الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 526
المشاهدات: 143039
تحميل: 4754


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 143039 / تحميل: 4754
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 17

مؤلف:
العربية

الآيات

( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) )

التّفسير

هل أنتم الزارعون أم الله؟

استعرضنا لحدّ الآن أربعة أدلّة من الأدلّة السبعة التي جاء ذكرها في هذه السورة حول المعاد ، والآيات ـ مورد البحث واللاحقة لها ـ تستعرض الأدلّة الاخرى المتبقّية والتي كلّ منها مصداق لقدرة الله اللامتناهية.

فالدليل الأوّل يرتبط بخلق الحبوب الغذائية ، والثاني يرتبط بخلق الماء ، والثالث يتعلّق بالنار. وهذه المحاور تشكّل الأركان الأساسيّة في الحياة الإنسانية ، فالحبوب النباتية أهمّ مادّة غذائية للإنسان ، والماء أهمّ عنصر للحياة ، والنار أهمّ وسيلة لإصلاح المواد الغذائية وسائر امور الحياة الاخرى.

يقول سبحانه في البداية :( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) .

٤٨١

الملفت للنظر هنا أنّ الآية استعملت تعبير (تحرثون) من مادّة (حرث) على وزن (درس) وهو يعني الزراعة ونشر الحبوب وتهيئتها للإنبات ، وفي الآية الثانية كان التعبير بـ (تزرعونه) من مادّة «زراعة» بمعنى النمو والنضج.

ومن البديهي أنّ عمل الإنسان هو الحرث فقط ، أمّا النمو فهو من عمل الله سبحانه فقط ، ولذا نقل في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت ، فإنّ الزارع هو الله»(١) .

شرح هذا الدليل هو أنّ عمل الإنسان في الزرع كعمله في الإنجاب حيث ينثر البذرة ويتركها ، والله سبحانه هو الذي يخلق في وسط هذه البذرة الحياة ، فعند ما توضع البذرة في محيط مهيّأ من حيث التربة والضوء والماء ، فإنّها تستفيد ابتداء من المواد الغذائية المخزونة فيها إلى أن تصبح برعما وتولّد جذرا ، ثمّ تنمو بسرعة عجيبة مستفيدة من المواد الغذائية الموجودة في الأرض حيث تعمل أجهزة عظيمة وتحدث تغييرات عميقة في داخل النبات ، تتمخّض عن أغصان وسيقان وأوراق وثمار وأحيانا تنتج البذرة الواحدة عدّة آلاف من البذور(٢) .

يقول العلماء : إنّ التركيبات الموجودة في بناء نبات واحد أعجب وأعقد بمراتب من التشكيلات الموجودة في مدينة صناعية عظيمة مع معاملها المتعدّدة.

هل أنّ القوّة التي لها مثل هذه القدرة تعجز عن إحياء الموتى مرّة اخرى؟

وفي الآية اللاحقة يؤكّد الدور الهامشي للإنسان في نمو ورشد النباتات فيقول :( لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ) .

نعم ، يستطيع البارئ أن يرسل رياحا سامّة تقتل البذور قبل الإنبات

__________________

(١) القسم الأوّل من الحديث جاء في تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، ونقل القسم الثاني في روح البيان كإضافة عليه.

(٢) بالرغم من أنّ الحبّة الواحدة من الحنطة لا تنبت سوى عدّة مئات من الحبوب ، إلّا أنّه كما قلنا في ج ٢ من هذا التّفسير : أنّه قد وجد في بعض مزارع القمح في إحدى المحافظات الجنوبية لإيران أنّ سنبلة واحدة تحوي على أربعة آلاف حبّة وذلك طبقا لما أعلنته منشورات صحفية.

٤٨٢

وتحطّمها ، أو يسلّط عليها آفة تتلفها بعد الإنبات كالجراد ، أو تنزل عليها صاعقة كبيرة بحيث لا تبقي ولا تذر إلّا شيئا من التبن اليابس ، وعند ذلك تضطربون وتندمون عند مشاهدتكم لمنظرها.

هل كان بالإمكان حدوث مثل هذه الأمور إذا كنتم أنتم الزارعون الحقيقيون؟ إذا فاعلموا أنّ كلّ هذه البركات من مصدر آخر.

«حطام» : من مادّة (حطم) على وزن (حتم) تعني في الأصل كسر الشيء ، وغالبا ما تطلق على كسر الأشياء اليابسة كالعظام النخرة وسيقان النباتات الجافّة ، والمقصود هنا هو التبن.

ويحتمل أيضا أنّ المقصود بالحطام هنا هو فساد البذور في التربة وعدم نموّها(١) .

