الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156599 / تحميل: 6128
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

من ذلك وطاقتي ، لأن هذا يعجب عبدالرحمن. ثم قال لعثمان أن يقول نعم ، لأن ذلك سيجعله فيك أرغب.

ومع أنني لا أعتقد بصحة هذه الرواية لأن شخصية الإمام عليعليه‌السلام لم تكن بهذا الضعف ، كما لم تكن شخصية انتهازية ترضى بسلوك أي وسيلة لتصل الى غايتها ، وتجلس في السلطة ، وهو الزاهد الذي كان يرى الدنيا بأسرها أهون من عفطة عنز ، إلا أن الرواية ، بافتراض صحتها ، تشير الى أن الأمر لم يخل من خداع.

وسواء كانت لعبة الشورى ، أم مشورة عمرو ، فالقرار الذي أصدره الإمام عليعليه‌السلام بشأن كل ما حدث في تولية عثمان أنه ( خدعة وأيما خدعة )(١) أما معاوية فقال عن شورى عمر فيما بعد ( لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر الى ستة نفر )(٢) .

__________________

(١) الطبري : ٣ / ٣٠٢.

(٢) العقد الفريد : ٤ / ٢٨١.

١٠١

ولأنها كانت كذلك ولم تكن صافية بلا شوائب ، أدت الى ما نعرفه من حوادث ، وكما ندم أبو بكررضي‌الله‌عنه على تقمصها ندم عبدالرحمن بن عوف على فعله حتى قال لعليعليه‌السلام ( إن شئت أخذت سيفك وآخذ سيفي فإنه خالف ما أعطاني وروي كذلك أنه قال لبعض الصحابة في المرض الذي مات فيه ( عاجلوه قبل أن يطغى ملكه )(١) وعاش عبدالرحمن بن عوف لم يكلم عثمان أبداً حتى مات(٢) .

تلك هي بيعة عثمان أو الشكل الثالث من أشكال تعيين القيادة في جيل حمل الرسالة ، فاقتدينا به. فإن جاء أحد ممن نطأطيء لهم فيركبوننا كالمطايا ، وتأسى بهذه الأسوة وأتى من الأفعال ما تشابه وأفعال قدوتنا ، فكيف نوقفه عند حده ، وكيف نمنعه ، ما دامت هذه الممارسات تتحكم فينا ، لأننا قدسنا فاعليها وقدسناها معهم ، ولا يجوز لنا الاعتراض عليها أو عليهم.

__________________

(١) الفتنة الكبرى : ص ١٧٢.

(٢) العقد الفريد : ٤ / ٢٨٠.

١٠٢

٥ ـ معاوية والثورة المضادة

أدت سياسة عثمانرضي‌الله‌عنه التي ارتكزت على محاباة بني أمية ، وسوء توزيع الثروة في الدولة ، ورفع أسوأ الناس على رقاب المؤمنين ، وارتكاب المخالفات القانونية ، وتركيز السلطة في يد عائلة بعينها دون إعتبار للأهلية والكفاءة ـ كما هو مفصل في تاريخنا ـ الى تمرد عامة الشعب ، وتذمر كبار الصحابة ، حتى انتهى الأمر بمقتل الخليفة ، وسقوط الدولة الإسلامية الناشئة في دوامة صراع سياسي خطير. وأخذت الأخطاء التي بدأت قبل سنوات بدرجة واحدة ، تتسع على مر الأيام ، ويزداد انفراجها ، حتى وصلت الأمور الى تحول معاكس للخط الذي تأسست عليه الدولة.

ولأن الثورة على نظام الحكم ـ أي نظام ـ حرام لا تجوز في اعتقاد مؤرخينا الذين نشأوا وتربوا في ظل نظم غير شرعية ، كان لابد من البحث عن تبرير خارج عن العقل والمنطق ـ كالعادة ـ لإقناعنا بأنه ما أسقط الدولة وأشاع الفتنة إلا العناصر الخارجية فهم لم يربطوا بين المسببات وأسبابها ، ولم يرجعوا المعلولات الى عللها ، ولم يفتشوا عن أسباب ثورة أهل مصر على عثمانرضي‌الله‌عنه

١٠٣

لأن هذا المنهج ـ رغم علميته وإسلاميته ـ سيؤدي الى تخطئة بعض الشخصيات التي يريدون من كل مسلم تقديسها مهما فعلت.

من أجل هذا اخترعوا شخصية خيالية لم توجد في التاريخ أصلاً إلا في أوهامهم ، وسموها عبدالله بن سبأ أو ابن السوداء ، وأطلقوا لخيالهم العنان تحت تخدير العواطف ، فتخيلوا أنه لابد وأن يكون يهودياً ، ونسبوا إليه كل الفساد ، ووضعوا على رأسه مسؤولية الثورة والتذمر. فتعيين الخليفة مجلس شوراه من أقربائه وممن لعنهم أو نفاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كمروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، وعبدالله بن عامر ، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح ، مع وجود أجلة الصحابة ، ثم إطلاق يد العائلة المالكة وعلى رأسها هؤلاء في تغيير الدولة والتلاعب بشئونها ، وإشاعة الفوضي السياسية والقانونية وتعطيل أحكام الشرع ، ثم حماية الخليفة لهم. ووعده بإصلاح الأمور مرات ، واخلافه لهذا الوعد ، واصراره على صحة سياسته التي احتج عليها كل الصحابة إلا المستفيدين ، لم يكن من أسباب التذمر. كما أن تعيين الخليفة لمرتد أباح الرسول دمه في فتح مكة كعبدالله بن

١٠٤

سعد بن أبي سرح والياً على مصر في وجود أجلاء كعمار بن ياسر ، ومحمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ، وغيرهم ، ثم قيام هذا الوالي بتعطيل الشرع ونهب خزانة الدولة واضطهاد النصارى ، وإذلال الناس ، لم يكن سبباً كافياً لتذمر أهل مصر ، بل لابد وأن يكون السبب وراء ذلك عبدالله بن سبأ اليهودي ، ولابد وأن يكون الصحابة الذين ثاروا على فساد نظام الدولة من أتباع هذا اليهودي. تماماً كما تقول الأنظمة المعاصرة عمن ثار عليها ، لأن الثورة على النظم الفاسدة حرام وفتنة وإراقة دم.

ونظرية ابن سبأ التي ساقها مشايخنا في تبرير الكارثة ، يستحي منها كل طفل مسلم به مسكة من عقل ، لأنها تعني أن الخلافة الراشدة والدولة المحمدية كانت من الضعف بمكان بحيث أن يهودياً واحداً استطاع أن يقلبها بغير عناء.

كما أنها تعنى أن كبار الصحابة الذين لم يوافقوا على سياسة عثمان ، لم يكونوا يعرفون دينهم ، فانساقوا وراء مقولة يهودي ودمروا دولة الإسلام.

١٠٥

ثم ليت مؤرخينا استطاعوا أن يثبتوا دور ابن سبأ في الأحداث ، لأنك تراهم يذكرون اسمه في البداية فقط ، ثم تجري الأحداث مجراها الطبيعي محكومة بقوانين العمران والسياسة المنطقية ووفق عللها الطبيعية من تنافس بين الصحابة ، وسوء إدارة الدولة ، وفساد الشورى ، وضغائن القبائل ، وما اليها.

