الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 526
المشاهدات: 142948
تحميل: 4754


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 142948 / تحميل: 4754
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 17

مؤلف:
العربية

الآيات

( أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) )

التّفسير

الشفاعة أيضا بإذنه :

هذه الآيات أيضا تتناول بالبحث والتعقيب ـ موضوع عبادة الأصنام وخرافتها ، وهي تتمّة لما سبق بيانه في الآيات المتقدّمة!

فتتناول أوّلا الامنيات الجوفاء عند عبدة الأصنام وما كانوا يتوقّعون من الأصنام :( أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى ) ؟!.

ترى! هل من الممكن أن تشفع هذه الأجسام التي لا قيمة لها ولا روح فيها عند الله سبحانه؟ أو يلتجأ إليها عند المشكلات!؟ كلّا!( فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ) .

إنّ عالم الأسباب يدور حول محور إرادته ، وكلّ ما لدى الموجودات فمن بركات وجوده ، فالشفاعة من اختياراته أيضا ، وحلّ المشاكل بيد قدرته كذلك!

ممّا يلفت النظر أنّ القرآن يتحدّث عن الآخرة أوّلا ، ثمّ عن الدنيا ، لأنّ أكثر ما

٢٤١

يشغل فكر الإنسان هو النجاة في الآخرة وحاكمية الله في الدار الآخرة تتجلّى أكثر منها في هذه الدنيا.

وهكذا فإنّ القرآن يقطع أمل المشركين تماما ـ بشفاعة الأصنام ـ ويسدّ بوجوههم هذه الذريعة بأنّها تشفع لهم «ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله».

وهناك احتمال آخر في تفسير الآيتين آنفتي الذكر : وهو أن يتوجّه الإنسان نحو الله لعدم بلوغه أمانيّه وما يرغب إليه لأنّ الآية الاولى من الآيات محلّ البحث تقول :( أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى؟ ) وهذا استفهام إنكاري ، وحيث أنّ جواب هذا الاستفهام أو السؤال بالنفي قطعا ، لأنّ الإنسان لا ينال كثيرا من أمانيه أبدا ، وهذا يدلّ على أنّ تدبير هذا العالم بيد اخرى تتحكّم في هذا العالم ، ولذلك فإنّ الآية الثانية تقول : حيث كان الأمر كذلك( فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ) !

وهذا المعنى يشبه ما جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «عرفت الله بفسخ العزائم وحلّ العقود ونقض الهمم»(١) . ولا يبعد الجمع بين هذا التّفسير والتّفسير السابق أيضا.

وفي آخر الآيات محلّ البحث يقول القرآن مضيفا ومؤكّدا على هذه المسألة :( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى ) .

فحيث لا تستطيع الملائكة على عظمتها حتّى ولو بشكل جماعي أن تشفع لأحد إلّا بإذن الله ورضاه ، فما عسى ينتظر من هذه الأصنام التي لا قيمة لها ، وهي لا تعي شيئا!؟. وحينما تتساقط النسور المحلّقة وتهوي بأجنحتها عاجزة فما تنفع البعوضة الضعيفة؟ أليس من المخجل أن تقولوا إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى ، أو هؤلاء شفعاؤنا عند الله؟!

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ـ الكلمة رقم ٢٥٠.

٢٤٢

والتعبير بـ «كم» في الآية يفيد العموم ، أي ليس لأي ملك أن يشفع دون إذن الله ورضاه ، لأنّ هذه اللفظة تفيد العموم في لغة العرب ، كما أنّ لفظة «كثير» تفيد العموم أحيانا وقد جاء في الآية ٧٠ من سورة الإسراء ما يدلّ على ذلك :( وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً ) أي فضّلنا بني آدم على جميع من خلقنا.

كما نجد هذا الاستعمال في شأن الشياطين إذ نقرأ الآية ٢٢٣ من سورة الشعراء قائلة :( وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ) مع أنّنا نعلم أنّ جميع الشياطين كاذبون(١) .

أمّا الفرق بين «الإذن» و «الرضا» فهو ـ أنّ الإذن يعبّر عنه في مقام يكشف الإنسان عن رضاه الباطني ، إلّا أنّ الرضا أعمّ من ذلك ، وقد تستعمل كلمة «الرضا» لانسجام الطبع مع ما يفعل ، وحيث أنّ الإنسان قد يأذن بشيء ما دون أن يكون راضيا في قلبه فقد جاءت كلمة «يرضى» تأكيدا على الإذن ، وإن كان الإذن والرضا عند الله لا ينفصل بعضهما عن بعض ولا مجال (للتقيّة) عند الله!