«تفكّهون» : من مادّة (فاكهة) بمعناها المتعارف ، كما تطلق فكاهة على المزاح وذكر الطرائف التي هي فاكهة جلسات الانس ، ويأتي هذا المصطلح أحيانا للتعجّب والحيرة ، والآية مورد البحث من هذا القبيل.

في بعض الأحيان يضحك الإنسان في الحالة العصبية وتسمّى هذه الضحكة بـ (ضحكة الغضب) كما في المزاح الذي يكون عند الظروف الصعبة والمصائب الثقيلة ، وبناء على هذا فالمقصود : بالفاكهة ـ أحيانا ـ هو المزاح المقترن بالألم.

نعم تتعجّبون وتغمركم الحيرة وتقولون( إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٢) (٣) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) .

وإذا كنتم أنتم الزارعين الحقيقيين ، فهل بإمكانكم أن تمنعوا وتدفعوا عن زرعكم الأضرار والمصير المدمّر والنتيجة البائسة؟ وهذا التحدّي يؤكّد لنا أنّ جميع امور الخلق من الله سبحانه ، وكذلك فإنّه هو الذي ينبت من بذرة لا قيمة لها

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث.

(٢) لجملة( إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) محذوف ، تقديره (وتقولون إنّا لمغرمون).

(٣) «مغرمون» : من مادّة (غرامة) بمعنى الضرر وفقدان الوقت والمال.

٤٨٣

نباتات طريّة وأحيانا مئات أو آلاف البذور منها ، تلك النباتات التي يتغذّى عليها الإنسان بشكل أساسي ويستفيد من أغصانها وأوراقها وأحيانا جذورها وبقيّة أجزائها غذاء للحيوان ودواء للأمراض والأسقام.

* * *

٤٨٤

الآيات

( أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) )

التّفسير

من الذي خلق الماء والنار؟

يشير سبحانه في هذه الآيات إلى سادس وسابع دليل للمعاد في هذا القسم من آيات سورة الواقعة ، التي تبيّن قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، بل في كلّ شيء.

( أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ) .

( أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) .

«مزن» : على وزن (حزن) كما يقول الراغب في المفردات تعني (الغيوم

٤٨٥

البيضاء) وفسّرها البعض بأنّها (الغيوم الممطرة)(١) .

إنّ هذه الآيات تجعل الوجدان الإنساني أمام استفسارات عدّة كي تأخذ إقرارا منه ، حيث يسأل الله سبحانه : هل فكّرتم بالماء الذي تشربونه باستمرار والذي هو سرّ حياتكم؟

وهل تدبّرتم من الذي يأمر الشمس بالشروق على صفحات المحيط حيث تفصل جزئيات الماء الخالص الحلو والطاهر من بين المياه المالحة؟

وهل علمتم من الذي يحمل هذا البخار نحو السماء؟

ومن الذي يأمر البخار بالتجمّع وتشكيل غيوم الأمطار؟

ومن الذي يأمر الرياح بالتحرّك وحمل الغيوم إلى الأراضي القاحلة والميتة؟

ومن الذي يمنح للطبقات العليا في الجوّ هذه الخاصيّة من البرودة بحيث تمنح استمرار صعود البخار نحو الأعلى ، كي يتحوّل البخار إلى قطرات صغيرة وملائمة تسقط على الأرض بهدوء وتعاقب؟

وهل نعلم ماذا سيحدث لو انقطعت الشمس عن الشروق لمدّة سنة واحدة؟

أو توقّفت الرياح عن التحرّك؟

أو رفضت الطبقات العليا حفظ البخار من الصعود إلى الأعلى؟

أو حبسته من النّزول إلى الأرض؟

لا شكّ أنّ الذي سيحدث يمثّل كارثة ، حيث يموت الزرع والنخيل وتهلك مزارعكم وحدائقكم وحيواناتكم ، بل ستهلكون أنتم من الظمأ أيضا.

إنّ القوّة التي أعطت هذه القدرة ومنحت كلّ هذه النعم والبركات العظيمة ، بما أودعته من قوانين ونظم في عالم الخلق ، أتظنّون أنّها غير قادرة على إحياء الموتى؟

__________________

(١) لسان العرب مادّة مزن.

٤٨٦

وهل أنّ إحياء الموتى غير هذا؟

أليس إحياء الأراضي الميتة نوعا من أنواع إحياء الموتى؟

نعم ، إنّه دليل على ذلك ، وهو دليل على التوحيد وعظمة القدرة الإلهيّة ، ودليل أيضا على الحشر والمعاد.

