الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156608 / تحميل: 6129
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وكما نلاحظ في هذه الآيات فإنّ البدو الإبهامي الذي كان يحيط الآيات المتقدّمة يحيط هذه الآيات أيضا التي تتضمّن ظلالا من المواضيع السابقة ، ومن أجل أن نفهم مفاد هذه الآيات لا بدّ من الرجوع إلى مفرداتها اللغوية أيضا.

النزلة : هي النّزول مرّة واحدة ، فالنزلة الاخرى تعني نزولا آخر ، ويستفاد من هذا التعبير أنّه حدثت نزلتان ، وهذا الموضوع يتعلّق بالنزلة الثانية(١) .

والسدرة : على وزن حرفة ـ طبقا لتفسير أغلب علماء اللغة هي شجرة وريقة وريفة الظلال والتعبير بـ( سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) إشارة إلى شجرة ووريقة ذات ظلال وريفة في أوج السماوات في منتهى ما تعرج إليه الملائكة وأرواح الشهداء وعلوم الأنبياء وأعمال الناس. وهي مستقرّة في مكان لا تستطيع الملائكة أن تتجاوزه وحين بلغ جبرئيل أيضا في معراجه مع النّبي إلى ذلك المكان توقّف عنده ولم يتجاوزه!

ورغم أنّه لم يرد توضيح عن سدرة المنتهى في القرآن الكريم ، إلّا أن الأخبار والرّوايات الإسلامية ذكرت لها أوصافا كثيرة وجميعها كاشف عن أنّ انتخاب هذا التعبير هو لبيان نوع من التشبيه ولغاتنا قاصرة عن بيان مثل هذه الحقائق الكبرى.

ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «رأيت على كلّ ورقة من أوراقها ملكا قائما يسبّح الله تعالى»(٢) .

كما جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام نقلا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «انتهيت إلى سدرة المنتهى وإذا الورقة منها تظلّ امّة من الأمم»(٣) .

__________________

(١) قال بعض أصحاب (اللغة) والمفسّرين معنى النزلة هنا «مرّة» وليس المراد منها النّزول ، فالنزلة الاخرى تعني المرّة الثانية لا غير ، لكن لا ندري لم عرفوا عن المادّة الأصلية للنزلة في حين أنّ غيرهم أشاروا إليها وفسّروها بما بيّنا آنفا [فلاحظوا بدقّة].

(٢) مجمع البيان : ذيل الآيات محلّ البحث.

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٥٥

٢٢١

وهذه التعابير تشير إلى أنّ المراد من هذه الشجرة ليس كما نألفه من الأشجار المورقة والباسقة على الأرض أبدا ، بل إشارة إلى ظلّ عظيم في جوار رحمة الله وهناك محلّ تسبيح الملائكة ومأوى الأمم الصالحة.

أمّا( جَنَّةُ الْمَأْوى ) فمعناها الجنّة التي يسكن فيها(١) وهناك أقوال في ما هو المراد من هذه الجنّة؟! فبعضهم قال بأنّها «جنّة الخلد» التي أعدّت للمتّقين المؤمنين ومكانها في السماء ، والآية (١٩) من سورة السجدة ، دليلهم على مدّعاهم( فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) فهذه الآية بقرينة ما بعدها تتحدّث عن جنّة الخلد ـ ولا شكّ أنّها تتحدّث عن جنّة الخلد.

إلّا أنّنا نجد في آية اخرى قوله :( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) ،(٢) فاحتمل بعض المفسّرين أنّ جنّة المأوى التي في السماء غير جنّة الخلد التي عرضها السماوات والأرض.

لذلك فقد فسّر بعضهم «جنّة المأوى» بأنّها مكان خاصّ في جنّة الخلد ، وهي قريبة من سدرة المنتهى ومعدّة للمخلصين!

وربّما فسّرها بعضهم بأنّها «جنّة البرزخ» التي تحلّ فيها أرواح الشهداء والمؤمنين بصورة مؤقتة.

ويبدو أنّ التّفسير الأخير أنسب التفاسير وأقربها ، وممّا يدلّ عليه بجلاء أنّنا نقرأ في كثير من الرّوايات الواردة في المعراج أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى جماعة متنعّمين في الجنّة ، مع أنّنا نعرف أنّه لن يدخل جنّة الخلد أحد قبل يوم القيامة ، لأنّ آيات القرآن تشير بوضوح أنّ المتّقين يدخلون الجنان بعد الحساب [في يوم القيامة] لا بعد الموت مباشرة وأنّ أرواح الشهداء أيضا في جنّة برزخية لأنّهم أيضا

__________________

(١) المأوى في الأصل معناه الانضمام ، وحيث أنّ سكون الأفراد في محلّ ما يسبّب انضمام بعضهم لبعض فقد استعملت هذه الكلمة «المأوى» على محلّ السكن مطلقا.

(٢) آل عمران ، الآية ١٣٣.

٢٢٢

لا يدخلون جنّة الخلد قبل يوم القيامة.

والآية :( ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ) إشارة إلى أنّ بصر النبي ، وأنّ عينيه الكريمتين لم تميلا يمنة ولا يسرة ولم تجاوزا حدّهما ، وما رآه النّبي بعينيه هو عين الواقع ، لأنّ «زاغ» من مادّة زيغ معناه الانحراف يمينا أو شمالا ، و «طغى» من الطغيان ، معناه التجاوز عن الحدّ ، وبتعبير آخر إنّ الإنسان حين يرى شيئا فيخطئ رؤيته ولا يلتفت إليه بدقّة فإمّا أنّه يلتفت يمنة ويسرة أو إلى ما ورائه(١) .

والآن وحيث فرغنا من تفسير مفردات الآي نعود إلى التّفسير العامّ للآيات.

نعود مرّة اخرى إلى النظريتين في تفسير الآية.

فقال جماعة من المفسّرين بأنّ الآيات ناظرة إلى مشاهدة النّبي للمرّة الثانية جبرئيل في صورته الحقيقيّة عند نزوله من المعراج عند سدرة المنتهى ولم يزغ بصره في رؤية الملك ولم يخطئ أبدا.

والنّبي رأى في هذه الحال بعضا من آيات الله الكبرى ، والمقصود بها هي رؤية جبرئيل في صورته الواقعية ، أو بعض آيات السماء في عظمتها وعجائبها ، أو كلتيهما.

إلّا أنّ الإشكالات الواردة على التّفسير السابق ما تزال باقية هنا ، بل تضاف إلى تلك الإشكالات إشكالات أخر ومنها :

إنّ التعبير بـ( نَزْلَةً أُخْرى ) حسب هذا التّفسير ليس فيه مفهوم واضح ، لكن بحسب التّفسير الثاني يكون المعنى إنّ النّبي رأى الله في شهود باطني عند معراجه في السماء ، وبتعبير آخر نزل الله مرّة اخرى على قلب النّبي وتحقّق الشهود الكامل في (المنتهى إليه) القريب إلى الله من عباده عند سدرة المنتهى حيث جنّة المأوى والسدرة تغطّيها حجب من أنوار الله.

__________________

(١) جاء في تفسير الميزان أنّ الزيغ هو الخطأ في مشاهدة كيفية الشيء وأنّ الطغيان في البصر هو الخطأ في أصل الرؤية إلّا أنّه لا دليل واضح على هذا التفاوت بل ما ورد في اللغة هو ما بيّناه في المتن.

٢٢٣

ورؤية قلب النّبي في هذا الشهود لم تكن بغير الحقّ أبدا ، ولم ير سواه ، ولقد رأى من دلائل عظمة الله في الآفاق والأنفس أيضا وشاهدها بعينيه.

ومسألة الشهود الباطني كما أشرنا إليها من قبل هي نوع من الإدراك أو الرؤية التي لا تشبه الإدراكات العقلية ولا الإدراكات الحسيّة التي يدركها الإنسان بواسطة الحواس الظاهرة ، ولعلّه يشبه من بعض الجهات بعلم الإنسان بوجود نفسه وأفكاره وتصوّراته.

توضيح ذلك انّنا نوقن بوجود أنفسنا وندرك أفكارنا ونعرف إرادتنا وميولنا النفسيّة ، إلّا أنّ مثل هذه المعرفة لم تحصل لا عن طريق الاستدلال ولا عن طريق المشاهدة الظاهرية بل هي نوع من الشهود الباطني لنا ، وعن هذا الطريق وقفنا على وجودنا وروحياتنا.

ولذلك فإنّ العلم الحاصل عن الشهود الباطني لا يقع فيه الخطأ ، لأنّه لم يحصل عن طريق الاستدلال الذي قد يقع الخطأ في مقدّماته ، ولا عن طريق الحسّ الذي قد يقع الخطأ فيه بواسطة الحواس.

صحيح أنّنا لا نستطيع أن نكشف حقيقة الشهود الذي حصل للنبي ليلة المعراج في رؤيته اللهعزوجل إلّا أنّ المثال الذي ذكرناه مناسب للتقريب والرّوايات الإسلامية بدورها خير معين لنا في هذا الموضوع.

