الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156745 / تحميل: 6146
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

والحزن لوقوع حادثة غير مطلوبة!.

ثمّ تبيّن الآيات من هم «المكذّبون» فتقول :( الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) .

فيزعمون أنّ آيات القرآن ضرب من الكذب والافتراء وأنّ معجزات النّبي سحر وأنّه مجنون ، ويتلقّون جميع الحقائق باللعب ويسخرون منها ويستهزئون بها ويحاربون الحقّ بالكلام الباطل غير المنطقي ، ولا يأبون من أيّة تهمة أو كذب في سبيل الوصول إلى مآربهم.

«خوض» على وزن حوض ـ معناه الدخول في الكلام الباطل ، وهو في الأصل ورود الماء والعبور منه.

ثمّ تبيّن الآيات ذلك اليوم وعاقبة هؤلاء المكذّبين في توضيح آخر : فتقول :( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) (١) أي يساقون نحو جهنّم بعنف وشدّة.

ويقال لهم حينئذ :( هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ) .

كما يقال لهم أيضا :( أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ) ؟!

لقد كنتم تزعمون في الدنيا إنّ ما جاء به محمّد سحر ، وقد أخذ السحر عن ساحر آخر ، فغطّى على أعيننا ليصرفها عن الحقائق وليختطف عقولنا! ويرينا أمورا على أنّها معاجز ، ويذكر لنا كلاما على أنّه وحي منزل من الله ، إلّا أنّ جميع ذلك لا أساس له وما هو إلّا السحر!!

لذلك فحين يردون نار جهنّم يقال لهم بنحو التوبيخ والملامة والاحتقار وهم يلمسون حرارة النار : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟!

كما يقال لهم هناك أيضا :( اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أجل هذه هي أعمالكم وقد عادت إليكم ، فلا ينفع الجزع والفزع والآه

__________________

(١) دعّ على وزن جدّ معناه الدفع الشديد والسوق بخشونة وعنف و «اليوم» في الآية منصوب على الظرفية أو البدلية من يومئذ في الآية السابقة.

١٦١

والصراخ ولا أثر لكلّ ذلك أبدا.

وهذه الآية تأكيد على «تجسّم الأعمال» وعودتها نحو الإنسان ، وهي تأكيد جديد أيضا على عدالة الله لأنّ نار جهنّم مهما كانت شديدة ومحرقة فهي ليست سوى نتيجة أعمال الناس أنفسهم ، وأشكالها المتبدّلة هناك!.

* * *

تعقيب

١ ـ كيف يساق المجرمون إلى جهنّم؟

لا شكّ أنّ المجرمين يساقون ويدعّون إلى جهنّم بالتحقير والمهانة والزجر والعذاب ، إلّا أنّه تشاهد آيات متعدّدة في هذا الصدد ذات تعابير مختلفة.

إذ نقرأ في الآيتين (٣٠) و٣١) من سورة الحاقة مثلا( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) .

ونقرأ في الآية (٤٧) من سورة الدخان( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ) .

كما جاء التعبير بالسوق في بعض الآيات كالآية (٨٦) من سورة مريم( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً ) .

وعلى العكس منهم المتّقون والصالحون إذ يتلقّون بكلّ إكرام واحترام عند باب الجنّة :( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

وعلى هذا فليست الجنّة والنار ـ كلّ منهما ـ مركزا لرحمة الله أو عذابه فحسب ، بل تشريفات الورود لكلّ منهما كاشفة عن هذا المعنى أيضا.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٧٣.

١٦٢

٢ ـ الخائضون في الأباطيل!.

بالرغم من أنّ كلام القرآن في الآيات الآنفة كان يدور حول المشركين في عصر النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ هذه الآيات دون شكّ عامّة ، فهي تشمل جميع المكذّبين حتّى الفلاسفة الماديين الخائضين في حفنة من الخيالات والأفكار الناقصة ، ويتّخذون حقائق عالم الوجود لعبا وهزوا ، ولا يعتدون إلّا بما يقرّ به عقلهم القاصر ، فهم ينتظرون أن يروا كلّ شيء في مختبراتهم وتحت المجهر حتّى ذات الله المقدّسة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ وإلّا فلا يؤمنون بوجوده أبدا.

هؤلاء أيضا مصداق للذين هم( فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) وهم غارقون في أمواج من الخيالات والتصوّرات الباطلة.