وإذا لاحظنا في الآيات أعلاه عملية استعراض لماء الشرب ـ فقط ـ وعدم التحدّث عن تأثيره في حياة الحيوانات أو النباتات فإنّ السبب هو الأهميّة البالغة للماء في حياة الإنسان نفسه ، بالإضافة إلى أنّه قد أشير له في الآيات السابقة في الحديث الزرع ، لذا لا حاجة لتكرار ذلك.

والطريف هنا أنّ أهميّة الماء وتأثيره في حياة الإنسان تزداد مع مرور الزمن وتقدّم الصناعة والعلم والمعرفة الإنسانية ، فالإنسان الصناعي يحتاج إلى الماء بصورة متزايدة ، لذلك فإنّ كثيرا من المؤسسات الصناعية العظيمة لا تكون لها القدرة على الفاعلية إلّا حينما تكون على ضفاف الأنهار العظيمة.

وأخيرا ـ ولإكمال البحث في الآية اللاحقة ـ يقول سبحانه :( لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ ) (١) .

نعم ، لو أراد الله تعالى ، للأملاح المذابة في مياه البحار أن تتبخّر مع ذرّات الماء ، وتصعد إلى السماء معها وتشكّل غيوما مالحة ومرّة ، وتنزل قطرات المطر مالحة مرّة أيضا كمياه البحر ، فهل هنالك من قوّة تمنعه؟ ولكنّه بقدرته الكاملة لم يسمح للأملاح بذلك ، ولا للمكروبات ـ أيضا ـ أن تصعد إلى السماء مع بخار الماء. ولهذا فإنّ قطرات المطر عند ما يكون الجوّ غير ملوّث تعتبر أنقى وأطهر وأعذب المياه.

«أجاج» : من مادّة (أجّ) على وزن (حجّ) وقد أخذت في الأصل من «أجيج

__________________

(١) في هذه الجملة حذفت اللام وفي التقدير هكذا «لو نشاء لجعلناه».

٤٨٧

النار» يعني اشتعالها واحتراقها ، ويقال «أجاج» للمياه التي تحرق الفمّ عند شربها لشدّة ملوحتها ومرارتها وحرارتها.

نختتم حديثنا هذا بحديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث ذكر الرواة أنّ النّبي كان إذا شرب الماء قال : «الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا»(١) .

وأخيرا نصل إلى سابع ـ وآخر ـ دليل للمعاد في هذه السلسلة من الآيات الكريمة ، وهو خلق النار التي هي أهمّ وسيلة لحياة الإنسان وأكثرها أهميّة له في المجالات الصناعية المختلفة ، حيث يقول سبحانه :( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ) .

«تورون» : من مادّة «ورى» على وزن (نفى) بمعنى الستر ، ويقال للنار التي تكون مخفية في الوسائل التي لها القابلية على الاشتعال والتي تظهر بشرارة «ورى» و «ايراء» ، وخروجها يكون عن.

وتوضيح ذلك : إنّ لإشعال النار وإيجاد الشرارة الاولى ، والتي تستحصل اليوم بواسطة الكبريت والقداحات وما إلى ذلك ، فإنّهم كانوا يحصلون عليها من الحديد والحجر المخصّص للقدح ، حيث تظهر الشرارة بضرب الواحد بالآخر ، أمّا أعراب الحجاز فكانوا يستفيدون من نوعين من الشجر الخاصّ الذي ينمو في الصحراء وهما (المرخ) و (العفار) حيث يأخذون قطعتي خشب ويضعون الاولى أسفل والعفار فوقه فتتولّد الشرارة منها كما تتولّد من الحجر المستعمل للقدح.

وفسّر أغلب المفسّرين الآية بأنّها دليل آخر على قدرة الله البالغة في النار المخفية في خشب الأشجار الخضراء كمولّد للشرر والنار ، في الوقت الذي تكون فيه الأشجار الخضراء مشبّعة بالماء ، فأين الماء؟ وأين النار؟

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٤٨ ، وتفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٢٩.

٤٨٨

هذا الخالق العظيم الذي يتميّز بهذه القدرة ، الذي وضع الماء والنار جنبا إلى جنب الواحد داخل الآخر ، كيف لا يستطيع أن يلبس الموتى لباس الحياة ، ويحييهم في الحشر.

وقد ورد دليل شبيه بهذا حول المعاد في آخر آيات سورة «يس» أيضا يقول تعالى :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) .(١)

ولكن كما ذكرنا في تفسير الآية أعلاه فإنّ تعبير القرآن يمكن أن يكون إشارة إلى دليل أظرف ، وهو حشر وتحرّر الطاقات وانطلاقها.

وبتعبير آخر : فإنّ الحديث هنا ليس فقط عن (القادحات) بل عن المواد التي لديها قابلية الاشتعال ـ كالخشب والحطب ـ حيث تولّد عند احتراقها كلّ هذه الحرارة والطاقة.