* * *

بحوث

١ ـ المعراج حقيقة مقطوع بها

لا خلاف بين علماء الإسلام في أصل معراج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالآيات تشهد على ذلك سواء في هذه السورة محل البحث أو في بداية سورة الإسراء ، وكذلك الرّوايات المتواترة.

٢٢٤

غاية ما في الأمر أنّ بعض المفسّرين ولأحكامهم المسبّقة لم يستطيعوا أن يتقبّلوا صعود النّبي بجسده وروحه إلى السماء ، ففسّروه بالمعراج الروحاني وما يشبه حالة الرؤيا والمنام!! مع أنّ هذا الصعود أو المعراج الجسماني للنبي لا إشكال فيه عقلا ولا من ناحية العلوم المعاصرة ، وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في تفسير سورة الإسراء بشكل مبسّط!.

فبناء على هذا لا داعي للإعراض عن ظاهر الآيات وصريح الرّوايات لمجرّد الاستبعاد

ثمّ بعد هذا كلّه فالتعابير في الآيات هذه تشير إلى أنّ جماعة جادلوا في هذه المسألة ، والتاريخ يقول أيضا إنّ مسألة المعراج أثارت نقاشا حادّا بين المخالفين!

فلو أنّ النّبي كان يدّعي المعراج الروحاني وما يشبه الرؤيا لم يكن لهذا النقاش محلّ من الإعراب.

٢ ـ ما هو الهدف من المعراج؟

الهدف من المعراج هو بلوغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرحلة الشهود الباطني من جهة ، ورؤية عظمة الله في السماوات بالبصر الظاهري من جهة اخرى والتي أشارت إليه آخر آية من الآيات محلّ البحث :( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) .

وفي الآية الاولى من سورة الإسراء :( لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) والاطلاع على مسائل مهمّة ـ كثيرة ـ كأحوال الملائكة وأهل الجنّة وأهل النار وأرواح الأنبياء والتي كانت مصدر إلهام للنبي طوال عمره الشريف في تعليم وتربية الناس.

٣ ـ المعراج والجنّة

يستفاد من الآيات ـ محلّ البحث ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بالجنّة ليلة المعراج ودخلها ، وسواء أكانت هذه الجنّة هي جنّة الخلد كما قال بها جماعة من المفسّرين أو جنّة البرزخ كما اخترناه ، فإنّ النّبي على أيّة حال ـ رأى مسائل مهمّة من

٢٢٥

مستقبل الناس في هذه الجنّة ، وقد جاء بيان ذلك في الرّوايات الإسلامية ، وسنشير إلى قسم منها.

٤ ـ المعراج في الرّوايات الإسلامية :

من جملة المسائل المهمّة في قضيّة المعراج والتي كان لها دور مهمّ في إثارة التشكيكات من قبل البعض في أصل قضيّة المعراج هو وجود روايات ضعيفة أو مدسوسة ضمن رواياته حتّى أنّ العلّامة الطبرسي قال : يمكن تقسيم روايات المعراج إلى أربعة أقسام :

أ ـ الرّوايات القطعيّة لتواترها «كأصل مسألة المعراج».

ب ـ الرّوايات المنقولة من مصادر معتبرة ، وهي مشتملة على مسائل لا مانع عقلا من قبولها كالرّوايات الحاكية عن مشاهدة النّبي لكثير من آيات عظمة الله في السماوات!

ج ـ الرّوايات التي لا يتنافى ظاهرها مع ما لدينا من الأصول المستقاة من آيات القرآن والرّوايات الإسلامية المقطوع بها إلّا أنّها مع ذلك تقبل التوجيه ، كالرّوايات القائلة بأنّ النّبي رأى جماعة من أهل الجنّة ينعمون في الجنّة وجماعة من أهل النار يعذّبون فيها «فينبغي أن تؤول بأنّ المراد من الجنّة والنار هو جنّة البرزخ وناره» حيث أنّ أرواح المؤمنين والشهداء في الاولى متنعّمة وأرواح الكفّار والمشركين في الثانية «معذّبة»(١) .

د ـ الرّوايات المشتملة على مطالب باطلة وعارية عن الصحّة ومحتواها يدلّ على أنّها مدسوسة أو مجعولة ، كالرّوايات القائلة بأنّ النّبي رأى الله بعينيه وبصره

__________________

(١) جاء في آيات القرآن «أنّ المتّقين يساقون إلى الجنّة زمرا وأنّ الكفّار يساقون إلى النار زمرا (الزّمر الآيات ٧١ ـ ٧٣) وجاء هذا المعنى في سورة اخرى كالآية (٧٠) من الزخرف ، والآيتين (٨٥) و٨٦) من سورة مريم ، والآية (٤٧) من سورة الدخان.

٢٢٦

الظاهري أو تكلّم معه أو شاهده ، فهذه الرّوايات وأمثالها مجعولة قطعا ، إلّا أن تفسّر بالشهود الباطني.

بعد ملاحظة هذا التقسيم نلقي الضوء على روايات المعراج ، حيث يستفاد من مجموع هذه الرّوايات أنّ النّبي واصل معراجه إلى السماء خلال مراحل عديدة.

١ ـ المرحلة الاولى : وهي ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وقد أشير إليها في الآية الاولى من سورة الإسراء :( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) .

وتقول بعض الرّوايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل في المدينة أثناء إسرائه مع جبرئيل فصلّى بها(١) .

كما صلّى أيضا في المسجد الأقصى مع أرواح الأنبياء العظام كإبراهيم وموسى وعيسىعليهم‌السلام ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمامهم في الصلاة ، ثمّ بدأ المعراج إلى السماوات السبع(٢) فجابهنّ سماء بعد سماء وواجه في كلّ سماء مشاهد جديدة ، فالتقى الملائكة والنبيين في بعضها ، والجنّة وأهلها في بعضها ، والنار وأهلها في بعضها ، وحمل من كلّ في خاطره وروحه ذكريات قيّمة ، وشاهد في عجائب كلّ واحدة منها رمز من رموز عالم الوجود وسرّ من أسراره ، وبعد عودته ذكرها لامّته صراحة أحيانا وبالكناية أو المجاز أحيانا ، وكان يستلهم منها لتربية أمّته وتعليمه بكثرة.

وهذا الأمر يدلّ على أنّ واحدا من أهداف هذا السفر السماوي الاستفادة من النتائج العرفانيّة والتربوية لهذه المشاهدات ، والتعبير القرآني الغزير( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) في هذه الآيات محلّ البحث يمكن أن يكون إشارة إجمالية

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٣١٩.

(٢) طبقا لبعض آيات القرآن كالآية السادسة من سورة الصافات :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) ما نراه من العالم العلوي من النجوم والمجرّات هو في السماء الاولى فحسب أمّا السماوات الستّ الاخرى فهي فوقها

٢٢٧

لجميع هذه الأمور.

وكما ذكرنا آنفا فإنّ الجنّة والنار اللتين رآهما النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معراجه والأشخاص الذين كانوا منعّمين أو معذّبين فيهما لم تكونا جنّة القيامة ونارها ، بل هما جنّة البرزخ وناره ، لأنّه كما أشرنا سابقا طبقا لآيات القرآن فإنّ الجنّة والنار تكونان بعد يوم القيامة والفراغ من الحساب معدّتين للمتّقين والمسيئين.

وأخيرا وصل النّبي إلى السماء السابعة ورأى حجبا من النور هناك حيث «سدرة المنتهى» و «جنّة المأوى» وبلغ النّبي هناك وفي العالم النوراني أوج الشهود الباطني والقرب إلى الله قاب قوسين أو أدنى وخاطبه الله هناك وأوحى إليه تعاليم مهمّة وأحاديث كثيرة نراها اليوم في الرّوايات الإسلامية تحت عنوان الأحاديث القدسيّة ، وسنعرض قسما منها بإذن الله في الفصل المقبل.

الطريف هنا هو أنّ الرّوايات الكثيرة تصرّح بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى أخاه وابن عمّه عليا في مراحل مختلفة من معراجه بصورة مفاجئة ، وما نجده من التعابير في هذه الرّوايات كاشف عن مدى مقام علي وفضله بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعلى الرغم من كثرة الرّوايات في شأن المعراج فهناك تعابير مغلقة ذات أسرارا ليس من الهيّن كشف محتواها وهي كما يصطلح عليها من الرّوايات المتشابهة أي الرّوايات التي ينبغي إحالة تفسيرها على أهل بيت العصمة!

(لمزيد الاطلاع تراجع الرّوايات في هذا الصدد بالجزء ١٨ من بحار الأنوار من الصفحة ٢٨٢ إلى ٤١٠).

وقد ذكرت كتب أهل السنّة روايات المعراج بشكل موسّع بحيث نقل ثلاثون راوية من رواتهم حديث المعراج(١) .

وهنا ينقدح السؤال التالي وهو : كيف تمّ كلّ هذا السفر الطويل وهذه

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٢٩ (ذيل الآيات الاولى من سورة الإسراء بحث روائي).

٢٢٨

المشاهدات العجيبة والمتنوّعة والأحداث الطويلة في ليلة واحدة ، بل في جزء منها؟!