إنّ عقل الإنسان مهما بلغ فهو قبال نور الوحي كالشمعة أمام نور الشمس المضيئة في العالم ، فهذه الشمعة تساعد الإنسان أن يخرج من محيط المادّة المظلم وأن يفتح الأبواب نحو ما وراء الطبيعة ، وأن يحلق في كلّ جهة بنور الوحي ليرى العالم الواسع ويتعرّف على مجهولاته وخفاياه.

* * *

١٦٣

الآيات

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) )

التّفسير

مواهب الله للمتّقين :

تعقيبا على المباحث الواردة في الآيات المتقدّمة حول عقاب المجرمين وعذابهم الأليم تذكر الآيات محلّ البحث ما يقابل ذلك من المواهب الكثيرة والثواب العظيم للمؤمنين والمتّقين لتتجلّى بمقايسة واضحة مكانة كلّ من الفريقين.

تقول الآية الاولى من الآيات محلّ البحث :( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ) .

١٦٤

والتعبير بـ «المتّقين» بدلا من المؤمنين ، لأنّ هذا العنوان يحمل مفهوم الإيمان ، كما يحمل مفهوم العمل الصالح أيضا ، خاصّة أنّ «التقوى» تقع مقدّمة وأساسا للإيمان في بعض المراحل ، كما تقول الآية ٢ من سورة البقرة( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) لأنّ الإنسان إذا لم يكن ذا تعهّد وإحساس بالمسؤولية وروح تطلب الحقّ وتبحث عنه ـ وكلّ ذلك مرحلة من مراحل التقوى ـ فإنّه لا يمضي في التحقيق عن دينه وعقيدته ولا يقبل هداية القرآن أبدا.

والتعبير بـ( فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ) بصيغة الجمع والتنكير لكلّ منهما ، إشارة إلى تنوّع الجنّات والنعيم وعظمتهما.

ثمّ يتحدّث القرآن عن تأثير هذه النعم الكبرى على روحية أهل الجنّة فيقول في الآية التالية :( فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ) (١) .

خاصّة أنّ الله قد طمأنهم وآمنهم من العقاب( وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) .

وهذه الجملة قد تكون ذات معنين الأوّل بيان النعمة المستقلّة قبال نعم الله الاخر والثاني أن يكون تعقيبا على الكلام السابق ، أي أنّ أهل الجنّة مسرورون من شيئين «بما آتاهم الله من النعم في الجنّة» ، و «بما وقاهم من عذاب الجحيم».

والتعبير بـ «ربّهم» في الجملتين يشير ضمنا إلى نهاية لطف الله ودوام ربوبيته عليهم في تلك الدار.

ثمّ تشير الآية الاخرى إشارة إجمالية إلى نعم المتّقين في الجنّة فتقول :( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

والتعبير بـ «هنيئا» هو إشارة إلى أنّ أطعمة الجنّة وشرابها السائغة غير المنغّصة ، فهي ليست كأطعمة الدنيا وشرابها التي تجرّ الإنسان إلى الوبال عند

__________________

(١) كلمة «فاكهين» مشتقّة من فكه على وزن نظر ـ وفكاهة على وزن شباهة ، ومعناها كون الإنسان مسرورا ، وجعل الآخرين مسرورين بالكلام العذب ، ويقول الراغب في مفرداته : الفاكهة معناها كلّ نوع من الثمار. والفكاهة أحاديث أهل الأنس وقد احتمل بعضهم أنّ الآية : فاكهين بما أتاهم ربّهم إشارة إلى تناول أنواع الفواكه وهذا المعنى يبدو بعيدا

١٦٥

الإفراط أو التفريط بها إضافة إلى كلّ ذلك لا يحصل عليها بمشقّة ، ولا يخاف من انتهائها ، ولذلك فهي هنيئة!(١) .

ومن المعلوم أنّ أطعمة الجنّة هنيئة بذاتها ، ولكنّ قول الملائكة لأهل الجنّة «هنيئا» هذا القول له لطفه وعذوبته الخاصّة.

والنعمة الاخرى التي يتمتّع بها أهل الجنّة هي كونهم :( مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ) .

فهم يلتذّون بالاستئناس إلى أصحابهم والمؤمنين الآخرين ، وهذه لذّة معنوية فوق أيّة لذّة اخرى!.

