الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156576 / تحميل: 6126
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

فتراها تسير باتجاه معين من الزمن ثمّ تعود قليلا ومن ثمّ تتابع مسيرها الأوّل وهكذا ولهؤلاء العلماء من البحوث العلمية في تحليل هذه الظاهرة.

وعليه يمكن حمل إشارة الآيات إلى الكواكب السيّارة «الجوار» ، التي في سيرها لها رجوع «الخنس» ، ثمّ تختفي عند طلوع الفجر وشروق الشمس فهي تشبه غزالا يتصيد طعامه في الليل وما أن يحّل النهار حتى يختفي عن أنظار الصيادين والحيوانات المفترسة فيذهب إلى «كناسه» ، ولذا وصفت الكواكب بـ «الكنّس» ،.

وثمّة احتمال آخر : «الكنّس» : اختفاء الكواكب في ضوء الشمس.

أي إنّها حينما تدور حول الشمس ، تصل في بعض الوقت إلى نقطة مجاورة للشمس فيختفي نورها تماما عن الأبصار ، وهو ما يعبّر عنه علماء الفلك بـ (الاحتراق).

و «الكنّس» : في نظر بعض آخر : إشارة إلى دخول الكواكب في البروج السماوية ، وذلك الدخول يشبه اختفاء الغزلان في أماكن أمنها.

وكما هو معروف ، إنّ كواكب مجموعتنا الشمسية لا تنحصر بهذه الكواكب الخمس ، بل ثمة ثلاثة كواكب أخرى (أورانوس ، بلوتون ، نبتون) ولكنّها لا ترى بالعين المجرّدة لبعدها عنّا ، وللكثير من هذه السيّارات قمرا أو أقمارا ، ، فعدد كواكب هذه المجموعة بالإضافة إلى الأرض هو تسعة كواكب.

و «الجوري» : توصيف جميل لحركة الكواكب ، حيث شبّه بحركة السفن على سطح البحر.

وعلى أيّة حال ، فكأنّ القرآن الكريم يريد بهذا القسم المليء بالمعاني الممتزجة بنوع من الإبهام ، كأنّه يريد إثارة الفكر الإنساني ، وتوجيهه صوب الكواكب السيّارة ذات الوضع الخاص على القبة السماوية ، ليتأمل أمرها وقدرة وعظمة خالقها سبحانه وتعالى.

٤٦١

وثمّة احتمالات أخرى في هذا الموضوع أهملناها لضعفها.

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآيات المذكورة : «هي خمسة أنجم : زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد»(١) .

ويعرض لنا القرآن لوحة أخرى :( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ) .

«عسعس» : من (العسعسة) ، وهي رقة الظلام في طرفي الليل (أوله وآخره) ومنه اطلاق لفظ «عسس» على حرّاس الليل ، وبالرغم من اطلاق هذه المفردة على معنيين متفاوتين ، ولكن المراد منها في هذه الآية هو آخر الليل فقط بقرينة الآية التالية لها ، وهو ما يشابه القسم الوارد في الآية (٣٣) من سورة المدثر :( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) .

والليل ، من النعم الإلهية الكبيرة ، لأنّه : سكن للروح والجسم ، معدّل لحرارة الشمس ، وسبب لإدامة حياة الموجودات أمّا التأكيد على نهايته فيمكن أن يكون بلحاظ كونه مقدمة استقبال نور الصباح ، إضافة لما لهذا الوقت بالذات من فضل كبير في حال العبادة والمناجاة والدعاء ، ويمثل هذا الوقت أيضا نقطة الشروع بالحركة والعمل في عالم الحياة.

ويأتي القسم الثّالث والأخير من الآيات :( وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ) .

فما أروع الوصف وأجمله! فالصبح كموجود حي قد بدأ أوّل أنفاسه مع طلوع الفجر ، ليدّب الروح من جديد في كلّ الموجودات ، بعد أن تقطعت أنفاسه عند حلول ظلام الليل!

ويأتي هذا الوصف في سياق ما ورد في سورة المدّثّر ، فبعد القسم بإدبار الليل ، قال :( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) ، فكأنّ الليل ستارة سوداء قد غطت وجه الصبح ، فما أن أدبر الليل حتى رفعت تلك الستارة فبان وجه الصبح مشرقا ، وأسفر

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٤٤٦.

٤٦٢

للحياة من جديد.

وتجسّد الآية التالية جواب القسم للآيات السابقة :( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) .

فالجواب موجّه لمن اتّهم النبّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باختلاق القرآن ونسبته إلى الباري جلّ شأنه.

وقد تناولت وما بعدها خمسة أوصاف لأمين وحي الله جبرائيلعليه‌السلام ، وهي الأوصاف التي ينبغي توفرها في كلّ رسول جامع لشرائط الرسالة

فالصفة الأولى : إنّه «كريم» : إشارة إلى علو مرتبته وجلالة شأنه.

ومن صفاته أيضا :( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) (١) .

«ذي العرش» : ذات الله المقدّسة. مع أنّ الله مالك كلّ عالم الوجود ، فقد وصف «بذي العرش» لما للعرش من أهمية بالغة على على غيره (سواء كان العرش بمعنى عالم ما وراء الطبيعة ، أو بمعنى مقام العلم المكنون).

أمّا وصفه بـ «ذي قوّة» (أي : صاحب قدرة) ، لما للقدرة العظيمة والقوّة الفائقة من دور مهم وفعّال في عملية حمل وإبلاغ الرسالة ، وعموما ينبغي لكل رسول أن يكون صاحب قدرة معينة تتناسب وحدود رسالته ، وعلى الإخلاص في مجال عدم نسيان ما يرسل به.

«مكين» : صاحب منزلة ومكانة ، وبدون ذلك لا يتمكن الرسول من أداء رسالته على أتمّ وجه ، فلا من كونه شخصا جليلا ، لائقا ، ومقربا للمرسل.

وممّا لا شك فيه إنّ التعبير بـ «عند» لا يراد منه الحضور المكاني ، لأنّ الباري جل شأنه لا يحده مكان ، والمراد هو الحضور المقامي والقرب المعنوي.

وتتناول الآية التالية الصفة الرابعة والخامسة :( مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) .

«ثمّ» : إشارة إلى البعيد ، ويراد بها : إنّ أمين الوحي الإلهي نافذ الكلمة في

__________________

(١) «مكين» : (المكانة) ، وهي المقام والمنزلة ، وما يستفاد من مفردات الراغب وغيره من المفسّرين ، إنّه اسم مكان من (الكون) ولكثرته في الكلام فقد استعمل على صيغة الفعل فقيل : (تمكن) و (تمسكن).

٤٦٣

عالم الملائكة ، ومطاع عندهم ، وإنّه في ذروة الأمانة في عملية إبلاغ الرسالة.

وما نستشفّه من الرّوايات : إنّ جبرائيلعليه‌السلام ينزل أحيانا وبصحبته جمع كبير من الملائكة في حال إبلاغه للآيات القرآنية المباركة ، وهو ما يوحي بأنّه مطاع بينهم ، وهو ما ينبغي أن يكون في كل أمّة تتبع رسولا ، فلا بدّ من طاعتها له.

وروي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لجبرائيلعليه‌السلام عند نزول هذه الآيات : «ما أحسن ما أثنى عليك ربّك! : ذي قوّة عند العرش مكين ، مطاع ثمّ أمين ، فما كانت قوتك؟ وما كانت أمانتك؟

فقال : أمّا قوّتي فإنّي بعثت إلى مداين لوط وهي أربع مداين في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري ، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصواب الدجاج ونباح الكلاب ، ثم هويت بهّن فقلبتهّن. وأمّا أمانتي ، فإنّي لم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره»(١) .

وينفي القرآن ما نسب إلى النبّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) .

«الصاحب» : هو الملازم والرفيق والجليس ، والوصف هذا مضافا الى أنّه يحكي عن تواضع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جميع الناس فلم يرغب يوما في الاستعلاء على أحد منكم ، فإنّه قد عاش بينكم حقبة طويلة ، وجالسكم ، فلمستم عن قرب رجاحة عقله وحسن درايته وأمانته ، فكيف تنسبون له الجنون؟!