* * *

تعقيب

١ ـ سعة الأماني :

الأمل أو التمنّي إنّما ينبع من محدودية قدرة الإنسان وضعفه الإنسان إذا كانت له علاقة بالشيء ولم يستطع أن يبلغه ويحقّقه فانّه يأخذ صورة التمنّي عنده وإذا استطاع الإنسان أن يحقّق كلّ ما يريده ويرغب فيه ، لم يكن للتمنّي من معنى!

وبالطبع قد تكون أمانيّ الإنسان أحيانا نابعة من روحه العالية وباعثا على الحركة والجدّ والنشاط والجهاد وسيره التكاملي كما لو تمنّى بأن يتقدّم الناس بالعلم والتقوى والشخصيّة والكرامة!

__________________

(١) مع أنّ كلمة ملك في الآية مفردة فقد عاد الضمير عليها جمعا في «شفاعتهم» وذلك لمفهوم الكلام ورعاية للمعنى!

٢٤٣

إلّا أنّه كثيرا ما تكون هذه الأحلام «والأماني» كاذبة ، وعلى العكس من الأماني الصادقة فانّها أساس للغفلة والجهل والتخدير والتخلّف كما لو تمنّى الإنسان الخلود في الأرض والعمر الدائم ، وأن يملك أموالا طائلة ، وأن يحكم الناس جميعا وأمثال ذلك القبيل الموهوم.

ولذلك فقد رغّبت الرّوايات الإسلامية الناس في تمنّي الخير ، كما نقرأ في بعض ما وصلنا عن رسو اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من تمنّى شيئا وهو للهعزوجل رضى لم يخرج من الدنيا حتّى يعطاه»(١) .

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّه إذا لم يصل إلى ذلك في الدنيا فسينال ثوابه(٢) .

٢ ـ كلام في شأن الشفاعة

إنّ الآية الأخيرة ـ من الآيات محلّ البحث ـ تخبر بجلاء عن إمكان أن يشفع الملائكة ، فحيث أنّه للملائكة الحقّ أن يشفعوا بإذن الله ورضاه ، فمن باب الأولى أن يكون للأنبياء والمعصومين حقّ الشفاعة عند الله.

إلّا أنّه لا ينبغي أن ننسى أنّ الآية آنفة الذكر تقول بصراحة إنّ هذه الشفاعة ليست من دون قيد وشرط. بل هي مشروطة بإذن الله ورضاه ، وحيث أنّ إذن الله ورضاه لم يكونا عبثا أو اعتباطا ، فينبغي أن تكون بين الإنسان وربّه علاقة حتّى يأذن بالشفاعة للمقرّبين في شأنه ، ومن هنا فإنّ رجاء الشفاعة يكون مذهبا تربويّا للإنسان ومانعا من اليأس وقطع جميع الروابط بالله تعالى(٣) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٢٦١ (باب تمنّي الخيرات).

(٢) المصدر السابق.

(٣) التعبير بـ «من يشاء» الوارد في الآية المتقدّمة يمكن أن يكون إشارة إلى الناس الذين يأذن الله لهم بالشفاعة ، أو إشارة إلى الملائكة الذين يأذن الله لهم بالشفاعة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أنسب.

٢٤٤

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) )

التّفسير

إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا :

هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ كالآيات المتقدّمة ، تبحث موضوع نفي عقائد المشركين.

فتقول أوّلها :( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى ) !

أجل ، إنّ هذا الكلام القبيح والمخجل إنّما يصدر من أناس لا يعتقدون بيوم الحساب ولا بجزاء أعمالهم ، فلو كانوا يعتقدون بالآخرة لما تجاسروا فقالوا مثل هذا الكلام ، وأي كلام؟! كلام ليس لهم فيه أدنى دليل بل الدلائل العقليّة تبرهن على أنّه ليس لله من ولد ، وليس الملائكة إناثا ، ولا هم بنات الله كذلك!

٢٤٥

والتعبير بـ «تسمية الأنثى» إشارة إلى ما نوّهنا عنه في الآيات المتقدّمة ، وهو أنّ مثل هذا الكلام لا معنى له. وإنّ هذا الأسماء لا مسميّات لها ، وبتعبير آخر إنّها لا تعدو حدود التسمية ، ولا واقع لها أبدا.

ثمّ يتناول القرآن واحدا من الأدلّة الواضحة على بطلان هذه التسمية فيقول معقّبا :( وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) .

