقر إلى أيّ منهم أبدا( ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ) بل إنّ الله تعالى هو الذي يرزق عباده ومخلوقاته( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ

١٣١

ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) .

فهذه الآيات التي هي في منتهى الوجازة والاختصار تكشف ستارا عن الحقيقة التي يطلبها الجميع ويريدون معرفتها وتجعلنا أمام الهدف العظيم.

توضيح ذلك :

لا شكّ أنّ كلّ فرد عاقل وحكيم حين يقوم بعمل فإنّما يهدف من وراء عمله إلى هدف معيّن ، وحيث أنّ الله أعلم من جميع مخلوقاته وأعرفهم بالحكمة ، بل لا ينبغي قياسه بأي أحد ، فينقدح هذا السؤال وهو لم خلق الله الإنسان؟! هل كان يشعر بنقص فارتفع بخلق الإنسان؟! هل كان محتاجا إلى شيء فارتفع الاحتياج بخلقنا؟

ولكنّنا نعلم أنّ وجوده كامل من كلّ الجهات (ولا محدود في اللّامحدود) وهو غني بالذات!

إذا ، فطبقا للمقدّمة ، الاولى يجب القبول على أنّه كان له هدف ، وطبقا للمقدّمة الثانية ـ ينبغي القبول أنّ هدفه من خلق الإنسان ليس شيئا يعود إلى ذاته المقدّسة.

فالنتيجة ينبغي أن يبحث عن هذا الهدف خارج ذاته ، هذا الهدف يعود للمخلوقين أنفسهم وأساس كمالهم هذا من جانب!

ومن جانب آخر ورد في القرآن تعابير كثيرة مختلفة في شأن خلق الإنسان والهدف منه!

فنقرأ في إحدى آياته :( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) ،(١) وهنا يبيّن مسألة الامتحان للإنسان وحسن العمل على أنّه هدف (من أهداف خلق الإنسان).

__________________

(١) سورة الملك ، الآية ٦.

١٣٢

وجاء في آية اخرى( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) !.(١)

وهنا يبيّن القرآن أنّ علمنا بعلم الله وقدرته هو الهدف من خلق السماوات والأرض (وما بينهما).

ونقرأ في آية اخرى( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) .(٢)

وطبقا لهاتين الآيتين فالهدف من خلق الإنسان هو رحمة الله.

والآيات محلّ البحث تستند إلى مسألة العبوديّة فحسب ، وتعبّر عنها بصراحة بأنّها الهدف النهائي من خلق الجنّ والإنس!

وبقليل من التأمّل في مفهوم هذه الآيات وما شابهها نرى أنّه لا تضادّ ولا اختلاف بين هذه الآيات ، ففي الحقيقة بعضها هدف مقدّمي ، وبعضها هدف متوسّط ، وبعضها هدف نهائي ، وبعضها نتيجة!.

فالهدف الأصلي هو «العبودية» وهو ما أشير في هذه الآيات محلّ البحث ، أمّا العلم والامتحان وأمثالهما فهي أهداف ضمن مسير العبودية لله ، ورحمة الله الواسعة نتيجة العبودية لله.

وهكذا يتّضح أنّنا خلقنا لعبادة الله ، لكن المهمّ أن نعرف ما هي حقيقة هذه العبادة؟!

فهل المراد منها أداء المراسم أو المناسك (اليومية) وأمثالها كالركوع والسجود والقيام والصلاة والصوم ، أو هو حقيقة وراء هذه الأمور وإن كادت العبادة الرسميّة كلّها أيضا واجدة للأهميّة!؟

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآية ١٢.

(٢) هود الآيتان ١١٨ و١١٩.

١٣٣

وللإجابة على هذا السؤال ينبغي معرفة معنى كلمة «العبد» والعبودية وتحليلهما!

«العبد» : لغة هو الإنسان المتعلّق بمولاه وصاحبه من قرنه إلى قدمه! وإرادته تابعة لإرادته وما يطلب ويبتغيه تبع لطلب سيّده وابتغائه ، فلا يملك في قباله شيئا وليس له أن يقصّر في طاعته.

وبتعبير آخر : إنّ العبودية ـ كما تبيّن معناها كتب اللغة ـ هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود ، ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حقّ العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام ، وليس ذلك سوى الله سبحانه!

فبناء على ذلك فالعبودية هي قمّة التكامل وأوج بلوغ الإنسان واقترابه من الله! والعبودية منتهى التسليم لذاته المقدّسة!

والعبودية هي الطاعة بلا قيد ولا شرط والامتثال للأوامر الإلهية في جميع المجالات! وأخيرا فإنّ العبودية الكاملة هي أن لا يفكّر الإنسان بغير معبوده الواقعي أي الكمال المطلق ، ولا يسير إلّا في منهجه اللاحب وأن ينسى سواه حتّى (نفسه وشخصه).

وهذا هو الهدف النهائي من خلق البشر الذي أعدّ الله له الامتحان والاختبار لنيله ، ومنح الإنسان العلم والمعرفة ، وجعل نتيجة كلّ ذلك فيض رحمته للإنسان.

* * *

بحوث

١ ـ الله غني على الإطلاق

إنّ جملة :( ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ) هي في الحقيقة إشارة إلى استغناء الله عن كلّ أحد وعن كلّ شيء ، وإذا ما دعا العباد إلى عبادته

١٣٤

فليس ذلك ليستفيد منهم ، بل يريد أن يجود عليهم ، وهذا على العكس من العبودية بين الناس ، لأنّهم يطلبون الرقّ والعبيد ليحصلوا بهم الرزق أو المعاش ، أو أن يخدموهم في البيت ، فيقدّموا لهم الطعام والشراب ، وفي كلتا الحالين فإنّما يعود نفعهم على مالكيهم ، وهذا الأمر ناشئ عن احتياج الإنسان ، إلّا أنّ جميع هذه المسائل لا معنى لها في شأن الله ، إذ ليس غنيّا عن عباده فحسب ، بل هو يضمن لعباده الرزق بلطفه وكرمه «ورزق الجميع على الله».

٢ ـ الله ذو القوّة المتين

«المتين» كلمة مشتقّة من متن ، وهو في الأصل ما يكتنف العمود الفقري من لحم وعصب التي تشدّ الظهر ونجعله مهيّأ لتحمّل الأعباء ، ولذلك فقد استعمل «المتن» بمعنى القوّة الكاملة والطاقة والقدرة ، فبناء على ذلك فإنّ ذكر «المتين» بعد ذكر كلمة «ذو القوّة» إنّما هو للتأكيد ، لأنّ «ذو القوّة» إشارة إلى أصل قدرة الله! «والمتين» إشارة إلى كمال القدرة ، وحين تقترن هذه الكلمة بـ «الرزّاق» وهو صيغة مبالغة أيضا تدلّ على هذه الحقيقة ، وهي أنّ الله له منتهى القدرة والتسلّط في إيلاء الرزق وإعطائه لمن يشاء ، وهو يوصل الرزق إلى أيّة جهة كانت وأي مكان كان في أعماق البحار ، وفي قمم الجبال ، وفي سفوح التلال وعلى ضفاف الأنهار ، وفي الوديان والصحاري والبراري وجميع ما في الوجود ومن في الوجود مجتمعون على مائدته الكريمة ، إذا فخلق الله للإنسان وسائر الموجودات لم يكن لحاجته إليهم ، بل ليفيض عليهم من لطفه العميم.

