الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156738 / تحميل: 6146
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

تفاسير أخر لهذه الآية أعرضنا عن ذكرها لأنّها(١) بعيدة.

والوصف الثاني من أوصافهم يذكره القرآن بهذا البيان :( وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .

فحيث أنّ عيون الغافلين هاجعة آخر الليل والمحيط هادئ تماما ، فلا صخب ولا ضجيج ولا شيء يشغل فكر الإنسان ويقلق باله ينهضون ويقفون بين يدي الله ويعربون له عن حاجتهم وفاقتهم ، ويصفّون أقدامهم ، ويصلّون ويستغفرون عن ذنوبهم خاصّة.

ويرى الكثير من المفسّرين أنّ المراد من «الاستغفار» هنا هو «صلاة الليل» لأنّ «الوتر» منها مشتمل على الاستغفار.

و «الأسحار» جمع سحر على زنة «بشر» ومعناه في الأصل الخفي أو المغطّى ، وحيث أنّه في الساعات الأخيرة من الليل يغطّي كلّ شيء خفاء خاصّ ، فقد سمّى آخر الليل سحرا.

وكلمة «سحر» ـ بكسر السين ـ تطلق أيضا على ما يغطّي وجه الحقائق أو يخفي أسرارها عن الآخرين!.

وقد جاء في رواية في تفسير «الدرّ المنثور» أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ آخر الليل في التهجّد أحبّ إليّ من أوّله ، لأنّ الله يقول : وبالأسحار هم يستغفرون»(٢) .

ونقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرّة في السحر»(٣) .

ثمّ يذكر القرآن الوصف الثالث لأهل الجنّة المتّقين فيقول :( وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ

__________________

(١) كلمة «ما» في قوله ما يهجعون يمكن أن تكون زائدة وللتأكيد أو موصولة أو مصدرية كما ورد ذلك في تفسير الفخر الرازي والميزان ، وقال بعضهم بأنها زائدة أو مصدرية فحسب كما جاء في تفسير القرطبي وروح البيان ، وما احتمله بعضهم بأنها نافية فهو بعيد.

(٢) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ١١٣.

(٣) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.

٨١

لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) .

كلمة «حقّ» هنا هو إمّا لأنّ الله أوجب ذلك عليهم : كالزكاة والخمس وسائر الحقوق الشرعية الواجبة ، أو لأنّهم التزموه وعاهدوا أنفسهم على ذلك ، وفي هذه الصورة يدخل في هذا المفهوم الواسع حتّى غير الحقوق الشرعية الواجبة.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الآية ناظرة إلى القسم الثاني فحسب ، فهي لا تشمل الحقوق الواجبة لأنّ الحقوق الواجبة واردة في أموال الناس جميعا ، المتّقين وغير المتّقين حتّى الكفّار.

فعلى هذا حين يقول القرآن :( وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ ) فإنّما يعني أنّه إضافة إلى واجباتهم وحقوقهم أوجبوا على أنفسهم حقّا ينفقونه من مالهم في سبيل الله للسائل والمحروم.

إلّا أنّه يمكن أن يقال أنّ الفرق بين المحسنين وغيرهم هو أنّ المحسنين يؤدّون هذه الحقوق ، في حين أنّ غيرهم ليسوا مقيدين بذلك.

كما يمكن أن يقال في تفسير الآية أنّ المراد بالسائل في ما يخصّ الحقوق الواجبة ، لأنّه يحقّ له السؤال والمطالبة بها والمراد بالمحروم في ما يخصّ الحقوق المستحبّة إذ ليس له حقّ المطالبة بها.

ويصرّح «الفاضل المقداد» في كتابه «كنز العرفان» أنّ المراد من قوله :( حَقٌّ مَعْلُومٌ ) هو الحقّ الذي ألزموه أنفسهم في أموالهم ويرون أنفسهم مسئولين عنه(١) .

وجاء نظير هذا المعنى في سورة المعارج الآيتين ٢٤ و٢٥ إذ يقول سبحانه :( وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) .

ومع ملاحظة أنّ حكم وجوب الزكاة نزل في المدينة وآيات هذه السورة جميعها مكيّة ، فيتأيّد الرأي الأخير.

__________________

(١) مؤدّى ما ورد في كنز العرفان ، ج ١ ، ص ٢٢٦.

٨٢

وما وصلنا من روايات عن أهل البيتعليهم‌السلام يؤكّد أيضا أنّ المراد من «حقّ معلوم» شيء غير الزكاة الواجبة. إذ نقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول(١) : «لكنّ اللهعزوجل فرض في أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة فقالعزوجل ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ ) ، فالحقّ المعلوم غير الزكاة وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله إن شاء في كلّ يوم وإن شاء في كلّ جمعة وإن شاء في كلّ شهر».

وفي هذا المجال أحاديث متعدّدة أخر منقولة عن الإمام علي بن الحسين والإمام الباقر والإمام الصادق أيضا(٢) .

وهكذا فإنّ تفسير الآية واضح بيّن.

وهناك كلام في الفرق بين «السائل» و «المحروم» ، فقال بعضهم «السائل» هو من يطلب العون من الناس ، أمّا «المحروم» فمن يحافظ على ماء وجهه ويبذل قصارى جهده ليعيش دون أن يمدّ يده إلى أحد ، أو يطلب العون من أحد ، بل يصبّر نفسه.

وهذا هو ما يعبّر عنه بالمحارف ، لأنّه قيل في كتب اللغة في معنى «المحارف» بأنّه الشخص الذي لا ينال شيئا مهمّا سعى وجدّ فكأنّ سبل الحياة مغلقة بوجهه!

وعلى كلّ حال ، فهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي لا تنتظروا أن يأتيكم المحتاجون ويمدّوا أيديهم إليكم ، بل عليكم أن تبحثوا عنهم وتجدوا الأفراد المحرومين الذين يعبّر عنهم القرآن بأنّهم( يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) (٣)

لتساعدوهم وتحفظوا ماء أوجههم ، وهذا دستور مهم لحفظ حيثية المسلمين المحرومين وينبغي الاهتمام به.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٧٢ باب ما تجب فيه الزكاة الباب السابع الحديث الثاني.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٢٧ أبواب ما تجب فيه الزكاة الباب السابع الحديث ٣.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢٧٣.

٨٣

وهؤلاء الأشخاص يمكن معرفتهم ـ كما صرّح بذلك القرآن «تعرفهم بسيماهم».

أجل فبرغم سكوتهم إلّا أنّ في عمق وجوههم آثار الهموم وما تحمله أنفسهم من آلام يعرفها المطّلعون ، ويخبر لون وجههم عن كربتهم.

* * *

بحوث

١ ـ التوجّه نحو الله وخلق الله

ما ورد في هذه الآيات عن المتّقين وأوصافهم يتلخّص ـ في الحقيقة ـ في قسمين «التوجّه نحو الله» «الخالق» وذلك في ساعات يتوفّر فيها من جميع الجهات الاستعداد لبيان الحاجة عنده مع حضور القلب ، وتبلغ أسباب انشغال الفكر وانصراف الذهن إلى أدنى حدّ أي في أواخر الليل!

والآخر «التوجّه نحو الخلق» ومعرفة احتياج المحتاجين سواء أظهروا حاجتهم أم كتموها.

وهذا المطلب هو ما أشار إليه القرآن في آياته مرارا وأوصى به ، والآيات التي يرد فيها ذكر الصلاة ، ثمّ يتلوها ذكر الزكاة ، وتعول على الإثنين معا ، تشير إلى هذه المسألة ، لأنّ الصلاة أبرز مظهر لعلاقة الإنسان بالخالق ، والزكاة أجلى مظهر لعلاقته بخلق الله.

٢ ـ السهر ديدن العشّاق

مع أنّ صلاة الليل من الصلوات المستحبّة والنافلة إلّا أنّ القرآن المجيد أشار إليها مرارا ، وهذا دليل على أهميّتها القصوى حتّى أنّ القرآن عدّها وسيلة لبلوغ «المقام المحمود» وأساسا لقرّة العين «كما هو في الآية ٧٩ من سورة الإسراء

٨٤

والآية ١٧ من سورة ألم السجدة».

وفي الرّوايات الإسلامية أيضا اهتمام بالغ على هذه القضيّة وبيان الحاجة «في صلاة الليل» والسهر في السحر : ففي مكان يعدّها النّبي بأنّها كفّارة عن الذنوب فيقول : «يا علي ثلاث كفّارات : منها : التهجّد بالليل والناس نيام»(١) .

وفي حديث آخر ورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أشراف امّتي حملة القرآن وأصحاب الليل»(٢) .