وكلّ ما في الأمر إنّه قد جاءكم بعد بعثته بتعاليم تخالف تعصبكم الأعمى وتحارب أهواءكم الجاهلية ، فما راق لكم الانضباط والترابط ، وحبذتم الانفلات والتراخي ، فوليتم الأدبار عن تعاليمه الربانية ونسبتم إليه الجنون ، فرارا من هدي دعوته المباركة!

ونسبة الجنون إلى النبّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بالشيء الجديد في مسير دعوة السماء

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٦ ، وورد هذا المضمون في تفسير (الدر المنثور) في ذيل الآية المبحوثة.

٤٦٤

فقد واجه جميع أنبياء اللهعليهم‌السلام هذا الافتراء الفارغ من قبل جهلة وكفرة عصورهم ، وقد حدثنا القرآن الكريم بتلك الوقائع :( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) (١) .

فالعاقل في منطق الجاهلية ، من يخضع للعادات والتقاليد المعاشة وإن كانت فاسدة منحطة ، ومن يطلق لجماح أهواءه وشهواته العنان ، ومن لا يفكر بأيّ إصلاح أو تغيير لأنّه خروج على السائد المتعارف عليه!

وبناء على هذا المقياس الأعمى فكلّ الأنبياء في نظر عبدة الدنيا مجانين

ويؤكّد القرآن على الارتباط الوثيق ما بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجبرائيلعليه‌السلام :( وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ) ، وهو «الأفق الأعلى» الذي تظهر فيه الملائكة ، حيث شاهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرائيلعليه‌السلام .

وقد استدلّ بعض المفسّرين بالآية (٧) من سورة النجم على التفسير أعلاه ، والتي تقول :( وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ) .

ولكننا نرى أنّ الآية مع بقية آيات السورة تتحدث عن حقيقة أخرى ، فراجع إلى ما ذكرناه في تفسيرنا هذا.

وقال بعض : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رأى جبرائيلعليه‌السلام في صورته الحقيقة مرّتين ، الأولى عند بداية البعثة النبوية المباركة ، حيث ظهر له في الأفق الأعلى وقد غطى الشرق والغرب حتى بهر النبيّ بعظمة هيئته ، والثّانية رآه عند معراجه إلى السماوات العلى واعتبروا الآية المبحوثة إشارة لتلك الرؤيتين.

وثمّة من يذهب في تفسير الآية من كونها تشير إلى مشاهدة اللهعزوجل بالشهود الباطني ، (ولمزيد من الإيضاح ، راجع ذيل الآيات (٥ ـ ١٣) من سورة النجم).

وتأتي الصفة الخامسة :( وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ) .

__________________

(١) الذاريات : الآية ٥٢.

٤٦٥

فهو ليس ممن يقبرون في صدورهم ممّا يوحى إليه ، ولا يبخل ولا يتوانى عن الإبلاغ ويوصله إلى كلّ الناس كاملا وبأمانة.

«ضنين» : من (ضنّة) على وزن (منّة) ، أي : البخل بالأشياء الثمينة والنفيسة ، فالأنبياءعليهم‌السلام منزّهون عن ذلك ، وإذا ما بخل الآخرون بما صار في حوزتهم من علم محدود ، فالنّبي فوق ذلك وأنزه مع ماله من منبع علم إلهي.

وتقول آخر الآيات المبحوثة :( وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) .

فالآيات القرآنية ليست كحديث الكهنة الذي يأخذوه من الشياطين ، ودليلها معها ، حيث أنّ حديث الكهنة محشو بالأكاذيب والتناقضات ، ويدور حول محور ميولهم ورغباتهم ، في حين لا يشاهد ذلك في الآيات القرآنية إطلاقا.

والآية تجيب على إحدى افتراءات المشركين ، حين اتهموا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه كاهن وكلّ ما جاء به قد أخذه من الشياطين! فحديث الشيطان! لا يتعدى أن يكون باطلا وضلالا في حين أنّ الآيات الرّبانية كلّها نور وهداية ، وهذا ما يشعر به كلّ من يواجه القرآن ومنذ وهلته الأولى.

«رجيم» : من (الرجم) ، و (رجام) على وزن (لجام) بمعنى أخذ الحجارة ، وتطلق على رمي الحجار على الأشخاص أو الحيوانات ، ويستعار الرجم للرمي بـ : الظّن ، التوهم ، الشتم والطرد ، و «الشيطان الرجيم» بمعنى المطرود من رحمة الله.

* * *

بحث

مؤهلات الرّسول :

الصفات الخمسة التي ذكرتها الآيات المباركة جبرائيلعليه‌السلام باعتباره رسول الوحي الإلهي إلى النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هي ذات الصفات التي ينبغي توفرها في كلّ رسول ، وبما يناسب نوع ودرجة رسالته.

٤٦٦

فلكي يكون الرسول لائقا لحمل الرسالة ، لا بدّ من تحلّيه بركائز أخلاقية ونفسية عالية ، أي يكون «كريما» محترما.

ولا بدّ من كونه قادر متمكن «ذي قوّة» ، حتى يتمكن من إبلاغ رسالته بكل ما تحمل ، ومن دون أن يصيبه أيّ ضعف أو فتور أو هوان.

وينبغي أن تكون ذو منزلة رفيعة ومقام مرموق عند المرسل ، «مكين» ، لكي يكون طبيعيا مستقرا في استلامه الرسالة ، ولا يناله أيّ خوف أو ارتباك في حال إيصاله لأجوبة الرسالة إلى أيّ كان.

ومن المؤهلات اللازمة ، أن يكون له أعوان ويطيعونه بأمر الرسالة ، ولا يتخاذلون عن طاعته ، «مطاع».

وأخيرا ، لا بدّ من كونه «أمينا» في النقل ، ليعتمد المرسل عليه فيما يريد أن يوصله إليه من الرسالة ، فلا بدّ من الأمانة بكلّ معناها والابتعاد عن الخيانة ولو بأدنى زواياها.

فمتى ما توفرت المؤهلات اللازمة للرسول فيه كان جديرا بأداء حق الرسالة ، ولذلك نرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينتخب رسله بدقة من بين أصحابه ، وأفضل نموذج حي لذلك ، إرساله أمير المؤمنينعليه‌السلام بإيصال الآيات الأولى من سورة براءة إلى مشركي مكّة ، في ظروف قد شرحناها عند تفسيرنا لتلك السورة.

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «رسولك ترجمان عقلك ، وكتابك أبلغ ما ينطق عنك»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة : الكلمات القصار (٣٠١).

٤٦٧

الآيات

( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩) )

التّفسير

إلى اين أيّها الغافلون؟!

أكّدت الآيات السابقة ببيان جلي حقيقة كون القرآن كلام الله فمحتواه ينطق عن كونه كلاما رحمانيا وليس شيطانيا ، وقد نزل به رسول كريم مقتدر وأمين ، وقام بتبليغه النّبي الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لم يبخل في البلاغ في شيء ، وما تهاون عن تعليم الناس فيما أرسل به.

فيما توبخ الآيات أعلاه أولئك الذين عادوا القرآن وانحرفوا عن خطّ سير الرسالة الربّانية الهادية ، فتقول لهم بصيغة الاستفهام التوبيخي :( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) .

لم تركتم طريق الهداية؟! أو من العقل أن تصدّوا عن النور وتتجهوا صوب الظلام؟! ألا ترحمون أنفسكم؟! وكيف تعملون على هدم أركان سعادتكم وسلامتكم؟!

٤٦٨

وتأتي الآية الثّانية لتقول :( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ )

فالآية تتحدث بلسان الوعظ والتذكير ، عسى أن يستيقظ من تملكه نوم غفلته.

لا يمكن للهداية والتربية أن تؤدّي فعلها بوجود المرشد الناحج فقط ، بل لا بدّ من توفر عنصر الاستعداد وتقبل الهداية من قبل الطرف الآخر ، ولذلك فبعد الوعظ والتذكير جاءت الآية التالية لتبيّن هذه الحقيقة :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) .

فالآية الاولى :( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) قد ذكرت عمومية الفيض الإلهي في القرآن الكريم ، فيما خصصت الآية التالية :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) عملية الاستفادة من هذا الفيض الجزيل وحددته بشرط الاستقامة.

وهذه القاعدة جارية في جميع النعم والمواهب الإلهية في العالم ، فإنّها عامّة التمكين ، خاصّة الاستفادة ، فمن لا يملك الإرادة والتصميم على ضوء الهدي القرآني لا يستحق فيض رحمة الله ونعمه.