٣ ـ لم قدّم ذكر الجنّ

مع أنّه يستفاد من آيات القرآن بشكل واضح أنّ الإنس أفضل من الجنّ ، إلّا أنّه قدّم ذكر الجنّ على الإنس في الآية الآنفة ، ولعلّ الظاهر منه أنّ الجنّ خلقوا قبل

١٣٥

أن يخلق آدم كما نقرأ ذلك في الآية (٢٧) من سورة الحجر إذ تقول :( وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ (١) مِنْ نارِ السَّمُومِ ) .

٤ ـ الحكمة من الخلق في نظر الفلسفة

ذكرنا آنفا أنّه قلّ أن نجد من لا يسأل نفسه أو غيره عن الهدف من خلق الإنسان! فدائما تولّد جماعة وتمضي جماعة اخرى وتنطفئ إلى الأبد ، فما المراد من هذا المجيء والذهاب؟!

والحقّ أنّنا ـ كأناس لو لم نكن نعيش على وجه هذه الكرة الأرضية فما ذا سيحدث؟ وهل يجب علينا أن نعرف لم نأتي ولم نمضي؟ ولو أردنا أن نعرف السرّ فهل نستطيع ذلك؟! وهكذا تترى الأسئلة الاخر على فكر الإنسان وتحيط به

وعند ما يطرح هذا السؤال من قبل الماديين فالظاهر أنّهم لا جواب لهم عليه ، لأنّ المادّة أو الطبيعة ليس لها عقل ولا شعور حتّى يكون لها هدف لذلك ، فقد أراحوا أنفسهم من هذا السؤال وهم يعتقدون بعبثيّة الخلق وأنّه لا هدف من ورائه! وكم هو مثير ومقلق أن يتّخذ الإنسان لجزئيات حياته سواء أكانت للعمل أم الكسب أو الصحّة أو الرياضة أهدافا منظّمة وأن يعتقد أنّ الحياة بمجموعها ضرب من العبث واللغو!؟

لذلك فلا مجال للعجب أنّ جماعة من الماديين حينما يفكّرون في هذه المسائل يتركون هذه الحياة التي لا هدف ورائها ويقدّمون على الانتحار!

إلّا أنّ هذا السؤال حين يلقيه معتقد بالله ، فإنّه لا يواجه طريقا مسدودا ، لأنّه يعلم أنّ خالق هذا العالم حكيم وقد خلق هذا العالم عن حكمة حتما وإن جهلناها ، وهذا من جانب ، ومن جانب آخر حين يرى أعضاءه عضوا عضوا يجد لكلّ

__________________

(١) قبل بني على الضمّ وإن سبقه الخافض لأنّه مضاف ـ والمضاف إليه محذوف لفظا وتقديره من قبل خلق الإنسان.

١٣٦

فلسفة وحكمة وهدفا ، لا الأعضاء المهمّة ظاهرا كالقلب واللسان والعروق والأعصاب بل حتّى الأظفار وخطوط اليد والبنان وتقوّس القدم أو هيأة اليد وفسلجتها كلّ له فلسفة يعرفها العلم الحديث المعاصر!

فإلى أيّ درجة من السذاجة أن يرى لجميع هذه الأعضاء أهدافا إلّا أنّ المجموع يكون بلا هدف!!

وأي قضاء متهافت أن نجد لكلّ بناء في المدينة فلسفة خاصّة ـ إلّا أنّنا نقضي على المدينة بأنّها لا فلسفة فيها ولا هدف من ورائها!!

ترى هل من الممكن أن يبني مهندس ما بناء عظيما فيه الغرف والأبواب والنوافذ والأحواض والحدائق و «الديكورات» وكلّ من هذه الأمور هو لأمر خاصّ ولهدف معيّن ، إلّا أنّ مجموع البناء لا هدف من ورائه؟!

هذه الأمور هي التي تمنح المؤمن بالله والمعتقد به الاطمئنان بأنّ خلقه له هدف عظيم ، وعليه أن يسعى ويجدّ حتّى يكتشفه بقوّة العقل والعلم.

والعجيب أنّ أصحاب نظرية العبث (في الخلق) حين يردون أيّة زاوية من زوايا العلوم الطبيعية ـ يبحثون عن الهدف لتفسير الظواهر المختلفة ولا يهدأون حتّى يجدوا الهدف! حتّى أنّهم لا يرتضون أن تبقى غدّة صغيرة في بدن الإنسان دون عمل وغاية ، ولربّما يقضون سنوات بالبحث عن الحكمة من وجود مثل هذه الغدّة إلّا أنّهم حين يبلغون أصل خلق الإنسان يقولون بصراحة : لا هدف من ورائه.

فما أعجب هذا التناقض!!

وعلى كلّ حال فالإيمان بحكمة الله تعالى من جانب ، وملاحظة فلسفة أجزاء (وجود) الإنسان من جانب آخر ، كلّ ذلك يدعونا إلى الإيمان أنّ وراء خلق الإنسان هدفا كبيرا.

والآن ينبغي علينا أن نبحث عن هذا الهدف وأن نحدّده ما بوسعنا ـ وأن نسير

١٣٧

في منهاجه اللاحب.

إنّ ملاحظة عدّة مقدّمات ـ يمكن لها ـ أن تسلّط الأضواء على هدفنا للكشف عن هذا المجهول المظلم.

١ ـ نحن دائما نقصد في أعمالنا إلى هدف ما ، وعادة يكون هذا الهدف إشباع حاجة ورفعها وإتمام النواقص. وحتّى الخدمة للآخرين أو إنقاذ مبتلى من بلائه أو قمنا بعمل إنساني وآثرنا سوانا على أنفسنا فذلك أيضا نوع من الحاجات المقدّسة ، وبرفعها نزداد معنوية وكمالا!

ولمّا كنّا نقيس أحيانا صفات الله مع أنفسنا فقد يخطر مثل هذا التصوّر وهو ما هي الحاجة عند الله حتّى ترتفع بخلقنا؟ أو إذا كانت الآيات الآنفة تقول( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) فنقول ما هي حاجته إلى العبادة؟!

مع أنّ هذه التصوّرات ناشئة من المقايسة بين صفات الخالق والمخلوق والواجب والممكن؟!

