الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156740 / تحميل: 6146
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الزُّبُرِ ) (١) .

فما الفرق بينكم وبين قوم فرعون وقوم نوح ولوط وثمود؟ فكما أنّ أولئك الأقوام قد عذّبوا بالطوفان تارة والزلازل والصواعق اخرى ، اقتصاصا منهم للكفر والظلم والطغيان والعصيان الذي كانوا عليه فما المانع أن يصيبكم العذاب ويكون مصيركم نفس المصير فهل أنتم أفضل منهم؟ وهل أنّ كفركم وعنادكم أخفّ حدة؟ وكيف ترون أنّكم مصونون من وقوع العذاب الإلهي؟ أألقي إليكم كتاب من السماء يعطيكم هذا الأمان؟

ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الادّعاءات ادّعاءات كاذبة لا يقوم عليها أي دليل( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ) (٢) .

«جمع» بمعنى مجموع ، والمقصود هنا هي الجماعة التي لها هدف وقدرة على إنجاز عمل ، والتعبير هنا بـ (منتصر) تأكيد على هذا المعنى لأنّه من مادّة (انتصار) بمعنى الانتقام والغلبة.

والجدير بالذكر هنا أنّ الآية السابقة كانت بصورة خطاب ، أمّا في الآية مورد البحث والآيات اللاحقة ، فإنّ الحديث عن الكفّار بلغة الغائب ، وهو نوع من أنواع التحقير ، أي أنّهم غير مؤهّلين للخطاب الإلهي المباشر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ ادّعاءهم بالقوّة والقدرة ادّعاء فارغ وقول هراء ، لأنّ الأقوام السابقة من أمثال قوم عاد وثمود وآل فرعون وأضرابهم كانوا أكثر قوّة وسطوة ، ومع ذلك فلم تغن عنهم قوّتهم شيئا حينما واجهوا العذاب ، وكانوا من الضعف كالقشّة اليابسة تتقاذفها الأمواج من كلّ مكان ، فكيف بمن هو أقل عددا وأضعف حيلة وقوّة ومنعة؟

__________________

(١) الضمير في «كفّاركم» يرجع في الظاهر (المشركي العرب) بقرينة الجملة( أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) .

(٢) بالرغم من أنّ (نحن) ضمير جمع فانّ خبرها (جميع) قد جاء مفردا ، وكذلك منتصر والتي جاءت خبرا بعد خبر أو صفة لـ (جميع) ، والسبب في ذلك فإنّ لفظ (جميع) وإن كانت مفردة إلّا أنّ المعنى (جمع).

٣٤١

ويواجه القرآن الكريم هؤلاء السادرين في غيّهم بإخبار غيبي حاسم وقوي ، حيث يقول :( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (١) .

والظريف هنا أن سيهزم من مادّة (هزم) على وزن (جزم) وفي الأصل بمعنى الضغط على الجسم اليابس لحدّ التلاشي. ولهذا السبب استعملت هذه الكلمة (هزم) في حالة تدمير الجيوش وانكسارها.

وربّما أشار هذا التعبير إلى النقطة التالية وهي : رغم حالة الاتّحاد والانسجام لهؤلاء القوم ظاهرا ، إلّا أنّهم كالموجودات اليابسة والفاقدة للروح ، فبمجرّد تعرّضها إلى ضغط قوي تتهشّم ، ونرى عكس ذلك في المؤمنين المتصّفين بالقوّة المقترنة بالمرونة ، حيث أنّهم إذا ثقلت عليهم المحن واشتدّت الأزمات وأحنتهم العاصفة فإنّهم سرعان ما يستعيدوا قواهم مرّة اخرى ليواجهوا مصاعب الحياة.

«دبر» بمعنى «خلف» في مقابل (القبل) بمعنى «أمام» ، وسبب ذكر هذه الكلمة هنا لبيان حالة الفرار من ساحة المعركة بصورة كليّة.

لقد صدق هذا التنبّؤ في معركة بدر وسائر الحروب الاخرى حيث كانت هزيمة الكفّار ساحقة ، فإنّه رغم قدرتهم وقوّتهم فقد تلاشى جمعهم.

وفي آخر الآية مورد البحث يشير سبحانه إلى أنّ الهزيمة التي مني بها المشركون سوف لن تكون في الدنيا فقط ، وإنّما هي في الآخرة أشدّ وأدهى ، حيث يقول البارئعزوجل :( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ ) .

وعلى هذا التصوّر ، فما عليهم إلّا أن ينتظروا هزيمة ما حقة في الدنيا ، ومصيرا سيّئا واندحارا أمرّ وأكثر بؤسا في الآخرة.

«أدهى» من مادّة (دهو) و (دهاء) بمعنى المصيبة والكارثة العظيمة والتي لا مخرج منها ولا نجاة ، ولا علاج لها ، وتأتي أيضا بمعنى الذكاء الشديد ، إلّا أنّ

__________________

(١) مع العلم أنّ من المناسب أن يقال (يولّون الأدبار) إلّا أنّه قيل هنا : (يولّون الدبر) ، لأنّ لهذه المعنى (جنس) حيث تكون في حكم الجمع.

٣٤٢

المقصود منها في الآية الكريمة هو المعنى الأوّل.

نعم إنّهم سيبتلون يوم القيامة بعذاب محتّم وعاقبة بائسة لا مفرّ منها.

* * *

ملاحظة

تنبّؤ إعجازي صريح :

ممّا لا شكّ فيه أنّه عند ما نزلت هذه الآيات في مكّة المكرّمة كان المسلمون أقليّة ضعيفة ، وكان العدو في أوج القوّة والقدرة ، ولم يكن أحد يتوقّع انتصار المسلمين بهذه السرعة ، فهو أمر غير قابل للتصديق في تلك الظروف ، ولا مجال للتنبّؤ به.

وكانت هجرة المسلمين بعد فترة وجيزة من هذا التاريخ حيث اكتسبوا خبرة وقوّة ، ممّا جعلهم يحقّقون الإنتصار والغلبة على المشركين في أوّل مواجهة عسكرية معهم ، وذلك في معركة بدر ، حيث وجّه المسلمون صفعة قويّة مفاجئة لمعسكر الكفر ، ولم يمض وقت طويل إلّا ونلاحظ أنّ الإيمان بالرسالة المحمديّة لم يقتصر على مشركي مكّة فحسب ، بل شمل الجزيرة العربية أجمع ، حيث استسلمت للدعوة الإلهيّة.

أليس هذا النبأ الغيبي الإلهي الذي واجهنا بهذه الصراحة والجديّة معجزة؟

ومن الواضح أنّ أحد عناصر الإعجاز في القرآن الكريم هو تضمّنه للأخبار الغيبية ، وهذا ما نلاحظه في الآية مورد البحث.

* * *

٣٤٣

الآيات

( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥) )

التّفسير

المؤمنون في ضيافة الله :

في الحقيقة إنّ هذه الآيات هي استمرار لبحث الآيات السابقة حول بيان أحوال المشركين والمجرمين في يوم القيامة. وآخر آية من تلك الآيات تعكس هذه الحقيقة بوضوح ، وهو أنّ يوم القيامة هو الموعد المرتقب لهؤلاء الأشرار في الاقتصاص منهم ، حيث يحمل المرارة والصعوبة والأهوال لهم ، والتي هي أشدّ وأقسى ممّا أصيبوا به في هذه الدنيا.

٣٤٤

وتتحدّث الآية الاولى ـ مورد البحث ـ عن ذلك حيث يقول سبحانه :( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) (١) .

يقول البارئعزوجل :( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) حيث يبيّن الله سبحانه أنّ العذاب الإلهي واقع عليهم ولا ريب فيه ، وسيواجهونه عمليّا رغم استهزائهم وسخريتهم وادّعائهم أنّه من نسج الأساطير.

«سقر» على وزن (سفر) وفي الأصل بمعنى تغيّر لون الجلد وتألّمه من أشعّة الشمس وما إلى ذلك. ولأنّ إمكانية تغيير لون الجلد وألمه الشديد من خصوصيات نار جهنّم ، لذا أطلق اسم (سقر) عليها. والمراد من (مسّ) هو حالة التماس واللمس ، وبناء على هذا فيقال في أهل النار : ذوقوا لمس نار جهنّم وحرارتها اللاذعة ، ذوقوا طعمها ، هل هي أكاذيب وخرافات وأساطير ، أم أنّها الحقيقة الصارخة؟

ويعتقد البعض أنّ (سقر) ليس اسم كلّ النار ، بل هو اسم مختّص بجانب منها تكون فيه النار حامية لدرجة مذهلة وخارقة.

وفي ثواب الأعمال عن الصادقعليه‌السلام : «إنّ في جهنّم لواديا للمتكبّرين يقال له سقر شكا إلى الله شدّة حرّة ، وسأله أن يأذن له أن يتنفّس فأحرق جهنّم»(٢) .

ولكي لا يتصوّر أنّ هذه الشدّة في العذاب لا تتناسب مع المعاصي ، يقول سبحانه :( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) .

نعم إنّ عذابهم في هذه الدنيا كان بتقدير وحساب ، وكذلك سيكون عقابهم المؤلم في الآخرة ، وليس الجزاء فقط ، ذلك أنّ الله سبحانه خلق كلّ شيء بحساب

__________________

(١) «سعر» : كما بيّنا سابقا في آخر الآية (٢٤) من نفس السورة لها معنيان : الأوّل : انّها جمع سعير بمعنى اشتعال النار. والثّاني : بمعنى الجنون ، والهيجان الذي يلازمه اضطراب التوازن الفكري ، وفي الآية مورد البحث يمكن أن يكون بالمعنيين معا ، وإذا قصدنا المعنى الثاني فيكون مفهوم الآية كذلك : أنّهم كانوا يقولون إذا اتّبعنا إنسانا مثلنا فإذا نحن في ضلال وجنون ، وهنا يردّ القرآن الكريم عليهم بقوله : ستعلمون يوم القيامة آثاركم وتكذيبكم للأنبياء هو الضلال والجنون.

(٢) تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

٣٤٥

وتقدير ، فالأرض والسماء والكائنات الحيّة والموجودات الجامدة وأعضاء الإنسان ومستلزمات الحياة كلّها خلقت بقدر معلوم ، ولا يوجد شيء في هذا الوجود بدون حساب وتقدير ، لأنّ الخلّاق عليم حكيم ومقدّر.

ثمّ يضيف تعالى إنّه ليست أعمالنا موافقة للحكمة فحسب ، بل انّها مقترنة مع القدرة والحسم ، لأنّه :( وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) .

وتتجسّد الإرادة الربّانية والأوامر الإلهيّة من خلال كلمة «كن» فيترتّب على ذلك فورا وجود الشيء. (حتّى كلمة «كن» جاءت من باب ضيق البيان ، وإلّا فإنّ الإرادة الإلهيّة متحقّقة بمجرّد الإرادة).