وأيضا في حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوصي علياعليه‌السلام إذ قال أربع مرّات : عليك بصلاة الليل(٣) .

وينقل عن الإمام الصادق في تفسير الآية محلّ البحث :( كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) : أنّه قال : كانوا أقلّ الليالي تفوتهم لا يقومون فيها(٤) .

كما ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : الركعتان في جوف الليل أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها(٥) .

كما نقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال لسليمان الديلمي «أحد أصحابه» : لا تدع قيام الليل فإنّ المغبون من حرم قيام الليل(٦) .

وبالطبع فإنّ الرّوايات في هذا الصدد كثيرة ويلاحظ فيها تعابير مثيرة وطريفة جدّا ولا سيّما التعبير بأنّ صلاة الليل وسيلة «لمحو الذنوب» و «تيقّظ الفكر» و «إشراق القلب» و «جلب الرزق» و «سعة العيش» و «الصحّة» ، ولو جمعنا

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٧٣.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٧٥.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٧٧.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٧٩.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٨٧ ، ص ١٤٨.

(٦) بحار الأنوار ، ج ٨٧ ، ص ١٤٦.

٨٥

هذه الرّوايات لحصلنا على كتاب مستقل(١) .

وقد كان لنا بحوث أخر في هذا المجال ذيل الآية (٧٩) من سورة الإسراء وذيل الآية (١٧) من سورة الم السجدة فلا بأس بمراجعتها.

٣ ـ حقّ السائل والمحروم!

ممّا ينبغي ذكره أنّنا قرأنا في الآيات المتقدّمة أنّ في أموال الصالحين والمحسنين حقّا للسائل والمحروم ، وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّهم يعدّون أنفسهم مدينين للمحتاجين والمحرومين ، ويعدّون السائل أو المحروم ذا حقّ عليهم ، حقّ ينبغي دفعه إليه دون امتنان ولا أذى ، فكأنّه دين من سائر الديون.

وكما قلنا آنفا فإنّ هذا التعبير كما تدلّ عليه القرائن المتعدّدة لا علاقة له بالزكاة الواجبة وأمثالها ، بل هو ناظر إلى النفقة المستحبّة التي يعدّها المتّقون دينا عليهم(٢) .

* * *

__________________

(١) للاطلاع على هذه الرّوايات يراجع الجزء الخامس من وسائل الشيعة والجزء الأوّل من مستدرك الوسائل ، والجزء ٨٧ من بحار الأنوار.

(٢) نزول هذه الآيات بمكّة وورود هذا الحكم في خصوص أهل الجنّة الصالحين وروايات أهل البيت كلّها قرائن على أنّ الحقّ في الآية غير الزكاة

٨٦

الآيات

( وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) )

التّفسير

آيات الله وآثاره في أنفسكم :

تعقيبا على الآيات المتقدّمة التي كانت تتحدّث عن مسألة المعاد وصفات أهل النار وأهل الجنّة ، تأتي هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ لتتحدّث عن آيات الله ودلائله في الأرض وفي وجود الإنسان نفسه ليطّلع على مسألة التوحيد ومعرفة الله وصفاته التي هي مبدأ الحركة نحو الخيرات كلّها من جهة ، وعلى قدرته على مسألة المعاد والحياة بعد الموت من جهة اخرى ، لأنّ خالق الحياة على هذه الأرض وما فيها من عجائب قادر على تجديد الحياة بعد الموت كذلك! تقول هذه الآية أوّلا :( وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) .

والحقّ أنّ دلائل الله وقدرته غير المتناهية وعلمه وحكمته التي لا حدّ لها في هذه الأرض كثيرة وفيرة إلى درجة أنّ عمر أيّ إنسان مهما كان لا يكفي لمعرفتها

٨٧

جميعا.

فحجم الأرض وبعدها عن الشمس وحركتها حول نفسها وحركتها حول الشمس والقوى الجاذبة والدافعة التي تنتج عن حجمها وحركتها وهي متعادلة فيما بينها تماما ومتناسقة فجميع هذه الأمور مجتمعة توفّر الحياة على سطح الأرض وكلّ ذلك من آيات الله الكبرى.

في حين أن لو تغيّرت حركة من هذه الحركات واختلفت الخصائص أقل اختلاف ، لاضطربت الموازين وتبدلّت ظروف الحياة على سطح الأرض.

فالمواد التي تتشكّل منها الأرض والمنابع التي هي فوق سطح الأرض وداخلها ـ المعدّة للحياة ـ كلّ منها آية من آيات الله ودلائله.

الجبال والسهول والهضاب والأنهار والعيون التي كلّ منها له أثره في استمرار الحياة واتّساق ظروفها دلائل اخرى من دلائله وآياته.

مئات الآلاف من أنواع النباتات والحشرات والحيوانات أجل ، مئات الآلاف كلّ منها بخصائصه وعجائبه عند مطالعة كتب الأحياء و «البايلوجيا» وكتب الجيولوجيا والتربة وعلم النبات وعلم الحيوان تدع الإنسان يستغرق في حيرة مذهلة!.

وفي كلّ زاوية أو جانب من هذه الكرة الأرضية أسرار مثيرة قلّ أن يلتفت إليها أحد ، إلّا أنّ الباحثين والعلماء كشفوا النقاب عن جزء منها وأظهروا عظمة الخالق وقدرته.

ولا بأس أن ننقل هنا جانبا من كلمات بعض العلماء المعروفين في العالم الذين لهم دراسات كثيرة في هذا الصدد : إنّه «كرسي موريسين» فلنصغ إليه قائلا : «لقد روعي منتهى الدقّة في تنظيم العوامل الطبيعية فلو تضخّمت القشرة الخارجية للكرة الأرضية أكثر ممّا كانت عليه عشر مرّات لانعدم الأوكسجين الذي هو المادّة الأصلية للحياة ، ولو أنّ أعماق البحار كانت أكثر عمقا ممّا هي

٨٨

عليه قليلا أو كثيرا ، لأنجذب جميع الأوكسجين والكربون من سطح الأرض ولم يعد أي إمكان لحياة النبات أو الحيوان على سطح الأرض»!

ويقول في مكان آخر في الغلاف الجوّي الذي يحيط بالأرض : لو أنّ هذا الغلاف الذي يحيط بالأرض من الهواء كان رقيقا لخرقته الشهب الثواقب التي تأتي كلّ يوم بنحو عدّة ملايين فتصيب الأرض حيث ما وقعت ، إلّا أنّ هذا الغلاف الجوّي يمنعها لكثافته فتتلاشى وتحترق عنده فلا تصل إلى الأرض.

ولو أنّ الشهب الثواقب خفّت سرعتها لما احترقت عند اصطدامها بالهواء ولوقعت على الأرض ودمّرت الكثير.

ويقول في مكان آخر أنّ نسبة الأوكسجين في الهواء هي إحدى وعشرين بالمائة فحسب ، فلو كانت هذه النسبة خمسين بالمائة لاحترق به كلّ ما من شأنه الاشتعال في هذا العالم ولو وصلت شظية صغرى من النار إلى شجرة في غابة لاحترقت الغابة جمعاء»!

إنّ نسبة كثافة الهواء المحيط بالأرض إلى درجة بحيث يوصل الأشعّة المناسبة لرشد النباتات ونموّها وتعدم المكروبات الضارّة في الفضاء نفسه وتنتج الفيتامينات النافعة.

ومع وجود الأبخرة المختلفة التي خرجت من باطن الأرض خلال القرون المتمادية وانتشرت في الهواء وأغلبها أبخرة سامّة فمع ذلك فإنّ الهواء المحيط بالأرض لم يتلوّث وما يزال باقيا على حالته الطبيعية المناسبة للحياة الإنسانية.

والجهاز الذي يوجد هذه الموازنة ويحفظ هذا التعادل هو البحر والمحيط الذي منه تستمدّ المواد الحياتية والغذاء والأمطار واعتدال الهواء والنباتات وأخيرا فإنّ وجود الإنسان نفسه يستمدّ منه أيضا.

فكلّ من يدرك هذه المعاني فعليه أن يطأطئ رأسه للبحر تعظيما وأن يشكر

٨٩

مواهبه وخالق البحر»(١) .

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) أي أفلا تبصرون هذه الآيات في أنفسكم أيضا؟!

ولا شكّ أنّ الإنسان أعجوبة عالم الوجود وما هو في العالم الأكبر موجود في عالم الإنسان الأصغر أيضا ، بل في الإنسان عجائب لا توجد في أي مكان من العالم!