ولأن العلة التي ذكرها المؤرخون ـ أي ابن سبأ ـ علة وهمية ، تراهم على غير يقين منها ، فمرة قالوا وراءها عبدالله بن سبأ ، ومرات قالوا أن عمرو بن العاص هو محركها ، لأنه كان يؤلب الناس على عثمان حتى رعاة الغنم المتفرقين في الصحراء ، ومرة يعلقون المسؤولية في عنق محمد بن أبي بكر ، وأخرى يضغونها على رأس مروان بن الحكم(١) .

وكثير من المؤرخين يقولون أن الأسباب التي نقمها الناس على عثمان كثيرة وخطيرة ، وأنهم رأوا الإعراض عن ذكرها أفضل ، ولم يذكروا إلا ما سمحت به أنفسهم وجادت به وجهات نظرهم.

__________________

(١) أنظر تفصيل ذلك على سبيل المثال في الطبري : ٣ / ٣٧٨ حتى ٣٩٨.

١٠٦

فنحن إذن لا نقرأ إلا ما سمحوا لنا بقراءته والإطلاع عليه ، لا ما وقع كله ، وما يدريك لعل فيما لم يذكروه مفاتيح معضلات كثيرة ، أو ربما فيه من الحقائق التاريخية ما يكشف كثيراً مما لم يزل عندنا طلاسم غير مفهومة ؟

إن أحداث المأساة السياسية التي وقعت في عهد عثمانرضي‌الله‌عنه لم يكن وراءها يهودي ولا نصراني ، بل كانت لها أسبابها وعللها السياسية والإقتصادية والإدارية والإجتماعية والنفسية والفكرية التي اجتمعت وسارت وفق قوانين التاريخ وسنة الله في خلقه.

ومن الأدلة على ذلك أن الصحابة لم يذكروا ابن سبأ قط ، بل منهم من تنبأ بما وقع من الأحداث الجليلة ، فانقلاب معاوية على الخليفة الشرعي وتأمره على الناس بالسيف تنبأ به كعب وغيره من الصحابة(١) .

وإنعكاس حال الدولة استشفه عليعليه‌السلام (٢) .

__________________

(١) الطبري : ٣ / ٣٨١.

(٢) الطبري : ٣ / ٤٥٦.

١٠٧

كما تنبأ به عثمان نفسه حين ثار عليه أهل مصر فقال ( والله لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم بسنة مما يرون من الدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة )(١) .

ذلك أن أحوال الدولة وخط سيرها كان واضحاً أمامهم جميعاً ، ومن ثم استطاعوا أن يروا المصير قبل وقوعه ، لأنه كان أمراً مفهوماً ، إذ كيف يتوقع ذو عقل السلامة لدولة يديرها مجلس شورى من الملاعين والمطرودين ؟

لقد كانت الدولة في عهد عثمان دخلت مرحلة وسطاً بين الخلافة والملك ، وكانت تسير بخطى واضحة في طريقها الى نظام سياسي غير الذي أراده لها مؤسسها ، وكانت هذه حقيقة سياسية يعرفها الكثير. أنظر الى مروان بن الحكم ـ مثلاً ـ وقد حاصر الناس عثمان فخرج عليهم ليقول لهم ( جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ؟ إرجعوا عنا )(٢) .

__________________

(١) الطبري : ٣ / ٣٩٣ وانظر كذلك ٣ / ٤٢٥.

(٢) الطبري : ٣ / ٣٧٩.

١٠٨

إن طريقة تفكير الصحابة ومن عاش خلال تلك الأحداث كانت مختلفة عن طريقة تفكيرنا التي ورثناها عن مشايخنا ومؤرخينا ، ومن هنا لم يؤثر عن أحدهم أنه قال أن سياسة الدولة كانت مضبوطة وأن سبب الفساد كان هذا أو ذاك من اليهود أو النصارى.

وكيف كان من الممكن توقع غير ما آلت إليه الخلافة في الوقت الذي كان يعتبرها مروان بن الحكم ـ كما مر قبل سطور قليلة ـ ملكاً له وعائلته والخليفة حي بين الناس ؟

قتل الخليفة ، وأدرك الناس أن الدولة قد حلت بها كارثة ، فهرعوا الى الإمام عليعليه‌السلام يبايعونه وقالوا ( إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا تفعلوا فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال : ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفياً ولا تكون إلا عن رضا المسلمين )(١) .

__________________

(١) الطبري : ٣ / ٤٥٠.

١٠٩

وفي رواية أخرى أنه ( حين قتل عثمانرضي‌الله‌عنه واجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير ، فأتوا علياً فقالوا يا أبا حسن هلم نبايعك ، فقال : لا حاجة لي في أمركم أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا. فقالوا : والله ما نختار غيرك ، فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمانرضي‌الله‌عنه مراراً ، ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة ، وقد طال الأمر ، فقال لهم : إنكم قد اختلفتم اليَّ وأتيتم ، وإني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم ، وإلا فلا حاجة لي فيه. قالوا ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله. فجاء فصعد المنبر ، فاجتمع الناس إليه فقال : إني قد كنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم. ألا وإنه ليس لي أمر دونكم ، إلا أن مفاتيح مالكم معي ، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم ، رضيتم ؟ قالوا نعم ، قال أللهم اشهد عليهم ثم بايعهم على ذلك(١) .

وهذه الروايات ـ إن صحت ـ دلت على أمور :

__________________

(١) نفس المصدر : ٣ / ٤٥٠ ـ ٤٥١.

١١٠

الأول : أن طريقة اختيار القيادة هذه المرة اختلفت عن المرات الثلاثة الماضية ، وهذه هي المرة الأولى التي ذهب الناس فيها مراراً يلحون على شخص أن يتولى قيادتهم ، دون أن يتم الأمر فلتة ، أو بالعهد دون مشورة ، أو بمجلس شورى منتقى.

الثاني : أن الإمام عليعليه‌السلام ظل يرفض هذا المنصب ، ربما لأنه كان يعلم أن الدولة قد سارت في طريق وعر ، وتغير حال الناس فيها ، وهو ما سيسبب له بالتأكيد مصاعب في إدارتها ورد الأمور الى مجراها الأصلي. وربما رفض مراراً ليثبت لكل ذي عينين أنه لم يختلس الأمر ، ولم يسارع اليه ، ولم يلفق له الطرق ويخترع الوسائل ، وإنما كان اختياره اختياراً حراً من قبل الناس الذين أصروا عليه ، فهي بيعة صافية رائقة لا يشوبها غبش.

الثالث : أن الإنحراف الذي سبب الكوارث الماضية كان في أساسه انحرافاً اقتصادياً مالياً بالدرجة الأولى ، وهو ما يظهر من عبارته ، ولو لم تكن لهذا الأمر علاقة بما جرى ما أفرده الإمام بالذكر في عهد البيعة الذي له منزلة الدستور.

١١١

الرابع : أن السياسة الإقتصادية والمالية التي سيتبعها الإمام علي ـ أو القيادة الجديدة ـ ستقوم على المساواة وإحقاق الحق والإنصاف وعدم المحاباة والإلتزام الدقيق بالشرع. وأعتقد أن هذا الإحساس الذي لابد وأن كل فرد آنذاك قد شعر به.

وتمت بيعة الإمام بعد أن كانت الدولة قد شهدت تغييرات هائلة في جميع جوانبها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والقانونية ، فغاصت في بحر تعالت أمواجه وهزت كيان الدولة هزاً عنيفاً.