فالإنسان الهادف والمعتقد لا يطلق كلامه دون علم ودراية ، ولا ينسب أيّة نسبة لأحد دونما دليل فالتعويل عن الظنّ والتصوّر إنّما هو من عمل الشيطان أو من يتّصف بالشيطانيّة وقبول الخرافات والأشياء الموهومة دليل الانحراف وعدم العقل!

وواضح أنّ كلمة «الظنّ» لها معنيان مختلفان ، فتارة تطلق هذه الكلمة على الأوهام التي لا أساس لها ، وطبقا لتعبير الآيات آنفة الذكر تعني الخرافات والأوهام وما تهوي الأنفس والمراد من هذه الكلمة في الآية هو هذا المعنى ذاته.

المعنى الآخر ، الظنّ المعقول وهو ما يخطر في الذهن ، ويكون مطابقا للواقع غالبا ، وعليه يكون مبنى العمل في اليوم ـ مرة أو أكثر ـ كشهادة الشهود في المحكمة وقول أهل الخبرة وظواهر الألفاظ وأمثال ذلك ، فلو أعرضنا عن مثل هذه الأمور وعوّلنا على اليقين القطعي لاضطربت الحياة واختلّ نظامها.

ولا شكّ أنّ هذا القسم من الظنّ غير داخل في هذه الآيات ، وهناك شواهد كثيرة في الآيات ذاتها على ذلك وفي الحقيقة أنّ القسم الثاني نوع من العلم العرفي لا الظنّ ، فبناء على هذا لا يصحّ الاستدلال بالآية( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) وأمثالها على نفي حجيّة الظنّ بشكل مطلق.

وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة والمسألة الدقيقة وهي أنّ الظنّ في اصطلاح الفقهاء والأصوليين معناه «الإعتقاد الراجح» ، إلّا أنّه في اللغة أوسع

٢٤٦

مفهوما ، فيشمل حتّى الوهم والاحتمالات الضعيفة ، ومن هذا القبيل ظنّ عبدة الأوثان ـ إذ كان خرافة تظهر في أذهانهم بشكل احتمال ضعيف. ثمّ ينهض هوى النفس فيزيّن ذلك الاحتمال ، ويهمل الاحتمال الآخر الذي هو أقوى من هذا الاحتمال ، ويصير الاحتمال الضعيف اعتقادا راسخا مع أنّه لا أساس له أبدا.

ومن أجل أن يبيّن القرآن أنّ هؤلاء الجماعة ليسوا أهلا للاستدلال والمنطق الصحيح ، وقد ألهاهم حبّ الدنيا عن ذكر الله وجرّهم إلى الوحل في خرافاتهم وأوهامهم يضيف قائلا :( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) .

والمراد من (ذكرنا) في إعتقاد أغلب المفسّرين هو «القرآن» ، وقد يفسّر بأنّه الدلائل المنطقية والعقلية التي توصل الإنسان إلى الله ، كما احتملوا أن يكون المراد هو ذكر الله الذي يقابل الغفلة عند الإنسان.

إلّا أنّ الظاهر أنّ هذا التعبير ذو مفهوم واسع بحيث يشمل كلّ توجّه نحو الله ، سواء أكان ذلك عن طريق القرآن ، أو عن طريق العقل ، أو عن طريق السنّة ، أو تذكّر القيامة وما إلى ذلك!

ويستفاد من هذه الآية ـ ضمنا ـ أنّ هناك علاقة بين الغفلة عن ذكر الله والإقبال على الماديات ، وبين زخرف الدنيا وزبرجها وأنّ بينهما تأثيرا متلازما!

فالغفلة عن ذكر الله تسوق الإنسان نحو عبادة الدنيا ، كما أنّ عبادة الدنيا تصرف الإنسان عن ذكر الله ، فيكون غافلا عنه ـ وهما جميعا يقترنان مع هوى النفس ، وبالطبع فإنّ الخرافات التي تنسجم مع هوى النفس تتزيّن في نظر الإنسان وتتبدّل تدريجا إلى إعتقاد راسخ!

وربّما لا حاجة إلى التذكير أنّ الأمر بالإعراض عن هذه الفئة (أهل الدنيا) لا ينافي تبليغ الرسالة الذي هو وظيفة النّبي الأساسيّة ، لأنّ التبليغ والإنذار والبشارة كلّها لا تكون إلّا في موارد احتمال التأثير ، فحيث يعلم ويتيقّن عدم التأثير فلا يصحّ هدر الطاقات ، وينبغي الإعراض بعد إتمام الحجّة.

