الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156722 / تحميل: 6142
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

الحضوري، وأمَّا الإضافة بينه وبين الملائكة، فهي إضافة إنباء، وهي درجة نازلة عن العلم، ومن القرائن على تلك المغايرة:

ـ أن الملائكة لو كانت قابلة لتعليم الأسماء لأصبحوا في الشرف سواء مع آدم، ولَمَا كانت لآدم مزية عليهم، فالملائكة لم يستحصلوا على ذلك العلم إلى آخر المطاف، خصوصاً إذا لاحظنا أن الأهلية للخلافة غير منوطة بالأسبقية الزمانية للحصول على العلم، بل الأهلية هي بالعلم، وهي حاصلة لآدم.

ـ فاطلاع الملائكة لم يكن بالعلم اللدني، ولو كان كذلك، لَمَا كانت حاجة لإنباء آدم.

فالخلاصة أن الملائكة بعد إنباء آدم أصبح لديهم علماً حصولياً بتلك المسمَّيات.

* غيب السماوات والأرض: ذكرنا في بحث الأسماء أن الإضافة في غيب السماوات هي إضافة لامية؛ أي غيب للسماوات والأرض، وقد جعل بعض العامة أن المراد بهذا الغيب هو ما كتمته الملائكة، لكنَّه غير تام؛ وذلك لأن قوله تعالى ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) (1) من عطف المغاير زيادة على الجملة السابقة؛ إذ ( مَا تُبْدُونَ ) ليس من الغيب أصلاً، وما كانت تكتمه هو أنها كانت ترى أنه لا يوجد مَن هو أقرب منها إلى اللَّه كما يفهم من مفاضلتها ذواتها على مطلق مَن هو غيرها من المخلوقات، فليس هذا المراد من غيب السماوات والأرض، بل المراد منه أمر ليس بجزء من السماوات والأرض.

ومقابل الإضافة اللامية الإضافةُ التبعيضية، أي خصوص غيب هو جزء من السماوات والأرض، وهو ينطبق على الكونية المستقبلية، لكن المورد ليس من هذه الموارد التي

____________________

(1) البقرة: 133.

٣٢١

تكون الإضافة تبعيضية؛ وذلك لأنه مقام إظهار قدرته تعالى وإحاطته وعجز الملائكة، وتمام العجز أن هذه الأسماء أمور غائبة عن العالم السماوي والأرضي خارج محيط الكون، وممّا يبعد معنى التبعيض وأن الغيب بمعنى المستقبل الذي هو جزء السماوات والأرض، أنه قد عرضهم على الملائكة فهي موجودات بالفعل لا مستقبلية، وهذا ممَّا يعزِّز أيضاً أن المراد غيب فعلي عن السماوات والأرض، فإذن هي موجودات أحياء فعلية خارج إطار السماوات والأرض.

* أية السجود: وفيها موقفان يجب التأمل فيهما؛ أحدهما: أمر اللَّه عزَّ وجل الملائكة بالسجود لآدم، والآخر هو: إباء إبليس واستكباره وكونه من الكافرين.

أمَّا الأمر الأول ، وهو السجود، ففيه عدة نقاط:

ـ أن التساؤل يثار عادة هل أن السجود لغير اللَّه تعالى صحيح أم لا؟ وهذه مسألة كلامية فقهية نتعرض لبعض جوانبها ومن ثم نذكر ما يمكن استيحاؤه من الآية الكريمة.

ذهب بعض الفقهاء إلى أن السجود ذاتيُّه العبادة، فأينما وقع فهو عبادة، فلا يجوز إيقاعه لغير اللَّه تعالى لأنه هو المعبود حقيقة؛ ولذا يذهبون إلى تأويل ما ورد في القرآن الكريم من السجود لغير اللَّه تعالى إلى أنها تحمل على مطلق الخضوع والخشوع، لا أداء تلك الحركة المعينة؛ لأنه من المحال أن يأمر اللَّه تعالى بعبادة مَن ليس أهلاً للعبادة، فهو شرك وقبيح، ويستشهدون بما ورد من الأثر عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لو كنت آمراً أحداً بالسجود، لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها)، وهذا يعني عدم جواز الأمر بالسجود.

والجواب عنه: أن المستدِل يستدل بوجهين؛ أحدهما: أن السجود ذاتيُّه العبادة، والآخر: نهي الشارع عن السجود لغير اللَّه.

أمَّا الأول، فكون السجود - لو كان بمعنى الهيئة الجسمانية المخصوصة - ذاتيُّه

٣٢٢

العبادة أول الكلام، بل إن السجود مُظهِر ومُبرِز للعبادة، وفرق بين الأمرين؛ والشاهد على ذلك: أن تلك الهيئة المعينة قد يوقعها الإنسان و مقصوده الرياضة أو الاستراحة أو أي أمر آخر، وهذا يدل على أن العبادية فيها متقوِّمة بالقصد، لا أن الهيئة متى وقعت كانت عبادة، وعليه نقول: إن تلك الهيئة لو وقعت بقصد الإكرام والاحترام، لا بقصد الخضوع العبادي، فلا تكون عبادة. وقد مورس هذا النوع من التكريم والاحترام في الشعوب القديمة حيث كان يسجد للسلطان والملك كما في عهد النبي يوسف عليه‌السلام ولم يكن في البين عبودية، وهذا يدلِّل على أن تلك الهيئة ليست ماهيتها التكوينية العبادة. مضافاً إلى أن أصحاب هذا الرأي لا يعتبرون الركوع عبادة مطلقاً، ويجوّزون وقوعه لغير اللَّه إذا كان القصد منه الاحترام والتكريم.

وبعبارة أدق: أن الخضوع تارة عبودي وأخرى مطلق الاحترام والتكريم والتعظيم، والفارق بينهما أن الخضوع إن كان بقصد أن المخضوع له ذات واجبة الوجود بنفسه خالق متَّصف بجميع الكمالات بالذات، فهو عبادة، وإن كان لا بقصد منتهى الخضوع ولا أن المخضوع له ذات مستقلة الوجود، فلا يكون عبادة، بل إن القبح يزول عن هذه الهيئة عندما يكون الآمر إلى هذا السجود هو اللَّه عزَّ وجل، بل يعد السجود لهذا الشخص هو منتهى الامتثال والخضوع لأوامر اللَّه، بل هو منتهى الفناء والابتعاد عن أنانية الذات. والحق تعالى عندما يأمر بالسجود لا يكون أمراً بمعنى العبادة لغيره؛ إذ أنه مستحيل، بل العبادة للَّه تعالى بتوسط الاحترام والخضوع لخليفته تعالى، وهذا ما توضحه كثير من الأخبار والآثار الواردة في ذيل السجود ليوسف‏ عليه‌السلام وفي آية ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ ) (1) ، إذ ليس

____________________

(1) يونس: 87.

٣٢٣

المراد السجود لبيت موسى، بل هو سجود للَّه وإكرام واحترام للشخص.

أمَّا الوجه الثاني، فابتداءً ليتنبَّه إلى أنه غير الوجه الأول إذ أنه يتم، ولو فرض التنزُّل بأن السجود ليس ذاتيُّه العبادة، فهو منهي عنه من قبل الشارع إيقاعه لغير اللَّه؛ وبذلك لا نحتاج إلى تأويل آيات السجود في القرآن، بل بأن السجود بهذا المعنى لم يكن محرَّماً في شريعة يوسف وموسى عليهما‌السلام ، وعلى كل حال نقول: إن السجود بمعنى العبادة لغير اللَّه منهي عنه من قبل الشارع.

أمَّا الآية الكريمة التي نحن بصددها، فإنه - على ما ذكرنا - لا حاجة لتأويل السجود إلى معنى الخضوع والاحترام وما معناه، ولا حاجة إلى القول أن السجود على معناه الحقيقي ولا مانع منه لأنه لم يكن محرماً إلا في شريعة الخاتم، لا حاجة إلى كل هذا، بل نقول: إن السجود لا مانع منه حيث لم يُوقع بقصد العبادة.

مضافاً إلى أنه لو كان منهياً عنه، فيمكن أن يأمر اللَّه تعالى به في هذا الموضع ويكون تخصيصاً للنهي العام عن السجود لغير اللَّه، ولا مانع من تخصيص العام على الوجه الثاني؛ حيث إن السجود كان تكريما لآدم، وقد أشارت الروايات من الفريقين إلى أن إبليس كان ومازال يستطيع التوبة بالسجود لآدم، فلو سجد لتاب اللَّه عليه، وهذا من سعة حلمه تعالى بعباده، إلاّ أن إبليس أخذته العزة بالإثم فأبى عن السجود.

2 - ومن أجل الوصول إلى المعنى المراد من السجود في الآيات الكريمة نستعرض عدداً من النقاط:

أ - نعيد التذكير بأن القرآن كتاب حقائق، فعندما نلاحظ لفظاً كُرِّر عدة مرات، فلا يمكن القول أن التعبير به أمر أدبي، بل يكون إشارة إلى ماهية معينة أراد الحق تعالى إفهامها لخلقه، وهذا هو ما ذكرناه سابقاً في مقدمة البحث.

ب - عبَّر في آية 29 من سورة الحجر ( فَقَعُوا ) ، حيث لم يكتف بذكر مادة

٣٢٤

السجود، بل عبَّر بالوقوع الفوري، وهذا فيه نوع من التشديد والتأكيد لمعنى الخضوع والتعظيم.

جـ - أن حادثة السجود هي الحلقة المتصلة بين هذه السور السبعة، فقد كُرِّرت في كل الآيات بخلاف بقية مقاطع قصة آدم.

د - أن لفظ السجود ومشتقاته تكرَّر كثيراً حتى في السورة الواحدة؛ مثلاً في سورة الحجر كُرِّر 5 مرَّات وفي الأعراف 4 مرَّات وفي الإسراء وص كُرِّر 3 مرَّات،وهذا التكرار لهذه اللفظة لابد له من وجه، لا أنه مجرد التحسين اللفظي والأدبي، بل يدل على محورية هذه الماهية وجعلها فيصلاً بين الطاعة والمعصية.

هـ - في بعض الآيات ورد التأكيد على أن الأمر بالسجود كان لجميع الملائكة ولم يكتف بدلالة الجمع المحلَّى بالـ ( الْمَلآئِكَةُ ) ، بل أردف بالتأكيد بـ ( أَجْمَعُونَ ) و ( كُلُّهُمْ ) للدلالة على الاستغراق.