وما أن تولى الأمر حتى بدأ يعيد عربة الدولة الى الخط الذي خرجت عنه ، فعزل العصابة التي استولت على مناصب الدولة العليا ، وولى مكانها أهل الصلاح والتقى ، وسوى بين الناس في الأنصبة ، وكانت بيعته فرصة عظيمة لإعادة الدولة من الطريق المنحرف الى الصراط المستقيم. غير أن السياسات الخاطئة ـ خصوصاً الإقتصادية ـ التي كانت الدولة قد سارت عليها ربع قرن بعد وفاة المؤسس ، أسفرت عن خلق خط سياسي معاد لأية

١١٢

إصلاحات اقتصادية ، لا سيما وأن كبار أهل الأثر والنفود ـ أو أغلبهم ـ كانوا ممن استفادوا من هذه السياسة الإقتصادية ، وتغير وضعهم الإجتماعي وأصبحت لهم مكاسب ومصالح مشتركة يدافعون عنها ، ويرون الحفاظ عليها بأي ثمن.

ومن هنا كانت أزمة الإمام عليعليه‌السلام الحقيقية ، إذ تسلم السلطة والحمل ثقيل ، والمهمة صعبة ، أضف الى ذلك العناصر الأخرى كإزدهار بني أمية سياسياً ، وضعف أتباع خط الإمام عليعليه‌السلام نظراً لفقرهم وزهدهم ، واستفحال الضغائن القبلية ، والأحقاد الشخصية ، وتبني سياسة الإنتقام من الإمام الذي وتر بسيفه كل بيوتات الكفر التي تصدت للإسلام خلال الحروب الماضية.

تزعم حركة قلقلة الدولة فريقان :

الأول بزعامة معاوية وكان أقوى وأكبر كما كانت له مطامع قبلية معروفة ، وهو من البيت الذي ظل يحارب الإسلام ودعوته حتى فتحت عليه مكة واضطر للإسلام قبل أشهر قليلة من وفاة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام.

١١٣

وهذا الفريق نجح في استقطاب الناس بالعطايا والوعود والهدايا ، واتخذ من دم عثمان حجة للثورة على الخليفة الشرعي ونشر الفوضى في الدولة الإسلامية.

والثاني بزعامة أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ، وهذا الفريق أقل وأضعف ، لكنه أيضا استتر بالمطالبة بدم عثمان دون وجه حق ، وكانت الدوافع مختلفة ، فأم المؤمنين عائشة كانت بنفسها تحرض الناس على قتال عثمان وتقول لهم صراحة : اقتلوه ، وترميه بالكفر(١) .

وكذلك فعل طلحة وكان من أكبر المساعدين على قتله(٢) .

ثم بايع هو والزبير الإمام في البداية ، ثم انقلبا عليه لما رفض طلبهما بتولي إمرة البصرة والكوفة ، وادعيا أنهما بايعا مكرهين.(٣)

__________________

(١) الطبري : ٣ / ٤٧٧.

(٢) الفخري لابن طباطبا ، ص٦٠ قال وهذا تشهد به جميع التواريخ.

(٣) الطبري : ٣ / ٤٥١ ـ ٤٥٢. وانظر تفصيل وقائع هذا الدور في جميع كتب التاريخ المعتبرة.

١١٤

نعم ندمت عائشة على خروجها على الإمام علي كما ندم غيرها ، لكنهم ندموا بعد أن كان الخراب قد عم.

واضطر الإمام لأن يواجه ثلاث حروب طاحنة في أقل من خمسة أعوام هي مدة حكمه. فانهزم له الفريق الثاني في موقعة الجمل ، وأوشك الفريق الأول في صفين على الهزيمة ، فلجأ الى حيلة التحكيم ورفع المصاحف ، كما هو مشهور لدينا معروف ، وانتهى الأمر بالكذب والخداع.

وظهر الى الوجود من بعد فريق ثالث هم البغاة الخوارج ، الذين اضطر الإمام لقتالهم في النهروان.

وعاش الإمام ولا سلطان له على الشام مركز معاوية ، وأقام البغاة دولة داخل الدولة الى أن قتل الإمام على يد ابن ملجم المصري لعنه الله. ولأن الأمة لم تكن ترى أحداً من زعماء الفريقين المذكورين يستحق القيادة بايعوا الإمام الحسن بن عليعليه‌السلام ، فرأى أن يهادن قليلاً لتستتب الأمور ، وتهدأ العاصفة ، لكن نفراً من أتباعه ثاروا عليه ، وهجموا عليه وجرحوه ونهبوا متاعه ، فاضطر في النهاية للتفاوض مع معسكر

١١٥

البغي ليحقن دماء أتباع أهل البيت ، الذين كادت السيوف الباغية أن تستأصلهم من جذورهم. وشرط له معاوية شروطاً لم يف بأي منها ، بعد أن تمكن من السلطة بحد السيف عام ٤١ ه‍ وهو ما قيل لنا عنه أنه عام الجماعة ، ولم يكن إلا عام الفرقة والاستسلام للبغي وإنقلاب خلافتنا ملكاً عضوضاً.

ثم دس معاوية للحسن السم وإنفرد بالأمر وهذا كله مفصل في كتب التاريخ كلها فليرجع اليه من شاء ، وقد أعرضنا عن تفصيله لما يقتضيه المقام من الإختصار.

ركب معاوية السلطة ، ووقف بعدها ليعلن فصل الدين عن الدولة صراحة ، ويقول ( يا أهل الكوفة أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج ، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وأَلي رقابكم ، وقد آتاني الله ذلك وأنتم له كارهون. ألا إن كل دم أصيب في هذه مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين )(١) .

__________________

(١) الكامل لابن الأثير : ٦ / ٢٢٠ ، مصر ، ١٣٥٦ ه‍.

١١٦

وهذا منه إعلان صريح بما يلي :

١ ـ أن العبادات قد فصلت عن القيادة والسياسة ، فالأولى لكم فيها اتباع الشرع وما قال الله وقال الرسول ، والثانية لي وأنا حر فيها.

٢ ـ أنه قاتل الناس ليتأمر عليهم ، ويأخذ القيادة بحد السيف.

٣ ـ أن الناس كارهون له في ذلك ، إذ لم يكن ما فعله يحظى بذرة رضا.

٤ ـ التخلص من كل العهود والمواثيق والشروط التي قطعها على نفسه مع الإمام الحسن ومع الأشخاص والقبائل ، وأن الدماء التي أريقت في سبيل وصوله الى السلطة ، والمعارك التي قتل فيها عشرات الألوف من المسلمين لا حساب عليها ولا قود ولا عقاب ، وعلى الأمة إذن أن تنسى ماكان ، وتبدأ صفحة جديدة من تاريخها ، الذي ستبدأ أحداثه وفق تصور جديد ، وسياسة مغايرة.

ثم قاد معاوية الثورة المضادة بمعنى الكلمة ، فأسس جهازاً لتشويه أهل الحق ، وآخر لتصفية المعارضين جسدياً ، واخترع

١١٧

الأحاديث ، ولفق التفاسير ، وأنشأ الفرق الفكرية المعارضة ، ونشر بين المسلمين السكوت على الظلم والظالمين بل وتأييدهم ، وأن الأسلم لهم عند احتدام المعركة بين الحق والباطل الفرار الى رؤوس الجبال خشية الفتنة ، وأرهب الآمنين من الناس ، وصادر أموال المعارضين ظلماً وعدواناً ، وأغدق أموال الدولة على حزبه ومؤيديه ، وعطل الحدود وأوقف الشرع ، وابتدع في الدين على النحو المفصل في تاريخنا المقروء الذي يعرفه كل صبي.