٢٤٧

كما ينبغي الإشارة إلى أنّ الأمر بالإعراض عمّن تولّى عن ذكر الله ، ليس مختصّا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هو شامل لجميع الدعاة في طريق الحقّ ، ليصرفوا طاقاتهم الكريمة في ما يحتمل تأثيرها فيه ، أمّا عبدة الدنيا وموتى القلوب الذين لا أمل في هدايتهم فينبغي ـ بعد إتمام الحجّة عليهم ـ الإعراض عنهم ليحكم الله حكمه فيهم!.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث يثبت القرآن انحطاط أفكار هذه الفئة فيقول مضيفا :( ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) .

أجل ، إنّ أوج أفكارهم منته إلى هذا الحدّ وهو اسطورتهم أنّ الملائكة بنات الله!! ـ وخبطهم في الخرافات وهذه آخر نقطة تبلغ إليه همّتهم ، إذ نسوا الله وأقبلوا على الدنيا واستعاضوا عن جميع شرفهم ووجودهم بالدينار والدرهم!

وهذه الجملة( ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) يمكن أن تكون إشارة إلى خرافاتهم كعبادة الأصنام وجعلهم الملائكة بنات الله : أي أنّ منتهى علمهم هو هذه الأوهام!.

أو أنّها إشارة إلى حبّ الدنيا والأسر في قبضة الماديات ، أي أن؟ منتهى إدراكهم هو قناعتهم بالأكل والشرب والنوم والمتاع الفاني في هذه الدنيا وزبرجها وزخرفها إلخ.

وقد جاء في الدعاء المعروف في أعمال شعبان المنقول عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا»(١) .

وتختتم الآية بالقول :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى ) ختام الآية يشير إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الله يعرف الضالّين جيّدا كما يعرف المهتدين أيضا ، فيصبّ غضبه على الضالّين ويسبغ لطفه على المهتدين ، ويجازي كلّا بعمله يوم القيامة.

* * *

__________________

(١) جاء هذا الدعاء من دون الإشارة إلى أنّه من أعمال شهر شعبان في مجمع البيان وفي تفاسير اخرى ذيل الآية محلّ البحث.

٢٤٨

ملاحظة

رأس مال عبدة الدنيا :

الطريف أنّ الآيات الآنفة في الوقت الذي تنسب العلم لعبدة الدنيا ، إلّا أنّها تعدّهم ضالّين ، وهذا يدلّ على أنّ العلوم التي لا تهدف إلى شيء سوى الماديّات فمن وجهة نظر القرآن ليست علوما ، بل هي الضلالة بعينها.

ومن الغريب أنّ كلّ هذه الشقوة والحروب وسفك الدماء والظلم والتجاوز والفساد والتلوّث ناشئ من علوم الضلال هذه ـ ومن الذين منتهى ما توصّلت إليه علومهم حبّ الدنيا والحياة الفانية ، ولا يتّسع أفق متطلّباتهم لأكثر من متطلّبات الحيوان.

أجل ، إنّ علوم «التقنية» والمسائل الحديثة إذا لم تكن تسعى لأهداف أسمى من الماديّات ، فهي الجهل بعينه ، وإذا لم تؤدّ إلى نور الإيمان فهي الضلال!.

* * *

٢٤٩

الآيتان

( وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) )

التّفسير

لا تزكّوا أنفسكم :

لمّا كان الكلام في الآيات المتقدّمة عن علم الله بالضالّين والمهتدين ، فإنّ الآيات أعلاه تتمّة لما جاء آنفا ، تقول :( وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) .

فالمالكية المطلقة في عالم الوجود له وحده ، والحاكمية المطلقة على هذا العالم له أيضا ، ولذلك فإنّ تدبير عالم الوجود بيده فحسب. ولمّا كان الأمر كذلك فهو وحده الجدير بالعبادة والشفاعة!

إنّ هدفه الكبير من هذا الخلق الواسع ليتألّف الإنسان في عالم الوجود وليسير في مسير التكامل في ضوء المناهج التكوينية والتشريعيّة وتعليم الأنبياء

٢٥٠

وتربيتهم ، لذلك فإنّ القرآن يذكر نتيجة هذه المالكية فيختتم الآية بالقول :( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (١) .

ثمّ يصف القرآن المحسنين في الآية التالية فيقول :( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ) .

و «الكبائر» جمع كبيرة ، و «الإثم» في الأصل هو العمل الذي يبعد الإنسان عن الخير والثواب ، لذلك يطلق على الذنب عادة ، و «اللمم» على وزن القلم ـ كما يقول الراغب في المفردات معناه الاقتراب من الذنب ، وقد يعبّر عن الذنوب الصغيرة باللمم أيضا ، وهذه الكلمة في الأصل مأخوذة من الإلمام ومعناها الاقتراب من شيء دون أدائه ، وقد يطلق «اللمم» على الأشياء القليلة أيضا «وإطلاقه على الذنوب الصغيرة من هذا الباب».

