الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156611 / تحميل: 6129
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

فضيلة تلاوة سورة الرحمن :

إنّ اتّصاف هذه السورة بما يثير الإحساس بالشكر على أفضل صورة ، وكذلك توضيح وبيان النعم الإلهية (المادية والمعنوية) فيها والتي تزيد من شوق الطاعة والعبادة في قلوب المؤمنين كلّ ذلك أدّى إلى ورود روايات كثيرة في فضل تلاوة هذه السورة تلك التلاوة التي ينبغي أن تنفذ إلى أعماق النفس الإنسانية وتحركها باتّجاه الطاعات وبعيدا عن لقلقة اللسان.

ومن جملة ما نقرأ حديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «من قرأ سورة الرحمن رحم الله ضعفه ، وأدّى شكره ، وأنعم الله عليه»(١) .

وعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تدعوا قراءة سورة الرحمن والقيام بها ، فإنّها لا تقرّ في قلوب المنافقين ، ويأتي بها ربّها يوم القيامة في صورة آدمي في أحسن صورة ، وأطيب ريح حتّى يقف من الله موقفا لا يكون أحد أقرب إلى الله منها فيقول لها : من الذي كان يقوم بك في الحياة الدنيا ويدمن قراءتك؟ فيقول : يا ربّ فلان وفلان ، فتبيض وجوهم. فيقول لهم : اشفعوا فيمن أحببتم فيشفعون حتّى لا يبقى لهم غاية ولا أحد يشفعون له ، فيقول لهم : ادخلوا الجنّة واسكنوا فيها حيث شئتم»(٢) .

وفي حديث آخر عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة الرحمن فقال عند كلّ :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) : لا شيء من آلائك ربّي أكذّب ، فإنّ قرأها ليلا ثمّ مات مات شهيدا ، وإن قرأها نهارا فمات مات شهيدا»(٣) .

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٨٧.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٩٢ ، ص ٣٠٦.

(٣) المصدر السابق.

٣٦١

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) )

التّفسير

بداية النعم الإلهية :

لمّا كانت هذه السورة ـ كما قلنا ـ تبيّن أنواع النعم والهبات الإلهيّة العظيمة ، فإنّها تبدأ باسم (الرحمن) والذي يرمز إلى الرحمة الواسعة ، ولو لم تكن (الرحمانية) من صفاته لم ينعم بهذا الخير العميم على عباده الصالحين والعاصين ، لذلك يقول :( الرَّحْمنُ ) (١) .

( عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) وبهذا فإنّ أوّل وأهمّ نعمة تفضّل بها الله سبحانه ، هي نعمة «تعليم القرآن» ، وما أروعه من تعبير! حيث أنّنا إذا تأمّلنا جيّدا فإنّنا ندرك أنّ هذا الكتاب العظيم هو مصدر كلّ الخير والنعم والعطايا الإلهيّة العظيمة ، كما أنّه وسيلة

__________________

(١) الرحمن : مبتدأ وخبرها (علّم القرآن) ، و (خلق الإنسان) خبر بعد خبر ، كما توجد احتمالات اخرى أيضا لإعراب هذه الجملة لم تذكر هنا لعدم أهميّتها.

٣٦٢

للوصول إلى السعادة والخيرات المادية والمعنوية.

والظريف هنا أنّ بيان نعمة (تعليم القرآن) ذكرت قبل( خَلَقَ الْإِنْسانَ ) و( عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الإشارة أوّلا إلى مسألة خلق الإنسان ، ومن ثمّ نعمة تعليم البيان ، ثمّ نعمة تعليم القرآن ، وذلك استنادا للترتيب الطبيعي ، إلّا أنّ عظمة القرآن الكريم أوجبت أن نعمل خلافا للترتيب المفترض.

وقد جاءت هذه الآية جوابا لمشركي العرب حينما طلب منهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السجود للرحمن ، فسألوه «وما الرحمن»؟ (ـ الفرقان ـ) فأجابهم بتوضيح ذلك حيث يقول سبحانه : «الرحمن هو الذي علّم القرآن وخلق الإنسان وعلّمه البيان».

وعلى كلّ حال فإنّ لاسم «الرحمن» أوسع المفاهيم بين أسماء البارئعزوجل بعد اسم الجلالة (الله) لأنّنا نعلم أنّ لله رحمتين : (الرحمة العامّة) و (الرحمة الخاصّة) واسم «الرحمن» يشير إلى رحمة الله العامّة التي تشمل الجميع ، كما أنّ اسم «الرحيم» يشير إلى «الرحمة الخاصّة» بأهل الإيمان والطاعة ، ولعلّه لهذا السبب لا يطلق اسم الرحمن على غير الله سبحانه (إلّا إذا كانت كلمة عبد قبله) ، أمّا وصف «الرحيم» فيقال لغير الله أيضا ، وذلك لأنّه لا أحد لديه الرحمة العامّة سوى الله تعالى ، الرحمة أمّا الرحمة الخاصّة فإنّها موجودة في المخلوقات وإن كانت بصورة محدودة.

وفي حديث للإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ ما يلي : «الرحمن اسم خاصّ بصفة عامّة ، والرحيم اسم عام بصفة خاصّة». (يعني أنّه اسم مخصوص لله ، ورحمته تشمل جميع خلقه) ، لكن الرحيم اسم عام لصفة خاصّة (يعني أنّه وصف يستعمل لله وللخلق) ، وكما عرّف القرآن المجيد الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه (رؤوف رحيم) حيث يقول سبحانه :( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .(١)

__________________

(١) التوبة ، ١٢٨.

٣٦٣

وهنا يطرح التساؤل التالي : من الذي علّمه الله سبحانه القرآن الكريم.

ذكر المفسّرون في ذلك تفسيرات عديدة ، فبعضهم قال : إنّ الله علّم القرآن لجبرئيل والملائكة ، وقال آخرون : إنّ الله سبحانه علّمه للرسول ، وذكر ثالث : أنّه علّم للإنس والجنّ.

ولكون هذه السورة تبيّن الرحمة الإلهيّة للإنس والجنّ ولذا أكّد سبحانه إقرارهم بنعمه إحدى وثلاثين مرّة ، وذلك بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) لهذا فإنّ التّفسير الأخير هو الأنسب ، أي أنّ الله علّم القرآن للإنس والجنّ بواسطة نبيّه الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وبعد ذكره سبحانه لنعمة القرآن التي لا مثيل لها ينتقل إلى أهمّ نعمة في الترتيب المذكور ويقول :( خَلَقَ الْإِنْسانَ ) .

من الطبيعي أنّ المقصود هنا هو نوع الإنسان وليس آدمعليه‌السلام فقط ، حيث سيتحدّث عنه سبحانه في الآيات اللاحقة بصورة مستقلّة ، كما أنّه ليس المقصود بذلك النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع العلم أنّ الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أفضل وأعلى مصداق للإنسان.

وإطلاق كلمة (البيان) التي تأتي بعد خلق الإنسان دليل آخر على عمومية كلمة الإنسان ، وبناء على هذا فإنّ التفاسير الاخرى التي ذكرت لم تكن صحيحة.

والحقيقة أنّ خلق الإنسان هذا الكائن الذي تتجمّع فيه كلّ عجائب الوجود ، هذا الموجود الذي هو خلاصة الموجودات الاخرى ، هذا العالم الصغير الذي اندرج فيه العالم الكبير ، لهو نعمة منقطعة النظير حيث إنّ كلّ بعد من أبعاد وجوده المختلفة نعمة كبيرة.

__________________

(١) اختلف المفسّرون حول أنّ المفعول الأوّل لـ (علّم) هو المحذوف ، أو أنّ المحذوف هو المفعول الثاني ، والأنسب أنّ المفعول الأوّل هو المحذوف حيث في التقدير يكون : (علّم الإنس والجنّ القرآن). كما يحتمل البعض أنّ (علّم) لم تأخذ أكثر من مفعول واحد بمعنى موضع العلاقة وهذا مستبعد جدّا.

٣٦٤

وبالرغم من أنّ بداية الإنسان ليست أكثر من نطفة لا قيمة لها ، بل الأصحّ أنّ بدايته عبارة عن موجود مجهري يسبح في نطفة لا وزن لها ، إلّا أنّه في ظلّ الرعاية الإلهيّة يسير في مراحل التكامل بصورة يرتقي فيها إلى مقام أشرف موجود في عالم الخلق.

أنّ ذكر اسم «الإنسان» بعد «القرآن» هو الآخر يستوجب التأمّل ، ذلك لأنّ القرآن الكريم يمثّل مجموعة أسرار الكون بصورة مدوّنة «الكتاب التدويني» ، والإنسان هو خلاصة هذه الأسرار بصورة تكوينية «الكتاب التكويني» ، كما أنّ كلّ واحدة منها هو صورة من هذا العالم الكبير.

وتشير الآية اللاحقة إلى أهمّ النعم بعد نعمة خلق الإنسان حيث يقول البارئعزوجل :( عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) .

كلمة (البيان) لها معنى لغوي واسع ، حيث تقال لكلّ شيء يوضّح ويبيّن شيئا معيّنا ، وبناء على هذا فإنّها لا تشمل النطق والكلام فحسب ، بل تجمع الكتابة والخطّ وأنواع الاستدلالات العقليّة والمنطقية التي تبيّن المسائل المختلفة والمعقّدة أيضا رغم أنّ معالم هذه المجموعة هي التكلّم والنطق.