وحيث أنّ وجودنا محدود فإنّنا نسعى وراء إشباع حاجاتنا ، وأعمالنا جميعها تقع في هذا المسير إلّا أنّ هذا غير وارد في وجود مطلق ، فينبغي البحث عن هدف أفعاله في غير وجوده ، فهو عين فيّاضة ومبدأ النعمة الذي يكتنف الموجودات في كنف حمايته ورعايته وإنمائه والسلوك بها إلى الكمال ، وهذا هو الهدف الواقعي لعبوديتنا وهذه فلسفة عباداتنا وابتهالاتنا ، فهي جميعا دروس تربوية لتكاملنا.

وأساسا فإنّ أصل الخلق هو خطوة تكاملية عظيمة ، أي مجيء الشيء من العدم إلى الوجود ، ومن الصفر إلى مرحلة العدد.

وبعد هذه الخطوة التكاملية العظيمة تبدأ مراحل تكاملية اخرى فجميع المناهج الدينية والإلهيّة تسلك بالإنسان في هذا المسير!

٢ ـ وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو إذا كان الهدف من الخلق هو الجود ـ على

١٣٨

العباد ـ من المعبود لا النفع للخالق ، وهذا الجود يتمثّل في تكامل الناس ، فلم لم يخلق الله (الجواد الكريم) العباد كاملين من البداية ـ ليكونوا في جواره وقربه وأن يتمتّعوا ببركات قربه وجوار ذاته المقدّسة!

والجواب على هذا السؤال واضح فتكامل الإنسان ليس أمرا يمكن خلقه بالإجبار ، بل هو طريق طويل مديد ، وعلى الناس أن يسيروه ويجوبوه ويقطّعوه بإرادتهم وتصميمهم وأفعالهم الاختيارية.

فمثلا لو أخذ مال باهظ قسرا من أحد لبناء مستشفى ، فهل لهذا العمل من أثر تكاملي روحي وأخلاقي في نفسه؟! قطعا لا! لكن لو أعطى بمحض إرادته ورغبته وميله النفسي ولو درهما واحدا لهذا الهدف المقدّس فإنّه يخطو في طريق التكامل الأخلاقي والروحي بتلك النسبة التي ساهم فيها.

ويستفاد من هذا الكلام أنّ على الله أنّ يبيّن لنا هذا المسير بأوامره وتكاليفه ومناهجه التربوية بواسطة أنبيائه والعقل ليتمّ الإبلاغ بذلك ، فنعرف هذا المسير التكاملي ونطويه باختيارنا وإرادتنا.

٣ ـ وينقدح هنا سؤال ـ آخر أيضا ـ وهو أنّ كلّ هذا حسن فالهدف من خلقنا هو التكامل الإنساني ، أو بتعبير آخر القرب من الله وحركة الوجود الناقص نحو الوجود الكامل الذي لا نهاية له ، إلّا أنّه ما الهدف من هذا التكامل؟!

والجواب يتّضح بهذه الجملة أيضا وهو أنّ التكامل هو الهدف النهائي أو بتعبير آخر «غاية الغايات».

وتوضيح ذلك : لو سألنا طالب المدرسة علام تدرس أو لم تدرس؟! فيجيب حتّى أدخل الجامعة!

ولو سألناه ثانية ما تستفيد من الجامعة؟ فيقول مثلا سأكون طبيبا أو مهندسا جديرا!

فتقول له ما تصنع بشهادة «الدكتوراه» أو الهندسة؟ فيقول : لأبرز نشاطاتي

١٣٩

وفعاليّاتي الإيجابية المثبتة ولكي يكون ربح وفير!

فنقول له ما تصنع بالربح الوفير؟ فيقول : لتكون حياتي منعمة وأعيش مكرما ومرفّها.

وأخيرا نوجّه إليه هذا السؤال لم تريد الحياة المنعمة؟

وهنا نراه يجيب بلحن آخر فيقول : حسن(١) لتكون حياتي منعمة وأعيش مكرما ومرفّها علي : أي إنّه يكرّر جواب السؤال السابق!

وهذا دليل على أنّ ذاك هو الجواب النهائي ، وكما يصطلح عليه بأنّه «غاية الغايات» لعمله ، وليس وراءه جواب آخر! وإنّه هو الهدف النهائي كلّ هذا هو في المسائل الماديّة وهكذا الحال في الحياة المعنوية ، فحين يسأل علام مجيء الأنبياء ونزول الكتب من السماء ، ولم هذه التكاليف الشرعية والمناهج التربوية؟ فنجيب : للتكامل الإنساني والقرب من الله!.

وإذا سألوا : ما المراد من التكامل الإنساني والقرب من الله؟ نقول : هو القرب من الله ، أيّ أنّ هذا هو الهدف النهائي ، وبتعبير آخر أنّنا نريد كلّ شيء للتكامل والقرب من الله وأمّا القرب من الله فلنفسه (أي للقرب من الله).

٤ ـ وينقدح مرّة اخرى هذا السؤال أنّه ورد في حديث قدسي قوله تعالى : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف وخلقت الخلق لكي اعرف».

فما علاقة هذا الحديث بما ذكرتم آنفا؟!

فنجيب على ذلك : إنّه بغض النظر عن أنّ هذا الحديث من باب خبر الواحد ، ولا يعتد بخبر الواحد في المسائل الاعتقادية ، فإنّ مفهوم هذا الحديث أنّ معرفة الله هي الوسيلة لتكامل الخلق أي أنّ الله أحبّ أن يستوعب فيض رحمته كلّ مكان ، فلذلك خلق الخلق وعلّمهم طريقه وسبيل معرفته ليسيروا نحو التكامل

__________________

(١) حسن : خبر لمبتدأ محذوف تقديره كلامكم أو سؤالكم حسن.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

حصوله غير معلوم لا أصل تحقّقه(١) !

إلّا أنّ جماعة من المفسّرين قالوا إنّ المراد من «ريب المنون» في الآية محلّ البحث هو حوادث الدهر ، حتّى أنّه نقل عن ابن عبّاس أنّه قال حيث ما وردت كلمة «ريب» في القرآن فهي بمعنى الشكّ والتردّد ، إلّا في هذه الآية من سورة الطور فمعناها الحوادث(٢) .

وقال جماعة منهم أنّ المراد منه هو حالة الاضطراب ، فيكون معنى «ريب المنون» على هذا القول هو حالة الاضطراب التي تنتاب أغلب الأفراد قبل الموت!

ويمكن أن يعود هذا التّفسير (الأخير) على المعنى السابق ، لأنّ حالة الشكّ والتردّد أساس الاضطراب ، وكذلك الحوادث التي لم ينبّأ بها من قبل ، فهي تقترن بنوع من الاضطراب والشكّ والتردّد ، وهكذا فإنّ جميع هذه المفاهيم تنتهي إلى أصل «الشكّ والتردّد».

وبتعبير آخر ، فإنّ للريب ثلاثة معان مذكورة : الشكّ ، والاضطراب ، والحوادث ، وهذه جميعا من باب اللازم والملزوم!.