وتوضيح ذلك : أنّه ثبت من الناحية العلمية أنّ النار التي نشاهدها اليوم عند احتراق الأخشاب هي نفس الحرارة التي أخذتها الأشجار من الشمس على مرّ السنين وادّخرتها في داخلها ، فنحن نتصوّر أنّ أشعّة الشمس طيلة إشراقها على الشجر خلال خمسين سنة قد ذهبت آثارها غافلين عن أنّ حرارتها قد ادّخرت في الشجرة ، وعند ما تصل شرارة النار إلى الأخشاب اليابسة تبدأ بالاحتراق وتطلق الحرارة الكامنة فيها.

وبذلك يكون هنا أيضا معاد ومحشر وتحيا الطاقات من جديد مرّة اخرى ، ولسان حال الأشجار يقول : إنّ الخالق الذي هيّأ لنا الحشر قادر أن يهيّأ لكم حشرا يا بني البشر. (ولمزيد من الاطلاع في هذا المجال راجعوا البحث المفصّل الذي بيّناه في الآية من سورة يس).

جملة (يورون) ـ بمعنى إشعال النار ـ بالرغم من أنّها فسّرت هنا بما يستفاد

__________________

(١) سورة يس ، الآية ٨٠.

٤٨٩

منه توليد النار ، إلّا أنّه لا مانع من أن تشمل الأشياء المشتعلة أيضا كالحطب باعتباره نارا خفيّة تظهر وقت توفّر الشروط المناسبة لها.

ولا تنافي بين المعنيين ، حيث المعنى الأوّل يفهمه العامّة من الناس ، والثاني أدقّ ، يتوضّح مع مرور الزمن وتقدّم العلم والمعرفة.

وفي الآية اللاحقة يضيف مؤكّدا الأبحاث أعلاه بقوله سبحانه :( نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) .

إنّ عودة النار من داخل الأشجار الخضراء تذكّرنا برجوع الأرواح إلى الأبدان في الحشر من جهة ، ومن جهة اخرى تذكّرنا هذه النار بنار جهنّم.

يقول الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزاء من نار جهنّم»(١) .

أمّا تعبير( مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) فإنّه إشارة قصيرة ومعبّرة للفوائد الدنيوية لهذه النار ، وقد ورد تفسيران لمعنى المقوين :

الأوّل : أنّ (مقوين) من مادّة (قواء) على وزن (كتاب) بمعنى الصحراء اليابسة المقفرة ، ولهذا أطلقت كلمة (المقوين) على الأشخاص الذين يسيرون في الصحاري ، ولأنّ أفراد البادية فقراء ، لذا فقد جاء هذا التعبير بمعنى «الفقير» أيضا.

والتّفسير الثاني : أنّ (مقوين) من مادّة (قوّة) بمعنى أصحاب القوّة ، وبناء على هذا فإنّ المصطلح المذكور هو من الكلمات التي تستعمل بمعنيين متضادّين(٢) .

صحيح أنّ النار هي مورد استفادة الجميع ـ ولكن المسافرين يستفيدون منها ويعتمدون عليها في الدفء والطهي وخاصّة في أسفارهم في الأزمنة القديمة أكثر من الآخرين.

واستفادة «الأقوياء» من النار واضحة أيضا ، وذلك لاتّساع المجالات التي

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٩٢ ، وتفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٣١.

(٢) من الجدير بالملاحظة أنّ كلمة (متاع) تطلق على كلّ وسيلة يستفيد منها الإنسان في حياته.

٤٩٠

يستعلمون النار فيها في امور حياتهم المختلفة ، خصوصا مع اتّساع دائرة البحث العلمي كما في عالمنا المعاصر ، حيث إنّ الحرارة الناشئة من أنواع النار تحرّك عجلة المصانع العظيمة ، وإذا ما تعطّلت هذه الوسيلة المهمّة وانطفأت شعلتها العظيمة ـ والتي جميعها من الشجر ـ بما في ذلك النار المأخوذة من الفحم الحجري أو المواد النفطية حيث ترجع إلى النباتات بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ فإنّها ستتعطّل الحياة المدنية ، بل وستنطفئ حياة الإنسان أيضا.

وبدون شكّ فإنّ النار من أهمّ كتشافات البشر ، في حين أنّ الله تعالى هو الذي أوجدها ودور الإنسان فيها بسيط وعادي جدّا.

لقد قفز اكتشاف النار بالإنسانية مرحلة مهمّة حيث بدأت تسير من ذلك الوقت في مراحل جديدة من التمدّن والرقي.

نعم هذه الحقائق جميعا عبّر عنها القرآن الكريم بجملة قصيرة :( نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) .