ونظرا لتعوّدنا ممارسة الكلام ، فقد نتصوّر أنّه أمر بسيط وسهل ، والحقيقة أنّ التكلّم من أعقد وأظرف أعمال الإنسان ، ويمكننا القول بعدم وجود عمل على شاكلته من ناحية التعقيد والظرافة.

فمن جهة نجد أنّ الأجهزة المختّصة لإصدار الصوت تتساعد وتتعاون مع بعضها لإيجاد الأصوات المختلفة. فالرئة تجمع الهواء لتخرجه من الحنجرة تدريجيّا ، والأوتار الصوتية تهتزّ لتولّد أصواتا مختلفة تماما ، بعضها تعبّر عن حالة الرضى ، والاخرى عن الغضب ، والثالثة تعبّر عن النجدة والإستغاثة وطلب العون ، والرابعة عن المحبّة أو العداوة وهكذا. ثمّ إنّ هذه الأصوات ـ بمساعدة اللسان والشفتين والأسنان والحلق ـ تصنع الحروف الأبجدية بسرعة وظرافة خاصّة ،

٣٦٥

وبتعبير آخر : إنّ الصوت الممتدّ والمتساوي الذي يخرج من الحنجرة يقطّع إلى أشكال وقياسات مختلفة حيث تتشكّل منه الحروف.

ومن جهة اخرى فهناك مسألة اللغات ، حيث إنّ الإنسان يبتدع لغات مختلفة حسب احتياجاته الماديّة والمعنوية ، وذلك إثر تطوّره وتقدّمه الفكري ، والعجيب هنا عدم وجود أي محدودية في وضع اللغات ، حيث نلاحظ تعدّد الألسن في علامنا هذا بصورة يصعب إحصاؤها بصورة دقيقة ، كما أنّنا نلحظ أيضا نشوء لغات جديدة وألسن جديدة بصورة تدريجيّة مع مرور الزمن. ويعتقد البعض أنّ عدد اللغات الموجودة في عالمنا اليوم يصل إلى ثلاثة آلاف لغة ، ويذهب آخرون إلى أكثر من ذلك(١) .

والظاهر أنّ ذلك يتعلّق باللغات والألسن الأصليّة ، أمّا إذا أخذت اللهجات المحليّة بنظر الإعتبار فإنّها ستصبح أكثر من ذلك بكثير قطعا ، حيث لا حظ المتتبعون لأمور اللهجات أنّ قريتين متجاورتين تتحدّثان بلسانين مختلفين أحيانا.

ومن جهة ثالثة هناك مسألة ترتيب الجمل والاستدلال وبيان العواطف عن طريق العقل والفكر ، لأنّها تمثّل روح البيان والنطق ولهذا الأمر فإنّ التكلّم أمر خاصّ بالإنسان فقط.

صحيح أنّ الكثير من الحيوانات تحدث أصواتا مختلفة كي تعبّر عن احتياجاتها ، إلّا أنّ عدد هذه الأصوات محدود جدّا ومبهم وغير معلوم ، في حين أنّ البيان وضع في إختيار الإنسان بصورة واسعة وغير محدودة ، لأنّ الله تعالى قد أعطاه القدرة الفكرية اللازمة للتكلّم.

وإذا تجاوزنا كلّ ذلك وأخذنا دور البيان في تكامل وتقدّم الحياة الإنسانية ،

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي ، ج ٨ ، ص ٣٦٤ مادّة (لغة).

٣٦٦

فمن الواضح أنّ الإنسان لم يكن بمقدوره وإمكانه أن ينقل تجاربه وعلومه من جيل إلى آخر بهذه السهولة وبالتالي أدّى إلى التقدّم والعلم والدين والأخلاق وإذا ما سلبت هذه النعمة العظيمة من الإنسان ليوم واحد فإنّ المجتمع الإنساني سوف يأخذ طريقه نحو التقهقر بسرعة ، ولو أخذنا «البيان» بمعناه الواسع الذي يشمل الخطّ والكتابة والفنون المختلفة ، فإنّه سيتّضح لدينا بصورة أكثر دوره الهامّ في الحياة الإنسانية.

ومن هنا ندرك لماذا جاءت عبارة (تعليم البيان) بعد نعمة خلق الإنسان في سورة الرحمن التي هي مجموعة من هبات الله تعالى.

ويتطرّق بعد ذلك إلى النعمة الإلهيّة الرابعة والتي هي هبة من هبات الله العظيمة أيضا ، حيث يقول تعالى :( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ) (١) .

إنّ أصل وجود الشمس من أكبر النعم الإلهيّة للإنسان ، لأنّ العيش في المنظومة الشمسية بدون نور وحرارة الشمس أمر غير ممكن ، وكما بيّنا سابقا فإنّ كلّ حركة في الكرة الأرضية مصدره حرارة الشمس ، حيث أنّ نمو ونضج النبات والمواد الغذائية أجمع ، بالإضافة إلى سقوط الأمطار وهبوب الرياح ، كلّها ببركة هذه الهبة الإلهيّة.

كما أنّ للقمر دورا هامّا في حياة الإنسان ، فبالإضافة إلى أنّه يضيء الليالي المعتمة ، فإنّ جاذبيته هي علّة المدّ والجزر في البحار والمحيطات ، وهي عامل لبقاء الحياة في البحار ، كما أنّها تقوم بدورها في إرواء كثير من المناطق القريبة للسواحل والتي تصبّ الأنهار بالقرب منها.

وبالإضافة إلى ذلك فإنّه ثبات الانتظام لهاتين الحركتين (حركة القمر حول الأرض ، وحركة الأرض حول الشمس) هو السبب في الظهور المنتظم لليل

__________________

(١) «حسبان» على وزن (غفران) وهي مصدر بمعنى الحساب والنظم والترتيب ، وللآية محذوف تقديره (والشمس والقمر تجريان بحسبان).

٣٦٧

والنهار والسنين والشهور والفصول المختلفة ، وبالتالي فإنّه سبب أساسي لانتظام الحياة الإنسانية وبرمجة الأمور التجارية والصناعية والزراعية ، وإن فقد الانتظام فيها فسوف تضطرب الحياة البشرية وتختلّ الكثير من مرتكزاتها.

وليس لحركة هذين الكوكبين نظام دقيق جدّا فحسب ، بل إنّ مقدار كثافة وجاذبية ومسافة كلّ منهما عن الأرض هي الاخرى محسوبة بدقّة وحساب (وحسبان).

ومن المؤكّد أنّ اختلال كلّ واحدة من هذه الأمور سيولّد اختلالات عظيمة في المنظومة الشمسية ، ومن ثمّ في النظام الحياتي للبشر.

والعجيب هنا أنّ هذه الأجزاء عند ما انفصلت من الشمس كانت في حالة من الاضطراب والفوضى ، إلّا أنّها ثبتت واستقرّت أخيرا بالشكل الحالي ، حيث يقول في هذا المجال أحد علماء العلوم الطبيعيّة :

«وجدت منظومتنا الشمسية ـ في الظاهر ـ من مخلوط من مواد متنوّعة وعناصر مختلفة انفصلت عن الشمس بدرجة حرارية عالية تبلغ (٠٠٠) درجة وبسرعة فائقة تناثرت في الفضاء الواسع.

وبالرغم من هذا الاضطراب الظاهري فقد لوحظ الانتظام الدقيق والترتيب المنسّق بحيث أنّنا نستطيع أن نتنبّا بالحوادث المستقبلة حتّى بالدقائق واللحظات ، ونتيجة لهذا النظام والترتيب نلاحظ أنّ الأوضاع الفلكية هذه باقية على هذا الحال مدّة ألف مليون سنة»(١) .

والجدير بالذكر أنّ الشمس بالرغم من أنّها في وسط المنظومة الشمسية وتبدو ساكنة وثابتة ، إلّا أنّها مع جميع كواكبها وأقمارها تسير في وسط المجرّة المتعلّقة بها إلى نقطة معيّنة (تسمّى هذه النقطة بنجمة فيكا) وهذه الحركة لها أيضا

__________________

(١) سرّ خلق الإنسان ، ص ٢٨.

٣٦٨

نظام وسرعة معينان.

ثمّ يتحوّل بنا الله إلى نعمة عظيمة اخرى هي الخامسة في مسلسل ما ذكره سبحانه من النعم في هذه السورة المباركة ، حيث يوجّه النظر إلى ألطافه في الأرض حيث يقول :( وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ ) .

«النجم» يأتي أحيانا بمعنى كوكب ، ويأتي اخرى بمعنى النبات الذي لا ساق له ، ولمّا جاءت الكلمة هنا بقرينة «الشجر» فيكون المقصود هو المعنى الثاني ، أي النباتات بدون سيقان(١) .

وهذا المصطلح معناها في الأصل (الطلوع) وإذا أطلق على النباتات (نجم) فلأنّها تخرج من الأرض ، وإذا أطلق على النجمة فلأنّها تطلع.

ومن الواضح أنّ النبات مصدر جميع المواد الغذائية للإنسان ، حيث يستهلك قسما مباشرا منه ، والقسم الآخر تستهلكه الحيوانات الاخرى التي هي جزء أساسي من غذاء الإنسان ، ومن هنا فإنّ النبات هو مصدر غذاء الإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وهذا المعنى يصدق أيضا في عالم الحيوانات البحرية ، لأنّها تتغذّى على نباتات صغيرة جدّا تنبت في البحر وتوجد بكثرة هائلة تقدّر بملايين البليارات ، وهي المصدر الغذائي لهذه الحيوانات البحرية. وتنمو هذه النباتات الصغيرة في البحر بتأثير الضوء (أشعّة الشمس) التي تتحرّك بين الأمواج.