ولذلك فإنّ اليوم الذي تقوم فيه الساعة يحدث بأمر الله بلمح البصر ، وكلّ شيء يكون في مسار الآخرة حينئذ ، وتبعث الحياة من جديد في الأبدان.

كما أنّ المشيئة الإلهية في مجازاة المجرمين بالصواعق والصيحات السماوية والزلازل والطوفان والرياح العاتية كلّ ذلك يحدث بمجرّد الأمر الإلهي وبدون تأخير.

إنّ هذه الإنذارات الموجّهة للعصاة والمذنبين كلّها من أجل أن يعلموا أنّ الله ، كما هو حكيم في أمره فإنّه حازم في فعله ، فهو حكيم في عين الحزم ، وحازم في عين الحكمة ، فليحذروا مخالفة تعاليمه وأوامره.

وفي الآية اللاحقة يخاطب الكفّار والمجرمين مرّة اخرى ، ويلفت انتباههم. إلى مصير الأقوام السابقة حيث يقول :( وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

«أشياع» جمع (شيعة) وتطلق على الأتباع الذين ينشرون ويشيعون ما يرتبط بالشخص المتّبع في كلّ الحالات ويسندونه ويناصرونه ، وإذا استعملت بمعنى (تابع) فإنّها تكون بنفس القصد.

ومن الطبيعي فإنّ الأقوام السابقة لم يكونوا أتباعا وشيعة لمشركي مكّة وأمثالهم ، بل العكس هو الصحيح ، ولكن بما أنّ المؤيّدين لشخص ما يشبّهونه في

٣٤٦

سلوكه ، لذا فإنّ هذا المصطلح يطلق على الشبيه والمماثل أيضا.

ويجدر بنا القول بأنّ هذه الطائفة من مشركي مكّة كانوا يستعينون ويستفيدون من الخطّ الفكري الذي كانت الأقوام السابقة عليه ، ولهذا السبب فإنّ كلمة (أشياع) أطلقت على الأقوام السابقة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الكريمة تؤكّد هذه الحقيقة مرّة اخرى ، وهي أنّ أعمال مشركي قريش وممارساتهم هي نفس أعمال وممارسات وعقائد الأقوام السابقة ، لذا فلا يوجد دليل على أنّ مصيركم سوف يكون أفضل من مصيرهم ، فاتّعظوا وعوا.

ثمّ يشير القرآن إلى هذا الأصل وهو أنّ صفحة أعمال الأقوام السابقة لم تنته بموتهم ، بل هي باقية ومسجّلة عليهم ، يقول سبحانه :( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ) فكذلك أعمالكم مثبّتة ومحفوظة ليوم الحساب.

«زبر» جمع (زبور) بمعنى الكتاب ، وهي تشير إلى صحيفة أعمال الإنسان ، ويحتمل البعض أنّ المقصود هنا هو : «اللوح المحفوظ» ، ولكن هذا المعنى لا يتناسب مع صيغة الجمع.

ثمّ يضيف سبحانه :( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) .

وبناء على هذا فحاسب الأعمال في ذلك اليوم هو حساب شامل وتامّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، حيث يستلم المرجمون صفحة أعمالهم كاملة ، فيصعقون لهولها ويصطرخون لدقّتها( وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .(١)

«مستطر» من مادّة (سطر) في الأصل بمعنى (صفّ) سواء ما يتعلّق بالأفراد أو الأشجار أو الكلمات التي تصف على الأوراق ، ولكون المعنى الأخير أكثر

__________________

(١) الكهف ، ٤٩.

٣٤٧

استعمالا ، لذا يتبادر إلى الذهن معناها الأخير.

وعلى كلّ حال فإنّه إنذار آخر لهؤلاء العاصين والمغفّلين والجهلة.

ولمّا كانت السنّة المتّبعة في القرآن الكريم غالبا ما تعتمد المقارنة بين جبهة الصلاح والهدى من جهة ، وجبهة الفساد والضلال من جهة اخرى ، لأنّ في المقارنة يبرز التفاوت والاختلاف بصورة أفضل ، فهنا أيضا بعد الحديث عن مصير الكفّار والمجرمين يشير سبحانه إشارة مختصرة إلى العاقبة السعيدة والحبور العظيم الذي يكون من نصيب المتّقين حيث يقول سبحانه :( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ) .

(نهر) على وزن (قمر) ، وكذلك (نهر) على وزن (قهر) والاثنان يعنيان مجرى الماء الكثير ، ولهذا يطلق على الفضاء الواسع كذلك ، أو الفيض العظيم أو النور المنتشر (نهر) ـ على وزن قمر ـ.

وبغضّ النظر عن الحديث اللاحق ، يمكن أن يكون هذا المصطلح في الآية أعلاه بنفس المعنى الأصلي ، أي أنّ كلمة (نهر) بمعنى نهر الماء ، ولا إشكال في كون الكلمة بصيغة المفرد ، لكونها تدلّ على معنى الجنس والجمع ، فينسجم مع (جنّات) جمع «جنّة» ، ويمكن أن يكون المراد منها هو اتّساع الفيض الإلهي والنور العظيم في ظلال الجنّة ورحابها الواسعة ، وبذلك تشمل المعنيين.

ولكن نقرأ هنا في حديث للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي نقل عن الدرّ المنثور أنّه قال : «النهر : الفضاء والسعة ، وليس بنهر جار»(١) .

وفي آخر آية مورد البحث والتي هي آخر آية في سورة القمر يوضّح البارئ بصورة أكثر (مستقر المتّقين) حيث يقول سبحانه أنّهم :( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) .

ويا له من وصف رائع وظريف! حيث أنّ هذا الوصف يتميّز بخصوصيتين

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٣٩.

٣٤٨

تجمعان كلّ السماوات الرائعة :

الأولى : أنّ المكان هو (مستقرّ صدق) وليس فيه باطل ، بل كلّه حقّ يجد فيه المتّقون كلّ ما وعدوا به كاملا غير منقوص.

الثانية : أنّهم في جوار وقرب الله سبحانه ، وهذا هو المستفاد من كلمة (عند) والذي يشير إلى غاية القرب المعنوي. وهذا القرب هو من الله المالك القادر ما أروعه عن قرب من الربّ الكريم الوهّاب والذي يمنح العطايا والهبات لضيوفه المتّقين بجميل لطفه وعظيم إحسانه وواسع كرمه ، حيث جميع ما في الوجود تحت قبضته وإمرته ومالكيته ، وهو المنّان الذي لا ينقصه شيء في السماوات والأرض ، والذي وعد المتّقين بالخير العظيم وأعدّ لهم عظيم العطايا والإحسان.

والنقطة الجديرة بالذكر في هاتين الآيتين والتي تتحدّث فيها عن الهبات وجزاء أصحاب اليمين ، حيث في البداية تتحدّث عن العطايا الماديّة التي تشمل البساتين الوارفة والحدائق الغنّاء والأنهار الجارية ، ثمّ تتحدّث بعد ذلك عن الجزاء المعنوي العظيم ، والذي يتجسّد بحضورهم من المليك المقتدر. وذلك تهيئة للإنسان من مرحلة إلى اخرى ، يغمرها الشوق والحبور ، والرغبة في العمل الصالح ، خصوصا أنّ تعابير (المليك) و (المقتدر) و (مقعد صدق) تدلّ جميعها على دوام وبقاء هذا الحضور والقرب المعنوي من الذات الإلهيّة.

* * *

بحوث

١ ـ التّقدير والحساب في كلّ شيء

تشير الآية الكريمة( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) رغم إيجازها إلى حقيقة مهمّة كامنة في جميع الكون وحاكمة عليه ، وهي دقّة الخلق والتقدير في جميع الوجودات.

٣٤٩

ومهما تطوّر العلم فانّ الإنسان يطّلع على مزيد من هذه الحسابات والتقديرات الإلهيّة الدقيقة في عالم الوجود ، والتي تشمل الكائنات المجهرية والأجرام السماوية العظيمة.

فمثلا : نسمع عن روّاد الفضاء أنّهم طبقا للحسابات العلمية الدقيقة التي أنجزت بواسطة مئات الأفراد المتخصّصين المستخدمين العقول الإلكترونية ، أنّهم سيهبطون بسفنهم الفضائية بنفس النقطة المحدّدة لهم على سطح القمر ، مع العلم أنّ كلّ شيء سيتغيّر في الفترة الزمنية التي تسير فيها السفينة الفضائية بين الأرض والقمر ، حيث يدور القمر حول نفسه وكذلك حول الأرض ويتغيّر مكانه بصورة كليّة ، وتدور الأرض حول نفسها ، وكذلك حول الشمس وبسرعة فائقة. ولأنّ جميع هذه التغييرات والحركات محسوبة ، ومقدّرة بصورة مضبوطة ودقيقة بحيث لا تتخلّف عن هذه الأنظمة ، يستطيع الفضائيون الهبوط في النقطة المحدّدة لهم على سطح القمر نتيجة تلك الحسابات والتقديرات الدقيقة.

ويستطيع المنجّمون كذلك من التنبّؤ بالخسوف والكسوف الجزئي والكلّي ، وقبل عشرات السنين ، وفي مختلف نقاط العالم ، وتلك قرائن ودلائل على دقّة المقاييس في هذا الوجود العظيم.

وفي الكائنات الصغيرة والديدان الدقيقة نلاحظ دقّة المقاييس والحساب بصورة تدعو للظرافة والإعجاب والانبهار عند ما نشاهد طبيعة العروق والأعصاب والأجهزة المختلفة لهذه الكائنات.

وعند ما ندقّق في الكائنات المجهرية كالمكروبات والفيروسات والأميبيات يبلغ إعجابنا أوجه لما نلاحظه من الدقّة فيها ، حيث إنّ الواحد على الألف من المليم وأصغر من ذلك يدخل في عالم الحساب ، والأعجب من ذلك حينما ندخل عالم الذرّة حيث تصل الدقة فيها إلى حدّ لا يصدّق وخارج عن الحدود المألوفة.

إنّ هذه المقاييس ليست مختّصة بالمسائل الكميّة فقط ، بل إنّ التركيبات

٣٥٠

الكيفية أيضا تتمتّع بنفس الخصوصيات الحسابية ، فالنظام المتحكّم على روح الإنسان وميوله وغرائزه ، وكذلك المقاييس الدقيقة في مسير المتطلّبات الفردية والاجتماعية للإنسان إذا طرأ عليها أي تغيير فإنّ النظام الحياتي الفردي والاجتماعي سيتعرّض للتغيّر والانهيار.

