الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156674 / تحميل: 6140
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

هذا الإنسان حاضر لديّ :( وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ) فيكشف الستار عن كلّ صغيرة وكبيرة صدرت منه.

ولكن ما المراد من «قرينه»؟ للمفسّرين أقوال كثيرة ، إلّا أنّ أغلبهم يرى أنّ المراد منه هو الملك الذي يرافق الإنسان في الدنيا والذي كان مأمورا بتسجيل أعماله وضبطها ليشهد عليه هناك في محكمة عدل الله.

والآيات السابقة التي كانت تشير إلى أنّ من يرد عرصات المحشر فإنّ معه سائقا يسوقه وشهيدا يشهد عليه ، تدلّ على هذا المعنى أيضا. زد على ذلك لحن الآية نفسها والآية التي تليها تتناسبان مع هذا المعنى أيضا [فلاحظوا بدقّة].

إلّا أنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المراد من قرينه هو «الشيطان» ، لأنّ كلمة «قرين» أطلقت في كثير من آيات القرآن على الشيطان الذي يصطحب الإنسان فيكون معنى الآية على هذا التقدير هكذا : «وقال الشيطان قرين الإنسان : «إنّني أعددت هذا المجرم لجهنّم وبذلت أقصى ما في وسعي من جهد في هذا السبيل».

إلّا أنّ هذا المعنى لا أنّه لا يتناسب مع الآيات السابقة واللاحقة فحسب ، بل لا ينسجم مع تبرئة الشيطان نفسه من إغوائه الإنسان على الذنب كما تصرّح بذلك الآية الواردة بعد عدّة آيات من هذه الآية محلّ البحث.

فطبقا لهذا التّفسير للآية فإنّ الشيطان يعترف بمسؤوليته في إغواء الإنسان ، والحال أنّ الآيات المقبلة نقرأ فيها قوله :( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) فيقع التضادّ بين القولين كما تلاحظون.

وهناك تفسير ثالث وهو أبعد ممّا ذكر آنفا ولا قرينة عليه أبدا ، وهو أنّ المراد من «قرينه» هو من رافق الإنسان في حياته من البشر!!

ثمّ يخاطب الله الملكين المأمورين بتسجيل أعمال الإنسان فيقول لهما :( أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) .

كلمة «عنيد» مشتقّة من العناد ، ومعناها التكبّر وحبّ الذات وعدم الخضوع

٤١

للحقّ!

ومن هم المخاطبين هنا؟ هناك تفاسير متعدّدة أيضا ، فمنهم من اختار التّفسير آنف الذكر ، ومنهم من قال بأنّهما خازنا النيران.

وقال بعضهم ـ أيضا ـ من المحتمل أن يكون المخاطب واحدا فحسب ، وهو الشاهد الذي يرد عرصة القيامة مع المجرم ، وصرّحت به الآيات آنفة الذكر ، وتثنية الفعل هو من أجل التأكيد ، فكأنّه يؤكّد مرتين : «الق ، الق» واستعمال التثنية في خطاب المفرد وارد في لغة العرب ، إلّا أنّ هذا التّفسير بعيد جدّا. وخير التفاسير وأنسبها هو التّفسير الأوّل.

وفي الآية التالية إشارة إلى بعض الأوصاف التي يتّصف بها هؤلاء الكفّار ـ الذميمة المنحطّة إذ تقول الآية :( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ) .

«المنّاع» بحكم كونه صيغة مبالغة فإنّه يطلق على الشخص الذي يمنع كثيرا من الأمور ، فيكون التعبير بـ «منّاع للخير» يقصد به من يمنع كلّ عمل صالح فيه خير وبأيّة صورة كانت.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّ الآية نزلت في «الوليد بن المغيرة» حيث أنّه كان يمنع أبناء أخيه عن الإسلام ويقول لهم : طالما كنت حيّا فلن أعينكم في حياتكم(١) .

وكلمة «معتد» معناها المتجاوز على الحدود ، سواء أكان متجاوزا لحقوق الآخرين أو لحدود الله وأحكامه!

وكلمة «مريب» مشتقّة من الريب ، وتعني من هو في شكّ ، الشكّ المقرون بسوء الظنّ ، أو من يخدع الآخرين فيجعلهم بما يقول أو يعمل في شكّ من أمرهم فيضلّوا عن سواء السبيل.

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٦ ، ص ١٦٨.

٤٢

ثمّ تضيف الآية التالية لتذكر وصفا ذميما لمن كان من طائفة الكفّار فتقول :( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

أجل :( فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) .

وفي هذه الآيات بيان ستّة أوصاف لأهل النار ، فالأوصاف الخمسة المتقدّمة بعضها لبعض بمثابة العلّة والمعلول ، أمّا الوصف السادس فإيضاح للجذر الأصيل لهذه الأوصاف.

لأنّ معنى الكفّار هو من أصرّ على كفره كثيرا ، وينتهي هذا الأمر إلى العناد.

والمعاند أو العنيد يصرّ على منع الخير أيضا ، ومثل هذا الشخص بالطبع يكون معتديا متجاوزا على حقوق الآخرين وحدود الله.

والمعتدون يصرّون على إيقاع الآخرين في الشّك والريب وسلب الإيمان عنهم.

وهكذا تبيّن أنّ هذه الأوصاف الخمسة أي «الكفّار والعنيد والمنّاع للخير والمعتدي والمريب» يرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا ، وبعضها لبعض يشكّل علاقة اللازم بالملزوم.

وفي الوصف السادس أي( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) يكمن الجذر الأصيل والأساس لجميع الانحرافات الآنف ذكرها ، والمراد من هذا الوصف هو الشرك ، لأنّ التدقيق فيه يكشف أنّ الشرك هو الباعث على جميع هذه الأمور المتقدّمة!

وفي الآية التالية يكشف الستار عن مشهد آخر وصورة اخرى ممّا يجري على هؤلاء الكفّار وعاقبتهم ، وهو المجادلة بينهم وبين الشيطان الغويّ في يوم القيامة ، فكلّ من الكفّار يلقي التبعات على الشياطين ، إلّا أنّ قرينه «الشيطان» يردّ عليه ويقول كما يحكي عنه القرآن :( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) . فلم أجبره على سلوك طريق الغواية والضلالة ، بل هو الذي سلكه باختياره

٤٣

وإرادته واختار هذا الطريق.

وهذا التعبير يشبه ما ورد في سورة إبراهيم الآية (٢٢) إذ يتبرّأ الشيطان من أتباعه فيقول :( ... وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) !!

وبالطبع فإنّ الشيطان لا يريد أن ينكر أثره في إغواء الإنسان إنكارا كليّا ، بل يريد أن يثبت أنّه لم يجبر أحدا على إغوائه ، بل الإنسان بمحض استجابته ورغبته قبل وساوس الشيطان ، فعلى هذا الأساس لا تضادّ بين هذه الآية والآية (٨٢) من سورة (ص) :( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وبالرغم من أنّ هذه الآيات تتحدّث عن دفاع الشيطان عن نفسه فحسب ، ولا يظهر فيها كلام على اعتراض الكفّار وردّهم على الشيطان ، إلّا أنّه وبقرينة سائر الآيات التي تتحدّث عن مخاصمتهم في يوم القيامة وبقرينة الآية التالية يتّضح جدال الطرفين إجمالا ، لأنّها تقول حاكية عن ربّ العزّة :( قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) وأخبرتكم عن هذا المصير.

إشارة إلى قوله تعالى للشيطان من جهة :( اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) (١) .

ومن جهة اخرى فقد أنذر سبحانه من تبعه من الناس( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) .(٢) وهذا التهديد والوعيد واردة في سائر آيات القرآن ، وهي حاكية جميعا عن أنّ الله أتمّ الحجّة على الشياطين والإنس كلّهم وحذّر كلا الفريقين من الإغواء والغواية والإضلال والضلال.

ولمزيد التأكيد تقول الآية التالية حاكية عن لسان ربّ العزّة :( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ

__________________

(١) الإسراء ، الآية ٦٣.

(٢) سورة ص ، الآية ٨٥.

٤٤

لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) (١) .

والمراد من «القول» هنا هو التهديد أو الوعيد الذي أشار إليه الله سبحانه مرارا في آيات متعدّدة وذكرنا آنفا أمثلة منها.

والتعبير بـ «ظلّام» وهو صيغة مبالغة معناه كثير الظلم ، مع أنّ الله لا يصدر منه أقل ظلم ، ولعلّ هذا التعبير هو إيذان بأنّ مقام عدل الله وعلمه في درجة بحيث لو صدر منه أصغر ظلم لكان يعدّ كبيرا جدّا ولكان مصداقا للظلّام ، فعلى هذا فإنّ الله بعيد عن أي أنواع الظلم.

أو أنّ هذا التعبير ناظر إلى الأفراد والمصاديق ، إذ لو نال عبدا ظلم من الله فهناك نظراء لهذا العبد ، وفي المجموع يكون الظلم كثيرا.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا التعبير دليل على أنّ العباد مخيّرون ولديهم الحريّة «في الإرادة» فلا الشيطان مجبور على شيطنته وعمله ، ولا الكفّار مجبورون على الكفر وأتباع طريق الشيطان ، ولا العاقبة والمصير القطعي الخارج عن الإرادة قد تقرّرا لأحد أبدا.