و «سرر» جمع سرير ، وأصل المادّة هو «السرور» وتطلق السرر على الكراسي المهيأة لمجالس السرور ليتّكأ عليها.

و «مصفوفة» من مادّة صف ، ومعناها أنّ هذه السرر مرتبة واحدا إلى جنب الآخر ويتشكّل منه مجلس عظيم للأنس.

ونقرأ في آيات متعدّدة من القرآن أنّ أهل الجنّة يجلسون على سرر متقابلين. [الحجر الآية ٤٧ والصافات الآية ٤٤].

وهذا التعبير لا ينافي ما ورد في هذه الآية محلّ البحث ، لأنّ مجالس الانس والسرور ترتّب الأسّرة فيها على شكل مستدير ومصفوفة جنبا إلى جنب ، فجلّاسها على سرر مصفوفة متقابلون!.

والتعبير بـ «متكئين» إشارة إلى منتهى الهدوء ، لأنّ الإنسان عند الهدوء يتكئ عادة ، والذين هم في قلق وحزن لا يرون كذلك!.

ثمّ يضيف القرآن بأنّا زوجناهم من نساء بيض جميلات ذوات أعين واسعة( وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) (٢) .

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : الهنيء كلّ ما لا يلحق فيه المشقّة ولا يعقبه وخامة

(٢) «الحور» : جمع (حوراء) وأحور ، فهو جمع للمذكّر والمؤنث سواء ، ويطلق على من حدقة عينه سوداء وبياضها شفّاف أو

١٦٦

هذه بعض من نعم أهل الجنّة المادية والمعنوية ، إلّا أنّهم لا يكتفون بهذه النعم فحسب ، وإنّما تضاف إليها نعم ومواهب معنوية ومادية أخر!( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) !.

وهذه نعمة بنفسها أيضا أن يرى الإنسان ذريّته في الجنّة ويلتذّ برؤيتهم دون أن ينقص من عمله شيء أبدا.

ويفهم من تعبير الآية أنّ المراد من الذرية هم الأبناء البالغون الذين يسيرون في خطّ الآباء المؤمنين ويتّبعون منهجهم.

فمثل هؤلاء الأبناء وهذه الذريّة إذا كان في عملهم نقص وتقصير فإنّ الله سبحانه يتجاوز عنهم لأجل آبائهم الصالحين ، ويرتفع مقامهم عندئذ فيبلغون درجة آبائهم ، وهذه المثوبة موهبة للآباء والأبناء(١) !.

إلّا أنّ جماعة من المفسّرين يعتقدون أنّ «الذريّة» هنا تشمل الأبناء الكبار والصغار جميعا غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية ، لأنّ الاتّباع بإيمان دليل على وصولهم مرحلة البلوغ أو مقاربتهم لها.

إلّا أن يقال أنّ الأطفال يصلون في يوم القيامة مرحلة البلوغ ويمتحنون فمتى نجحوا في الامتحان التحقوا بالآباء ، كما جاء هذا المعنى في الكافي إذ ورد فيه أنّه سئل الإمام عن أطفال المؤمنين فقالعليه‌السلام : «إذا كان يوم القيامة جمعهم الله ويشعل نارا فيأمرهم أن يلقوا أنفسهم في النار فمن ألقى نفسه سلم وكان سعيدا وجعل الله النار عليه بردا وسلاما ومن امتنع حرم من لطف الله»(٢) .

__________________

هو كناية عن الجمال ، لأنّ الجمال يتجلّى في العينين قبل كلّ شيء ، والعين جمع لأعين وعيناه معناه العين الواسعة ، وهكذا فإنّ الحور العين مفهوما واسع يشمل الأزواج جميعا الذكور والإناث من أهل الجنّة فالذكور للإناث وبالعكس.

(١) الظاهر أنّ جملة والذين آمنوا جملة مستقلّة والواو للاستئناف ، وقد اختبار جماعة من المفسّرين هذا المعنى «كالعلّامة الطباطبائي والمراغي وسيّد قطب» إلّا أنّ العجب أن يعدّ الزمخشري هذه الجملة معطوفة على وزوجناهم بحور عين مع أنّه لا يتناسب هذا المعنى ومفهوم النصّ ولا ينسجم مع فصاحة القرآن وبلاغته.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٣٩ بتصرّف وتلخيص.