وممّا يجدر ذكره أنّ الآية أعلاه استعرضت في البداية الفوائد المعنوية للنار ، والتي تذكّرنا بيوم القيامة ، والتي هي محور الحديث في هذا البحث ، ثمّ انتقلت إلى ذكر تفاصيل الفوائد الدنيوية لها ، لأنّ للناحية الاولى أهميّة أكثر ، بل تمثّل الأصل والأساس في البحث.

بعد ذكر النعم الثلاث (الحبوب الغذائية ، والماء ، والنار) والتي روعي ترتيب أهميّتها وفق تسلسل طبيعي ـ لأنّ اهتمام الإنسان يبدأ أوّلا بالحبوب الغذائية ثمّ يمزجها بالماء ومن ثمّ يطهوها ويهيّؤها للغذاء بواسطة النار ـ يستنتج سبحانه نتيجة مهمّة بعد ما ركّز على أهميّة هذه النعم للإنسان وذلك بتسبيحه والشكر له تعالى باعتباره المصدر الوحيد لهذه النعم فيقول سبحانه في آخر آية مورد

٤٩١

البحث :( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (١) .

نعم ، إنّ الله الذي خلق كلّ هذه النعم ، والتي كلّ منها تذكّرنا بقدرته وتوحيده وعظمته ومعاده ، لائق للتسبيح والتنزيه من كلّ عيب ونقص.

إنّه ربّ ، وكذلك فإنّه «عظيم» وقادر ومقتدر ، وبالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ من الواضح أنّ جميع البشر هم المقصودون.

* * *

تعقيب

من المناسب هنا الإشارة إلى بعض الأحاديث الشريفة ـ حول الآيات أعلاه ـ عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عن الإمام عليعليه‌السلام .

أوّلا : نقرأ في تفسير روح المعاني حديثا للإمام عليعليه‌السلام أنّه في إحدى الليالي كان الإمام يصلّي ويقرأ سورة الواقعة ـ ولمّا وصل إلى الآية :( أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) قال ثلاث مرّات : بعد انتهاء صلاته «بل أنت يا ربّ» وعند ما وصل إلى الآية :( أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) قال ثلاث مرّات «بل أنت يا ربّ» وعند ما وصل إلى قوله تعالى :( أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) قال ثلاث مرّات أيضا «بل أنت يا ربّ» ثمّ تلا قوله تعالى :( أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ) قل ثلاث مرّات «بل أنت يا ربّ»(٢) .

وموضع العبرة في هذا الحديث هي ضرورة ملاحظة هذه الآيات التي وردت في القرآن الكريم بعنوان استفهام تقريري وأن يعطي الإنسان جوابا إيجابيا لله

__________________

(١) الباء في (باسم ربّك) يمكن أن تكون للتعدية (حيث إنّ الفعل المتعدّي سبّح يؤخذ بمنزلة اللازم) واحتمل البعض أيضا أنّ الباء هنا جاءت للاستعانة أو زائده أو ملابسة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

(٢) تفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٣٠.

٤٩٢

سبحانه الذي يتحدّث معه لتركيز هذه الحقائق في روحه ونفسه ، وعليه أن يتعمّق في ذلك من خلال القراءة المتدبّرة الواعية ، ولا يقتنع بالتلاوة الفارغة.

ثانيا : جاء في حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا تمنعوا عباد الله فضل ماء ولا كلأ ولا نار فإنّ الله تعالى جعلها متاعا للمقوين ، وقوّة للمستضعفين»(١) .

ثالثا : ونقرأ في حديث آخر أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال حينما نزلت الآية الكريمة :( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) : «اجعلوها في ركوعكم»(٢) ، أي قولوا في ركوعكم : سبحان ربّي العظيم وبحمده.

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦١.

(٢) ذكر هذا الحديث المرحوم الطبرسي في مجمع البيان بكونه حديثا صحيحا ، ج ٩ ، ص ٢٢٤ ، وجاء أيضا في كتاب (من لا يحضره الفقيه) مطابقا لنقل نور الثّقلين ، ج ٥ ، ص ٢٢٥ ، وكذلك في تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦٨.

٤٩٣

الآيات

( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) )

التّفسير

المطهّرون ومعرفة أسرار القرآن :

استمرارا للأبحاث التي جاءت في الآيات السابقة ، والتي تركّز الحديث فيها حول الأدلّة السبعة الخاصّة بالمعاد ، ينتقل الحديث الآن عن أهميّة القرآن الكريم باعتباره يشكّل مع موضوع النبوّة ركنين أساسيين بعد مسألة المبدأ والمعاد والتي بمجموعها تمثّل أهمّ الأركان العقائدية ، فبالإضافة إلى أنّ للقرآن الكريم أبحاثا عميقة حول أصلي التوحيد والمعاد ، فإنّه يعتبر تحكيما لهذين الأصلين.