ولكن يتّضح الجواب على السؤال بملاحظة أنّ سفر المعراج لم يكن سفرا بسيطا كالمعتاد حتى يقاس بالمعابير المعتادة! فلا السفر كان طبيعيّا ولا وسيلته وركوبه ولا مشاهده ولا أحاديثه ولا المعايير الواردة فيها كمعاييرنا المحدودة والصغيرة على كرتنا الأرضية فكلّ شيء كان في المعراج خارقا للعادة! وكان وفق مقاييس خارجة عن زماننا ومكاننا.

فبناء على هذا لا مجال للعجب أن تقع كلّ هذه الأمور بمقياس ليلة أو أقل من ليلة من مقاييس ـ الكرة الأرضية ـ الزمانية [فلاحظوا بدقّة].

٥ ـ جانب من إيحاءات الله وكلماته لرسوله في ليلة المعراج :

وردت في كتب الأحاديث رواية عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الشأن «المعراج» وهي مفصّلة وطويلة نذكر جانبا منها وفيها مطالب تكشف عن أحداث وأحاديث تلك الليلة التأريخية وكيف إنّها بلغت أوج السمو والرفعة.

ونقرأ في بداية الحديث أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل الله سبحانه : يا ربّ أيّ الأعمال أفضل؟!

فقال تعالى : «ليس شيء عندي أفضل من التوكّل عليّ والرضا بما قسمت ، يا محمّد! وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ ووجبت محبّتي للمتعاطفين فيّ ووجبت محبّتي للمتواصلين فيّ ، ووجبت محبّتي للمتوكّلين عليّ وليس لمحبّتي علم ولا غاية ولا نهاية.

وهكذا تبدأ الأحاديث من المحبّة ، المحبّة الشاملة والواسعة ، وأساسا فإنّ عالم الوجود يدور حول هذا المحور!

٢٢٩

وجاء في جانب آخر : «يا أحمد(١) فاحذر أن تكون مثل الصبي إذا نظر إلى الأخضر والأصفر أحبّه وإذا اعطي شيء من الحلو والحامض اغترّ به ، فقال : يا ربّ دلّني على عمل أتقرّب به إليك قال : اجعل ليلك نهارا ونهارك ليلا قال : ربّ وكيف ذلك؟ قال : اجعل نومك صلاة وطعامك الجوع.

كما جاء في مكان آخر منه : يا أحمد محبّتي محبّة للفقراء فادن الفقراء وقرّب مجلسهم منك ادنك وبعد الأغنياء وبعد مجلسهم منك فإنّ الفقراء أحبّائي.

وجاء في موضع آخر أيضا : يا أحمد أبغض الدنيا وأهلها وأحبّ الآخرة وأهلها قال يا ربّ ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة؟ قال : أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه قليل الرضا لا يعتذر إلى من أساء إليه ولا يقبل معذرة من اعتذر إليه ، كسلان عند الطاعة ، شجاع عند المعصية ، أمله بعيد وأجله قريب ، لا يحاسب نفسه قليل المنفعة كثير الكلام ، قليل الخوف ، كثير الفرح عند الطعام وإنّ أهل الدنيا لا يشركون عند الرخاء ولا يصبرون عند البلاء ، كثير الناس عندهم قليل يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون ، ويدّعون بما ليس فيهم ، ويتكلّمون بما يتمنّون ويذكرون مساوئ الناس ويخفون حسناتهم.

قال : يا ربّ ، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا ، قال : يا أحمد إنّ عيب أهل الدنيا كثير فيهم ، الجهل والحمق ، لا يتواصفون لمن يتعلّمون منه ، وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء.

ثمّ يتناول الحديث أهل الجنّة فيقول :

يا أحمد إنّ أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم كثير حياؤهم قليل حمقهم ،

__________________

(١) ممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ اسم النّبي في كلّ مكان من هذا الحديث ورد بلفظ أحمد إلّا في بدايته ، أجل فاسم النّبي في الأرض محمّد وفي السماء أحمد ولم لا يكون كذلك مع أنّ أحمد بالإضافة إلى أنّه اسم تفضيل مبين للحمد والتكريم أكثر ، وقد كان على النّبي في تلك الليلة التاريخية أن يتجاوز من «محمّد» إلى «أحمد» لأنّ الفاصلة بين أحمد واحد غير بعيدة.

٢٣٠

كثير نفعهم ، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب كلامهم موزون ، محاسبين لأنفسهم ، متعبين لها ، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم أعينهم باكية وقلوبهم ذاكرة ، إذا كتب الناس في الغافلين كتبوا من الذاكرين ، في أوّل النعمة يحمدون وفي آخرها يشكرون دعاؤهم عند الله مرفوع ، وكلامهم مسموع ، تفرح الملائكة بهم ، الناس (الغفلة) عندهم موتى والله عندهم حي قيّوم «وهمّتهم عالية فلا ينظرون إلّا إليه» قد صارت الدنيا والآخرة عندهم واحدة يموت الناس مرّة ويموت أحدهم في اليوم سبعين مرّة «ويحيا حياة جديدة» من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم.

وإن قاموا بين يدي كأنّهم البنيان المرصوص لا أرى في قلبهم شغلا لمخلوق فوعزّتي وجلالي لأحيينّهم حياة طيبة إذا فارقت أرواحهم أبدانهم ولا أسلّط عليهم ملك الموت ولا يلي قبض روحهم غيري ولأفتحنّ لروحهم أبواب السماء كلّها ولأرفعنّ الحجب كلّها دوني ، ولآمرنّ الجنان فلتزيننّ.

يا أحمد إنّ العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال فإذا طيّبت مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي.

وجاء في مكان آخر منه : يا أحمد هل تدري أيّ عيش أهنا وأيّ أبقى؟ قال اللهمّ لا ، قال : أمّا العيش الهنيء فهو الذي لا يغترّ صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي ولا يجهل حقّي ، يطلب رضاي في ليله ونهاره.

وأمّا الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه وتعظم الآخرة عنده ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي ويعظّم حقّ عظمتي ويذكر علمي به ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيّئة أو معصية وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره ويبغض الشيطان ووساوسه ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطانا فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّا حتّى أجعل قلبه لي وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت على أهل محبّتي من خلقي وافتح عين قلبه

٢٣١

وسمعه حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي «وحقائق الغيب».

وأخيرا فإنّ هذا الحديث القدسي الكريم يختتم بهذه العبارات المؤثرة! يا أحمد لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي من الطعام مثل الملائكة ، ولبس لباس العاري ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدنيا ذرّة أو سعتها أو رئاستها أو حليّها أو زينتها لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي وعليك سلامي ورحمتي والحمد لله ربّ العالمين»(١) .

هذه الأحاديث القدسيّة «من ربّ العرش» التي تحمل روح الإنسان إلى أوج السماوات معها وتعرج به إلى حالة الشهود هي قسم من الحديث القدسي المشار إليه آنفا.

ونضيف إلى ذلك أنّنا على يقين أنّه كان بين النّبي ومحبوبه في تلك الليلة الكريمة أسرار وإشارات وكلمات اخرى لا تستطيع الآذان الإصغاء إليها ولا الأفكار الساذجة استيعابها ولذلك بقيت في نفس النّبي طيّ الكتمان فلم يبح بها لأحد إلّا لخلصائه المختصّين به.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٧ ، ص ٢١ ـ ٣٠ بشيء من التلخيص.

٢٣٢

الآيات

( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) )

التّفسير

هذه الأصنام وليدة أهوائكم :

بعد بيان الأبحاث المتعلّقة بالتوحيد والوحي والمعراج وآيات عظمة الواحد الأحد في السماء ، يتناول القرآن أفكار المشركين ، فينقضها ويتحدّث عن معتقداتهم الخرافية فيقول : بعد أن أدركتم عظمة الله وآياته في خلقه فهل أنّ أصنامكم مثل اللات والعزّى والصنم الثالث وهو «مناة» بإمكانها أن تنفعكم أو تضرّكم :( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) (١) ؟!

__________________

(١) سنتحدّث عن الأصنام الثلاثة المشار إليها في الآيات محلّ البحث بإذن الله ، لكن ممّا ينبغي الالتفات إليه هو التعبير

٢٣٣

مع أنّكم تزعمون أنّ قيمة البنت دون قيمة الولد ولو بلغكم أنّ أزواجكم أنجبن بنات حزنتم واسودّت وجوهكم!!

( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) (١) فهذه قسمة غير عادلة بينكم وبين الله تعالى فعلام تجعلون نصيب الله دون نصيبكم؟!

وهكذا يتناول القرآن أفكارهم الخرافية مستهزئا بها! ويقول لهم : إنّكم ترون البنت عارا وذلّة وتئدونها وهي حيّة في القبر ، وفي الوقت ذاته تزعمون بأنّ الملائكة بنات الله ، ولا تعبدون الملائكة من دون الله فحسب بل تصنعون لها التماثيل وتجعلون لها تلك القدسيّة! وتسجدون لها وتلتجئون إليها لحلّ مشاكلكم وتطلبون حوائجكم منها ، وذلك مثار للسخرية والاستهزاء حقّا!.