١٦٧

إلّا أنّ ، هذا الحديث إضافة إلى ضعف سنده يواجه إشكالات ومؤخذات في المتن أيضا وليس هنا مجال لبيانها وشرحها.

وبالطبع فإنّه لا مانع أن يلحق الأطفال بالآباء ويكونوا معهم في الجنّة إلّا أنّ الكلام هو هل الآية الآنفة ناظرة إلى هذا المطلب أم لا؟ وقد قلنا إنّ التعبير بـ( اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) ظاهره أنّ المقصود هو الكبار.

وعلى كلّ حال ـ وحيث أنّ ارتقاء الأبناء إلى درجة الآباء يمكن أن يوجد هذا التوهّم أنّه ينقص من أعمال الآباء ويعطى للأبناء فإنّ الآية تعقّب بالقول :( وَما أَلَتْناهُمْ ) (١) ( مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) .

وينقل ابن عبّاس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا دخل الرجل الجنّة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له إنّهم لم يبلغوا درجتك وعملك. فيقول : ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بالحاقهم به»(٢) .

ممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ القرآن يضيف في نهاية الآية :( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) .

فلا ينبغي التعجّب من عدم إنقاص أعمال المتّقين ، لأنّ هذه الأعمال مع الإنسان حيثما كان ، وإذا أراد الله أن يلحق أبناء المتّقين بهم تفضّلا منه ورحمة ، فلا يعني ذلك أنّه سينقص من ثواب أعمالهم أي شيء!

وقال بعض المفسّرين : إنّ كلمة «رهين» هنا معناها مطلق ، فكلّ إنسان مرهون بأعماله ، سواء أكانت صالحة أم طالحة ، ولا ينقص من جزاء أعماله شيء.

ولكن مع ملاحظة أنّ هذا التعبير لا يتناسب والأعمال الصالحة ، فإنّ بعض المفسّرين قالوا : إنّ «كلّ امرئ» هنا إشارة إلى أصحاب الأعمال السيّئة! وإنّ كلّ إنسان مرهون بأعماله السيّئة فهو حبيسها وأسيرها.

__________________

(١) الفعل ألتناهم مشتق من مادّة ألت على وزن ثبت : ومعناه الإنقاص.

(٢) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ٢٦.

١٦٨

ويستدلّون أحيانا بالآيتين (٣٨) و٣٩) من سورة المدثر( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) .

غير أنّ هذا التّفسير مع الالتفات إلى سياق الآيات السابقة واللاحقة ـ التي تتكلّم في شأن المتّقين وليس فيها كلام على المشركين والمجرمين ـ يبدو غير مناسب!

وقبال هذين التّفسيرين الذين يبدو كلّ منهما غير مناسب ـ من بعض الوجوه ـ هناك تفسير ثالث ينسجم مع صدر الآية والآيات السابقة والآيات اللاحقة ، وهو أنّ من معاني «الرهن» في اللغة «الملازمة» ، وإن كان معروفا أنّه الوثيقة في مقابل الدين ، إلّا أنّه يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ الرهن من معاينة الدوام والملازمة(١) .

بل هناك من يصرّح بأنّ المعنى الأصلي للرهن هو الدوام والثبوت ، ويعدّ الرهن بمعنى الوثيقة من اصطلاحات الفقهاء ، لذلك فإنّه حين يقال «نعمة راهنة» فمعناها أنّها ثابتة ومستقرّة(٢) .

ويقول أمير المؤمنين في شأن الأمم السالفة : «ها هم رهائن القبور ومضامين اللحود»(٣) .

فيكون معنى( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) أنّ أعمال كلّ إنسان ملازمة له ولا تنفصل عنه أبدا ، سواء كانت صالحة أو طالحة ، ولذلك فإنّ المتّقين في الجنّة رهينو أعمالهم ، وإذا كان أبناؤهم وذريّاتهم معهم ، فلا يعني ذلك أنّ أعمالهم ينقص منها شيء أبدا.

وأمّا في شأن الآية (٣٩) من سورة المدثر التي تستثني أصحاب اليمين ممّا

__________________

(١) لسان العرب ، مادّة رهن.

(٢) مجمع البحرين ، مادّة رهن.

(٣) نهج البلاغة ، من كتاب له ٤٥.