غير أن خطورة ما فعله معاوية تكمن في أنه ما فعله باسم أية نظرية أخرى صراحةً بل باسم الإسلام ، فإذا الإسلام الذي قدمه للناس شيئاً آخر يعاكس تمام الإسلام المحمدي. فكان ثورة مضادة سارت في الإتجاه المعاكس كلية ، لكنها تحمل اسم الإسلام القديم.

وأخطر من هذا كله أن مشايخنا وعلماءنا ـ إن صح وصفهم بالعلماء ـ غلفوا هذا السم الزعاف بطبقة حلوة المنظر ، وقالوا لنا إنه لم يكن انقلاباً على الإسلام بأي معنى بل كان إجتهاداً ،

١١٨

وأخذنا نحن من أيديهم هذا السم المدسوس ، واعتقدنا أنه الدواء الناجع الفعال الذي يشفى ما بنا ـ بل وما بالأجيال المسلمة الى يوم القيامة ـ من كل الأسقام ، واشتركنا معهم في هذه الجريمة ، وضللنا معهم أنفسنا وأبناءنا والأجيال التالية ، ولم نفكر لحظة في أن ما قاله مشايخنا ينبغي فحصه والتروي في قبوله ، وأن الأخطاء المخالفة للإسلام لابد وأن نعترف بها ونتجنبها في كل مسيرة ، ليكون ما لدينا من إسلام صافياً رائقاً ، وتمادينا تحت تخدير العواطف فإذا بنا ليوم في مآزق وحفر عميقه حفرها لنا علماؤنا ، وقفزنا فيها بإرادتنا دون وعي ، ولا نستطيع اليوم أن نخرج منها.

والأغبى من هذا التصرف ، أننا نبصق في وجه كل من ألقى لنا حبلاً من عقل لنستمسك به ، ونخرج من هذه الحفر الى حيث الهواء النقي ، والفكر الإسلامي الحر ، الذي لا يقدس الأوراق ولا الأشخاص ، إلا ما ومن كان منها مقدساً يستحق التقديس حقاً.

هكذا رأينا كيف اختارت الأمة قيادة باختيارها الحر في النور ، كما حدث مع الإمام عليعليه‌السلام بعد أن كان الوقت المناسب قد

١١٩

مضى ، وهو ما يعتبر شكلاً آخر من أشكال تعيين القيادة يختلف عما سبقه من أشكال.

ثم ما إن تولت القيادة الجديدة حتى بدأت الطوابير الخفية في العمل لإقصائها ، فرأينا شكلاً وأسلوباً آخر للقيادة هو ما فعله معاوية ، وهو ما يقودنا الى نتائج تستحق إمعان الفكر :

أولاً : إن بيعة عليعليه‌السلام إذا كانت هي الصواب أو الطريق الطبيعي لاختيار القيادة ، لأنها تمت برضا المسلمين ومشورتهم ، فما حكم ما فعله معاوية ؟ وإن كان ما فعله معاوية لا غبار عليه ، فكيف يمكن الدفاع عن بيعة عليعليه‌السلام ونحن أهل السنة نؤمن بخلافته الراشدة وبيعته السليمة ؟

ثانياً : أن الطريقة التي وصل بها معاوية الى الحكم وتصدر القيادة إن كانت صحيحة وفق الإسلام ـ ولا أعتقد بصحتها أبداً ـ فكيف يمكن إغلاق باب البغي والإنقلابات العسكرية ضد النظام الإسلامي ، إن شاء له الله أن يقوم هنا أو هناك ؟ لأن هذا يمكن أن يقع في أي وقت بعد اللحظة الأولى التي تتأسس فيها دولة إسلام.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

ثانيا : القرآن والطهارة

نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) وقلنا : إنّ المسّ يفسّر بالمسّ الظاهري وبالمعنوي كذلك ، ولا تضادّ بينهما ، وهما مجموعان في المفهوم الكلّي للآية.

وفي القسم الأوّل نقلت روايات لأهل البيتعليهم‌السلام عن أبي الحسن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه قال : (المصحف لا تمسّه على غير طهر ، ولا جنب ولا تمسّ خطّه ولا تعلّقه ، إنّ الله تعالى يقول :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (١) .

ونقل نفس المعنى في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام مع اختلاف مختصر(٢) .

وجاء في مصادر أهل البيتعليهم‌السلام من طرق مختلفة أنّ الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يمسّ القرآن إلّا الطاهر»(٣) .

وحول اللمس المعنوي نقل عن ابن عبّاس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون» قال : «عند الله في صحف مطهّرة»( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) قال : «المقرّبون»(٤) .

وهذا المعنى يمكن الاستدلال عليه بواسطة العقل أيضا ، لأنّه رغم ، أنّ القرآن الكريم هو كتاب هداية لعموم الناس ، ولكنّنا نعلم أنّ الكثير ممّن سمعوا القرآن من فم النّبي الأكرم ، ورأوا هذا الماء الزلال في عين الوحي الصافية ، إلّا أنّهم بسبب تلوّثهم بالعصبية والعناد والغرور لم يؤثّر فيهم أي تأثير ولم ينتفعوا به أقلّ انتفاع ، وهناك أشخاص اهتدوا به لمجرّد أنّهم سعوا ولو قليلا لتطهير أنفسهم وتهذيبها

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٢٦٩ ، الحديث (٣) وطبقا لهذا الحديث فإنّ النفي في الآية أعلاه كناية عن النهي.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٢٧٠ ، الحديث ٥.

(٣) نقل هذا الحديث في الدرّ المنثور عن عبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل وابن حزم الأنصاري عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ج ٩ ، ص ١٦٢.

(٤) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦٢.

٥٠١

وجاءوا إلى القرآن بروح باحثة عن الحقّ والحقيقة ، فعلى هذا كلّما ازدادت طهارة وتقوى الإنسان فإنّه مرشّح لاستيعاب المفاهيم القرآنية بصورة أعمق ، ومن هنا فإنّ الآية تصدق في البعدين (المادّي والمعنوي) و (الجسمي والروحي).

وممّا لا شكّ فيه أنّ شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام والملائكة المقرّبين هم أوضح مصداق للمقرّبين الذين أدركوا حقائق القرآن الكريم بصورة متميّزة عن الجميع.

* * *

٥٠٢

الآيات

( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) )

التّفسير

عند ما تصل الروح إلى الحلقوم :

من اللحظات الحسّاسة التي تقلق الإنسان دائما هي لحظة الاحتضار ونهاية العمر ، في تلك اللحظة يكون كلّ شيء قد انتهى ، وقد جلس أهله وأحبّاؤه ينظرون إليه بيأس كشمعة قد انتهى أمدها وستنطفئ رويدا رويدا ، حيث يودّع الحياة دون أن يستطيع أحد أن يمدّ إليه يد العون.

نعم ، إنّ الضعف التامّ للإنسان يتجسّد في تلك اللحظات الحسّاسة ليس في العصور القديمة فحسب بل حتّى في عالمنا المعاصر ، فمع توفّر جميع الإمكانات الطبيّة والفنيّة والوسائل العلاجية فإنّ الضعف يتجلّي في ساعة الاحتضار.

وتكملة لأبحاث المعاد والردّ على المنكرين والمكذّبين فإنّ القرآن الكريم يرسم لنا صورة معبّرة ومجسّدة لهذه اللحظات حيث يقول سبحانه :( فَلَوْ لا إِذا

٥٠٣

بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ) ولا تستطيعون عمل شيء من أجله(١) .