والعجب أنّ هذا الإنسان على عظمته وعقله وعلمه وهذا الابتداع والابتكار والصنع العجيب كان أوّل يومه على صورة نطفة صغرى لا قيمة لها!! لكن ما أن استقرّت في الرحم حتّى تكاملت بسرعة وتبدلّت يوما بعد يوم ولحظة بعد اخرى فإذا هذه النطفة التي لا قيمة لها تغدو إنسانا كاملا سويّا!

خليّة واحدة التي هي أصغر جزء في بدن الإنسان تشكّل بناية ضخمة متداخلة عجيبة فهي على حدّ تعبير بعض العلماء تعادل «مدينة صناعية».

يقول أحد علماء «علم الأحياء» إنّ هذه المدنية العظمى مع آلاف الأبواب أو البوابات المثيرة وآلاف المعامل والمخازن وشبكات المجاري والتأسيسات الكثيرة والارتباطات والأعمال الحياتية المختلفة كلّ ذلك في مساحة صغيرة جدّا بمقدار خلية من أكثر الأمور تعقيدا وإثارة ، إذ لو أردنا أن نهيّئ تأسيسات مثلها ولن نستطيع أبدا ـ لكان علينا أن نشغل مساحة آلاف الهكتارات من الأرض وعليها البنايات والماكنات المختلفة المعقّدة لنصل إلى مثل هذه الخطّة!!

إلّا أنّ الطريف أنّ جهاز الخلقة جعل كلّ ذلك في مساحة تعدل خمسة عشر ميلونيم الميليمتر فحسب(٢) .

إنّ الأجهزة الموجودة في بدن الإنسان كالقلب والكلية والرئة وخاصّة

__________________

(١) الكاتب كرسي موريسين في كتابه (أسرار خلق الإنسان) من ص ٣٣ إلى ٣٦.

(٢) سفرة في أعماق وجود الإنسان قسم الخلايا.

٩٠

عشرات آلاف الكيلومترات من الأعصاب الرقيقة أو الكبيرة والأعصاب الدقيقة التي لا ترى بالعين المجرّدة وجميعها مسئولة عن إيصال الغذاء والماء والتهوية إلى عشرة مليون مليارد خلية ، والحواس المختلفة كالسمع والبصر والحواس الاخر كلّ منها آية عظمى من آيات الله.

وأهمّ من كلّ ذلك لغز الحياة التي لم تعرف أسرارها وبناء الروح أو العقل الإنساني الذي يعجز عن إدراكه عقول جميع الناس وهنا ـ ينحني الإنسان ويتمتم بالتسبيح والحمد والثناء لله دون إختياره ويترنّم بهذه الأشعار :

فيك يا أعجوبة الكو

ن غدا الفكر كليلا

أنت حيّرت ذوي الل

لبّ وبلبلت العقولا

كلّما قدّم فكري فيك شبرا فرّ ميلا

ناكصا يخبط في عمياء لا يهدى سبيلا

وقد ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»(١) .

أجل إنّ معرفة النفس في جميع المراحل طريق لمعرفة الله والتعبير : «أفلا تبصرون» تعبير لطيف : أي إنّ هذه الآيات حولكم وفي داخلكم وفي تمام وجودكم بحيث لو فتحتم أعينكم ولو قليلا لأبصرتم آيات الله ولا رتوت أرواحكم من إدراك عظمته!.

وفي الآية الثالثة من الآيات ـ محلّ البحث ـ إشارة إلى القسم الثالث من دلائل عظمة الخالق وقدرته على المعاد إذ تقول :( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ) .

وبالرغم من أنّ بعض الرّوايات الإسلامية تفسّر «الرزق» في هذه الآية ب

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٦٠٣ مادّة نفس.

٩١

«المطر» الذي يمنح الحياة وهو مصدر الخير والبركة في الأرض جميعا ، والآية (٥) من سورة الجاثية أيضا توافق هذا التّفسير إذ تقول :( وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) إلّا أنّ هذا المعنى يمكن أن يكون مصداقا جليّا من مصاديق الآية ، في حين أنّ سعة مفهوم الرزق تشمل حبّات المطر وغيرها كنور الشمس الذي يأتي من السماء وله أثره الفاعل في الحياة ، والهواء الذي هو أساس حياة الموجودات.

كلّ هذا لو أخذنا مفهوم السماء بالمعنى اللغوي أي السماء التي فوقنا ، إلّا أنّ بعضهم فسّرها بعالم الغيب وما وراء الطبيعة أو اللوح المحفوظ الذي تقدّر منه أرزاق العباد!

وبالطبع فإنّ الجمع بين التّفسيرين ممكن ، وأن كان التّفسير الأوّل أنسب وأوضح!.

وأمّا جملة و( ما تُوعَدُونَ ) فيمكن أن تكون تأكيدا على مسألة الرزق ووعد الله في هذا المجال ، أو أنّ المراد منها الجنّة الموعودة ، لأنّنا نقرأ الآية ١٥ من سورة النجم( عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ) أو أنّها إشارة إلى كلّ خير وبركة أو عذاب ينزل من السماء! أو أنّ «ما توعدون» ناظر إلى جميع هذه المعاني ، لأنّ مفهوم «ما توعدون» واسع جدّا.

وعلى كلّ حال ، فهذه الآيات الثلاث فيها ترتيب لطيف ، فالآية الاولى تتحدّث عن أسباب وجود الإنسان وحياته ، والآية الثانية تتحدّث عن الإنسان نفسه ، والآية الثالثة تتحدّث عن أسباب بقائه ودوامه!.

وجدير بالالتفات أيضا أنّ ما يمنع البصيرة ويصدّها عن مطالعة أسرار الخلق وأسرار الأرض وعجائب وجود الإنسان هو «الحرص على الرزق» ، فالله سبحانه يطمئن الإنسان في الآية الأخيرة بأنّ رزقه مضمون ، ليستطيع أن ينظر إلى عجائب العالم ويتحقّق فيه قوله :( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ؟!

٩٢

لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تقسم فتقول :( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) .

وقد بلغ الأمر حدّا أن يقسم الله على ما لديه من عظمة وقدرة ليطمئن عباده الشاكّين ضعاف الأنفس الحريصين إنّ ما توعدون في مجال الرزق والثواب والعقاب والقيامة جميعه حقّ ولا ريب في كلّ ذلك(١) .

والتعبير بـ( مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) تعبير لطيف ودقيق إذ يتحدّث عن أكثر الأشياء لمسا ، لأنّه قد يخطئ الإنسان في الباصرة أو السمع بأن يتوهّم أنّه سمع أو رأى ، إلّا أنّه لا يمكن أن يتوهّم أنّه قال شيئا مع أنّه لم يقله لذلك فإنّ القرآن يقول : كما أنّ ما تنطقون محسوس عندكم وله واقع ، فإنّ الرزق والوعد الإلهي عنده كذلك!

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ النطق بنفسه واحد من أكبر الأرزاق والمواهب الإلهيّة التي لم يتمتّع بها أي موجود حيّ سوى الإنسان ، وليس بخاف أثر الكلام والنطق في الحياة الاجتماعية وتعليم الناس وتربيتهم وانتقال العلوم وحلّ مشاكل الحياة على أحد.

* * *

بحوث

١ ـ قصّة الأصمعي المثيرة

ينقل الزمخشري في كشّافه عن الأصمعي(٢) أنّه قال خرجت من مسجد البصرة فبصرت بأعرابي من أهل البادية راكبا على دابته فواجهني وسألني : من أي

__________________

(١) هناك كلام بين المفسّرين في أنّ مرجع الضمير في «أنّه» على أي شيء يعود؟ قال بعضهم يعود على الرزق ، وقال بعضهم يعود على ما توعدون وقال بعضهم يعود على النّبي والقرآن إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

(٢) كان يدعى «عبد الملك بن قريب» وكان يعيش في عهد هارون الرشيد وله حافظة عجيبة واطّلاعات واسعة عن تاريخ العرب وأشعارها وتوفّي في البصرة سنة ٢١٦ الكنى والألقاب ، ج ٢ ، ص ٢٧.

٩٣

القبائل أنت؟! فقلت من بني الأصمع فقال من أين تأتي؟ فقلت : من مكان يقرأ فيه كلام الله فقال لي : اقرأ لي منه ، فقرأت له آيات من سورة الذاريات حتّى بلغت( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ ) فقال كفى. ثمّ نهض وعمد إلى بعير عنده فنحره وقسّم لحمه على المحتاجين من الذاهبين والآئبين ثمّ عمد إلى سيفه وقوسه فكسّرهما أيضا وألقاهما جانبا واستدار إلى الوراء ومضى وانتهت هذه القصّة!.