١٦٩

سبق ، فيمكن أن تكون إشارة إلى أنّهم مشمولون بألطاف لا حدّ لها حتّى كأنّ أعمالهم لا أثر لها بالقياس إلى ألطاف الله(١)

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الجملة تؤكّد هذه الحقيقة وهي أنّ أعمال الإنسان لا تنفصل عنه أبدا ، وهي معه في جميع المراحل.

* * *

__________________

(١) هناك تفاسير أخر في أصحاب اليمين سنتناولها ذيل الآية من سورة المدثر إن شاء الله.

١٧٠

الآيات

( وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) )

التّفسير

مواهب اخرى لأهل الجنّة :

أشارت الآيات المتقدّمة إلى تسعة أقسام من مواهب أهل الجنّة ، وتشير الآيات محلّ البحث إلى خمسة أخر منها بحيث يستفاد من المجموع أنّ ما هو لازم للهدوء والطمأنينة والفرح والسرور واللذّة مهيّأ لهم في الجنّة!

فتشير الآية الاولى من الآيات محلّ البحث إلى نوعين من طعام أهل الجنّة فتقول :( وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) .

١٧١

«أمددناهم» مشتق من الإمداد ومعناه العطاء والزيادة والإدامة أي أنّ طعام الجنّة وفواكهها لا ينقص منهما شيء بتناولهما ، وهما ليسا كطعام الدنيا وفواكهها بحيث يتغيّران أو ينقصان.

والتعبير بـ( مِمَّا يَشْتَهُونَ ) يدلّ على أنّ أهل الجنّة أحرار تماما في انتخاب الأطعمة ونوعها وكميّتها وكيفيتها ، فمهما طلبوا فهو مهيئ لهم وبالطبع فإنّ طعام الجنّة غير منحصر بهذين النوعين اللحم والفاكهة ، إلّا أنّهما يمثّلان الطعام المهمّ ، وتقديم الفاكهة على اللحم إشارة إلى أفضليّتها عليه.

ثمّ تشير الآية التالية إلى ما يشربه أهل الجنّة من شراب سائغ فتقول :( يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ) !

حيث يناول أحدهم الآخر كؤوس الشراب الطاهر من الإثم والإفساد ، ويشربون شرابا سائغا عذبا لذيذا يهب النشاط خاليا من أي نوع من أنواع التخدير وفساد العقل! ولا يعقبه لغو ولا إثم ، بل كلّه لذّة وانتباه ونشاط «جسمي وروحاني».

وكلمة «يتنازعون» من مادّة التنازع ومعناه أخذ بعضهم من بعض ، وقد يأتي للمخاصمة والتجاذب ، لذلك قال بعض المفسّرين بأنّ أهل الجنّة يتجاذبون الشراب الطهور بعضهم من بعض على سبيل المزاح والسرور.

لكن كما يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ «التنازع» متى أطلق معه لفظ الكأس أو ما أشبه فمعناه أخذ الكأس من يد الآخر! ولا يعني التخاصم أو التجاذب! وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة اللغوية وهي أنّ «الكأس» هي الإناء المملوء فإذا كان خاليا لا يطلق عليه كأس(١) .

وعلى كلّ حال ، فحيث أنّ التعبير بالكأس يتداعى منه إلى الشراب المخدّر

__________________

(١) قال الراغب في مفرداته : الكأس : الإناء بما فيه من الشراب وقال في مجمع البحرين كذلك فإذا خلا الإناء سمّي «قدحا».

١٧٢

في الدنيا فإنّ الآية تضيف قائلة( لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ) ولا يصدر على أثرها عمل قبيح كما يعقب الشراب المخدّر! فشراب هذه الكأس طهور نقي يجعلهم أكثر طهارة وخلوصا.

أمّا النعمة الرابعة المذكورة لأهل الجنّة فوجود الخدم والغلمان إذ تقول الآية :( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) .

و «اللؤلؤ المكنون» هو اللؤلؤ داخل صدفه ، وهو في هذه الحالة شفّاف وجميل إلى درجة لا توصف وإن كان خارج الصدف شفّافا وجميلا أيضا ، غير أنّ الهواء الملوّث والأيدي التي تتناوله كلّ ذلك يؤثّر فيه ، فلا يبقى على حالته الاولى من الشفّافية! فالغلمان وخدمة الجنّة هم إلى درجة من الصفاء حتّى كأنّهم اللؤلؤ المكنون كما يعبّر القرآن الكريم.