وبهذا فإنّ «النجم» أنواع من النباتات الصغيرة الزاحفة (مثل اليقطين والخيار وأمثاله). أمّا (الشجر) فإنّه النوع الآخر من النباتات التي لها سيقان وتشمل أشجار الفاكهة ونباتات الغلّات وغير ذلك.

وتعبير (يسجدان) إشارة إلى التسليم والخضوع أمام القدرة الإلهيّة وقوانين

__________________

(١) الراغب في مفرداته حيث يقول : النجم ما لا ساق له من النبات.

٣٦٩

الخلقة والإبداع الإلهي لأجل نفع الإنسان ، هذا المسير الذي عيّنه الله لهم يسيرون فيه بدون أي تخلّف ، وذلك بموجب الإرادة الإلهية.

وهنا إشارة إلى الأسرار التوحيدية أيضا حيث توجد في كلّ ورقة وكلّ بذرة آيات عجيبة من عظمة وقدرة الله سبحانه(١) .

كما يحتمل أن يكون المقصود من «النجم» في الآية المذكورة هي «النجوم» ، ولكن المعنى الأوّل طبقا للقرائن الموجودة في الآية الكريمة هو الأنسب.

* * *

ملاحظة

تأمّلات في الرّوايات

نقلت المصادر الإسلامية في هامش الآيات أعلاه روايات من قبيل التّفسير بالمصداق واضح ، حيث أنّ كلّ واحدة منها تلقي الضوء على قسم من الآيات الكريمة.

ففي حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير( عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) يقول : «البيان الاسم الأعظم الذي به علم كلّ شيء»(٢) .

وحول «الاسم الأعظم» وتفسيره فقد أوردنا بحثا في هامش الآية ١٨٠ من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ذكر أنّ المقصود من «الرحمن علّم القرآن» أنّ الله تعالى قد علّم القرآن للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والمقصود

__________________

(١) بحثنا تفصيلا حول معنى (سجود الموجودات المختلفة في عالم الوجود) في هامش الآية رقم ١٨ سورة الحجّ. وكذلك في هامش الآية ٤٤ من سورة الإسراء.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٩٧.

٣٧٠

من «خلق الإنسان» هو خلق أمير المؤمنينعليه‌السلام ، و «علّمه البيان» هو بيان كلّ الأمور التي يحتاجها الناس.

ومن الواضح أنّ الرّوايات أعلاه لا تحدّد عمومية مفهوم هذه الآيات ، بل توضّح مصاديقها.

* * *

٣٧١

الآيات

( وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) )

التّفسير

السماء رفعها ووضع الميزان :

هذه الآيات هي استمرار لبيان النعم الإلهيّة التي جاء ذكر خمس منها في الآيات السابقة ، حيث تحدّث عن أهمّ الهبات التي منحها الله سبحانه.

وفي الآية مورد البحث يتحدّث سبحانه عن النعمة السادسة ، ألا وهي نعمة خلق السماء حيث يقول :( وَالسَّماءَ رَفَعَها ) .

(السماء) في هذه الآية سواء كانت بمعنى جهة العلو ، أو الكواكب السماوية ، أو جو الأرض (والذي يعني الطبقة العظيمة من الهواء والتي تحيط بالأرض كدرع يقيها من الأشعّة الضارّة والصخور السماوية وحرارة الشمس ، والرطوبة

٣٧٢

المتصاعدة من مياه البحار لتتكوّن الغيوم وتنزل الأمطار) إنّ كلّ واحدة من هذه المعاني هبة عظيمة ونعمة لا مثيل لها ، وبدونها تستحيل الحياة أو تصبح ناقصة.

نعم إنّ النور الذي يمنحنا الدفء والحرارة والهداية والحياة والحركة يأتينا من السماء وكذلك الأمطار ، والوحي أيضا ، وبذلك فإنّ للسماء مفهوما عامّا ، مادّيا ومعنويا).

وإذا تجاوزنا كلّ هذه الأمور ، فإنّ هذه السماء الواسعة مع كلّ عوالمها هي آية عظيمة من آيات الله ، وهي أفضل وسيلة لمعرفة الله سبحانه ، وعند ما يتفكّر أولو الألباب في عظمتها فسوف يقولون دون إختيار( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) .(١)

ثمّ يستعرض سبحانه النعمة السابعة حيث يقول تعالى :( وَوَضَعَ الْمِيزانَ ) .

«الميزان» كلّ وسيلة تستعمل للقياس ، سواء كان قياس الحقّ من الباطل ، أو العدل من الظلم والجور ، أو قياس القيم وقياس حقوق الإنسان في المراحل الاجتماعية المختلفة.

و (الميزان) يشمل كذلك كلّ نظام تكويني ودستور اجتماعي ، لأنّه وسيلة لقياس جميع الأشياء.

و «الميزان» لغة : (المقياس) وهو وسيلة لوزن الأجسام الماديّة المختلفة ، إلّا أنّ المقصود في هذه الآية ، ـ والذي ذكر بعد خلق السماء ـ أنّ لها مفهوما واسعا يشمل كلّ وسيلة للقياس بما في ذلك القوانين التشريعيّة والتكوينية ، وليس وسيلة منحصرة بقياس الأوزان الماديّة فقط.

ومن هنا فلا يمكن أن تكون الأنظمة الدقيقة لهذا العالم ، والتي تحكم ملايين الأجرام السماوية بدون ميزان وقوانين محسوبة.

وعند ما نرى في بعض العبارات أنّ المقصود بالميزان هو «القرآن الكريم» ، أو

__________________

(١) آل عمران ، ١٩١.

٣٧٣

«العدل» ، أو «الشريعة» ، أو «المقياس». ففي الحقيقة إنّ كلّ واحدة من هذه المعاني مصداق لهذا المفهوم الواسع الشامل.

ونستنتج من الآية اللاحقة استنتاجا رائعا حول هذا الموضوع حيث يضيف بقوله تعالى :( أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ) .

حيث يوجّه الخطاب لبني الإنسان الذين يشكّلون جزءا من هذا العالم العظيم ويلفت انتباههم إلى أنّهم لا يستطيعون العيش بشكل طبيعي في هذا العالم إلّا إذا كان له نظم وموازين ، ولذلك فلا بدّ أن تكون للبشر نظم وموازين أيضا حتى يتلاءموا في العيش مع هذا الوجود الكبير الذي تحكمه النواميس والقوانين الإلهيّة ، خاصّة أنّ هذا العالم لو زالت عنه القوانين التي تسيّره فإنّه سوف يفنى ، ولذا فإنّ حياتكم إذا فقدت النظم والموازين فإنّكم ستتجهون إلى طريق الفناء لا محالة.

يا له من تعبير رائع حيث يعتبر القوانين الحاكمة في هذا العالم الكبير منسجمة مع القوانين الحاكمة على حياة الإنسان (العالم الصغير) وبالتالي ينقلنا إلى حقيقة التوحيد ، حيث مصدر جميع القوانين والموازين الحاكمة على العالم هي واحدة في جميع المفردات وفي كلّ مكان.

ويؤكّد مرّة اخرى على مسألة العدالة والوزن حيث يقول سبحانه :( وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) .

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ كلمة «الميزان» ذكرت ثلاث مرّات في هذه الآيات ، وكان بالإمكان الاستفادة من الضمير في المرحلة الثانية والثالثة ، وهذا ما يدلّل ، على أنّ كلمة (الميزان) هنا قد جاءت بمعان متعدّدة في الآيات الثلاث السابقة ، لذا فإنّ الاستفادة من الضمير لا تفي بالغرض المطلوب ، وضرورة التناسب للآيات يوجب تكرار كلمة «الميزان» ثلاث مرّات ، لأنّ الحديث في المرحلة الاولى ، كان عن الموازين والمعايير والقوانين التي وضعها الله تعالى لكلّ

٣٧٤

عالم الوجود.

وفي المرحلة الثانية يتحدّث سبحانه عن ضرورة عدم طغيان البشر في كلّ موازين الحياة ، سواء كانت الفردية أو الاجتماعية.

وفي المرحلة الثالثة يؤكّد على مسألة الوزن بمعناها الخاصّ ، ويأمر البشر أنّ يدقّقوا في قياس ووزن الأشياء في التعامل ، وهذه أضيق الدوائر.

وبهذا الترتيب نلاحظ الروعة العظيمة للانسجام في الآيات المباركة ، حيث تسلسل المراتب وحسب الأهمية في مسألة الميزان والمقياس ، والانتقال بها من الدائرة الأوسع إلى الأقل فالأقل(١) .

إنّ أهميّة الميزان في أي معنى كان عظيمة في حياة الإنسان بحيث إنّنا إذا حذفنا حتّى مصداق الميزان المحدود والصغير والذي يعني (المقياس) فإنّ الفوضى والارتباك سوف تسود المجتمع البشري ، فكيف بنا إذا ألغينا المفهوم الأوسع لهذه الكلمة ، حيث ممّا لا شكّ فيه أنّ الاضطراب والفوضى ستكون بصورة أوسع وأشمل.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ (الميزان) : قد فسّر بوجود (الإمام) ، وذلك لكون الوجود المبارك للإمام المعصوم هو وسيلة لقياس الحقّ من الباطل ، ومعيار لتشخيص الحقائق وعامل مؤثّر في الهداية(٢) . وهكذا في تفسير «الميزان» بالقرآن الكريم ناظر إلى هذا المعنى.