وحين مضيت إلى حجّ بيت الله الحرام بمعيّة هارون الرشيد وكنت مشغولا في الطواف إذا أنا برجل يناديني بصوت ضعيف فنظرت فإذا هو ذلك الأعرابي وكان نحيلا مصفّر الوجه «وكان يظهر عليه العشق الملتهب الذي لم يدع له قرارا» فسلّم عليّ وطلب منّي أن أعيد عليه سورة الذاريات فلمّا بلغت الآية آنفة الذكر صرخ : وقال وجدنا وعد ربّنا حقّا ثمّ أضاف هل هناك آية بعدها؟! فقرأت فورب السماء والأرض أنّه لحقّ : فصرخ ثانية وقال يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتّى حلف ليصدّقوه بقوله حتّى ألجأوه إلى اليمين(١) .

٢ ـ أين الجنّة؟!

كما ذكرنا في الآيات آنفة الذكر فإنّ بعض المفسّرين يرى أنّ جملة( وَما تُوعَدُونَ ) معناها الجنّة. وقالوا : يستفاد من هذه الآية أنّ الجنّة في السماء ، إلّا أنّ هذا الكلام لا ينسجم مع الآية التي تتحدّث عن الجنّة فتقول :( عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) (٢)

وكما قلنا ـ إنّ هذا التّفسير لجملة( وَما تُوعَدُونَ ) لا دليل عليه ، بل يمكن أن يكون إشارة إلى وعد الله برزقه أو عذاب السماء.

وإذا كان في الآية (١٥) من سورة النجم قد ورد أنّ جنّة المأوى في السماء عند سدرة المنتهى فليس ذلك دليلا على هذا المعنى ، لأنّ «جنّة المأوى» قسم من

__________________

(١) تفسير الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٢) آل عمران ، الآية ١٣٣.

٩٤

بساتين الجنّة لا جميع الجنّة (فلاحظوا بدقّة).

٣ ـ الاستفادة من آيات الله تحتاج إلى قابلية!

حين تتحدّث آيات القرآن عن أسرار الخلق ودلائل الله في عالم الوجود تقول تارة أنّ في ذلك( لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) يونس الآية ٦٧.

وتارة تقول :( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الرعد الآية ٣.

واخرى تقول :( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) الرعد الآية ٤.

أو تقول :( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) النحل الآية ٧٩.

وفي مكان آخر تقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى ) سورة طه الآية ٥٤.

وتارة تقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) الحجر الآية ٧٥.

وأخيرا تقول :( لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ ) الروم الآية ٢٢.

والآيات محلّ البحث تقول :( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ؟!

أي إنّ آيات الله في الأرض وفي أنفسكم واضحة جليّة لأولئك الذين لهم بصر ثاقب.

وهذه التعبيرات تدلّ دلالة واضحة على أنّ الاستفادة من الآيات التي لا تحصى ـ الدالّة على وجود ذاته المقدّسة في الأرض تحتاج إلى استعداد كاف ، عين باصرة ، اذن سميعة ، فكر يقظ ، قلب ذكي وروح مهيّأة لقبول الحقائق متعطّشة لها وإلّا فمن الممكن أن يعيش الإنسان سنين بين هذه الآيات إلّا أنّ مثله كمثل الحيوانات التي همّها علفها.

٤ ـ الرزق حقّ

من جملة الأمور التي يحكمها نظام دقيق هي «مسألة الرزق» التي أشير إليها في الآيات محلّ البحث إشارات واضحة.

٩٥

صحيح أنّ الاستفادة من مواهب الحياة مشروطة بالجدّ والسعي والمثابرة وأنّ الكسل والخنوع مدعاة للتأخّر والحرمان من الحياة إلّا أنّه من الخطأ البيّن أن نتصوّر أنّ رزق الإنسان يزداد بالحرص والولع والأعمال الكثيرة وأنّ رزقه يقلّ بالتعفّف والتجلّد وما إلى ذلك.

ونلاحظ في الأحاديث الإسلامية تعابير طريفة في هذا المجال : ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ الرزق لا يجرّه حرص حريص ولا يصرفه كره كاره»(١) .

وفي حديث آخر عن الصادقعليه‌السلام جوابا على بعض أصحابه وقد طلب منه أن يعظه وينصحه فقالعليه‌السلام «... وإن كان الرزق مقسوما فالحرص لماذا»(٢) ؟!

والهدف من بيان هذه الأحاديث ليس هو الوقوف بوجه الجدّ والسعي بل هو تنبيه الحريصين أن يلتفتوا إلى أنّ رزقهم مقدّر ليرتدعوا عن حرصهم!.

وهنا لطيفة جديرة بالالتفات وهي أنّ الرّوايات الإسلامية ذكرت أمورا كثيرة على أنّها مدعاة للرزق أو مانعة له ، وكلّ منها مهمّ في نفسه!

نقرأ عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «والذي بعث جدّي بالحقّ نبيّا انّ الله تبارك وتعالى يرزق العبد على قدر المروءة وأنّ المعونة تنزل على قدر شدّة البلاء»(٣) .

وعنهعليه‌السلام أنّه قال : «كفّ الأذى وقلّة الصخب يزيدان في الرزق»(٤) . كما نقل عن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «التوحيد نصف الدين واستنزل الرّزق بالصدقة»(٥) .

وهناك امور أخر ذكرت على أنّها مدعاة لزيادة للرزق كتنظيف نواحي البيت وغسل الأواني وتنظيفها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٢٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٢٥ الحديث ٣١.

(٤) المصدر السابق ، ص ١٢٦ (الحديثان ٣٥ و٣٧).

(٥) المصدر السابق.

٩٦

الآيات

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) )

التّفسير

ضيوف إبراهيمعليه‌السلام

من هذا المقطع ـ فما بعد ـ يتحدّث القرآن في هذه السورة عن قصص الأنبياء الماضين والأمم المتقدّمة تأكيدا وتأييدا للموضوع آنف الذكر وما حواه من مسائل ، وأوّل جانب يثيره هذا المقطع هو قصّة الملائكة الذين جاءوا لعذاب قوم لوط ، ومرّوا على إبراهيمعليه‌السلام على صورة بشر ، ليبشّروه بالولد ، مع أنّ إبراهيم بلغ سنّا كبيرا فهو في مرحلة المشيب وامرأته كانت عقيما كذلك!

٩٧

فمن جهة يعدّ إعطاء هذا الولد لإبراهيم وزوجه وهما في مرحلة الكبر واليأس من الإنجاب تأكيدا على كون الأرزاق مقدّرة كما أشير إلى ذلك في الآيات المتقدّمة.

ومن جهة اخرى يعدّ دليلا آخر على قدرة الحقّ وآية من آيات معرفة الله التي ورد البحث عنها في الآيات آنفا.

ومن جهة ثالثة يعدّ بشرى للأمم المؤمنة بأنّها في رعاية الحقّ ـ كما أنّ الآيات التالية تتحدّث عن عذاب قوم لوط وهي في الوقت ذاته تهديد للمجرمين.

ففي البدء يوجّه الله سبحانه الخطاب لنبيّه فيقول :( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) (١) .

والتعبير بـ «المكرمين» إمّا لأنّ هؤلاء الملائكة كانوا مأمورين من قبل الحقّ ، وقد ورد التعبير عنهم في الآية (٢٦) من سورة الأنبياء أيضا بمثل هذا ـ( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ) أو لأنّ إبراهيمعليه‌السلام أكرمهم ، أو للوجهين معا.

ثمّ يبيّن القرآن حالهم فيقول :( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) (٢) .

قال بعضهم : جملة أنّهم «قوم منكرون» لم يصرّح بها إبراهيم ، بل حدّث بها نفسه لأنّ هذا الكلام لا ينسجم مع وافر الاحترام للضيف الكرام.

إلّا أنّه كما هو المعتاد قد يقول المضيّف للضيف في حال الاحترام والترحيب : «لا أدري أين التقيت بك من قبل ـ أو يبدو انّك غريب ..»

__________________

(١) «الضيف» له معنى وصفي ، ويطلق على المفرد كما يطلق على الجمع أيضا ولذلك فقد وصف بالمكرمين ، وما قاله بعضهم إنّه مصدر ولا يثنّى ولا يجمع فلا يبدو صحيحا. ولكن كما يقول الزمخشري في الكشّاف حيث إنّه كان في الأصل مصدرا وبعد أن أصبح ذا معنى وصفي فإنّه استعمل في المفرد والجمع معا ، فلاحظوا بدقّة.

(٢) سلاما منصوب بفعل محذوف وتقديره : نسلّم عليكم سلاما : أمّا سلام فهو مبتدا وخبره محذوف وأصله عليكم سلام أو سلام عليكم فكأنّ إبراهيم أراد أن يحيّهم بأحسن من تحيّتهم ، لأنّ الجملة الاسمية تدلّ على الثبات والدوام تفسير الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٤٠١.