يبدأ الحديث بقسم عظيم ، حيث يقول سبحانه :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) .

يعتقد الكثير من المفسّرين أن (لا) التي جاءت هنا ليست بمعنى النفي حيث إنّها زائدة وللتأكيد ، كما جاء نفس هذا التعبير في الآيات القرآنية الاخرى حول

٤٩٤

القسم بيوم القيامة والنفس اللوامة وربّ المشارق والمغارب والشفق ، وما إلى ذلك.

في الوقت الذي اعتبر البعض الآخر أنّ (لا) هنا جاءت للنفي ، حيث قالوا : إنّ المطلب (مورد القسم) أهمّ من أن يقسم به ، كما نقول في تعبيراتنا اليوميّة : نحن لا نقسم بالموضوع الفلاني ، أي نفي القسم وأنّ (لا) هنا جاءت إشارة لذلك.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر ، لأنّه قد ورد في القرآن الكريم القسم بالله صراحة ، فهل أنّ النجوم أفضل من الذات الإلهيّة حتّى لا يقسم بها؟

وحول (مواقع النجوم) فقد ذكر المفّسرون تفسيرات عديدة لها :

الأوّل : هو المعنى المتعارف عليه من حيث مداراتها وأبراجها ومسيرها.

والآخر : هو أنّ المقصود بذلك مواقع طلوعها وغروبها.

والثّالث : هو سقوط النجوم في الحشر والقيامة.

وفسّرها آخرون : بأنّ معناه هو غروب النجوم فقط.

واعتبرها آخرون إشارة وانسجاما مع قسم من الرّوايات حول نزول آيات وسور القرآن الكريم في فواصل زمنية مختلفة ، وذلك لأنّ «النجوم» جمع نجمة تستعمل للأعمال التي تنجز بصورة تدريجيّة.

وبالرغم من أنّ المعاني لا تتنافي حيث يمكن جمعها في الآية أعلاه ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر ، وذلك لأنّ أكثر الناس كانوا لا يعلمون أهميّة هذا القسم عند نزول الآيات ، بعكس الحالة اليوم ، والتي توضّح لنا أنّ لكلّ نجمة من النجوم مكانها المخصّص ومدارها ومسارها المحدّد لها بدقّة وحساب ، وذلك طبقا لقانون الجاذبية ، وإنّ سرعة السير لكلّ منها محدّدة أيضا وفق قانون معيّن وثابت.

وهذه المسألة بالرغم من أنّها غير قابلة للحساب بصورة دقيقة في الأجرام

٤٩٥

السماوية البعيدة ، إلّا أنّ المجاميع الموجودة في المنظومة الشمسية التي تشكّل النجوم القريبة لنا ، قد درست بدقّة وتبيّن أنّ نظام مداراتها دقيق إلى حدّ مدهش.

وعند ما يلاحظ الإنسان ـ طبقا لتصريحات العلماء ـ أنّ في (مجرّتنا) فقط ألف مليون نجمة ، وتوجد في الكون مجرّات كثيرة ، وكلّ واحدة منها لها مسار خاصّ ، عندئذ ستتوضّح لنا أهميّة هذا القسم القرآني.

ونقرأ في كتاب (الله والعلم الحديث) ما يلي :

«يعتقد العلماء الفلكيون أنّ هذه النجوم التي تتجاوز الملياردات ، والتي نرى قسما منها بالعين المجرّدة ، والقسم الكثير منها لا يمكن رؤيته إلّا بالتلسكوبات بل إنّ قسما منها لا نستطيع مشاهدته حتّى بالتلسكوبات ، اللهمّ إلّا بوسائل خاصّة نستطيع أن نصوّرها بها.

كلّ من هذه النجوم تدور في مدارها الخاصّ ، ولا يوجد أي احتمال أنّ واحدة منها تكون في حقل الجاذبية لنجمة اخرى. أو أنّ بعضها يصطدم بالبعض الآخر ، وفي الواقع أنّ حالة التصادم المفترضة مثل ما لو افترضنا أنّ سفينة في المحيط الهاديء تصطدم مع سفينة اخرى تجري في البحر الأبيض المتوسّط وكلّ منها سائرة بموازاة الاخرى وبسرعة واحدة إنّ هذا الأمر لو لم يكن محالا فهو بعيد جدّا. كذلك الأمر بالنسبة للنجوم حيث أنّ كلا منها لها مدارها الخاصّ بها ولن تصطدم بالأخرى رغم السرعة الهائلة لكلّ منها»(١) .