وفي عالم الطبيعة هنالك موجودات يتغذّى بعضها على البعض الآخر ، وكلّ منها يوقف حالة النمو والتكاثر لكلّ منها ، فالطيور الجارحة تتغذّى على لحوم الطيور الصغيرة ، وتمنع تزايدها بصورة أكثر من اللازم حتّى لا تضرّ المحاصيل الزراعية ، ولذا فإنّ الطيور الجارحة معمّرة ، وهذه الطيور المعمّرة قليلة البيض والفراخ ، وعدد محدود من هذه الأفراخ يستطيع العيش ، حيث يستدعي نموّها وبقاؤها ظروفا خاصّة ، ولو قدّر لهذه الطيور أن يكون لها فراخا كثيرة وبهذا العمر الطويل لأدّى ذلك إلى انقراض الطيور الصغيرة.

إنّ لهذه الحالة أمثلة عديدة وواسعة في عالم الحيوان والنبات ، والمطالعات المختلفة في هذا المجال تزيدنا وعيا في فهم الآية الكريمة :( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) .

٢ ـ التقدير الإلهي وإرادة الإنسان

قد يتوهّم البعض من خلال ما طرحته الآية الكريمة من الإعتقاد بالتقدير والحساب الإلهي أنّ أعمالنا وممارساتنا التي قوم بها لا بدّ أن تكون واقعة ضمن هذا القانون فهي مخلوقة لله تعالى أيضا وبالتالي فلسنا مسئولين عنها ولا اختبار لنا فيها.

ولكن كما قلنا سابقا فإنّ أعمالنا هي بتقدير ومشيئة البارئعزوجل ، ولن تخرج عن دائرة قدرته وإرادته أبدا ، وقد جعلنا الله سبحانه مختارين فيها ضمن ما قدّر لنا ، ولذلك عيّن لنا مسئوليات وتكاليف فلو لم نكن مختارين فإنّ هذه

٣٥١

المسؤوليات والتكاليف ستكون بلا معنى حيث أنّ فقدان الإرادة يجعلنا مجبورين في أعمالنا ، وهذا خلاف التقدير الإلهي.

ونلاحظ في مقابل إفراط (الجبريين) تفريط جماعة (القدريين) أو المفوّضة الذين يذهبون صراحة إلى القول بأنّ الله لا يتدخّل في أعمالنا وممارساتنا ، حيث إنّهم يحدّون ويحجمون دائرة الهيمنة الإلهيّة على الإنسان ويعتقدون باستقلاليتهم تماما عن المشيئة الإلهيّة ، وبذلك سلكوا طريق الشرك من هذه الجهة.

والحقيقة أنّ الجمع بين أصلي (التوحيد والعدل) يحتاج إلى دقّة وضبط ، فلو فسّرنا التوحيد بأنّ الله خالق كلّ شيء حتّى أعمالنا بشكل لا نملك أي إختيار فيها فإنّنا نكون بذلك قد أنكرنا أصل العدل ، لأنّ مقترفي الذنوب مجبرون على ارتكاب المعاصي ثمّ ينتظرهم الجزاء المتمثّل بالعقاب ، وهذا خلاف العدالة.

وإذا فسّرنا «العدل» بأنّ الله تعالى ليس له أي لون من التدخّل في أعمالنا فإنّنا سنخرج الإرادة الإلهيّة من الهيمنة علينا ، وعندئذ نقع في وادي الشرك.

ويمثّل مفهوم «الأمر بين الأمرين» الإيمان الخالص والصراط المستقيم وخطّ الوسط بين (الجبريين والقدريين) وهو أن نعتقد بأنّنا مختارين ، واختيارنا هذا يكون ضمن الهيمنة الإلهية ، حيث تستطيع الإرادة الإلهية في أي لحظة أن تسلب منّا هذا الإختيار ، وهذا ما يذهب إليه أهل البيتعليهم‌السلام .

والنقطة الجديرة بالذكر أنّه وردت في نهاية الآيات مورد البحث روايات عديدة في ذمّ هاتين الجماعتين في كتب تفسير أهل السنّة والشيعة ، ومن جملتها نقرأ في حديث النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «صنفان من امّتي ليس لهم في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية ، أنزلت فيهم آية في كتاب الله :( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) »(١) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني نقل عن البخاري والترمذي وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه وابن عبّاس ، ج ٢٧ ، ص ٨١ ، وذكر القرطبي مثل هذا الحديث في تفسيره ، ج ٩ ، ص ٦٣٨.

٣٥٢

«المرجئة» من مادّة (إرجاء) بمعنى تأخير الشيء ، وهذا اصطلاح يستعمل للجبريين ، لأنّهم لم يلاحظوا الأوامر الإلهيّة وارتكبوا المعاصي لظنّهم أنّهم مجبورون ، أو لاعتقادهم أنّ مصير مرتكبي الذنوب الكبيرة غير معلوم لتصوّرهم أنّ البتّ فيها مؤجّل إلى يوم القيامة(١) .

كما نقرأ في حديث للإمام الباقرعليه‌السلام : «نزلت هذه الآية في القدرية :( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا* كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) (٢) .

إشارة إلى أنّ المقصود من التقدير والحساب هنا أنّ الله سبحانه قد جعل لكلّ ذنب ما يناسبه من الحساب والجزاء الدقيق. وهذا تفسير آخر ممّا فسّرت به الآية.أو أنّ المقصود بها إلفات نظر الذين أنكروا التقدير الإلهي وظنّوا أنّ الله تعالى ليست له تدخّل في أعمالهم وأنّهم قادرون على كلّ شيء ، ويأتي إليهم التنبيه الإلهي في ضرورة ملاحظة القدرة الإلهية العظيمة ، وإلّا فعليكم أن تذوقوا جزاء انحرافكم وهو مسّ سقر).

٣ ـ الأمر الإلهي كلمة واحدة

من الواضح أن لا فاصلة زمانية بين العلّة التامّة والمعلول ، لذلك ورد في اصطلاح الفلاسفة أن تقدّم العلّة على المعلول أمر رتبي ، وبالنسبة إلى الإرادة الإلهية في أمر الإيجاد والخلق والذي هو أوضح مصداق للعلّة التامّة ، أو أنّه مصداق وحيد للعلّة التامّة يتّضح هذا المعنى أكثر.

ولذلك فإذا فسّروا الآية :( وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ ) بكلمة (كن) فإنّها من ضيق البيان. وإلّا فإنّ كلمة (كن) مركّبة من الكاف والنون ، وهي أيضا تحتاج إلى زمان ، حتّى (الفاء) في (فيكون) والتي توضّح نوعا من الزمان فإنّها من ضيق البيان كذلك ،

__________________

(١) مجمع البحرين مادّة (رجا).

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٨٦.

٣٥٣

بل حتّى تشبيه( كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (١) (٢) .

وعند ما يتحدّث عن الأمر الإلهي في يوم القيامة ويشبهه بـ (لمح بالبصر) يضيف (أو هو أقرب).

وعلى كلّ حال فإنّ الحديث هنا عن الزمان حسب التعبيرات اليومية لنا ، وكذلك فإنّ القرآن الكريم يخاطبنا بلغتنا ، وإلّا فإنّ أوامر الله تعالى فوق الزمان.

وضمنا فإنّ التعبير بـ (واحدة) يمكن أن يكون إشارة لهذا المعنى ، وهو أنّ أمرا واحدا يكفي ولا يحتاج إلى تكرار ، أو أنّها إشارة إلى أنّ أمره تعالى حول الصغير والكبير وحتّى خلق السموات الواسعة أجمع لا يختلف عن خلقه لذرّة التراب.

وفي الأصل فإنّ الكبير والصغير والسهل الصعب يكون في مقاييسنا الفكرية المحدودة وقدرتنا الضئيلة ، أمّا عند ما يكون الحديث عن القدرة الإلهية العظيمة فإنّ هذه المفاهيم تتلاشى تماما ، ويصبح الكلّ بلون واحد وشكل واحد ، (فتدبّر).

ويطرح هنا «سؤال» : وهو إذا صحّ معنى الجملة أعلاه وهو أنّ كلّ شيء يوجد آنا (في الآن) فإنّ هذا الأمر لا يتناسب مع مشاهدة التدرّج في حوادث العالم.

ويتّضح «الجواب» عند ما نلاحظ هذه النقطة ، وهي أنّ أمره تعالى في كلّ مكان وكلّ شيء هو (كلمة واحدة) والتي تكون أسرع من لمح البصر ، ولكن محتوى الأمر الإلهي متفاوت ومختلف ، فإذا صدر الأمر الإلهي للجنين أن يكمل دورته تسعة أشهر ، فلن تزيد وتنقص لحظة واحدة. والفورية هنا هي أن يكمل الجنين الدورة في نهاية المدّة المحدّدة ، ولو اعطي أمر للكرة الأرضية أن تدور في كلّ أربع وعشرين ساعة مرّة حول نفسها؟ فإنّ هذا الأمر غير قابل للتخلّف ، وبتعبير آخر فإنّ تنفيذ أمره تعالى لا يحتاج إلى أيّ وقت زماني ، والموجود هنا هو محتوى الأمر. ومن خلال معرفة السنّة التدريجية للعالم المادّي وخاصيّته

__________________

(١) «لمح» على وزن (مسح) والأصل بمعنى لمعان البرق ثمّ جاءت بمعنى النظر السريع.

(٢) النحل ، ٧٧.

٣٥٤

وطبيعة الحركة ـ نلاحظ أنّها تتأثّر بالزمان.

٤ ـ بداية ونهاية سورة القمر

النقطة الجديرة بالذكر أنّ «سورة القمر» بدأت بإنذار وتخويف المشركين بقرب وقوع يوم القيامة ، وانتهت بهدوء يطمئن المؤمنين الحقيقيين في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وهذا هو الطريق المرسوم للتربية ، حيث يبدأ بالتحذير والتخويف وينتهي بطمأنة النفوس المضطربة وتقويم الأهواء المنحرفة ورفع الخوف والاضطراب وعندئذ تغمر الأرواح بالسكينة والهدوء بالقرب من الجوار الإلهيّ الأبدي.

والحقيقة أنّ الإيمان بأنّ الله هو المالك الذي ليس له منازع والحاكم الذي لا رادّ لحكمه في كلّ الوجود ، واليقين بأنّ الله هو المقتدر ، النافذة قدرته على كلّ شيء يبعث في الإنسان هدوءا منقطع النظير.