والمخاطبون هنا هم أقارب المحتضر الذين ينظرون إلى حالته في ساعة الاحتضار من جهة ، ويلاحظون ضعفه وعجزه من جهة ثانية ، وتتجلّى لهم قدرة الله تعالى على كلّ شيء ، حيث أنّ الموت والحياة بيده ، وأنّهم ـ أي أقاربه ـ سيلاقون نفس المصير(٢) .

ثمّ يضيف سبحانه( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ ) .

نعم ، نحن الذين نعلم بصورة جيّدة ما الذي يجول في خواطر المحتضر؟ وما هي الإزعاجات التي تعتريه؟ نحن الذين أصدرنا أمرنا بقبض روحه في وقت معيّن ، إنّكم تلاحظون ظاهر حاله فقط ، ولا تعلمون كيفية انتقال روحه من هذه الدار إلى الدار الآخرة ، وطبيعة المخاضات الصعبة التي يعيشها في هذه اللحظة.

وبناء على هذا فالمقصود من الآية هو : قرب اللهعزوجل من الشخص المحتضر ، بالرغم من أنّ البعض احتمل المقصود بالقرب (ملائكة قبض الروح) إلّا أنّ التّفسير الأوّل منسجم مع ظاهر الآية أكثر.

وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه ليس في هذه اللحظات أقرب إلينا من كلّ أحد ، بل هو في كلّ وقت كذلك ، بل هو أقرب إلينا حتّى من أنفسنا ، بالرغم من أنّنا بعيدون عنه نتيجة غفلتنا وعدم وعينا ، ولكن هذا المعنى في لحظة الاحتضار يتجلّى أكثر من أي وقت آخر.

ثمّ للتأكيد الأشدّ في توضيح هذه الحقيقة يضيف تعالى :( فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

__________________

(١) للآية محذوف تقديره (فلو لا إذا بلغت الحلقوم لا ترجعونها ولا تملكون شيئا) وهذا ما يستفاد من الآيات اللاحقة وقد لحقت تاء التأنيث بالفعل لأنّها متعلّقة بالنفس.

(٢) احتمل البعض أنّ المخاطب هنا هو الشخص المحتضر ، وهذا بعيد جدّا حسب الظاهر ، لأنّ الآية اللاحقة توضّح بصورة جيّدة أنّ المخاطب هم متعلّقوا المحتضر.

٥٠٤

إنّ ضعفكم هذا دليل أيضا على أنّ مالك الموت والحياة واحد ، وأنّ الجزاء بيده ، وهو الذي يحي ويميت.

«مدينين» : جمع (مدين) من مادّة (دين) بمعنى الجزاء ، وفسّرها البعض بمعنى المربوبين. والمعنى هو : يا أيّها العباد ، إن كنتم تحت ربوبية موجود آخر ، ومالكي نواصي أموركم ، فارجعوا أرواحكم التي قبضناها ، وهيهات تقدرون! وهذا دليل آخر على أنّكم في قبضة الحكومة الإلهية.

* * *

تعقيب

١ ـ لحظة ضعف الجبّارين

إنّ الهدف من هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ هو بيان قدرة اللهعزوجل على مسألة الموت والحياة ، كي ينتقل منها إلى مسألة المعاد وإختيار لحظات الاحتضار والموت هنا لظهور غاية الضعف الإنساني بالرغم من كلّ القوّة التي يتصوّرها لنفسه.

ومن المفيد أن نستعرض بعض حالات الجبّارين لحظة احتضارهم بالرغم من أنّهم كانوا في أوج القدرة حتّى يتّضح المعنى العميق لهذه الآية بصورة أفضل.

حكى المسعودي في مروج الذهب في أخبار المأمون وغزاته أرض الروم ما هذا ملخّصه : وانصرف من غزاته إلى منزل على (عين البديدون) المعروفة بالقشيرة فأقام هنالك ، فوقف على العين فأعجبه برد مائها وصفاؤه وبياضه وطيب حسن الموضع ، وكثرة الخضرة فأمر بقطع خشب طويل منبسط على العين كالجسر ، وجعل فوقه كالأزج من الخشب وورق الشجر ، وجلس تحت الكنسية التي عقدت له ، والماء تحته ، وطرح في الماء درهم صحيح ، فقرأ كتابته وهو في قرار الماء لصفاء الماء ، ولم يقدر أحد أن يدخل يده من شدّة برده.

٥٠٥

فبينما هو كذلك إذ لاحت سمكة نحو الذراع كأنّها سبيكة فضّة ، فجعل لمن يخرجها سيفا فبدر بعض الفراشين فأخذها وصعد فلمّا صارت على حرف العين أو على الخشب الذي عليه المأمون اضطربت وانفلتت من يد الفراش فوقعت في الماء كالحجر ، فنضح من الماء على صدر المأمون ونحره وترقوته فبلّت ثوبه ، ثمّ انحدر الفرّاش ثانية فأخذها ووضعها بين يدي المأمون في منديل تضطرب ، فقال المأمون : تقلى الساعة ثمّ أخذته رعدة من ساعته ، فلم يقدر يتحرّك من مكانه ، فغطّي باللحف والدواويج وهو يرتعد كالسعفة ويصيح : البرد البرد ، ثمّ حوّل إلى المغرب ودثّر وأوقدت النيران حوله وهو يصيح : البرد البرد ، ثمّ أتي بالسمكة وقد فرغ من قليها فلم يقدر على الذوق منها وشغله ما هو فيه عن تناول شيء منها.

ولمّا اشتدّ به الأمر سأل المعتصم بختيشوع وابن ماسوية في ذلك الوقت عن المأمون وهو في سكرات الموت ، وما الذي يدلّ عليه علم الطبّ من أمره ، وهل يمكن برؤه وشفاؤه ، فتقدّم ابن ماسوية وأخذ إحدى يديه وبختيشوع الاخرى ، وأخذا يجسّان كلتا يديه فوجدا نبضه خارجا عن الاعتدال منذرا بالفناء والانحلال ، والتزقت أيديهما ببشرته لعرق كان يظهر منه من سائر جسده كالزيت أو كلعاب بعض الأفاعي ، فأخبر المعتصم بذلك ، فسألهما عن ذلك فأنكرا معرفته ، وأنّهما لم يجداه في شيء من الكتب وأنّه دالّ على انحلال الجسد ، فأحضر المعتصم الأطباء حوله وهو يأمل خلاصة ممّا هو فيه ، فلمّا ثقل قال : أخرجوني أشرف على عسكري وأنظر إلى رحالي وأتبيّن ملكي ، وذلك في الليل ، فاخرج فأشرف على الخيم والجيش وانتشاره وكثرته وما قد وقد من النيران ، فقال : يا من لا يزول ملكه ، ارحم من زال ملكه ، ثمّ ردّ إلى مرقده وأجلس المعتصم رجلا يشهده.

ولمّا ثقل رفع الرجل صوته ليقولها (أي الشهادة) فقال له ابن ماسوية : لا تصحّ فو الله ما يفرّق بين ربّه وبين ما ني في هذا الوقت ، ففتح عينيه من ساعته

٥٠٦

وبهما من العظمة والكبر والاحمرار ما لم ير مثله قطّ. وأقبل يحاول البطش بيديه بابن ماسويه ، ورام مخاطبته فعجز عن ذلك ، وقضى عن ساعته وذلك لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وحمل إلى طرطوس فدفن بها(١) .