وبالرغم من أنّه لا حاجة في الجنّة إلى الخدمة ، وما يطلبه الإنسان يجده أمامه ، إلّا أنّ هذا بنفسه إكرام أو احترام آخر لأهل الجنّة!

وقد ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سئل عن أهل الجنّة فقيل له : يا رسول الله إنّ الغلمان هم كاللؤلؤ المكنون فكيف حالة المؤمنين؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب(١) .

والتعبير بـ (لهم) يدلّ على أنّ كلّ مؤمن له خدمة خاصّون به ، وحيث أنّ الجنّة ليست مكانا للهم والحزن فإنّ الغلمان يلتذّون بخدمتهم المؤمنين!.

وآخر نعمة في هذه السلسلة من النعم هي نعمة الطمأنينة وراحة البال من كلّ عذاب أو عقاب إذ تقول الآية التالية :( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، الكشّاف ، روح البيان ، أبو الفتوح الرازي.

١٧٣

فمع أنّنا كنّا نعيش بين ظهراني أهلنا وكان ينبغي أن نحسّ بالأمان والطمأنينة ، إلّا أنّنا كنّا مشفقين مشفقين أن تحدق بنا الحوادث المزعجة والمكدّرة لحياتنا وأن يصيبنا عذاب الله على حين غرّة في أيّة لحظة.

مشفقين أن يسلك أبناؤنا طريق الضلال ، فيتيهوا في مفازة جرداء ويتحيّروا! مشفقين أن يفجؤنا أعداؤنا القساة ويضيّقوا علينا الميدان! ولكن الله منّ علينا برحمته الواسعة :( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ ) .

أجل : منّ الله الرحيم علينا فنجّانا من سجن الدنيا ووحشتها ، وأنعم علينا في دار القرار وجنّات النعيم.

وحين يتذكّرون ماضيهم وجزئياته ويقيسونه بما هم عليه من حالة منعّمة! يعرفون قدر نعم الله ومواهبه الكبرى أكثر ، وستكون تلك النعم ألذّ وأدعى للقلب ، لأنّ القيم تتجلّى أكثر في القياس بين نعم الدنيا ونعم الآخرة.

والكلام الذي ينقله القرآن على لسان أهل الجنّة هنا يشير إلى اعترافهم بهذه الحقيقة وهي أنّ كون الله برّا رحيما يعرفه أهل الجنّة في ذلك الزمان أكثر من أي وقت مضى فيقولون :( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) .

إلّا إنّنا نعرف هذه الصفات الآن بشكل واقعي أكثر ممّا كنّا نعرفها ، إذ شملنا برحمته العظيمة قبال هذه الأعمال التي لا تعدّ شيئا وأحسن إلينا مع كلّ تلك الذنوب الكثيرة!.

أجل إنّ عرصة القيامة ونعم الجنّة مدعاة لتجلّي صفات الله وأسمائه ، والمؤمنون يتعرّفون في عرصة القيامة على حقيقة أسماء الله تعالى وصفاته أكثر من أي زمن آخر.

حتّى الجحيم أيضا تبيّن صفاته وحكمته وعدله وقدرته!

* * *

١٧٤

ملاحظات

١ ـ كلمة «يتساءلون» مشتقّة من السؤال ، ومعناه الاستفهام ، أي يسأل بعضهم بعضا ، وهذا الفعل هنا يشير إلى أنّ أهل الجنّة يسأل بعضهم بعضا عن ماضيه ، لأنّ تذكّر هذه المسائل والنجاة من تلك الآلام والهموم والوصول إلى مثل هذه المواهب كلّ ذلك بنفسه تلذّذ أيضا وهذا يشبه تماما «الإنسان» المسافر العائد من سفر محفوف بالمخاطر إلى محيط آمن. فهو يتحدّث مع من سافر معه عن ما كان في سفره ويعرب عن سروره لسلامته.

٢ ـ كلمة «مشفقين» مشتقّة من الإشفاق ، وكما يقول الراغب في مفرداته معناه التوجّه المقرون بالخوف فحين يتعدّى هذا اللفظ «الإشفاق» بـ «من» يكون مفهوم الخوف فيها أظهر ، وإذا تعدّت بـ «في» يكون مفهوم التوجّه والعناية فيها أكثر!

والأصل أنّ هذه الكلمة مشتقّة من «الشفق» وهو النور المقرون أو الممزوج بشيء من الظلمة.