وقد فسّر المفسّرون «اللمم» في هذه الحدود ، فقال بعضهم : هو الذنوب الصغيرة ، وقال آخرون هو نيّة المعصية دون أدائها ، وفسّره غيرهم بأنّ اللمم معاص لا أهميّة لها.

وربّما قالوا بأنّ اللمم يشمل الذنوب الصغيرة والكبيرة على أن لا تكون معتادة والتي تقع أحيانا فيتذكّرها الإنسان فيتوب منها.

وهناك تفاسير متعدّدة لهذه الكلمة في الرّوايات الإسلامية ، فقد جاء من الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : اللمم الرجل يلمّ به الذنب فيستغفر الله منه(٢) وورد عنه أيضا أنّه قال : هو الذنب يلمّ به الرجل فيمكث ما شاء الله ثمّ يلمّ به بعد(٣) .

كما وردت روايات اخرى في هذا المعنى أيضا.

__________________

(١) «اللام» في (ليجزي) هي لام الغاية ، فبناء على ذلك الجزاء هو غاية الخلق ، وإن كان بعضهم يعتقد بأنّ «ليجزي» متعلّق بأعلم في الآية السابقة ، وأنّ جملة (ولله ما في السماوات والأرض) معترضة ، إلّا أنّ هذا الاحتمال يبدو بعيدا

(٢) الكافي ، ج ٢ كتاب الإيمان والكفر باب اللمم ٣٢٠.

(٣) المصدر السابق.

٢٥١

والقرائن الموجودة في هذه الآية تشهد على هذا المعنى أيضا إذ قد تصدر من الإنسان بعض الذنوب ، ثمّ يلتفت إليها فيتوب منها ، لأنّ استثناء اللمم من الكبائر (مع الالتفات إلى أنّ ظاهر الاستثناء كونه استثناء متّصلا) يشهد على هذا المعنى.

أضف إلى ذلك فإنّ الجملة التالية بعد الآية في القرآن تقول :( إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) !.

وهذا يدلّ على أنّ ذنبا صدر من الإنسان وهو بحاجة إلى غفران الله ، لا أنّه قصد الاقتراب منه ونواه دون أن يرتكبه.

وعلى كلّ فالمراد من الآية أنّ الذين أحسنوا من الممكن أن ينزلقوا في منزلق ما فيذنبوا ، إلّا أنّ الذنب على خلاف سجيّتهم وطبعهم وقلوبهم الطاهرة ـ وإنّما تقع الذنوب عرضا ، ولذلك فما أن يصدر منهم الذنب إلّا ندموا وتذكّروا وطلبوا المغفرة من الله سبحانه كما نقرأ في الآية (٢٠١) من سورة الأعراف إذ تشير إلى هذا المعنى :( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ) .

ونظير هذا المعنى في الآية (١٣٥) من سورة آل عمران إذ تقول في وصف المحسنين والمتّقين :( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ) !

فكلّ هذا شاهد على ما جاء من تفسير «اللّمم».

ونختتم بحثنا هنا بحديث للإمام الصادقعليه‌السلام إذ أجاب على سؤال حول تفسير الآية ـ محلّ البحث ـ فقال : «اللمام العبد الذي يلمّ بالذنب بعد الذنب ليس من سليقته أي من طبيعته»(١) .

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ باب اللمم ص ٣٢١.

٢٥٢

ويتحدّث القرآن في ذيل الآية عن علم الله المطلق مؤكّدا عدالته في مجازاة عباده حسب أعمالهم فيقول :( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ) (١) .

وقوله : «أنشأكم من الأرض» أمّا هو باعتبار الخلق الأوّل عن طريق آدمعليه‌السلام الذي خلقه من تراب ، أو باعتبار أنّ ما يتشكّل منه وجود الإنسان كلّه من الأرض ، حيث له الأثر الكبير في التغذية وتركيب النطفة ، ثمّ بعد ذلك له الأثر في مراحل نمو الإنسان أيضا.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الهدف من هذه الآية أنّ الله مطّلع على أحوالكم وعليم بكم منذ كنتم ذرّات في الأرض ومن يوم انعقدت نطفتكم في أرحام الامّهات في أسجاف من الظلمات فكيف ـ مع هذه الحال ـ لا يعلم أعمالكم؟!

وهذا التعبير مقدّمة لما يليه من قوله تعالى :( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) !

فلا حاجة لتعريفكم وتزكيتكم وبيان أعمالكم الصالحة ، فهو مطّلع على أعمالكم وعلى ميزان خلوص نيّاتكم ، وهو أعرف بكم منكم ، ويعلم صفاتكم الداخلية والخارجية.