ويحتمل أن يكون لمرضه سابقة ، ويقول بعض المؤرخّين : إنّ كلّ شخص شرب من ماء تلك العين مرض ، أو أنّ السمكة كانت تحتوي على رشح سامّ ، وكيفما كان فإنّ الحكومة بتلك العظمة قد انهارت في بعض لحظات ، وانحنى بطل ميادين الحرب أمام شراع الموت ، ولم تكن القدرة لأي شخص أن يصنع شيئا للمأمون ، أو على الأقل ليوصله إلى مقرّه ومسكنه.

وللتاريخ خواطر وقصص كثيرة فيها دروس وعبر من هذا القبيل.

ثانيا : هل أنّ قبض الروح يكون تدريجيّا؟

إنّ التعبير بوصول الروح إلى الحلقوم كما في قوله تعالى :( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) كناية عن آخر لحظات الحياة ، كما أنّه من المحتمل أن يكون منشؤها هو أنّ غالبية أعضاء جسم الإنسان كالأيدي والأرجل تتعطّل عند الموت قبل بعض الأعضاء الاخرى ، والحلقوم هو العضو الأخير الذي يتوقّف عن العمل. قال تعالى :( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) .(٢) (والترقوة) هي العظام التي تحيط بأطراف الحلق.

* * *

__________________

(١) مروج الذهب ، طبق لنقل سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٤٤.

(٢) القيامة ، ٢٦.

٥٠٧

الآيات

( فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦) )

التّفسير

مصير الصالحين والطالحين :

هذه الآيات في الحقيقة نوع من الخلاصة للآيات الاولى والأخيرة من هذه السورة ، كما أنّها تجسّد حالة التفاوت بين البشر في حالة الاحتضار ، وكيف أنّ قسما منهم يلفظون أنفسهم بهدوء وراحة في تلك اللحظات الصعبة ، وآخرين تلوح لهم من بعيد النار الحامية ، ويسيطر عليهم الخوف والاضطراب والهلع فيلفظون أنفاسهم بصعوبة بالغة.

يقول سبحانه في البداية :( فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ) .

٥٠٨

«روح» : على وزن (قول) ـ كما ذكر ذلك أئمّة اللغة ـ في الأصل بمعنى التنفّس.

«الريحان» : بمعنى النبات أو الشيء ذي العطر ، ثمّ اصطلح على كلّ شيء باعث للحياة والراحة ، كما أنّ الريحان يطلق على كلّ نعمة ورزق كريم.

وبناء على هذا فإنّ الروح والريحان الإلهيين يشملان كلّ وسائل الراحة والطمأنينة للإنسان ، وكلّ نعمة وبركة إلهيّة.

وبتعبير آخر : يمكن القول أنّ الروح إشارة إلى كلّ الأمور التي تخلّص الإنسان من الصعوبات ليتنفّس براحة ، وأمّا الريحان فإنّه إشارة إلى الهبات والنعم التي تعود إلى الإنسان بعد إزالة العوائق.

وقد ذكر المفسّرون الإسلاميون تفاسير متعدّدة لهذين المصطلحين قد تصل إلى عشرة تفاسير :

فقالوا : «الروح» بمعنى الرحمة ، و «الريحان» يشمل كلّ فضيلة وشرف.

وقالوا : إنّ الروح هي النجاة من نار جهنّم ، والريحان دخول الجنّة.

وذكروا أيضا أنّ الروح بمعنى الهدوء في القبر ، والريحان دخول الجنّة.

وفسّر آخرون الروح بمعنى كشف الكروب ، والريحان بمعنى غفران الذنوب.

وقال آخرون : الروح بمعنى النظر إلى وجه الله سبحانه ، والريحان الاستماع إلى كلام الله. وما إلى ذلك.

ويمكن القول أنّ جميع هذه التفاسير مصاديق لهذا المفهوم الكلّي والجامع ، والذي ذكر في تفسير الآية أعلاه.

والجدير بالملاحظة أنّ الحديث عن «جنّة النعيم» جاء بعد ذكر الروح والريحان وقد يستفاد من هذا أنّ الروح والريحان يكون من نصيب المؤمنين في الاحتضار والقبر والبرزخ ، وأمّا الجنّة ففي الآخرة ، كما نقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسيره لهذه الآية حيث قال :( فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ

٥٠٩

وَرَيْحانٌ ) يعني في قبره (وجنّة نعيم) يعني في الآخرة(١) (٢) .

ثمّ يضيف سبحانه :( وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ) وهم تلك الثلّة الصالحة من الرجال والنساء الذين يستلمون صحيفة أعمالهم بيدهم اليمنى كعلامة للفوز والنصر والنجاح( فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ) .

وبهذا الترتيب فإنّ ملائكة الله المختصّين بقبض الروح في لحظات الانتقال من هذه الدنيا يوصلون سلام أصحاب اليمين إلى المحتضر. كما قال تعالى في وصف أهل الجنّة وكلامهم :( إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) (٣) .

ويوجد احتمال آخر أيضا في تفسير هذه الآية وهو أنّ السلام يكون من قبل الملائكة حين يقولون له : سلام عليك أيّها العبد الصالح ، يا من هو من أصحاب اليمين ، أي يكفيك من الافتخار والوصف أن تكون في صفّ هؤلاء(٤) .

وتبيّن بعض الآيات القرآنية الاخرى أيضا أنّ المؤمنين وهم في حالة الاحتضار يتلقّون سلاما من الملائكة كما في قوله تعالى :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٥) .

وعلى كلّ حال فإنّ تعبير (سلام) تعبير ذو معنى ، سواء كان من الملائكة أو من أصحاب اليمين ، فالسلام يعبّر عن الروح والريحان وكلّ أنواع الهدوء والنعمة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٢٨ ، حديث ١٠٣ ، ١٠٤.

(٢) «روح» من الممكن أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره (فجزاؤه روح) ، أو مبتدأ لخبر محذوف تقديره (فله روح) ، وجملة (فروح وريحان وجنّة نعيم) تكون جزاء (أمّا) وانّ الشرطية مع وجود هذا الجزاء مستغنية من الجزاء الآخر (يرجى الانتباه).

(٣) الواقعة ، ٢٦.

(٤) وبناء على هذا فللآية تقديران ، الأوّل بلحاظ أنّ (من) بيانية ، وعندئذ تكون الصورة كما يلي : يقال له : سلام لك من أصحاب اليمين. أمّا الصورة الثانية فبلحاظ أنّ (من) ابتدائية فتكون بالشكل التالي : سلام لك انّك كنت من أصحاب اليمين. إلّا أنّه بملاحظة التّفسير الأوّل فإنّ له تقديرا واحدا وهو : (يقال له ...).

(٥) النمل ، ٣٢.

٥١٠

والسلامة(١) .

وينبغي الانتباه إلى أنّ التعبير بـ «أصحاب اليمين» سببه أنّ الإنسان في الغالب يتصدّى لإنجاز أعماله الأساسية والمهمّة بيده اليمنى ، لذلك فإنّ اليد اليمنى دلالة القدرة ، والمهارة والقابلية والنجاح.

ونقرأ في حديث للإمام الباقرعليه‌السلام في تعقيبه على نهاية هذه الآية أنّه قال : «هم شيعتنا ومحبّونا»(٢) .

ثمّ تستعرض الآيات الكريمة القسم الثالث الذين مرّ ذكرهم في أوائل هذه السورة عبر التصنيف الذي ذكر واصطلح عليهم بـ (أصحاب الشمال) حيث يقول تعالى :( وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) (٣) .