٩٨

فبناء على هذا يمكن التمسّك بظاهر الآية وأنّ إبراهيم قال هذا الكلام صراحة وإن كان الاحتمال الأوّل غير بعيد. خاصّة أنّ «الضيف» لم يردّوا على هذا الكلام ، ولو كان إبراهيم قال مثل هذا الكلام صراحة ، فلا بدّ أن يجيبوه.

وعلى كلّ حال فإنّ إبراهيم أدّى ما عليه من حقّ الضيافة( فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) .

والفعل «راغ» كما يقول الراغب في مفرداته مشتقّ من «روغ» ـ على وزن «شوق» ـ ومعناه التحرّك مقرونا بخطّه خفيّة ، لأنّ إبراهيم فعل «كذلك» وقام بذلك خفاء لئلّا يلتفت الضيف فلا يقبلوا بضيافته التي تستلزم نفقة كثيرة! إلّا أنّه لم هيّأ إبراهيم طعاما كثيرا؟ مع أنّ ضيفه كانوا كما يقول بعض المفسّرين «ثلاثة» وقال بعضهم : كانوا اثني عشر ـ وهذا أقصى ما قاله بعض المفسّرين(١) ـ.

فذلك لأنّ الكرماء لا يهيّؤون الطعام بمقدار الضيف فحسب ، بل يهيّؤون طعاما يستوعب حتّى العمّال ليشاركوهم في الأكل ، وربّما أخذوا بنظر الإعتبار حتّى الجار والأقارب فعلى هذا لا يعدّ مثل هذا الطعام الذي هيّأه إبراهيم إسرافا ، ويلاحظ هذا المعنى في يومنا هذا عند بعض العشائر التي تعيش على طريقتها القديمة.

و «العجل» على وزن «طفل» معناه ولد البقر «وما يراه بعضهم أنّه الخروف فلا ينسجم مع متون اللغة»! وهذه الكلمة مأخوذة في الأصل من العجلة ، لأنّ هذا الحيوان في هذه السنّ وفي هذه المرحلة يتحرّك حركة عجلى ، وحين يكبر تزول عنه هذه الصفة تماما.

و «السمين» معناه المكتنز لحمه ، وانتخاب مثل هذا العجل إنّما هو لإكرام الضيف وليسع المتعلّقين والأكلة الآخرين!

__________________

(١) اقتباس عن روح البيان وحاشية تفسير الصافي ذيل الآيات محلّ البحث.

٩٩

وفي الآية التاسعة والستّين من سورة هود جاء وصف هذا العجل بأنّه «حنيذ» أي مشويّ ، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث لم تذكر شيئا عن هذا العجل ، إلّا أنّه لا منافاة بين التعبيرين.

ثمّ تضيف الآية بالقول عن إبراهيم وضيفه( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ) إلّا أنّه لاحظ أنّ أيديهم لا تصل إلى الطعام فتعجّب و( قالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) .

وكان إبراهيم يتصوّر أنّهم من الآدميين( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) لأنّه كان معروفا في ذلك العصر وفي زماننا أيضا بين كثير من الناس الملتزمين بالتقاليد العرفية ، أنّه متى ما أكل شخص من طعام صاحبه فلن يناله أذى منه ولا يخونه ولذلك فإنّ الضيف إذا لم يأكل من طعام صاحبه ، يثير الظنّ السيء بأنّه جاء لأمر محذور ، وقد قيل على سبيل المثل في لغة العرب : من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك»!

و «الإيجاس» مشتقّ من وجس ـ على وزن مكث ـ ومعناه في الأصل الصوت الخفي ومن هنا فقد أطلق الإيجاس على الإحساس الداخلي والخفي ، فكأنّ الإنسان يسمع صوتا داخله وحين يقترن الإيجاس بالخيفة يكون معناه الإحساس بالخوف.

وهنا قال له الضيف كما ورد في الآية (٧٠) من سورة هود طمأنة له فـ( قالُوا لا تَخَفْ ) .

ويضيف القرآن :( وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) .

وبديهي أنّ الغلام عند ولادته لا يكون عليما ، إلا أنّه من الممكن أن يكون له استعداد بحيث يكون في المستقبل عالما كبيرا والمراد به هنا هو ذلك المعنى!.

وهذا الغلام من هو؟ هل هو إسحاق أم إسماعيل؟! هناك أقوال بين المفسّرين وإن كان المشهور أنّه إسحاق واحتمال كونه إسماعيل ـ مع ملاحظة الآية (٧١) من سورة هود التي تقول فبشّرناها بإسحاق ـ يبدو غير صحيح ، فبناء على ذلك ليس

١٠٠

من شكّ أنّ المرأة التي يأتي ذكرها في الآيات التالية هي سارة زوج إبراهيم وولدها هذا هو إسحاق!

( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) ونقرأ في الآية (٧٢) من سورة هود قوله تعالى :( قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً )

فبناء على هذا فصراخها كان صراخ تعجّب مقرون بالسرور ، وكلمة «صرّة» مشتقّة من الصرّ على وزن الشرّ ، ومعناه في الأصل الشدّ والارتباط ، كما يطلق على الصوت العالي والصراخ والجماعة المتراكمة لأنّها ذات شدّة وارتباط.

ويطلق على الريح الباردة «صرصر» لأنّها تصرّ الإنسان و «الصرورة» كلمة تطلق على من لم يحجّ رجلا كان أو امرأة! كما تطلق على من لم يرغب في الزواج [منهما] لأنّ في ذلك نوعا من الامتناع أو الارتباط ، والصرّة في الآية محلّ البحث معناها هو الصوت العالي الشديد.

أمّا «صكّت» فمشتقّة من مادّة صكّ على وزن شكّ ـ ومعناها الضرب الشديد أو الضرب ، والمراد منها هنا هو أنّ امرأة إبراهيم حين سمعت بالبشرى ضربت بيدها على وجهها ـ كعادة سائر النساء ـ تعجّبا وحياء!

وطبقا لما يقول بعض المفسّرين وما ورد في سفر التكوين فإنّ امرأة إبراهيم كانت آنئذ في سنّ التسعين وإبراهيم نفسه كان في سنّ المائة عاما أو أكثر.

إلّا أنّ الآية التالية تنقل جواب الملائكة لها فتقول :( قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) .

فبالرغم من كونك امرأة عجوزا وبعلك مثلك شيخا إلّا أنّ أمر الله إذا صدر في شيء ما فلا بدّ أن يتحقّق دون أدنى شكّ!.

حتّى خلق العالم الكبير كعالمنا هذا إنّما هو عليه سهل إذ تمّ بقوله : كن فكان! والتعبير بـ «الحكيم» و «العليم» إشارة إلى أنّه لا يحتاج إلى الإخبار بكونك

١٠١

امرأة عقيما عجوزا وبعلك شيخا ، فالله يعرف كلّ هذه الأمور ، وإذا لم يرزقك حتّى الآن ولدا وأراد أن يهبك في هذه السنّ ولدا فإنّما هو لحكمته!

الطريف أنّنا نقرأ في الآية (٧٣) من سورة هود أنّ الملائكة قالوا لها :( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) .

ووجود الفرق بين هذين التعبيرين هو لأنّ الملائكة قالوا كلّ ذلك لسارة منتهى الأمر أنّ قسما منه أشارت إليه سورة هود ، وهنا إشارة إلى القسم الآخر ، ففي سورة هود جاء الكلام عن «رحمة الله وبركاته» وهما يتناسبان مع كونه حميدا مجيدا.

أمّا هنا فالكلام على علمه بعدم استعداد هذين الزوجين للإنجاب والولد ويأس المرأة بحسب الأسباب الطبيعية «الظاهرية» ويتناسب مع هذا الكلام أن يقال أنّه هو العلم ، وإذ سئل لم لم يرزقهما في فترة الشباب ولدا. فيقال : أنّ في ذلك حكمة وهو الحكيم سبحانه.

* * *

ملاحظة

كرم الأنبياء :

كثيرا ما يظنّ الممسكون البخلاء أنّ السخاء والنظرة البعيدة ضرب من الإفراط والإسراف والتبذير ، والتشدّد وضيق النظرة نوع من الزهد والتدبير!! والقرآن يكشف عن هذه الحقيقة في هذه الآيات والآيات التي مرّت في سورة هود ، وهي أنّ الضيافة بسعتها وبشكلها المعقول ليست مخالفة للشرع ، بل طالما قام النّبي بمثل هذا العمل ، فهو دليل على أنّ هذا الأمر محبوب ، وبالطبع فإنّ ضيافة كهذه الضيافة التي تستوعب الآخرين إنّما هي سنّة الكرماء الشرفاء.