وهنا ينقدح هذا السؤال! وهو :

كيف يقول سبحانه( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ ) ؟ مع أنّ جماعة من العباد يشملهم عفوه وغفرانه؟

والجواب على هذا السؤال : أنّ العفو أيضا وفقا لمنهج دقيق وفرع على عمل أدّاه الإنسان بحيث أنّه على رغم جرمه فهو جدير بالعفو ، وهذا بنفسه أحد السنن الإلهيّة ، وهو أنّ من يستحقّ العفو يشمله عفوه ، وهذا أيضا لا يتغيّر.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث إشارة إلى جانب قصير ومثير من مشاهد يوم القيامة إذ تقول الآية :( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ

__________________

(١) لدي ظرف متعلق بـ «يبدل» واحتمل بعض المفسرين أنه متعلق بالقول ، إلا أن المعنى الأول أنسب

٤٥

مَزِيدٍ) (١) .

والمراد من( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) ما هو؟ هناك تفسيران :

الأوّل : أنّه استفهام إنكاري ، أي أنّ جهنّم تقول لا مجال للزيادة ، وبهذا فينسجم هذا المعنى مع الآية ١٣ من سورة السجدة :( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وهو تأكيد على أنّ تهديد الله يتحقّق في ذلك اليوم تماما وأنّ جهنّم تمتلئ في يوم القيامة من الكفّار والمجرمين.

والثّاني : إنّ هذه الجملة فيها طلب للزيادة! أي هل يوجد غير هؤلاء ليدخلوا النار ، وأساسا فإنّ طبيعة كلّ شيء أن يبحث عن سنخه دائما ، فلا النار تشبع من الكفّار ولا الجنّة تشبع من المؤمنين الصالحين.

إلّا أنّ هذا السؤال سيبقى بلا جواب ، وهو أنّ مفهوم هذا الطلب أنّ جهنّم ما تزال غير ممتلئة ، فلا تنسجم مع الآية ١٣ من سورة السجدة آنفة الذكر التي تقول :( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ طلب المزيد لا يدلّ على عدم الامتلاء لأنّه :

أوّلا : قد يكون إناء مليء بالطعام مثلا ، إلّا أنّ شخصا ما يزال يتمنّى أن لو أضيف إليه فيكون متراكما أكثر! ثانيا : هذا الطلب يمكن أن يكون طلبا لتضييق المكان على أهل جهنّم وعقابهم الأليم أو تمنّي السعة لاستيعاب أنفار آخرين أكثر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الآية تدلّ دلالة واضحة أنّ أهل جهنّم كثيرون ، وأنّ صورة جهنّم مرعبة وموحشة وأنّ تهديد الله جدّي وحقّ يربك الفكر في كلّ إنسان فيهزّه ويحذّره ألّا يكون واحدا من أهلها! وهذا التفكير يمكن أن يصيّره ورعا ملتزما فلا يقدم على الذنوب الكبيرة والصغيرة!

__________________

(١) بأي كلمة متعلّق لفظ «يوم»؟ هناك ثلاثة وجوه ـ الوجه الأوّل أنّه متعلّق بمحذوف وتقديره اذكروا. والوجه الثاني أنّه متعلّق بيبدّل. والوجه الثالث أنّه متعلّق بظلّام ، إلّا أنّ الأوّل أولى.

٤٦

وينقدح سؤال آخر ، وهو كيف تخاطب النار وهي موجود غير عاقل فتردّ وتجيب على الخطاب!

ولهذا السؤال توجد إجابات ثلاث :

الاولى : إنّ هذا التعبير نوع من التشبيه وبيان لسان الحال! أي أنّ الله يسأل بلسان التكوين جهنّم وهي تجيب بلسان الحال ، ونظير هذا التعبير كثير في اللغات المختلفة!

الثّانية : إنّ الدار الآخرة دار حياة واقعية ، فحتّى الموجودات المادية كالجنّة والنار يكون لها نوع من الإدراك ، والحياة والشعور ، فالجنّة تشتاق إلى المؤمنين ، وجهنّم تنتظر المجرمين.

وكما أنّ أعضاء جسم الإنسان تنطق في ذلك اليوم وتشهد على الإنسان ، فلا عجب أن تكون الجنّة والنار كذلك!

بل وحسب إعتقاد بعض المفسّرين إنّ ذرّات هذا العالم جميعها لها إدراك وإحساس خاصّ ، ولذلك فهي تسبّح الله وتحمده ، وقد أشارت إليه بعض آيات القرآن كالآية (٤٤) من سورة الإسراء(١) .

والثّالثة : إنّ المخاطبين هم خزنة النار وهم الذين يردون على هذا السؤال.

وجميع هذه التفاسير يمكن قبولها ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب كما يبدو!

* * *

__________________

(١) يراجع ذيل الآية ٤٤ من سورة الإسراء.

٤٧

الآيات

( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) )

التّفسير

ادخلوا الجنّة أيّها المتّقون!

مع الالتفات إلى أنّ أبحاث هذه السورة يدور أغلبها حول محور المعاد والأمور التي تتعلّق به ، ومع ملاحظة أنّ الآيات آنفة الذكر تتحدّث عن كيفية إلقاء الكفّار المعاندين في نار جهنّم وما يلاقونه من عذاب شديد وبيان صفاتهم التي جرّتهم وساقتهم إلى نار جهنّم! ففي هذه الآيات محلّ البحث تصوير لمشهد آخر ، وهو دخول المتّقين الجنّة بمنتهى التكريم والتجلّة وإشارة إلى أنواع النعم في

٤٨

الجنّة ، كما أنّ هذه الآيات تبيّن صفات أهل الجنّة لتتّضح الحقائق أكثر بهذه المقارنة ما بين أهل النار وأهل الجنّة.

فتبدأ الآيات بالقول :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) .

«أزلفت» : من مادّة زلفى ـ على زنة كبرى ـ ومعناها القرب ، أي قرّبت.

والطريف هنا أنّ القرآن لا يقول : وقرّب المتّقين إلى الجنّة ، بل يقول وأزلفت أي وقرّبت الجنّة للمتّقين ، وهذا أمر لا يمكن أن يتصوّر تبعا للظروف الدنيوية وشروطها ، ولكن حيث إنّ الأصول الحاكمة على العالم الآخر تختلف اختلافا بالغا عمّا هي في هذه الدنيا ، فلا ينبغي التعجّب إطلاقا أن يقرّب الله الجنّة للمتّقين بمنتهى التكريم بدلا من أن يذهبوا هم إليها.

كما أنّنا نقرأ في الآيتين (٩٠) و٩١) من سورة الشعراء :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) .

وهذا منتهى اللطف الإلهي لعباده المؤمنين حيث لا يتصوّر فوقه لطف آخر!.

والتعبير بـ( غَيْرَ بَعِيدٍ ) (١) تأكيد على هذا المعنى أيضا.

وعلى كلّ حال ، فمفهوم الآية أنّ هذه القضيّة تقع في القيامة رغم أنّه عبّر عنها بالماضي «أزلفت» لكن الحوادث المستقبلية القطعية كثيرا ما يعبّر عنها بالماضي ـ لأنّ وقوعها سيتحقّق حتما ـ.

وقيل : إنّ إزلاف الجنّة للمتّقين يتحقّق في الدنيا ، لأنّه لا يفصلهم شيء عن الجنّة والتعبير بالماضي يراد به الماضي حقيقة. وعند الموت سيجدون أنفسهم في الجنّة. لكن مع ملاحظة الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدّث عن مشاهد القيامة يبدو أنّ هذا المعنى بعيد ، والمناسب هو التّفسير الأوّل.

ثمّ تبيّن الآيات أوصاف أهل الجنّة فتقول :( هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ

__________________

(١) غير بعيد فيها ثلاثة أوجه إعرابية ، فيحتمل أن تكون ظرفا ، كما يحتمل أن تكون حالا ، ويحتمل أن تكون صفة لمحذوف تقديره إزلافا غير بعيد.

٤٩

حَفِيظٍ ) .

وقد أشير في هذه الآية إلى وصفين من أوصافهم وهما «أوّاب» «وحفيظ».

وكلمة «الأوّاب» : من مادّة [أوب] ـ على زنة ذوب ـ ومعناها العودة ، ولعلّها تعني التوبة عن الذنوب الكبيرة والصغيرة.

أو أنّها تعني العودة إلى الطاعة ، ومع ملاحظة أنّ هذه الصيغة هي للمبالغة فإنّها تدلّ على أنّ أهل الجنّة رجال متّقون بحيث إنّ أيّ عامل أو مؤثّر أراد أن يبعدهم عن طاعة الله فهم يلتفتون ويتذكّرون فيرجعون إلى طاعته فورا ، ويتوبون عن معاصيهم وغفلاتهم ليبلغوا مقام «النفس المطمئنة».

«الحفيظ» معناه الحافظ ، فما المراد منه؟ هل هو الحافظ لعهد الله إذ أخذه من بني آدم ألّا يعبدوا الشيطان كما ورد في الآية (٦٠) من سورة يس ، أم هو الحافظ لحدود الله وقوانينه أو الحافظ لذنوبه والمتذكّر لها ممّا يستلزم التوبة والجبران ، أو يعني جميع ما تقدّم من احتمالات؟

ومع ملاحظة أنّ هذا الحكم ورد بصورة مطلقة ، فإنّ التّفسير الأخير الجامع لهذه المعاني يبدو أقرب.