والآن ينبغي أن يعرف ممّ كانوا مشفقين في الدنيا وخائفين؟ ولأي شيء كانوا يتوجّهون؟!

وهنا احتمالات ثلاثة وقد جمعناها في تفسير الآية إذ لا منافاة بينها جميعا «الخوف من الله والتوجّه إليه لنجاتهم ـ والإشفاق من انحراف أهليهم والالتفات إلى أمر التربية ـ والخوف من الأعداء والتوجّه لحفظ أنفسهم في قبالهم» وإن كان المعنى الأوّل ـ مع ملاحظة الآيات التالية وخاصّة( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ ) ـ أقرب للنظر!

٣ ـ التعبير «في أهلنا» بإطلاقه يحمل مفهوما واسعا حيث يصدق على جميع الأبناء والأزواج والأحباب ، ويشير هذا التعبير إلى أنّ الإنسان في مثل هذا الجمع يحسّ بالأمن أكثر من أي مكان آخر ، فإذا كان فيهم مشفقا ، فمن المعلوم حاله إذا

١٧٥

كان في غيرهم!!

ويحتمل أيضا أنّ هذا التعبير يشير إلى أولئك المبتلين باسرة غير مؤمنة ، وكانوا خائفين حتّى منهم ، إلّا أنّهم في الوقت ذاته قاوموا وحافظوا على استقلالهم بالاتّكال على الله ولطفه ولم يتلوّنوا بلون الآسرة.

٤ ـ «السموم» يعني الحرارة التي تدخل في مسام البدن فتؤذي الإنسان ، ويطلق على الريح التي تتسم بهذه السمة بريح السموم كما يطلق عذاب السموم على مثل هذا العذاب الذي تدخل حرارته مسام البدن فتؤذيه.

وأمّا إطلاق كلمة «السم» على المواد القاتلة فهو لأنّها تنفذ في جميع أجزاء البدن!

٥ ـ كلمة «البرّ» في الأصل تطلق على اليابسة في قبال البحر ، ثمّ استعملت هذه الكلمة في من يعمل عملا صالحا وواسعا حسنا ، وأجدر بهذه الكلمة الذات المقدّسة ، لأنّ لطفه وإحسانه عمّ العوالم كلّها.

٦ ـ ارتباط الآيات ومضامينها

قلنا أنّ هذه الآيات والآيات المتقدّمة تذكر أربعة عشر قسما من نعم أهل الجنّة.

١ ـ الجنّات ٢ ـ النعيم ٣ ـ السرور ٤ ـ الأمان من عذاب جهنّم ٥ ـ تناول الطعام والشراب السائغ في الجنّة ٦ ـ الاتّكاء على السرر المصفوفة ٧ ـ الأزواج من الحور العين ٨ ـ الحاق الذرية التي تبعت آباءها بإيمان ٩ ـ أنواع الفواكه اللذيذة ١٠ ـ أنواع اللحم ، ١١ ـ ما تشتهي الأنفس ١٢ ـ كؤوس الشراب الطهور ١٣ ـ ويطوف عليهم غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مكنون ١٤ ـ التساؤل عن أيّام الدنيا في مجالس يغمرها الانس!.

١٧٦

وهذه النعم بعضها مادّي وبعضها معنوي ، ومع كلّ ذلك فإنّ نعم الجنّة الماديّة والمعنوية غير منحصرة بهذه النعم ، بل ما هو مذكور هنا يعدّ جانب من جوانب نعم الجنّة!

* * *

١٧٧

الآيات

( فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) )

سبب النّزول

جاء في رواية أنّ قريشا اجتمعت في دار الندوة(١) ليفكّروا في مواجهة دعوة النّبي الإسلامية التي كانت تعدّ خطرا كبيرا على منافعهم غير المشروعة.

فقال رجل من قبيلة «عبد الدار» ينبغي أن ننتظر حتّى يموت ، لأنّه شاعر على كلّ حال ، وسيمضي عنّا كما مات زهير والنابغة والأعشى «ثلاثة شعراء جاهليون» وطوي بساطهم وسيطوى بساط محمّد أيضا بموته. قالوا ذلك

__________________

(١) دار الندوة هي دار «قصي بن كلاب» جدّ العرب المعروف ، وكانوا يجتمعون فيها للمشاورة في الأمور المهمّة ، وكانت هذه الدار إلى جوار بيت الله وتفتح بابه نحو جهة الكعبة ، وكانت هذه الدار ذات مركزية في زمن قصي بن كلاب نفسه (راجع سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ١٢٤ وج ص ١٣٢).