و - أنه عندما رفض إبليس السجود لآدم عبَّر عن ذلك بـ ( أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ) ؛ أي أن منشأ عصيان إبليس هو الإباء والاستكبار، وفي مقابله طاعة الملائكة، وهو الانقياد والمتابعة والخضوع، فمعنى السجود المأمور به، فيه زيادة على معنى الاحترام والتكريم، بل هو إظهار لمطلق الانقياد (غير العبادي) لآدم، و إبليس لم يستكبر عن عبادة اللَّه في الصورة، بل استكبر عن أمر اللَّه بالانقياد لآدم حيث زعم أن آدم أقل مرتبة منه.

ز - أن قوله تعالى في خطابه لإبليس ( مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) منطوٍ على ظريفة لا تحصل من التعبير بلفظ الملائكة أو الضمير (ما منعك أن تكون معهم)؛ إذ وصفهم بالساجدين لبيان حالة الانقياد، وهو السجود.

حـ - نسبة آدم للَّه جلَّ وعلا ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) فيها تشريف لأدم وأنَّ سرَّ خلقته وتسويته مباشرة من اللَّه من دون توسيط الملائكة.

٣٢٥

ط - يظهر من بعض الآيات الحاكية لهذه الواقعة أن الأمر بالسجود وقع مباشرة بعد خلقة آدم من دون وجود تراخي ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ؛ وهذا يدل على التلازم والفورية وأن لا تمر فترة من بعد الخلقة من دون انقياد الملائكة به.

ي - أن تكرار هذا المقطع بالذات من دون بقية المقاطع فيه دلالة مؤكَّدة على أن ما جرى من الواقعة هو من باب المقدمة لهذا الأمر، وأن كل ما مضى كان إعداداً لها، وبتعبير آخر: أن المحاورة من إخبار الملائكة بالخلق وغيره كله جَرَت تمهيداً وبياناً لمقام هذا المخلوق الجديد حتى لا يكون الأمر بالسجود مفاجئاً للملائكة ولا تنفر منه ذواتهم.

فهذه عشر قرائن وملاحظات عامة على التعابير الواردة في هذا المقطع. أمَّا ما يمكن استظهاره من المعاني في هذا الشأن، فهو:

1 - كما أن إنباء آدم للملائكة تعبير عن الهداية الإرائية وأنه استكمال لهم؛ لولاه لَمَا حصل لهم ذلك العلم، فإن السجود لآدم هو تعبير عن الهداية الإيصالية والمتابعة العملية التي بدونها لا يحصل لهم أيُّ كمال، وهذا الانقياد لم يكن لمجرد مخلوق، بل إنما هو لمقام الخلافة الذي جعله اللَّه تعالى لآدم، فلازم مقام الخلافة عند اللَّه هو متابعة وانقياد الملائكة والجن (بناء على القول المشهور أن إبليس من الجن) وهذا هو مفاد الإمامة؛ وهي المتابعة العملية والعلمية والهداية الإرائية والإيصالية، ويثبت بذلك أن شؤون الإمامة ليست للناس فقط وإنما هي تشمل الملائكة والجن.

2 - أن حدود إمامة آدم لا تقتصر على البشر، بل تشمل الملائكة والجن أيضاً.

3 - أن القرآن الكريم قد أثبت للملائكة وظائف وشؤون متعدِّد؛ منها: الحفظة، إنزال الذكر، قبض الأرواح، نشر الرياح، اللواقح، المقسمات، نصرة الرسل

٣٢٦

وتأييدهم، تسبيح اللَّه...

ونتيجة أن علمهم كان من آدم وأن عليهم متابعة آدم والانقياد له وأنه حاز مقام الخلافة، فهذه كلها تدل على أن لآدم الولاية التكوينية على الملائكة، وتكون شؤون الملائكة كلها تحت يده وفي تصرفه.

4 - أن خلافة آدم ليست خلافة مقيَّدة، بل خلافة مطلقة، ونستطيع أن نطلق عليها أنها: خلافة اسمائية

للَّه عزَّ وجل؛ وذلك لأنه بالعلم بالأسماء الشاعرة الحية العاقلة استحق مقام الخلافة، وأسماء اللَّه لها تأثير في عالم الخلقة؛ حيث إنها حقائق حيَّة واقعية مهيمنة، حيث أن أفعال اللَّه تعرف باسمائه، وهي آثار وتوابع اسمائه، فتكون بذلك كل القدرات الموجودة في عالم التكوين محاطة بها، وهو ذلك المقام.

وبالطبع ليس هذا الثبوت بنحو التفويض العزلي الباطل، بل هو إقدار من اللَّه سبحانه وتعالى في عين ثبوت القدرة المستقلة الأزلية للَّه عزَّ وجل.

الأمر الثاني: إباء إبليس

* إن من المسلَّم به أن إبليس كان في جمع الملائكة عندما خاطبهم اللَّه وأمرهم بالسجود لآدم. أمَّا أن إبليس هل هو من الجن أو الملائكة، فقد كان موضع خلاف وتعبير القرآن أنه من الجن ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) وهذا وإن كان له تفسيران؛ أنه كان من الملائكة فصار من الجن وأن (كان) هنا بمعنى صار، أو أن يقال: إنه من الجن، وإنما تواجد في جمع الملائكة لأن اللَّه جلَّ وعلا كان يكلِّفه بوظائف الملائكة، وهذا نوع تشريف لإبليس، والروايات الواردة تشير إلى أن لإبليس قبل الامتحان مقاماً رفيعاً؛ ويدل عليه انضمامه في الخطاب الموجَّه للملائكة، كما أن تشريفه بالخطاب الإلهي يدلِّل على أنه كان من الموحِّدين والمؤمنين باللَّه وبعالم الغيب والمعاد ( أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) . وأمَّا إنباء آدم

للملائكة، فقد كان حاضراً بمقتضى تواجده معهم،

٣٢٧

ومقتضى ذلك أن إبليس استحق الكفر لأنه لم يؤمن بالإمامة؛ مقام خلافة اللَّه، وبالتحديد لعدم طاعته للَّه عزَّ وجل في الائتمام والانقياد لمَن جعله اللَّه إماماً، ولم يذكر لإبليس فعلاً وعصياناً آخر استحق به هذا العقاب، وكانت النتيجة أن مصير إبليس هو جهنم وأن كل ما عمله قد ذهب سدى وهباء.

فهذا يثبت أحد معتقدات الإمامية؛ وهي أن النجاة مرهونة بالائتمام بخليفة اللَّه في أرضه، وقد وصف إبليس بالكفر، وهو على درجات، و يراد منه هاهنا: الكفر الاصطلاحي الذي يقابل أصل الإيمان ويستوجب الخلود في النار.

والكفر على قسمين: أحدهما بحسب الواقع دون الظاهر، والآخر بحسب الواقع والظاهر معاً، والظاهري هو ما عليه الكفَّار الآن. وأمَّا الأول، فهو ما نشاهده من المقصِّرين الذين اطلعوا على الأدلة الحقَّة إلاّ أنهم لم يؤمنوا ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (1) ، فهؤلاء وإن كانوا في الظاهر غير كافرين إلاّ أنهم بحسب الواقع كافرون، ويعاملون في الآخرة على طبق الواقع الحقيقي. وأمّا في هذه النشأة والدار، فيعاملون معاملة ظاهر الإسلام، فالإمامة مرتبة من مراتب التوحيد والإيمان، فهي توحيد في الطاعة كما ذكرنا ذلك مراراً في الفصل الأول، وبالتعبير الوارد في هذه الواقعة رأينا أن الكفر أُطلق في قبال الائتمام كما أطلق في مقابل الإيمان والتوحيد.

* كما أننا نلاحظ أن من أصعب الامتحانات الإلهية في العقيدة هو الإيمان بالإمامة؛ حيث إن هذين الموجودين (الملائكة والجن) لا يظهر منهما أي تمنُّع من الاستجابة لنداء التوحيد والنبوة بخلاف الإمامة - وهو الانقياد المطلق لخليفة اللَّه والخضوع و السجود إليه - حيث تمنَّع إبليس عن ذلك.

____________________

(1) الحجرات: 14.

٣٢٨

وبتعبير آخر: أن أكمل مراتب التوحيد والإيمان هو الإمامة؛ أي أن بها تمام التوحيد، لا بمعنى أنها الأصل والباقي فرع.

ثانياً: الفوائد

بعد هذا الاستعراض للمقاطع الواردة في هذه الآيات الشريفة نستعرض الفوائد التي نقتطفها من هذه الآيات:

الفائدة الأولى: يمكن القول أن هذه الآيات تعتبر من أمهات الآيات الوارد ذكرها في قوله تعالى ( هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) ؛ وذلك لأنها تبيِّن ركناً من أركان النجاة الأخروية، وتبين كيفية بدء الخليقة ومقام خليفة اللَّه.

الفائدة الثانية: أن المفاد الإجمالي هو استخلاف اللَّه عزَّ وجلَّ لخليفةٍ أحد مصاديقه آدم، وهذه الخلافة مطلقة غير مقيدة بقيد، وهي خلافة اسمائية كما بيَّـنَّاه.

الفائدة الثالثة: أن هذا المقام الذي يبينه الحق تعالى في هذه الآيات ليس مقام النبوة والرسالة وإن كان يتصادق

معهما، بل ينطبق على مقام الإمامة، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة في شرح الخطبة القاصعة.

الفائدة الرابعة: أن الخلافة ليست محدودة في الأرض وغير مقيدة بهذه النشأة وإن كان المستخلَف ذا بدن وسنخه أرضيا.

الفائدة الخامسة: الذي يظهر من الآيات الكريمة أن آدم كان قد تلقَّى العلم اللَّدُني قبل نزوله الأرض، بل قبل دخوله الجنة، وهذا يدفعنا للقول أن الموجود الإنساني حقيقته ليست جهته البدنية التي يحيا بها على هذه الأرض، بل إن له مدى أعمق من ذلك، وأن وراء تلك الحقيقة البدنية الأرضية حقيقة بعيدة عن عالم البدن؛ هي الروح، تكون - بشهادة قصة آدم - سابقة على الوجود الأرضي؛ مخلوقة قبل خلق البدن، وهذا هو المقدار الذي اتفق عليه كثير من الفلاسفة من لدن أفلاطون وحتى صدر المتألهين وإن اختلفوا بعد ذلك في كيفية

٣٢٩

التقدم وتفسير ذلك التقدم وحدوثه أو قدمه على نظريات مختلفة، لكن القدر المتَّفق عليه بينهم أن خلق الأرواح كان قبل خلق الأبدان بمعنى ما وإن عبّر المشاؤون بأنها حادثة بحدوث البدن.