قال بعض المفسّرين أنّ الآيتين آنفتي الذكر نزلتا في جماعة كانوا يمدحون أنفسهم بعد أداء الصوم أو الصلاة فيقولون : إنّنا صلّينا وصمنا وقمنا بكذا وكذا. فنزلت الآيتان ونهتهم عن تزكية الأنفس(٢) .

* * *

__________________

(١) الأجنّة : جمع جنين : الطفل الذي في بطن امّه

(٢) روح المعاني ، ج ٧ ، ص ٥٥.

٢٥٣

بحوث

١ ـ علم الله المطلق

مرّة اخرى يشار في هاتين الآيتين إلى علم الله المطلق وسعته ، إلّا أنّ التعبير فيهما تعبير جديد ، لأنّه يستند إلى لطيفتين(١) وهما من أشدّ حالات الإنسان خفاء والتواء حالة خلق الإنسان من التراب إذ ما تزال عقول المفكّرين حائرة فيها ، فكيف يوجد موجود حي من موجود لا روح فيه (ميّت)؟ وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الأمر حدث في السابق سواء في الإنسان أو الحيوانات الاخر ، ولكن في أيّة ظروف؟! فالمسألة في غاية الخفاء والالتواء بحيث ما تزال أسرارها مطوية ومكتومة عن علم الإنسان.

والاخرى مسألة التحوّلات المفعمة بالأسرار في وجود الإنسان في مرحلة الجنين ، فهي أيضا من الأسرار الغامضة في كيفية خلق الإنسان وإن كان شبح منها قد انكشف لعلم البشر ، إلّا أنّ الأسئلة حول أسرار الجنين التي ما زالت دون جواب كثيرة.

فالمطّلع على هاتين ، الحالتين من جميع أسرار وجود الإنسان وتحوّلاته وتغييراته وهاديه ومربّيه ، كيف يكون غير عالم بأعماله وأفعاله! ولا يجازي كلّا بحسب ما يقتضيه عمله!

إذا ، فهذا العلم المطلق أساس عدالته المطلقة!

٢ ـ ما هي كبائر الإثم

هناك كلام طويل بين المفسّرين من جهة ، والفقهاء والمحدّثين من جهة اخرى في شأن الذنوب الكبيرة المشار إليها في بعض الآيات من القرآن(٢) .

__________________

(١) اللطيفة : ما فيها من دقّة وخفاء.

(٢) كما في النساء الآية (٣١) والشورى الآية (٣٧) والآيات محلّ البحث.

٢٥٤

فبعضهم يعتقد أنّ جميع الذنوب تعدّ من الكبائر ، لأنّ كلّ ذنب ـ أمام الخالق الكبير يعدّ ذنبا كبيرا.

في حين أنّ بعضهم ينظر إلى الذنوب نظرة نسبيّة فيرى كلّ ذنب بالنسبة إلى ما هو أهمّ منه صغيرا وبالعكس.

وقال آخرون إنّ الكبائر ما جاء الوعيد من قبل الله في القرآن بارتكابها!

وربّما قيل إنّ الكبائر ما يجري عليها «الحدّ» الشرعي.

إلّا أنّ الأفضل أنّ يقال بأنّه مع ملاحظة أنّ التعبير بالذنوب الكبيرة دليل على عظمها ، فكلّ ذنب فيه أحد الشروط التالية يعدّ كبيرا :

أ ـ الذنوب التي ورد الوعيد من قبل الله في شأنها والعذاب لمرتكبها.

ب ـ الذنوب المذكورة في نظر أهل الشرع ولسان الرّوايات بأنّها عظيمة.

ج ـ الذنوب التي عدّتها المصادر الشرعيّة أكبر من الذنوب التي هي من الكبائر.

د ـ وأخيرا الذنوب المصرّح بها في الرّوايات المعتبرة بأنّها من الكبائر!.

وقد ورد ذكر الكبائر في الرّوايات الإسلامية مختلفا عددها فيه ، إذ جاء في بعضها أنّها سبع «قتل النفس ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا ، والعودة إلى دار الكفر بعد الهجرة ، ورمي المحصنات بالزنا ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من [الزحف] الجهاد»(١) .

وقد جاء في بعض الرّوايات ذكر هذا النصّ : «كلّما أوجب عليه الله النار» [مكان عقوق الوالدين].

وجاء في بعض الرّوايات أنّها «عشر» ، وأوصلتها روايات أخر إلى «تسع عشرة» كبيرة! وربّما ترقّى هذا العدد إلى أكثر ممّا ذكر في بعض الرّوايات أيضا(٢) .