وقد نقل بعض المفسّرين أنّ هذين الاسمين المقدّسين مليك ومقتدر لهما تأثير عميق في استجابة الدعاء حتّى نقل بعض الرواة : إنّني داخل المسجد وكنت أتصوّر بأنّه الصبح ولكن تبيّن لي عدم انقضاء الليل وبقي قسط كبير منه ، ولم يكن أحد غيري في المسجد ، وفجأة سمعت حركة من ورائي ، فخفت ولكنّي رأيت أنّ شخصا مجهولا قد ناداني : أيّها الشخص المملوء قلبك خوفا لا تخف وقل : «اللهم إنّك مليك مقتدر ، ما تشاء من أمر يكون». ثمّ اطلب ما تريد ، فيقول : إنّي قرأت هذا الدعاء المختصر ولم أطلب شيئا إلّا وأجيب(١) .

ربّنا ، أنت المليك المقتدر فتفضّل علينا بالتوفيق في كلّ إيمان وعمل وتقوى ، كي نكون في مقعد صدق وفي جوار قربك ورحمتك.

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ٨٣.

٣٥٥

إلهنا ، نحن نؤمن أنّ يوم القيامة يوم رهيب وصعب ومرّ للعاصين ، أملنا في ذلك اليوم بلطفك وكرمك.

ربّاه ، امنحنا روحا يقظة وعقلا واعيا لكي نتّعظ بمصير السابقين ولا نسير في مسارهم المهلك

نهاية سورة القمر

* * *

٣٥٦
٣٥٧

سورة

الرّحمن

مكّية

وعدد آياتها ثمان وسبعون آية

٣٥٨

«سورة الرّحمن»

محتوى السورة :

توضّح هذه السورة بصورة عامّة النعم الإلهية المختلفة ، سواء كانت ماديّة أو معنوية ، والتي تفضّل بها البارئعزوجل على عباده وغمرهم بها ، ويمكن تسميتها لهذا السبب بـ (سورة الرحمة) أو (سورة النعمة) ولهذا فإنّها بدأت بالاسم المبارك (الرحمن) الذي يشير إلى صنوف الرحمة الإلهية الواسعة ، وتنهي هذه السورة آياتها بإجلال وإكرام البارئ سبحانه ، وبإقرار عباده بالنعم التي تفضّل بها عليهم (إحدى وثلاثين مرّة) وذلك من خلال تكرار آية :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وبناء على هذا فإنّ السياق العام للسورة يتعلّق بالحديث عن المنن والنعم الإلهيّة المختلفة والعظيمة. ومن جهة اخرى فإنّنا نستطيع أن نقسّم محتويات السورة إلى عدّة أقسام :

القسم الأوّل : الذي يشمل أوّل آيات السورة حيث الحديث عن النعم الإلهية الكبيرة ، سواء تلك التي تتعلّق بخلق الإنسان أو تربيته وتعليمه ، أو الحساب والميزان ، وكذلك سائر الأمور الاخرى التي يتجسّد فيها الخير للإنسان ، إضافة إلى الغذاء الروحي والجسمي له.

القسم الثّاني : يتناول توضيح مسألة خلق الإنس والجنّ.

القسم الثّالث : يتضمّن توضيح الآيات والدلائل الإلهيّة في الأرض والسماء.

٣٥٩

القسم الرّابع : وفيه بعد تجاوز النعم الإلهية على الإنسان في الدنيا تتحدّث الآيات عن نعم الله في عالم الآخرة بدقّة وظرافة ، خاصّة عن الجنّة ، وبصورة أعمّ وأشمل عن البساتين والعيون والفاكهة وحور العين وأنواع الملابس من السندس والإستبرق

وأخيرا في القسم الخامس نلاحظ الحديث باختصار عن مصير المجرمين وجزائهم المؤلم المحسوب ولأنّ الأصل في هذه السورة أنّها مختّصة ببيان الرحمة الإلهيّة ، لذا لم نلاحظ تفاصيل كثيرة حول مصيرهم ، خلافا لما نلاحظه في موضوع الحديث عن النعم الخروية حيث التفصيل والشمول الذي يشرح قلوب المؤمنين ويغمرها بالسعادة والأمل ، ويزيل عنها غبار الحزن والهمّ ، ويغرس الشوق في نفوسهم

إنّ تكرار آية :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) وفي مقاطع قصيرة أعطت وزنا متميّزا للسورة ، وخاصّة إذا قريء بالمعنى المعبّر الذي يستوحى منها فإنّ حالة من الشوق والانبهار تحصل لدى الإنسان المؤمن.

ولذلك فلا نعجب عند ما نقرأ في حديث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «لكلّ شيء عروس ، وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره»(١) .

والجدير بالذكر أنّ مصطلح «العروس» يطلق في اللسان العربي على المرأة والرجل ما داموا في مراسيم الزواج(٢) .

وبما أنّ المرأة والرجل في تلك المراسم في أفضل وأتمّ الحالات وأكمل الاحترامات ، ومن هنا فإنّ هذا المصطلح يطلق على الموجودات اللطيفة جدّا وموضع الاحترام.

إنّ سبب إختيار اسم (الرحمن) لهذه السورة لتتناسب التسمية مع المضمون ، وهذا واضح.

__________________

(١) مجمع البيان بداية سورة الرحمن ، وجاء كذلك في الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٤٠.

(٢) لسان العراب ومجمع البحرين وصحاح اللغة و.

٣٦٠

*(الشاعر) *

أبو عبد الله محمَّد بن أحمد بن عبد الله(١) الكاتب النحويّ المصريّ الملقَّب بالمفجَّع. أوحديٌّ من رجالات العلم والحديث، وواسطة العقد بين أئمَّة اللغة والأدب، وبيت القصيد في صاغة القريض، ومن المعدودين من أصحابنا الإماميَّة، مدحوه بحسن العقيدة، وسلامة المذهب، وسداد الرأي، وكان كلُّ جنوحه إلى أئمَّة أهل البيت عليهم السَّلام، وقد أكثر في شعره من الثناء عليهم؛ والتفجّع لما انتابهم من المصائب والفوادح، فلم يزل على ذلك حتّى لقّبه مناوئوه المتنابزون بالألقاب بـ[المفجع] وإليه يوعز بقوله:

إن يكن قيل لي: المفجَّع نبزاً

فلعمري أنا المفجَّع همّا

ثمَّ صار لقباً له حتّى عند أوليائه لذلك السبب المذكور كما قاله النجاشي والعلّامة؛ ولبيت قاله كما في «معجم الشعراء» للمرزباني ص ٤٦٤، وكأنَّه يريد البيت المذكور.

ثمَّ أنَّ المصرَّح به في معجمي الشعراء والأُدباء للمرزباني والحموي، والوافي بالوفيات للصفدي: إنَّ المترجَم من المكثرين من الشعر، وذكر إبن النديم أنَّ شعره في مائة ورقة، ويؤكِّده ما قاله النجاشي والعلّامة من أنَّ له شعراً كثيراً في أهل البيت عليهم السَّلام، وهو الذي يُعطيه وصفهم له من أنَّه كان كاتباً شاعراً بصيراً بالغريب كما في «مروج الذهب»، ومن أنَّه من وجوه أهل اللغة والأدب، وقال أبو محمّد إبن بشران(٢) : كان شاعر البصرة وأديبها، وكان يجلس في الجامع بالبصرة فيكتب عنه ويقرأ عليه الشعر واللغة والمصنَّفات وشعره مشهورٌ، وكان أبو عبد الله الأكفاني راويته، وكتب لي بخطِّه من مليح شعره شيئاً كثيراً، وشعره كثيرٌ حسنٌ، وله في جماعة من كبار أهل الأهواز مدائح كثيرة وأهاجٍ، وله قصيدةٌ في أبي عبد الله إبن درستويه يرثيه فيها وهو حيٌّ يقول فيها ويلقِّبه بدهن الآجر.

مات دهن الآحر فاخضرَّت الأر

ض وكادت جبالها لا تزولُ

_____________________

١ - عبيد الله في معجم الأدباء.

٢ - حكاه الحموي في معجم الأدباء عن تاريخه ونحن نذكره ملخصاً.

٣٦١

ويصف أشياء كثيرة فيها، وكان يُكثر عند والدي ويُطيل المقام عنده وكنت أراه عنده وأنا صبيٌّ بالأهواز؛ وله إليه مراسلات وله فيه مدحٌ كثيرٌ كنت جمعتها فضاعت أيّام دخول إبن أبي ليلى الأهواز ونهب [روزناماتها](١) وكان منها قصيدةٌ بخطِّه عندي يقول فيها:

لو قيل للجود: مَن مولاك قال: نعم

عبد المجيد المغيرة بن بشران

وأذكر له من قصيدة أُخرى:

يا مَن أطال يدي إذ هاضني زمني

وصرت في المصر مجفوّاً ومطَّرحا

أنقذتني من أُناس عند دينهمُ

قتل الأديب إذا ما علمه اتَّضحا

لقي المفجّع ثعلباً وأخذ عنه وعن غيره، وكان بينه وبين إبن دُريد مهاجاة كما في «فهرست» إبن النديم، و«الوافي بالوفيات» للصفدي، ويقوى القول ما في «مروج الذهب» من أنّه صاحب الباهليّ المصريّ الذي كان يناقض إبن دريد. غير أنَّ الثعالبي ذكر في «اليتيمة» أنّه صاحب إبن دريد، وقام مقامه في التأليف والإملاء.ولعلّهما كانتا في وقتين من أمد تعاصرهما.

يروي عنه أبو عبد الله الحسين بن خالويه. وأبو القاسم الحسن بن بشير بن يحيى. وأبو بكر الدوري. وكان يُنادم ويُعاشر من أبي القاسم نصر بن أحمد البصري الخبزأرزي الشاعر المجيد المتوفّى ٣٢٧، وأبي الحسين محمّد بن محمّد المعروف بابن لنكك البصريِّ النحويِّ، وأبي عبد الله الأكفائي الشاعر البصريِّ.

آثاره القيمة

١ - كتاب المنقذ من الإيمان. قال الصفدي في «الوافي بالوفيات» ١٣٠: يشبه كتاب «الملاحن» لابن دريد وهو أجود منه. ينقل عنه السيوطي في شرح المعنى فوائد أدبيَّة.

٢ - كتاب قصيدته في أهل البيت عليهم السَّلام.

٣ - كتاب الترجمان في معاني الشعر. يحتوي على ثلاثة عشر حدّاً وهي: حدّ

_____________________

١ - جمع «روزنامة» فارسية، يعني: الجريدة اليوميّة.

٣٦٢

الإعراب. حدّ المديح. حدّ البخل. حدّ الحلم والرأي. حدّ الهجاء. حدّ اللغز. حدّ المال. حدّ الاغتراب. حدّ المطايا. حدّ الخطوب: حدّ النبات. حدّ الحيوان. حدّ الغزل. قال النجاشي: لم يعمل مثله في معناه.

٤ - كتاب الإعراب.

٥ - كتاب أشعار الجواري. لم يتمّ.

٦ - كتاب عرائس المجالس.

٧ - كتاب غريب شعر زيد الخليل الطائي.