وبالنظر إلى هذه الاكتشافات العلمية عن وضع النجوم ، تتوضّح أهميّة القسم أعلاه ، ولهذا السبب فإنّه تعالى يضيف في الآية اللاحقة :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) .

التعبير بـ( لَوْ تَعْلَمُونَ ) يوضّح وبشكل جليّ أنّ معرفة البشر في ذلك الزمان

__________________

(١) الله والعلم الحديث ، ص ٣٣.

٤٩٦

لم تدرك هذه الحقيقة بصورة كاملة ، وهذه بحدّ ذاتها تعتبر إعجازا علميّا للقرآن الكريم ، حيث في الوقت الذي كانت تعتبر النجوم عبارة عن مسامير فضائية رصّعت السماء بها فانّ مثل هذا البيان القرآني الرائع في ظلّ ظروف وأوضاع يخيّم عليها الجهل ، محال أن يصدر من بشر عادي.

وتوضّح الآية اللاحقة ما هو المقصود من ذكر هذا القسم؟ حيث يقول سبحانه :( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّه يردّ على المشركين المعاندين الذين يصرّون باستمرار على أنّ هذه الآيات المباركة هي نوع من التكهّن ـ والعياذ بالله ـ أو أنّه حديث جنوني أو شعر ، أو أنّه من قبل الشيطان فيردّ عليهم سبحانه بأنّه وحي سماوي وحديث بيّن وعظمته وأصالته لا غبار عليها ، ومحتواه يعبّر عن مبدأ نزوله ، وأنّ هذا الموضوع واضح بحيث لا يحتاج لبيان المزيد.

إنّ وصف القرآن بـ «الكريم» (بما أنّ الكرم بالنسبة لله هو : الإحسان والإنعام ، ويستعمل للبشر بمعنى اتّصاف الشخص بالأخلاق والإحسان ، وبصورة عامّة فهو إشارة إلى المحاسن العظيمة)(١) إشارة للجمال الظاهري للقرآن من حيث الفصاحة وبلاغة الألفاظ والجمل ، وكذلك فإنّها إشارة لمحتواه الرائع ، لأنّه نزل من قبل مبدأ ومنشأ كلّه كمال وجمال ولطف.

نعم ، إنّ القرآن كريم وقائله كريم ومن جاء به كذلك ، وأهدافه كريمة أيضا.

ثمّ يستعرض الوصف الثاني لهذا الكتاب السماوي العظيم حيث يقول تعالى :( فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) .

إنّه في «لوح محفوظ» في علم الله ، محفوظ من كلّ خطأ وتغيير وتبديل ، وطبيعي أنّ الكتاب الذي يستلهم مفاهيمه وأفكاره من المبدأ الأعلى وأصله عند

__________________

(١) الراغب في المفردات مادّة (كريم).

٤٩٧

الله ، فإنّه مصون من كلّ تحريف وخطأ واشتباه.

وفي ثالث وصف له يقول سبحانه :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (١) .

ذكر الكثير من المفسّرين ـ تماشيا مع بعض الرّوايات الواردة عن الأئمّة المعصومين ـ بعدم جواز مسّ (كتابة) القرآن الكريم بدون غسل أو وضوء.

في الوقت الذي اعتبر بعض آخر أنّها إشارة إلى الملائكة المطهّرين الذين لهم علم بالقرآن ، ونزلت بالوحي على قلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقابل قول المشركين الذين كانوا يقولون : إنّ هذه الكلمات قد نزلت بها الشياطين على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كما اعتبر بعضهم أنّها إشارة إلى أنّ الحقائق والمفاهيم العالية في القرآن الكريم لا يدركها إلّا المطهّرون ، كما في قوله تعالى :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .(٢)

وبتعبير آخر فإنّ طهارة الروح في طلب الحقيقة تمثّل حدّا أدنى من مستلزمات إدراك الإنسان لحقائق القرآن ، وكلّما كانت الطهارة والقداسة أكثر كان الإدراك لمفاهيم القرآن ومحتوياته بصورة أفضل.

إنّ التفاسير الثلاثة المارّة الذكر لا تتنافى مع بعضها البعض أبدا ويمكن جمعها في مفهوم الآية مورد البحث.

وفي رابع وآخر وصف للقرآن الكريم يقول تعالى :( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) (٣) إنّ الله المالك والبارئ لجميع الخلق ، قد نزّل هذا القرآن لهداية البشر ، وقد أنزله سبحانه على قلب النّبي الطاهر ، وكما أنّ العالم التكويني صادر منه وهو تعالى ربّ العالمين فكذلك الحال في المجال التشريعي ، فكلّ نعمة وهداية فمن ناحيته ومن عطائه.