ونظرا إلى أنّ هذه الآيات تتحدّث عن النعم الإلهية ، فإنّ وجود الميزان سواء في نظم العالم أجمع أو المجتمع الإنساني أو الروابط الاجتماعية أو مجال العمل

__________________

(١) يقول الفخر الرازي في تفسير لكلمة (الميزان) في الآية الاولى : إنّها اسم (آلة) بمعنى وسيلة للقياس ، وفي الآية الثانية جاء مصدرا (يعني الوزن) ، وفي الآية الثالثة أتى مفعولا بمعنى (جنس الموزون).

(٢) روي هذا الحديث في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام والحديث مفصّل وقد ذكر مضمونه هنا فقط (تفسير علي بن إبراهيم ، ج ٢ ، ص ٣٤٣).

٣٧٥

التجاري فإنّها جميعا نعم من قبل الله سبحانه.

ثمّ ينتقل سبحانه من السماء إلى الأرض فيقولعزوجل :( وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ) «الأنام» فسّرها البعض بمعنى (الناس) ، وفسّرها آخرون بمعنى (الإنس والجنّ) ، وفسّروها أيضا بأنّها تشمل كلّ موجود (ذي روح).

إلّا أنّ قسما من أئمّة اللغة فسّرها بمطلق (الخلق) ولكن القرائن الموجودة في السورة وطبيعة النداءات الموجّهة للإنس والجنّ تدلّل على أنّها المقصود هنا (الجنّ والإنس).

نعم ، إنّ الكرة الأرضية التي ذكرت هنا بعنوان هبة إلهيّة مهمّة ، وفي آيات اخرى ذكرت بعنوان (مهاد) مأوى ومستقرّ للإنسان الذي لا يدرك قدرها غالبا في الحالات الاعتيادية ، إلّا أنّه في حالة حدوث تغيّر بسيط كزلزلة مدمّرة أو بركان بإمكانه أن يدفن مدينة بأكملها تحت المواد المذابة وعتمة الدخان ولهيب النار ، هنا ندرك كم أنّ هدوء الأرض نعمة عظيمة ، خصوصا إذا وضعنا الأرقام التي توصّل إليها العلماء أمامنا فيما يتعلّق بسرعة حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس(١) ، عند ذلك يتبيّن لنا أهميّة هذا الهدوء الكامن في أعماق هذه الحركة السريعة جدّا والتي هي ليست نوعا واحدا ، بل أنواع مختلفة.

التعبير بـ (وضع) عن الأرض في مقابل (رفع) عن السماء ، إضافة إلى الروعة البلاغية في هذا التقابل فهو إشارة إلى تسخير الأرض ومنابعها للإنسان حيث يقول سبحانه :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) .(٢)

__________________

(١) سرعة الأرض حول الشمس (الحركة الانتقالية) ٣٥ كم في الثانية ، وسرعة سيرها حول نفسها بحدود (١٦٠٠) كم في الساعة (في المناطق الاستوانية).

(٢) الملك ، ١٥.

٣٧٦

وبهذا الترتيب فقد ذكر لنا سبحانه النعمة العظيمة الثامنة في هذه السلسلة.

وفي الآية اللاحقة يستعرض ذكر النعمتين التاسعة والعاشرة من النعم الإلهية ، والتي تتضمّن قسما من المواد الغذائية التي وهبها الله سبحانه للإنسان حيث يقول تعالى :( فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ ) .

«الفاكهة» تشمل كلّ نوع من الفاكهة كما يقول الراغب في المفردات ، وفسّرها البعض بأنّها تشمل جميع أنواع الفاكهة باستثناء التمر ، حيث ذكر «النخيل» في هذه السورة بصورة مستقلّة ، ويمكن أن يكون ذكر النخيل بسبب أهميّة النخل والتمر لا استثناء من عموم لفظ الفاكهة.

«وقد أوردنا بحثا مفصّلا حول فوائد التمر من الناحية الغذائية والمواد الحياتية المختلفة لدي تفسير الآية ١١ من سورة النحل ، والآية ٢٥ من سورة مريم».

«أكمام» جمع (كم) على وزن (جن) تطلق على الغلاف الذي يغطّي الفاكهة. و (كم) على وزن (قم) القسم الخاصّ باليدين من الثوب ، و (كمة) على وزن (قبة) بمعنى القبعة التي تغطّي الرأس(١) .

إنّ إختيار هذا الوصف لفاكهة شجرة النخل ـ والتي تكون في البداية مختفية في غلاف ثمّ ينشقّ الغلاف عن ثمر منظود وبشكل جميل وجذّاب ـ يمكن أن يكون لهذا الجمال الأخّاد ، أو للمنافع الجمّة الكامنة في هذا الغلاف ، فهو بالإضافة إلى كونه يقوم بمهمّة حفظ الثمرة من الآفات لحين النمو المناسب والقدرة الملائمة ويكون دوره كرحم الامّ الذي يحافظ على الجنين فترة زمنية مناسبة قبل خروجه إلى عالم الدنيا فإنّه كذلك يحوي عصارة (الأسانس) الخاصّة والتي تتميّز بالمنافع الطبيّة والغذائية.

__________________

(١) لنا بحث مفصّل في هذا الموضوع في تفسيرنا هذا ، ذيل الآية (٤٧) من سورة فصّلت.

٣٧٧

كما أنّ الروعة تكمن في الوضع الخاصّة لفاكهة هذه الشجرة أيضا ، حيث تتجمّع في كميّات كبيرة منها بصورة عنا قيد لتسهّل عملية قطف ثمارها ، ولو افترضنا أنّ ثمار هذه الشجرة متناثرة كما في شجرة التفاح فإنّ عملية قطف الثمار ستكون صعبة للغاية قياسا لطول شجرة النخل.

ثمّ يتحدّث سبحانه عن النعمة الحادية عشرة والثانية عشرة حيث يقول سبحانه :( وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ ) .

الحبوب مصدر أساسي لغذاء الإنسان ، وأوراقها الطازجة واليابسة هي غذاء للحيوانات التي هي لخدمة الإنسان ، حيث يستفيد من حليبها ولحومها وجلودها وأصوافها ، وبهذا الترتيب فلا يوجد شيء فيها غير ذي فائدة.

ومن جهة اخرى ، فإنّ الله تعالى خلق الأزاهير المعطّرة والورود التي تعطّر مشام الجسم والروح وتبعث الاطمئنان والنشاط ، ولذا فإنّ الله سبحانه قد أتمّ نعمه على الإنسان.

(الحبّ) يقال لكلّ نوع من أنواع الحبوب.

(عصف) على وزن «حرب» بمعنى الأوراق والأجزاء التي تنفصل عن النبات وينشرها الهواء في جهات مختلفة ، ويقال لها التبن أيضا.

وذكروا أنّ «للريحان» معاني عديدة من جملتها النباتات المعطّرة ، وكذلك كلّ رزق ، والمعنى الأوّل هو الأنسب هنا.

وبعد ذكر هذه النعم العظيمة (المادية والمعنوية) ينقلنا في آخر آية من البحث مخاطبا الجنّ والإنس بقوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) حيث يلفت نظرهم إلى كلّ هذه النعم الكبيرة التي شملت كلّ مجالات الحياة وكلّ واحدة منها أثمن وأعظم من الاخرى ألا يدلّ كلّ هذا على لطف وحنان الخالق فكيف يمكن التكذيب بها إذا؟

إنّ هذا الاستفهام استفهام تقريري جيء به في مقام أخذ الإقرار ، وقد قرأنا

٣٧٨

في بداية السورة رواية تؤكّد على ضرورة تعقيبنا بهذه العبارة (لا شيء من آلائك ربّي أكذّب) بعد كلّ مرّة نتلو فيها الآية الكريمة :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وبالرغم من أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن الإنسان فقط ، ولم يأت حديث عن طائفة (الجنّ) إلّا أنّ الآيات اللاحقة تبيّن أنّ المخاطب في ضمير التثنية هم (الجنّ) كما سنرى ذلك.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الله تعالى يضع (الإنس والجنّ) في هذه الآية مقابل الحقيقة التالية : وهي ضرورة التفكّر في النعم الإلهيّة السابقة التي منحها الله لكم وتسألون أنفسكم وعقولكم هذا السؤال :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) فإنّ لم تكذّبوا بهذه النعم ، فلما ذا تتنكّرون لوليّ نعمتكم؟ ولماذا لا تجعلون شكره وسيلة لمعرفته؟ ولماذا لا تعظّمون شأنه؟

إنّ التعبير بـ (أي) إشارة إلى أنّ كلّ واحدة من هذه النعم دليل على مقام ربوبية الله ولطفه وإحسانه ، فكيف بها إذا كانت هذه النعم مجتمعة؟

* * *

تعقيب

١ ـ معرفة النعم طريق لمعرفة الله :

إذا تأمّلنا قليلا النعم التي سبق وأن تناولتها الآيات الكريمة : (نعمة القرآن ، وخلق الإنسان ، وتعليم البيان ، والحساب المنظّم للزمان ، خلق النباتات ومختلف الأشجار ، وحاكمية السماء والسنن والقوانين ، وخلق الأرض بخصوصياتها المتعدّدة ، وخلق الفاكهة والنخل والحبوب والورود والنباتات المعطّرة ...) مع جميع جزئياتها والأسرار الخفيّة في كلّ واحدة منها لكانت كافية لأنّ تبعث الإحساس بالشكر في الإنسان وتدفعه إلى معرفة مبدئ هذه النعم وهو الله سبحانه.