فهذه الروح أيضاً ذات درجات مختلفة تبعاً لاختلاف درجات العلم كما يظهر من قصة آدم، ووجود هذه الروح يتلاءم مع تفسير العلم أنه من سنخ المجرَّدات.

وأخيراً نود أن يسائل الإنسان نفسه: إذا كان تلك حال آدم وروحه المقدسة ودرجاتها العالية، فكيف يكون الحال مع مَن تكون حقيقته الأسماء التي أشير إليها بلفظ ( هؤلاء ) ؟!

الفائدة السادسة: أثبتنا سابقاً أن مِلاك استخلاف آدم هو العلم اللدني الذي تلقَّاه من الحق تعالى.

الفائدة السابعة: أن متعلق العلم الذي تلقاه آدم حقائق نورية حية عاقلة شاعرة جامعة للعلوم، وهي غيب السماوات والأرض. وما ورد في بعض روايات العامة والخاصة من أن المراد بالأسماء هي مسميات كل الأشياء في عالم الخلقة، فهو لا يتنافى مع ما نذكره؛ وذلك لأن الفرض أن العلم بالمعلومات التي هي جوامع ومحيطة بما تحتها من مصاديق وأنواع وأجناس، فيكون متعلق العلم اللدني جامع كل العلوم وذلك بجنسية اللام.

الفائدة الثامنة: أن هذه الآيات تقودنا إلى ما يثبته الإمامية من أبدية الخليفة على وجه الأرض ودوام وجود الحجة على هذه الأرض إلى أن يرث اللَّه الأرض وما عليها. ويتضح ذلك من خلال تساؤل الملائكة عن الخليفة الأرضي؛ حيث إنها نظرت إلى الصفات السلبية، فأجاب الحق تعالى: أنه يكفي في صحة الاستخلاف وجود إنسان كامل تتمثَّل فيه الحقيقة البشرية، وهو حاصل العلم اللدني، وهو خليفة اللَّه في أرضه. فلو فرضنا انتفاء ذلك الموجود الكامل على وجه الأرض فترة

٣٣٠

وبرهة زمنية ما، لصح اعتراض الملائكة وتساؤلهم وأن ما ذكره اللَّه عزَّ وجلَّ غير متحقِّق - والعياذ باللَّه.

الفائدة التاسعة: ورد في الروايات أن الإمامة سفارة ربانية إلهية كالنبوة وإن لم تكن نبوة، فآدم حلَّ في مقام الخليفة والسفير، وهو الحجة صاحب التعليم وهم ينقادون إليه، فهو ينطبق عليه الحد الماهوي للإمامة؛ بدليل اكتمال الملائكة بالعلم الحصولي الذي حصلوا عليه وأنبأهم به آدم، وبالانقياد إليه وإلاّ لَمَا أمرهم تعالى بذلك، فهو إمام الإنس والجن.

الفائدة العاشرة: أن الخلافة هنا لا تكون بعزل المستخلف عن الأمر، بل هي خلافة مع وجوده تعالى ولا انحسار لقدرته تعالى، بل هو إقدار من جانبه لآدم. والخليفة هنا حاوٍ وجامع لصفات المستخلِف بنحو التنزُّل في عالم الإمكان، لا أن الاستخلاف هو عين تلك الصفات.

الفائدة الحادية عشر: ذكرنا مراراً أن مراتب التوحيد لا تتم إلاّ بالمرتبة الأخيرة؛ وهي: التوحيد في الطاعة، ومن هنا نجد أن الروايات المختلفة لدى العامة والخاصة تشير إلى أن كفر إبليس ليس كفر شرك، فهو لم يعبد غير اللَّه، وإنما كان جحده واستكباره عن توحيد اللَّه في مقام الطاعة، وقد ورد في بعضها أنه طلب من ربه إعفائه من السجود لآدم وسوف يعبده عبادة لا نظير لها، وجاء الجواب من الحق تعالى: (إني أريد أن أطاع من حيث أريد لا من حيث تريد) (1) ، وفي رواية أخرى: (إني أُريد أن اُعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد) (2) ، وهذه هي الضابطة المهمة في بحث الإمامة، فالإمامة هي توحيد في عبادة وطاعة الباري من حيث يريد لا من حيث الذوات الأخرى تريد.

____________________

(1) قصص الأنبياء، 7، 43، وبحار الأنوار، ج2، ص262.

(2) تفسير القمي، ج1، ص41، وبحار الأنوار، ج11، ص141.

٣٣١

الفائدة الثانية عشر: أنه ورد في بعض الروايات عن أهل البيت‏ عليهم‌السلام : (الناس عبيد لنا) وهذه ليست عبادة ربوبية، بل هي خضوع وانقياد وعبودية الطاعة ونكران الذات والانقياد المطلق للسفير الإلهي، وهذا التسليم هو الذي نستفيده من الإسجاد الوارد في هذه الآيات.

الفائدة الثالثة عشر: أن قبول الأعمال مرهون بالتولِّي لخليفة اللَّه وسفيره، وهذا نستفيده من الغضب الإلهي الذي حل على إبليس لامتناعه عن السجود كما أن عبادته السابقة ذهبت هباء لا أثر لها؛ لعدم التولي والانقياد لخليفته. وقد أشرنا فيما سبق أن قبول الأعمال مرهون بالموافاة، أي موت المكلف الحي على موافاة التوحيد؛ أي أن لا يكفر، وقد ذكرنا أن التوحيد المقابل للكفر الاصطلاحي أحد أركانه التوحيد في الطاعة؛ أي تولِّي ولي اللَّه. وهذا الأمر الذي دلت عليه هذه الواقعة القرآنية مُدلَّل عليه أيضا في علم الكلام والتفسير.

وبتعبير آخر: أن الثواب على الأعمال هو التكامل، والتكامل هو السير إلى المقامات المعنوية العالية والإمام هو صاحب ذلك المقام الملكوتي الذي يسير بالنفوس في سيرها التكاملي من كمال إلى كمال.

الفائدة الرابعة عشر: أن الآية تثبت الولاية التكوينية؛ وذلك لأن سجود الملائكة لآدم - كما ذكرنا - لم يكن سجوداً عبادياً، بل طاعتيا، وهذا يعني إقداره عليهم، وهذا يعني ولايته على أهل السماوات والأرضين والغيب، ومن ثُم الإشراف على كل عمل يسند إلى الملائكة في الكتاب المجيد.

ويجب الالتفات إلى أن المقصود بالولاية التكوينية هي إقدار من عند الحق تعالى وفي طوله، من دون أن يوجب ذلك حصر قدرته وعزله عن مخلوقاته، ومن دون أن يؤدي إلى التفويض الباطل، ومن دون أن يحيط المخلوق - الذي أقدره تعالى - بقدرة الباري؛ وحيثية الشرك ناشئة من عزله تعالى وحصر قدرته، بل إن

٣٣٢

الاعتقاد باستقلالية الممكن استقلالية تامة هو شرك وندِّيَّة للَّه تعالى. أمَّا الاعتقاد بالطولية وإقدار اللَّه وأن كل عالم الإمكان هو في حضرته تعالى، فهو ليس بشرك، بل تمام التوحيد في الأفعال.

إذن في هذه الآيات بيان لجانب من جوانب الولاية التكوينية وخصوصاً إذا لاحظنا أن السجود قامت به كل الملائكة وليس بعضهم، بخلاف المواقف الأخرى في الآيات الكريمة حيث إنه كان بمحضر بعض الملائكة كما يظهر من بعض الروايات. أمَّا مقام السجود، فإنه كان بحضور جميع الملائكة كما يظهر من (كلهم، أجمعون، اللام في الملائكة)، ويؤيِّده ما ورد في الحديث أن جبرائيل لا يتقدم على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي كثير من المواطن يخاطبه الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك؛ فيعلله من أن اللَّه أسجدنا نحن أجمعين لآدم. وفي صحيح عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه‏ عليه‌السلام قال: (لمَّا مات آدم‏ عليه‌السلام ، ‏فبلغ إلى الصلاة عليه، فقال هبة اللَّه لجبرئيل: تقدَّم يا رسول اللَّه، فصل على نبي اللَّه، فقال جبرئيل: إن اللَّه أمرنا بالسجود لأبيك، فلسنا نتقدَّم على أبرار ولْده، وأنت من أبرِّهم) (1) .

الفائدة الخامسة عشر: يستفاد من جعل الخليفة سابقاً على الخلق أن الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق؛ وهو تفسير لِمَا ورد: (لولا الحجة لساخت الأرض).

الفائدة السادسة عشر: إن إمامة آدم وغيره من خلفاء اللَّه وسفراءه مطلقة وعامة للجميع البشر والملائكة والجن، وهذا يستدعي بيان مقدمات:

ـ أشرنا في الفصل الثاني إلى أن الاستخلاف لبني البشر على نحوين؛ أحدهما: استخلاف اصطفاء، وهو مقام خليفة اللَّه والإمامة، والثاني: الاستخلاف العام لنوع

____________________

(1) التهذيب، ج3، ص330، ح 1033.

٣٣٣

بني الشر، وفي هذا النحو اختلفت الآراء في الهدف من هذا الاستخلاف، فذهب جمع من العامة إلى أن الغاية من هذا الاستخلاف هو إعمار الأرض؛ تمسُّكاً بظاهر قوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) (1) ، ولكن في هذا الرأي مجانبة للحقيقة والواقع؛ وذلك لأن ظاهر كثير من الآيات القرآنية تدل على خلاف ذلك، أو بالأحرى تدل على أن الغاية من الخلقة والاستخلاف في هذه النشأة لا ينحصر بالإعمار، وأوضح تلك الآيات: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ؛ حيث فسَّرت العبادة بالمعرفة، فالغاية النهائية من الاستخلاف في هذه النشأة هو معرفة الحق تعالى حقَّ معرفته وإطاعته وعبادته، بل في قوله تعالى: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ... وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) إشارة إلى أن الغاية من خلق الإنسان ليس خصوصيته الأرضية، بل هو أمر أعمق غوراً، وآيات تسخير المخلوقات له وأنَّ أكرم الخلق هم بني آدم التي تدل دلالة قاطعة على أنه حُشِد في هذا المخلوق من الإمكانيات والطاقات ما لا يتناسب مع جعل الغاية هو إعمار جزء عالم الإمكان.