__________________

(١) الوسائل ، ج ١١ ـ أبواب جهاد النفس الباب ٤٦ الحديث ١.

(٢) لمزيد الإيضاح يراجع المصدر السابق الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس وقد جاء في هذا الباب سبع وثلاثون رواية

٢٥٥

وهذا التفاوت في عدد الكبائر هو لأنّ الذنوب الكبيرة ليست بمرتبة واحدة ، فبعضها أهمّ من بعض ، وبتعبير آخر يعدّ أكبر الكبائر ، فبناء على هذا لا تضادّ بين الرّوايات في اختلاف العدد.

٣ ـ تزكية النفس :

«تزكية النفس» قبيح إلى درجة أنّها يضرب بها المثل! فيقال تزكية المرء نفسه قبيحة.

وأساس هذا العمل القبيح وأصله عدم معرفة النفس ، لأنّ الإنسان إذا عرف نفسه حقّا تصاغر أمام عظمة الخالق ورأى أعماله لا شيء لما عليه من مسئولية ، ولما وهبه الله من النعم العظيمة ، وإذا لما خطا أيّة خطوة نحو تزكية النفس.

والغرور والغفلة والاستعلاء والأفكار الجاهلية أيضا بواعث أخر على هذا العمل القبيح!

وحيث أنّ تزكية النفس تكشف عن إعتقاد الإنسان بكماله فهي مدعاة إلى تخلّفه! لأنّ رمز التكامل الاعتراف بالتقصير وقبول وجود النواقص والضعف!

ومن هنا نرى أولياء الله يعترفون بتقصيرهم أمام الله وما عليهم من وظائف من قبله! وينهون الناس عن تزكية النفس وتعظيم أعمالهم!.

فقد ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية الكريمة( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) أنّه قال : «لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته وصومه وزكاته ونسكه لأنّ اللهعزوجل أعلم بمن اتّقى»(١) .

ويقول الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في إحدى رسائله إلى معاوية مشيرا إلى هذا المضمون في ما يقول : «ولو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٦٥.

٢٥٦

ذاكر فضائل جمّة ، تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجّها آذان السامعين» «يعني بذلك نفسهعليه‌السلام »(١) .

«وفي هذا الصدد أوردنا بحثا مفصّلا في هذا التّفسير ذيل الآية ٤٩ من سورة النساء فراجع إن شئت».

ولا ننسى أن نقول إنّ الضرورات قد توجب على الإنسان أحيانا تزكية نفسه أمام الغير بكلّ ما لديه من امتيازات حتّى لا تسحق أهدافه المقدّسة ، وبين هذا النوع من التعريف بالنفس وتزكية النفس المذموم اختلافا كبيرا.

ومن أمثلة ذلك خطبة الإمام زين العابدين في مسجد بني اميّة في الشام لما أراد أن يعرف نفسه وأهل بيته لأهل الشام ليحبط مؤامرة الأمويين بكون الحسين والشهداء معه خوارج ويفضحهم!!

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه سئل الإمام الصادق عن «تزكية النفس» فقال نعم إذا اضطرّ إليه ـ أما سمعت قول يوسف أحيانا للضرورة ـ ثمّ استدلّ بموضعين من كلام الأنبياء أحدهما اقتراح يوسف على عزيز مصر أن يكون مسئولا ومشرفا على خزائن مصر وتعقيبه :( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) وقول العبد الصالح :( أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ ) .(٢)

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، من كتاب له برقم ٢٨.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٦٦.

٢٥٧

الآيات

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) )

سبب النّزول

ذكر أغلب المفسّرين أسبابا لنزول الآيات أعلاه ، إلّا أنّها لا تنسجم كثيرا مع الآيات هذه ، وما هو معروف بكثرة شأنان للنّزول :

١ ـ إنّ هذه الآيات ناظرة إلى «عثمان بن عفّان» حيث كانت لديه أموال طائلة وكان ينفق منها ، فقال له بعض أرحامه واسمه «عبد الله بن سعد» : إذا واصلت إنفاقك فلا يبقى عندك شيء ، فقال عثمان : لدي ذنوب وأريد أن أنال بإنفاقي رضا ربّي وعفوه. فقال له عبد الله : إن أعطيتني ناقتك بما عليها من جهاز تحمّلت ذنوبك وجعلتها في رقبتي ، ففعل عثمان وأشهده على ما اتّفق عليه وامتنع من الإنفاق بعدئذ. «فنزلت الآيات وذمّت هذا العمل بشدّة ، وأوضحت أنّه لا يمكن لأحد أن

٢٥٨

يحمل وزر الآخر وكلّ ينال جزاء سعيه»(١) .