٣٧٩

ولهذا السبب فإنّ الله تعالى يأخذ الإقرار من عباده بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم ، وتتكرّر الآية في الآيات اللاحقة أيضا ، وبعد ذكر نعم اخرى ، بحيث يصبح عددها ٣١ مرّة.

إنّ هذا التكرار ليس فقط لا يتنافى مع الفصاحة ، بل إنّه فنّ من فنونها ، ويشبه هذا الأمر التكرار الذي يؤكّده الأب لابنه الذي يغفل عن وصاياه بصورة مستمرّة ، فيخاطبه بصيغ مختلفة تأكيدا لعدم الغفلة والنسيان حيث يقول له : أنسيت يا ولدي ضعفك وطفولتك؟ أتعرف كم من الجهد بذلت من أجل تنميتك وتربيتك.

أنسيت يا ولدي كم أحضرت من الأطباء الأخصائيين يوم مرضك ، وكم بذلت سعيا وجهدا في ذلك.

أنسيت يا ولدي حينما بلغت سنّ الشباب ما بذلته من جهد في زواجك حيث انتخبت لك زوجة من أكثر النساء عفّة وطهرا؟

أنسيت يا ولدي جهدي في مسألة إعداد بيتك ومستلزماته؟ فإذا لم تنس كلّ هذا فلما ذا العناد والطغيان والقسوة وعدم الوفاء إذا؟

إنّ الله تعالى يذكّر عباده الغافلين بصورة مستمرّة بنعمه المختلفة ، وهكذا يسألهم بعد كلّ نعمة من هذه النعم( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) ، فلما ذا هذا العصيان والطغيان في حين أنّ طاعتي هي رمز لتكاملكم وتقدّمكم ، وإنّ هذا ينفعكم ولن ينفع الله شيئا؟!

٢ ـ مسألة النظم والحساب في الحياة :

يوجد في جسم الإنسان أكثر من عشرين عنصرا معدنيا ، وكلّ واحد منها بكيفية خاصّة وكمية معيّنة ، وإذا ما حصل أقل تغيّر في مقاديرها ونسبها فإنّ حياتنا تكون في خطر ، فمثلا في فصل الصيف إذا تعرّق الإنسان أكثر من اللازم عندئذ يصاب بالصدمة التي قد تؤدّي إلى الموت والسبب في ذلك بسيط جدّا ،

٣٨٠

وهو نقص ماء الجسم وأملاح الدم وعلاجه لا يكون إلّا بشرب الماء وتناول الأملاح الإضافية.

هذا نموذج بسيط من النظم والحساب في تركيب جسمنا ، كما نلاحظ أحيانا أنّ دقّة المقاييس في تركيب مخلوقات أدقّ وأظرف كالخلايا ، وأدقّ منها عالم الذرّات تكون إلى درجة من الدقّة بحيث تقاس بـ (واحد على الألف) وأحيانا بـ (واحد على المليون) من الملمتر أو الملغرام ، حيث أنّ العلماء اضطرّوا لحساب هذه الموازين الدقيقة إلى الاستعانة بالعقول الألكترونية.

هذا في النظام الكوني ، والأمر كذلك في الأمور الاجتماعية ، حيث أنّ أي انحراف في تطبيق قوانين العدل قد يؤدّي إلى فناء شعب.

وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل أربعة عشر قرنا وذكر كلّ ما يستحقّ الذكر بهذا الصدد حيث يقول سبحانه :( وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ) .

لقد جعل الله سبحانه الطغيان والتمرّد على القوانين الشرعية ، مقارنا مع الطغيان والتمرّد على القوانين الكونية التي تحكم الوجود كلّه ، إنّه تصوير رائع استعمله القرآن الكريم عن عالم الوجود تارة ، وعالم الإنسان اخرى ، كما ورد في الآيات الكريمة. وليس هذا فحسب ، بل إنّه سبحانه شمل بوصفه هذا عالم الآخرة (يوم الحساب) ونصب الموازين ، بل وحتّى طبيعة الحساب والموازين حيث إنّها من الدقّة على قدر عجيب! ولهذا السبب فقد أمرنا ـ كما ورد ذلك في الرّوايات الإسلامية ـ أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب وأن نزنها قبل أن توزن.

«وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا».

* * *

٣٨١

الآيات

( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) )

التّفسير

الصلصال وخلق ، الإنسان :

إنّ الله تعالى بعد ذكره للنعم السابقة والتي من جملتها( خَلَقَ الْإِنْسانَ ) .

يتعرّض في الآيات مورد البحث إلى شرح خاص حول خلق الإنس والجنّ كدليل على قدرته العظيمة ، من جهة وموضع درس وعبرة للجميع من جهة اخرى ، فيقول سبحانه :( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ) .

«صلصال» في الأصل معناه (ذهاب ورجوع أو تردّد الصوت في الأجسام الصلبة) ثمّ أطلقت الكلمة على الطين اليابس الذي يخرج صوتا ، كما تطلق (الصلصلة) على الماء المتبقّي في الوعاء ، لأنّه يخرج صوتا عند حركته في الوعاء.

ويفسّر البعض كلمة (صلصال) بمعنى الطين الخبيث الرائحة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأشهر والأعرف.

٣٨٢

«فخار» من مادّة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفخر كثيرا ، ولكون الأشخاص الذين يعيشون الفراغ في شخصياتهم ومعنوياتهم يكثرون الثرثرة والادّعاء عن أنفسهم ، فإنّ هذه الكلمة تستعمل لكلّ إناء من الطين أو «الكوز» ، وذلك بسبب الأصوات الكثيرة التي يولّدها(١) .

ومن هنا يستفاد بوضوح من الآيات القرآنية المختلفة حول مبدأ خلق الإنسان ، أنّه كان من التراب ابتداء ، قال تعالى :( فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ) .(٢) ثمّ خرج مع الماء وأصبح طينا.( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ) .(٣) ثمّ أصبح بصورة طين خبيث الرائحة( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) .(٤) ثمّ أصبح مادّة في حالة لاصقة ،( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) (٥) ومن ثمّ يتحوّل إلى حالة يابسة ويكون من( صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ) كما ذكر في الآية مورد البحث.

هذه المراحل كم تستغرق من الوقت؟ وكم هي المدّة التي يتوقّف فيها الإنسان في كلّ مرحلة من هذه المراحل؟ ، وفي أي ظروف تحدث هذه التطوّرات؟

هذه المسائل خفيت عن علمنا وإدراكنا ، والله وحده هو العالم بها فقط.

ومن الواضح أنّ هذه التعابير تبيّن حقيقة ترتبط ارتباطا وثيقا مع الأمور التربوية للإنسان ، حيث أنّ المادّة الأوّلية في خلق الإنسان هي مادّة لا قيمة لها ، ومن أحقر المواد على الأرض ، إلّا أنّ الله تعالى قد خلق من تلك المادّة الحقيرة مخلوقا ذا شأن ، بل يمثّل قمّة المخلوقات على وجه الأرض ، حيث أنّ القيمة الواقعيّة للإنسان هي الروح الإلهية (النفخة الربّانية) فيه ، والتي ذكرت في الآيات

__________________

(١) المفردات للراغب.

(٢) الحجّ ، ٥.

(٣) الأنعام ، ٢.

(٤) الحجر ، ٢٨

(٥) الصافات ، ١١.

٣٨٣

القرآنية الاخرى (كما في سورة الحجر) وذلك ليعرف الإنسان قيمته الحقيقيّة في عالم الوجود ويسير في طريق التكامل على بيّنة من أمره.

ثمّ يتطرّق سبحانه لخلق الجنّ حيث يقول :( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ) .

«مارج» في الأصل من (مرج) على وزن (مرض) بمعنى الاختلاط والمزج ، والمقصود هنا اختلاط شعل النيران المختلفة ، وذلك لأنّ النيران أحيانا تكون بألوان مختلفة الأحمر ، الأصفر ، الأزرق ، وأخيرا اللون الأبيض.

ويقول البعض : إنّ معنى التحرّك موجود فيها أيضا ، وذلك من (أمرجت الدابة) يعني (تركت الحيوان في المرتع) لأنّ أحد معاني «المرج» هو المرتع.

ولكن كيف خلق الجنّ من هذه النيران المتعدّدة الألوان؟ هذا ما لم يعرف بصورة دقيقة ، كما أنّ الخصوصيات الاخرى عن هذا المخلوق ، قد بيّنت لنا عن طريق الوحي الربّاني وكتاب الله الكريم ، ولكن محدودية معلوماتنا لا تعني السماح لنا أبدا بإنكار هذه الحقائق أو تجاوزها ، خاصّة بعد ما ثبتت عن طريق الوحي الإلهي.

(وسيكون لنا إن شاء الله شرح مقصّل حول خلق الجنّ وخصوصيات هذا المخلوق في تفسير سورة الجنّ).

وعلى كلّ حال ، فإنّ أكثر الموجودات التي نتحدّث عنها هي : الماء والتراب والهواء والنار ، سواء كانت هذه الموجودات عناصر بسيطة كما كان يعتقد القدماء ، أو مركّبة كما يعتقد العلماء اليوم ، ولكن على كلّ حال فإنّ مبدأ خلق الإنسان هو الماء والتراب ، في حين أنّ مبدأ خلق الجنّ هو الهواء والنار ، وهذا الاختلاف في مبدأ خلقة هذين الموجودين مصدر اختلافات كثيرة بين هذين المخلوقين.