والآية الثّانية من سورة البقرة :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) تدخل في سياق هذا المعنى.

وعلى أيّة حال ، فالآية تؤكّد مرّة اخرى على حرية الإنسان في اختياره الطريق الذي يرضاه ، سواء كان طريق حقّ ، أم طريق باطل.

ويفهم من «يستقيم» ، أنّ طريق السعادة الحقّة ، طريق مستقيم ، وما دونه لا يكون كذلك ، ولولا الإفراط والتفريط والوساوس الشيطانية وأغشية الضلال لسار الإنسان على هذه السبل المنجية ، باستجابته لنداء الفطرة واتباعه الخط المستقيم ، والخط المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للهدف المنشود.

ولكي لا يتصور بأنّ مشيئة وإرادة الإنسان مطلقة في سيره على طريق المستقيم ، ولكي يربط الإنسان مشيئة بمشيئة وتوفيق اللهعزوجل ، وجاءت

٤٦٩

الآية التالية ولتقول :( وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ )

والآيتان السابقتان تبيّنان فلسفة «أمر بين الأمرين» التي أشار إليها الإمام الصادق عليه‌السلام ، فمن جهة ، إنّ الإرادة والقرار بيدكم ، ومن جهة اخرى ، يلزم تلك الإرادة وذلك القرارة ما يشاء الله ربّ العالمين وإنّ خلقتم أحرارا مختارين ، فالحرية والإختيار منه جلّ اسمه ، ولولا إرادته ذلك لما كان.

فالإنسان ليس بمجبور على أعماله مطلقا ، ولا هو بمختار بكلّ معنى الإختيار ، ولكن كما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «لا جبر ولا تفويض الأمر بين الأمرين» ،

فكلّ ما للإنسان من : عقل ، فهم قدرة بدنية ، وقدرة على اتخاذ القرار ، كلّ ذلك من اللهعزوجل ، فهو من جهة في حالة الحاجة الدائمة للاتصال به جلّ شأنه ، ولو شاء الله لتوقف كلّ شيء وانتهى ، وهو من جهة اخرى مسئول عن أعماله لما له من حرية واختيار على تنفيذها.

ويفهم من «ربّ العالمين» ، إنّ المشيئة الإلهية تقضي بهداية وتكامل الإنسان وكلّ الموجودات ، فالله لا يريد أن يضل أو يذنب أحد من الخلق ، بل يريد أن يسعد كلّ الخلق في جوار رحمته ورضوانه ، وبمقتضى ربوبيته فهو الموفّق والمعين لكلّ من يريد أن يسلك طريق التكامل.

والخطأ القاتل الذي وقع فيه المتجبرة ، إنّهم تمسّكوا بالآية الثّانية دون الاولى وربّما كان المفوضة قد تمسّكوا بالآية الاولى مفصولة عن الآية الثانية لها والفصل فيما بين آيات القرآن كثيرا ما يوقع في هاوية الضلال والخروج بنتائج خاطئة باطلة ، وينبغي التعامل مع الآيات القرآنية على كونها كلّ مترابط ، لا آيات فرادى.

وقيل : إنّه لمّا نزل قوله تعالى :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) ، قال أبو جهل : جعل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله تعالى :( وَما

٤٧٠

تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) (١) .

اللهمّ! لا توفيق إلّا منك ، فوفقنا للسير على طريق رضوانك

اللهمّ! لقد رغبنا في سلوك طريقك ومنهجك ، فاجعل مشيئتك أن تأخذ بأيدينا في هذا الطريق

اللهمّ! إنّا نخاف أهوال الحشر والقيامة ، لخلو صحائف أعمالنا من الحسنات ، فعاملنا بعفوك ولطفك ، ولا تشدد علينا بعدلك

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة التّكوير

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٦٢ ؛ وفي روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٥٤.

٤٧١
٤٧٢

سورة

الإنفطار

مكيّة

وعدد آياتها تسع وعشرة آية

٤٧٣
٤٧٤

«سورة الإنفطار»

محتوى السورة :

لا تشذ السورة عن سياق سور الجزء الأخير من القرآن الكريم ، وتدور حول محور المسائل المتعلقة بيوم القيامة ، تتضمّن مجموع آياتها المواضيع التالية :

١ ـ أشراط الساعة ، وهي الحوادث الهائلة التي سيشهدها العالم أواخر لحظات عمره وعند قيام الساعة.

٢ ـ التذكير بالنعم الإلهية الداخلة في كلّ وجود الإنسان ، وكسر حالة غرور الإنسان ، وتهيئته المعاد.

٣ ـ الإشارة إلى ملائكة تسجيل أعمال الإنسان.

٤ ـ بيان عاقبة المحسنين والمسيئين في يوم القيامة.

٥ ـ لمحات سريعة عمّا سيجري في ذلك اليوم العظيم.

فضيلة السورة :

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ هاتين السورتين :( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ) و( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) وجعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة والنافلة ، لم يحجبه من الله حجاب ، ولم يحجزه من الله حاجز ، ولم يزل ينظر إلى الله وينظر

٤٧٥

الله إليه حتى يفرغ من حساب الناس»(١) .

ولا شك أنّ حصول ثواب السورتين إنّما يتمّ وضعهما في أعماق روحه ، وبنى على أسسها أركان نفسه وعمله ، ولا لمن يلوكهما في لسانه ولا غير!

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٧ ، نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٢٠ (عن ثواب الأعمال : ص ١٢١).

٤٧٦

الآيات

( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) )

التّفسير

عند ما يحلّ الحدث المروع!

تقدّم لنا الآيات (مرّة اخرى) مشاهدا مروعة من يوم القيامة ، فتخبر عن تفطّر السماء من هول الكارثة :( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ) .

ثمّ تنتقل إلى ما سيصيب الكواكب ونظامها :( وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ) .

فسينهدم العالم العلوي ، وستحدث الإنفجارات العظيمة المهيبة في كلّ النجوم السماوية ، وسيتخلخل نظام المنظومات الشمسية ، فتخرج النجوم من مساراتها لتصطدم الواحدة بالأخرى وتتلاشى فينتهي عمر العالم ، ويتناثر كلّ شيء ليبنى على أنقاضه عالم جديد آخر.

«انفطرت» : من (الإنفطار) ، بمعنى الإنشقاق ، وقد ورد التعبير في آيات اخرى كالآية الاولى من سورة الإنشقاق :( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) ، والآية (١٨) من

٤٧٧

سورة المزمل :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ) .

«انتثرت» : من (النثر) على وزن (نصر) ، بمعنى نشر الشيء وتفريقه ، و «الانتثار» : هو الانتشار والتفرق. وباعتبار أنّ انتشار النجوم يؤدّي إلى تفرقها في السماء (كحبات العقد المنفرط) فقد فسّرها الكثير من المفسّرين بـ (سقوط النجوم) ، وهو من لوازم معنى الانتثار.

«الكواكب» : جمع (كوكب) ، وله معان كثيرة ، منها : النجوم بشكل عام ، والزهرة بشكل خاص ، النبت إذا طال ، البياض الذي يظهر في سواد العين ، لمعان الحديد : بريقه وتوقده و «غلام كوكب» : ممتلئ إذا ترعرع وحسن وجهه ، وكوكب كلّ شيء : معظمه ، مثل كوكب الشعب وكوكب السماء وكوكب الشمس.

والكوكب أيضا : الماء ، السيف ، سيد القوم إلخ.

وعلى ما يبدو أنّ المعنى الحقيقي هو (النجم المتلألئ) ، وما دون ذلك معان مجازية استعملت لعلاقة المشابهة.

ولكن ، ما هي العوامل التي ستؤدي بالكواكب إلى التناثر والتفرق في الفضاء مع فقدانها لنظامها الذي يحكمها؟

هل بسبب فقدان التعادل الموجود في الجاذبية فيما بينها؟ أم ثمّة قوّة هائلة ستفعل ذلك؟ أم بسبب التوسع المستمر الحاصل في العالم ـ كما يقول ذلك العلم الحديث؟

لا يستطيع أيّ أحد أن يتكهن السبب بدّقة وكلّ ما نعلمه أنّ هذه الأمور تهدف إلى تعريف الإنسان بما سيحدث بالمستقبل الآت ، وتدعوه لخلاص نفسه من أهوالها ، وهو الكائن الضعيف وسط تلك الحوادث الجسام؟!