واستدامة لبيان هذه الأوصاف فإنّ الآية التالية تشير إلى وصفين آخرين منها ، وهما في الحقيقة بمثابة التوضيح والتّفسير لما سبق ذكره ، إذ تقول الآية :( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) .

عبارة( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ) إشارة إلى أنّهم رغم عدم رؤيتهم الله بأعينهم ، إلّا أنّهم يؤمنون به عن طريق آثاره والاستدلال بها. فيؤمنون إيمانا مقرونا بالإحساس بتحمّل المسؤولية.

ويحتمل أنّ المراد من «الغيب» هو ما غاب عن أعين الناس ، أي أنّهم لا يرتكبون الإثم لا بمرأى من الناس ولا في خلوتهم وابتعادهم عنهم.

وهذا الخوف «أو الخشية» يكون سببا للإنابة ، فيكون قلبهم متوجّها إلى الله

٥٠

ويقبل على طاعته دائما ويتوب من كلّ ذنب ، وأن يواصلوا هذه الحالة حتّى نهاية العمر ويردّوا عرصات المحشر على هذه الكيفية!.

ثمّ تضيف الآية الاخرى بأنّ أولئك الذين يتمتّعون بالصفات الأربع هذه حين تتلقّاهم الملائكة عند أبواب الجنّة يقولون لهم بنهاية التجلّة والإكرام( ادْخُلُوها بِسَلامٍ ) .

«السلام» من كلّ أنواع الأذى والسوء والعذاب والمعاقبة ، السلامة الكاملة في لباس الصحّة والعافية.

ولطمأنتهم يضاف أنّ ذلك اليوم يوم الدعّة و( ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) .

وإضافة لهاتين البشارتين بشرى الدخول بسلام ، وبشرى الخلود في الجنّة ، يبشّرهم الله بشريين أخريين بحيث تكون مجموع البشريات أربعا كما أنّهم يتّصفون بأربع صفات يقول :( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) .

وإضافة إلى كلّ ذلك فإنّه( لَدَيْنا مَزِيدٌ ) من النعم التي لم تخطر ببال أحد.

ولا يمكن أن يتصوّر تعبير أبلغ من هذا التعبير وأوقع منه في النفس ، إذ يقول القرآن أوّلا :( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) على سعة معنى العبارة وما تحمله من مفهوم إذ لا استثناء فيها ، ثمّ يضاف عليها المزيد من قبل الله ما لم يخطر بقلب أحد ، حيث أنّ الله الذي أنعم على المتّقين فشملهم بألطافه الخاصّة وهم يتنعمّون فيها ، وهكذا فإنّ نعم الجنّة ومواهبها ذات أبعاد واسعة لا يمكن أن توصف بأيّ بيان.

كما يستفاد من هذا التعبير ضمنا أنّه لا مقايسة بين أعمال المؤمنين وثواب الله ، بل هو أعلى وأسمى منها كثيرا ، والجميع في يوم القيامة يواجهون فضله أو عدله! ونجازى بعدله!

وبعد الانتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنّة وأهل النار ودرجاتهما ، فإنّ القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والاستنتاج فيقول :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ) فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء

٥١

وكانوا يفتحون البلدان ويتسلّطون عليها ، إلّا أنّهم وبسبب كفرهم وظلمهم أهلكناهم فهل وجدوا منفذا ومخرجا للخلاص من الموت والعذاب الإلهي( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) ؟!

«القرن» و «الاقتران» في الأصل هو «القرب» أو «الاقتراب» ما بين الشيئين أو الأشياء ، ويطلق لفظ «القرن» على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة ، ويجمع على «قرون» ثمّ أطلق هذا اللفظ على فترة من الزمن حيث يطلق على ثلاثين سنة أحيانا كما يطلق على مائة سنة أيضا ، فإهلاك القرون معناه إهلاك الأمم السابقة.

و «البطش» معناه حمل الشيء وأخذه بالقوّة والقدرة ، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى الفتك والحرب.

و «نقّبوا» : فعل من مادّة نقب ، ومعناه الثقب في الجدار أو الجلد ، غير أنّ الثقب يطلق على ما يقع في الخشب ، والنقب معناه أعمّ وأوسع.

وهذه المفردة إذا استعملت كفعل كما هو في الآية فيعني ذلك الحركة والسير وشقّ الطريق ، كما يعني السيطرة على البلدان والنفوذ فيها أيضا.

«المنقبة» : من المادّة ذاتها ، وتطلق على الصفات البارزة في الشخص وأفعاله الكريمة التي لها تأثير ونفوذ في نفوس الآخرين ، أو أنّها تشقّ له الطريق في الارتفاء والسمو!

و «النقيب» : هو من يبحث عن أحوال جماعة ما ويطّلع على أخبارهم وينفذ في أنفسهم.

و «المحيص» : كلمة مشتقّة من الحيص على زنة «الحيف» ، ومعناها الانحراف والعدول عن الشيء ، ومن هنا فقد استعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل والهزيمة عن المعركة!.

وعلى كلّ حال فإنّ الآية تنذر الكفّار المعاصرين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستقرئوا تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للاعتبار ، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين

٥٢

.. الذين كانوا امما وأقواما أشدّ من هؤلاء «وليفكّروا بعاقبتهم أيضا» وهذا المعنى ورد مرارا في القرآن منها الآية ٨ من سورة الزخرف إذ نقرأ قوله تعالى :( فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً ) .

ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية محلّ البحث تشير إلى «ثمود» هذه الطائفة التي كانت تسكن مناطق جبلية تدعى «بالحجر» وتقع شمال الحجاز ، فكانت تقطنها وتنقّب في الجبال وتحفر صخورها فتصنع منها القصور الرائعة ، غير أنّ ظاهر النصّ أنّ هذه الآية مفهومها واسع ، فيشمل هؤلاء وغيرهم أيضا.

أمّا جملة( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) فيحتمل أن تكون سؤالا على لسان الكفّار السابقين حين أحدق بهم العذاب ، فكانوا يسألون : هل من فرار ومحيص عنه ، كما يحتمل أن يكون سؤالا من قبل الله للكفّار المعاصرين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أي هل استطاع من كان قبلكم من الكفرة الفرار من قبضة العذاب؟ أو هل يستطيع من يعاند النّبي أن يهرب من مثل هذا لو أحدق به؟!

ويضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث مؤكّدا أكثر فيقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) .

والمراد بـ «القلب» هنا وفي الآيات الآخر من القرآن التي تتكلّم على إدراك المسائل هو العقل والشعور والإدراك ، كما أنّ كتب اللغة تشير إلى أنّ واحدا من معاني القلب هو العقل ، أمّا الراغب فقد فسّر القلب في الآية محلّ البحث بالعلم والفهم ، كما نقرأ في لسان العرب أنّ القلب قد يطلق على العقل أيضا(١) .

كما ورد في تفسير عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام لهذه الآية أنّه قال : إنّ القلب هو العقل(٢) .

والجذر اللغوي لكلمة «قلب» في الأصل : التغيير والتحوّل ، واصطلاحا معناه

__________________

(١) لسان العرب مادّة القلب. [ق لـ ب].

(٢) أصول الكافي ، ج ١ ـ كتاب العقل والجهل ، الحديث ١١.

٥٣

الانقلاب ، وحيث أنّ فكر الإنسان أو عقله في تقلّب دائم وفي حال مختلفة فقد أطلقت عليه كلمة «القلب» ولذلك فإنّ القرآن يعوّل على اطمئنان القلب والسكينة فيقول :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) كما يقول في آية اخرى :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ،(٢) أجل إنّما يهدّئ هذا الموجود المضطرب ذكر الله فحسب.

أمّا( أَلْقَى السَّمْعَ ) فكناية عن الإصغاء ومنتهى الاستماع بدقّة ، وهناك تعبير في العرف يشبه هذا التعبير يقول «اذني معك» أي إنّني أصغي إليك بدقّة! و «الشهيد» يطلق على من هو حاضر القلب ، أو كما يقال قلبه في المجلس وهو يتابع المسائل بدقّة!.

وهكذا فإنّ مضمون الآية بمجموعة يعني ما يلي : إنّ هناك فريقين ينتفعان بهذه المواعظ والنصيحة فالفريق الأوّل من يتمتّع بالذكاء والعقل ويستطيع بنفسه أن يحلّل المسائل بفكره!

أمّا الفريق الآخر فليس بهذا المستوى ، إلّا أنّه يمكن أن يلقي السمع للعلماء ويصغي لكلماتهم بحضور القلب ويعرف الحقائق عن طريق الإرشاد.

ويشبه هذا التعبير ما نقرؤه في الآية ١٠ من سورة الملك على لسان أهل النار ، إذ ورد هكذا :( وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) !

لأنّ علائم الحقّ واضحة ، فأهل التحقيق يعرفونها جيّدا ومن لم يكن كذلك فيستطيع أن يعرفها عن طريق إرشاد المخلصين من العلماء.

فعلى هذا يجب أن يتمتّع الإنسان بعقل كاف وعلم واف أو يتمتّع بإذن واعية(٣) .

* * *

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية ٤.

(٢) سورة الرعد ، الآية ٢٨.