وبعد أن تحدّث عن النعم التي كانت في بداية خلق الإنسان يكرّر تعالى قوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

في الآية اللاحقة يستعرض نعمة اخرى حيث يقول سبحانه :( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ

٣٨٤

وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) .

بما أنّ الشمس في كلّ يوم تشرق من نقطة وتغرب من اخرى ، وبعدد أيّام السنة لها شروق وغروب ، ولكن نظرا للحدّ الأكثر من الميل الشمالي للشمس والميل الجنوبي لها ، ففي الحقيقة أنّ للشمس مشرقين ومغربين والبقيّة بينهما(١) .

إنّ هذا النظام الذي هو سبب وجود الفصول الأربعة له فوائد وبركات كثيرة ، ويؤكّد ويكمّل ما مرّ بنا في الآيات السابقة ، وذلك لأنّ الحديث كان عن حساب سير الشمس والقمر ، وكذلك عن وجود الميزان في خلق السماوات ، وإجمالا فإنّه يبيّن النظام الدقيق للخلقة وحركة الأرض والقمر والشمس ، وكذلك فإنّه يشير إلى النعم والبركات التي هي موضع استفادة الإنسان.

ويرى البعض أنّ المقصود بالمشرقين والمغربين هو طلوع وغروب الشمس ، وطلوع وغروب القمر ويعتبرون هذا هو المناسب لتفسير الآية الكريمة( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ) إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب ، خصوصا وأنّ الرّوايات الإسلامية قد أشارت إلى ذلك.

ومن جملة هذه الرّوايات حديث لأمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير هذه الآية حيث يقول : «إنّ مشرق الشتاء على حدة ، ومشرق الصيف على حدّه ، أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها؟»(٢) .

ويتّضح بذلك معنى قوله تعالى :( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) ،(٣)

__________________

(١) توضيح : لما كان محور الأرض مائلا بالنسبة لسطح مدارها وبشكل زاوية بحدود ٢٣ درجة ، والأرض بهذه الصورة تدور حول الشمس ، لذا فإنّ شروق الشمس وغروبها متغيّر دائما أيضا كما يبدو من ٢٣ درجة والتي تمثّل أعظم الانحراف باتّجاه الشمال (في بداية الصيف) إلى ٢٣ درجة في قمّة الانحراف باتّجاه الجنوب (بداية الشتاء) ، ويسمّى المدار الأوّل لها مدار «رأس السرطان» والمدار الثاني مدار «رأس الجدي» ، وهذان هما مشرقا ومغربا الشمس ، وبقيّة المدارات في داخل هذين المدارين.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٠ (المقصود هو ارتفاع الشمس في السماء في فصل الصيف ونزولها في فصل الشتاء).

(٣) المعارج ، ٤٠.

٣٨٥

حيث يشير هنا إلى جميع مشارق ومغارب الشمس على طول أيّام السنة. في الوقت الذي تشير الآية مورد البحث إلى نهاية القوس الصعودي والنّزولي لها فقط.

وعلى كلّ حال فإنّ الله تعالى يؤكّد هذه النعمة بعد نعمة خلق الإنس والجنّ بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

٣٨٦

الآيات

( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) )

التّفسير

البحار وذخائرها الثمينة :

استمرارا لشرح النعم الإلهيّة يأتي الحديث هنا عن البحار ، ولكن ليس عن خصوصيات البحار بصورة عامّة ، بل عن كيفية خاصّة ومقاطع معيّنة منها تمثّل ظواهر عجيبة وآية على القدرة اللامتناهية للحقّ ، بالإضافة إلى ما فيها من النعم التي هي موضع استفادة البشرية.

يقول تعالى :( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ) ولكن بين هذين البحرين المتلاقيين فاصل يمنع من طغيان وغلبة أحدهما على الآخر :( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) .

مادّة (مرج) على وزن (فلج) بمعنى الاختلاط ، أو إرسال الشيء وتركه ، وهنا وردت بمعنى إرسال الشيء ووضعه جنبا إلى جنب بقرينة الآية :( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا

٣٨٧

يَبْغِيانِ ) .

المقصود من البحرين هما الماء العذب والماء المالح ، وذلك بالاستدلال بقوله تعالى :( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً ) .(١)

والتساؤل هنا عن مكان هذين البحرين اللذين لا يمتزجان مع بعضهما ، وما هو البرزخ الموجود بينهما؟ هناك كلام كثير بين المفسّرين حول هذه المسألة ، إلّا أنّ بعض التّفسيرات تدلّل على عدم اطّلاعهم على أوضاع البحار في ذلك الزمان ، منها أنّهم ذكروا أنّ المقصود من البحرين هما (بحر فارس وبحر الروم) في الوقت الذي نعلم أنّ ماء هذين البحرين مالح ، ولا يوجد بينهما برزخ.

أو قولهم : إنّ المقصود بذلك هو بحر السماء وبحر الأرض ، والذي يكون الأوّل عذبا والثاني مالحا ، في الوقت الذي نعلم أيضا بعدم وجود بحر في السماء باستثناء الغيوم والبخار التي يتبخّر من المحيطات.

وقالوا أيضا : إنّ المقصود من البحر العذب هو المياه التي تحت الأرض والتي لا تختلط مع مياه البحار ، والبرزخ الموجود بينهما هي جدران هذه الآبار.

في الوقت الذي نعلم أيضا أنّ الماء الموجود تحت الأرض أقلّ من أن يشكل بحرا.

نعم إنّ جزئيات الماء المخفية بين طبقات التراب والرمل تتجمّع تدريجيّا ، وتخرج عند ما يحفر بئر في نقطة معيّنة ، وهي كميّة محدودة بالإضافة إلى عدم وجود اللؤلؤ والمرجان فيها.

إذا ما هو المقصود من هذين البحرين؟

لقد أشرنا سابقا إلى هذه الحقيقة في تفسير سورة الفرقان ، وهي أنّ الأنهار

__________________

(١) الفرقان ، ٥٣.

٣٨٨

العظيمة ذات المياه العذبة عند ما تصبّ في البحار والمحيطات فإنّها تشكّل بحرا من الماء الحلو إلى جنب الساحل وتطرد الماء المالح إلى الخلف ، والعجيب أنّ هذين الماءين لا يمتزجان مع بعضهما لمدّة طويلة بسبب اختلاف درجة الكثافة.

وتلاحظ هذه المناظر بوضوح عند السفر بالطائرة في المناطق التي تكون فيها هذه الظاهرة ، حيث المياه العذبة تمثّل بحرا منفصلا في داخل البحر المالح ومنفصلة عنها ، وعند ما تمتزج أطراف هذين البحرين فإنّ المياه العذبة الجديدة تأخذ مكانها بحيث أنّ هذين البحرين منفصلان على الدوام بشكل ملفت للنظر.

والظريف هنا ما يحصل في حالة (مدّ البحر) فبارتفاع سطح المحيط إلى الأعلى ، فإنّ المياه العذبة ترجع إلى الداخل دون أن تختلط مع المياه المالحة ـ باستثناء سنوات الجدب التي تنعدم فيها الأمطار ويشحّ الماء ـ وتغطّي قسما من اليابسة ، لذلك فكثيرا ما تستثمر هذه الحالة بإيجاد أنهار وقنوات في المناطق الساحلية حيث تسقى بهذه الطريقة الكثير من الأراضي الزراعية.

إنّ هذه الأنهر توجد ببركة وحركة (المدّ والجزر) الساحليتين وتأثيرهما على مياه هذه الأنهار التي تمتلئ وتفرغ مرّتين في كلّ يوم بالماء العذب ، ممّا يتيح فرصة طيّبة لسقي مناطق واسعة من الأراضي الزراعية.

ويوجد تفسير رائع آخر لهذين البحرين ، حيث قالوا : إنّ المقصود منهما يحتمل أن يكون ظاهرة (كلف استريم) والذي سيأتي شرحها في آخر هذه الآيات إن شاء الله.

ومرّة اخرى يخاطب الله تعالى عباده في معرض حديثه عن هذه النعم حيث يسألهم سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

واستمرارا لهذا الحديث يقولعزوجل :( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

اللؤلؤ والمرجان : وسيلتان للتجميل والزينة ، ويستفاد منهما أيضا في معالجة

٣٨٩

بعض الأمراض ، كما أنّهما ثروة تجارية أيضا ووسيلة جيّدة للربح الوفير ، ولهذه الموارد أشير إليهما كنعمتين إلهيتين للعباد.

أمّا «اللؤلؤ» فهو حبّة شفّافة ثمينة تنمو في داخل الصدف في أعماق البحار ، وكلّما كبر حجمها زاد ثمنها ، ولها استعمالات واسعة في الطبّ ، حيث كان الأطباء سابقا يستحضرون منها بعض الأدوية التي تفيد في تقوية القلب والأعصاب ، وعلاج أنواع الخفقان وتقوية الكبد وعلاج اليرقان ، ومعالجة الخوف والوحشة ، ورفع الرائحة النتنة من الفمّ ، وكذلك الحصى في الكلية ولمثانة ، ويستفاد منهما أيضا في علاج بعض أمراض العين.