ـ وبتعبير فلسفي عرفاني: أن الإنسان هو المظهر الجامع للأسماء الحسنى، فمظاهر كل اسم من أسماء اللَّه الحسنى يمكن أن تتجلَّى وتظهر في الإنسان وفي أفعاله ودرجات وجوده بخلاف بقيَّة الكائنات؛ ولذا يوصف الإنسان بأنه مظهر الاسم الجامع اللَّه وإنْ كان هناك أبرز أفراد البشر؛ وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في مظهر اسم الجمع (اللَّه)، أمَّا بقية الأفراد، فقد يكونوا مظهراً لبعض الأسماء كالعليم أو غيره...

وعليه فالإنسان أتمُّ مخلوق وأشرف مخلوق وأكرم مخلوق، ومن غير الممكن أن يُخلق كائن بكل تلك الإمكانيات والقدرات من أجل أمر سافل، بل لا

____________________

(1) هود:61.

٣٣٤

بد أن يكون لأجل شي‏ء أعلى وهدف أسمى.

وهذا الأمر العقلي يتناسب مع ما ذكرنا من ظواهر الآيات القرآنية أن هدف الخلقة ليس هو مجرد إعمار الأرض، بل يجب أن يكون أمراً أسمى وأعلى، وأن المطلوب من الإنسان غير الذي هو مطلوب من غيره، وهذا من باب الكشف الإنِّي.

ـ أشرنا أيضاً إلى أن حادثة السجود حضرها جميع الملائكة بدون استثناء، ومع أن الملائكة هي التي تدير الكون بأمر اللَّه تعالى، وأن رُتبتها تفوق كثير من المخلوقات، فهي - مع ذلك - تنقاد لخليفة اللَّه؛ فيظهر من ذلك أن الجن وما دون الجن تنقاد أيضاً لخليفة اللَّه.

الفائدة السابعة عشر: من الأمور التي رُكّز عليها في قصة آدم هو مسألة خلق آدم من الطين، وأن اللَّه عزَّ وجلَّ تعمَّد إخبار الملائكة بذلك قبل أمرهم بالسجود؛ وهذا يدلِّل على أمر مهم، وهو: أن الملائكة مع أنهم معصومون، إلاّ أن تكاملهم ورُقيِّهم يتوقَّف على الامتحان والابتلاء - كما سوف تأتي الإشارة إلى ذلك في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة - وذلك بالأمر بالسجود، مع علمهم أنه مخلوق من طين وهو ليس من جنسهم، وهذا فيه تشديد في الابتلاء والامتحان؛ وما ذلك إلاّ لأن الطاعة - حينئذٍ - سوف تكون خالصة للَّه، لا شائبة فيها، فلو كان في خلق آدم مزية على خلق الملائكة، وكان له من النور ما يخطف به الأبصار، لكانت الطاعة مشوبة لا خالصة. وهذا يرشدنا إلى ما يجب أن تكون عليه الواسطة من كونها لمجرد الإرشاد والعلامتية والحرفية للذات المقدسة، وأن لا يرى فيها الإنسان شيئاً سوى حرفيَّتها؛ ولهذا كان التنبيه الدائم على الطبيعة الأرضية لآدم.

فكمال التوحيد وتمامه هو بالائتمام، وبه يتم الخلوص في العبادة، وهذا ليس شرطاً كمالياً للعبادة، بل يكون شرطاً مقوِّماً للتوحيد والعبادة؛ حيث يرى أن كل

٣٣٥

ما سوى اللَّه مخلوقاً للَّه.

وإذا نظر إليها على نحو الاستقلالية، فإنها سوف تكون ربَّاً، وحال الواسطة حال المعنى الحرفي الذي إذا لوحظ في نفسه فلن ينبأ عن معنى في غيره، وإذا لم يلاحظ كذلك، فسوف ينبأ عن معنى في غيره ويؤدي الغرض منه.

ومن هنا يجب أن تكون الطاعة خالصة للَّه عزَّ وجل؛ لا يُرى فيها إلاّ وجه المعبود، خالية من الزوائد والشوائب. وهذا لا يكفي فيه الخطور الذهني فقط، بل يجب أن يرى في نفسه حقيقة العبودية، والخلوص بهذا المعنى نستفيده من هذه الآية، وأن ما جرى لإبليس أنه كان يرى لنفسه استقلالية، فقال: ( لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ) ، فهو رأى أن لا يليق بشأنه أن يسجد لآدم، وهذا نحو من رؤية استقلال الذات ونفي للواسطة التي نصبها اللَّه، أي نفي للحاظ الافتقار إلى الباري. ومن هنا يظهر أن الإيمان أحد محاوره هو الإمامة؛ حيث فيها يظهر كيف يقوم الإنسان بإماتة الذات ودحر الأنانية، وأن عدم الاعتقاد بالإمامة هو بداية الشرك.

الفائدة الثامنة عشر: والحديث حول نفس الوسائط حيث يجب أن يؤمن فيها معنى الحرفية، وهذا يعني أنهم لا يشيرون إلى ذواتهم وغرور ذاتهم، بل هم في حالة خضوع وتذلُّل لباريهم، وهذا لا يكون إلاّ بعصمتهم العلمية والعملية؛ وذلك لأنه إذا نصب واسطة غير معصومة، فإنها سوف لا تكون مشيرة إلى الحق تعالى، وسوف تُظهر نفسها ولا تظهر عظمة اللَّه، ولدينا في بعض الروايات: (أن مَن حكم بغير حكم اللَّه فهو طاغوت).

وهنا يجب التدقيق في: ما هو منشأ عدم حكمه بما حكم به اللَّه؟ والجواب: هو غرائزه النفسية؛ فذاته طغت على ما يجب أن تكون عليه الذات الإنسانية من حقيقة العبودية للَّه والحرفية له تعالى، وطاغوت صيغة مبالغة من الطغيان، وقال

٣٣٦

في المفردات: (أنه كل متعدٍّ، وكل معبود ما سوى اللَّه)، أي تعدَّى حدود نفسه ونظر إليها على نحو الاستقلالية. والإيمان بالطاغوت هو الإيمان بذلك الطاغوت، وهي الذوات التي ليس فيها إراءة للَّه عزَّ وجل، إذن العصمة هي التي تؤمِّن لنا أن يكون الواسطة دائماً مظهراً للَّه يطوِّع إرادته لإرادة ربِّه في كل مكان ولا يرى لنفسه شيئاً.

فيجب على العابد:

1 ـ أن لا يلتفت إلى ذاته، وأن يرى نفسه - دائماً - مخلوقا.

2 - أن تكون الوسائط حقَّة؛ من عند اللَّه، لا أن توسُّطها له من عند المخلوق، بل توسطها منتسب إلى اللَّه ولا استقلالية لها في نفسها، وأن الواسطة دائماً في حالة خضوع وتذلل إلى اللَّه ولا تشير إلى نفسها. ومن هنا كان التنصيب للواسطة من عند اللَّه وكانت الواسطة معصومة؛ حتى لا ترى لنفسها مكاناً سوى مكان الطاعة والخضوع للَّه عزَّ وجل، بل يجب أن تكون - في تمام شؤونها - حاكية عن اللَّه؛ قال تعالى: ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللّهِ ) (1) .

وإذا لم تكن الواسطة آية، فسوف تكون حجاباً ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) ؛ إذ من الواضح أن المسيحيين لم يؤلِّهوا أحبارهم، وإنما كانوا مستقلين في أحكامهم؛ يحكمون بهواهم ورغباتهم، ولم يستقوها من عند اللَّه.

وفي كلام بعض أهل المعرفة والتحقيق عند شرحه للسفرين الأولين من الأسفار الأربعة قال: وفي هذين السفرين لو بقي من الأنانية شي‏ء يظهر له شيطانه الذي بين جنبيه بالربوبية ويصدر منه (الشطح)، والشطحات كلها من نقصان السالك والسلوك وبقاء الإنِّيَّة والأنانية؛ ولذلك بعقيدة أهل السلوك لا بدَّ للسالك

____________________

(1) آل عمران: 79.

٣٣٧

من معلم يرشده إلى طريق السلوك، عارفاً كيفيَّاته، غير معوج عن طريق الرياضات الشرعية، فإن طرق السلوك الباطن غير محصور، بل هو بعدد أنفاس الخلائق) (1) .

والأئمة عليهم‌السلام ‏في حالة خضوع وخشوع وتضعضع للَّه دائماً، ومَن اقترب منهم فقد اقترب من الحق تعالى لأنهم مرآة له وآيات له.

الفائدة التاسعة عشر: أن إحدى الشؤون النازلة لمقام سفير اللَّه وحجته هي الزعامة السياسية، وأن غصبها منه لا يعني غصب مقام الإمامة، وهي أدنى شؤون الإمامة، وقد أشرنا أن أعلاها هو الخلافة الأسمائية لأسماء اللَّه حيث يبيَّن في الآيات أن استحقاقه لهذا المقام هو بتعلُّمه لهذه الأسماء؛ فأدني الدرجات اعتبارية كما في نصبه في حديث الغدير وأعلاها تكوينية.

الفائدة العشرون: أن الإمامة أمر اعتقادي ومن أصول الدين وليست مسألة فرعية، ويبتني عليه أن البحث فيها يكون ذا ثمرة خطيرة وليس بحثاً متوسط الفائدة، ولا تنحصر الفائدة منه في كونه مصدراً للأحكام فقط، بل المسألة اعتقادية كمسألة النبوة تناط بالتواجد الفعلي، فيجب بحثها حتى مع غيبة المعصوم، كما أنها ليست مسألة فرعية يكون الحكم فيها دائراً مدار وجود الموضوع، ومن الغفلات الشديدة أن يقال: إن البحث في الإمامة لا محل له الآن.

وهذا الأمر نستفيده من مقام الولاية على الملائكة الوارد في الآية، وأن هذا المقام حقيقة تكوينية، ويحاول البعض من العامة الاستفادة من غفلة البعض ليعترض بأن الإمام الثاني عشر غائب فما الفائدة من البحث في إمامته؟ وهذا الأمر يؤثِّر على المبنى المتبع في تنظير الحكم والحكومة في زماننا هذا؛ حيث إنه مع عدم وجود الإمام فقد يقال بالشورى، وهذا كله غفلة عن حقيقة الإمام و مقامه

____________________

(1) الإمام الخميني، مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، ص88 عند نقله لكلام الشيخ العارف القمشه أي.

٣٣٨

التكويني وأنه يتصرَّف في النفوس لا من باب الجبر، وقد مضى البحث في هذا مفصَّلا.