والله سبحانه لم يحرّم التمتّع بمواهب الحياة وكون الإنسان ذا مال حلال كما

١٠٢

كان إبراهيم ـ فلا ضير أن يتصرّف بماله كما فعل إبراهيمعليه‌السلام أيضا.

فإبراهيم مع كونه ثريّا ذا مال لم يغفل عن ذكر الله لحظة واحدة ولم يكن قلبه أسير ثروته ولم يجعل منافعه منحصرة به وحده.

يقول القرآن في الآية ٣٢ من سورة الأعراف :( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

وفي هذا الصدد كان لنا بحث مفصّل ذيل الآية ٣٢ من سورة الأعراف «فلا بأس بمراجعته هناك».

* * *

١٠٣

بداية الجزء السابع والعشرون

١٠٤
١٠٥

ب دای ة الجزء السابع والعشرون

من

القرآن الكريم

١٠٦

الآيات

( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) )

التّفسير

مدن قوم لوط المدمرة آية وعبرة :

تعقيبا على ما سبق من الحديث عن الملائكة الذين حلّوا ضيفا على إبراهيم وبشارتهم إيّاه في شأن الولد «إسحاق» تتحدّث هذه الآيات عمّا دار بينهم وبين إبراهيم في شأن قوم لوط.

توضيح ذلك أنّ إبراهيم بعد ما ابعد إلى الشام واصل دعوة الناس إلى الله ومواجهته لكلّ أنواع الشرك وعبادة الأصنام وقد عاصر إبراهيم الخليل «لوط» أحد الأنبياء العظام ويحتمل أنّه كان مأمورا من قبله بتبليغ الناس وهداية الضالّين ، فسافر إلى بعض مناطق الشام «أي مدن سدوم» فحلّ في قوم مجرمين ملوّثين

١٠٧

بالشرك والمعاصي الكثيرة ، وكان أقبحها تورّطهم في الانحراف الجنسي واللواط ، وأخيرا فقد أمر رهط من الملائكة بعذابهم وهلاكهم إلّا أنّهم مرّوا بإبراهيم قبل إهلاكهم.

وقد عرف إبراهيم من حال الضيف (الملائكة) أنّهم ماضون لأمر مهمّ ، ولم يكن هدفهم الوحيد البشرى بتولّد إسحاق ، لأنّ واحدا منهم كان كافيا لمهمّة «البشارة». أو لأنّهم كانوا عجلين فأحسّ بأنّ لديهم «مأمورية» مهمّة.

لذلك فإنّ أوّل آية من الآيات محلّ البحث تحكي بداية المحاورة فتقول :( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) (١) .

فأماط الملائكة اللثام عن «وجه الحقيقة» ومأموريتهم فـ( قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) .

إنّهم قوم متلوّثين ـ إضافة إلى عقيدتهم الفاسدة ـ بأنواع الآثام والذنوب المختلفة المخزية القبيحة(٢) .

ثمّ أضافوا قائلين :( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ) والتعبير بـ «حجارة من طين» هو ما أشارت إليه الآية ٨٢ من سورة هود بالقول من «سجّيل» وسجّيل كلمة فارسية الأصل مأخوذ من (سنگ+ گل) ثمّ صارت في العرب سجّيل ، فهي ليست صلبة كالحجر ولا رخوا كالورد ، ولعلّها في المجموع إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ هلاك قوم لوط المجرمين لم يكن يستلزم إنزال أحجار عظيمة وصخور وجلاميد من السماء ، بل كان يكفي أن يمطروا بأحجار صغيرة ليست صلبة جدّا كأنّها حبّات «المطر».

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ «خطب» لا يطلق على كلّ عمل ، بل هو خاصّ في الأمور والأعمال المهمّة في حين أنّ كلمات مثل عمل ، شغل ، أمر ، فعل ، لها معان عامّة.

(٢) ينبغي الالتفات إلى أنّه في سورة هود جاء التعبير هكذا : إنّا أرسلنا إلى قوم لوط ، وهذا التفاوت في التعابير بين الآيات محلّ البحث وآيات سورة هود هو لأنّ كلا من الآيات يذكر قسما ممّا جرى وبتعبير آخر هذه المسائل كلّها واقعة ، غاية ما في الأمر أنّ بعضها مذكور في الآيات محلّ البحث وبعضها في الآيات الآنفة من سورة هود.

١٠٨

ثمّ أضاف الملائكة قائلين :( مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ) كلمة مسوّمة تطلق على ما فيه علامة ووسم ، وهناك أقوال بين المفسّرين في كيفية أنّها «مسوّمة»؟!

قال بعضهم إنّها كانت في شكل خاصّ يدلّ على أنّها ليست أحجارا كسائر الأحجار الطبيعية ، بل كانت وسيلة للعذاب.

وقال جماعة كان لكلّ واحدة منها علامة وكانت لشخص معيّن وعلامتها في نقطة خاصّة ليعلم الناس أنّ عقاب الله في منتهى الدقّة بحيث يعلم من هذه الأحجار المسوّمة أنّ أيّ مجرم ينال واحدة منها فيهلك بها.

كلمة «المسرفين» إشارة إلى كثرة ذنوبهم بحيث تجاوزت الحدّ وخرقوا أستار الحياء والخجل ، ولو قدّر لبعض الدارسين أن يتفحّص حالات قوم لوط وأنواع ذنوبهم للاحظ أنّ هذا التعبير في حقّهم ذو مغزى كبير(١) .

وكلّ إنسان من الممكن أن يقع في الذنب أحيانا ، فلو تيقّظ بسرعة وأصلح نفسه يرتفع الخطر ، وإنّما يكون خطيرا حين يبلغ حدّ الإسراف!.

ويكشف هذا التعبير عن مطلب مهمّ آخر ، وهو أنّ هذه الحجارة السماوية التي أعدت لتنزل على قوم لوط لا تختّص بهؤلاء القوم ، بل معدّة لجميع المسرفين والعصاة المجرمين.

والقرآن هنا يكشف عمّا جرى لرسل الله إلى نبيّه لوط على أنّهم حلّوا ضيفا عنده ، وقد تبعهم قوم لوط بلا حياء ولا خجل ظنّا منهم أنّهم غلمان نضرون ليقضوا منهم وطرهم!! إلّا أنّهم سرعان ما أحسّوا بخطئهم فإذا هم عمي العيون ، فيذكر قول الله فيهم(٢) ( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ

__________________

(١) يراجع ذيل الآية (٨١) من سورة هود.

(٢) الجدير بالنظر أن في سورة هود بيانا لهذه القصة لكن التعابير فيها تدل بوضوح أن لقاء الملائكة لإبراهيم كان قبل

١٠٩

الْمُسْلِمِينَ ) .

أجل فنحن لا نحرق الأخضر واليابس معا ، وعدالتنا لا تسمح أن يبتلى المؤمن بعاقبة الكافر حتّى ولو كان بين آلاف الآلاف من الكافرين رجل مؤمن طاهر لأنجيناه!

وهذا هو ما أشارت إليه الآيتان ٥٩ و٦٠ من سورة الحجر بالقول :( إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) .

ونقرأ في سورة هود الآية ٨١ مثله :( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ) .

أمّا في سورة العنكبوت فقد وردت الإشارة في الآية (٣٢) كما يلي :( قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

كما أنّ هذا الموضوع ذاته مشار إليه في الآية (٨٣) من سورة الأعراف :( فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

وكما تلاحظون ، أنّ هذا القسم من قصّة قوم لوط ورد في هذه السور الخمس في عبارات مختلفة وجميعها يتحدّث عن حقيقة واحدة إلّا أنّه حيث يمكن أن ينظر إلى حادثة ما من زوايا متعدّدة وكلّ زاوية لها بعدها الخاصّ فإنّ القرآن ينقل الحوادث التاريخية ـ على هذه الشاكلة ـ غالبا ، والتعابير المختلفة في الآيات المتقدّمة شاهدة على هذا المعنى.

أضف إلى ذلك أنّ القرآن كتاب تربوي وإنساني ـ وفي مقام التربية يلزم أحيانا أن يعول على مسألة مهمّة مرارا لتترك أثرها العميق في ذهن القارئ غاية ما في الأمر ينبغي أن يكون هذا التكرار بتعابير طريفة ومثيرة ومختلفة لئلّا

__________________

معاقبة قوم لوط وهلاكهم مع أنّ الآيات محلّ البحث فيها تعابير تشير إلى أنّ اللقاء تمّ بعد المعاقبة والجزاء ، وطريق الحلّ هو أن نقول أنّ الآيات الوارد ذكرها آنفا إلى قوله : «مسوّمة عند ربّك للمسرفين» هي كلام الملائكة ، وأمّا الآيات الثلاث بعدها فقول الله يخاطب نبيّه والمسلمين يتحدّث عنها على أنّها قصّة وقعت فيما مضى «فلاحظوا بدقّة»!