ومن هنا يبدو واضحا أنّ العرب الجاهليين كانوا يعبدون بعض هذه الأصنام على الأقل على أنّها تماثيل الملائكة ، الملائكة التي يسمّون كلّا منها بربّ النوع ومدير الوجود ومدبّره ، وكانوا يرون أنّ الملائكة بنات الله!!

فحين تقرن هذه الخرافات إلى خرافة اخرى وهي نظرتهم عن البنت فإنّ التضادّ العجيب الواقع بين هذه الخرافات بنفسه خير شاهد على سخافة هذه المعتقدات ، وكم هو طريف أن يبطل القرآن جميع تلك الخرافات بعدّة جمل قصيرة وموجزة ويفضحها ساخرا بها.

ومن هنا يتبيّن أنّ القرآن لا يقصد إمضاء ما كان عليه العرب من التفريق بين الذكر والأنثى ، بل يريد بيان ما هو مقبول ومسلّم عندهم (وهو منطق الجدل) ، وإلّا فلا فرق في نظر الإسلام ومنطقه بين الذكر والأنثى من حيث القيمة الإنسانية ، ولا

__________________

بمناة الثالثة الاخرى فقد ذكر لهذه الآية تفاسير عديدة أغلبها عار من الصحّة ولا أساس له ولكن المناسب من هذه التفاسير أنّ أهميّة هذه الأصنام عند مشركي العرب كانت بحسب ما ذكره القرآن فالتعبير بمناة الثالثة أي ثالث الأصنام (في الأهميّة) عند العرب والتعبير بالأخرى هو لتأخّر رتبتها عندهم!

(١) ضيزى أي ناقصة وغير منصفة.

٢٣٤

الملائكة فيهم ذكر وأنثى ، ولا هم بنات الله ، وليس عند الله من ولد أساس ، فهذه افتراضات لا أساس لها إلّا أنّ هذا الردّ خير جواب لمن يعتقد بهذه الخرافات.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث يقول القرآن بضرس قاطع :( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (١) .

فلا دليل لديكم من العقل ، ولا دليل عن طريق الوحي على مدّعاكم ، وليس لديكم إلّا حفنة من الأوهام والخيالات الباطلة.

ثمّ يختتم القرآن الآية بالقول :( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) (٢) فهذه الخيالات والموهومات وليدة هوى النفس( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى )

إلّا أنّهم أغمضوا أعينهم عنه وخلّفوه وراء ظهورهم وتاهوا في هذه الأوهام والضلالات!

* * *

بحوث

١ ـ أصنام العرب الثلاثة المشهورة

كان لمشركي العرب أصنام كثيرة ، إلّا أنّ ثلاثة منها كانت ذات أهميّة خاصّة عندهم ، وهي «اللات» و «العزّى» و «مناة».

وهناك كلام بل أقوال في تسمية هذه الأصنام ومن صنعها ومكانها والجماعة التي تعبدها ، ونكتفي بما ورد في كتاب «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» هنا فحسب.

فأوّل صنم معروف اختاره العرب كان (مناة) ، حيث أنّه بعد أن نقل «عمرو بن لحي» عبادة الأصنام من الشام إلى الحجاز ، صنع هذا الصنم في منطقة قريبة من

__________________

(١) السلطان : معناه السلطة والغلبة ، ويطلق على الدليل القاطع أنّه سلطان أيضا ، لأنّه أساس الغلبة على الخصم.

(٢) «ما» في «ما تهوى الأنفس» موصولة ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، ولا فرق كبير بينهما.

٢٣٥

البحر الأحمر بين المدينة ومكّة ، وكان العرب جميعهم يحترمون هذا الصنم ويقدّمون له القرابين ، إلّا أنّ أكثر القبائل اهتماما بهذا الصنم قبيلتا الأوس والخزرج حتّى كان فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة ـ وكان النّبي متّجها من المدينة إلى مكّة ـ فأرسل أمير المؤمنين عليا فكسره.

وبعد أن صنع عرب الجاهلية صنم مناة ، عمدوا فصنعوا صنما آخر ، هو اللات من صخر ذي أربع زوايات ، وجعلوه في الطائف ، في المكان الذي توجد فيه اليوم منارة مسجد الطائف الشمالية ، وكان أغلب ثقيف في خدمة هذا الصنم ، وحين أسلمت ثقيف أرسل النّبي المغيرة ، فكسر ذلك الصنم ، والصنم الثالث الذي اختاره العرب هو العزّى وكان في محلّ قريب من ذات عرق في طريق مكّة باتّجاه العراق وكانت قريش تهتمّ بهذا الصنم كثيرا.

وكان العرب يهتّمون بهذه الأصنام الثلاثة إلى درجة أنّهم كانوا يقولون عند الطواف حول البيت : واللات والعزّي ومناة الثالثة الاخرى فإنّهم الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى(١) .

وكانوا يزعمون بأنّ هذه الأصنام بنات الله «ويظهر أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ هذه الأصنام تماثيل الملائكة التي كانوا يزعمون أنّها بنات الله!!».

العجب أنّ تسميتها مستقاة من أسماء الله غالبا غاية ما في الأمر كانت أسماؤها مؤنثة لتدلّ على اعتقادهم فاللات(٢) أصلها اللاهة ، ثمّ سقط حرف الهاء فصارت الكلمة اللات ، والعزّى مؤنث الأعز ، ومناة من منى الله الشيء أي قدّره ، ويعتقد بعضهم أنّ مناة من النوء وهو عبارة عن طلوع بعض النجوم التي تصحبها المزن وبعضهم قالوا بأنّ مناة مأخوذة من «منى» على وزن «سعى» ، ومعناه سفك

__________________

(١) بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب ، ج ٢ ، ص ٢٠٢ و٢٠٣.

(٢) كلمة «اللات» كان ينبغي أن تكتب اللاة بالتاء القصيرة ولكنّها لمّا كانت في الوقف تبدّل هاء فتصير اللاه ويوهم لفظها بالاسم الكريم الله كتبت بالصورة الآنفة اللات.

٢٣٦

الدم ، لأنّ دماء القرابين كانت تسفك(١) عندها وعلى كلّ حال فإنّ العرب كانوا يحترمون هذه الأصنام حتّى أنّهم سمّوا كثيرا من رجالهم بعبد العزّى وعبد منات وربّما سمّوا بعض قبائلهم بمثل هذه الأسماء(٢) .

٢ ـ أسماء دون مسميّات

إنّ واحدا من أقدم أسس الشرك هو تنوّع الموجودات في العالم حيث أنّ ذوي الفكر القصير والنظر الضيّق لم يستطيعوا تصديق أنّ كلّ هذه الموجودات المتنوّعة في السماء ، والأرض مخلوقة لله الأحد «لأنّهم يقيسون ذلك بأنفسهم إذ لا يتسنّى لهم التسلّط إلّا على أمر واحد أو عدّة امور» لذلك كانوا يزعمون أنّ لكلّ نوع من الموجودات ربّا يعبّر عنه «بربّ النوع» كربّ نوع البحر ، وربّ نوع الصحراء ، وربّ نوع المطر ، وربّ نوع الشمس ، وربّ الحرب ، وربّ الصلح

وهذه الآلهة المزعومة التي كانوا يسمّونها الملائكة أحيانا كانت حسب اعتقادهم تحكم هذا العالم وحيثما تقع مشكلة يلتجأ إلى ربّ نوعها وحيث أنّ أرباب الأنواع لم تكن موجودات محسوسة فقد صنعوا لها تماثيل وعبدوها!

هذه العقائد الخرافية انتقلت من اليونان إلى المناطق الاخرى حتّى وصلت إلى الحجاز ، ولكن حيث أنّ التوحيد الإبراهيمي كان سائدا لدى العرب فلم يمكنهم إنكار وجود الله ، فمزجت هذه العقائد واحدة بالأخرى ، ففي الوقت الذي يعتقدون فيه بالله اعتقدوا بالملائكة الذين هم في زعمهم بناته ، وعبدوا الأحجار التي صنعوا منها التماثيل.

فالقرآن هدم هذه الخرافات بعبارة موجزة غزيرة المعنى فقال :( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) فلم يك أي شيء صادرا

__________________

(١) الاحتمال الأوّل جاء في الكشّاف والثاني في بلوغ الإرب.

(٢) بلوغ الإرب ، ج ٢ ، ص ٢٠٢ و٢٠٣.

٢٣٧

من ربّ المطر الذي سمّيتموه أنتم ، ولا من ربّ الشمس المزعوم ، ولا البحر ، ولا الحرب ، ولا الصلح.

فكلّ شيء صادر عن الله ، وعالم الوجود كلّه طوع أمره ، واتّساق جميع هذه الموجودات المختلفة في السماء والأرض وانسجامها بعضها مع بعض دليل على وحدة الخالق ، ولو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا.