فالآيات تحذر الإنسان من أن يتخذ العالم الفاني هدفا لوجوده ، فيتصوره محل خلوده ، لأنّ ذلك سيؤول إلى تلوث قلب الإنسان (شاء أم أبى) ، وما ينتج عن التلوث سوى الذنوب المؤدّية إلى عذاب الجحيم

٤٧٨

وينتقل البيان القرآني من السماء إلى الأرض ، فيقول :( وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ) أي اتصلت.

مع أنّ البحار متصلة فيما بينها قبل حلول ذلك اليوم (ما عدا البحيرات) ، لكنّ اتصالها سيكون بشكل آخر ، حيث ستفيض جميعها وتتمزق حدودها وتصير بحرا واحدا لتشمل كلّ الأرض ، بسبب الزلازل المرعبة وتحطم الجبال وسقوطها في البحار هذا أحد تفاسير الآية السادسة من سورة التكوير (الآنفة الذكر)( وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ) .

وثمّة احتمال آخر بخصوص الآية المبحوثة والآية (٦) من سورة التكوير ، يقول : يراد بـ «فجّرت» و «سجّرت» الإنفجار والاحتراق ، لأنّ مياه البحار والمحيطات ستتحول إلى قطعة من نار لأهب.

وكما أشرنا سابقا ، فالماء يتكون من عنصرين شديدي الاشتعال (الأوكسجين والهيدروجين) فلو تحلل الماء إلى عنصريه فسيكفيه شرارة صغيرة لجعله قطعة ملتهبة من النيران.

وتتناول الآية التالية عرضا لمرحلة القيامة الثانية ، مرحلة تجديد الحياة وإحياء الموتى ، فتقول :( إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ) واخرج الموتى للحساب.

«بعثرت» : قلب ترابها وأثير ما فيها.

واحتمل (الراغب) في مفرداته : إنّ «بعثرت» تكونت من كلمتين ، (بعث) و (أثيرت) ، فجاء المعنى منهما ، كقولنا : «بسملة» من «بسم» ولفظ الجلالة «الله».

وعلى آيّة حال ، فإننا نرى شبيه هذا المعنى قد ورد في سورة الزلزال :( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) أي الأموات (بناء على المشهور من تفاسيرها) ، وفي الآيتين (١٣ و١٤) من سورة النّازعات :( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) .

وتوضح الآيات إنّ إحياء الموتى وإخراجهم من القبور سيكون مفاجئا وسريعا.

٤٧٩

وبعد ذكر كلّ تلك العلائم لما قبل البعث ولما بعده ، تأتي النتيجة القاطعة :( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) .

نعم ، فستتجلى حقائق الوجود : وسيصير كلّ شيء بارز إنّه «يوم البروز» وسيرى الإنسان كلّ أعماله محضرة بخيرها وشرّها ، لأنّه يوم إزالة الحجب ، ورفع مبررات الغرور والغفلة ، وعندها سيعلم الإنسان ما قدّم لآخرته ، وما ترك بعده من آثار حسنها وسيئها ، مثل : الصدقة الجارية ، فعل الخير ، عمارة الأبنية ، الكتب التي ألفها ، ما سنّ من السنن فإن كان ما خلّفه خالصا لله فسينال حسناته ، وإن كانت نيّة أفعاله غير خالصة لله فستصل إليه سيئات تبعاته.

وهذه نماذج من الأعمال التي ستصل نتائجها إلى الإنسان بعد الموت ، وهو : المراد من «وأخّرت».

صحيح أنّ الإنسان يعلم بما عمل في دنياه بصورة إجمالية ، لكنّ حبّ الذات والإشتغال بالشهوات والنسيان غالبا ما ينسيه ما قدّمت يداه ، فيتغافل عن النظر إلى ما بدّ منه ، أمّا في ذلك اليوم الذي سيتحول ويتغير فيه كلّ شيء حتى روح الإنسان فسيلتفت إلى ما قام به من عمل بكلّ دقّة وتفصيل ، كما تشير إلى ذلك الآية (٣٠) من سورة آل عمران :( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) ، فكلّ سيرى كلّ أعماله حاضرة مجسمة أمام عينه.

وقيل : «ما قدّمت» ، إشارة إلى أعمال أوّل عمر الإنسان ، و «أخّرت» ، إشارة إلى أعمال آخر عمره.

ويبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب من جميع الجهات.

ويراد بـ «نفس» الواردة بالآية ، كلّ نفس إنسانية.

* * *

٤٨٠

الآيات

( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) )

التّفسير

هل أنتم الزارعون أم الله؟

استعرضنا لحدّ الآن أربعة أدلّة من الأدلّة السبعة التي جاء ذكرها في هذه السورة حول المعاد ، والآيات ـ مورد البحث واللاحقة لها ـ تستعرض الأدلّة الاخرى المتبقّية والتي كلّ منها مصداق لقدرة الله اللامتناهية.

فالدليل الأوّل يرتبط بخلق الحبوب الغذائية ، والثاني يرتبط بخلق الماء ، والثالث يتعلّق بالنار. وهذه المحاور تشكّل الأركان الأساسيّة في الحياة الإنسانية ، فالحبوب النباتية أهمّ مادّة غذائية للإنسان ، والماء أهمّ عنصر للحياة ، والنار أهمّ وسيلة لإصلاح المواد الغذائية وسائر امور الحياة الاخرى.

يقول سبحانه في البداية :( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) .

٤٨١

الملفت للنظر هنا أنّ الآية استعملت تعبير (تحرثون) من مادّة (حرث) على وزن (درس) وهو يعني الزراعة ونشر الحبوب وتهيئتها للإنبات ، وفي الآية الثانية كان التعبير بـ (تزرعونه) من مادّة «زراعة» بمعنى النمو والنضج.

ومن البديهي أنّ عمل الإنسان هو الحرث فقط ، أمّا النمو فهو من عمل الله سبحانه فقط ، ولذا نقل في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت ، فإنّ الزارع هو الله»(١) .

شرح هذا الدليل هو أنّ عمل الإنسان في الزرع كعمله في الإنجاب حيث ينثر البذرة ويتركها ، والله سبحانه هو الذي يخلق في وسط هذه البذرة الحياة ، فعند ما توضع البذرة في محيط مهيّأ من حيث التربة والضوء والماء ، فإنّها تستفيد ابتداء من المواد الغذائية المخزونة فيها إلى أن تصبح برعما وتولّد جذرا ، ثمّ تنمو بسرعة عجيبة مستفيدة من المواد الغذائية الموجودة في الأرض حيث تعمل أجهزة عظيمة وتحدث تغييرات عميقة في داخل النبات ، تتمخّض عن أغصان وسيقان وأوراق وثمار وأحيانا تنتج البذرة الواحدة عدّة آلاف من البذور(٢) .

يقول العلماء : إنّ التركيبات الموجودة في بناء نبات واحد أعجب وأعقد بمراتب من التشكيلات الموجودة في مدينة صناعية عظيمة مع معاملها المتعدّدة.

هل أنّ القوّة التي لها مثل هذه القدرة تعجز عن إحياء الموتى مرّة اخرى؟

وفي الآية اللاحقة يؤكّد الدور الهامشي للإنسان في نمو ورشد النباتات فيقول :( لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ) .

نعم ، يستطيع البارئ أن يرسل رياحا سامّة تقتل البذور قبل الإنبات

__________________

(١) القسم الأوّل من الحديث جاء في تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، ونقل القسم الثاني في روح البيان كإضافة عليه.

(٢) بالرغم من أنّ الحبّة الواحدة من الحنطة لا تنبت سوى عدّة مئات من الحبوب ، إلّا أنّه كما قلنا في ج ٢ من هذا التّفسير : أنّه قد وجد في بعض مزارع القمح في إحدى المحافظات الجنوبية لإيران أنّ سنبلة واحدة تحوي على أربعة آلاف حبّة وذلك طبقا لما أعلنته منشورات صحفية.

٤٨٢

وتحطّمها ، أو يسلّط عليها آفة تتلفها بعد الإنبات كالجراد ، أو تنزل عليها صاعقة كبيرة بحيث لا تبقي ولا تذر إلّا شيئا من التبن اليابس ، وعند ذلك تضطربون وتندمون عند مشاهدتكم لمنظرها.