الفائدة الحادية والعشرون: إثبات المعرفة النورانية وأنهم كانوا أنواراً، لِمَا تقدم من أن اسم الإشارة (هؤلاء) وضمير الجمع (هم) المتكرِّر ثلاث مرات، إنما يستعمل في الحي الشاعر العاقل، وأن تلك المسمَّيات غيب محيط بالسماوات والأرض، وأنه بالعلم بأسمائهم استُحق مقام الخلافة والتفوق على الملائكة، فهذه المسميات موجود نوري؛ أي حي شاعر لطيف منشأ للقدرة والعلم، وكونهم أعلى وأرفع شأنا من آدم فضلاً عن الملائكة. وفي الحديث عن أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام : (إنه لا يستكمل أحد الإيمان حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية، فإذا عرفني بهذه المعرفة، فقد امتحن اللَّه قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام وصار عارفاً مستبصراً،... معرفتي بالنورانية معرفة اللَّه عزَّ وجل، ومعرفة اللَّه عزَّ وجل معرفتي بالنورانية، وهو الدين الخالص الذي قال اللَّه تعالى: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (1) ) والحديث طويل يتناول فيه معرفتهم بالنورانية وشؤون الإمامة ن وهو وإن كان حديثا مرسلاً إلاّ أن مضمونه عالٍ، وهكذا الرواية التي تليها من نفس الباب عن جابر بن يزيد الجعفي عن الإمام السجاد والباقر عليهما‌السلام وهي كالسابقة عالية المضامين ويشير بعض الأعلام في ذيلها (إنما أفردت لهذه الأخبار باباً؛ لعدم صحة أسانيدها، وغرابة مضامينها، فلا نحكم بصحتها ولا ببطلانها ونرد علمها إليهم - ‏عليهم السلام) وهذا عجيب منه‏(قدس سره‏)؛ حيث إن أحاديث النورانية عنهم كثيرة في غير هذا الباب وليس فيها غرابة، انظر: بحار الأنوار/ المجلدات 25 - 24 - 23 يذكر روايات كثيرة في بيان مقام الإمامة التكوينية

____________________

(1) البيِّنة: 5.

٣٣٩

وعلومهم اللَّدُنيَّة، وكذا من طرق العامة التي بمضمون (أول ما خلق اللَّه نور نبيك يا جابر).

وفي حديث طارق بن شهاب عن أمير المؤمنين المروي في البحار / مج25/ ص169: (يا طارق، الأمام كلمة اللَّه و حجة اللَّه ووجه اللَّه ونور اللَّه وحجاب اللَّه و أية اللَّه، يختاره اللَّه ويجعل فيه ما يشاء ويوجب له بذلك الطاعة والولاية على جميع خلقه، فهو وليه في سماواته وأرضه أخذ له بذلك العهد على جميع عباده، فمَن تقدم عليه كفر باللَّه من فوق عرشه) وهذه الموارد كلها قد ذكرناها في النقاط الماضية حيث إنه يكون حرفياً بالنسبة للَّه مشيراً إليه دائماً، وأن إمامته تشمل جميع الخلائق. و لا نريد الاسترسال في البحث الروائي وإنما أوردنا البعض فقط من باب التأييد لِمَا يستفاد من ظهور الآية الكريمة، ومن أراد الاستزادة فعليه بما ورد عن الإمام الرضا في الكافي حيث يزاوج بين مقامات الإمام العالية وشؤونه النازلة.

الفائدة الثانية والعشرون: أن اللَّه عزَّ وجلَّ بيّن موضوعية الواسطة والوسيلة وضرورة الأخذ منها، فلا يقول قائل: ملك مقرَّب أو عبد ممتحن، وإنه يجب أن يكون كل شي‏ء عن طريقه. وفي نفس الوقت نؤكِّد أن تمام وجودها آية والاقتراب من الحق سبحانه هو بالواسطة، ومن دون الواسطة سوف يكون كفراً إبليسياً وحجابا.

الفائدة الثالثة والعشرون: أن الملائكة على عظم مقاماتهم وخلوصهم وصفائهم ونورانيتهم غير مؤهلين لخلافة اللَّه تعالى.

الفائدة الرابعة والعشرون: أن إضافة الرب إلى ضمير الخطاب (ربك)، يفيد أن هذه السنة الإلهية في هذه الأمة أيضا، بل إن صياغة التعبير المكرَّر في السور لهذه الواقعة آب عن الاختصاص بأمة دون أخرى، بل لنوع البشرية، هذا مضافاً إلى ما ذكرناه من أن عموم جواب الملائكة لدفع اعتراضهم يقتضي التأبيد أيضا.

الفائدة الخامسة والعشرون: أن مقتضى الجملة الاسمية واعتماد هيئة الفاعل في

٣٤٠

الزُّبُرِ ) (١) .

فما الفرق بينكم وبين قوم فرعون وقوم نوح ولوط وثمود؟ فكما أنّ أولئك الأقوام قد عذّبوا بالطوفان تارة والزلازل والصواعق اخرى ، اقتصاصا منهم للكفر والظلم والطغيان والعصيان الذي كانوا عليه فما المانع أن يصيبكم العذاب ويكون مصيركم نفس المصير فهل أنتم أفضل منهم؟ وهل أنّ كفركم وعنادكم أخفّ حدة؟ وكيف ترون أنّكم مصونون من وقوع العذاب الإلهي؟ أألقي إليكم كتاب من السماء يعطيكم هذا الأمان؟

ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الادّعاءات ادّعاءات كاذبة لا يقوم عليها أي دليل( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ) (٢) .

«جمع» بمعنى مجموع ، والمقصود هنا هي الجماعة التي لها هدف وقدرة على إنجاز عمل ، والتعبير هنا بـ (منتصر) تأكيد على هذا المعنى لأنّه من مادّة (انتصار) بمعنى الانتقام والغلبة.

والجدير بالذكر هنا أنّ الآية السابقة كانت بصورة خطاب ، أمّا في الآية مورد البحث والآيات اللاحقة ، فإنّ الحديث عن الكفّار بلغة الغائب ، وهو نوع من أنواع التحقير ، أي أنّهم غير مؤهّلين للخطاب الإلهي المباشر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ ادّعاءهم بالقوّة والقدرة ادّعاء فارغ وقول هراء ، لأنّ الأقوام السابقة من أمثال قوم عاد وثمود وآل فرعون وأضرابهم كانوا أكثر قوّة وسطوة ، ومع ذلك فلم تغن عنهم قوّتهم شيئا حينما واجهوا العذاب ، وكانوا من الضعف كالقشّة اليابسة تتقاذفها الأمواج من كلّ مكان ، فكيف بمن هو أقل عددا وأضعف حيلة وقوّة ومنعة؟

__________________

(١) الضمير في «كفّاركم» يرجع في الظاهر (المشركي العرب) بقرينة الجملة( أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) .

(٢) بالرغم من أنّ (نحن) ضمير جمع فانّ خبرها (جميع) قد جاء مفردا ، وكذلك منتصر والتي جاءت خبرا بعد خبر أو صفة لـ (جميع) ، والسبب في ذلك فإنّ لفظ (جميع) وإن كانت مفردة إلّا أنّ المعنى (جمع).

٣٤١

ويواجه القرآن الكريم هؤلاء السادرين في غيّهم بإخبار غيبي حاسم وقوي ، حيث يقول :( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (١) .

والظريف هنا أن سيهزم من مادّة (هزم) على وزن (جزم) وفي الأصل بمعنى الضغط على الجسم اليابس لحدّ التلاشي. ولهذا السبب استعملت هذه الكلمة (هزم) في حالة تدمير الجيوش وانكسارها.

وربّما أشار هذا التعبير إلى النقطة التالية وهي : رغم حالة الاتّحاد والانسجام لهؤلاء القوم ظاهرا ، إلّا أنّهم كالموجودات اليابسة والفاقدة للروح ، فبمجرّد تعرّضها إلى ضغط قوي تتهشّم ، ونرى عكس ذلك في المؤمنين المتصّفين بالقوّة المقترنة بالمرونة ، حيث أنّهم إذا ثقلت عليهم المحن واشتدّت الأزمات وأحنتهم العاصفة فإنّهم سرعان ما يستعيدوا قواهم مرّة اخرى ليواجهوا مصاعب الحياة.

«دبر» بمعنى «خلف» في مقابل (القبل) بمعنى «أمام» ، وسبب ذكر هذه الكلمة هنا لبيان حالة الفرار من ساحة المعركة بصورة كليّة.

لقد صدق هذا التنبّؤ في معركة بدر وسائر الحروب الاخرى حيث كانت هزيمة الكفّار ساحقة ، فإنّه رغم قدرتهم وقوّتهم فقد تلاشى جمعهم.

وفي آخر الآية مورد البحث يشير سبحانه إلى أنّ الهزيمة التي مني بها المشركون سوف لن تكون في الدنيا فقط ، وإنّما هي في الآخرة أشدّ وأدهى ، حيث يقول البارئعزوجل :( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ ) .

وعلى هذا التصوّر ، فما عليهم إلّا أن ينتظروا هزيمة ما حقة في الدنيا ، ومصيرا سيّئا واندحارا أمرّ وأكثر بؤسا في الآخرة.

«أدهى» من مادّة (دهو) و (دهاء) بمعنى المصيبة والكارثة العظيمة والتي لا مخرج منها ولا نجاة ، ولا علاج لها ، وتأتي أيضا بمعنى الذكاء الشديد ، إلّا أنّ

__________________

(١) مع العلم أنّ من المناسب أن يقال (يولّون الأدبار) إلّا أنّه قيل هنا : (يولّون الدبر) ، لأنّ لهذه المعنى (جنس) حيث تكون في حكم الجمع.

٣٤٢

المقصود منها في الآية الكريمة هو المعنى الأوّل.

نعم إنّهم سيبتلون يوم القيامة بعذاب محتّم وعاقبة بائسة لا مفرّ منها.

* * *

ملاحظة

تنبّؤ إعجازي صريح :

ممّا لا شكّ فيه أنّه عند ما نزلت هذه الآيات في مكّة المكرّمة كان المسلمون أقليّة ضعيفة ، وكان العدو في أوج القوّة والقدرة ، ولم يكن أحد يتوقّع انتصار المسلمين بهذه السرعة ، فهو أمر غير قابل للتصديق في تلك الظروف ، ولا مجال للتنبّؤ به.