وعلى كلّ حال ، فأولئك كانوا يطمئنون أنفسهم ويرضون خاطرهم بأنّ حوادث الزمان كفيلة بالقضاء على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانوا يتصوّرون أنّهم سيتخلّصون من هذه المشكلة العظمى التي أحدثتها دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سائر المجتمع لذلك فإنّ القرآن يردّ عليهم بجملة موجزة مقتضبة ذات معنى غزير ويهدّد هؤلاء ـ عمي القلوب ـ مخاطبا نبيّه فيقول :( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ) .

فأنتم تنتظرون تحقّق تصوّراتكم الساذجة التافهة!! وأنا أنتظر أن يصيبكم عذاب الله!.

__________________

(١) راجع المفردات للراغب.

(٢) القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٢٤٢.

١٨١

وعليكم أن تنتظروا أن ينطوي بموتى بساط الإسلام!! وأنا بعون الله أنتظر أن أجعل الإسلام يستوعب العالم كلّه في حياتي وأن يبقى بعد حياتي أيضا مواصلا طريقه دائما!

أجل إنّما تعوّلون على تصوراتكم وخيالاتكم ، وأنا أعتمد على لطف الله الخاصّ سبحانه.

ثمّ يوبّخهم القرآن توبيخا شديدا فيقول في شأنهم :( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) (١) .

كان سراة قريش يعرفون بين قومهم بعنوان «ذوي الأحلام» ، أي أصحاب العقول ، فالقرآن يقول : أي عقل هذا الذي يدّعي بأنّ وحي السماء ـ الذي تكمن فيه دلائل الحقّ والصدق ـ شعر أو كهانة؟! وأن يزعم بأنّ حامله «النبي» الذي عرف بالصدق والأمانة منذ عهد بعيد ، بأنّه شاعر أو مجنون!؟

فبناء على ذلك ينبغي أن يستنتج أنّ هذه التّهم والافتراءات ليست ممّا تقول به عقولهم وتأمرهم به ، بل أساسها طغيانهم وتعصّبهم وروح العصيان والتمرّد فما أن وجدوا منافعهم غير المشروعة في خطر حتّى ودّعوا العقل!! ولوّوا رؤوسهم نحو الطغيان عنادا عن اتّباع الحقّ!.

«الأحلام» جمع حلم ومعناه العقل ، ولكن كما يقول الراغب في مفرداته أنّ الحلم في الحقيقة بمعنى ضبط النفس والتجلّد عند الغضب ، وهو واحد من دلائل العقل والدراية ، ويشترك مع الحلم على زنة العلم ـ في الجذر اللغوي!.

وكلمة «الحلم» قد تأتي بمعنى الرؤيا والمنام ولا يبعد مثل هذا التّفسير في

__________________

(١) هناك احتمالات وأقوال بين المفسّرين في معنى «أم» هنا أهي استفهامية أم منقطعة وبمعنى بل كلّ له رأيه فيها وإن كان الرأي الثاني أكثر ترجيحا عندهم ، إلّا أنّ سياق الآيات يتناسب والمعنى الأوّل غير أنّه ينبغي أن يعرف بأنّ أم في مثل هذه المواطن ينبغي أن تكون مسبوقة بهمزة الاستفهام ولذلك فإنّ الفخر الرازي قدر لها ما يلي : «أأنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا» وهو يشير إلى أنّ الإسلام ينبغي أن يتّبع دليل أو النقل أو العقل!.

١٨٢

الآية محلّ البحث فكأنّ كلماتهم ناتجة عن أحلامهم الباطلة!!

ومرّة اخرى يشير القرآن إلى اتّهام آخر ـ من اتّهاماتهم ـ الذي يعدّ الرابع في سلسلة اتّهاماتهم فيقول :( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

«تقوّله» : مشتقّ من مادّة تقوّل ـ على وزن تكلّف ـ ومعناه الكلام الذي يفتعله الإنسان بينه وبين نفسه دون أن يكون له واقع(١) .

وهذه ذريعة اخرى من ذرائع المشركين والكفّار المعاندين لئلّا يستسلموا أمام القرآن المجيد ودعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تكرّرت الإشارة إليها مرارا عديدة في آيات القرآن!.

غير أنّ القرآن يردّ عليهم ردّا يدحرهم ويتحدّاهم متهكما فيقول :( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) .

فأنتم أناس مثله ولديكم العقل والقدرة على البيان والاطلاع والخبرة على أنواع الكلام فلم لا يأتي مفكّروكم وخطباؤكم وفصحاءكم بمثل هذا الكلام!.

وجملة «فليأتوا» أمر تعجيزي ، والهدف منه بيان عجزهم وعدم قدرتهم على مجاراة القرآن.

وهذا ما يعبّر عنه في علم الكلام والعقائد بالتحدّي أي دعوة المخالفين إلى المعارضة والإتيان بالمثل «في مواجهة المعجزات!».

وعلى كلّ حال ، فهذه آية من الآيات التي تبيّن إعجاز القرآن بجلاء ، ولا يختصّ مفهومها بمن عاصروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يشمل جميع الذين يزعمون ـ بأنّ القرآن كلام بشر ، وأنّه مفترى على الله ـ على امتداد القرون والأعصار ، فهم مخاطبون بهذه الآية أيضا أي هاتوا حديثا مثله إن كنتم تزعمون بأنّه ليس من الله وأنّه كلام بشر.

__________________

(١) يقول صاحب مجمع البيان : التقوّل : تكلّف ولا يقال ذلك إلّا في الكذب.

١٨٣

وكما نعلم بأنّ نداء القرآن في هذه الآية والآيات المشابهة كان عاليا أبدا ، ولم يستطع أي إنسان خلال أربعة عشر قرنا ـ منذ بعثة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يومنا هذا ـ أن يرد بجواب إيجابي.

ومن المعلوم أنّ أعداء الإسلام وخاصّة أصحاب الكنيسة واليهود ينفقون ما لا يحصى من الأموال الطائلة للتبليغ ضدّ الإسلام ، فما كان يمنعهم أن يدعوا قسما منها تحت تصرّف أصحاب الفكر والقلم المخالفين لينهضوا بوجه معارضة القرآن ويكونوا مصداقا لقوله تعالى :( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ) وهذا العجز «العمومي» شاهد حي على أصالة هذا الوحي السماوي!

يقول بعض المفسّرين في هذا الصدد شيئا جديرا بالملاحظة فلا بأس بالالتفات والإصغاء إليه

«إنّ في هذا القرآن سرّا خاصا يشعر به كلّ من يواجه نصوصه ابتداء قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها إنّه يشعر بسلطان خاصّ في عبارات هذا القرآن يشعر أنّ هنالك شيئا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير وأنّ هنالك عنصرا ما ينسكب في الحسّ بمجرّد الاستماع لهذا القرآن ، يدركه بعض الناس واضحا ويدركه بعض الناس غامضا ، ولكنّه على كلّ حال موجود هذا العنصر الذي ينسكب في الحسّ ، يصعب تحديد مصدره ، أهو العبارة ذاتها؟! أهو المعنى الكامن فيها ، أهو الصور والضلال التي تشعّها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاصّ المتميّز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟. أهي هذه العناصر كلّها مجتمعة؟. أم أنّها هي وشيء آخر وراءها غير محدود!