__________________

(١) «لا يمسّه» جملة خبرية يمكن أن تكون بمعنى النهي أو النفي.

(٢) البقرة ، ٢.

(٣) تنزيل هنا مصدر بمعنى اسم مفعول أي (منزل) وهو خبر لمبتدأ محذوف ، أو أنّه خبر بعد خبر.

٤٩٨

ثمّ يضيف سبحانه :( أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ) هل أنتم بهذا القرآن وبتلك الأوصاف المتقدّمة تتساهلون ، بل تنكرونه وتستصغرونه في حين تشاهدون الأدلّة الصادقة والحقّة بوضوح ، وينبغي لكم التسليم والقبول بكلام الله سبحانه بكلّ جديّة ، والتعامل مع هذا الأمر كحقيقة لا مجال للشكّ فيها.

عبارة «هذا الحديث» في الآية الكريمة إشارة للقرآن الكريم ، و «مدهنون» في الأصل من مادّة (دهن) بالمعنى المتعارف عليه ، ولأنّ الدهن يستعمل للبشرة وامور اخرى ، فإنّ كلمة (أدهان) جاءت بمعنى المداراة والمرونة ، وفي بعض الأحيان بمعنى الضعف وعدم التعامل بجدية ولأنّ المنافقين والكاذبين غالبا ما يتّصفون بالمداراة والمصانعة ، لذا استعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى التكذيب والإنكار ، ويحتمل أن يكون المعنيان مقصودان في الآية.

والأصل في الإنسان أن يتعامل بجديّة مع الشيء الذي يؤمن به ، وإذا لم يتعامل معه بجديّة فهذا دليل على ضعف إيمانه به أو عدم تصديقه.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يقول سبحانه إنّكم بدلا من أن تشكروا الله تعالى على نعمه ورزقه وخاصّة نعمة القرآن الكبيرة ، فانّكم تكذّبون به :( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) (١) .

قال البعض : إنّ المقصود أنّ استفادتكم من القرآن هي تكذيبكم فقط ، أو أن التكذيب تجعلونه وسيلة لرزقكم ومعاشكم(٢) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مناسب للآيات السابقة ولسبب النّزول أكثر من التّفسيرين الأخيرين.

وانسجاما مع هذا الرأي فقد نقل كثير من المفسّرين عن ابن عبّاس قوله :

__________________

(١) طبقا لهذا التّفسير فإنّ كلمة (شكر) هنا محذوفة وتقديرها كالتالي : «وتجعلون شكر رزقكم أنّكم تكذّبون» ، أو أنّ الرزق كناية عن (شكر الرزق).

(٢) طبقا لهذين التّفسيرين فلا يوجد شيء مقدّر.

٤٩٩

أصاب الناس عطش في بعض أسفارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسقوا ، فسمع رجلا يقول : مطرنا بنوء كذا ، فنزلت الآية (لأنّ العرب كانوا يعتقدون في الجاهلية بالأنواء وأنّ لها الأثر في نزول المطر ، ويقصد بها النجوم التي تظهر بين آونة واخرى في السماء ، وأنّ ظهورها يصاحبه نزول المطر ، كما يعتقدون ، ولهذا يقولون : مطرنا بنوء كذا ، أي ببركة طلوع النجم الفلاني ، وهذا بذاته أحد مظاهر الشرك الجاهلي وعبادة النجوم)(١) .

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّه جاء في بعض الرّوايات عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه فلّما كان يفسّر الآيات ، وإجمالا كان يتصدّى للتفسير عند ما تستلزم الضرورة ، كما في هذا المورد حيث أخبرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ المقصود من( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) «وتجعلون شكركم أنّكم تكذّبون»(٢) .

* * *

تعقيب

أوّلا : خصوصية القرآن الكريم

يستنتج من الأوصاف الأربعة ـ التي ذكرت في الآيات أعلاه ـ حول القرآن ، أنّ عظمة القرآن هي في عظمة محتواه من جهة ، وعمق معناه من جهة اخرى ، ومن جهة ثالثة فإنّ القداسة القرآنية لا يستوعبها إلّا الطاهرون والمؤمنون ، ومن جهة رابعة : في الجانب التربوي المتميّز فيه ، لأنّه نزل من ربّ العالمين ، وكلّ واحدة من هذه الصفات تحتاج إلى بحث مفصّل أوضحناه في نهاية الآيات المناسبة لكلّ موضوع.

__________________

(١) نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ونقل أيضا في الدّر المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦٣ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٩٨ : والمراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٥٢ ، وروح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٥٣ في نهاية الآيات مورد البحث باختلاف يسير.

(٢) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦٣ ، ونور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٢٧.

٥٠٠