وكانت هجرة المسلمين بعد فترة وجيزة من هذا التاريخ حيث اكتسبوا خبرة وقوّة ، ممّا جعلهم يحقّقون الإنتصار والغلبة على المشركين في أوّل مواجهة عسكرية معهم ، وذلك في معركة بدر ، حيث وجّه المسلمون صفعة قويّة مفاجئة لمعسكر الكفر ، ولم يمض وقت طويل إلّا ونلاحظ أنّ الإيمان بالرسالة المحمديّة لم يقتصر على مشركي مكّة فحسب ، بل شمل الجزيرة العربية أجمع ، حيث استسلمت للدعوة الإلهيّة.

أليس هذا النبأ الغيبي الإلهي الذي واجهنا بهذه الصراحة والجديّة معجزة؟

ومن الواضح أنّ أحد عناصر الإعجاز في القرآن الكريم هو تضمّنه للأخبار الغيبية ، وهذا ما نلاحظه في الآية مورد البحث.

* * *

٣٤٣

الآيات

( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥) )

التّفسير

المؤمنون في ضيافة الله :

في الحقيقة إنّ هذه الآيات هي استمرار لبحث الآيات السابقة حول بيان أحوال المشركين والمجرمين في يوم القيامة. وآخر آية من تلك الآيات تعكس هذه الحقيقة بوضوح ، وهو أنّ يوم القيامة هو الموعد المرتقب لهؤلاء الأشرار في الاقتصاص منهم ، حيث يحمل المرارة والصعوبة والأهوال لهم ، والتي هي أشدّ وأقسى ممّا أصيبوا به في هذه الدنيا.

٣٤٤

وتتحدّث الآية الاولى ـ مورد البحث ـ عن ذلك حيث يقول سبحانه :( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) (١) .

يقول البارئعزوجل :( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) حيث يبيّن الله سبحانه أنّ العذاب الإلهي واقع عليهم ولا ريب فيه ، وسيواجهونه عمليّا رغم استهزائهم وسخريتهم وادّعائهم أنّه من نسج الأساطير.

«سقر» على وزن (سفر) وفي الأصل بمعنى تغيّر لون الجلد وتألّمه من أشعّة الشمس وما إلى ذلك. ولأنّ إمكانية تغيير لون الجلد وألمه الشديد من خصوصيات نار جهنّم ، لذا أطلق اسم (سقر) عليها. والمراد من (مسّ) هو حالة التماس واللمس ، وبناء على هذا فيقال في أهل النار : ذوقوا لمس نار جهنّم وحرارتها اللاذعة ، ذوقوا طعمها ، هل هي أكاذيب وخرافات وأساطير ، أم أنّها الحقيقة الصارخة؟

ويعتقد البعض أنّ (سقر) ليس اسم كلّ النار ، بل هو اسم مختّص بجانب منها تكون فيه النار حامية لدرجة مذهلة وخارقة.

وفي ثواب الأعمال عن الصادقعليه‌السلام : «إنّ في جهنّم لواديا للمتكبّرين يقال له سقر شكا إلى الله شدّة حرّة ، وسأله أن يأذن له أن يتنفّس فأحرق جهنّم»(٢) .

ولكي لا يتصوّر أنّ هذه الشدّة في العذاب لا تتناسب مع المعاصي ، يقول سبحانه :( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) .

نعم إنّ عذابهم في هذه الدنيا كان بتقدير وحساب ، وكذلك سيكون عقابهم المؤلم في الآخرة ، وليس الجزاء فقط ، ذلك أنّ الله سبحانه خلق كلّ شيء بحساب

__________________

(١) «سعر» : كما بيّنا سابقا في آخر الآية (٢٤) من نفس السورة لها معنيان : الأوّل : انّها جمع سعير بمعنى اشتعال النار. والثّاني : بمعنى الجنون ، والهيجان الذي يلازمه اضطراب التوازن الفكري ، وفي الآية مورد البحث يمكن أن يكون بالمعنيين معا ، وإذا قصدنا المعنى الثاني فيكون مفهوم الآية كذلك : أنّهم كانوا يقولون إذا اتّبعنا إنسانا مثلنا فإذا نحن في ضلال وجنون ، وهنا يردّ القرآن الكريم عليهم بقوله : ستعلمون يوم القيامة آثاركم وتكذيبكم للأنبياء هو الضلال والجنون.

(٢) تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

٣٤٥

وتقدير ، فالأرض والسماء والكائنات الحيّة والموجودات الجامدة وأعضاء الإنسان ومستلزمات الحياة كلّها خلقت بقدر معلوم ، ولا يوجد شيء في هذا الوجود بدون حساب وتقدير ، لأنّ الخلّاق عليم حكيم ومقدّر.

ثمّ يضيف تعالى إنّه ليست أعمالنا موافقة للحكمة فحسب ، بل انّها مقترنة مع القدرة والحسم ، لأنّه :( وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) .

وتتجسّد الإرادة الربّانية والأوامر الإلهيّة من خلال كلمة «كن» فيترتّب على ذلك فورا وجود الشيء. (حتّى كلمة «كن» جاءت من باب ضيق البيان ، وإلّا فإنّ الإرادة الإلهيّة متحقّقة بمجرّد الإرادة).

ولذلك فإنّ اليوم الذي تقوم فيه الساعة يحدث بأمر الله بلمح البصر ، وكلّ شيء يكون في مسار الآخرة حينئذ ، وتبعث الحياة من جديد في الأبدان.

كما أنّ المشيئة الإلهية في مجازاة المجرمين بالصواعق والصيحات السماوية والزلازل والطوفان والرياح العاتية كلّ ذلك يحدث بمجرّد الأمر الإلهي وبدون تأخير.

إنّ هذه الإنذارات الموجّهة للعصاة والمذنبين كلّها من أجل أن يعلموا أنّ الله ، كما هو حكيم في أمره فإنّه حازم في فعله ، فهو حكيم في عين الحزم ، وحازم في عين الحكمة ، فليحذروا مخالفة تعاليمه وأوامره.

وفي الآية اللاحقة يخاطب الكفّار والمجرمين مرّة اخرى ، ويلفت انتباههم. إلى مصير الأقوام السابقة حيث يقول :( وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

«أشياع» جمع (شيعة) وتطلق على الأتباع الذين ينشرون ويشيعون ما يرتبط بالشخص المتّبع في كلّ الحالات ويسندونه ويناصرونه ، وإذا استعملت بمعنى (تابع) فإنّها تكون بنفس القصد.

ومن الطبيعي فإنّ الأقوام السابقة لم يكونوا أتباعا وشيعة لمشركي مكّة وأمثالهم ، بل العكس هو الصحيح ، ولكن بما أنّ المؤيّدين لشخص ما يشبّهونه في

٣٤٦

سلوكه ، لذا فإنّ هذا المصطلح يطلق على الشبيه والمماثل أيضا.

ويجدر بنا القول بأنّ هذه الطائفة من مشركي مكّة كانوا يستعينون ويستفيدون من الخطّ الفكري الذي كانت الأقوام السابقة عليه ، ولهذا السبب فإنّ كلمة (أشياع) أطلقت على الأقوام السابقة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الكريمة تؤكّد هذه الحقيقة مرّة اخرى ، وهي أنّ أعمال مشركي قريش وممارساتهم هي نفس أعمال وممارسات وعقائد الأقوام السابقة ، لذا فلا يوجد دليل على أنّ مصيركم سوف يكون أفضل من مصيرهم ، فاتّعظوا وعوا.

ثمّ يشير القرآن إلى هذا الأصل وهو أنّ صفحة أعمال الأقوام السابقة لم تنته بموتهم ، بل هي باقية ومسجّلة عليهم ، يقول سبحانه :( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ) فكذلك أعمالكم مثبّتة ومحفوظة ليوم الحساب.

«زبر» جمع (زبور) بمعنى الكتاب ، وهي تشير إلى صحيفة أعمال الإنسان ، ويحتمل البعض أنّ المقصود هنا هو : «اللوح المحفوظ» ، ولكن هذا المعنى لا يتناسب مع صيغة الجمع.

ثمّ يضيف سبحانه :( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) .

وبناء على هذا فحاسب الأعمال في ذلك اليوم هو حساب شامل وتامّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، حيث يستلم المرجمون صفحة أعمالهم كاملة ، فيصعقون لهولها ويصطرخون لدقّتها( وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .(١)

«مستطر» من مادّة (سطر) في الأصل بمعنى (صفّ) سواء ما يتعلّق بالأفراد أو الأشجار أو الكلمات التي تصف على الأوراق ، ولكون المعنى الأخير أكثر

__________________

(١) الكهف ، ٤٩.

٣٤٧

استعمالا ، لذا يتبادر إلى الذهن معناها الأخير.

وعلى كلّ حال فإنّه إنذار آخر لهؤلاء العاصين والمغفّلين والجهلة.

ولمّا كانت السنّة المتّبعة في القرآن الكريم غالبا ما تعتمد المقارنة بين جبهة الصلاح والهدى من جهة ، وجبهة الفساد والضلال من جهة اخرى ، لأنّ في المقارنة يبرز التفاوت والاختلاف بصورة أفضل ، فهنا أيضا بعد الحديث عن مصير الكفّار والمجرمين يشير سبحانه إشارة مختصرة إلى العاقبة السعيدة والحبور العظيم الذي يكون من نصيب المتّقين حيث يقول سبحانه :( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ) .

(نهر) على وزن (قمر) ، وكذلك (نهر) على وزن (قهر) والاثنان يعنيان مجرى الماء الكثير ، ولهذا يطلق على الفضاء الواسع كذلك ، أو الفيض العظيم أو النور المنتشر (نهر) ـ على وزن قمر ـ.

وبغضّ النظر عن الحديث اللاحق ، يمكن أن يكون هذا المصطلح في الآية أعلاه بنفس المعنى الأصلي ، أي أنّ كلمة (نهر) بمعنى نهر الماء ، ولا إشكال في كون الكلمة بصيغة المفرد ، لكونها تدلّ على معنى الجنس والجمع ، فينسجم مع (جنّات) جمع «جنّة» ، ويمكن أن يكون المراد منها هو اتّساع الفيض الإلهي والنور العظيم في ظلال الجنّة ورحابها الواسعة ، وبذلك تشمل المعنيين.

ولكن نقرأ هنا في حديث للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي نقل عن الدرّ المنثور أنّه قال : «النهر : الفضاء والسعة ، وليس بنهر جار»(١) .