ذلك سرّ مستودع في كلّ نصّ قرآني ، يشعر به كلّ من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء ثمّ تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبير والنظر والتفكير في بناء

١٨٤

القرآن كلّه»(١) .

ولمزيد الإيضاح حول إعجاز القرآن من أبوابه المختلفة يراجع ذيل الآية (٢٣) من سورة البقرة إذ ذكرنا هناك بحثا مفصّلا في هذا الصدد وكذلك ذيل الآية (٨٨) من سورة الإسراء.

* * *

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٦٠٥.

١٨٥

الآيات

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) )

التّفسير

ما هو كلامكم الحقّ؟

هذه الآيات تواصل البحث الاستدلالي السابق ـ كذلك ـ وهي تناقش المنكرين للقرآن ونبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدرة الله سبحانه.

وهي آيات تبدأ جميعها بـ «أم» التي تفيد الاستفهام وتشكّل سلسلة من

١٨٦

الاستدلال في أحد عشر سؤالا متتابعا (بصورة الاستفهام الإنكاري) ، وبتعبير أجلى : إنّ هذه الآيات تسدّ جميع الطرق بوجه المخالفين فلا تدع لهم مهربا في عبارات موجزة ومؤثّرة جدّا بحيث ينحني الإنسان لها من دون إختياره إعظاما ويعترف ويقرّ بانسجامها وعظمتها. فأوّل ما تبدأ به هو موضوع الخلق فتقول :( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ) (١) .

وهذه العبارة الموجزة والمقتضبة في الحقيقة هي إشارة إلى «برهان العليّة» المعروف الوارد في الفلسفة وعلم الكلام لإثبات وجود الله ، وهو أنّ العالم الذي نعيش فيه ممّا لا شكّ ـ فيه ـ حادث (لأنّه في تغيير دائم ، وكلّ ما هو متغيّر فهو في معرض الحوادث ، وكلّ ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديما وأزليّا).

والآن ينقدح هذا السؤال ، وهو إذا كان العالم حادثا فلا يخرج عن الحالات الخمس التالية :

١ ـ وجد من دون علّة!

٢ ـ هو نفسه علّة لنفسه.

٣ ـ معلولات العالم علّة لوجوده.

٤ ـ إنّ هذا العالم معلول لعلّة اخرى وهي معلولة لعلّة اخرى إلى ما لا نهاية.

٥ ـ إنّ هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الذي يكون وجوده ذاتيا له.

وبطلان الاحتمالات الأربع المتقدّمة واضح ، لأنّ وجود المعلول من دون علّة محال ، وإلّا فينبغي أن يكون كلّ شيء موجودا في أي ظرف كان ، والأمر ليس كذلك!

والاحتمال الثاني وهو أن يوجد الشيء من نفسه محال أيضا ، لأنّ مفهومه أن

__________________

(١) هناك تفسيرات أخر واحتمالات متعدّدة في وجوه هذه الآية ، منها أنّ مفادها : هل خلقوا بلا هدف ولم يك عليهم أيّة مسئولية؟! وبالرغم أنّ جماعة من المفسّرين اختاروا هذا الوجه إلّا أنّه مع الالتفات لبقيّة الآية :( أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) يتّضح أنّ المراد هو ما ذكر في المتن ، أي خلقوا من دون علّة. أم هم علّة أنفسهم؟!.

١٨٧

يكون موجودا قبل وجوده ، ويلزم منه اجتماع النقيضين [فلاحظوا بدقّة].

وكذلك الاحتمال الثالث وهو أنّ مخلوقات الإنسان خلقته ، وهو واضح البطلان إذ يلزم منه الدور!.

وكذلك الاحتمال الرابع وهو تسلسل العلل وترتّب العلل والمعلول إلى ما لا نهاية أيضا محال ، لأنّ سلسلة المعلولات اللّامحدودة مخلوقة ، والمخلوق مخلوق ويحتاج إلى خالق أوجده ، ترى هل تتحوّل الأصفار التي لا نهاية لها إلى عدد؟! أو ينفلق النور من ما لا نهاية الظلمة؟! وهل يولد الغنى من ما لا نهاية له في الفقر والفاقة؟

فبناء على ذلك لا طريق إلّا القبول بالاحتمال الخامس ، أي خالقية واجب الوجود [فلاحظوا بدقّة أيضا].

وحيث أنّ الركن الأصلي لهذا البرهان هو نفي الاحتمال الأوّل والثاني فإنّ القرآن اقتنع به فحسب.

والآن ندرك جيّدا وجه الاستدلال في هذه العبارات الموجزة!

الآية التالية تثير سؤالا آخر على الادّعاء في المرحلة الأدنى من المرحلة السابقة فتقول :( أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) .

فإذا لم يوجدوا من دون علّة ولم يكونوا علّة أنفسهم أيضا ، فهل هم واجبو الوجود فخلقوا السماوات والأرض؟! وإذا لم يكونوا قد خلقوا الوجود ، فهل أو كل الله إليهم أمر خلق السماء والأرض؟ فعلى هذا هم مخلوقون وبيدهم أمر الخلق أيضا!!.

من الواضح أنّهم لا يستطيعون أن يدّعوا هذا الادّعاء الباطل ، لذلك فإنّ الآية تختتم بالقول :( بَلْ لا يُوقِنُونَ ) !

أجل ، فهم يتذرّعون بالحجج الواهية فرارا من الإيمان!

ثمّ يتساءل القرآن قائلا : فإذا لم يدّعوا هذه الأمور ولم يكن لهم نصيب في

١٨٨

الخلق ، فهل عندهم خزائن الله( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ ) (١) ليهبوا من شاؤوا نعمة النبوّة والعلم أو الأرزاق الآخر ويمنعوا من شاؤوا ذلك :( أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ) على جميع العوالم وفي أيديهم امور الخلائق؟!

انّهم لا يستطيعون ـ أن يدّعوا أبدا أنّ عندهم خزائن الله تعالى ، ولا يملكون تسلّطا على تدبير العالم ، لأنّ ضعفهم وعجزهم إزاء أقل مرض بل حتّى على بعوضة تافهة وكذلك احتياجهم إلى الوسائل الابتدائية للحياة خير دليل على عدم قدرتهم وفقدان هيمنتهم! وإنّما يجرّهم إلى إنكار الحقائق هوى النفس والعناد وحبّ الجاه والتعصّب والأنانية!.

وكلمة : «مصيطرون» إشارة إلى أرباب الأنواع التي هي من خرافات القدماء ، إذ كانوا يعتقدون أنّ كلّ نوع من أنواع العالم إنسانا كان أمّ حيوانا آخر أم جمادا أم نباتا له مدبّر وربّ خاصّ يدعى بربّ النوع ويدعون الله «ربّ الأرباب» وهذه العقيدة تعدّ في نظر الإسلام «شركا» والقرآن في آياته يصرّح بأنّ التدبير لجميع الأشياء هو لله وحده ويصفه بربّ العالمين.