نعم ، إنّهم على مشارف الموت حيث يذوقون أوّل عذاب إلهي ، ويتجرّعون مرارة عقاب يوم القيامة في القبر والبرزخ ، ولأنّ الحديث عن حال المحتضر فإنّ جملة( فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ) من الأنسب أن يكون المراد منها هو عذاب البرزخ ،( وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) إشارة إلى عذاب يوم القيامة.

ونقل في هذا المعنى روايات عديدة لأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام (٤) .

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ كلمة (المكذّبين الضالّين) ذكرت الواحدة تلو الاخرى ، حيث أنّ الاولى تشير إلى تكذيب القيامة ووحدانية الله سبحانه ونبوّة الرّسول ، والثانية تشير إلى الأشخاص الذين انحرفوا عن طريق الحقّ.

وهذا التعبير بالإضافة إلى أنّه يؤدّي معنى التأكيد ، فإنّه يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قسما من الأشخاص الضالّين من فصيلة الأفراد المستضعفين أو الجهلة

__________________

(١) حول التحيّات التي تقدّم لأصحاب الجنّة ، جاء بحث مفصّل عنها في نهاية الآية (٥٨) من سورة يونس.

(٢) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٢٨٥.

(٣) نزل خبر لمبتدأ محذوف تقديره فجزاؤه نزل من حميم ، أو مبدأ لخبر محذوف تقديره ، فله نزل من حميم.

(٤) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٢٩.

٥١١

القاصرين الذين ليس لديهم إصرار وعناد على الباطل ، يمكن أن تشملهم الألطاف الإلهيّة. أمّا المكذّبون المعاندون فإنّهم سيبتلون بالمصير البائس والعاقبة السيّئة التي تقدّم ذكرها.

«حميم» : بمعنى الماء الحارق أو الرياح الحارة والسموم. و (تصلية) مأخوذة من مادّة (صلى) على وزن (سعى) بمعنى الاحتراق والدخول في النار.

أمّا (تصلية) المتعدية فتأتي بمعنى الإحراق فقط.

وفي نهاية هذا الحديث يضيف سبحانه :( إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) .

والمعروف بين المفسّرين أنّ «حقّ اليقين» من قبيل الإضافة البيانية ، يعني أنّ الذي تقدّم ذكره حول الأقسام الثلاثة وهم (المقرّبون وأصحاب اليمين والمكذّبون) فهو عين الحقيقة والحقّ واليقين.

وهنا يوجد احتمال أيضا وهو : بما أنّ لليقين درجات متعدّدة ، فإنّ أعلى مرحلة له هي (حقّ اليقين) أي يقين واقعي كامل وخال من كلّ شكّ وشبهة وريب(١) .

وممّا قلنا يتّضح أنّ (هذا) في هذه الآية إشارة إلى أحوال الأقسام الثلاثة الآنفة الذكر ، كما احتمل البعض أيضا أنّها إشارة إلى كلّ محتويات سورة الواقعة أو القرآن أجمع ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

وهنا نقطة جديرة بالذكر أيضا وهي أنّ التعبير بـ (فسبّح) ـ الفاء تفريعيّة ـ هو إشارة إلى أنّ ما قيل حول الأقسام الثلاثة هو عين العدالة ، وبناء على هذا اعتبر (ربّك) منزّها من كلّ ظلم ، وإذا ما أريد الابتعاد عن مصير أصحاب الشمال فعلينا أن نتنزّه من كلّ شرك وظلم المتلازمان مع إنكار القيامة.

__________________

(١) طبقا لهذا التّفسير فإنّ إضافه حقّ إلى كلمة (يقين) جاءت للاختصاص والتقييد ، واعتبرها البعض ـ أيضا ـ من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة وقالوا بمعنى (اليقين) الحقّ.

٥١٢

ونقل كثير من المفسّرين حول نهاية آخر الآية بعد ما نزلت على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «اجعلوها في ركوعكم» (أي قولوا : سبحان ربّي العظيم) وعند ما نزلت : سبّح( اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اجعلوها في سجودكم» ، أي قولوا : سبحان ربّي الأعلى(١) .

وفي تفسير الآية ٧٤ من نفس السورة نقلنا ما هو شبيه بهذه الرّواية عن بعض المفسّرين.

* * *

تعقيب

عالم البرزخ :

أشارت الآيات أعلاه إلى عالم البرزخ ، وقد بيّنا عند تفسيرها أنّ الإنسان ـ في حالة احتضاره وهو على مشارف الموت يتهيّأ للانتقال من دار الدنيا إلى عالم الآخرة ـ سيواجه واحدة من هذه الحالات ، أمّا النعم والهبات الإلهيّة والجزاء الربّاني بالروح والريحان ، أو العقاب والجزاء المؤلم ، والعاقبة البائسة.

كما أنّ القرائن الموجودة في الآيات ترينا أنّ قسما ممّا يثاب به أو يعاقب عليه مرتبط بيوم القيامة ، والقسم الآخر مرتبط بالقبر والبرزخ ، ويعدّ هذا دليلا على وجود عالم البرزخ.

وفي حديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ ما يلي : «إنّ أوّل ما يبشّر به المؤمن عند الوفاة بروح وريحان وجنّة نعيم ، وإنّ أوّل ما يبشّر به المؤمن في قبره أن يقال له :

أبشر برضا الله تعالى والجنّة قدمت خير مقدم ، وقد غفر الله لمن يشيّعك إلى قبرك ،

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، وروح المعاني ، وروح البيان ، القرطبي ، والدرّ المنثور ، وتفسير المراغي ، في نهاية الآيات مصدر البحث.

٥١٣

وصدّق من شهد لك ، واستجاب لمن استغفر لك»(١) .

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين أنّه قال : «إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة ، مثل له ماله وولده وعمله فيلتفت إلى عمله فيقول : والله إنّي كنت فيك لزاهد ، وإن كنت عليّ لثقيلا ، فما ذا عندك؟ فيقول : أنا قرينك في قبرك ، ويوم نشرك حتّى أعرض أنا وأنت على ربّك ، قال : فإنّ كان لله وليّا أتاه أطيب الناس ريحا ، وأحسنهم منظرا ، وأحسنهم رياشا ، فيقول : أبشر بروح وريحان ، وجنّة نعيم ، ومقدمك خير مقدم ، فيقول له : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، ارتحل من الدنيا إلى الجنّة»(٢) .

وقد سبق لنا بحث مفصّل حول عالم البرزخ في نهاية الآية (١٠٠) من سورة (المؤمنون).

اللهمّ ، اجعلنا في صفّ المقرّبين وأصحاب اليمين ، وخاصّة أوليائك وأحبّتك ، واشملنا بروح وريحان وجنّة نعيم عند مشارف الموت.

اللهمّ ، إنّ عذاب الحشر عذاب أليم لا يطيقه أحد ، وثوابك الاخروي عظيم لا يستوجبه أي شخص بأعماله ، وإنّ رأسمالنا في ذلك اليوم هو لطفك وكرمك يا كريم.

إلهي ، أيقظنا قبل وصول القيامة الكبرى والقيامة الصغرى ـ والذي هو الموت ـ لنعدّ أنفسنا للسفر العظيم الذي يواجهنا

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الواقعة

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ١٦٦.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٢٨ ، حديث ١٠٦.