هل كان بالإمكان حدوث مثل هذه الأمور إذا كنتم أنتم الزارعون الحقيقيون؟ إذا فاعلموا أنّ كلّ هذه البركات من مصدر آخر.

«حطام» : من مادّة (حطم) على وزن (حتم) تعني في الأصل كسر الشيء ، وغالبا ما تطلق على كسر الأشياء اليابسة كالعظام النخرة وسيقان النباتات الجافّة ، والمقصود هنا هو التبن.

ويحتمل أيضا أنّ المقصود بالحطام هنا هو فساد البذور في التربة وعدم نموّها(١) .

«تفكّهون» : من مادّة (فاكهة) بمعناها المتعارف ، كما تطلق فكاهة على المزاح وذكر الطرائف التي هي فاكهة جلسات الانس ، ويأتي هذا المصطلح أحيانا للتعجّب والحيرة ، والآية مورد البحث من هذا القبيل.

في بعض الأحيان يضحك الإنسان في الحالة العصبية وتسمّى هذه الضحكة بـ (ضحكة الغضب) كما في المزاح الذي يكون عند الظروف الصعبة والمصائب الثقيلة ، وبناء على هذا فالمقصود : بالفاكهة ـ أحيانا ـ هو المزاح المقترن بالألم.

نعم تتعجّبون وتغمركم الحيرة وتقولون( إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٢) (٣) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) .

وإذا كنتم أنتم الزارعين الحقيقيين ، فهل بإمكانكم أن تمنعوا وتدفعوا عن زرعكم الأضرار والمصير المدمّر والنتيجة البائسة؟ وهذا التحدّي يؤكّد لنا أنّ جميع امور الخلق من الله سبحانه ، وكذلك فإنّه هو الذي ينبت من بذرة لا قيمة لها

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث.

(٢) لجملة( إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) محذوف ، تقديره (وتقولون إنّا لمغرمون).

(٣) «مغرمون» : من مادّة (غرامة) بمعنى الضرر وفقدان الوقت والمال.

٤٨٣

نباتات طريّة وأحيانا مئات أو آلاف البذور منها ، تلك النباتات التي يتغذّى عليها الإنسان بشكل أساسي ويستفيد من أغصانها وأوراقها وأحيانا جذورها وبقيّة أجزائها غذاء للحيوان ودواء للأمراض والأسقام.

* * *

٤٨٤

الآيات

( أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) )

التّفسير

من الذي خلق الماء والنار؟

يشير سبحانه في هذه الآيات إلى سادس وسابع دليل للمعاد في هذا القسم من آيات سورة الواقعة ، التي تبيّن قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، بل في كلّ شيء.

( أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ) .

( أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) .

«مزن» : على وزن (حزن) كما يقول الراغب في المفردات تعني (الغيوم

٤٨٥

البيضاء) وفسّرها البعض بأنّها (الغيوم الممطرة)(١) .

إنّ هذه الآيات تجعل الوجدان الإنساني أمام استفسارات عدّة كي تأخذ إقرارا منه ، حيث يسأل الله سبحانه : هل فكّرتم بالماء الذي تشربونه باستمرار والذي هو سرّ حياتكم؟

وهل تدبّرتم من الذي يأمر الشمس بالشروق على صفحات المحيط حيث تفصل جزئيات الماء الخالص الحلو والطاهر من بين المياه المالحة؟

وهل علمتم من الذي يحمل هذا البخار نحو السماء؟

ومن الذي يأمر البخار بالتجمّع وتشكيل غيوم الأمطار؟

ومن الذي يأمر الرياح بالتحرّك وحمل الغيوم إلى الأراضي القاحلة والميتة؟

ومن الذي يمنح للطبقات العليا في الجوّ هذه الخاصيّة من البرودة بحيث تمنح استمرار صعود البخار نحو الأعلى ، كي يتحوّل البخار إلى قطرات صغيرة وملائمة تسقط على الأرض بهدوء وتعاقب؟

وهل نعلم ماذا سيحدث لو انقطعت الشمس عن الشروق لمدّة سنة واحدة؟

أو توقّفت الرياح عن التحرّك؟

أو رفضت الطبقات العليا حفظ البخار من الصعود إلى الأعلى؟

أو حبسته من النّزول إلى الأرض؟

لا شكّ أنّ الذي سيحدث يمثّل كارثة ، حيث يموت الزرع والنخيل وتهلك مزارعكم وحدائقكم وحيواناتكم ، بل ستهلكون أنتم من الظمأ أيضا.

إنّ القوّة التي أعطت هذه القدرة ومنحت كلّ هذه النعم والبركات العظيمة ، بما أودعته من قوانين ونظم في عالم الخلق ، أتظنّون أنّها غير قادرة على إحياء الموتى؟

__________________

(١) لسان العرب مادّة مزن.

٤٨٦

وهل أنّ إحياء الموتى غير هذا؟

أليس إحياء الأراضي الميتة نوعا من أنواع إحياء الموتى؟

نعم ، إنّه دليل على ذلك ، وهو دليل على التوحيد وعظمة القدرة الإلهيّة ، ودليل أيضا على الحشر والمعاد.

وإذا لاحظنا في الآيات أعلاه عملية استعراض لماء الشرب ـ فقط ـ وعدم التحدّث عن تأثيره في حياة الحيوانات أو النباتات فإنّ السبب هو الأهميّة البالغة للماء في حياة الإنسان نفسه ، بالإضافة إلى أنّه قد أشير له في الآيات السابقة في الحديث الزرع ، لذا لا حاجة لتكرار ذلك.

والطريف هنا أنّ أهميّة الماء وتأثيره في حياة الإنسان تزداد مع مرور الزمن وتقدّم الصناعة والعلم والمعرفة الإنسانية ، فالإنسان الصناعي يحتاج إلى الماء بصورة متزايدة ، لذلك فإنّ كثيرا من المؤسسات الصناعية العظيمة لا تكون لها القدرة على الفاعلية إلّا حينما تكون على ضفاف الأنهار العظيمة.

وأخيرا ـ ولإكمال البحث في الآية اللاحقة ـ يقول سبحانه :( لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ ) (١) .

نعم ، لو أراد الله تعالى ، للأملاح المذابة في مياه البحار أن تتبخّر مع ذرّات الماء ، وتصعد إلى السماء معها وتشكّل غيوما مالحة ومرّة ، وتنزل قطرات المطر مالحة مرّة أيضا كمياه البحر ، فهل هنالك من قوّة تمنعه؟ ولكنّه بقدرته الكاملة لم يسمح للأملاح بذلك ، ولا للمكروبات ـ أيضا ـ أن تصعد إلى السماء مع بخار الماء. ولهذا فإنّ قطرات المطر عند ما يكون الجوّ غير ملوّث تعتبر أنقى وأطهر وأعذب المياه.

«أجاج» : من مادّة (أجّ) على وزن (حجّ) وقد أخذت في الأصل من «أجيج

__________________

(١) في هذه الجملة حذفت اللام وفي التقدير هكذا «لو نشاء لجعلناه».

٤٨٧

النار» يعني اشتعالها واحتراقها ، ويقال «أجاج» للمياه التي تحرق الفمّ عند شربها لشدّة ملوحتها ومرارتها وحرارتها.

نختتم حديثنا هذا بحديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث ذكر الرواة أنّ النّبي كان إذا شرب الماء قال : «الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا»(١) .

وأخيرا نصل إلى سابع ـ وآخر ـ دليل للمعاد في هذه السلسلة من الآيات الكريمة ، وهو خلق النار التي هي أهمّ وسيلة لحياة الإنسان وأكثرها أهميّة له في المجالات الصناعية المختلفة ، حيث يقول سبحانه :( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ) .

«تورون» : من مادّة «ورى» على وزن (نفى) بمعنى الستر ، ويقال للنار التي تكون مخفية في الوسائل التي لها القابلية على الاشتعال والتي تظهر بشرارة «ورى» و «ايراء» ، وخروجها يكون عن.