(٣) لاحظوا أنّ الآيتين عطفت الموضوعين «بأو» وهذا يدلّ على أنّ واحدا منهما على الأقل ضروري للإنسان!

٥٤

الآيات

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) )

التّفسير

خالق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى :

تعقيبا على ما ورد في الآيات آنفة الذكر ودلائلها المتعدّدة في شأن المعاد ، تشير الآيات محلّ البحث إلى دليل آخر من دلائل إمكان المعاد ثمّ تأمر النّبي بالصبر والاستقامة والتسبيح بحمد الله ليبطل دسائس المتآمرين وما يحيكونه ضدّه ، فتقول الآية الاولى من هذه الآيات :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) .

«اللغوب» بمعنى «التعب» وبديهي أنّ من لديه قدرة محدودة وأراد أن يعمل عملا فوق طاقته وقدرته فإنّه يتعب ويناله اللغوب والنصب ، إلا أنّ من كان ذا قدرة لا نهاية لها ، وقوّة لا حدّ لها فإنّ التعب والنصب واللغوب لا تعني شيئا لديه فعلى

٥٥

هذا من كان قادرا على إيجاد السماوات والأرض وخلق الكواكب والمجرّات وأفلاكها جميعا ، قادر على إعادة الإنسان بعد موته وأن يلبسه ثوبا جديدا من الحياة.

بعض المفسّرين ذكر في شأن نزول الآية أنّ اليهود كانوا يتصوّرون أنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام «ستّة أيّام من أيّام الأسبوع»! ثمّ استراح في اليوم السابع «السبت» فوضع رجلا على رجل اخرى!! وهكذا فإنّهم يرون أنّ الجلوس على هذه الشاكلة غير لائق ، وأنّه خاصّ بالله ، فنزلت الآية آنفة الذكر وحسمت الكلام في مثل هذه الخرافات المضحكة(١) !

إلّا أنّ هذا الشأن لا يمنع من أن يتابع مسألة إمكان المعاد في الوقت الذي هو دليل على توحيد الله وقدرته وعلمه ، إذ خلق السماوات والأرض بما فيهما من عجائب و (ملايين) الأحياء والأسرار المذهلة ونظمها الخاصّة بحيث أنّ التفكّر في زاوية واحدة من هذا الخلق يسوقنا إلى الخالق الذي حرّكت يد قدرته هذه الكواكب ونثرت نور الحياة في كلّ مكان ليكون دليلا عليه.

وقد تكرّر موضوع خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام في آيات متعدّدة من القرآن(٢) .

وكلمة «يوم» يراد منها الفترة الزمنية لا بمعنى أربع وعشرين ساعة أو اثنتي عشرة ساعة ، كأن نقول «كان الناس يعيشون في ظلّ النّبي يوما ، وسلّط عليهم بنو اميّة يوما وبنو العبّاس يوما آخر! إلخ».

وواضح أنّ كلمة «اليوم» في هذه التعبيرات وأمثالها يراد منها الفترة الزمانية سواء كانت سنّة أو شهرا أو جيلا أو آلاف السنين فنقول مثلا : كانت الكرة

__________________

(١) راجع تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١١٠.

(٢) راجع سورة الأعراف الآية ٥٤ ، سورة يونس الآية ٣ ، سورة هود الآية ٧ ، سورة السجدة الآية ٤ ، الحديد الآية ٤ ، الفرقان الآية ٥٩.

٥٦

الأرضية قطعة متلهّبة يوما ، وبردت يوما فغدت مهيّأة للحياة ، فجميع هذه التعبيرات تشير إلى الفترات الزمنية.

فيستفاد من التعبيرات الواردة في الآية آنفة الذكر أنّ الله خلق جميع السماوات والأرض والموجودات الاخرى في ستّ مراحل أو ستّ فترات زمانية. «وتفصيل هذا الكلام مبيّن في ذيل الآية ٥٤ من سورة الأعراف فلا بأس بمراجعته».

إذا ، لا يبقى مجال للسّؤال بأنّه لم يكن قبل خلق السماء والأرض ليل أو نهار فكيف خلقتهما في ستّة أيّام؟!

وبعد ذكر دلائل المعاد المختلفة وتصوير مشاهد المعاد ويوم القيامة المتعدّدة فإنّ القرآن يخاطب النّبي ويأمره بالصبر ـ لأنّ هناك طائفة لا تذعن للحقّ وتصرّ على الباطل فيقول :( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) إذ بالصبر والاستقامة ـ وحدهما ـ يستطاع التغلّب على مثل هذه المشاكل.

وحيث أنّ الصبر والاستقامة يحتاجان إلى دعامة ومعتمد ، فخير دعامة لهما ذكر الله والارتباط بالمبدأ ـ مبدأ العلم القادر على إيجاد العالم ـ لذلك فإنّ القرآن يضيف تعقيبا على الأمر بالصبر قائلا :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ).

وكذلك :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ ) .

فهذا الذكر والتسبيح والمستمر ينصبّ على صعيد قلبك كانصباب الغيث على الأرض ليهبها الحياة ويسقيها الرواء ، فالتسبيح أيضا يلهم قلبك النشاط والاستقامة بوجه الأعداء المعاندين.

وهناك أقوال مختلفة بين المفسّرين في المراد من «التسبيح» في الأوقات الأربعة «قبل طلوع الشمس وبعد الغروب ومن الليل وأدبار السجود!».

فبعضهم يعتقد أنّ المراد من هذه التعبيرات هو الصلوات الخمس اليومية

٥٧

وبعضا من النوافل الفضلى على الترتيب والنحو التالي.

فـ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) إشارة إلى صلاة الصبح ، لأنّ في آخر وقتها تطلع الشمس فينبغي أداؤها قبل طلوع الشمس.

وقبل الغروب إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر لأنّ الشمس تغرب آخر وقتيهما.

أمّا قوله :( وَمِنَ اللَّيْلِ ) فيشير إلى صلاتي المغرب والعشاء وقوله :( وَأَدْبارَ السُّجُودِ ) ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب ، وقال ابن عبّاس بهذا التّفسير ـ مع هذا القيد ـ وهو أنّ المراد من إدبار السجود هو جميع النوافل التي تؤدّى بعد الفرائض ولكن حيث أنّا نعتقد بأنّ ما يؤدّى من النوافل اليومية بعد الفرائض هما نافلة المغرب ونافلة العشاء فحسب ، فلا يصحّ هذا التعميم آنفا.

كما فسّر بعضهم قوله «قبل طلوع الشمس» بصلاة الصبح ، «وقبل الغروب» بصلاة العصر ، «ومن الليل فسبّحه» بصلاتي المغرب والعشاء ، فلم يذكروا شيئا عن صلاة الظهر هنا ، وهذا دليل على ضعف هذا التّفسير.

ونقرأ في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام الصادق أنّه حين سئل عن الآية :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) قالعليه‌السلام : «تقول حين تصبح وتمسي عشر مرّات لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير»(١) .

ولا يتنافى هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل ويمكن أن يجتمعا في الآية معا.

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو ورود نظير هذا المعنى باختلاف يسير في الآية (١٣٠) من سورة طه أيضا إذ تقول الآية :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) .

__________________

(١) مجمع البيان ـ ذيل الآيات محلّ البحث ـ.

٥٨

جملة «لعلّك ترضى» ـ تدلّ على أنّ لهذا التسبيح والذكر في هذه الأوقات أثرا مهمّا في اطمئنان القلب ورضا الخاطر ، إذ يمنح القلب قوّة وشدّة بوجه الحوادث.

وهناك لطيفة تسترعي النظر وهي أنّ الآية (٤٩) من سورة الطور تقول هكذا :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ ) (١) .

وقد ورد في حديث عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال : «المراد بـ( أَدْبارَ السُّجُودِ ) ركعتا نافلة تؤدّيان بعد صلاة المغرب «ينبغي الالتفات إلى أنّ نافلة المغرب أربع ركعات وقد أشير إلى إثنين منهما هنا فحسب» وإدبار النجوم ركعتا نافلة الصبح إذ تؤدّيان عند غروب النجوم وتفرّقها وقبل صلاة الصبح»(٢) .

كما ورد في رواية اخرى أنّ المراد من «ادبار السجود» هو نافلة الوتر التي تؤدّى آخر الليل(٣) .

وعلى كلّ حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب من الجميع وأكثر تناسبا وإن كان مفهوم التسبيح وسعته شاملا لكثير من التفاسير المشار إليها في الرّوايات آنفا.

* * *

ملاحظة

الصبر مفتاح لكلّ فلاح :

لم يكن تعويل القرآن واعتماده على الصبر بوجه المشاكل لأوّل مرّة هنا فحسب ، فطالما أمر النّبي والمؤمنون عامّة في الآيات مرارا بالصبر وأكّد على هذا

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ إدبار هنا جاءت بالكسر على زنة «إقبال» أمّا في الآية محلّ البحث فجاءت أدبار بفتح الهمزة على زنة أفكار ، وهي هنا جمع دبر ومعناه العقب ، فيكون المعنى في أدبار السجود أي بعد كلّ سجدة ، وأمّا معنى إدبار النجوم أي عند تفرّق النجوم.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية محلّ البحث ـ.

(٣) المصدر آنف الذكر.

٥٩

الموضوع كما أنّ التجارب تدلّ على أنّ النصر والغلبة من نصيب أولئك الذين تمتّعوا بالصبر والاستقامة.