وأصل هذه الكلمة من «سطر» ومعناه صفّ الكلمات عند الكتابة ، و «المسيطر» كلمة تطلق على من له تسلّط على شيء ما ويقوم بتوجيهه ، كما أنّ الكاتب يكون مسيطرا على كلماته (وينبغي الالتفات إلى أنّ هذه الكلمة تكتب بالسين وبالصاد على السواء ـ مسيطر ومصيطر ـ فهما بمعنى واحد وإن كان الرسم القرآن المشهور بالصاد «مصيطر»).

ومن المعلوم أنّه لا منكرو النبوّة ولا المشركون في العصر الجاهلي ولا سواهما يدّعي أيّا من الأمور الخمسة التي ذكرها القرآن ، ولذلك فإنّه يشير إلى موضوع آخر في الآية التالية فيقول : إنّ هؤلاء هل يدعون أنّ الوحي ينزل عليهم

__________________

(١) الخزائن جمع الخزينة ومعناها مكان كلّ شيء محفوظ لا تصل إليه اليد ويدّخر فيه ما يريد الإنسان يقول القرآن في هذا الصدد( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر الآية ٢١].

١٨٩

أو يدعون أنّ لهم سلّما يرتقون عليه إلى السماء فيستمعون إلى أسرار الوحي :( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ) .

وحيث إنّه كان من الممكن أن يدّعوا بأنّهم على معرفة بأسرار السماء فإنّ القرآن يطالبهم مباشرة بعد هذا الكلام بالدليل فيقول :( فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

ومن الواضح أنّه لو كانوا يدّعون مثل هذا الادّعاء فإنّه لا يتجاوز حدود الكلام فحسب ، إذ لم يكن لهم دليل على ذلك أبدا(١) .

ثمّ يضيف القرآن قائلا : هل صحيح ما يزعمون أنّ الملائكة إناث وهم بنات الله؟!( أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ) ؟!

وفي هذه الآية إشارة إلى واحد من اعتقاداتهم الباطلة ، وهو استياؤهم من البنات بشدّة ، وإذا علموا أنّهم رزقوا من أزواجهم «بنتا» اسودّت وجوههم من الحياء والخجل! ومع هذا فإنّهم كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات الله ، فإذا كانوا مرتبطين بالملإ الأعلى ويعرفون أسرار الوحي ، فهل لديهم سوى هذه الخرافات المضحكة وهذه العقائد المخجلة؟!

وبديهي أنّ الذكر والأنثى لا يختلفان في نظر القيمة الإنسانية والتعبير في الآية المتقدّمة هو في الحقيقة من قبيل الاستدلال بعقيدتهم الباطلة ومحاججتهم بها.

والقرآن يعوّل ـ في آيات متعدّدة ـ على نفي هذه العقيدة الباطلة ويحاكمهم في هذا المجال ويفضحهم(٢) !!

__________________

(١) سلّم يعني «المصعد» كما يأتي بمعنى أيّة وسيلة كانت وقد اختلف المفسّرون في المراد من الآية فأيّ شيء كانوا يدعونه؟! فقال بعضهم : ادّعوا الوحي وقال آخرون هو ما كانوا يدّعونه في النّبي بأنّه شاعر أو مجنون أو ما كانوا يدّعون من الأنداد والشركاء لله وفسّر بعضهم ذلك بنفي نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ولا مانع من الجمع بين هذه المعاني وإن كان المعنى الأوّل أجلى».

(٢) كانت لنا بحوث مفصّلة في سبب جعل العرب الملائكة بنات الله في الوقت الذي كانوا يستاءون من البنات. وذكرنا

١٩٠

ثمّ يتنازل القرآن إلى مرحلة اخرى ، فيذكر واحدا من الأمور التي يمكن أن تكون ذريعة لرفضهم فيقول :( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) .

«المغرم» ـ على وزن مغنم وهو ضدّ معناه ـ أي ما يصيب الإنسان من خسارة أو ضرر دون جهة ، أمّا الغريم فيطلق على الدائن والمدين أيضا.

و «المثّقل» مشتقّ من الأثقال ، ومعناه تحميل العبء والمشقّة ، فبناء على هذا المعنى يكون المراد من الآية : ترى هل تطلب منهم غرامة لتبليغ الرسالة فهم لا يقدرون على أدائها ولذلك يرفضون الإيمان؟!

وقد تكرّرت الإشارة في عدد من الآيات القرآنية لا في النّبي فحسب ، بل في شأن كثير من الأنبياء ، إذ كان من أوائل كلمات النبيين قولهم لأممهم : لا نريد على إبلاغنا الرسالة إليكم أجرا ليثبت عدم قصدهم شيئا من وراء دعوتهم ولئلّا تبقى ذريعة للمتذرّعين أيضا.

ومرّة اخرى يخاطبهم القرآن متسائلا( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) فهؤلاء يدّعون أنّ النّبي شاعر وينتظرون موته لينطوي بساطه وينتهي كلّ شيء بموته وتلقى دعوته في سلّة الإهمال ، كما تقدّم في الآية السابقة ذلك على لسان المشركين إذ كانوا يقولون( نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) .

فمن أين لهم أنّهم سيبقون أحياء بعد وفاة النبي؟! ومن أخبرهم بالغيب؟!

ويحتمل أيضا أنّ القرآن يقول إذا كنتم تدّعون معرفة الأسرار الغيبية وأحكام الله ولستم بحاجة إلى القرآن ودين محمّد فهذا كذب عظيم(١) .

ثمّ يتناول القرآن احتمالا آخر فيقول : لو لم يكن كلّ هذه الأمور المتقدّمة ، فلا بدّ أنّهم يتآمرون لقتل النّبي وإجهاض دعوته ولكن ليعلموا أنّ كيد الله أعلى

__________________

الدلائل الحيّة التي أقامها القرآن ضدّهم فليراجع ذيل الآية (٥٧) سورة النحل وذيل الآية (١٤٩) من سورة الصافات

(١) قال بعض المفسرين أنّ المراد بالغيب هو اللوح المحفوظ ، وقال بعضهم : بل هو إشارة إلى ادّعاءات المشركين وقولهم إذ كانت القيامة فسيكون لنا عند الله مقام كريم. إلّا أنّ هذه التفاسير لا تتناسب والآية محلّ البحث ولا يرتبط بعضها ببعض.

١٩١

وأقوى من كيدهم :( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ) (١) .

والآية الآنفة يطابق تفسيرها تفسير الآية (٥٤) من سورة آل عمران التي تقول :( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) .

واحتمل جماعة من المفسّرين أنّ المراد من الآية محلّ البحث هو : «انّ مؤامراتهم ستعود عليهم أخيرا وتكون وبالا عليهم ...» وهذا المعنى يشبه ما ورد في الآية (٤٣) من سورة فاطر :( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) .