٨ - كتاب أشعار أبي بكر الخوارزمي.

٩ - كتاب سعادة العرب.

ذكر المرزباني للمفجَّع في مدح أبي الحسن محمّد بن عبد الوهاب الزينبيِّ الهاشمي من قصيدة قوله:

للزينبيِّ على جلالة قدره

خلقٌ كطعم الماء غيرُ مزنَّدِ(١)

وشهامةٌ تقصي الليوث إذا سطا

وندى يغرِّق كلَّ بحر مزبدِ

يحتلُّ بيتاً في ذؤابة هاشم

طالت دعائمه محلَّ الفرقدِ

حرٌّ يروح المستميح ويغتدي

بمواهب منه تروح وتغتدي

فإذا تحيَّف ما له إعطاؤه

في يومه نهك البقيَّة في غدِ(٢)

بضياء سنَّته المكارم تهتدي

وبجود راحته السحائب تقتدي

مقدار ما بيني وما بين الغنى

مقدار ما بيني وبين المربدِ(٣)

وفي «معجم الأدباء» نقلاً عن تاريخ أبي محمّد عبد الله بن بشران أنّه قال: دخل المفجَّع يوماً إلى القاضي أبي القاسم عليِّ بن محمّد التنوخي فوجده يقرأ معاني على العبيسي فأنشد:

_____________________

١ - أي غير بخيل ولا ضيق الحال.

٢ - تحيف: تنقص. ونهك. أفنى

٣ - المربد: فضاء وراء البيوت يرتفق به.

٣٦٣

قد قدم العُجب على الرّويسِ

وشارفَ الوهدُ أبا قبيسِ(١)

وطاول البقل فروع الميسِ

وهبَّت العنز لقرع التيسِ(٢)

وادَّعت الروم أباً في قيسِ

واختلط الناس اختلاط الحيسِ(٣)

إذ قرأ القاضي حليف الكيسِ

معاني الشعر على العبيسي

وألقى ذلك إلى التنوخي وانصرف. قال: ومدح أبا القاسم التنوخي فرأى منه جفاءً فكتب إليه:

لو أعرض الناس كلّهم وأبوا

لم ينقصوا رزقيَ الذي قُسما

كان ودادٌ فزال وانصر ما

وكان عهدٌ فبان وانهدما

وقد صحبنا في عصرنا أُمماً

وقد فقدنا من قبلهم أُمما

فما ملكنا هزلاً ولا ساخت الـ

أرض ولم تقطر السماء دما

في الله من كلِّ هالك خلفٌ

لا يرهب الدَّهر مَن به اعتصما

حرٌّ ظننّا به الجميل فما

حقَّق ظنّاً ولا رعى الذَّمما

فكان ماذا ما كلّ معتمد

عليه يرعى الوفاء والكرما

غلطت والنّاس يغلطون وهل

تعرف خلقاً من غلطةٍ سلما؟

من ذا إذا اُعطي السَّداد فلم

يُعرف بذنبٍ ولم يزل قدما؟

شلّت يدي لِمْ جلست عن تفهٍ

أكتب شجوي وامتطي القلما

يا ليتني قبلها خرست فلم

أعمل لساناً ولا فتحت فما

يا زلَّة ما أقلت عثرتها

أبقت على القلب والحشا ألما

من راعه بالهوان صاحبه

فعاد فيه فنفسه ظلما

وله قوله:

لنا صديقٌ مليح الوجد مقتبلٌ

وليس في ودِّه نفعٌ ولا بركه

_____________________

١ - الرويس: تصغير روس. وهو السيئ يقال. رجل روس. أي: رجل سوء. والتصغير للتحقير. الوهد: المنخفض من الأرض.

٢ - الميس: نوع من الكرم. وهبت: نشطت وأسرعت.

٣ - الحيس: تمر يخلط بسمن. وأقط فيعجن وربما جعل فيه سويق فيمتزج.

٣٦٤

شبَّهته بنار الصيف يوسعنا

طولاً ويمنع منّا النوم والحركه

وللمفجَّع كما في شرح إبن أبي الحديد قوله:

إن كنتُ خنتكم المودَّة غادراً

أو حلتُ عن سنن المحبِّ الوامقِ

فمسحت في قبح ابن طلحة إنَّه

ما دل قطُّ على كمال الخالقِ

وله في «معجم الأدباء» ما قاله حين دامت الأمطار وقطعت عن الحركة:

يا خالق الخلق أجمعينا

وواهب المال والبنينا

ورافع السَّبع فوق سبع

لم يستعن فيهما معينا

ومَن إذا قال كن لشيءٍ

لم تقع النون أو يكونا

لا تسقنا العام صوب غيث

أكثر من ذا فقد روينا

وله وقد سأل بعض أصدقائه أيضاً رقعةً وشعراً له يهنَّئه في مهرجان إلى بعض فقصَّر حتّى مضى المهرجان قوله:

إنَّ الكتاب وإن تضمَّن طيّه

كنه البلاغة كالفصيح الأخرسِ

فإذا أعانته عناية حامل

فجوابه يأتي بنجح منفَّسِ

وإذا الرَّسول ونى وقصَّر عامداً

كان الكتاب صحيفة المتلمّسِ

قد فات يوم المهرجان فذكره

في الشعر أبرد من سخاء المفلسِ

فسئل عن سخاء المفلس؟ فقال: يَعد في إفلاسه بما لا يفي به عند إمكانه، ومن ملحه قوله لإنسان أهدى إليه طبقاً فيه قصب السكر والاُترنج والنارنج:

إنَّ شيطانك في الظر

ف لشيطانٌ مريدُ

فلهذا أنت فيه

تبتدي ثمَّ تعيدُ

قد أتتنا تحفةٌ منـ

ـك على الحسن تزيدُ

طبقٌ فيه قدودٌ

ونهودٌ وخدودُ(١)

وذكر له الوطواط في «غرر الخصايص» ص ٢٧٠ قوله يستنجز به:

أيّها السيِّد عش في غبطة

ما تغنّي طائرُ الأيك الغردْ

_____________________

١ - النهود جمع النهد: الثدي، وأراد بها الاترنج لاستدارته. وخدود: جمع خد. أراد بها النارنج.

٣٦٥

ليَ وعدٌ منك لا تُنكره

فاقضه أنجز حرٍّ ما وعدْ

أنت أحييت بمبذول الندى

سنن الجود وقد كان همدْ

فإذا صال زمانٌ أوسطا

فعلى مثلك مثلي يعتمدْ

م - ذكر له النويري في «نهاية الإرب» ص ٧٧:

ظبيٌ إذا عقرب أصداغه

رأيت ما لا يحسن العقربُ

تفّاح خدَّيه له نضرةٌ

كأنَّه من دمعتي يشربُ

ولد المفجّع بالبصرة وتوفّي بها سنة ٣٢٧ كما في «معجم الأدباء» نقلاً عن تاريخ معاصره أبي محمّد عبد الله بن بشران قال: كانت وفاته قبل وفاة والدي بأيّام يسيرة ومات والدي في يوم السبت لعشر خلون من شعبان سنة سبع وعشرين وثلثماءة.

وقال المرزباني: إنّه مات في سنة قبل الثلاثين وثلثمائة. وأرَّخه الصفدي في «الوافي بالوفيات» بسنة عشرين وثلثمائة، وكذلك القاضي في «المجالس» والسيوطي في «البغية» وتبعهم آخرون. والمختار ما حكاه الحموي عن تأريخ أبي محمّد إبن بشران.

تجد ترجمة المفجّع في فهرست إبن النديم ١٢٣. فهرست الشيخ ١٥٠. معجم الشعراء للمرزباني ٤٦٤. يتيمة الدهر ٢ ص ٣٣٤. فهرست النجاشي ٢٦٤، مروج الذهب ٢ ص ٥١٩، معجم الأدباء ١٧ ص ١٩٠ - ٢٠٥، الوافي بالوفيات للصفدي ١ ص ١٢٩، خلاصة الأقوال للعلّامة، بغية الوعاة ١٣، مجالس المؤمنين ٢٣٤، جامع الرواة للأردبيلي، منهج المقال ٢٨٠، روضات الجنات ٥٥٤، الكنى والألقاب ٣ ص ١٦٣، الأعلام للزركلي ٣ ص ٨٤٥، آثار العجم ٣٧٧.

٣٦٦

القرن الرابع

١٨

أبو القاسم الصنوبري

المتوفّى ٣٣٤

ما في المنازل حاجةٌ نقضيها

إلّا السَّلام وأدمعٌ نذريها

وتفجّعٌ للعين فيها حيث لا

عيشٌ أُوازيه بعيشي فيها

أبكي المنازل وهي لو تدري الذي

بحث البكاء لكنت أستبكيها

بالله يا دمع السحائب سقنها

ولئن بخلت فأدمعي تسقيها

يا مغرياً نفسي بوصف عزيزةٍ

أغريت عاصيةً على مغريها

لا خير في وصف النساء فأعفني

عمّا تكلّفنيه من وصفيها

يا رُبَّ قافيةٍ حلى إمضاؤها

لم يحل ممضاها إلى ممضيها

لا تطمعنَّ النفس في إعطائها

شيئاً فتطلب فوق ما تُعطيها

حبّ النبيِّ محمَّد ووصيِّه

مع حبِّ فاطمة وحبِّ بنيها

أهل الكساء الخمسة الغرر التي

يبني العلا بعلاهمُ بانيها

كم نعمةٍ أوليت يا مولاهمُ

في حبِّهم فالحمد للموليها

إنَّ السفاه بشغل مدحي عنهمُ

فيحقُّ لي أن لا أكون سفيها

هم صفوة الكرم الذي أصفاهمُ

ودِّي وأصفيت الذي يصفيها

أرجو شفاعتهم فتلك شفاعة

يلتذُّ برد رجائها راجيها

صلّوا على بنت النبيِّ محمَّد

بعد الصَّلاة على النبيِّ أبيها

وابكوا دماء لو تشاهد سفكها

في كربلاء لما ونت تبكيها

تلك الدِّماء لو أنَّها توقى إذن

كانت دماء العالمين تقيها

لو أنَّ منها قطرة تُفدى إذن

كنا بها وبغيرنا نفديها

إنَّ الذين بغوا إراقتها بغوا

مشؤمة العقبى على باغيها

٣٦٧

قُتل ابن من أوصى إليه خير مَن

أوصى الوصايا قطُّ أو يوصيها

رفع النبيُّ يمينه بيمينه

ليرى ارتفاع يمينه رائيها

في موضع أضحى عليه منبِّهاً

فيه وفيه يُبدئ التنبيها

آخاه في «خمٍّ» ونوَّه باسمه

لم يأل في خير به تنويها

هو قال: أفضلكم عليٌّ إنَّه

أمضى قضيَّته التي يمضيها

هو لي كهارون لموسى حبَّذا

تشبيه هارون به تشبيها

يوماه يومٌ للعدى يرويهمُ

جوراً ويومٌ للقنى يرويها

يسع الأنام مثوبة وعقوبة

كلتاهما تمضي لما يمضيها

[إلى آخر القصيدة ٤٢ بيتاً]