وفي آخر آية مورد البحث والتي هي آخر آية في سورة القمر يوضّح البارئ بصورة أكثر (مستقر المتّقين) حيث يقول سبحانه أنّهم :( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) .

ويا له من وصف رائع وظريف! حيث أنّ هذا الوصف يتميّز بخصوصيتين

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٣٩.

٣٤٨

تجمعان كلّ السماوات الرائعة :

الأولى : أنّ المكان هو (مستقرّ صدق) وليس فيه باطل ، بل كلّه حقّ يجد فيه المتّقون كلّ ما وعدوا به كاملا غير منقوص.

الثانية : أنّهم في جوار وقرب الله سبحانه ، وهذا هو المستفاد من كلمة (عند) والذي يشير إلى غاية القرب المعنوي. وهذا القرب هو من الله المالك القادر ما أروعه عن قرب من الربّ الكريم الوهّاب والذي يمنح العطايا والهبات لضيوفه المتّقين بجميل لطفه وعظيم إحسانه وواسع كرمه ، حيث جميع ما في الوجود تحت قبضته وإمرته ومالكيته ، وهو المنّان الذي لا ينقصه شيء في السماوات والأرض ، والذي وعد المتّقين بالخير العظيم وأعدّ لهم عظيم العطايا والإحسان.

والنقطة الجديرة بالذكر في هاتين الآيتين والتي تتحدّث فيها عن الهبات وجزاء أصحاب اليمين ، حيث في البداية تتحدّث عن العطايا الماديّة التي تشمل البساتين الوارفة والحدائق الغنّاء والأنهار الجارية ، ثمّ تتحدّث بعد ذلك عن الجزاء المعنوي العظيم ، والذي يتجسّد بحضورهم من المليك المقتدر. وذلك تهيئة للإنسان من مرحلة إلى اخرى ، يغمرها الشوق والحبور ، والرغبة في العمل الصالح ، خصوصا أنّ تعابير (المليك) و (المقتدر) و (مقعد صدق) تدلّ جميعها على دوام وبقاء هذا الحضور والقرب المعنوي من الذات الإلهيّة.

* * *

بحوث

١ ـ التّقدير والحساب في كلّ شيء

تشير الآية الكريمة( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) رغم إيجازها إلى حقيقة مهمّة كامنة في جميع الكون وحاكمة عليه ، وهي دقّة الخلق والتقدير في جميع الوجودات.

٣٤٩

ومهما تطوّر العلم فانّ الإنسان يطّلع على مزيد من هذه الحسابات والتقديرات الإلهيّة الدقيقة في عالم الوجود ، والتي تشمل الكائنات المجهرية والأجرام السماوية العظيمة.

فمثلا : نسمع عن روّاد الفضاء أنّهم طبقا للحسابات العلمية الدقيقة التي أنجزت بواسطة مئات الأفراد المتخصّصين المستخدمين العقول الإلكترونية ، أنّهم سيهبطون بسفنهم الفضائية بنفس النقطة المحدّدة لهم على سطح القمر ، مع العلم أنّ كلّ شيء سيتغيّر في الفترة الزمنية التي تسير فيها السفينة الفضائية بين الأرض والقمر ، حيث يدور القمر حول نفسه وكذلك حول الأرض ويتغيّر مكانه بصورة كليّة ، وتدور الأرض حول نفسها ، وكذلك حول الشمس وبسرعة فائقة. ولأنّ جميع هذه التغييرات والحركات محسوبة ، ومقدّرة بصورة مضبوطة ودقيقة بحيث لا تتخلّف عن هذه الأنظمة ، يستطيع الفضائيون الهبوط في النقطة المحدّدة لهم على سطح القمر نتيجة تلك الحسابات والتقديرات الدقيقة.

ويستطيع المنجّمون كذلك من التنبّؤ بالخسوف والكسوف الجزئي والكلّي ، وقبل عشرات السنين ، وفي مختلف نقاط العالم ، وتلك قرائن ودلائل على دقّة المقاييس في هذا الوجود العظيم.

وفي الكائنات الصغيرة والديدان الدقيقة نلاحظ دقّة المقاييس والحساب بصورة تدعو للظرافة والإعجاب والانبهار عند ما نشاهد طبيعة العروق والأعصاب والأجهزة المختلفة لهذه الكائنات.

وعند ما ندقّق في الكائنات المجهرية كالمكروبات والفيروسات والأميبيات يبلغ إعجابنا أوجه لما نلاحظه من الدقّة فيها ، حيث إنّ الواحد على الألف من المليم وأصغر من ذلك يدخل في عالم الحساب ، والأعجب من ذلك حينما ندخل عالم الذرّة حيث تصل الدقة فيها إلى حدّ لا يصدّق وخارج عن الحدود المألوفة.

إنّ هذه المقاييس ليست مختّصة بالمسائل الكميّة فقط ، بل إنّ التركيبات

٣٥٠

الكيفية أيضا تتمتّع بنفس الخصوصيات الحسابية ، فالنظام المتحكّم على روح الإنسان وميوله وغرائزه ، وكذلك المقاييس الدقيقة في مسير المتطلّبات الفردية والاجتماعية للإنسان إذا طرأ عليها أي تغيير فإنّ النظام الحياتي الفردي والاجتماعي سيتعرّض للتغيّر والانهيار.

وفي عالم الطبيعة هنالك موجودات يتغذّى بعضها على البعض الآخر ، وكلّ منها يوقف حالة النمو والتكاثر لكلّ منها ، فالطيور الجارحة تتغذّى على لحوم الطيور الصغيرة ، وتمنع تزايدها بصورة أكثر من اللازم حتّى لا تضرّ المحاصيل الزراعية ، ولذا فإنّ الطيور الجارحة معمّرة ، وهذه الطيور المعمّرة قليلة البيض والفراخ ، وعدد محدود من هذه الأفراخ يستطيع العيش ، حيث يستدعي نموّها وبقاؤها ظروفا خاصّة ، ولو قدّر لهذه الطيور أن يكون لها فراخا كثيرة وبهذا العمر الطويل لأدّى ذلك إلى انقراض الطيور الصغيرة.

إنّ لهذه الحالة أمثلة عديدة وواسعة في عالم الحيوان والنبات ، والمطالعات المختلفة في هذا المجال تزيدنا وعيا في فهم الآية الكريمة :( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) .

٢ ـ التقدير الإلهي وإرادة الإنسان

قد يتوهّم البعض من خلال ما طرحته الآية الكريمة من الإعتقاد بالتقدير والحساب الإلهي أنّ أعمالنا وممارساتنا التي قوم بها لا بدّ أن تكون واقعة ضمن هذا القانون فهي مخلوقة لله تعالى أيضا وبالتالي فلسنا مسئولين عنها ولا اختبار لنا فيها.

ولكن كما قلنا سابقا فإنّ أعمالنا هي بتقدير ومشيئة البارئعزوجل ، ولن تخرج عن دائرة قدرته وإرادته أبدا ، وقد جعلنا الله سبحانه مختارين فيها ضمن ما قدّر لنا ، ولذلك عيّن لنا مسئوليات وتكاليف فلو لم نكن مختارين فإنّ هذه

٣٥١

المسؤوليات والتكاليف ستكون بلا معنى حيث أنّ فقدان الإرادة يجعلنا مجبورين في أعمالنا ، وهذا خلاف التقدير الإلهي.

ونلاحظ في مقابل إفراط (الجبريين) تفريط جماعة (القدريين) أو المفوّضة الذين يذهبون صراحة إلى القول بأنّ الله لا يتدخّل في أعمالنا وممارساتنا ، حيث إنّهم يحدّون ويحجمون دائرة الهيمنة الإلهيّة على الإنسان ويعتقدون باستقلاليتهم تماما عن المشيئة الإلهيّة ، وبذلك سلكوا طريق الشرك من هذه الجهة.

والحقيقة أنّ الجمع بين أصلي (التوحيد والعدل) يحتاج إلى دقّة وضبط ، فلو فسّرنا التوحيد بأنّ الله خالق كلّ شيء حتّى أعمالنا بشكل لا نملك أي إختيار فيها فإنّنا نكون بذلك قد أنكرنا أصل العدل ، لأنّ مقترفي الذنوب مجبرون على ارتكاب المعاصي ثمّ ينتظرهم الجزاء المتمثّل بالعقاب ، وهذا خلاف العدالة.

وإذا فسّرنا «العدل» بأنّ الله تعالى ليس له أي لون من التدخّل في أعمالنا فإنّنا سنخرج الإرادة الإلهيّة من الهيمنة علينا ، وعندئذ نقع في وادي الشرك.

ويمثّل مفهوم «الأمر بين الأمرين» الإيمان الخالص والصراط المستقيم وخطّ الوسط بين (الجبريين والقدريين) وهو أن نعتقد بأنّنا مختارين ، واختيارنا هذا يكون ضمن الهيمنة الإلهية ، حيث تستطيع الإرادة الإلهية في أي لحظة أن تسلب منّا هذا الإختيار ، وهذا ما يذهب إليه أهل البيتعليهم‌السلام .

والنقطة الجديرة بالذكر أنّه وردت في نهاية الآيات مورد البحث روايات عديدة في ذمّ هاتين الجماعتين في كتب تفسير أهل السنّة والشيعة ، ومن جملتها نقرأ في حديث النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «صنفان من امّتي ليس لهم في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية ، أنزلت فيهم آية في كتاب الله :( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) »(١) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني نقل عن البخاري والترمذي وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه وابن عبّاس ، ج ٢٧ ، ص ٨١ ، وذكر القرطبي مثل هذا الحديث في تفسيره ، ج ٩ ، ص ٦٣٨.

٣٥٢

«المرجئة» من مادّة (إرجاء) بمعنى تأخير الشيء ، وهذا اصطلاح يستعمل للجبريين ، لأنّهم لم يلاحظوا الأوامر الإلهيّة وارتكبوا المعاصي لظنّهم أنّهم مجبورون ، أو لاعتقادهم أنّ مصير مرتكبي الذنوب الكبيرة غير معلوم لتصوّرهم أنّ البتّ فيها مؤجّل إلى يوم القيامة(١) .

كما نقرأ في حديث للإمام الباقرعليه‌السلام : «نزلت هذه الآية في القدرية :( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا* كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) (٢) .