١١٠

يقع السأم ويملّ الإنسان ، وأن يكون الأسلوب فصيحا بليغا!.

«ولمزيد التوضيح في شأن ضيف إبراهيم وما دار بينهم وبينه ثمّ عاقبة قوم لوط المرّة يراجع ذيل الآيات ٨٣ من سورة الأعراف و٨١ من سورة هود و٥٩ و٦٠ من سورة الحجر و٣٢ من سورة العنكبوت».

وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه زلزل مدن قوم لوط وقلب عاليها سافلها ثمّ أمطرها بحجارة من سجّيل منضود ولم يبق منها أثرا حتّى أنّ أجسادهم دفنت تحت الأنقاض والحجارة! لتكون عبرة لمن يأتي بعدهم من المجرمين والظالمين غير المؤمنين.

ولذلك فإنّ القرآن يضيف قائلا في آخر آية من الآيات محلّ البحث :( وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) .

وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ من يعتبر ويتّعظ بهذه الآيات هم الذين لديهم استعداد للقبول في داخل كيانهم ويحسّون بالمسؤولية.

* * *

بحث

أين تقع مدن قوم لوط؟

من المسلّم به أنّ إبراهيم الخليل جاء إلى الشام بعد أن هاجر من العراق و «بابل» ويقال أنّ لوطا كان يقطن معه إلّا أنّه بعد فترة توجّه نحو «سدوم» ليدعو إلى التوحيد ويكافح الفساد.

و «سدوم» واحدة من مدن قوم لوط وأحيائهم التي كانت من بلاد الأردن على مقربة من البحر الميّت وكانت أرضها خصبة كثيرة الأشجار ، إلّا أنّ هذه الأرض بعد نزول العذاب الإلهي على هؤلاء الظالمين من قوم لوط قلب عاليها سافلها وتهدّمت مدنها وسمّين بالمؤتفكات «أي المقلوبات».

١١١

وذهب بعضهم أنّ آثار هذه المدن الخربة غرقت في الماء ويزعمون أنّهم رأوا في زاوية من البحر الميّت أعمدتها وآثارها وخرائبها الاخرى.

وما نقرؤه في بعض التفاسير الإسلامية هو أنّ المراد من جملة «وتركنا فيها آية» هو المياه العفنة والمستنقعات التي غطّت أماكن هذه المدن ، ولعلّه إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّه بعد الزلازل الشديدة وانشقاق الأرض انفتح طريق من البحر الميّت نحو هذه الأرض فغرقت جميع آثارها تحت الماء.

في حين أنّ بعضهم يعتقد أنّ مدن لوط لم تغرق بعد وما تزال على مقربة من البحر الميّت منطقة مغطّاة بالصخور السود ويحتمل أن تكون هي محلّ مدن قوم لوط!

وقيل أنّ مركز إبراهيم كان في مدينة «حبرون» على فاصلة غير بعيدة من «سدوم» وحين نزل العذاب والصاعقة من السماء أو الزلزلة في الأرض واحترقت «سدوم» كان إبراهيم واقفا قريبا من حبرون وشاهد دخان تلك المنطقة المتصاعد في الفضاء بامّ عينيه(١) !.

ومن مجموع هذه الكلمات تتّضح الحدود التقريبية لهذه المدن وإن كانت جزئياتها ما تزال وراء ستار الإبهام باقية.

* * *

__________________

(١) مقتبس من كتاب القاموس المقدّس.

١١٢

الآيات

( وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) )

التّفسير

دروس العبرة من الأقوام السالفة :

يتحدّث القرآن في هذه الآيات محلّ البحث ـ تعقيبا على قصّة قوم لوط وعاقبتهم الوخيمة ـ عن قصص أقوام آخرين ممّن مضوا في العصور السابقة.

فيقول أوّلا :( وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

١١٣

«السلطان» ما يكون به التسلّط ، والمراد به هنا المعجزة أو الدليل والمنطق العقلي القويّ أو كلاهما ، وقد واجه موسى فرعون بهما.

والتعبير بـ( بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) جاء في آيات القرآن المتعدّدة والمختلفة كثيرا وغالبا ما يراد منه الدليل المنطقي البيّن والواضح إلّا أنّ فرعون لم يسلّم لمعجزات موسى الكبرى التي كانت شاهدا على ارتباطه بالله ولم يطأطئ رأسه للدلائل المنطقية بل بقي مصرّا لما كان فيه من غرور وتكبّر( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) .

«الركن» في الأصل القاعدة الأساسية أو الاسطوانة(١) والقسم المهمّ من كلّ شيء ، وهو هنا لعلّه إشارة إلى أركان البدن ، أي أنّ فرعون أدار ظهره لموسى تماما!

وقال بعضهم المراد بالركن هنا جيشه ، أي أنّه اعتمد على أركان جيشه وتولّى عن رسالة الحقّ. أو أنّه صرف نفسه عن أمر الله وصرف أركان حكومته ـ وجيشه جميعا عن ذلك أيضا(٢) .

والطريف أنّ الجبابرة المتكبّرين حين كانوا يتّهمون الأنبياء بالكذب والافتراء كانوا يتناقضون تناقضا عجيبا. فتارة يتّهمونهم بأنّهم سحرة ، واخرى بأنّهم مجانين ، مع أنّ الساحر ينبغي أن يكون ذكيّا وأن يعوّل على مسائل دقيقة ويعرف نفوس الناس حتّى يسحرهم ويخدعهم بها والمجنون بخلافه تماما.

إلّا إنّ القرآن يخبر عن فرعون الجبّار وأعوانه بقوله :( فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ) .

«اليمّ» : كما هو مذكور في كتب اللغة وكتب الأحاديث يطلق على البحر ، كما

__________________

(١) الأسطوانة معربة عن كلمة ستون الفارسية.

(٢) فتكون الباء في بركنه حسب التّفسير الأوّل للمصاحبة ، وحسب التّفسير الثاني للسببية ، وحسب التّفسير الثالث للتعدية

١١٤

يطلق على الأنهار العظيمة كالنيل مثلا(١)

جملة «فنبذناهم» إشارة إلى أنّ فرعون وجنوده كانوا في درجة من الضعف أمام قدرة الله بحيث ألقاهم في اليمّ كأنّهم موجود لا قيمة ولا مقدار له.

والتعبير بـ( وَهُوَ مُلِيمٌ ) إشارة إلى أنّ العقاب الإلهي لم يمحه فحسب بل التاريخ من بعده يلومه على أعماله المخزية ويذكرها بكلّ ما يشينه ويلعنه ويفضح غروره وتكبّره بإماطة النقاب عنهما.

ثمّ يتناول القرآن عاقبة قوم آخرين بالذكر وهم «قوم عاد» فيقول :( وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) .

وكون الريح عقيما هو عند ما تأتي الريح غير حاملة معها السحب الممطرة ، ولا تلقح النباتات ولا تكون فيها أيّة فائدة ولا بركة وليس معها إلّا الدمار والهلاك!

ثمّ يذكر القرآن سرعة الريح المسلّطة على عاد فيقول :( ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) .

«الرميم» مأخوذ من الرمّة على زنة (المنّة) ـ وهي العظام النخرة البالية.

والرمّة ـ على وزن القبّة ـ هي الحبل المتآكل أو الخيط البالي والرّم(٢) على وزن الجنّ ـ ما يسقط من الخشب أو التبن على الأرض و «الترميم» معناه إصلاح الأشياء المتآكلة(٣) !

وهذا التعبير يدلّ على أنّ سرعة الريح المسلّطة على قوم عاد لم تكن سرعة طبيعيّة ، بل إضافة إلى تخريبها البيوت وهدمها المنازل ، فهي محرقة وذات سموم

__________________

(١) المراد بالمليم ذو الملامة ـ فهو اسم فاعل من اللوم وبابه الأفعال [الام يليم] أي هو الشخص الذي يرتكب عملا يكون بنفسه ملامة مثل المغرب الذي يأتي بالعجيب الغريب ولمزيد التوضيح في قصّة موسى وفرعون يراجع ذيل الآية ١٣٦ من سورة الأعراف.

(٢) راجع : المفردات للراغب مادّة رمّ.

(٣) راجع : لسان العرب والمفردات مادّة رمّ.

١١٥

ممّا جعلت كلّ شيء رميما.