وله من قصيدة ذكرها صاحب «الدرِّ النظيم في الأئمَّة اللهاميم»:

هل أُضاخ كما عهدنا أُضاخا؟(١)

حبَّذا ذلك المناخ مناخا

يقول فيها:

ذكر يوم الحسين بالطفِّ أودى

بصماخي فلم يدع لي صماخا

متبعات نساؤه النوح نوحاً

رافعات إثر الصراخ صراخا

منعوهُ ماء الفرات وظلّوا

يتعاطونهُ زلالاً نُقاخا(٢)

بأبي عترة النبيِّ وأُمِّي

سدَّ عنهم معاندٌ أصماخا

خير ذا الخلق صبيةً وشباباً

وكهولاً وخيرهم أشياخا

أخذوا صدر مفخر العزِّ مذ كا

نوا وخلّوا للعالمين المخاخا

النقيّون حيث كانوا جيوباً

حيث لا تأمن الجيوب اتِّساخا

يألفون الطوى إذا ألف النّا

س اشتواءً من فيئهم واطِّباخا

خُلقوا أسخياء لا مُتساخيـ

ـن وليس السخىُّ من يتساخى

أهل فضل تناسخوا الفضل شيئاً

وشباباً أكرم بذاك انتساخا

بهواهم يزهو ويشمخ من قد

كان في النّاس زاهياً شمّاخا

_____________________

م (١) اضاخ: جبل يذكر ويؤنث).

م (٢) النقاخ: الماء البارد الصافى).

٣٦٨

يا بن بنت النبيِّ أكرم به ابناً

وبأسناخ جدِّه أسناخا

وابن مَن وازر النبيَّ ووالا

ه وصافاه في «الغدير» وواخى

وابن مَن كان للكريهةَ ركّا

باً وفي وجه هولها رسّاخا

للطلى تحت قسطل الحرب ضرّا

باً ولِلهام في الوغى شدّاخا

ذو الدِّماء التي يُطيل مواليـ

ـيه اختضاباً بطيبها والتطاخا

ما عليكم أناخ كلكله الدهـ

ـر ولكن على الأنام أناخا

( الشاعر )

أبو القاسم وأبو بكر وأبو الفضل(١) أحمد بن محمّد بن الحسن بن مرّار الجزري الرقّي(٢) الضبيّ(٣) الحلبي الشهير بالصنوبري.

شاعرٌ شيعيٌّ مجيدٌ. جمع شعره بين طرفي الرقَّة والقوَّة، ونال من المتانة وجودة الأُسلوب حظَّه الأوفر، ومن البراعة والظرف نصيبه الأوفى؛ وتواتر في المعاجم وصفه بالإحسان تارةً(٤) وبه وبالإجادة أُخرى(٥) وإنَّ شعره في الذروة العليا ثالثة(٦) وكان يُسمّى حبيباً الأصغر لجودة شعره(٧) وقال الثعالبي: تشبيهات إبن المعتز. وأوصاف كشاجم، وروضيّات الصنوبري، متى اجتمعت إجتمع الظرف والطرف، وسمع السامع من الإحسان العجب.

وله في وصف الرياض والأنوار تقدُّمٌ باهرٌ، وذكر إبن عساكر: أنَّ أكثر شعره فيه. وقال إبن النديم في فهرسته: إنَّ الصولي عمل شعر الصنوبري على الحروف في مأتي ورقة. فيكون المدوَّن على ما التزم به إبن النديم من تحديد كلِّ صفحة من الورقة بعشرين بيتاً ثمانية آلاف بيت، وسمع الحسن بن محمَّد الغسّاني من شعره مجلّداً(٨) .

_____________________

١ - كناه به كشاجم زميله في شعره.

٢ - نسبة إلى الرقة: مدينة مشهورة بشط الفرات عمرها هارون الرشيد.

٣ - نسبة إلى ضبة أبي قبيلة.

٤ - تاريخ إبن عساكر ١ ص ٤٥٦.

٥ - أنساب السمعاني.

٦ - شذرات الذهب ٢ ص ٣٣٥.

٧ - عمدة ابن رشيق ١ ص ٨٣.

٨ - أنساب السمعاني

٣٦٩

وله في وصف حلب ومنتزهاتها قصيدةٌ تنتهي إلى مائة وأربعة أبيات توجد في «معجم البلدان» للحموي ٣ ص ٣١٧ - ٣٢١، وقال البستاني في «دائرة المعارف» ٧ ص ١٣٧: هي أجود ما وصف به حلب، مُستهلّها:

إحبسا العيس احبساها

وسلا الدار سلاها

وأمّا نسبته إلى الصنوبر فقد ذكر إبن عساكر عن عبد الله الحلبي الصفري إنَّه قال: سألت الصنوبري عن السبب الذي من أجله نسب جدّه إلى الصنوبر حتّى صار معروفاً به. فقال لي: كان جدّي صاحب بيت حكمة من بيوت حكم المأمون فجرت له بين يديه مناظرة فاستحسن كلامه وحدَّة مزاجه وقال له: إنَّك لصنوبريُّ الشكل. يريد بذلك الذكاء وحدَّة المزاج. ا هـ. وذكر له النويري في «نهاية الإرب» ج ١١ ص ٩٨ في نسبته هذه قوله:

وإذا عُزينا إلى الصنوبر لم

نعز إلى خامل من الخشبِ

لا بل إلى باسق الفروع علا

مناسباً في أُرومة الحسبِ

مثل خيام الحرير تحملها

أعمدةٌ تحتها من الذهبِ

كأنَّ ما في ذراه من ثمر

طيرٌ وقوعٌ على ذرى القضبِ

باقٍ على الصيف والشتاء إذا

شابت رؤوس النبات لم يشبِ

محصَّن الحبّ في جواشن قد

أمَّن في لبسها من الحربِ

حبٌّ حكى الحب صين في قرب الـ

ـأصداف حتّى بدا من القُربِ

ذو نَثَّة ما يُنال من عنب

ما نيل من طيبها ولا رُطبِ

يا شجراً حبّه حداني أن

أفدي بأُمّي محبَّة وأبي

فالحمد لله إنَّ ذا لقبٌ

يزيد في حسنه على النسبِ

وأمّا تشيّعه فهو الذي يطفح به شعره الرائق كما وقفت على شطرٍ منه وستقف فيما يلي على شطرٍ آخر، ونصَّ بذلك اليماني في نسمة السحر، وعدُّ إبن شهر آشوب له من مادحي أهل البيت عليهم السَّلام يوذن بذلك. وأمّا دعوى صاحب النسمة أنَّه كان زيديّاً واستظهاره ذلك من شعره فأحسب أنّها فتوى مجرَّدة فإنّه لم يدعمها. بدليل، وشعره الذي ذكره هو وغيره خالٍ من أيِّ ظهورٍ ادَّعاه، وإليك نبذاً ممّا وقفنا عليه في

٣٧٠

المذهب. قال في قصيدة يمدح بها عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام:

وأخي حبيبي حبيب الله لا كذب

وابناه للمصطفى المستخلص ابنانِ

صلّى إلى القبلتين المقتدى بهما

والنّاس عن ذاك في صمّ وعميانِ

ما مثل زوجته أُخرى يُقاس بها

ولا يَقاس على سبطيه سبطانِ

فمضمر الحبِّ في نور يخصُّ به

ومضمر البغض مخصوصٌ بنيرانِ

هذا غداً مالكٌ في النّار يملكه

وذاك رضوان يلقاهُ برضوانِ

رُدَّت له الشمس في أفلاكها فقضى

صلاته غير ما ساهٍ ولا وانِ

أليس مَن حلَّ منه في اُخوَّته

محلَّ هارون من موسى بن عمرانِ؟!

وشافع الملك الرّاجي شفاعته

إذ جاءه ملَكٌ في خلق ثعبانِ

قال النبيُّ له: أشقى البريّة يا

عليُّ إذ ذكر الأشقى شقيّانِ

هذا عصى صالحاً في عقر ناقته

وذاك فيك سيلقاني بعصيانِ

ليخضبن هذه مِن ذا أبا حسن

في حين يخضبها من أحمر قانِ

ويرثي فيها أمير المؤمنين وولده السبط الشهيد بقوله:

نعم الشهيدان ربّ العرش يشهد لي

والخلق أنَّهما نعم الشهيدانِ

مَن ذا يُعزّي النبيَّ المصطفى بهما

من ذا يُعزّيه من قاصٍ ومن دانِ؟

مَن ذا لفاطمة اللهفاء ينبئها

عن بعلها وابنها إنباء لهفانِ؟

من قابض النفس في المحراب منتصباً

وقابض النفس في الهيجاء عطشانِ؟

نجمان في الأرض بل بدران قد أفلا

نِعَم وشمسان إمّا قلت شمسانِ

سيفان يغمد سيف الحرب إن برزا

وفي يمينيهما لِلحرب سيفانِ

وله يرثي الإمام السبط الشهيد عليه السلام(١) :

يا خير مَن لبس النبـ

ـوَّة من جميع الأنبياءِ

وجدي على سبطيك وجـ

ـدٌ ليس يؤذن بانقضاءِ

هذا قتيل الأشقيا

ءِ وذا قتيل الأدعياءِ

يوم الحسين هرقت دمـ

ـع الأرض بل دمع السماءِ

_____________________

١ - ج ٢ ص ٢٣٢ من مناقب إبن شهر آشوب.