«المرجان» : فسّر البعض المرجان بأنّه اللؤلؤ الصغيرة ، إلّا أنّه في الحقيقة شيء آخر ، فهو كائن حيّ يشبه الغصن الصغير للشجرة ، وينشأ في أعماق البحار ، وكان العلماء يتصوّرون لفترة زمنية أنّ هذه الشجرة نوع من أنواع النباتات ، إلّا أنّه اتّضح فيما بعد أنّه نوع من الحيوانات ، بالرغم من أنّه يلتصق بالصخور الموجودة في أعماق البحر ويغطّي مساحات واسعة أحيانا وينمو تدريجيّا بحيث يشكّل جزرا تعرف بالجزر المرجانية ، وينمو المرجان غالبا في المياه الراكدة ، ويصطاده الصيادون من سواحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسّط وفي مناطق اخرى.

وأفضل أنواع المرجان الذي يستعمل للزينة هو المرجان ذو اللون الأحمر ، وكلّما كان احمراره أشدّ كانت قيمته أغلى وأثمن ، وهو مادّة خصبة لتشبيهات الشعراء ، كما أنّ أردأ أنواع المرجان هو المرجان الأبيض ويوجد بكثرة ، وما بين النوعين هو المرجان الأسود.

وإضافة إلى استعمال المرجان كحليّ وزينة ، فإنّ له استعمالات طبيّة حيث ذكروا له خواصا كثيرة منها أنّه يصنع منه بعض الأدوية الخاصّة بتقوية القلب ، وكذلك دفع سمّ الأفعى ، وتقوية الأعصاب ، ومعالجة الإسهال ، ونزيف الرحم ،

٣٩٠

وعلاج الصرع(١) .

والنقطة الاخرى التي يجدر بنا ذكرها هنا أنّ بعض المفسّرين صرّحوا بأنّ اللؤلؤ والمرجان ينشآن فقط في المياه المالحة ، ممّا أوقعهم في إشكال في تفسير الآية( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) فذهبوا إلى أنّ المقصود هو أحدهما كما في الآية (٣١) من سورة الزخرف.

إلّا أنّ مثل هذا التّفسير لا يدعمه دليل ، حيث صرّح البعض بأنّ اللؤلؤ والمرجان يعيشان في الماء العذب والمالح على السواء.

واستمرارا لهذا القسم من النعم الإلهيّة يشير سبحانه إلى موضوع (السفن) التي هي في الحقيقة أكبر وأهمّ وسيلة لنقل البشر وحمل الأمتعة في الماضي والحاضر ، حيث يقول سبحانه :( وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ) .

«جوار» : جمع جارية ، وهي وصف للسفن ، وحذفت للاختصار لأنّ التركيز الأكثر كان على سير وحركة السفن ، لذا اعتمد هذا الوصف.

كما تطلق جارية على (الأمة) ، وذلك بسبب حركتها وسعيها في إنجاز الأعمال والخدمات ، وتطلق أيضا على الفتيات الشابّات وذلك لجريان النشاط فيهنّ.

«منشآت» جمع (منشأ) وهو اسم مفعول من (إنشاء) بمعنى إيجاد ، والظريف هنا أنّه في الوقت الذي يعبّر عن «منشآت» والتي تحكي أنّها مصنوعة بواسطة الإنسان ، يقول سبحانه (وله) أي لله تعالى وهو إشارة إلى أنّ جميع الخواص التي يستفاد منها في صناعة السفن ، والتي منحها الله للبشر المخترعين لهذه الصناعة هي لله ، وكذلك فانّه هو الذي أعطى خاصية السيولة لمياه البحر والقوّة للرياح ، وأنّ الله تعالى هو الذي أوجد هذه الخواص في المواد المتعلّقة بالسفيّنة ، وهذا ما عبّر

__________________

(١) دائرة المعارف فريد وجدي وكتب اخرى.

٣٩١

عنه القرآن الكريم بالتسخير أيضا ، حيث يقول سبحانه :( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) .(١)

وفسّر البعض «منشأ» من مادّة (إنشاء) بمعنى ارتفاع الشيء ، واعتبروها إشارة إلى أشرعة السفن التي تستخدم كقوّة في حركة السفينة ، وذلك بسبب دفع الرياح لها.

«أعلام» : جمع (علم) على وزن (قلم) ، بمعنى (جبل) بالرغم من أنّها في الأصل بمعنى (علامة وأثر) والذي يخبر عن شيء معيّن ، ولأنّ الجبال تكون واضحة من بعد فإنّه يعبّر عنها بـ (العلم) كما أنّ لفظة (علم) تطلق أيضا على «الراية».

وبهذا فإنّ القرآن الكريم نوّه هنا بالسفن الكبيرة التي تتحرّك على سطح المحيطات والبحار ، وعلى خلاف ما يتصوّره البعض فانّ السفن الكبيرة لا تختص بعصر الماكنة والبخار ، بل لقد استفاد اليونانيون وغيرهم من السفن الكبيرة في نقل قواتهم وجيوشهم.

ومرّة اخرى يكرّر سبحانه هذا السؤال العميق المغزى بقوله تعالى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

بحوث

١ ـ البحر مركز النعم الإلهيّة

لا حظنا في هذا القسم من الآيات إشارة إلى البحر وأهميّته في الحياة البشرية ، وكما نعلم فإنّ مياه البحار والمحيطات تشكّل ثلاثة أرباع سطح الكرة

__________________

(١) إبراهيم ، ٣٢.

٣٩٢

الأرضية ، وهي منبع عظيم للمواد الغذائية ، والطبية ، وأدوات الزينة ، ووسيلة مهمّة لنقل البشر وحمل البضائع ، والأهمّ من ذلك فإنّ نزول الأمطار واعتدال الهواء ، وحتّى قسم من هبوب الرياح هي من بركات البحار ، فإذا كان سطح البحار أقلّ أو أكثر ممّا هو عليه ، فإنّ الكرة الأرضية إمّا أن تصبح يابسة أو رطبة لدرجة لا يمكن العيش فيها.

لذلك نرى أنّ القرآن الكريم قد ذكّر الإنسان ـ لعدّة مرّات وبتعبيرات مختلفة بهذه النعمة العظيمة ، ودعاه للتفكير بها ، حيث يقول سبحانه :( سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ ) الجاثية.

ويقول مرّة اخرى :( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ ) إبراهيم.

وقال سبحانه :( سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) الحجّ.

وإذا تجاوزنا كلّ ذلك فإنّ البحر هو دار العجائب حيث فيه أصغر النباتات المجهرية ، وكذلك أطول أشجار العالم ، وفيه أيضا أصغر الحيوانات وكذلك أعظمها وأضخمها.

كما أنّ الحياة في أعماق البحار حيث لا ضوء ولا غذاء عجيبة إلى درجة أنّ الشخص لا يملّ من مطالعتها والاطلاع عليها ، وكلّما تعرف الإنسان على شيء منها إزداد شغفا بها ، والعجيب أيضا أنّ قسما من الحيوانات هنالك تشعّ أضواء وتصنع مادّتها الغذائية على سطح البحر ومن ثمّ تترسّب ، كما أنّ أطرافها محكمة ومقاومة إلى درجة أنّها تتحمّل ضغط الماء العظيم الذي إذا وضع الإنسان في حالته الطبيعيّة هناك فانّ عظامه تتحوّل إلى طحين.

٢ ـ الأنهار البحرية العظيمة والكلف استيرين

من العجائب الموجودة في محيطات العالم هو وجود أنهار عظيمة وتيارات بحرية كبيرة ، وأقوى هذه الأنهار يسمّى (گلف استيرين). إنّ هذا النهر العظيم

٣٩٣

يتحرّك من سواحل أمريكا المركزية ويسير في جميع المحيط الأطلسي حتّى يصل إلى سواحل أوروبا الشمالية.

والمعروف أنّ مياهه التي تسير من مناطق قريبة من خطّ الإستواء تكون حارة بل حتّى أنّ لونها يختلف عن لون المياه المجاورة ، والعجيب أنّ عرض هذا النهر البحري العظيم (الكلف استيرين) بحدود (١٥٠) كم ، كما أنّ أعمق نقطة فيه تبلغ مئات الأمتار ، وسرعته في بعض المناطق شديدة بحيث تبلغ في اليوم الواحد بـ ١٦٠ كم.

إنّ اختلاف درجة حرارة هذا النهر مع المياه المجاورة بحدود ١٠ ـ ١٥ درجة مئوية ، لذا فإنّ ساحله الغربي يسمّى بالجدار البارد.

والكلف أستيرين يسبّب رياحا حارّة ويدفع قسما كبيرا من حرارته باتّجاه مدن أوروبا الشمالية ، حيث يؤثّر على مناخ تلك البلدان بحيث يكون معتدلا للغاية ، ويحتمل أن يكون العيش صعبا للغاية في هذه المناطق لو لم يوجد هذا المجرى العظيم.

ونكرّر مرّة اخرى أنّ (الكلف استيرين) هو أحد الأنهار في المحيطات ، وهناك أنهار اخرى كثيرة في بحار ومحيطات العالم.

إنّ السبب الأساس في تكوين هذه الأنهار البحرية هو اختلاف حرارة المنطقة الإستوائية والمناطق القطبية والتي توجد هذه الحركة في مياه البحار.

ويمكن استيعاب هذا الموضوع بتجربة بسيطة :

فإذا كان لدينا ماء في وعاء كبير ، ووضعنا في جانب منه قطعة ثلجية ، وفي الجهة الاخرى قطعة حديدية حارّة ، ووضعنا على سطح الماء قليلا من التبن ، فإنّنا سنلاحظ ظهور حركة على سطح الماء حيث يتحرّك الماء ببطء من المنطقة الحارّة باتّجاه المنطقة الباردة.