ففي حديث عن الإمام الصادق أنّه أمر بعض أصحابه «ولعلّه كان لا يطيق بعض الظروف الصعبة في ذلك الزمان» : «عليك بالصبر في جميع أمورك. ثمّ قالعليه‌السلام إنّ الله بعث محمّدا وأمره بالصبر والمداراة فصبر حتّى نسبوا إليه ما لا يليق فضاق صدره فأنزل الله عليه الآية :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) .

فصبر فكذّبوه أيضا ، ورشقوه بنبال التّهم من كلّ جانب فحزن وتأثّر لذلك ، فأنزل الله عليه تسلية قوله :( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ) .

ثمّ يضيف الإمامعليه‌السلام أنّ النّبي واصل صبره إلّا أنّهم تجاوزوا الحدّ فكذّبوا الله فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي فأنزل اللهعزوجل :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) أي خلقنا السماوات والأرض في عدّة فترات ولم نعجل ولم يمسّنا تعب ونصب ، فعليك أن تصبر ، فصبر النّبي في جميع أحواله ما كان يواجهه حتّى انتصر على أعدائه»(١) .

* * *

__________________

(١) راجع اصول الكافي ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

«سورة الواقعة»

محتوى السورة :

نقل في كتاب «تأريخ القرآن» عن ابن النديم أنّ سورة الواقعة هي السورة الرابعة والأربعين التي نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ، وكانت قبلها سورة (طه) وبعدها (الشعراء).

هذه السورة ـ كما هو واضح من لحنها ، وذكره المفسّرون أيضا ـ نزلت في مكّة ، بالرغم من أنّ بعضهم قال : إنّ الآيتين (٨١ ، ٨٢) نزلتا في المدينة ، إلّا أنّ هذا الادّعاء ليس له دليل ، كما أنّ محتوى الآيتين الكريمتين لا يساعدان على ذلك أيضا.

وسورة الواقعة ـ كما هو واضح من اسمها ـ تتحدّث عن القيامة وخصوصياتها ، وهذا المعنى واضح في جميع آيات السورة الستّ والتسعين. ولذا فإنّ هذا الموضوع هو الأساس في البحث.

إلّا أنّنا نستطيع أن نلخّص موضوعات السورة في ثمانية أقسام :

١ ـ بداية ظهور القيامة والحوادث المرعبة المقترنة بها.

٢ ـ تقسيم أنواع الناس في ذلك اليوم إلى ثلاثة طوائف : (أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والمقرّبين).

٣ ـ بحث مفصّل حول مقام المقرّبين ، وأنواع الجزاء لهم في الجنّة.

__________________

(١) تأريخ القرآن لمؤلّفه أبو عبد الله الزنجاني ، ص ٥٩.

٤٤١

٤ ـ بحث مفصّل حول القسم الثاني في الناس وهم أصحاب اليمين ، وأنواع الهبات الإلهيّة الممنوحة لهم.

٥ ـ بحث حول أصحاب الشمال وما ينتظرهم من جزاء مؤلم في نار جهنّم.

٦ ـ بيان أدلّة مختلفة حول مسألة المعاد من خلال بيان قدرة اللهعزوجل ، وخلق الإنسان من نطفة حقيرة ، وظهور الحياة في النباتات ، ونزول المطر ، اشتعال النار والتي تدخل أيضا ضمن أدلّة التوحيد.

٧ ـ وصف حالة الاحتضار والانتقال من هذا العالم إلى حيث العالم الاخروي والتي تعتبر من مقدّمات يوم القيامة.

٨ ـ وأخيرا نظرة إجمالية كليّة حول جزاء المؤمنين وعقاب الكافرين.

وأخيرا تنهي السورة آياتها باسم الله العظيم.

فضيلة تلاوة هذه السورة :

حول فضيلة تلاوة هذه السورة ذكرت روايات كثيرة في المصادر الإسلامية نقرأ منها حديثا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «من قرأ سورة الواقعة لم يكتب من الغافلين»(١) وذلك لأنّ آيات هذه السورة تتّصف بالتحريك والإيقاظ بصورة لا تسمح للإنسان أن يبقى في جوّ الغفلة.

وحول هذا المعنى نقرأ حديثا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «شيّبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون»(٢) وذلك لأنّ الأخبار التي وردت في هذه السورة أخبار مثيرة عن القيامة والحشر والحوادث المرعبة وعقاب المشركين ، وذكر حالة الأقوام السابقة وما حلّ بهم من البلاء.

ونقرأ أيضا في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ في كلّ ليلة جمعة

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢١٢ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٢٧٣.

(٢) خصال الصدوق ، الباب الرابع ، حديث ١٠.

٤٤٢

الواقعة أحبّه الله وحبّبه إلى الناس أجمعين ، ولم ير في الدنيا بؤسا أبدا ولا فقرا ولا فاقة ، ولا آفة من آفات الدنيا ، وكان في رفقاء أمير المؤمنين»(١) .

وجاء في حديث آخر أنّ عثمان بن عفّان عاد عبد الله بن مسعود في مرضه الذي توفّي فيه فقال له : ماذا تشتكي؟ قال : ذنوبي ، قال : فيم ترغب؟ قال : في رحمة ربّي ، قال : ألا ألتمس لك طبيبا؟ قال : أمرضني الطبيب؟ قال : ألا آمر لك بعطيّة؟ قال : لم تأمر لي بها إذ كنت أحوج إليها ، وتأمر لي الآن وأنا مستغن عنها ، قال : فلتكن هي لبناتك ، قال : لا حاجة لهنّ بها فإنّي قد أمرتهنّ بقراءة سورة الواقعة ، وإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاقة يقول : «من قرأ سورة الواقعة كلّ ليلة لم تصبه أبدا»(٢) .

ولهذا السبب سمّيت سورة الواقعة حسب ما ورد في رواية اخرى بسورة الغنى(٣) .

ومن الواضح أنّنا لا نستطيع الحصول على جميع البركات التي وردت لهذه السورة بالقراءة السطحية ، بل ينبغي بعد تلاوتها التفكّر والتدبّر ، ومن ثمّ الحركة والعمل.

* * *

__________________

(١) ثواب الأعمال ، طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٣.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢١٢.

(٣) روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١١١.

٤٤٣

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) )

التّفسير

الواقعة العظيمة :

إنّ الأحداث المرتبطة بالقيامة تذكر غالبا في القرآن الكريم مقترنة بحوادث أساسيّة عظيمة قاصمة ومدمّرة ، وهذا ما يلاحظ في الكثير من السور القرآنية التي

٤٤٤

تتحدّث عن القيامة.

وفي سورة الواقعة حيث يدور البحث حول محور المعاد ، نجد هذا واضحا في الآيات الاولى منها ، حيث يبدأ سبحانه بقوله :( إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) (١) .

( لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ) وذلك لأنّ الحوادث التي تسبقها عظيمة وشديدة بحيث تكون آثارها واضحة في كلّ ذرّات الوجود.

«الواقعة» تشير إشارة مختصرة إلى مسألة الحشر ، ولأنّ وقوعها حتمي فقد عبّر عنها بـ (الواقعة) واعتبر البعض أنّها إحدى أسماء القيامة.

كلمة (كاذبة) هنا أخذت بمعناها المصدري ، وهي إشارة إلى أنّ وقوع القيامة ظاهر وواضح إلى حدّ لا يوجد أي مجال لتكذيبه أو بحثه والنقاش فيه.

كما أنّ البعض فسّرها بمعناها الظاهري الذي هو اسم الفاعل ، حيث قالوا بعدم وجود من يكذّب هذا الأمر(٢) .

وعلى كلّ حال فإنّ الحشر لا يقترن بتغيير الكائنات فحسب ، بل إنّ البشر يتغيّر كذلك كما يقول سبحانه في الآية اللاحقة( خافِضَةٌ رافِعَةٌ ) (٣) .

أجل ، أنّها تذلّ المستكبرين المتطاولين ، وتعزّ المحرومين المؤمنين وترفع المستضعفين الصادقين بعض يسقط إلى قاع جهنّم ، وبعض آخر إلى أعلى عليين في الجنّة.

وهذه هي خاصية المبادئ الإلهيّة العظيمة.

ولذلك نقرأ في رواية الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «خافضة خفضت والله أعداء الله في النار ، رافعة رفعت والله أولياء الله إلى

__________________

(١) تعتبر (إذا) منصوبة على الظرفية والناصب له «ليس» الوارد في الآية الثانية مثل أن نقول «يوم الجمعة ليس لي شغل» ويحتمل أن تكون منصوبة بفعل مقدّر تقديره (ذكر) إلّا أنّ الرأي الأوّل هو الأنسب.

(٢) إنّ سبب كون الضمير مؤنثا لتقديره (نفس كاذبة) أو (قضيّة كاذبة) واعتبر البعض أنّ (اللام) في (لوقعتها) للتوقيت ، إلّا أنّ الظاهر أنّها للتعدية.

(٣) «خافضة رافعة» خبر لمبتدأ محذوف ، وفي الأصل (هي خافضة رافعة).

٤٤٥

الجنّة»(١) .

ثمّ يستعرض القرآن الكريم وصفا أوسع في هذا الجانب حيث يقول :( إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ) .