وتوضيح ذلك : إنّ لإشعال النار وإيجاد الشرارة الاولى ، والتي تستحصل اليوم بواسطة الكبريت والقداحات وما إلى ذلك ، فإنّهم كانوا يحصلون عليها من الحديد والحجر المخصّص للقدح ، حيث تظهر الشرارة بضرب الواحد بالآخر ، أمّا أعراب الحجاز فكانوا يستفيدون من نوعين من الشجر الخاصّ الذي ينمو في الصحراء وهما (المرخ) و (العفار) حيث يأخذون قطعتي خشب ويضعون الاولى أسفل والعفار فوقه فتتولّد الشرارة منها كما تتولّد من الحجر المستعمل للقدح.

وفسّر أغلب المفسّرين الآية بأنّها دليل آخر على قدرة الله البالغة في النار المخفية في خشب الأشجار الخضراء كمولّد للشرر والنار ، في الوقت الذي تكون فيه الأشجار الخضراء مشبّعة بالماء ، فأين الماء؟ وأين النار؟

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٤٨ ، وتفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٢٩.

٤٨٨

هذا الخالق العظيم الذي يتميّز بهذه القدرة ، الذي وضع الماء والنار جنبا إلى جنب الواحد داخل الآخر ، كيف لا يستطيع أن يلبس الموتى لباس الحياة ، ويحييهم في الحشر.

وقد ورد دليل شبيه بهذا حول المعاد في آخر آيات سورة «يس» أيضا يقول تعالى :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) .(١)

ولكن كما ذكرنا في تفسير الآية أعلاه فإنّ تعبير القرآن يمكن أن يكون إشارة إلى دليل أظرف ، وهو حشر وتحرّر الطاقات وانطلاقها.

وبتعبير آخر : فإنّ الحديث هنا ليس فقط عن (القادحات) بل عن المواد التي لديها قابلية الاشتعال ـ كالخشب والحطب ـ حيث تولّد عند احتراقها كلّ هذه الحرارة والطاقة.

وتوضيح ذلك : أنّه ثبت من الناحية العلمية أنّ النار التي نشاهدها اليوم عند احتراق الأخشاب هي نفس الحرارة التي أخذتها الأشجار من الشمس على مرّ السنين وادّخرتها في داخلها ، فنحن نتصوّر أنّ أشعّة الشمس طيلة إشراقها على الشجر خلال خمسين سنة قد ذهبت آثارها غافلين عن أنّ حرارتها قد ادّخرت في الشجرة ، وعند ما تصل شرارة النار إلى الأخشاب اليابسة تبدأ بالاحتراق وتطلق الحرارة الكامنة فيها.

وبذلك يكون هنا أيضا معاد ومحشر وتحيا الطاقات من جديد مرّة اخرى ، ولسان حال الأشجار يقول : إنّ الخالق الذي هيّأ لنا الحشر قادر أن يهيّأ لكم حشرا يا بني البشر. (ولمزيد من الاطلاع في هذا المجال راجعوا البحث المفصّل الذي بيّناه في الآية من سورة يس).

جملة (يورون) ـ بمعنى إشعال النار ـ بالرغم من أنّها فسّرت هنا بما يستفاد

__________________

(١) سورة يس ، الآية ٨٠.

٤٨٩

منه توليد النار ، إلّا أنّه لا مانع من أن تشمل الأشياء المشتعلة أيضا كالحطب باعتباره نارا خفيّة تظهر وقت توفّر الشروط المناسبة لها.

ولا تنافي بين المعنيين ، حيث المعنى الأوّل يفهمه العامّة من الناس ، والثاني أدقّ ، يتوضّح مع مرور الزمن وتقدّم العلم والمعرفة.

وفي الآية اللاحقة يضيف مؤكّدا الأبحاث أعلاه بقوله سبحانه :( نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) .

إنّ عودة النار من داخل الأشجار الخضراء تذكّرنا برجوع الأرواح إلى الأبدان في الحشر من جهة ، ومن جهة اخرى تذكّرنا هذه النار بنار جهنّم.

يقول الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزاء من نار جهنّم»(١) .

أمّا تعبير( مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) فإنّه إشارة قصيرة ومعبّرة للفوائد الدنيوية لهذه النار ، وقد ورد تفسيران لمعنى المقوين :

الأوّل : أنّ (مقوين) من مادّة (قواء) على وزن (كتاب) بمعنى الصحراء اليابسة المقفرة ، ولهذا أطلقت كلمة (المقوين) على الأشخاص الذين يسيرون في الصحاري ، ولأنّ أفراد البادية فقراء ، لذا فقد جاء هذا التعبير بمعنى «الفقير» أيضا.

والتّفسير الثاني : أنّ (مقوين) من مادّة (قوّة) بمعنى أصحاب القوّة ، وبناء على هذا فإنّ المصطلح المذكور هو من الكلمات التي تستعمل بمعنيين متضادّين(٢) .

صحيح أنّ النار هي مورد استفادة الجميع ـ ولكن المسافرين يستفيدون منها ويعتمدون عليها في الدفء والطهي وخاصّة في أسفارهم في الأزمنة القديمة أكثر من الآخرين.

واستفادة «الأقوياء» من النار واضحة أيضا ، وذلك لاتّساع المجالات التي

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٩٢ ، وتفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٣١.

(٢) من الجدير بالملاحظة أنّ كلمة (متاع) تطلق على كلّ وسيلة يستفيد منها الإنسان في حياته.

٤٩٠

يستعلمون النار فيها في امور حياتهم المختلفة ، خصوصا مع اتّساع دائرة البحث العلمي كما في عالمنا المعاصر ، حيث إنّ الحرارة الناشئة من أنواع النار تحرّك عجلة المصانع العظيمة ، وإذا ما تعطّلت هذه الوسيلة المهمّة وانطفأت شعلتها العظيمة ـ والتي جميعها من الشجر ـ بما في ذلك النار المأخوذة من الفحم الحجري أو المواد النفطية حيث ترجع إلى النباتات بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ فإنّها ستتعطّل الحياة المدنية ، بل وستنطفئ حياة الإنسان أيضا.

وبدون شكّ فإنّ النار من أهمّ كتشافات البشر ، في حين أنّ الله تعالى هو الذي أوجدها ودور الإنسان فيها بسيط وعادي جدّا.

لقد قفز اكتشاف النار بالإنسانية مرحلة مهمّة حيث بدأت تسير من ذلك الوقت في مراحل جديدة من التمدّن والرقي.

نعم هذه الحقائق جميعا عبّر عنها القرآن الكريم بجملة قصيرة :( نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) .

وممّا يجدر ذكره أنّ الآية أعلاه استعرضت في البداية الفوائد المعنوية للنار ، والتي تذكّرنا بيوم القيامة ، والتي هي محور الحديث في هذا البحث ، ثمّ انتقلت إلى ذكر تفاصيل الفوائد الدنيوية لها ، لأنّ للناحية الاولى أهميّة أكثر ، بل تمثّل الأصل والأساس في البحث.

بعد ذكر النعم الثلاث (الحبوب الغذائية ، والماء ، والنار) والتي روعي ترتيب أهميّتها وفق تسلسل طبيعي ـ لأنّ اهتمام الإنسان يبدأ أوّلا بالحبوب الغذائية ثمّ يمزجها بالماء ومن ثمّ يطهوها ويهيّؤها للغذاء بواسطة النار ـ يستنتج سبحانه نتيجة مهمّة بعد ما ركّز على أهميّة هذه النعم للإنسان وذلك بتسبيحه والشكر له تعالى باعتباره المصدر الوحيد لهذه النعم فيقول سبحانه في آخر آية مورد

٤٩١

البحث :( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (١) .

نعم ، إنّ الله الذي خلق كلّ هذه النعم ، والتي كلّ منها تذكّرنا بقدرته وتوحيده وعظمته ومعاده ، لائق للتسبيح والتنزيه من كلّ عيب ونقص.

إنّه ربّ ، وكذلك فإنّه «عظيم» وقادر ومقتدر ، وبالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ من الواضح أنّ جميع البشر هم المقصودون.

* * *

تعقيب

من المناسب هنا الإشارة إلى بعض الأحاديث الشريفة ـ حول الآيات أعلاه ـ عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عن الإمام عليعليه‌السلام .