٣ ـ الدافع النفسي لعبادة الأصنام

عرفنا الأصل التاريخي لعبادة الأصنام إلّا أنّ لها دوافع ومبادئ نفسيّة وفكرية أيضا ، وقد أشير إليها في الآيات المتقدّمة ، وذلك هو اتّباع الظنّ وما تهوى الأنفس!! والخيالات والأوهام الحاصلة للجهلاء ، ومن ثمّ تنتقل إلى مقلّديهم من المتحجّرين ، وينتقل هذا التقليد من نسل إلى نسل.

وبالطبع فإنّ معبودا كالصنم يتلاءم جيّدا مع أهوائهم ، لأنّه ليس له سلطة على العباد ، ولا معاد ، ولا جنّة ، ولا نار ، ولا كتاب ، ويعطيهم الحرية الكاملة ، وإنّما يأتونه في المشاكل فحسب ، ويتصوّرون أنّه سينفعهم وأنّهم إنّما يستمدّون منه العون.

وأساسا فانّ «هوى النفس» ذاته يعدّ أكبر الأصنام وأخطرها ، وهو الأصل لظهور الأصنام الاخرى.

٤ ـ اسطورة الغرانيق مرّة اخرى :

من خلال بحثنا حول الأصنام الثلاثة التي كان العرب يهتّمون بها «أي اللات والعزّى ومناة» ويعبدونها ـ من خلال هذا البحث التاريخي وردت الإشارة إلى أنّ هذه الأصنام كانت تدعى بالغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى.

و «الغرانيق» جمع غرنوق على زنة عصفور وبهلول والغرنوق نوع من

٢٣٨

الطيور الرمادية أو السوداء ، ولذلك كان العرب أحيانا إذا ذكروا الأصنام قالوا بعد ذكرها : تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى.

وقد وردت هنا قصّة خرافية نقلتها بعض الكتب ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قرأ الآية :( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ) أضاف عليها من عنده الجملتين هاتين : تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى فكان سببا لارتياح المشركين وعدوّه انعطافا من قبل النّبي إلى عبادة الأصنام ، وحيث أنّ ختام السورة يدعو الناس للسجود فإنّ المسلمين سجدوا وسجد المشركون أيضا ، فكان هذا الخبر مدعاة لإشاعة إسلام المشركين في كلّ مكان! حتّى بلغ ذلك أسماع المهاجرين إلى الحبشة من المسلمين وسرّ جماعة منهم إلى درجة أنّهم أحسّوا بالأمان فعادوا من مهجرهم إلى مكّة(١) .

ولكن كما فصّلنا ذلك في تفسير الآية ٥٢ من سورة الحجّ فإنّ هذا الادّعاء كذب مفضوح ، وتبطله الدلائل والقرائن الكثيرة بجلاء.

فأولئك المفتعلون لهذه الكذبة لم يفكّروا أنّ القرآن في ذيل هذه الآيات محلّ البحث ينقض عبادة الأصنام بصراحة ، ويعدّها اتّباعا لما تهوى النفس وظنونها ، كما أنّه في الآيات التي تلي هذه الآيات يعنّف عبادة الأصنام بصراحة وبشدّة ، ويعدّها دليلا على عدم الإيمان والمعرفة ، ويأمر النّبي بصراحة أن يقطع علاقته بهم ويعرض عنهم.

فمع هذه الحال كيف يمكن أن يتلفّظ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين الجملتين ، أو أن يكون المشركون حمقى إلى درجة بحيث يصغون إلى هذه العبارة ولا يلتفتوا إلى الآيات بعدها التي تعنّف المشركين على عبادة الأصنام ويفرحوا ويسجدوا في آخر ما يتلى من هذه السورة مع الساجدين.

__________________

(١) نقل الطبري هذه القصّة الخرافية في تاريخه ، ج ٢ ، ص ٧٥ فما بعد.

٢٣٩

والحقيقة أنّ ناسجي هذه الاسطورة سذّج للغاية وسطحيّون ، ويمكن أن يكون عند قراءة النّبي للآية( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ) تلا الشيطان بعدها أو الإنسان المتّصف بالشيطنة الجملتين بين المشركين الحاضرين «لأنّ هاتين الجملتين كانتا بمثابة الشعار الذي يودع المشركون بهما أسماء الأصنام» فاشتبه جماعة مؤقتا بأنّهما تتمّة للآية!!

إلّا أنّه لا معنى لسجود المشركين في انتهاء السورة ، ولا لانعطاف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو عبادة الأصنام ، لأنّ جميع آيات القرآن وسيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته كلّ ذلك يكشف عن أنّه لم يظهر أيّ انعطاف نحو الأصنام في أي شكل وصورة ، ولم يقبل بأيّ اقتراح في هذا الصدد ، لأنّ الإسلام بأجمعه كان يتلخّص في التوحيد : لا إله إلّا الله!

فكيف يمكن لنبي الإسلام أن يساوم على روح محتوى الإسلام الأصيل.

«وكان لنا في هذا المجال دلائل واستدلالات ذيل الآية ٥٢ من سورة الحجّ».

* * *

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

بحث

ما يخلفه الإنسان بعد موته :

المستفاد من الرّوايات الشريفة ، بالإضافة لما ورد في الآيات المباركة أعلاه ، إنّه ثمّة أعمال وآثار يخلفها الإنسان بعد موته ، وما ينجسم من تلك الأعمال والآثار حتى يوم القيامة يبقى مرتبطا بذات الفاعل الأصلي ، فإن كانت الأعمال حيّرة فستصله حسنات تتمة العمل واستمراره ، وإن كانت شريرة فلا يجني منها سوى الهون والعذاب.

فعن الإمام الصادق ٧ ، أنّه قال : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثالث خصال : صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وسنّة هدى سنّها ، فهي تعمل بها بعد موته ، وولد صالح يستغفر له»(١) .

وفي رواية اخرى : «ست خصال يتنفع بها المؤمن بعد موته : ولد صالح يستغفر له ، مصحف يقرأ منه ، وقليب (بئر) يحفره ، وغرس يغرسه ، وصدقة ماء يجربه ، وسنة حسنة يؤخذ بها بعده»(٢) .

فيما أكّدت بعض الرّوايات على (العلم) الذي يخلّفه بعده.(٣) وقد حذّرت كثير من الرّوايات من أن يسنّ الإنسان سنّة سيئة ، لأنّ الفاعل الأوّل ستتابع عليه آثام تلك السنة إلى يوم القيامة.

وكذلك حثت وشوقت على استنان السنن الحسنة ، لينتفع الفاعل الأوّل لها بثوابها الجاري إلى يوم القيامة.

وذكر العلّامة الطبرسي حديثا في هذا المضمار إنّ سائلا قام على عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأل ، فسكت القوم ، ثمّ أنّ رجلا أعطاه ، فأعطاه القوم فقال

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٢٥٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) منية المريد ، ص ١١.

٤٨١

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استن خيرا فاستن به فله أجره ، ومثل أجور من اتبعه ، غير منتقص من أجورهم ، ومن استن شرّا فاستن به فعليه وزره ، مثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم» فتلا حذيفة بن اليمان قوله تعالى :( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) (١) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال : «فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور وبعثرت القبور ، هناك تبلو كلّ نفس ما أسلفت ، وردّوا إلى الله مولاهم الحق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون»(٢) .

فتعكس هذه الآيات والرّوايات أبعاد مسئولية الإنسان أمام أعماله ، وتبيّن عظم المسؤولية ، فأثار فعل الخيرات أو المنكرات يتصل إليه وإن امتدت الآلاف السنين بعد موته!(٣) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٦.

(٣) لمزيد من التفصيل. راجع تفسير الآية (٢٥) من سورة النحل.

٤٨٢

الآيات

( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) )

التّفسير

لا داعي للغرور :

تنتقل الآيات أعلاه من المعاد إلى الإنسان ، ببيان إيقاظي عسى أن ينتبه الإنسان من غفلة ما في عنقه من حقّ وما على عاتقه من مسئوليات جسام أمام خالقه سبحانه وتعالى ، فتخاطب الآية الاولى الإنسان باستفهام توبيخي محاط بالحنان والرأفة الرّبانية :( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) .

فالقرآن يذكّر الإنسان بإنسانيته ، وما لها من إكرام وأفضلية ، ثمّ جعله أمام «ربّ» «كريم» ، فالرّب وبمقتضى ربوبيته هو الحامي والمدبّر لأمر تربية وتكامل الإنسان ، وبمقتضى كرمه أجلس الإنسان على مائدة رحمته ، ورعاه بما أنعم عليه ماديا ومعنويا ودون أن يطلب منه أيّ مقابل ، بل ويعفو عن كثير من ذنوب

٤٨٣

الإنسان لفضل كرمه

فهل من الحكمة أن يتمرد هذا الموجود المكرّم على هكذا ربّ رحيم كريم؟!

وهل يحقّ لعاقل أن يغفل عن ذكر ربّه ولو للحظة واحدة ، ولا يطيع أمر مولاه الذي يتضمن سعادته وفوزه؟!

ولهذا فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند تلاوته للآية المباركة أنّه قال : «غرّه جهله»(١) .