يا له من زلزال عظيم وشديد إلى حدّ أنّ الجبال فيه تندكّ وتتلاشى ، قال تعالى :( وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) .

(رجّت) من مادّة (رجّ) على وزن (حجّ) بمعنى التحرّك الشديد للشيء وتقال رجرجة للاضطراب.

«بسّت» من مادّة (بسّ) على وزن (حجّ). والأصل بمعنى تليّين الطحين وتعجنه بواسطة الماء.

«هباء» بمعنى غبار ، و «منبث» بمعنى منتشر. قال البعض : إنّ «هباء» هو ذرّات الغبار الصغيرة المعلّقة بالفضاء ولا ترى في الحالة الاعتيادية ، إلّا إذا دخل نور الشمس من نافذة إلى مكان مظلم.

والآن يجب التفكير بهذه الزلزلة والإنفجار ، كم هو عظيم بحيث تتلاشى الجبال مع ما لها من القوّة والصلابة بحيث تتحوّل إلى غبار منتشر ، والأعظم هو شدّة الصوت الذي ينتج من هذا الإنفجار الرهيب.

وعلى كلّ حال فقد نلاحظ في الآيات القرآنية تعبيرات مختلفة حول وضع الجبال قبل يوم القيامة ، وتكشف لنا المراحل المتعدّدة للانفجار العظيم الذي يطرأ على الجبال ، حيث يقولعزوجل في هذا الصدد :

( وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) الطور.

( وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) المرسلات.

( فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الحاقّة.

__________________

(١) الخصال طبقا ، نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٤.

٤٤٦

( وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً ) المزمل أي كالرمل المتراكم.

( فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) الواقعة الآية محلّ البحث.

وأخيرا( وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة أي كالصوف المنفوش حيث لا يرى منها إلّا لونها.

ومن الواضح أن لا أحد يعلم إلّا الله بحقيقة حصول هذه التغيّرات التي لا تحملها الألفاظ ، ولا تجسّدها العبارات ، اللهمّ إلّا إشارات معبّرة تحكي عظمة وهول هذا الإنفجار العظيم.

وبعد بيان وقوع هذه الظاهرة العظيمة والحشر الكبير يستعرض القرآن المجيد ذكر حالة الناس في ذلك اليوم ، حيث قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام بقول سبحانه :( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ) .

لفظ (الزوج) لا يقال دائما لجنس المؤنث والمذكّر ، بل تطلق هذه اللفظة على الأمور المتقارنة مع بعض ، ولكون أصناف الناس في القيامة والحشر والنشر تكون متقارنة مع بعضها ، لذا يطلق عليها لفظ أزواج.

وحول القسم الأوّل يحدّثنا القرآن الكريم بقوله :( فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ) (١) .

المقصود من أصحاب الميمنة هم الأشخاص الذين يعطون صحيفة أعمالهم بأيديهم اليمنى ، وهذا الأمر رمز لأهل النجاة ، ودليل الأمان للمؤمنين والصالحين في يوم القيامة ، كما ذكر هذا مرارا في الآيات القرآنية.

أو أنّ كلمة (ميمنة) من مادّة (يمن) التي أخذت من معنى السعادة ، وعلى هذا التّفسير فإنّ القسم الأوّل هم طائفة السعداء وأهل الحبور والسرور.

__________________

(١) في تركيب هذه الجملة توجد احتمالات عديدة وأنسبها أن نقول : «أصحاب الميمنة» مبتدأ ، و «ما» استفهامية مبتدأ تان ، وأصحاب الميمنة الثانية خبرها ، والخلاصة أنّ جملة (ما أصحاب الميمنة) خبر للمبتدأ الأوّل ، والفاء في بداية الجملة تفريعيّة وتفسيرية.

٤٤٧

وبالنظر إلى أنّ الآية اللاحقة تعرّف المجموعة الثانية بـ( أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ) والتي هي مأخوذة من مادّة (شؤم) فإنّ التّفسير الأخير هو الأنسب(١) .

عبارة «ما أصحاب الميمنة» هو بيان حقيقة السعادة التي ليس لها حدّ ولا يمكن تصوّرها لهؤلاء المؤمنين ، وهذه قمّة الروعة في الوصف لمثل هذه الحالات ، ويمكن تشبيه ذلك بقولنا : فلان إنسان يا له من إنسان!

ثمّ يستعرض الله تعالى المجموعة الثانية بقوله :( وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ) حيث الشؤم والتعاسة ، واستلام صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى التي هي رمز سوء عاقبتهم وعظيم جرمهم وجنايتهم ، نتيجة عمى البصيرة والسقوط في وحل الضلال.

والتعبير بـ «ما أصحاب المشئمة» هو الآخر يعكس نهاية سوء حظّهم وشقاوتهم.

وأخيرا يصف المجموعة الثالثة أيضا بقوله سبحانه :( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) (٢) ( أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) .

(السابقون) ليسوا الذين سبقوا غيرهم بالإيمان فحسب ، بل في أعمال الخير والأخلاق والإخلاص ، فهم أسوة وقدوة وقادة للناس ، ولهذا السبب فهم من المقرّبين إلى الحضرة الإلهيّة.

وبناء على هذا ، فما نرى من تفسير أسبقية السابقين بالسبق في طاعة الله ، أو

__________________

(١) جاء في الآيات اللاحقة استعمال أصحاب الشمال بدلا من أصحاب المشئمة.

(٢) في تركيب هذه الآية والآيات اللاحقة احتمالات عديدة : الأوّل : أنّ( السَّابِقُونَ) الأولى مبتدأ ، والثانية وصف أو تأكيد له ،( أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) مبتدأ وخبر والتي هي في المجموع خبر لكلمة( السَّابِقُونَ) الاولى ، ويحتمل البعض الآخر أنّ( السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) مبتدأ وخبر ، وشبّه بشعر أبي النجم المعروف حين يقول : (أنا أبو النجم وشعري شعري) والذي هو في الواقع نوع من الوصف العالي. وهناك احتمال آخر وهو أنّ (السابقون) الاولى هي بمعنى السابقين في الإيمان ، والسابقون الثانية بمعنى السابقين إلى الجنّة والتي ستكون كذلك مبتدأ وخبر.

٤٤٨

أداء الصلوات الخمس ، أو الجهاد والهجرة والتوبة فإنّ كلّ واحد من هذه التفاسير تمثّل جانبا من هذا المفهوم الواسع ، وإلّا فإنّ هذه الكلمة (السابقون) تشمل جميع هذه الأعمال ، والطاعات وغيرها.

وإذا فسّرت (السابقون) كما في بعض الرّوايات الإسلامية بأنّها تعني الأشخاص الأربعة وهم «هابيل» ، و «مؤمن آل فرعون» ، و «حبيب النجّار» الذين تميّز كلّ منهم بأسبقيته في قومه ، وكذلك «أمير المؤمنين»عليه‌السلام الذي هو أوّل من دخل في الإسلام من الرجال ، فإنّ هذا التّفسير في الحقيقة هو بيان للمصاديق الواضحة ، وليس تحديدا لمفهوم الآية(١) .

وجاء في حديث آخر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله في يوم القيامة؟ فقال أصحابه : الله ورسوله أعلم ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الذين إذا أعطوا الحقّ قبلوه ، وإذا سألوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم»(٢) .

وجاء في بعض الرّوايات أيضا أنّ المقصود بـ (السابقون) هم الأنبياء المرسلون وغير المرسلين(٣) .

«ونقرأ في حديث لابن عبّاس أنّه قال : «سألت رسول الله حول هذه الآية فقال : «هكذا أخبرني جبرائيل ، ذلك علي وشيعته هم السابقون إلى الجنّة ، المقرّبون من الله لكرامته لهم»(٤) .

وكما تقدّم إنّه بيان للمصاديق الواضحة من المفهوم الذي ذكر أعلاه ، الذي يشمل جميع (السابقين) في كلّ الأمم والشعوب.

ثمّ يوضّح ـ في جملة قصيرة ـ المقام العالي للمقرّبين حيث يقول سبحانه :

__________________

(١) نقل هذا الحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢١٥.

(٢) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٣٤.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٦.

(٤) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٩.

٤٤٩

( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (١) .

التعبير بـ( جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) يشمل أنواع النعم المادية والمعنوية ، ويمكن اعتبار هذا التعبير إشارة إلى أنّ بساتين الجنّة هي وحدها مركز النعمة والراحة في مقابل بساتين الدنيا التي تحتاج إلى الجهد والتعب ، كما أنّ حالة المقربين في الدنيا تختلف عن حالة المقرّبين في الآخرة ، حيث أنّ مقامهم العالي في الدنيا كان توأما مع المسؤوليات والطاعات في حين أنّ مقامهم في الآخرة سبب للنعمة فقط.

ومن البديهي أنّ المقصود من «القرب» ليس «القرب المكاني» لأنّ الله ليس له مكان ، وهو أقرب إلينا من أنفسنا ، والمقصود هنا هو «القرب المقامي».

ويشير في الآية اللاحقة إلى الحالة العددية في الأمم السابقة وفي هذه الامّة أيضا حيث يقول سبحانه :

( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ) أي أنّهم جماعة كثيرة في الأمم السالفة والأقوام الاولى.

( وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) .

(ثلّة) كما يقول الراغب في المفردات تعني في الأصل قطعة مجتمعة من الصوف ، ثمّ تحوّلت إلى معنى مجموعة من الأشخاص.