والجمع بين التّفسيرين الآنفين ممكن ولا مانع منه.

ويمكن أن يكون لهذه الآية ارتباط آخر بالآية المتقدّمة ، وهو أنّ أعداء الإسلام كانوا يقولون : ننتظر موت محمّد. فالقرآن يردّهم بالقول بأنّهم ليسوا خارجين عن واحد من الأمرين التاليين أمّا أنّهم يدّعون بأنّ محمّدا يموت قبل موتهم حتف أنفه. فلازم هذا الادّعاء أنّهم يعلمون الغيب ، وأمّا أنّ مرادهم أنّه سيمضي بمؤامراتهم فالله أشدّ مكرا ويردّ كيدهم إليهم ، فهم المكيدون!

وإذا كانوا يتصوّرون أنّ في اجتماعهم في دار الندوة ورشق النّبي بالتّهم كالكهانة والجنون والشعر أنّهم سينتصرون على النّبي فهم في منتهى العمى والحمق ، لأنّ قدرة الله فوق كلّ قدرة ، وقد ضمن لنبيّه السلامة والنجاة حتّى يبلغ دعوته العالمية.

وأخيرا فإنّ آخر ما يثيره القرآن من أسئلة في هذا الصدد قوله :( أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ ) ؟! ويضيف ـ منزّها ـ( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

فعلى هذا لا أحد يستطيع أن يمنعهم من الله ويحميهم ، وهكذا فإنّ القرآن يستدرجهم ويضعهم أمام استجواب عجيب وأسئلة متّصلة تؤلّف سلسلة متكاملة مؤلّفة من أحد عشر سؤالا! ويقهقرهم مرحلة بعد مرحلة إلى الوراء!! ويضطرهم

__________________

(١) الكيد على وزن صيد نوع من الحيلة وقد يستعمل في التحيّل إلى سبيل الخير ، إلّا أنّه غالبا ما يستعمل في الشرّ ، وتعني هذه الكلمة المكر والسعي أو الجدّ كما تعني الحرب أحيانا

١٩٢

إلى التنزّل من الادّعاءات ثمّ يوصد عليهم سبل الفرار كلّها ويحاصرهم في طريق مغلق!.

كم هي رائعة استدلالات القرآن وكم هي متينة أسئلته واستجوابه! فلو أنّ في أحد منهم روحا تبحث عن الحقّ وتطلبه لأذعنت أمام هذه الأسئلة واستسلمت لها.

الطريف أنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث لا تذكر دليلا لنفي المعبودات ممّا سوى الله ، وتكتفي بتنزيه الله( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

وذلك لأنّ بطلان الوهية الأصنام والأوثان المصنوعة من الأحجار والخشب وغيرهما مع ما فيها من ضعف واحتياج أجلى وأوضح من أي بيان وتفصيل آخر ، أضف إلى كلّ ذلك فإنّ القرآن استدلّ على إبطال هذا الموضوع بآيات متعدّدة غير هذه الآية.

* * *

١٩٣

الآيات

( وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩) )

التّفسير

إنّك بأعيننا!

تعقيبا على البحث الوارد في الآيات المتقدّمة الذي يناقش المشركين والمنكرين المعاندين ، هذا البحث الذي يكشف الحقيقة ساطعة لكلّ إنسان يطلب الحقّ ، تميط الآيات محلّ البحث النقاب عن تعصّبهم وعنادهم فتقول :( وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ ) (١) .

__________________

(١) «الكشف» : على وزن فسق ـ معناه القطعة من كلّ شيء ، ومع ملاحظة بقيّة التعبير. «من السماء» : يظهر المراد منه هنا

١٩٤

هؤلاء المشركين معاندون إلى درجة إنكارهم الحقائق الحسيّة وتفسيرهم الحجارة الساقطة من السماء بالسحاب ، مع أنّ كلّ من رأى السحاب حين ينزل ويقترب من الأرض لم يجده سوى بخار لطيف ، فكيف يتراكم هذا البخار اللطيف ويتبدّل حجرا!؟

وهكذا يتّضح حال هؤلاء الأشخاص إزاء الحقائق المعنوية! أجل انّ ظلمة الإثم وعبادة الهوى والعناد كلّ ذلك يحجب أفق الفكر السليم فيجعله متجهّما حتّى تنجرّ عاقبة أمره إلى إنكار المحسوسات وبذلك ينعدم الأمل في هدايته.

و «المركوم» معناه المتراكم ، أي ما يكون بعضه فوق بعض!

لذلك فإنّ الآية التالية تضيف بالقول :( فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) .

وكلمة «يصعقون» مأخوذة من صعق ، والإصعاق هو الإهلال ، وأصله مشتقّ من الصاعقة ، وحين أنّ الصاعقة تهلك من تقع عليه فإنّ هذه الكلمة استعملت بمعنى الإهلاك أيضا.

وقال بعض المفسّرين أنّ هذه الجملة تعني الموت العامّ والشامل الذي يقع آخر هذه الدنيا مقدّمة للقيامة.

إلّا أنّ هذا التّفسير يبدو بعيدا ، لأنّهم لا يبقون إلى ذلك الزمان بل الظاهر هو المعنى الأوّل ، أي دعهم إلى يوم موتهم الذي يكون بداية لمجازاتهم والعقاب الاخروي!

ويتبيّن ممّا قلنا أنّ جملة «ذرهم» أمر يفيد التهديد ، والمراد منه أنّ الإصرار على تبليغ مثل هؤلاء الأفراد لا يجدي نفعا إذ لا يهتدون.

فبناء على ذلك لا ينافي هذا الحكم إدامة التبليغ على المستوى العامّ من قبل

__________________

القطعة من حجر السماء ، وقد دلّت عليه بعض كتب اللغة وهذه الكلمة تجمع على كسف على وزن عنب ، إلّا أنّ أغلب المفسّرين يرون بأنّ الكلمة هنا مفردة وظاهر الآية أنّها مفردة أيضا ، لأنّها وصفتها بالمفرد ساقطا

١٩٥

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ينافي الأمر بالجهاد. فما يقوله بعض المفسّرين أنّ هذه الآية نسخت آيات الجهاد غير مقبول!

ثمّ يبيّن القرآن في الآية التالية هذا اليوم فيقول :( يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

أجل : من يمت تقم قيامته الصغرى «من مات قامت قيامته» وموته بداية للثواب أو العقاب الذي يكون قسم منه في البرزخ والقسم الآخر في القيامة الكبرى ، أي القيامة العامّة ، وفي هاتين المرحلتين لا تنفع ذريعة متذرّع ولا يجد الإنسان وليّا من دون الله ولا نصيرا.