ومن هنا ، يتقرّب لنا هدف الآية ، فهي تدعو الإنسان لكسر حاجز غروره وتجاوز حالة الغفلة ، وذلك بالاستناد على مسألة الربوبية والكرم الإلهي ، وليس كما يحلو للبعض من أن يصور هدف الآية ، على أنّه تلقين الإنسان عذره ، فيقول : غرّني كرمك! أو كما قيل للفضيل بن عياض : «لو أقامك الله ويوم القيامة بين يديه ، فقال :( ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ، ماذا كنت تقول له؟ قال : أقول : غرّني ستورك المرخاة»(٢) .

فهذا ما يخالف تماما ، لأنّها في صدد كسر حالة غرور الإنسان وإيقاظه من غفلته ، وليست في صدد إضافة حجاب آخر على حجب الغفلة!

فلا ينبغي لنا أن نذهب بالآية بما يحلو لنا ونوجهها في خلاف ما تهدف إليه! «غرّك» : من (الغرور) ، و «الغرّة» : غفلة في اليقظة ، وبعبارة اخرى : غفلة في وقت لا ينبغي فيه الغفلة ، ولما كانت الغفلة أحيانا مصدرا للاستعلاء والطغيان فقد استعملت (الغرور) بهذه المعاني.

والغرور) : كلّ ما يغرّ الإنسان من مال ، جاه ، شهوة وشيطان ، وقد فسّر الغرور بالشيطان ، لأنّه أخبث من يقوم بهذا الدور الدنيء في الدّنيا.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩ ؛ والدر المنثور ، وروح المعاني ، وروح البيان ، والقرطبي ، عند تفسير الآية المبحوثة.

(٢) المصدر السابق.

٤٨٤

وذكر في تفسير «الكريم» آراء كثيرة ، منها : إنّه المنعم الذي تكون جميع أفعاله إحسان ، وهو لا ينتظر منها أيّ نفع أو دفع ضرر.

ومنها : هو الذي يعطي ما يلزمه وما لا يلزمه.

ومنها : هو من يعطي الكثير بالقليل.

ولو جمعنا كلّ ما ذكر وبأعلى صورة لدخل في كرم اللهعزوجل ، فيكفي كرم الله جلالا أنّه لا يكتفي عن المذنبين ، بل يبدل (لمن يستحق) سيئاتهم حسنات.

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام عند تلاوته لهذه الآية ، أنّه قال : (إن الإنسان) «أدحض مسئول حجّة ، وأقطع مغترّ معذرة ، لقد أبرح (أي اغتر) جهالة بنفسه.

يا أيّها الإنسان ، ما جرّأك على ذنبك ، وما غرّك بربّك ، وما أنسك بهلكة نفسك؟

أمّا من دائك بلول (أي شفاء) ، أم ليس من نومتك يقظة؟ أما ترحم نفسك ما ترحم من غيرك؟ فلربّما ترى الضاحي من حرّ الشمس فتظلّه ، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له! فما صبرك على دائك ، وجلدك على مصابك ، وعزاك عن البكاء على نفسك وهي أعزّ الأنفس عليك ، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة (أي تبيت بنقمة من الله) وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته! فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ، ومن كرى (أي النوم) الغفلة في ناظرك بيقظة ، وكن لله مطيعا وبذكره آنسا ، وتمثل (أي تصور) في حال توليك عنه إقباله عليك ، يدعوك إلى عفوه ويتغمدك بفضله وأنت متول عنه إلى غيره ، فتعالى من قوي ما أكرمه! وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته! ...»(١) .

وتعرض لنا الآية التالية جانبا من كرم الله ولطفه على الإنسان :( الَّذِي

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٣.

٤٨٥

خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما (١) شاءَ رَكَّبَكَ ) .

فالآية قد طرحت مراحل خلق الإنسان الأربعة أصل الخلقة ، التسوية ، التعديل ، ومن ثمّ التركيب.

ففي مرحلة الاولى : يبدأ خلق الإنسان ومن نطفة في ظلمات رحم الام.

وفي مرحلة الثّانية : مرحلة «التسوية والتنظيم» وفيها يقدر الباري سبحانه خلق كلّ عضو من أعضاء الإنسان بميزان متناهي الدّقة.

فلو أمعن الإنسان النظر في تكوين عينه اذنه أو قلبه ، عروقه وسائر أعضاءه ، وما أودع فيها من ألطاف ومواهب وقدرات إلهية ، لتجسم أمامه عالما من العلم والقدرة واللطف والكرم الإلهي.

عطاء ربّاني قد شغل العلماء آلاف السنين بالتفكير والبحث والتأليف ، ولا زالوا في أوّل الطريق

وفي المرحلة الثّالثة : يكون التعديل بين «القوى» و «الأعضاء» وتحكيم الارتباط فيما بينها.

وبدن الإنسان قد بني على هذين القسمين المتقاربين ، فـ اليدين ، الرجلين ، العينين ، الأذنين ، العظام ، العروق ، الأعصاب والعضلات قد توزعت جميعها على هذين القسمين متجانس ومترابط.

هذا بالإضافة إلى أنّ الأعضاء في عملها يكمل بعضها للبعض الآخر ، فجهاز التنفس مثلا يساعد في عمل الدورة الدموية بدورها تقدم يد العون إلى عملية التنفس ، ولأجل ابتلاع لقمة غذاء ، لا تصل إلى الجهاز الهضمي إلّا بعد أن يؤدّي كلّ من : الأسنان ، اللسان ، الغدد وعضلات الفم دوره الموكل به ، ومن ثمّ تتعاضد أجزاء الجهاز الهضمي على إتمام عملية الهضم وامتصاص الغذاء ، لينتج منه القوّة

__________________

(١) «ما» : زائدة ، واحتملها البعض (شرطية) ، ولكنّ الرأي الأوّل أقرب للصواب.

٤٨٦

اللازمة للحركة والفعالية

وكلّ ما ذكر ، وغيره كثير ، قد جمع قصيرة رائعة( ... فَعَدَلَكَ ) .

وقيل : «عدلك» إشارة إلى اعتدال قامة الإنسان ، وهو ما يمتاز به عن بقية الحيوانات ، وهذا المعنى أقرب للمرحلة القادمة ولكن المعنى الأوّل أجمع.

وفي المرحلة الرابعة : تكون عملية «التركيب» وإعطاء الصورة النهائية للإنسن نسبة إلى بقية الموجودات.

نعم ، فقد تكرم الباري بإعطاء النوع الإنساني صورة موزونة عليها مسحة جمالية بديعة قياسا مع بقية الحيوانات ، وأعطى الإنسان فطرة سليمة ، وركّبه بشكلّ يكون فيه مستعدا لتلقي كلّ علم وتربية.

ومن حكمة الباري أن جعل الصور الإنسانية مختلفة متباينة ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٢٢) من سورة الروم :( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ) ، ولولا الاختلاف المذكور لاختل توازن النظام الاجتماعي البشري.

ومع الاختلاف في المظهر فإنّ الباري جلّ شأنه قدّر الاختلاف والتفاوت في القابليات والاستعدادات والأذواق والرغبات ، وجاء هذا النظم بمقتضى حكمته ، وبه يمكن تشكيل مجتمع متكامل سليم وكلّ حوائجه ستكون مؤمّنة.

وتلخص الآية (٤) من سورة التين خلق الله للإنسان بصورة إجمالية :( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) .

والخلاصة : فالآيات المبحوثة ، إضافة لآيات أخر كثيرة تهدف وبشكلّ دقيق إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته ، منذ كان نطفة قذرة ، مرورا بتصويره وتكامله في رحم امّه ، حتى أشدّ حالات نموه وتكامله ، وتؤكّد على أنّ حياة الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم الله ، وكلّ حيّ يفعم برحمة الله في كل لحظات حياته ، ولا بدّ لكلّ حي ذي لبّ وبصيرة من أن يترحل من مطية غروره وغفلته ،

٤٨٧

ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته ، وإلّا فالهلاك الحتمي.

وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة :( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) .

فالكرم الإلهي ، ولطف الباري منعمه ليست بمحفز لغروركم ، ولكنكم آليتم على عدم إيمانكم بالقيامة ، فوقعتم بتلك الهاوية الموهمة.(١)

ولو دققنا النظر في حال المغرورين والغافلين ، لرأينا أنّ الشك بيوم القيامة أو إنكاره هو الذي استحوذ على قلوبهم وما دونه مجرّد مبررات واهية ، ومن هنا يأتي لتشديد على أصل المعاد ، فلو قوي الإيمان بالمعاد في القلوب لارتفع الغرور وانقشعت الغفلة عن النفوس.

«الدين» : يراد به هنا ، الجزاء يوم الجزاء ، وما احتمله البعض من أنّه (دين الإسلام) فبعيد عن سياق حديث الآيات ، لأنّها تتحدث عن «المعاد».

وتأتي الآيات التالية لتوضح أنّ حركات وسكنات الإنسان كلّها مراقبة ومحسوبة ولا بدّ الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور ، فتقول( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) (٢) .

وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند الله تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم :( كِراماً كاتِبِينَ ) .

( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) .