أوّلا : نقرأ في تفسير روح المعاني حديثا للإمام عليعليه‌السلام أنّه في إحدى الليالي كان الإمام يصلّي ويقرأ سورة الواقعة ـ ولمّا وصل إلى الآية :( أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) قال ثلاث مرّات : بعد انتهاء صلاته «بل أنت يا ربّ» وعند ما وصل إلى الآية :( أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) قال ثلاث مرّات «بل أنت يا ربّ» وعند ما وصل إلى قوله تعالى :( أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) قال ثلاث مرّات أيضا «بل أنت يا ربّ» ثمّ تلا قوله تعالى :( أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ) قل ثلاث مرّات «بل أنت يا ربّ»(٢) .

وموضع العبرة في هذا الحديث هي ضرورة ملاحظة هذه الآيات التي وردت في القرآن الكريم بعنوان استفهام تقريري وأن يعطي الإنسان جوابا إيجابيا لله

__________________

(١) الباء في (باسم ربّك) يمكن أن تكون للتعدية (حيث إنّ الفعل المتعدّي سبّح يؤخذ بمنزلة اللازم) واحتمل البعض أيضا أنّ الباء هنا جاءت للاستعانة أو زائده أو ملابسة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

(٢) تفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٣٠.

٤٩٢

سبحانه الذي يتحدّث معه لتركيز هذه الحقائق في روحه ونفسه ، وعليه أن يتعمّق في ذلك من خلال القراءة المتدبّرة الواعية ، ولا يقتنع بالتلاوة الفارغة.

ثانيا : جاء في حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا تمنعوا عباد الله فضل ماء ولا كلأ ولا نار فإنّ الله تعالى جعلها متاعا للمقوين ، وقوّة للمستضعفين»(١) .

ثالثا : ونقرأ في حديث آخر أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال حينما نزلت الآية الكريمة :( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) : «اجعلوها في ركوعكم»(٢) ، أي قولوا في ركوعكم : سبحان ربّي العظيم وبحمده.

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦١.

(٢) ذكر هذا الحديث المرحوم الطبرسي في مجمع البيان بكونه حديثا صحيحا ، ج ٩ ، ص ٢٢٤ ، وجاء أيضا في كتاب (من لا يحضره الفقيه) مطابقا لنقل نور الثّقلين ، ج ٥ ، ص ٢٢٥ ، وكذلك في تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦٨.

٤٩٣

الآيات

( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) )

التّفسير

المطهّرون ومعرفة أسرار القرآن :

استمرارا للأبحاث التي جاءت في الآيات السابقة ، والتي تركّز الحديث فيها حول الأدلّة السبعة الخاصّة بالمعاد ، ينتقل الحديث الآن عن أهميّة القرآن الكريم باعتباره يشكّل مع موضوع النبوّة ركنين أساسيين بعد مسألة المبدأ والمعاد والتي بمجموعها تمثّل أهمّ الأركان العقائدية ، فبالإضافة إلى أنّ للقرآن الكريم أبحاثا عميقة حول أصلي التوحيد والمعاد ، فإنّه يعتبر تحكيما لهذين الأصلين.

يبدأ الحديث بقسم عظيم ، حيث يقول سبحانه :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) .

يعتقد الكثير من المفسّرين أن (لا) التي جاءت هنا ليست بمعنى النفي حيث إنّها زائدة وللتأكيد ، كما جاء نفس هذا التعبير في الآيات القرآنية الاخرى حول

٤٩٤

القسم بيوم القيامة والنفس اللوامة وربّ المشارق والمغارب والشفق ، وما إلى ذلك.

في الوقت الذي اعتبر البعض الآخر أنّ (لا) هنا جاءت للنفي ، حيث قالوا : إنّ المطلب (مورد القسم) أهمّ من أن يقسم به ، كما نقول في تعبيراتنا اليوميّة : نحن لا نقسم بالموضوع الفلاني ، أي نفي القسم وأنّ (لا) هنا جاءت إشارة لذلك.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر ، لأنّه قد ورد في القرآن الكريم القسم بالله صراحة ، فهل أنّ النجوم أفضل من الذات الإلهيّة حتّى لا يقسم بها؟

وحول (مواقع النجوم) فقد ذكر المفّسرون تفسيرات عديدة لها :

الأوّل : هو المعنى المتعارف عليه من حيث مداراتها وأبراجها ومسيرها.

والآخر : هو أنّ المقصود بذلك مواقع طلوعها وغروبها.

والثّالث : هو سقوط النجوم في الحشر والقيامة.

وفسّرها آخرون : بأنّ معناه هو غروب النجوم فقط.

واعتبرها آخرون إشارة وانسجاما مع قسم من الرّوايات حول نزول آيات وسور القرآن الكريم في فواصل زمنية مختلفة ، وذلك لأنّ «النجوم» جمع نجمة تستعمل للأعمال التي تنجز بصورة تدريجيّة.

وبالرغم من أنّ المعاني لا تتنافي حيث يمكن جمعها في الآية أعلاه ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر ، وذلك لأنّ أكثر الناس كانوا لا يعلمون أهميّة هذا القسم عند نزول الآيات ، بعكس الحالة اليوم ، والتي توضّح لنا أنّ لكلّ نجمة من النجوم مكانها المخصّص ومدارها ومسارها المحدّد لها بدقّة وحساب ، وذلك طبقا لقانون الجاذبية ، وإنّ سرعة السير لكلّ منها محدّدة أيضا وفق قانون معيّن وثابت.

وهذه المسألة بالرغم من أنّها غير قابلة للحساب بصورة دقيقة في الأجرام

٤٩٥

السماوية البعيدة ، إلّا أنّ المجاميع الموجودة في المنظومة الشمسية التي تشكّل النجوم القريبة لنا ، قد درست بدقّة وتبيّن أنّ نظام مداراتها دقيق إلى حدّ مدهش.

وعند ما يلاحظ الإنسان ـ طبقا لتصريحات العلماء ـ أنّ في (مجرّتنا) فقط ألف مليون نجمة ، وتوجد في الكون مجرّات كثيرة ، وكلّ واحدة منها لها مسار خاصّ ، عندئذ ستتوضّح لنا أهميّة هذا القسم القرآني.

ونقرأ في كتاب (الله والعلم الحديث) ما يلي :

«يعتقد العلماء الفلكيون أنّ هذه النجوم التي تتجاوز الملياردات ، والتي نرى قسما منها بالعين المجرّدة ، والقسم الكثير منها لا يمكن رؤيته إلّا بالتلسكوبات بل إنّ قسما منها لا نستطيع مشاهدته حتّى بالتلسكوبات ، اللهمّ إلّا بوسائل خاصّة نستطيع أن نصوّرها بها.

كلّ من هذه النجوم تدور في مدارها الخاصّ ، ولا يوجد أي احتمال أنّ واحدة منها تكون في حقل الجاذبية لنجمة اخرى. أو أنّ بعضها يصطدم بالبعض الآخر ، وفي الواقع أنّ حالة التصادم المفترضة مثل ما لو افترضنا أنّ سفينة في المحيط الهاديء تصطدم مع سفينة اخرى تجري في البحر الأبيض المتوسّط وكلّ منها سائرة بموازاة الاخرى وبسرعة واحدة إنّ هذا الأمر لو لم يكن محالا فهو بعيد جدّا. كذلك الأمر بالنسبة للنجوم حيث أنّ كلا منها لها مدارها الخاصّ بها ولن تصطدم بالأخرى رغم السرعة الهائلة لكلّ منها»(١) .

وبالنظر إلى هذه الاكتشافات العلمية عن وضع النجوم ، تتوضّح أهميّة القسم أعلاه ، ولهذا السبب فإنّه تعالى يضيف في الآية اللاحقة :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) .

التعبير بـ( لَوْ تَعْلَمُونَ ) يوضّح وبشكل جليّ أنّ معرفة البشر في ذلك الزمان

__________________

(١) الله والعلم الحديث ، ص ٣٣.

٤٩٦

لم تدرك هذه الحقيقة بصورة كاملة ، وهذه بحدّ ذاتها تعتبر إعجازا علميّا للقرآن الكريم ، حيث في الوقت الذي كانت تعتبر النجوم عبارة عن مسامير فضائية رصّعت السماء بها فانّ مثل هذا البيان القرآني الرائع في ظلّ ظروف وأوضاع يخيّم عليها الجهل ، محال أن يصدر من بشر عادي.