١٧٨

وتفرّقوا فنزلت الآيات آنفة الذكر وردّت عليهم(١) .

التّفسير

أمنيات المشركين وتحدّي القرآن

كان الكلام في الآيات المتقدّمة على قسم مهمّ من نعم الجنّة وثواب المتّقين وكان الكلام في الآيات التي سبقتها عن بعض عذاب أهل النار.

لذلك فإنّ الآية الاولى من الآيات محلّ البحث تخاطب النّبي فتقول : «فتذكّر»! لأنّ قلوب عشّاق الحقّ تكون أكثر استعدادا بسماعها مثل هذا الكلام ، وقد أن الأوان أن تبيّن الكلام الحقّ لها!

وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ الهدف الأصلي من ذكر جميع تلك النعم ومجازاة الفريقين هو تهيئة الأرضية الروحية لقبول حقائق جديدة! وفي الحقيقة فإنّه ينبغي على كلّ خطيب أنّ يستفيد من هذه الطريقة لنفوذ كلامه وتأثيره في قلوب السامعين.

ثمّ يذكر القرآن الاتّهامات التي أطلقها أعداء النّبي الألدّاء المعاندون فيقول :( فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ) .

«الكاهن» يطلق على من يخبر عن الأسرار الغيبية ، وغالبا ما كان الكاهن يدّعي بأنّه له علاقة بالجنّ ويستمد الأخبار الغيبية منهم ، وكان الكهنة في الجاهلية ـ خاصّة ـ كثيرين ومن ضمنهم الكاهنان «سطيح» و «شق» ، والكهنة أفراد أذكياء ، إلّا أنّهم يستغلّون ذكاءهم فيخدعون الناس بادّعاءاتهم الفارغة.

والكهانة محرّمة في الإسلام وممنوعة ولا يعتدّ بأقوال الكهنة! لأنّ أسرار

__________________

(١) راجع تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ٣١.

١٧٩

الغيب خاصّة بعلم الله ولا يطلع غيبه إلّا من ارتضى من رسول وإمام وحسب ما تقتضيه المصلحة.

وعلى كلّ حال فإنّ قريشا ومن أجل أن تشتّت الناس وتصرّفهم عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تتّهمه ببعض التّهم ، فتارة تتّهمه بأنّه كاهن ، وتارة تتّهمه بأنّه مجنون ، والعجب أنّها لم تقف على تضاد الوصفين ، لأنّ الكهنة أناس أذكياء والمجانين على خلافهم!! ولعلّ الجمع بين الافترائين في الآية إشارة إلى هذا التناقض في الكلام من قبل القائلين.

ثمّ يذكر القرآن الاتّهام الثالث الذي يخالف الوصفين السابقين أيضا فيقول :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) .

فطالما هو شاعر فعلينا أن نصبر ، إذ أنّ لأشعاره رونقها وجاذبيتها ، فإذا حلّ به الموت وانطوت أشعاره كما ينطوي سجل عمره وأودعت في ضمير النسيان فسنكون حينئذ في راحة من أمره!!.

وكما يفهم من كتب اللغة فإنّ «المنون» مشتقّ من المنّ ، وهو على معنيين : النقصان والقطع ، وهذان المعنيان أيضا بينهما مفهوم جامع!

ثمّ استعملت كلمة «المنون» في الموت أيضا ، لأنّه ينقص العدد ويقطع المدد.

وقد يطلق «المنون» على مرور الزمان ، وذلك لأنّه يوجب الموت ويقطع العلائق وينقص النفر ، كما يطلق «المنون» على الليل والنهار أحيانا ، ولعلّ ذلك للمناسبة ذاتها(١) .

وأمّا كلمة (ريب) فأصلها الشكّ والتردّد والوهم في الشيء الذي تنكشف أستاره بعدئذ فتتضح حقيقته!

وهذا التعبير يستعمل في شأن الموت ، فيقال «ريب المنون» لأنّ وقت

__________________

(١) راجع «لسان العرب» و «المفردات للراغب» و «المنجد» و «تفسير القرطبي».

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526