إنّ مثل هذه الحالة تحصل في كلّ بحار العالم ، وهي مصدر ظهور هذه الأنهار

٣٩٤

البحرية.

والعجيب أنّ هذه الأنهار العظيمة لا تمتزج مع المياه حولها إلّا قليلا ، وتسير آلاف الكيلومترات على هذه الصورة ، وبذلك تعبّر عن مصداقية الآية الكريمة( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) .

والملفت للنظر أنّ في نقطة التقاء هذه المياه الحارّة مع المياه الباردة ، تحدث ظاهرة مفيدة جدّا للإنسان ، وهي حدوث حالة من الإغماء أو الموت الجماعي للحيوانات المجهرية المعلّقة في الماء وذلك في نقطة التماس والالتقاء بين المياه الحارّة والمياه الباردة وبهذا تتوفّر في هذه المناطق مواد غذائية كثيرة لا حصر لها وتكون سببا في جذب قطعان الأسماك الكبير ، حيث يقصد الصيادون هذه المناطق للاستفادة من صيد هذه الحيوانات ، وتعتبر هذه المنطقة من أفضل المناطق في العالم لصيد الأسماك(١) .

وهذا يمثّل أحد التفاسير للآيات أعلاه ، وهو لا يتنافى مع التفاسير الاخرى ، ولذا يمكن الجمع بينهما.

٣ ـ تفسير من أعماق الآيات

نقل في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ) أنّه قال : «وعلي وفاطمةعليهما‌السلام بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه.( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) قال : الحسن والحسين»(٢) .

ونقل هذا المعنى عن بعض أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير الدرّ المنثور(٣) .

ونقله العلّامة الطبرسي في مجمع البيان مع اختلاف يسير.

__________________

(١) دائرة المعارف (الثقافية) ج ١٢ ص ١٢٢٨ ، وكذلك مجلة الميناء والبحر عدد ٤ ص ١٠٠ بالإضافة إلى مصادر اخرى.

(٢) تفسير القمّي ، ج ٢ ، ص ٣٤٤.

(٣) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٤٢.

٣٩٥

ومن هنا نعلم أنّ القرآن الكريم له بطون ، وأنّ آية واحدة يمكن أن تكون لها معان متعدّدة بل عشرات المعاني. والتّفسير الأخير هو من بطون القرآن ، ولا يتنافى مع المعاني الظاهرية له.

٣٩٦

الآيات

( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) )

التّفسير

كلّ شيء هالك إلّا وجهه :

استمرارا لشرح النعم الإلهيّة ، في هذه الآيات يضيف سبحانه قوله :( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ) وهنا يتساءل كيف يكون الفناء نعمة إلهية؟

وللجواب على هذا السؤال نذكر ما يلي : يمكن ألّا يكون المقصود بالفناء هنا هو الفناء المطلق ، وإنّما هو الباب الذي يطلّ منه على عالم الآخرة ، والجسر الذي لا بدّ منه للوصول إلى دار الخلد ، بلحاظ أنّ الدنيا بكلّ نعمها هي سجن المؤمن ، والخروج منها هو التحرر من هذا السجن المظلم.

أو أنّ النعم الإلهيّة الكثيرة ـ المذكور سابقا ـ يمكن أن تكون سببا لغفلة البعض وإسرافهم فيها بأنواع الطعام والشراب والزينة والملابس والمراكب وغير

٣٩٧

ذلك. ممّا يستلزم تحذيرا إلهيّا للإنسان ، بأنّ هذه الدنيا ليست المستقّر ، فالحذر من التعلّق بها ، ولا بدّ من الاستفادة من هذه النعم في طاعة الله إنّ هذا التنبيه والتذكير بالرحيل عن هذه الدنيا هو نعمة عظيمة.

الضمير في (عليها) يرجع إلى الأرض التي ورد ذكرها في الآيات السابقة ، بالإضافة إلى القرائن الاخرى الموجودة ، لذا فهو واضح.

كما أنّ المقصود( مَنْ عَلَيْها ) هم الجنّ والإنس مع العلم أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ الحيوانات والكائنات الحيّة جميعا مشمولة بهذا المعنى.

وبما أنّ كلمة (من) تستعمل غالبا للعاقل ، لذا فالمعنى الأوّل هو الأنسب.

صحيح أنّ مسألة الفناء لا تنحصر بالإنس والجنّ فقط ، ولا تختّص بالكائنات الموجودة على الأرض فحسب ، حيث يصرّح القرآن الكريم بأنّ أهل السماء والأرض جميعا يفنون ، وذلك في قوله :( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) ،(١) ولكن لمّا كان الحديث يدور حول أهل الأرض ، لذا فهم المقصودون.

ويضيف في الآية اللاحقة قوله سبحانه :( وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .

«وجه» معناه اللغوي معروف وهو القسم الأمامي للشيء بحيث يواجهه الإنسان في الطرف المقابل ، واستعمالها بخصوص لفظ الجلالة يقصد به (الذات المقدّسة).

فسّر البعض( وَجْهُ رَبِّكَ ) بمعنى الصفات الإلهية المقدّسة ، التي عن طريقها تنزل نعم وبركات الله على الإنسان كالرحمة والمغفرة والعمل والقدرة.

ويحتمل أن يكون المقصود هي الأعمال التي تنجز من أجل الله ، وبناء على هذا فالجميع يفنى ، والشيء الباقي هي الأعمال التي تنجز بإخلاص ولرضى الله

__________________

(١) القصص ، ٨٨.

٣٩٨

تعالى

إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

أمّا( ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) والذي هو وصف لـ (الوجه) فإنّه يشير إلى صفات الجمال والجلال لله سبحانه ، لأنّ( ذُو الْجَلالِ ) تنبّئنا عن الصفات التي يكون الله أسمى وأجلّ منها (الصفات السلبية). وكلمة «الإكرام» تشير إلى الصفات التي تظهر حسن وقيمة الشيء ، وهي الصفات الثبوتية لله سبحانه كعلمه وقدرته.

وبناء على هذا فإنّ معنى الآية بصورة عامّة يصبح كالآتي : إنّ الباقي في هذا العالم هو الذات المقدّسة لله سبحانه ، والتي تتّصف بالصفات الثبوتية والمنزّهة عن الصفات السلبية.

كما فسّر البعض أنّ (ذو الإكرام) هو إشارة إلى الألطاف والنعم الإلهية التي تفضّل الله بها وأكرمها لخاصّة أوليائه ، ومن الممكن الجمع بين هذه المعاني المختلفة للآية أعلاه.

ونقرأ في حديث أنّ رجلا كان يصلّي في محضر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث دعا الله سبحانه كذلك : «اللهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت المنّان ، بديع السماوات والأرض ، ذو الجلال والإكرام ، يا حيّ يا قيّوم».

فقال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : «أتدرون بأي اسم دعا الله؟» فقالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : «والذي نفسي بيده ، لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى»(١) .

ثمّ يخاطب الخلائق مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ومضمون الآية اللاحقة في الحقيقة هي نتيجة للآيات السابقة ، حيث يقول

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ٩٥.

٣٩٩

سبحانه :( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

ولماذا لا يكون كذلك في الوقت الذي يفنى الجميع ويبقى وحده سبحانه ، وليس هذا في نهاية العالم فقط ، وإنّما الآن أيضا فانّ الكائنات فانية في مقابله وبقاءها مرتبط بمشيئته ، وإذا أعرض بلطفه فسيتلاشى الكون بأجمعه ، وعلى هذا فهل يوجد أحد سواه يطلب أهل السماوات والأرض قضاء حوائجهم منه ويسألونه تدبير شؤونهم؟!

التعبير بـ (يسأله) جاء بصيغة المضارع ، وهو دليل على أنّ السؤال والطلب في الكائنات ومستمر من الذات الإلهيّة المقدّسة ، والجميع يستلهمون من مبدأ فيضه ، ولسان حالهم يطلب الوجود والبقاء وقضاء الحوائج ، وهذا شأن الموجود الممكن الذي هو مرتبط بواجب الوجود ليس في الحدوث فقط. وإنّما في البقاء أيضا.

ثمّ يضيف سبحانه :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

نعم إنّ خلقه مستمر ، وإجاباته لحاجات السائلين والمحتاجين لا تنقطع ، كما أنّ إبداعاته مستمرّة فيجعل الأقوام يوما في قوّة وقدرة ، وفي يوم آخر يهلكهم ، ويوما يعطي السلامة والشباب ، وفي يوم آخر الضعف والوهن ، ويوما يذهب الحزن والهمّ من القلوب وآخر يكون باعثا له. وخلاصة الأمر أنّه في كلّ يوم ـ وطبقا لحكمته ونظامه الأكمل ـ يخلق ظاهرة جديدة وخلقا وأحداثا جديدة.

والالتفات إلى هذه الحقيقة من جهة يوضّح احتياجاتنا المستمرّة لذاته المقدّسة ، ومن جهة اخرى فإنّه يذهب اليأس والقنوط من القلوب ، ومن جهة ثالثة فإنّه يلوي الغرور ويكسر الغفلة في النفوس.

نعم ، إنّه سبحانه له في كلّ يوم شأن وعمل.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين ذكروا قسما من هذا المعنى الواسع تفسيرا للآية ، إلّا أنّ البعض ذكر في تفسيرها ، أنّها مغفرة الذنوب ، وذهاب الحزن ، وإعزاز أقوام وإذلال آخرين فقط.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526