وأخذها البعض أيضا من (ثلّ عرشه) بمعنى سقط وانهار ، يقال (سقط عرشه وانقلعت حكومته) واعتبرها البعض (قطعة) ، وذلك بقرينة المقابلة بـ (قليل من الآخرين) يكون المعنى القطعة العظيمة.

وطبقا لهاتين الآيتين فإنّ قسما كبيرا من المقرّبين هم من الأمم السابقة ، وقسم قليل منهم فقط هم من امّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويثار سؤال هنا وهو : كيف يتناسب العدد القليل من مقرّبي امّة محمّد مع الأهميّة البالغة لهذه الامّة التي وصفها القرآن الكريم بأنّها من أفضل الأمم؟ قال

__________________

(١) الجار والمجرور الموجود في الآية (جنّات النعيم) ممكن أن يكون متعلّق بما قبله يعني (المقرّبين) ، أو مرتبطة بحال محذوف جاء للمقرّبين وتقديره (كائنين في جنّات النعيم) ، أو يكون خبرا بعد خبر.

٤٥٠

تعالى :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (١) .

وللجواب على هذا السؤال يجدر الالتفات إلى نقطتين :

الاولى : إنّ المقصود من المقرّبين هم السابقون في الإيمان ، ومن المسلّم أنّ السابقين لقبول الإسلام في المصدر الأوّل منه كانوا قلّة ، أوّلهم من الرجال الإمام علىعليه‌السلام ، ومن النساء خديجة (رض) ، في الوقت الذي نعلم أنّ كثرة الأنبياء السابقين وتعدّد أممهم ، ووجود السابقين في كلّ امّة يؤدّي إلى زيادتهم من الناحية العددية.

والنقطة الثانية : أنّ الكثرة العددية ليست دليلا على الكثرة النوعية ، حيث يمكن أن يكون عدد السابقين في هذه الامّة قليلا ، إلّا أنّ مقامهم أفضل كثيرا ، كما هو المعروف بين الأنبياء أنفسهم ، إذ يختلفون باختلاف درجاتهم :( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) .(٢)

وممّا يلزم ذكره أنّ قسما من المؤمنين لم يندرجوا في زمرة السابقين في الإيمان ، مع توفّر الصفات والخصوصيات فيهم والتي تجعلهم بنفس درجة السابقين من حيث الأجر والجزاء ، لذلك فقد نقل في بعض الرّوايات عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نحن السابقون السابقون ونحن الآخرون»(٣) .

وجاء في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه خاطب مجموعة من أصحابه فقال لهم : «أنتم السابقون الأوّلون والسابقون الآخرون ، والسابقون في الدنيا إلى ولا يتنا ، وفي الآخرة إلى الجنّة»(٤) .

ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض المفسّرين فسّر «الأوّلين والآخرين» ب

__________________

(١) آل عمران ، ١١٠.

(٢) البقرة ، ٢٥٣.

(٣) تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث.

(٤) تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث

٤٥١

(الأوّلين في الامّة الإسلامية والآخرين فيها) وانسجاما مع هذا الرأي فإنّ جميع المقرّبين هم من الامّة الإسلامية.

إلّا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب مع ظاهر الآيات والرّوايات التي وردت في ذيل هذه الآيات ، حيث أنّها عرّفت أشخاصا من الأمم السابقة بالخصوص بعنوان أنّهم من السابقين الأوّلين.

* * *

٤٥٢

الآيات

( عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦) )

التّفسير

الجنّة بانتظار المقرّبين :

هذه الآيات تتحدّث عن أنواع نعم الجنّة التي أعدّها الله سبحانه للقسم الثالث من عباده المقرّبين ، والتي كلّ واحدة منها أعظم من أختها وأكرم.

وقد لخّصت هذه النعم بسبعة أقسام :

يقول تعالى في البداية :( عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ ) .

«سرر» جمع سرير من مادّة (سرور) بمعنى التخت الذي يجلس عليه

٤٥٣

المنعّمين في مجالس الانس والسرور(١) .

(موضون) من مادّة (وضنّ) على وزن (وزن) وهي في الأصل بمعنى نسج الدرع ، ثمّ أطلقت على كلّ منسوج محكم الخيوط والنسيج. والمقصود هنا هي الأسرة الموضوعة جنبا إلى جنب بصورة متراصّة. أو أنّ لهذه الأسرة حياكة مخصوصة من اللؤلؤ والياقوت وما إلى ذلك ، كما قال بعض المفسّرين.

وعلى كلّ حال ، فإنّ بناء هذه الأسرة وكيفية وضعها ، ومجلس الانس الذي يتشكّل عليها ، وأجواء السرور والفرح التي تغمرها ، لا نستطيع وصفه بأي بيان.

ونلاحظ استمرار الأوصاف الرائعة في القرآن الكريم لسرر الجنّة ، ومجالس أهلها ، ومنتديات أحبّتها ممّا يدلّ على أنّ من أهم نعم وملذّات هؤلاء هي جلسات الانس هذه

أمّا أحاديثهم وما يدور في حفلاتهم فليس هنالك أحد يعلم حقيقتها ، فهل هي عن أسرار الخلق وعجائب الكون؟ أو عن اصول المعرفة وأسماء الله وصفاته الحسنى؟ أو عن الحوادث التي حدثت في هذا العالم؟ أو عن الراحة التي هم عليها بعد التعب والعناء؟ أو عن امور اخرى لا نستطيع إدراكها ...؟ هذا هو سرّ لا يعلمه إلّا الله.

ثمّ يتحدث سبحانه عن نعمة اخرى لهم حيث يقول :( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) .

التعبير بـ «يطوف» من مادّة (طواف) إشارة إلى استمرار خدمة هؤلاء (الطوافين) لضيوفهم.

والتعبير بـ «مخلّدون» إشارة إلى خلود شبابهم ونشاطهم وجمالهم وطراوتهم ، والأصل أن جميع أهل الجنّة مخلّدون وباقون.

__________________

(١) مفردات الراغب مادّة (سر).

٤٥٤

أمّا من هم هؤلاء الولدان؟

قال البعض : إنّهم أبناء البشر من هذه الدنيا الذين توفّوا قبل البلوغ ، وصحيفة أعمالهم بيضاء لم تدنّس بعد ، فقد بلغوا هذه المرتبة بلطف الله سبحانه ، وخدمتهم للمقرّبين تقترن بارتياح عظيم ورغبة عميقة ولذّة من أفضل اللذّات ، لأنّهم في خدمة المقرّبين من الحضرة الإلهيّة.

وقد ورد في هذا المعنى حديث للإمام عليعليه‌السلام .

إلّا أنّنا نقرأ في تفسير آخر أنّهم أطفال المشركين ولأنّهم لم يرتكبوا ذنبا فقد حصلوا على هذه المرتبة ، وأطفال المؤمنين يلتحقون بآبائهم وامّهاتهم.

ونقرأ في تفسير ثالث أنّهم خدّام الجنّة ، حيث إنّ الله سبحانه قد أعدّهم لهذه المهمّة بشكل خاصّ.

ويضيف القرآن أنّ هؤلاء الولدان يقدّمون لأصحاب الجنّة أقداح الخمر وكؤوس الشراب المأخوذ من أنهار الجنّة( بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) (١) وشرابهم هذا ليس من النوع الذي يأخذ لباب العقل والفكر ، حيث يقول تعالى :( لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ ) (٢) .

إنّ الحالة التي تنتابهم من النشوة الروحية حين تناولهم لهذا الشراب لا يمكن أن توصف ، إذ تغمر كلّ وجودهم بلذّة ليس لها مثيل.

ثمّ يشير سبحانه إلى رابع وخامس قسم من النعم المادية التي وهبها الله

__________________

(١) أكواب جمع كوب بمعنى القدح أو الإناء الذي لا عروة له ، وأباريق جمع إبريق وهي في الأصل أخذت من الفارسية (آبريز) بمعنى الأواني ذات اليد من جهة ، ومن الاخرى ذات أنبوب لصبّ السائل ، وكلمة كأس تقال للإناء المملوء بالسائل لدرجة يفيض من جوانبه ، ومعين من مادّة (معن) على وزن (صحن) بمعنى الجاري.

(٢) (يصدّعون) من مادّة (صداع) على وزن (حباب) ، بمعنى وجع الرأس ، وهذا المصطلح في الأصل من (صدع) بمعنى (الانفلاق) لأنّ الإنسان عند ما يصاب بوجع رأس شديد فكأنّ رأسه يريد أن ينفلق من شدّة الألم ، لذا فإنّ هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى. (وينزفون) من أصل (نزف) على وزن (حذف) بمعنى سحب جميع مياه البشر بصورة تدريجيّة ، وتستعمل أيضا حول (السكر) وفقدان العقل.

٤٥٥

للمقرّبين في الجنّة ، حيث يقول سبحانه :( وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ) (١) ( وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) .

إنّ تقديم الفاكهة على اللحم بلحاظ كون الفاكهة أفضل من الناحية الغذائية بالإضافة إلى نكهتها الخاصّة عند أكلها قبل الطعام.