٣٧١

يوم الحسين تركت با

ب العزّ مهجور الفناءِ

يا كربلاء خُلقتِ من

كربٍ عليَّ ومن بلاءِ

كم فيكِ من وجه تشرّ

ب ماؤه ماء البهاءِ

نفسي فداء المصطلي نار

الوغى أيَّ اصطلاءِ

حيث الأسنَّة في الجوا

شن كالكواكب في السّماءِ

فاختار درع الصبر حيـ

ـث الصبر من لبس السناءِ

وأبى إباء الأُسد إنَّ

الأُسد صادقةُ الإباءِ

وقضى كريماً إذ قضى

ظمآن في نَفَر ظماءِ

منعوه طعم الماء لا

وجدوا لماء طعم ماءِ

مَن ذا لمعفور الجوا

د ممال أعواد الخباءِ؟

مَن لِلطريح الشلو عر

ياناً مُخلّى بالعراءِ؟

مَن للمحنَّط بالترا

ـب ولِلمغسَّل بالدماءِ؟

مَن لابن فاطمة المغيَّـ

ـب عن عيون الأولياءِ؟

ويؤكِّد ما ذكرنا للمترجم من المذهب شدَّة الصلة بينه وبين كشاجم المسلّم تشيّعه، وتؤكّد المواخاة بينهما كما ستقف عليه في ترجمة كشاجم، ويُعرب عن الولاء الخالص بينهما قول كشاجم في الثناء عليه:

لي من أبي بكر أخي ثقة

لم استرب بإخائه قطْ

ما حال في قرب ولا بعدٍ

سيّان فيه الثوب والشطْ

جسمان والروحان واحدةٌ

كالنقطتين حواهما خطْ

فإذا افتقرتُ فلي به جدةٌ

وإذا اغتربتُ فلي به رهطْ

ذاكره أو حاوله مختبراً

تر منه بحراً ما له شطْ

في نعمةٍ منه جلبت بها

لا الشيب يبلغها ولا القرطْ

وبدلة بيضاء ضافية

مثل الملاءة حاكها القبطْ

متذلّل سهل خلايقه

وعلى عدوِّ صديقه سلطْ

ونتاج مغناه متمِّمةٌ

ونتاج مغنى غيره سقطْ

٣٧٢

وجنان آداب مثمرة

ما شأنها أثلٌ ولا خمطْ

وتواضع يزداد فيه علاً

والحرُّ يعلو حين ينحطْ

وإذا أمرؤٌ شيبت خلائقه

غدراً فما في ودِّه خلطْ

وقصيدته الأُخرى وقد كتبها إليه:

ألا أبلغ أبا بكر

مقالاً من أخٍ برِّ

يُناديك بإخلاصٍ

وإن ناداك من عقرِ

أظنُّ الدَّهر أعداك

فأخلدت إلى الغدر

فما ترغب في وصلٍ

ولا تعرض من هجرِ

ولا تخطرني منك

على بال من الذِّكرِ

أتنسى زمناً كنّا

به كالماء في الخمرِ؟!

أليفين حليفين

على الايسار والعسرِ

مكبَّين على اللذّا

ت في الصحو وفي السّكرِ

ترى في فَلَك الآدا

ب كالشمس وكالبدرِ

كما ألّفت الحكمـ

ـة بين العود والزمرِ

فألهتك بساتينك

ذات النَوْر والزهرِ

وما شيَّدت للخلو

ة من دارٍ ومن قصرِ

[القصيدة]

كان المترجم يسكن حلب دمشق وبها أنشد شعره ورواه عنه أبو الحسن محمَّد ابن أحمد بن جميع الغسّاني كما في أنساب السمعاني، وتوفّي في سنة ٣٣٤ كما أرَّخه صاحب «شذرات الذهب» وغيره.

وعدَّه إبن كثير في تاريخه ١١ ص ١١٩ ممَّن توفّي في حدود الثلمائة، وهذا بعيدٌ عن الصحَّة جدّاً من وجوه، منها: أنَّه اجتمع(١) مع أبي الطيِّب المتنبِّي بعد ما نظم القريض وقد ولد بالكوفة سنة ٣٠٣. ومنها: مدحه سيف الدولة الحمداني وقد ولد سنة ٣٠٣.

أعقب المترجَم ولده أبا علي الحسين، حكى إبن الجنّي(٢) قال حدَّثني أبو علي

_____________________

١ - عمدة ابن رشيق ١ ص ٨٣.

٢ - كما في يتيمة الدهر ج ١ ص ٩٧.

٣٧٣

الحسين بن أحمد الصنوبري قال: خرجت من حلب أُريد سيف الدولة فلمّا برزت من الصور إذا أنا بفارس متلثَّم قد أهوى نحوي برمح طويل، وسدَّده إلى صدري، فكدت أطرح نفسي عن الدابَّة فرِقاً، فلمّا قرب منّي ثنى السنان وحسر لثامه فإذا المتنبّي (الشاعر المعروف) وأنشدني:

نثرنا رؤوساً بالأُحيدب منهمُ

كما نُثرت فوق العروس الدراهمُ

ثمَّ قال: كيف ترى هذا القول؟ أحسن هو؟ فقلت له: ويحك قد قتلتني يا رجل؟ قال إبن جني: فحكيت أنا هذه الحكاية بمدينة السّلام لأبي الطيِّب فعرفها وضحك لها.

وتوفِّيت للصنوبري بنت في حياته رثاها زميله [كشاجم] وعزّاه بقوله:

أتأسى يا أبا بكر

لموت الحرَّة البكرِ

وقد زوَّجتها قبراً

وما كالقبر من صهرِ

وعوَّضت بها الأجر

وما للأجر من مهرِ

زفافٌ أُهديت فيه

من الخدر إلى القبرِ

فتاةٌ أسبل الله

عليها أسبغ السترِ

ورده أشبه النعم

ـة في الموقع والقدرِ

وقد يختار في المكرو

ه للعبد وما يدري

فقابل نعمة الله الَّـ

ـتي أولاك بالشكرِ

وعزِّ النفس ممّا فا

ت بالتسليم والصبرِ

وكتب المترجَم على كلِّ جانب من جوانب قبَّة قبرها الستَّة بيتين توجد الأبيات في تاريخ إبن عساكر ١ ص ٤٥٦، ٤٥٧.

حكاية

حدَّث المترجَم له أبو بكر أحمد بن محمَّد الصنوبري قال: كان بالرُّها(١) ورّاقٌ يُقال له: سعد. وكان في دكّانه مجلس كلِّ أديب، وكان حسن الأدب والفهم،

_____________________

م (١) الرهاء بضم أوله والمد والقصر: مدينة بين الموصل والشام، استحدثها الرهاء بن البلندي فسميت باسمه.

٣٧٤

يعمل شعراً رقيقاً، وما كنّا نفارق دكّانه أنا وأبو بكر المعوج الشامي الشاعر وغيرنا من شعراء الشام وديار مصر، وكان لتاجر بالرُّها نصرانيّ من كبار تجّارها إبنٌ إسمه عيسى من أحسن الناس وجهاً، وأحلاهم قدّاً، وأظرفهم طبعاً ومنطقاً، وكان يجلس إلينا ويكتب عنّا أشعارنا وجميعنا يحبّه، ويميل إليه، وهو حينئذ صبيٌّ في الكتّاب فعشقه سعد الورّاق عشقاً مبرحاً ويعمل فيه الأشعار، فمن ذلك وقد جلس عنده في دكّانه قوله:

إجعل فؤادي دواةً والمداد دمي

وهاك فابر عظامي موضع القلمِ

وصيِّر اللوح وجهي وامحه بيد

فإنَّ ذلك برءٌ لي من السَّقمِ

ترى المعلّم لا يدري بمن كلفي

وأنت أشهر في الصِّبيان من علَمِ

ثمَّ شاع بعشق الغلام في الرُّها خبره، فلمّا كبر وشارف الائتلاف أحبَّ الرهبنة وخاطب أباه وأُمَّه في ذلك، وألحَّ عليهما حتّى أجاباه وخرجا به إلى «دير زكّي» بنواحي الرقَّة(١) وهو في نهاية حسنه فابتاعا له قلاية ودفعا إلى رأس الدير جملة من المال عنها فأقام الغلام فيها وضاقت على سعد الورّاق الدنيا بما رحبت، وأغلق دكّانه، وهجر إخوانه، ولزم الدير مع الغلام، وسعد في خلال ذلك يعمل فيه الأشعار، فممّا عمل فيه وهو في الدير والغلام قد عمل شمّاساً(٢) .

يا حِمَّةً قد علت غصناً من البانِ

كأنَّ أطرافها أطراف ريحانِ

قد قايسوا الشمس بالشماس فاعترفوا

بأنَّما الشمس والشمّاس سيّانِ

فقل لعيسى: بعيسى كم هراق دماً

إنسان عينك من عين لانسانِ؟!

ثمَّ إنَّ الرهبان أنكروا على الغلام كثرة إلمام سعد به ونهوه عنه وحرموه أن أدخله وتوعَّدوه بإخراجه من الدير إن لم يفعل، فأجابهم إلى ما سألوه من ذلك، فلمّا رأى سعد امتناعه منه شقَّ عليه، وخضع للرّهبان ورفق بهم ولم يجيبوه وقالوا: في هذا علينا إثمٌ وعارٌ ونخاف السلطان، فكان إذا وافى الدير أغلقوا الباب في، وجهه، ولم يدعوا الغلام يُكلّمه، فاشتدَّ وجده، وازداد عشقه، حتّى صار إلى الجنون

_____________________

١ - الرقة كل أرض منبسط جانب الوادي يعلوها الماء وقت المد. ولا يظن أن الرقة البلد الذي على شاطئ الفرات فإن الرها بين الموصل والشام.

٢ - الكلمة سريانية معناها: الخادم.

٣٧٥

فخرق ثيابه وانصرف إلى داره فضرب جميع ما فيها بالنار، ولزم صحراء الدير وهو عريانٌ يهيم، ويعمل الأشعار ويبكي.

قال أبو بكر الصنوبري: ثمَّ عبرت يوماً أنا والمعوج من بستان بتنا فيه فرأيناه جالساً في ظلِّ الدير وهو عريانٌ وقد طال شعره، وتغيَّرت خلقته، فسلّمنا عليه وعذلناه وعتبناه، فقال: دعاني من هذا الوسواس أتريان ذلك الطائر على هيكل؟ وأومأ بيده إلى طائر هناك فقلنا: نعم. فقال: أنا وحقِّكما يا أخويَّ أُناشده منذ الغداة أن يسقط فأُحمِّله رسالةً إلى عيسى. ثمَّ التفت إليَّ وقال: يا صنوبريُّ معك ألواحك؟ قلت: نعم. قال: اكتب:

بدينك يا حمامة دير زكّى

وبالأنجيل عندك والصليبِ

قفي وتحمَّلي عنِّي سلاماً

إلى قمر على غصنٍ رطيب

حماه جماعة الرُّهبان عنّي

فقلبي ما يقرُّ من الوجيبِ

عليه مسوحه(١) وأضاء فيها

وكان البدر في حُلل المغيبِ

وقالوا: رابنا إلمام سعد

ولا والله ما أنا بالمريبِ

وقولي: سعدك المسكين يشكو

لهيب جوّى أحرُّ من اللهيبِ

فصله بنظرةٍ لك من بعيدٍ

إذا ما كنت تمنع من قريبِ

وإن أنامتُّ فاكتب حول قبري

محبٌّ مات من هجر الحبيبِ

رقيبٌ واحدٌ تنغيص عيشٍ

فكيف بمن له ألفا رقيبِ

ثمَّ تركنا وقام يعدو إلى باب الدير وهو مغلقٌ دونه، وانصرفنا عنه وما زال كذلك زماناً، ثمَّ وُجد في بعض الأيّام ميتاً إلى جانب الدير، وكان أمير البلد يومئذ العبّاس بن كيغلغ فلمّا اتَّصل ذلك به وبأهل الرُّها خرجوا إلى الدير، وقالوا ما قتله غير الرهبان. وقال لهم إبن كيغلغ: لا بدَّ من ضرب رقبة الغلام وإحراقه بالنّار، ولا بدَّ من تعزير جميع الرُّهبان بالسياط، وتعصَّب في ذلك فافتدى النصارى نفوسهم وديرهم بمائة ألف درهم(٢) .