وتوضّح الآية اللاحقة ما هو المقصود من ذكر هذا القسم؟ حيث يقول سبحانه :( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّه يردّ على المشركين المعاندين الذين يصرّون باستمرار على أنّ هذه الآيات المباركة هي نوع من التكهّن ـ والعياذ بالله ـ أو أنّه حديث جنوني أو شعر ، أو أنّه من قبل الشيطان فيردّ عليهم سبحانه بأنّه وحي سماوي وحديث بيّن وعظمته وأصالته لا غبار عليها ، ومحتواه يعبّر عن مبدأ نزوله ، وأنّ هذا الموضوع واضح بحيث لا يحتاج لبيان المزيد.

إنّ وصف القرآن بـ «الكريم» (بما أنّ الكرم بالنسبة لله هو : الإحسان والإنعام ، ويستعمل للبشر بمعنى اتّصاف الشخص بالأخلاق والإحسان ، وبصورة عامّة فهو إشارة إلى المحاسن العظيمة)(١) إشارة للجمال الظاهري للقرآن من حيث الفصاحة وبلاغة الألفاظ والجمل ، وكذلك فإنّها إشارة لمحتواه الرائع ، لأنّه نزل من قبل مبدأ ومنشأ كلّه كمال وجمال ولطف.

نعم ، إنّ القرآن كريم وقائله كريم ومن جاء به كذلك ، وأهدافه كريمة أيضا.

ثمّ يستعرض الوصف الثاني لهذا الكتاب السماوي العظيم حيث يقول تعالى :( فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) .

إنّه في «لوح محفوظ» في علم الله ، محفوظ من كلّ خطأ وتغيير وتبديل ، وطبيعي أنّ الكتاب الذي يستلهم مفاهيمه وأفكاره من المبدأ الأعلى وأصله عند

__________________

(١) الراغب في المفردات مادّة (كريم).

٤٩٧

الله ، فإنّه مصون من كلّ تحريف وخطأ واشتباه.

وفي ثالث وصف له يقول سبحانه :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (١) .

ذكر الكثير من المفسّرين ـ تماشيا مع بعض الرّوايات الواردة عن الأئمّة المعصومين ـ بعدم جواز مسّ (كتابة) القرآن الكريم بدون غسل أو وضوء.

في الوقت الذي اعتبر بعض آخر أنّها إشارة إلى الملائكة المطهّرين الذين لهم علم بالقرآن ، ونزلت بالوحي على قلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقابل قول المشركين الذين كانوا يقولون : إنّ هذه الكلمات قد نزلت بها الشياطين على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كما اعتبر بعضهم أنّها إشارة إلى أنّ الحقائق والمفاهيم العالية في القرآن الكريم لا يدركها إلّا المطهّرون ، كما في قوله تعالى :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .(٢)

وبتعبير آخر فإنّ طهارة الروح في طلب الحقيقة تمثّل حدّا أدنى من مستلزمات إدراك الإنسان لحقائق القرآن ، وكلّما كانت الطهارة والقداسة أكثر كان الإدراك لمفاهيم القرآن ومحتوياته بصورة أفضل.

إنّ التفاسير الثلاثة المارّة الذكر لا تتنافى مع بعضها البعض أبدا ويمكن جمعها في مفهوم الآية مورد البحث.

وفي رابع وآخر وصف للقرآن الكريم يقول تعالى :( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) (٣) إنّ الله المالك والبارئ لجميع الخلق ، قد نزّل هذا القرآن لهداية البشر ، وقد أنزله سبحانه على قلب النّبي الطاهر ، وكما أنّ العالم التكويني صادر منه وهو تعالى ربّ العالمين فكذلك الحال في المجال التشريعي ، فكلّ نعمة وهداية فمن ناحيته ومن عطائه.

__________________

(١) «لا يمسّه» جملة خبرية يمكن أن تكون بمعنى النهي أو النفي.

(٢) البقرة ، ٢.

(٣) تنزيل هنا مصدر بمعنى اسم مفعول أي (منزل) وهو خبر لمبتدأ محذوف ، أو أنّه خبر بعد خبر.

٤٩٨

ثمّ يضيف سبحانه :( أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ) هل أنتم بهذا القرآن وبتلك الأوصاف المتقدّمة تتساهلون ، بل تنكرونه وتستصغرونه في حين تشاهدون الأدلّة الصادقة والحقّة بوضوح ، وينبغي لكم التسليم والقبول بكلام الله سبحانه بكلّ جديّة ، والتعامل مع هذا الأمر كحقيقة لا مجال للشكّ فيها.

عبارة «هذا الحديث» في الآية الكريمة إشارة للقرآن الكريم ، و «مدهنون» في الأصل من مادّة (دهن) بالمعنى المتعارف عليه ، ولأنّ الدهن يستعمل للبشرة وامور اخرى ، فإنّ كلمة (أدهان) جاءت بمعنى المداراة والمرونة ، وفي بعض الأحيان بمعنى الضعف وعدم التعامل بجدية ولأنّ المنافقين والكاذبين غالبا ما يتّصفون بالمداراة والمصانعة ، لذا استعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى التكذيب والإنكار ، ويحتمل أن يكون المعنيان مقصودان في الآية.

والأصل في الإنسان أن يتعامل بجديّة مع الشيء الذي يؤمن به ، وإذا لم يتعامل معه بجديّة فهذا دليل على ضعف إيمانه به أو عدم تصديقه.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يقول سبحانه إنّكم بدلا من أن تشكروا الله تعالى على نعمه ورزقه وخاصّة نعمة القرآن الكبيرة ، فانّكم تكذّبون به :( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) (١) .

قال البعض : إنّ المقصود أنّ استفادتكم من القرآن هي تكذيبكم فقط ، أو أن التكذيب تجعلونه وسيلة لرزقكم ومعاشكم(٢) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مناسب للآيات السابقة ولسبب النّزول أكثر من التّفسيرين الأخيرين.

وانسجاما مع هذا الرأي فقد نقل كثير من المفسّرين عن ابن عبّاس قوله :

__________________

(١) طبقا لهذا التّفسير فإنّ كلمة (شكر) هنا محذوفة وتقديرها كالتالي : «وتجعلون شكر رزقكم أنّكم تكذّبون» ، أو أنّ الرزق كناية عن (شكر الرزق).

(٢) طبقا لهذين التّفسيرين فلا يوجد شيء مقدّر.

٤٩٩

أصاب الناس عطش في بعض أسفارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسقوا ، فسمع رجلا يقول : مطرنا بنوء كذا ، فنزلت الآية (لأنّ العرب كانوا يعتقدون في الجاهلية بالأنواء وأنّ لها الأثر في نزول المطر ، ويقصد بها النجوم التي تظهر بين آونة واخرى في السماء ، وأنّ ظهورها يصاحبه نزول المطر ، كما يعتقدون ، ولهذا يقولون : مطرنا بنوء كذا ، أي ببركة طلوع النجم الفلاني ، وهذا بذاته أحد مظاهر الشرك الجاهلي وعبادة النجوم)(١) .

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّه جاء في بعض الرّوايات عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه فلّما كان يفسّر الآيات ، وإجمالا كان يتصدّى للتفسير عند ما تستلزم الضرورة ، كما في هذا المورد حيث أخبرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ المقصود من( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) «وتجعلون شكركم أنّكم تكذّبون»(٢) .

* * *

تعقيب

أوّلا : خصوصية القرآن الكريم

يستنتج من الأوصاف الأربعة ـ التي ذكرت في الآيات أعلاه ـ حول القرآن ، أنّ عظمة القرآن هي في عظمة محتواه من جهة ، وعمق معناه من جهة اخرى ، ومن جهة ثالثة فإنّ القداسة القرآنية لا يستوعبها إلّا الطاهرون والمؤمنون ، ومن جهة رابعة : في الجانب التربوي المتميّز فيه ، لأنّه نزل من ربّ العالمين ، وكلّ واحدة من هذه الصفات تحتاج إلى بحث مفصّل أوضحناه في نهاية الآيات المناسبة لكلّ موضوع.

__________________

(١) نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ونقل أيضا في الدّر المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦٣ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٩٨ : والمراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٥٢ ، وروح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٥٣ في نهاية الآيات مورد البحث باختلاف يسير.

(٢) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦٣ ، ونور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٢٧.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526