و «الحافظين» : هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من خير أو شرّ ، كما سمّتهم الآية (١٧) من سورة (ق) بالرقيب العتيد :( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ، كما وذكرتهم الآية (١٦) من نفس السورة :( إِذْ يَتَلَقَّى

__________________

(١) «كلا» حرف ردع لإنكار شيء ذكر وتوهم ، لكن أي إنكار قصدته الآية؟ ثمة احتمالات عديدة للمفسرين في ذلك ، وأهمها ما ذكر أعلاه ، أي أن «كلا» جاءت لتنفي كل أسباب ومنابع الغرور والغفلة وتجعلها في إنكار القيامة والتكذيب به فقط. وهو ما ورد بعد «بل» وهذا ما اختاره الراغب في مفردات (في مادة : بل) ، وقال بعد ذكره للآية : قيل ليس هاهنا ما يقتضي أن يغرهم به تعالى ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه.

(٢) قيل : إن «الواو» هنا حالية ، كما في روح المعاني وروح البيان ، ولكن احتمال كونها (استئنافية) أقرب للحال.

٤٨٨

الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) .

وثمّة آيات قرآنية اخرى تشير إلى رقابة الملائكة لما يفعله الإنسان في حياته.

إنّ نظر وشهادة اللهعزوجل على أعمال الإنسان ، ممّا لا شك فيه ، فهو الناظر لما يبدر من الإنسان قبل أيّ أحد ، وأدق من كلّ شيء ، ولكنّه سبحانه ولزيادة التأكيد ولتحسيس الإنسان بعظم مسئولية ما يؤديه ، فقد وضع مراقبين يشهدون على الإنسان يوم الحساب ، ومنهم هؤلاء الملائكة الكرام.

وقد فصّلنا أقسام المراقبين الذين يحفون بالإنسان من كلّ جهة ، وذلك ذيل الآيتين (٢٠ و٢١) من سورة فصّلت ، ونوردها هنا إجمالا ، وهي على سبعة أقسام.

أوّلا : ذات الله المقدّسة ، كما في قوله تعالى :( وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) (١) .

ثانيا : الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، بدلالة قوله تعالى :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) (٢) .

ثالثا : أعضاء بدن الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣) .

رابعا : جلد الإنسان وسمعه وبصره ، بدلالة قوله تعالى :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .

خامسا : الملائكة ، بدلالة قوله تعالى :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ

__________________

(١) يونس ، الآية ٦١.

(٢) النساء ، الآية ٤١.

(٣) النور ، الآية ٢٤.

(٤) فصلت ، الآية ٢١.

٤٨٩

وَشَهِيدٌ ) (١) ، وبدلالة الآية المبحوثة أيضا.

سادسا : الأرض المكان الذي يعيش عليه الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) (٢) .

سابعا : الزمان الذي تجري فيه أعمال الإنسان ، بدلالة ما روي عن الإمام عليعليه‌السلام في وقوله : «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم : يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد»(٣) .

وفي كتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي : إنّ شخصا سأل الإمام الصادقعليه‌السلام عن علّة وضع الملائكة لتسجيل أعمال الإنسان في حين أنّ اللهعزوجل عالم السرّ وأخفى؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «استعبدهم بذلك ، وجعلهم شهودا على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة الله مواظبة ، وعن معصيته أشدّ انقباضا ، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكفّ ، فيقول ربّي يراني ، وحفظتي عليّ بذلك يشهد ، وأنّ برأفته ولطفه وكّلهم بعباده ، يذبّون عنهم مردة الشياطين ، وهوام الأرض ، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله ، إلى أن يجيء أمر اللهعزوجل »(٤) .

ويستفاد من هذه الرواية أنّ للملائكة وظائف اخرى إضافة لتسجيلهم لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان.

(وقد بحثنا موضوع وظائف ومهام الملائكة بتفصيل في ذيل الآية (١) من سورة فاطر ـ فراجع).

__________________

(١) سورة ق ، الآية ٢١.

(٢) الزلزال ، الآية ٤.

(٣) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٧٣٩ (مادة : يوم).

(٤) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٢٢.

٤٩٠

وقد وصفت الآيات المبحوثة هؤلاء الملائكة بأنّهم «كرام» ، ليكون الإنسان أكثر دقّة في مراقبة نفسه وأعماله ، لأنّ الناظر كلّما كان ذا شأن كبير ، تحفظ الإنسان منه أكثر وأكثر واستحى من فعل المعاصي أمامه.

وعلّة ذكر «كاتبين» للتأكيد على إنّهم لا يكتفون بالمراقبة والحفظ دون تسجيل ذلك بدقّة متناهية.

وذكر :( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) تأكيد آخر على كونهم مطلعين على كلّ الأعمال وبشكل تام ، واستنادا إلى اطلاعهم ومعرفتهم يسجلون ما يكتبونه.

فالآيات تشير إلى حرية إرادة الإنسان ، وتشير إلى كونه مختارا ، وإلّا فما قيمة تسجيل الأعمال؟ وهل سيبقى للتحذير والإنذار من معنى؟

وتشير أيضا إلى جدّية ودقّة الحساب والجزاء والإلهي.

ويكفي فهم واستيعاب هذه الإشارات البيانية الرّبانية لإنقاذ الإنسان من وقوعه في هاوية المعاصي ، وتكفيه الإشارات عظة ليزكي ويعرف مسئوليته ويعمل بدروه.

* * *

بحث

كتبة صحائف الأعمال :

لم تكن الآيات المبحوثة الدليل الوحيد على وجود المراقبين لأعمال الإنسان ، والكاتبين لها بخيرها وشرّها ، بل ثمّة آيات كثيرة وروايات عديدة تناولت ذلك ومن جملة ما ورد من الأحاديث بهذا الشأن.

١ ـ سؤال عبد الله بن موسى بن جعفرعليه‌السلام لأبيه عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله ، أو الحسنة؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟».

٤٩١

قال : لا.

قال : «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب الريح ، فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنّه قد همّ بالحسنة ، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها له ، وإذا همّ بالسيئة خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين ، قف فإنّه قد همّ بالسيئة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، وأثبتها عليه»(١) .

فالرواية تبيّن ما للنيّة من أثر على كامل وجود الإنسان ، وأنّ الملائكة يسجلون ما وقع من فعل من الإنسان ولكنّهم مطلعين على فعل الواقع قبل وقوعه ، وعليه فتسجيلهم لأعمال الإنسان دقيق جدّا ، ولا يفوتهم شيئا إلّا وكتبوه في صحيفته.

والرواية أيضا ، تأتي في سياق الحديث النبوي الشريف : «إنّما الأعمال بالنيات» للتأكيد على ما لنيّة الإنسان من أثر على فعله الحسن أو السيء.

وتبيّن أيضا ، بأنّ وسائل الكتابة هي جوارح الإنسان الناوي للفعل ، فلسانه القلم وريقه المداد!

٢ ـ وثمّة روايات تؤكّد على أنّ الملائكة مأمورة بتسجيل النوايا الحسنة دون النوايا السيئة ، ومنها : «إنّ تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ، ومن همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب له ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيئة».(٢)

فالرواية تبيّن منتهى اللطف الرّباني الفصل الإلهي على الإنسان ، وتحث الإنسان على الأعمال الصالحة فنيّته السيئة لا تسجل عليه ، وفعله السيء يكتب عليه وفق موازين العدل ، في حين أنّ نيّته الحسنة وفعله الحسن يسجلان

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٢٩ ، باب «من يهمّ بالحسنة أو السيئة» الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ١ ـ ٢.

٤٩٢

له وفق اللطف والتفضل الإلهي

٣ – وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «يهمّ العبد بالحسنة فيعملها ، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيّته ، وإن هو عملها كتب الله له عشرا ، ويهمّ بالسيئة أن يعملها ، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإن عملها اجّل سبع ساعات ، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال : لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها ، فإن اللهعزوجل يقول :( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) ، أو الاستغفار فإنّ هو قال : استغفر الله الذي لا إله إلّا هو ، عالم الغيب والشهادة ، العزيز الحكيم ، الغفور الرحيم ، ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه ، لم يكتب عليه شيء ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة أو استغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات : اكتب على الشقي المحروم»(١) .

٤ – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ المؤمنين إذا أقبلا على المساءلة قالت الملائكة بعضها لبعض : تنحوا عنهما فإنّ لهما سرّا وقد ستر الله عليهما»!(٢)

٥ – وفي خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال فيها بعد أن دعى الناس فيها لتقوى الله : «اعلموا عباد الله ، إنّ عليكم رصدا من أنفسكم ، وعيونا من جوارحكم ، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم ، وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج «أي إحكام» ، وإنّ غدا من اليوم قريب»(٣) .

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٤.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٨٤ ، الحديث ٢ ؛ وعنه نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٠.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٧.

٤٩٣

الآيات

( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩) )

التّفسير

«يوم لا تملك نفس لنفس شيئا» :

بعد ذكر الآيات السابقة لتسجيل أعمال الإنسان من قبل الملائكة ، تأتي الآيات أعلاه لتتطرق إلى نتائج تلك الرقابة ، وما سيصل إليه كلّ من المحسن والمسيء من عاقبة ، فتقول الآية الاولى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ) .

والثّانية :( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) .