إشارة إلى أنّ المقصود من التقدير والحساب هنا أنّ الله سبحانه قد جعل لكلّ ذنب ما يناسبه من الحساب والجزاء الدقيق. وهذا تفسير آخر ممّا فسّرت به الآية.أو أنّ المقصود بها إلفات نظر الذين أنكروا التقدير الإلهي وظنّوا أنّ الله تعالى ليست له تدخّل في أعمالهم وأنّهم قادرون على كلّ شيء ، ويأتي إليهم التنبيه الإلهي في ضرورة ملاحظة القدرة الإلهية العظيمة ، وإلّا فعليكم أن تذوقوا جزاء انحرافكم وهو مسّ سقر).

٣ ـ الأمر الإلهي كلمة واحدة

من الواضح أن لا فاصلة زمانية بين العلّة التامّة والمعلول ، لذلك ورد في اصطلاح الفلاسفة أن تقدّم العلّة على المعلول أمر رتبي ، وبالنسبة إلى الإرادة الإلهية في أمر الإيجاد والخلق والذي هو أوضح مصداق للعلّة التامّة ، أو أنّه مصداق وحيد للعلّة التامّة يتّضح هذا المعنى أكثر.

ولذلك فإذا فسّروا الآية :( وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ ) بكلمة (كن) فإنّها من ضيق البيان. وإلّا فإنّ كلمة (كن) مركّبة من الكاف والنون ، وهي أيضا تحتاج إلى زمان ، حتّى (الفاء) في (فيكون) والتي توضّح نوعا من الزمان فإنّها من ضيق البيان كذلك ،

__________________

(١) مجمع البحرين مادّة (رجا).

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٨٦.

٣٥٣

بل حتّى تشبيه( كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (١) (٢) .

وعند ما يتحدّث عن الأمر الإلهي في يوم القيامة ويشبهه بـ (لمح بالبصر) يضيف (أو هو أقرب).

وعلى كلّ حال فإنّ الحديث هنا عن الزمان حسب التعبيرات اليومية لنا ، وكذلك فإنّ القرآن الكريم يخاطبنا بلغتنا ، وإلّا فإنّ أوامر الله تعالى فوق الزمان.

وضمنا فإنّ التعبير بـ (واحدة) يمكن أن يكون إشارة لهذا المعنى ، وهو أنّ أمرا واحدا يكفي ولا يحتاج إلى تكرار ، أو أنّها إشارة إلى أنّ أمره تعالى حول الصغير والكبير وحتّى خلق السموات الواسعة أجمع لا يختلف عن خلقه لذرّة التراب.

وفي الأصل فإنّ الكبير والصغير والسهل الصعب يكون في مقاييسنا الفكرية المحدودة وقدرتنا الضئيلة ، أمّا عند ما يكون الحديث عن القدرة الإلهية العظيمة فإنّ هذه المفاهيم تتلاشى تماما ، ويصبح الكلّ بلون واحد وشكل واحد ، (فتدبّر).

ويطرح هنا «سؤال» : وهو إذا صحّ معنى الجملة أعلاه وهو أنّ كلّ شيء يوجد آنا (في الآن) فإنّ هذا الأمر لا يتناسب مع مشاهدة التدرّج في حوادث العالم.

ويتّضح «الجواب» عند ما نلاحظ هذه النقطة ، وهي أنّ أمره تعالى في كلّ مكان وكلّ شيء هو (كلمة واحدة) والتي تكون أسرع من لمح البصر ، ولكن محتوى الأمر الإلهي متفاوت ومختلف ، فإذا صدر الأمر الإلهي للجنين أن يكمل دورته تسعة أشهر ، فلن تزيد وتنقص لحظة واحدة. والفورية هنا هي أن يكمل الجنين الدورة في نهاية المدّة المحدّدة ، ولو اعطي أمر للكرة الأرضية أن تدور في كلّ أربع وعشرين ساعة مرّة حول نفسها؟ فإنّ هذا الأمر غير قابل للتخلّف ، وبتعبير آخر فإنّ تنفيذ أمره تعالى لا يحتاج إلى أيّ وقت زماني ، والموجود هنا هو محتوى الأمر. ومن خلال معرفة السنّة التدريجية للعالم المادّي وخاصيّته

__________________

(١) «لمح» على وزن (مسح) والأصل بمعنى لمعان البرق ثمّ جاءت بمعنى النظر السريع.

(٢) النحل ، ٧٧.

٣٥٤

وطبيعة الحركة ـ نلاحظ أنّها تتأثّر بالزمان.

٤ ـ بداية ونهاية سورة القمر

النقطة الجديرة بالذكر أنّ «سورة القمر» بدأت بإنذار وتخويف المشركين بقرب وقوع يوم القيامة ، وانتهت بهدوء يطمئن المؤمنين الحقيقيين في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وهذا هو الطريق المرسوم للتربية ، حيث يبدأ بالتحذير والتخويف وينتهي بطمأنة النفوس المضطربة وتقويم الأهواء المنحرفة ورفع الخوف والاضطراب وعندئذ تغمر الأرواح بالسكينة والهدوء بالقرب من الجوار الإلهيّ الأبدي.

والحقيقة أنّ الإيمان بأنّ الله هو المالك الذي ليس له منازع والحاكم الذي لا رادّ لحكمه في كلّ الوجود ، واليقين بأنّ الله هو المقتدر ، النافذة قدرته على كلّ شيء يبعث في الإنسان هدوءا منقطع النظير.

وقد نقل بعض المفسّرين أنّ هذين الاسمين المقدّسين مليك ومقتدر لهما تأثير عميق في استجابة الدعاء حتّى نقل بعض الرواة : إنّني داخل المسجد وكنت أتصوّر بأنّه الصبح ولكن تبيّن لي عدم انقضاء الليل وبقي قسط كبير منه ، ولم يكن أحد غيري في المسجد ، وفجأة سمعت حركة من ورائي ، فخفت ولكنّي رأيت أنّ شخصا مجهولا قد ناداني : أيّها الشخص المملوء قلبك خوفا لا تخف وقل : «اللهم إنّك مليك مقتدر ، ما تشاء من أمر يكون». ثمّ اطلب ما تريد ، فيقول : إنّي قرأت هذا الدعاء المختصر ولم أطلب شيئا إلّا وأجيب(١) .

ربّنا ، أنت المليك المقتدر فتفضّل علينا بالتوفيق في كلّ إيمان وعمل وتقوى ، كي نكون في مقعد صدق وفي جوار قربك ورحمتك.

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ٨٣.

٣٥٥

إلهنا ، نحن نؤمن أنّ يوم القيامة يوم رهيب وصعب ومرّ للعاصين ، أملنا في ذلك اليوم بلطفك وكرمك.

ربّاه ، امنحنا روحا يقظة وعقلا واعيا لكي نتّعظ بمصير السابقين ولا نسير في مسارهم المهلك

نهاية سورة القمر

* * *

٣٥٦
٣٥٧

سورة

الرّحمن

مكّية

وعدد آياتها ثمان وسبعون آية

٣٥٨

«سورة الرّحمن»

محتوى السورة :

توضّح هذه السورة بصورة عامّة النعم الإلهية المختلفة ، سواء كانت ماديّة أو معنوية ، والتي تفضّل بها البارئعزوجل على عباده وغمرهم بها ، ويمكن تسميتها لهذا السبب بـ (سورة الرحمة) أو (سورة النعمة) ولهذا فإنّها بدأت بالاسم المبارك (الرحمن) الذي يشير إلى صنوف الرحمة الإلهية الواسعة ، وتنهي هذه السورة آياتها بإجلال وإكرام البارئ سبحانه ، وبإقرار عباده بالنعم التي تفضّل بها عليهم (إحدى وثلاثين مرّة) وذلك من خلال تكرار آية :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وبناء على هذا فإنّ السياق العام للسورة يتعلّق بالحديث عن المنن والنعم الإلهيّة المختلفة والعظيمة. ومن جهة اخرى فإنّنا نستطيع أن نقسّم محتويات السورة إلى عدّة أقسام :

القسم الأوّل : الذي يشمل أوّل آيات السورة حيث الحديث عن النعم الإلهية الكبيرة ، سواء تلك التي تتعلّق بخلق الإنسان أو تربيته وتعليمه ، أو الحساب والميزان ، وكذلك سائر الأمور الاخرى التي يتجسّد فيها الخير للإنسان ، إضافة إلى الغذاء الروحي والجسمي له.

القسم الثّاني : يتناول توضيح مسألة خلق الإنس والجنّ.

القسم الثّالث : يتضمّن توضيح الآيات والدلائل الإلهيّة في الأرض والسماء.

٣٥٩

القسم الرّابع : وفيه بعد تجاوز النعم الإلهية على الإنسان في الدنيا تتحدّث الآيات عن نعم الله في عالم الآخرة بدقّة وظرافة ، خاصّة عن الجنّة ، وبصورة أعمّ وأشمل عن البساتين والعيون والفاكهة وحور العين وأنواع الملابس من السندس والإستبرق

وأخيرا في القسم الخامس نلاحظ الحديث باختصار عن مصير المجرمين وجزائهم المؤلم المحسوب ولأنّ الأصل في هذه السورة أنّها مختّصة ببيان الرحمة الإلهيّة ، لذا لم نلاحظ تفاصيل كثيرة حول مصيرهم ، خلافا لما نلاحظه في موضوع الحديث عن النعم الخروية حيث التفصيل والشمول الذي يشرح قلوب المؤمنين ويغمرها بالسعادة والأمل ، ويزيل عنها غبار الحزن والهمّ ، ويغرس الشوق في نفوسهم

إنّ تكرار آية :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) وفي مقاطع قصيرة أعطت وزنا متميّزا للسورة ، وخاصّة إذا قريء بالمعنى المعبّر الذي يستوحى منها فإنّ حالة من الشوق والانبهار تحصل لدى الإنسان المؤمن.

ولذلك فلا نعجب عند ما نقرأ في حديث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «لكلّ شيء عروس ، وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره»(١) .

والجدير بالذكر أنّ مصطلح «العروس» يطلق في اللسان العربي على المرأة والرجل ما داموا في مراسيم الزواج(٢) .

وبما أنّ المرأة والرجل في تلك المراسم في أفضل وأتمّ الحالات وأكمل الاحترامات ، ومن هنا فإنّ هذا المصطلح يطلق على الموجودات اللطيفة جدّا وموضع الاحترام.

إنّ سبب إختيار اسم (الرحمن) لهذه السورة لتتناسب التسمية مع المضمون ، وهذا واضح.

__________________

(١) مجمع البيان بداية سورة الرحمن ، وجاء كذلك في الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٤٠.

(٢) لسان العراب ومجمع البحرين وصحاح اللغة و.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526