والذي يستفاد من بعض الرّوايات أنّ غصون أشجار الجنّة تكون في متناول أيدي أهل الجنّة ، بحيث يستطيعون بكلّ سهولة أن يتناولوا أي نوع من الفاكهة مباشرة ، وهكذا الحال بالنسبة لبقيّة الأغذية الموجودة في الجنّة. إلّا أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ تقديم الغذاء من قبل (الولدان المخلّدين) له صفاء خاصّ ولطف متميّز حيث أنّ تقديم الطعام يعبّر عن مزيد الاحترام والإكرام لأهل الجنّة ، وتضفي رونقا وبهاء أكثر على مجالس أنسهم. ومن المتعارف عليه اجتماعيا بيننا أنّ تقديم الفاكهة وتقريبها من الضيوف من قبل المضيف نفسه يعبّر عن التقدير والمحبّة والاحترام.

وخصّت لحوم الطيور بالذكر هنا لفضلها على بقيّة أنواع اللحوم ، لذا فقد تكرّر ذكرها.

إنّ استعمال تعبير «يتخيّرون» بالنسبة لـ (الفاكهة) ويشتهون بالنسبة لـ (اللحوم) لا يدلّل على وجود اختلاف بين التعبيرين كما ذهب إليه بعض المفسّرين ، بل هما بمعنى واحد بعبارتين مختلفتين ، والمقصود بهما أنّ أي غذاء يشتهيه أهل الجنّة يوضع باختيارهم من قبل (الولدان المخلّدين).

ثمّ يشير سبحانه إلى سادس نعمة وهي الزوجات الطاهرات الجميلات حيث يقول سبحانه :( حُورٌ عِينٌ ) (٢) ( كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ) .

__________________

(١) (فاكهة ولحم) كلاهما معطوف على أكواب وهذه الأشياء تهدى من قبل (الولدان المخلّدون) إلى المقرّبين.

(٢) بالرغم من تصوّر البعض أنّ (حور عين) عطف على (الولدان المخلّدون) وعلى هذا الرأي فإنّ ال (حور عين) يطفن

٤٥٦

«حور» كما قلنا سابقا جمع حوراء وأحور ، ويقال للشخص الذي يكون سواد عينه شديدا وبياضها شفافا ، و (عين) جمع (عيناء) وأعين ، بمعنى العين الواسعة ، لأنّ أكثر جمال الإنسان في عيونه ، فقد ذكر هذا الوصف خصوصا.

وقال البعض : إنّ «حور» أخذت من مادّة (حيرة) يعني أنّهنّ جميلات إلى حدّ تصاب العيون بالحيرة عند رؤيتهنّ(١) .

«مكنون» بمعنى مستور ، والمقصود هنا الاستتار في الصدف ، لأنّ اللؤلؤ عند ما يكون مختفيا في الصدف وبعيدا عن لمس الأيدي يكون شفّافا وناصعا أكثر من أي وقت. وبالإضافة إلى ذلك قد يكون المقصود أنهنّ مستورات عن أعين الآخرين بصورة تامّة ، لا يد تصل إليهنّ ولا عين تقع عليهنّ.

وبعد الحديث عن هذه المنح ، والعطايا المادية الستّة ، يضيف سبحانه :( جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) كي لا يتصوّر أحد أنّ هذه النعم تعطى جزافا ، بل إنّ الإيمان والعمل الصالح هو السبيل لنيلها والحصول عليها ، حيث يلزم للإنسان العمل المستمرّ الخالص حتّى تكون هذه الألطاف الإلهيّة من نصيبه.

«ويلاحظ بأنّ (يعملون) فعل مضارع يعطي معنى الاستمرار».

ويتحدّث القرآن الكريم عن سابع نعمة من نعم أهل الجنّة ، وهي التي تتسم بالطابع الروحي المعنوي حيث يقول تعالى :( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ) .

فالجوّ هناك جوّ نزيه خالص بعيد عن الدنس ، فلا كذب ، ولا تهم ، ولا افتراءات ، ولا استهزاء ولا غيبة ولا ألفاظ نابية وعبارات لاذعة وليس هنالك لغو ولا كلام فارغ بل الموجود هناك هو اللطف والصفاء والجمال والمتعة والأدب والطهارة ، وكم هو طاهر ذلك المحيط البعيد عن الأحاديث المدنّسة التي

__________________

ـ أيضا حول أصحاب الجنّة ، ونظرا لعدم تناسب هذا المعنى خصوصا في المجالس الجماعية لأهل الجنّة ، لذا فالظاهر أنّه مبتدأ لخبر محذوف ، والتقدير هكذا (ولهم حور عين).

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ نهاية الآية مورد البحث.

٤٥٧

هي السبب في أكثر انزعاجنا وعدم ارتياحنا في هذه الدنيا ، حيث اللغو والثرثرة والكلام اللامسئول والتعبيرات الجارحة!

ثمّ يضيف سبحانه :( إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) (١) .

ويسأل هنا : هل أنّ هذا السلام من قبل الله تعالى؟ أو أنّه من قبل الملائكة؟ أو هو سلام متبادل بين أهل الجنّة ، أو كلّ هذه الأمور؟

الظاهر أنّ الرأي الأخير هو الأنسب ، كما أشارت الآيات القرآنية الاخرى إلى ذلك(٢) .

نعم إنّهم لا يسمعون شيئا إلّا السلام ، سلام وتحيّة من الله ، ومن الملائكة المقرّبين ، وسلامهم وتحيّتهم لبعضهم البعض في تلك المجالس العامرة المملوءة بالصفاء والتي تفيض بالودّ والاخوّة والصدق.

إنّ محيطهم وأجواءهم المغمورة بالسلام والسلامة تسيطر على وجودهم ، وإنّ أحاديثهم وحواراتهم المختلفة تنتهي إلى السلام والاخوّة والصفاء ، وأساسا فإنّ الجنّة هي دار السلام وبيت السلامة والأمن والأمان ، كما نقرأ في قوله تعالى :( لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) (٣) (٤) .

* * *

__________________

(١) سلاما مفعول به لـ (قيلا) والذي هو مصدر ، والمقصود أنّ كلامهم هنالك هو (السلام) ويحتمل أن تكون (سلاما) صفة لـ (قيلا) أو مفعول به (أو مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره ، (يسلّمون سلاما) إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأرجح ، وسلاما (الثانية) للتأكيد.

(٢) سورة يس ٥٨ ـ الرعد ٢٤ ـ يونس ١٠.

(٣) يجب الانتباه إلى أنّ الاستثناء في الآية( إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) هو استثناء منقطع ويفيد للتأكيد.

(٤) الأنعام ، ١٢٧.

٤٥٨

الآيات

( وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) )

التّفسير

أصحاب اليمين وهباتهم :

بعد بيان الهبات والنعم الماديّة والمعنوية (للمقرّبين) يأتي الدور في الحديث عن (أصحاب اليمين) تلك الجماعة السعيدة التي تستلم صفحة أعمالها في (اليد اليمنى) إشارة لنيل الفوز والنجاح في الامتحان الربّاني.

ويشير سبحانه إلى نعم ستّ ، ممّا أنعم به عليهم تمثّل مرحلة أدنى في مقابل سبع نعم منحها سبحانه إلى المقرّبين من عباده.

٤٥٩

تبدأ الآيات في الحديث عنهم أوّلا من حيث مقامهم العالي ، حيث يقولعزوجل :( وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ) (١) .

إنّ هذا الوصف هو أروع وصف هؤلاء ، لأنّ هذا التعبير يستعمل في موارد لا تستطيع الألفاظ التعبير عنه ، وهو تعبير عن المقام العالي لأصحاب اليمين.

وتشير الآية اللاحقة إلى أوّل نعمة منحت لهذه الجماعة حيث تقول :( فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ) (٢) . وفي الحقيقة أنّ هذا أنسب وأليق وصف توصف به أشجار الجنّة في دائرة ألفاظنا الدنيوية ، لأنّ (السدر) كما يقول أئمّة اللغة : شجر قوي معمّر يصل طوله إلى أربعين مترا أحيانا وعمره يقرب من ألفي سنة ، ولها ظلّ ظليل ولطيف ، والسلبية الموجودة في هذا الشجر أنّه ذو شوك إلّا أنّ وصفه بـ (مخضود) من مادّة (خضد) ـ على وزن (مجد) ـ بمعنى (إزالة الشوك) تنهي آثار هذه السلبية في شجر سدر الجنّة.

وجاء في حديث : كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون : إنّ الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، أقبل أعرابي يوما ، فقال : يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أنّ في الجنّة شجرة تؤذي صاحبها؟

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وما هي» قال : السدر ، فإنّ لها شوكا.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أليس يقول الله : في سدر مخضود ، يخضده الله من شوكه فيجعل مكان كلّ شوكة ثمرة ، إنّها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن إثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر»(٣) .

ثمّ يأتي الحديث عن ثاني هبة لهم حيث يقول سبحانه :( وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ) .

«الطلح» : شجرة خضراء لطيفة اللون والرائحة ، وذكر البعض أنّها شجرة الموز

__________________

(١) إنّ الحديث عن تركيب هذه الجملة جاء في نهاية الآية (٨) من نفس هذه السورة.

(٢) الجار والمجرور متعلّق بعامل مقدّر والخلاصة أنّها خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هم في سدر مخضود).

(٣) روح المعاني ج ٢٧ ص ١٢٠ ، والدرّ المنثور ج ٦ ص ١٥٦.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526