٥١٤

الفهرس

سورة ق

محتوى السورة ٧

فضيلة تلاوة سورة «ق» ٨

تفسير الآيات : ١ ـ ٥ ٩

المنكرون المعاندون في أمر مريج ٩

تفسير الآيات : ٦ ـ ١١ ١٤

انظروا إلى السماء لحظة ١٤

تفسير الآيات : ١٢ ـ ١٥ ١٨

لست وحدك المبتلى بالعدو ١٨

تفسير الآيات : ١٦ ـ ١٨ ٢٢

كتابه جميع الأقوال ٢٢

ملاحظة ٢٨

الحبيب أقرب إلى الإنسان من نفسه ٢٨

تفسير الآيات : ١٩ ـ ٢٢ ٣٠

القيامة ـ والبصر الحديد ٣٠

بحوث

١ ـ حقيقة الموت ٣٦

٢ ـ سكرات الموت ٣٧

٥١٥

٣ ـ الموت حقّ ٣٨

تفسير الآيات : ٢٣ ـ ٣٠ ٤٠

قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين ٤٠

تفسير الآيات : ٣١ ـ ٣٧ ٤٨

ادخلوا الجنّة أيّها المتّقون ٤٨

تفسير الآيات : ٣٨ ـ ٤٠ ٥٥

خالق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى ٥٥

ملاحظة ٥٩

الصبر مفتاح لكلّ فلاح ٥٩

تفسير الآيات : ٤١ ـ ٤٥ ٦١

يخرج الجميع أحياء عند صيحة القيامة ٦١

انتهاء سورة ق ٦٤

«سورة الذّاريات»

محتوى السورة ٦٧

فضيلة تلاوة هذه السورة ٦٨

تفسير الآيات : ١ـ ٦ ٦٩

قسما بالأعاصير والسحب الذاريات ٦٩

تفسير الآيات : ٧ ـ ١٤ ٧٣

والسّماء ذات الحبك ٧٣

تفسير الآيات : ١٥ ـ ١٩ ٧٩

ثواب المستغفرين بالأسحار ٧٩

بحوث

١ ـ التوجّه نحو الله وخلق الله ٨٤

٢ ـ السهر ديدن العشّاق ٨٤

٥١٦

٣ ـ حقّ السائل والمحروم ٨٦

تفسير الآيات : ٢٠ ـ ٢٣ ٨٧

آيات الله وآثاره في أنفسكم ٨٧

بحوث

١ ـ قصّة الأصمعي المثيرة ٩٣

٢ ـ أين الجنّة ٩٤

٣ ـ الاستفادة من آيات الله تحتاج إلى قابلية ٩٥

٤ ـ الرزق حقّ ٩٥

تفسير الآيات : ٢٤ ـ ٣٠ ٩٧

ضيوف إبراهيمعليه‌السلام ٩٧

ملاحظة ١٠٢

كرم الأنبياء ١٠٢

بداية الجزء السابع والعشرون من القرآن الكريم

تفسير الآيات : ٣١ ـ ٣٧ ١٠٧

مدن قوم لوط المدمرة آية وعبرة ١٠٧

بحث

أين تقع مدن قوم لوط ١١١

تفسير الآيات : ٣٨ ـ ٤٦ ١١٣

دروس العبرة من الأقوام السالفة ١١٣

تعقيب ١١٨

١ ـ أوجه عذاب الله ١١٨

٢ ـ الرياح اللواقح والرياح العقيم ١١٩

تفسير الآيات : ٤٧ ـ ٥١ ١٢٠

٥١٧

والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ١٢٠

تفسير الآيات : ٥٢ ـ ٥٥ ١٢٧

إنّ الذكرى تنفع المؤمنين ١٢٧

ملاحظة ١٢٩

لا بدّ من قلوب مهيّأة لقبول الحقّ ١٢٩

تفسير الآيات : ٥٦ ـ ٥٨ ١٣١

هدف خلق الإنسان من وجهة نظر القرآن ١٣١

توضيح ذلك ١٣١

بحوث

١ ـ الله غني على الإطلاق ١٣٤

٢ ـ الله ذو القوّة المتين ١٣٥

٣ ـ لم قدّم ذكر الجنّ ١٣٥

٤ ـ الحكمة من الخلق في نظر الفلسفة ١٣٦

٥ ـ الرّوايات الإسلامية وفلسفة خلق الإنسان ١٤١

٦ ـ الإجابة على سؤال ٤١٢

تفسير الآيتان : ٥٩ ـ ٦٠ ١٤٤

هؤلاء يشاركون أصحابهم في عذاب الله ١٤٤

«سورة الطور»

محتوى السورة ١٥١

فضيلة تلاوة هذه السورة ١٥٢

تفسير الآيات : ١ ـ ٨ ١٥٣

تفسير الآيات : ٩ ـ ١٦ ١٥٩

١ ـ كيف يساق المجرمون إلى جهنّم ١٦٢

٥١٨

٢ ـ الخائضون في الأباطيل ١٦٣

تفسير الآيات : ١٧ ـ ٢١ ١٦٤

مواهب الله للمتّقين ١٦٤

تفسير الآيات : ٢٢ ـ ٢٨ ١٧١

مواهب اخرى لأهل الجنّة ١٧١

ملاحظات ١٧٥

٦ ـ ارتباط الآيات ومضامينها ١٧٦

تفسير الآيات : ٢٩ ـ ٣٤ ١٧٨

سبب النّزول ١٧٨

أمنيات المشركين وتحدّي القرآن ١٧٩

تفسير الآيات : ٣٥ ـ ٤٣ ١٨٦

ما هو كلامكم الحقّ ١٨٦

تفسير الآيات : ٤٤ ـ ٤٩ ١٩٤

إنّك بأعيننا ١٩٤

سورة النّجم

محتوى السّورة ٢٠٣

فضيلة تلاوة هذه السورة ٢٠٤

تفسير الآيات : ١ ـ ٤ ٢٠٦

تفسير الآيات : ٥ ـ ١٢ ٢١١

أوّل لقاء مع الحبيب ٢١١

تفسير الآيات : ١٣ ـ ١٨ ٢٢٠

الرّؤية الثّانية ٢٢٠

بحوث

١ ـ المعراج حقيقة مقطوع بها ٢٢٠

٥١٩

٢ ـ ما هو الهدف من المعراج ٢٢٥

٣ ـ المعراج والجنّة ٢٢٥

٤ـالمعراج في الرّوايات الإسلامية ٢٢٦

٥ ـ جانب من إيحاءات الله وكلماته لرسوله في ليلة المعراج ٢٢٩

تفسير الآيات : ١٩ ـ ٢٣ ٢٣٣

هذه الأصنام وليدة أهوائكم ٢٣٣

بحوث

١ ـ أصنام العرب الثلاثة المشهورة ٢٣٥

٢ ـ أسماء دون مسميّات ٢٣٧

٣ ـ الدافع النفسي لعبادة الأصنام ٢٣٨

٤ ـ اسطورة الغرانيق مرّة اخرى ٢٣٨

تفسير الآيات : ٢٤ ـ ٢٦ ٢٤١

الشفاعة أيضا بإذنه ٢٤١

تعقيب ٢٤٣

١ ـ سعة الأماني ٢٤٣

٢ ـ كلام في شأن الشفاعة ٢٤٤

تفسير الآيات : ٢٧ ـ ٣٠ ٢٤٥

إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا ٢٤٥

ملاحظة ٢٤٩

رأس مال عبدة الدنيا ٢٤٩

تفسير الآيتان : ٣١ ـ ٣٢ ٢٥٠

لا تزكّوا أنفسكم ٢٥٠

بحوث

١ ـ علم الله المطلق ٢٥٤

٥٢٠

521

522

523

524

525

526