«الأبرار» : جمع (بار) و «برّ» على وزن (حق) ، بمعنى : المحسن ، و (البرّ) بكسر الراء ـ كلّ عمل صالح والآية تريد العقائد السليمة ، والنيات والأعمال الصالحة.

«نعيم» : وهي مفرد بمعنى النعمة ، ويراد به هنا «الجنّة» ، وجاءت بصيغة

٤٩٤

النكرة لبيان أهمية وعظمة هذه النعمة ، التي لا يصل لإدراك حقيقتها إلّا الله سبحانه وتعالى ، واختيرت كلمة «نعيم» بصيغة الصفة المشبهة ، للتأكيد على بقاء واستمرار هذه النعمة ، لأنّ الصفة المشبهة عادة ما تتضمّن ذلك.

«الفجّار» : جمع (فاجر) من (فجر) ، وهو الشقّ الواسع ، وقيل للصبح فجر لكونه فجر الليل ، أيّ شقّه بنور الصباح ، و (الفخور) : شقّ ستر الديانة والعفة ، والسير في طريق الذنوب.

«جحيم» : من (الجحمة) ، وهي تأجج النّار ، وتطلق الآيات القرآنية (الحجيم) على جهنّم عادة.

ويمكن أن يراد بقوله تعالى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) الحال الحاضر ، أيّ : إنّ الأبرار يعيشون في نعيم الجنّة حاليّا ، وإنّ الفجّار قابعون في أودية النّار ، كما يفهم من إشارة الآية (٥٤) من سورة العنكبوت :( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

وقال بعض : المراد من الآيتين هو حتمية الوقوع المستقبلي ، لأنّ المستقبل الحتمي والمضارع المتحقق الوقوع يأتي بصيغة الحال في اللغة العربية ، وأحيانا يأتي بصيغة الماضي.

فالمعنى الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية ، إلّا أنّ المعنى الثّاني أنسب للحال ، والله العالم.

وتدخل الآية التالية في تفصيل أكثر لمصير الفجّار :( يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ) .

فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى أنّ الفجّار هم في جهنّم حاليا ، فسيكون إشارة هذه الآية ، إلى أنّ دخولهم جهنّم سيتعمق ، وسيحسون بعذاب نارها ، بشكل أشدّ.

«يصلون» : من (المصلى) على وزن (سعي) ، و «صلى النّار» : دخل فيها ، ولكون الفعل في الآية قد جاء بصيغة المضارع ، فإنّه يدل على الاستمرار

٤٩٥

والملازمة في ذلك الدخول.

ولزيادة التفصيل ، تقول الآية التالية :( وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) .

اعتبر كثير من المفسّرين كون الآية دليلا على خلود الفجّار في العذاب ، وخلصوا إلى أنّ المراد بـ «الفجّار» هم «الكفّار» ، لكون الخلود في العذاب يختص بهم دون غيرهم.

ف «الفجّار» : إذن : هم الذين يشقون ستر التقوى والعفة بعدم إيمانهم وتكذيبهم بيوم الدين ، ولا يقصد بهم ـ في هذه الآيات ـ أولئك الذي يشقّون الستر المذكور بغلبة هوى النفس مع وجود حالة الإيمان عندهم.

وإتيان الآية بصيغة زمان الحال تأكيدا لما أشرنا إليه سابقا ، من كون هؤلاء يعيشون جهنّم حتّى في حياتهم الدنيا (الحالية) أيضا( ... وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) ، فحياتهم بحدّ ذاتها جهنّما ، وقبورهم حفرة من حفر النيران (كما ورد في الحديث الشريف) ، وعليه فجهنّم القبر والبرزخ وجهنّم الآخرة كلّها مهيأة لهم.

كما وتبيّن الآية أيضا : إنّ عذاب أهل جهنّم عذاب دائم ليس له انقطاع ، ولا يغيب عنهم ولو للحظة واحدة.

ولأهمية خطب ذلك اليوم العظيم ، تقول الآية التالية :( وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

( ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

فإذا كانت وحشة وأهوال ذلك اليوم قد أخفيت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو المخاطب في الآية ـ مع كلّ ما له من علم بـ القيامة ، المبدأ ، المعاد فكيف يا ترى حال الآخرين؟!!

والآيات قد بيّنت ما لأبعاد يوم القيامة من سعة وعظمة ، بحيث لا يصل لحدّها أيّ وصف أو بيان ، وكما نحن (السجناء في عالم المادة) لا نتمكن من إدراك حقيقة النعم الإلهية المودعة في الجنّة ، فكذا هو حال إدراكنا بالنسبة

٤٩٦

لحقيقة عذاب جهنّم ، وعموما لا يمكننا إدراك ما سيجري من حوادث في ذلك اليوم الرهيب المحتوم.

وينتقل البيان القرآني للتعبير عن إحدى خصائص ذلك اليوم ، وبجملة وجيزة ، لكنها متضمّنة لحقائق ومعان كثيرة :( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) .

فستتجلّى حقيقة أنّ كلّ شيء في هذا العالم هو بيد الله العزيز القهّار ، وستبان حقيقة حاكمية الله المطلقة ومالكيته على كلّ من تنكر لهذه الحقيقة الحقّة ، وستنعدم تلك التصورات الساذجة التي حكمت أذهان المغفلين بكون فلان أميرا ورئيسا أو حاكما ، وسينهار أولئك البسطاء الذين اعتبروا أن قدراتهم مستقلة بعد أن أكل الغرور نفوسهم وتكالب التكبر على تصرفاتهم في الحياة الدنيا الفانية.

وتشهد على الحقيقة ـ بالإضافة إلى الآية المذكورة ـ الآية (١٦) من سورة المؤمن حيث تقول :( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

وتشير الآية (٣٧) من سورة عبس إلى انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم دون كلّ الأشياء الاخرى ، ولو قدّر أن يمنح قدرا معينا من القدرة ، لما نفع بها أحد دون نفسه! ، حيث تقول الآية :( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .

حتّى روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، أنّه تناول ذلك الموقف بقوله : (إن الأمر يومئذ واليوم كله لله ، ...) وإذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلّا الله»(١)

وهنا يواجهنا السؤال التالي : هل يعني ذلك ، إنّ الآية تتعارض وشفاعة الأنبياء والأوصياء والملائكة؟

ويتّضح جواب السؤال المذكور من خلال البحوث التي قدمناها بخصوص موضوع (الشفاعة) فقد صرّح الحكيم في بيانه الكريم ، إنّ الشّفاعة لن تكون إلّا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٥٠.

٤٩٧

بإذنه ، وإنّ الشّفاعة غير مطلقة ، حسب ما تشير إليه الآية (٢٨) من سورة الأنبياء( لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ) اللهم! إنّ الخلائق تنتظر رحمتك ولطفك في ذلك اليوم الرهيب ، ونحن الآن نتوقع لطفك.

إلهنا! لا تحرمنا من الطافك وعناياتك في هذا العالم والعالم الآخر.

ربّنا! أنت الحاكم المطلق في كلّ مكان وزمان ، فاحفظنا من التورط في شباك الذنوب والسقوط في وادي الشرك واللجوء الى الغير

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الإنفطار

انتهى المجلد التاسع عشر

* * *

٤٩٨

الفهرس

سورة المعارج

محتوى السورة ٥

فضيلة هذه السورة ٦

تفسير الآيات : ١ ـ ٣ ٧

سبب النّزول ٧

العذاب العاجل ٩

ملاحظة

إشكالات المعاندين الواهية ١٠

تفسير الآيات : ٤ ـ ٧ ١٤

يوم مقداره خمسين ألف سنة ١٤

تفسير الآيات : ٨ ـ ١٨ ١٧

تفسير الآيات : ١٩ ـ ٢٨ ٢١

أوصاف المؤمنين ٢١

تفسير الآيات : ٢٩ ـ ٣٥ ٢٧

القسم الآخر من صفات أهل الجنّة ٢٧

تفسير الآيات : ٣٦ ـ ٤١ ٣٢

الطمع الواهي في الجنّة ٣٢

٤٩٩

ملاحظة

ربّ المشارق والمغارب ٣٥

تفسير الآيات : ٤٢ ـ ٤٤ ٣٧

كأنّهم يهرعون إلى الأصنام ٣٧

«سورة نوح»

محتوى سورة ٤٣

فضيلة هذه السورة ٤٤

تفسير الآيات : ١ ـ ٤ ٤٥

رسالة نوح الأولى ٤٥

ملاحظة

العوامل المعنوية لزيادة ونقصان العمر ٤٧

تفسير الآيات : ٥ ـ ٩ ٤٨

استخدام مختلف الوسائل لهدايتهم ، ولكن ٤٨

ملاحظتان

١ ـ أسلوب الإبلاغ ومنهجه ٥١

٢ ـ لماذا الفرا من الحقيقة ٥١

تفسير الآيات : ١٠ ـ ١٤ ٥٣

ثمرة الإيمان في الدنيا ٥٣

ملاحظة

الرّابطة بين التقوى والعمران ٥٥

تفسير الآيات : ١٥ ـ ٢٠ ٥٨

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526