_____________________

١ - المسوح: ما يلبس من نسيج الشعر تقشعاً وقهراً للبدن جمع مسح بكسر الميم.

٢ - توجد ملخصة في تزيين الأسواق ص ١٧٠.

٣٧٦

القرن الرابع

١٩

القاضي التنوخي

المولود ٢٧٨

المتوفّى ٣٤٢

مِن إبن رسول الله وابن وصيِّة

إلى مدغل في عقبة الدين ناصبِ

نشأ بين طُنبور وزقٍّ ومزهر

وفي حجر شادٍ أو على صدر ضاربِ

ومن ظهر سكران إلى بطن قينةٍ

على شُبه في ملكها وشوائبِ

يَعيب عليّاً خير من وطأ الحصى

وأكرم سارٍ في الأنام وساربِ

ويُزري على السبطين سبطي محمَّد

فقل في حضيض رام نيل الكواكبِ

وينسب أفعال القراميط كاذباً

إلى عترة الهادي الكرام الأطائبِ

إلى معشرٍ لا يبرح الذمُّ بينهم

ولا تزدري أعراضهم بالمعائبِ

إذا ما انتدوا كانوا شموس بيوتهم

وإن ركبوا كانوا شموس المواكبِ

وإن عبسوا يوم الوغى ضحك الرَّدى

وإن ضحكوا أبكوا عيون النَّوادبِ

نشوا بين جبريل وبين «محمَّد»

وبين «عليّ» خير ماشٍ وراكبِ

وزير النبيِّ المصطفى ووصيّه

ومُشبهه في شيمةٍ وضرائبِ

ومَن قال في يوم «الغدير» محمَّد

وقد خاف من غدر العداة النواصبِ

: أما إنَّني أولى بكم من نفوسكم

فقالوا: بلى قول المريب المواربِ

فقال لهم: مَن كنت مولاه منكمُ

فهذا أخي مولاه بعدي وصاحبي

أطيعوه طرّاً فهو منّي بمنزلٍ

كهارون من موسى الكليم المخاطبِ

[القصيدة ٨٣ بيتاً]

٣٧٧

*(ما يتبع الشعر) *

كان عبد الله بن المعتزّ العبّاسي المتوفّى سنة ٢٩٦ ممَّن ينصب العدا للطالبيِّين، ويتحرّى الوقيعة فيهم بما ينمُّ عن سوء سريرته، ويشفُّ عن خبث طينته، وكثيراً ما كان يفرغ ما ينفجر به بُركان ضغاينه في قوالب شعريَّة، فجائت من ذلك قصايد خلّدت له السوءة والعار، ولقد تصدّى غير واحد من الشعراء لنقض حججه الداحضة منهم: الأمير أبو فراس الآتي ذكره وترجمته، غير أنَّه أربى بنفسه الأبيَّة عن أن تقابل ذلك الرِّجس بالموافقة في البحر والقافية، فصاغ قصيدته الذهبيَّة الخالدة الميميَّة، ينصر فيها العلويِّين، وينال من مناوئيهم العبّاسيّين، ويوعز إلى فضائحهم وطامّاتهم التي لا تُحصى.

ومنهم: تميم بن معد الفاطمي المولود ٢٣٧ والمتوفّى ٣٧٤، ردَّ على قصيدة إبن المعتزّ الرائيَّة أوّلها.

أيَّ ربع لآل هند مدارِ؟

....................................

وأوَّل قصيدة إبن معد:

يا بني هاشمٍ ولسنا سواء

في صغار من العلى وكبارِ

ومنهم: إبن المنجِّم. وأبو محمَّد المنصور بالله المتوفّى ٦١٤ - الآتي ذكره في شعراء القرن السابع - ومنهم: صفيُّ الدين الحلي المتوفّى ٧٥٢ فقد ردَّ عليه ببائيَّته الرنّانة المنشورة في ديوانه المذكورة في ترجمته الآتية في شعراء القرن الثامن.

ومنهم: القاضي التنوخي المترجَم له فقد نظم هذه القصيدة التي ذكرنا منها شطراً ردّاً عليه، وهي مذكورةٌ في كتاب «الحدائق الورديَّة» ٨٣ بيتاً، وأحسبها كما في غير واحد من المجاميع المخطوطة أنَّها تمام القصيدة، وذُكرت في «مطلع البدور» ٧٤ بيتاً، وذكر منها اليماني في «نسمة السحر» ٤٨ بيتاً، والحموي ١٤ بيتاً في «معجم الأُدباء» ج ١٤ ص ١٨١ وقال: كان عبد الله بن المعتز قد قال قصيدةً يفتخر فيها ببني العبّاس على بني أبي طالب أوَّلها:

أبى الله إلّا ما ترون فما لكم

غضاباً على الأقدار يا آل طالب؟!

فأجابه أبو القاسم التنوخي بقصيدة نحلها بعض العلويِّين وهي مثبتةٌ في ديوانه أوَّلها:

٣٧٨

مِن ابن رسول الله وابن وصيِّه

إلى مدغلٍ في عقدة الدين ناصبِ

نشأ بين طنبور ودفٍّ ومزهرٍ

وفي هجر شادٍ أو على صدر ضاربِ

ومن ظهر سَكرانٍ إلى بطن قينةٍ

على شُبه في ملكها وشوائبِ

يقول فيها:

وقلت: بنو حرب كسوكم عمائماً

من الضرب في الهامات حمر الذوائبِ

صدقتَ منايانا السيوف وإنَّما

تموتون فوق الفرش موت الكواعبِ

ونحن الأولى لا يسرح الذمُّ بيننا

ولا تدَّري أعراضنا بالمعايبِ

إذا ما انتدوا كانوا شموس نديِّهم

وإن ركبوا كانوا بدور الركائبِ

وإن عبسوا يوم الوغى ضحك الرَّدى

وإن ضحكوا بكّوا عيون النوائبِ

وما للغواني والوغى فتعوَّدوا

بقرع المثاني من قراع الكتائبِ

ويوم حنين قلت: حزنا فخاره

ولو كان يدري عدَّها في المثالبِ

أبوه منادٍ والوصيُّ مضاربٌ(١)

فقل في منادٍ صيِّتٍ ومضاربِ

وجأتم مع الأولاد تبغون إرثه

فابعد بمحجوب بحاجب حاجبِ

وقلتم: نهضنا ثائرين شعارنا

بثارات زيد الخير عند التحاربِ

فهلّا بإبراهيم كان شعاركم

فترجع دعواكم تعلّة(٢) خائبِ

ورواها عماد الدين الطبري في الجزء العاشر من كتابه [بشارة المصطفى لشيعة المرتضى] وقال: حدَّثنا الحسين بن أبي القاسم التميمي، قال: أخبرنا أبو سعيد السجستاني، قال أنبأنا القاضي إبن القاضي أبو القاسم عليُّ بن المحسن بن عليِّ التنوخي ببغداد، قال: أنشدني أبي أبو عليّ المحسن، قال: أنشدني أبي أبو القاسم عليُّ بن محمَّد إبن أبي الفهم التنوخي لنفسه من قصيدةٍ:

ومن قال في يوم «الغدير» محمَّدٌ

وقد خاف من غدر العداة النواصبِ

: أما أنا أولى منكمُ بنفوسكم

فقالوا: بلى قول المريب المواربِ

فقال لهم: مَن كنت مولاه منكمُ

فهذا أخي مولاه فيكم وصاحبي

_____________________

١ - يريد العبّاس وعلياً أمير المؤمنين عليه السلام.

٢ - أي تعلل.

٣٧٩

أطيعوه طرّاً فهو منّي كمنزلٍ

لَهارون من موسى الكليم المخاطبِ

فقولا له: إن كنت من آل هاشم

فما كلُّ نجم في السَّماء بثاقبِ

وروى القصيدة وأنَّها في ردِّ عبد الله بن المعتز صاحب تاريخ طبرستان ص ١٠٠ بهاء الدين محمَّد بن حسن وذكر منها خمسة عشر بيتاً ومنها:

فكم مثل زيد قد أبادت سيوفكم

بلا سببٍ غير الظنون الكواذبِ

أما حمل المنصور من أرض يثربِ

بدور هدًى تجلو ظلام الغياهبِ؟

وقطَّعتمُ بالبغي يوم محمَّد

قرائن أرحام له وقرائبِ

وفي أرض باخمرا مصابيح قد ثوت

مترَّبة الهامات حمر الترائب

وغادر هاديكم بفخّ طوائفاً

يُغاديهمُ بالقاع بقع النواعبِ

وهارونكم أودى بغير جريرةٍ

نجوم تُقىً مثل النجوم الثواقبِ

ومأمونكم سمَّ الرِّضا بعد بيعةٍ

تودّ ذرى شمِّ الجبال الرَّواسبِ

فهذا جوابٌ للذي قال: مالكم

غضاباً على الأقدار يا آل طالبِ؟

*( الشاعر ) *

أبو القاسم التنوخي عليُّ بن محمّد بن أبي الفهم داود بن إبراهيم بن تميم بن جابر ابن هاني بن زيد بن عبيد بن مالك بن مريط بن سرح بن نزار بن عمرو بن الحرث ابن صبح بن عمرو بن الحرث بن عمرو بن الحارث بن عمرو [ملك تنوخ] بن فهم بن تيم الله [وهو تنوخ] ابن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ملك بن حمير بن سبا بن سحت بن يعرب بن قحطان بن غابن بن شالح بن الشحد ابن سام بن نوح النبيّ عليه السلام(١)

من أغزر عيالم العلم، ومُلتقى الفضايل، ومُجتمع الفنون المتنوِّعة، مشاركاً في علوم كثيرةٍ، مقدَّما في الكلام، متضلّعاً في الفقه والفرايض، حافظاً في الحديث، قدوةً في الشعر والأدب، بصيراً بعلم النجوم والهيئة، خبيراً بالشروط والحاضر والسجلّات،

_____________________

١ - النسب ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه نقلاً عن حفيد المترجم أبي القاسم ابن المحسن إلى قضاعة، وذكر بعده السمعاني في «الأنساب» وإلى قضاعة بين الكتابين اختلاف في بعض الأسماء.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526