ثمّ تضيف الآية أنّه لا ينبغي لهؤلاء أن يتصوّروا أنّهم سيواجهون العذاب في البرزخ وفي القيامة فحسب ، بل لهم عذاب في هذه الدنيا أيضا :( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

أجل ، إنّ على الظالمين أن ينتظروا في هذه الدنيا عذابا كعذاب الأمم السابقة كالصاعقة والزلازل والكسف من السماء والقحط أو القتل على أيدي جيش التوحيد كما كان ذلك في معركة بدر وما ابتلي به قادة المشركين فيها إلّا أنّ يتيقّظوا ويتوبوا ويعودوا إلى الله آيبين منيبين.

وبالطبع فإنّ جماعة منهم ابتلوا بالقحط والمحل ، ومنهم من قتل في معركة بدر كما ذكرنا آنفا ـ إلّا أنّ طائفة كبيرة تابوا وأنابوا والتحقوا بصفوف المسلمين الصادقين فشملهم الله بعفوه(١) .

وجملة( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) تشير إلى أنّ أغلب أولئك الذين ينتظرهم العذاب في الدنيا والآخرة هم جهلة ، ومفهومها أنّ القليل منهم يعرف هذا المعنى ، إلّا أنّه في الوقت ذاته يصرّ على المخالفة لما فيه من اللجاجة والعناد عن الحقّ.

__________________

(١) من قال بأنّ جملة فيه يصعقون تشير إلى يوم القيامة فسّر العذاب «في الآية» محلّ البحث بعذاب البرزخ في القبر ، إلّا أنّه حيث كان تفسيرها ضعيفا فهذا الاحتمال ضعيف أيضا.

١٩٦

وفي الآية التالية يخاطب القرآن نبيّه ويدعوه إلى الصبر أمام هذه التّهم والمثبّطات وأن يستقيم فيقول :( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) (١) .

فإذا ما اتّهموك بأنّك شاعر أو كاهن أو مجنون فاصبر ، وإذا زعموا بأنّ القرآن مفترى فاصبر ، وإذا أصرّوا على عنادهم وواصلوا رفضهم لدعوتك برغم كلّ هذه البراهين المنطقيّة فاصبر ، ولا تضعف همّتك ويفتر عزمك :( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ) !.

نحن نرى كلّ شيء ونعلم بكلّ شيء ولن ندعك وحدك.

وجملة( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ) تعبير لطيف جدّا حاك عن علم الله وكذلك كون النّبي مشمولا بحماية الله الكاملة ولطفه!

أجل ، إنّ الإنسان حين يحسّ بأنّ قادرا كبيرا ينظره ويرى جميع سعيه وعمله ويحميه من أعدائه فإنّ إدراك هذا الموضوع يمنحه الطاقة والقوّة أكثر كما يحسّ بالمسؤولية بصورة أوسع.

وحيث أنّ الحاجة لله وعبادته وتسبيحه وتقديسه وتنزيهه والالتجاء إلى ذاته المقدّسة كلّ هذه الأمور تمنح الإنسان الدّعة والاطمئنان والقوّة ، فإنّ القرآن يعقّب على الأمر بالصبر بالقول :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) .

سبّحه حين تقوم سحرا للعبادة وصلاة الليل.

... وحين تنهض من نومك لأداء الصلاة الواجبة.

... وحين تقوم من أي مجلس ومحفل ، فسبّحه واحمده.

وللمفسّرين أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ الجمع بين هذه الأقوال ممكن أيضا ، سواء كان الحمد التسبيح سحرا ، أو عند صلاة الفريضة ، أو عند القيام من أي مجلس كان.

__________________

(١) قد يكون المراد من «حكم ربّك» هو تبليغ حكم الله الذي امر النّبي به ، فعليه أن يصير عند إبلاغه ، أو أنّه عذاب الله الذي وعد أعداؤه به أي : اصبر يا رسول الله حتّى يعذّبهم الله ، أو المراد منه أوامر أي بما إنّ الله أمرك فاصبر لحكمه ، والجمع بين هذه المعاني وإن كان ممكنا إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب خاصّة بملاحظة فإنّك بأعيننا.

١٩٧

أجل ، نوّر روحك وقلبك بتسبيح الله وحمده فإنّهما يمنحان الصفاء وعطر لسانك بذكر الله واستمدّ منه المدد واستعدّ لمواجهة أعدائك!.

وقد جاء في روايات متعدّدة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان يقوم من مجلسه كان يسبّح الله ويحمده ويقول : «إنّه كفّارة المجلس»(١) .

ومن ضمن ما كان يقول بعد قيامه من مجلس كما جاء في بعض الأحاديث عنه : «سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك!».

وسأل بعضهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الكلمات فقال : «هنّ كلمات علمنيهنّ جبرئيل كفّارات لما يكون في المجلس»(٢) .

ثمّ يضيف القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث قائلا :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ ) .

وقد فسّر كثير من المفسّرين جملة( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) بصلاة الليل ، وأمّا إدبار النجوم فقالوا هي إشارة إلى «نافلة الصبح» التي تؤدّي عند طلوع الفجر واختفاء النجوم بنور الصبح.

كما ورد في حديث عن عليعليه‌السلام أنّ المراد من «إدبار النجوم» هو «ركعتان قبل الفجر» نافلة الصبح اللتان تؤدّيان قبل صلاة الصبح وعند غروب النجوم ، أمّا «إدبار السجود» الوارد ذكرها في الآية ٤٠ من سورة «ق» فإشارة إلى «ركعتان بعد المغرب» «وبالطبع فإنّ نافلة المغرب أربع ركع إلّا أنّ هذا الحديث أشار إلى ركعتين منها فحسب»(٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ العبادة والتسبيح وحمد الله في جوف الليل وعند طلوع الفجر لها صفاؤها ولطفها الخاصّ ، وهي في منأى عن الرياء ، ويكون الاستعداد

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٤

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٢٠.

(٣) مجمع البيان ذيل الآية (٤٠) ، سورة ق ، ج ٩ ، ص ١٥٠.

١٩٨

الروحي لها أكثر في ذلك الوقت ، لأنّ الإنسان يكون فيه بعيدا عن امور الدنيا ومشاكلها ، والاستراحة في الليل تمنح الإنسان الدّعة ، فلا صخب ولا ضجيج ، وفي الحقيقة هذه الفترة تقترن بالوقت الذي عرج بالنّبي إلى السماء ، فبلغ قاب قوسين أو أدنى يناجي ربّه ويدعوه في الخلوة!

ولذلك فقد عوّلت الآيات محلّ البحث على هذين الوقتين ، ونقرأ حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها(١) .

اللهمّ وفّقنا للقيام في السحر ومناجاتك طوال عمرنا.

اللهمّ اجعل قلوبنا بعشقك مطمئنة ونوّرها بمحبّتك وأمّلها بلطفك.

اللهمّ منّ علينا بالصبر والاستقامة بوجه قوى الشياطين ومؤامرات أعدائك وكيدهم لنتأسّى برسولك فنعيش على هديه ونموت على سنّته.

آمين يا ربّ العالمين

انتهاء سورة الطّور

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٦٢٥١ ذيل الآيات محلّ البحث.

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526