٢ ـ إنّ الآية في شأن «الوليد بن المغيرة» إذ جاء إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصبا إلى الإسلام فلامه بعض المشركين وقال : تركت ما كان عليه كبراؤنا وعددتهم ضلّالا وظننت أنّهم من أهل النار! فقال إنّي أخاف من عذاب الله. فقال له اللائم : إن أعطيتني شيئا من مالك ورجعت إلى الشرك تحمّلت وزرك وجعلته في رقبتي! ففعل الوليد بن المغيرة ذلك إلّا أنّه لم يعط من المال المتّفق عليه إلّا قليلا. فنزلت الآية ووبّخته على ارتداده من الإيمان(٢) .

التّفسير

كلّ يتحمّل مسئولية أعماله :

كان الكلام في الآيات السابقة في أن يجزي الله تعالى من أساء بإساءته ويثيب المحسنين بإحسانهم وبما أنّه من الممكن أن يتصوّر أن يعذّب أحد بذنب غيره أو أن يتحمّل أحد وزر غيره ، فقد جاءت هذه الآيات لتنفي هذا التوهّم في المقام ، وبيّنت هذا الأصل الإسلامي المهمّ أنّ كلّا يرى نتيجة عمله ، فقالت أوّلا :( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ) أي تولّى من الإسلام أو الإنفاق!؟( وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى ) (٣) بمعنى أنّه أنفق القليل ثمّ امتنع وأمسك وهو يظنّ أنّ غيره سيحمل وزره يوم القيامة.

فأيّ رجل جاءهم من الغيب و «القيامة» فأخبرهم بأنّه يمكن أخذ الرشوة وتحمّل آثام الآخرين؟ أو من جاءهم من قبل الله فأخبرهم بأنّ الله راض عن هذا

__________________

(١) ذكره الطبرسي في مجمع البيان ومفسّرون آخرون أمثال الزمخشري في الكشّاف والفخر الرازي في التّفسير الكبير ويضيف الطبرسي أنّه ذكره ابن عبّاس والسدي والكلبي وجماعة من المفسّرين!

(٢) ذكر هذا الشأن صاحب مجمع البيان والقرطبي وروح البيان وروح المعاني وبعض التفاسير الاخر.

(٣) أكدى مأخوذ من الكدية ومعناه الصلابة ، ثمّ أطلق على من يمسك والبخيل.

٢٥٩

التعامل إلّا ما تدور في أذهانهم من أوهام؟ فهم يتّبعون ما يتوهّمون فرارا من تحمّل المسؤولية.

وبعد هذا تأتي الآية الاخرى لتبيّن اعتراض القرآن الشديد على ذلك ، وبيان لأصل كلّي مطّرد في الأديان السماوية كلّها فتقول : ترى أهذا الذي امتنع عن الإنفاق أو الإيمان بالوعود الخيالية. ويريد أن يخلص نفسه من عذاب الله بإنفاقه اليسير والزهيد من أمواله ، أتغنيه هذه الخيالات والتصوّرات :( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) (١) .

«إبراهيم» : هو ذلك النّبي العظيم الذي أدّي حقّ رسالة الله ، وبلّغ ما أمره به ووفي بجميع عهوده ومواثيقه ، ولم يخش تهديد قومه وطاغوت زمانه ، ذلك الإنسان الذي امتحن بمختلف الامتحانات حتّى بلغ به أن يقدّم ولده ليذبحه بأمر الله ، وخرج منتصرا مرفوع الرأس من جميع هذه الامتحانات ونال المقام السامي لقيادة الامّة كما نقرأ هذا المعنى في الآية (١٢٤) من سورة البقرة إذ تقول :( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) .

وقال بعض المفسّرين في توضيح معنى الآية : أنّه بذل نفسه للنيران وقلبه للرحمن وولده للقربان وماله للإخوان(٢) .

ثمّ تأتي الآية الاخرى لتقول :( أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) .

«الوزر» في الأصل مأخوذ من «الوزر» ـ على زنة خطر ـ ومعناه المأوى أو الكهف أو الملجأ الجبلي ، ثمّ استعلمت هذه الكلمة في الإعباء الثقيلة! لشباهتها الصخور الجبلية العظيمة ، وأطلقت على الذنب أيضا ، لأنّه يترك عبئا ثقيلا على ظهر الإنسان.

__________________

(١) وفّى مصدره توفية معناه البذل والأداء التامّ

(٢) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٢٤٦.

٢٦٠