أجل ، هذه قدرة الله التي تدمّر القوم الجبّارين بسرعة الريح المذهلة فلا تبقي منهم ومن ضجيجهم وصخبهم وغرورهم إلّا أجسادا تحوّلت رميما.

وهكذا أشارت الآية آنفة الذكر إشارة عابرة عن عاقبة قوم «عاد» الأثرياء الأقوياء الذين كانوا يقطنون الأحقاف وهي منطقة «ما بين عمان وحضرموت» ثمّ تصل النوبة إلى ثمود قوم صالح إذ أمهلهم الله قليلا ليتلقوا العذاب بعد ذلك فيقول الله فيهم :( وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ) .

والمراد بـ( حَتَّى حِينٍ ) هو الأيّام الثلاثة المشار إليها في الآية (٦٥) من سورة هود إمهالا لهم :( فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) .

ومع أنّ الله قد أنذرهم بواسطة نبيّهم «صالح»عليه‌السلام مرارا إلّا أنّه إتماما للحجّة أمهلهم ثلاثة أيّام فلعلّهم يتداركون ما فرطوا في ماضيهم الأسود ويغسلوا صدأ الذنوب ـ بماء التوبة ـ عن قلوبهم وأرواحهم.

بل كما يقول بعض المفسّرين : ظهرت خلال الأيّام الثلاثة بعض التغيّرات في أبدانهم إذ صارت صفراء ثمّ حمرا ثمّ تحوّلت سودا لتكون نذيرا لهؤلاء القوم المعاندين ، إلّا أنّهم وللأسف لم يؤثّر فيهم أي شيء من هذه الأمور ولم ينزلوا عن مركب غرورهم.

أجل :( فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ) .

كلمة «عتوا» مشتقّة من العتوّ ـ على وزن غلوّ ـ ومعناه الإعراض «بالوجه» ، والانصراف عن طاعة الله ، والظاهر أنّ هذه الجملة إشارة إلى ما كان منهم من إعراض طوال الفترة التي دعاهم فيها نبيّهم صالح كالشرك وعبادة الأوثان والظلم وعقرهم الناقة التي كانت معجزة نبيّهم ، لا الإعراض الذي كان منهم خلال الأيّام الثلاثة فحسب ، وبدلا من أن يتوبوا وينيبوا غرقوا في غرورهم وغفلتهم.

١١٦

والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف :( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (١)

والصاعقة والصاقعة كلّا اللفظين بمعنى واحد تقريبا ، وأصلهما الهوّي المقرون بالصوت الشديد ، مع تفاوت بينهما ، وهو أنّ الصاعقة تطلق على ما يقع في الأشياء السماوية والصاقعة في الأشياء فوق الأرض.

وكما يقول بعض أهل اللغة فإنّ «الصاعقة» تعني الموت حينا أو العذاب أو النار حينا آخر ، وهذه الكلمة تطلق غالبا على الصوت الشديد الذي يسمع في السماء مقرونا بالنار المهلكة.

وقد أشرنا من قبل أنّ السحب ذات الشحنات الموجبة إذا اقتربت من الأرض التي تحتوي على شحنات سالبة ، يحدث وميض كهربائي شديد من هذين مقرونا بصوت مرعب ونار محرقة يهتزلها مكان الحادث.

وفي القرآن الكريم استعملت هذه الكلمة في الآية (١٩) من سورة البقرة بهذا المعنى بجلاء ، لأنّه بعد أن يتحدّث القرآن عن الصيّب والبرق والرعد يضيف قائلا :( يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ) .

وأخيرا فإنّ آخر جملة تتحدّث عن شأن هؤلاء القوم المعاندين تقول :( فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ) .

أجل : هكذا تدمّر الصاعقة حين تقع على الأرض بصورة مفاجئة ، فلا يستطيع الإنسان أن ينهض من الأرض ، ولا يقدر على الصريخ والإستنصار ، وعلى هذه الحال هلك قوم صالح وكانوا عبرة للآخرين.

أجل : إنّ قوم صالح (ثمود) الذين كانوا من القبائل العربية وكانوا يقطنون «الحجر» وهي منطقة تقع شمال الحجاز مع إمكانات مادية هائلة وثروات طائلة

__________________

(١) الأعراف ، الآية ٧٧.

١١٧

وعمّروا طويلا في قصور مشيّدة اهلكوا بسبب إعراضهم عن أمر الله وطغيانهم وعنادهم والشرك والظلم ، وبقيت آثارهم درسا بليغا من العبر للآخرين.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث إشارة قصيرة إلى عاقبة خامس أمّة من الأمم ، وهي قوم نوح فتقول :( وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) (١) .

و «الفاسق» يطلق على من يخرج على حدود الله وأمره ، ويكون ملوّثا بالكفر أو الظلم أو سائر الذنوب.

والتعبير بـ «من قبل» لعلّه إشارة إلى أنّ قوم فرعون وقوم لوط وعادا وثمود كان قد بلغهم ما انتهى إليه قوم نوح من عاقبة وخيمة ، إلّا أنّهم لم يتنبهوا ، فابتلوا بما ابتلي به من كان قبلهم من قوم نوح!

* * *

تعقيب

١ ـ أوجه عذاب الله!

ممّا ينبغي الالتفات إليه أنّه ورد في الآيات الآنفة الإشارة إلى قصص خمس امم من الأمم المتقدّمة «قوم لوط ، فرعون ، عاد ، ثمود ، وقوم نوح» وقد أشير إلى جزاء أربع من هذه الأمم وما عوقبت به ، إلّا أنّه لم ترد الإشارة في كيفية عقاب قوم نوح.

وحين نلاحظ بدقّة نجد كلّ امّة من الأمم الأربع المتقدّم ذكرها عوقبت بنوع من العناصر الأربعة المعروفة! فقوم لوط عوقبوا بالزلزلة والحجارة (من السماء) أي أنّهم أهلكوا بالتراب ، وقوم فرعون أهلكوا بالماء غرقا ـ وعاد أهلكوا بريح صرصر عاتية (سريعة) وثمود أهلكوا بالصاعقة و «النار».

__________________

(١) هناك حذف في الجملة المتقدّمة وتقديره كما يقول «الزمخشري» في «الكشّاف» وأهلكنا قوم نوح من قبل ، بالرغم من أنّ أهلكنا لم تكن في الآيات المتقدّمة إلّا أنّ هذه الكلمة تستفاد منها بصورة جيّدة.

١١٨

وصحيح أنّ هذه الأشياء الأربعة لا تعدّ اليوم (عنصرا) أي جسما بسيطا ، لأنّ كلّا منها مركب من أجسام أخر ، إلّا أنّه لا يمكن الإنكار أنّها تمثّل أربعة أركان حياة الإنسان المهمّة ، ومتى ما حذف أي منها فلا يمكن أن يواصل الإنسان حياته فكيف بحذف جميعها؟!

أجل إنّ الله سبحانه أهلك هذه الأمم بشيء يعدّ عامل البقاء والحياة الأصيل ولم يستطيعوا بدونه أن يواصلوا الحياة وهذه قدرة (غائية) عجيبة!

وإذا لم نجد بيانا عن ما عوقب به قوم نوحعليه‌السلام خلال السياق ، فلعلّه لأنّهم عوقبوا بمثل ما عوقب به قوم فرعون أي اهلكوا بالغرق (والطوفان) ولم تكن حاجة هنا للتكرار!

٢ ـ الرياح اللواقح والرياح العقيم!

قرأنا في الآيات الآنفة أنّ عادا أهلكوا بالريح العقيم ، ونقرأ في الآية (٢٢) من سورة الحجر( وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً ) ! وبالرغم أنّ هذه الآية ناظرة إلى تلقيح الغيوم واتّصال بعضها ببعض لنزول الغيث إلّا أنّها وبشكل عام تبيّن أثر الرياح في حياة الإنسان أجل إنّ أثرها وعملها التلقيح ، تلقيح الغيوم وتلقيح النباتات ، وحتّى أنّها تؤثّر أحيانا على تهيأة مختلف الحيوانات للتلاقح!

إلّا أنّ هذه الريح حين تحمل الأمر بالعذاب ، فبدلا من أن تهب الحياة تكون عاملا على الهلاك ، وكما يعبّر القرآن في الآية (٢٠) من سورة القمر التي تتكلّم على عاد فتقول :( تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) !

* * *

١١٩

الآيات

( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) )

التّفسير

والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون :

مرّة اخرى تتحدّث هذه الآيات عن موضوع آيات عظمة الله في عالم الخلق ، وهي في الحقيقة تتمّة لما ورد في الآيتين (٢٠) و٢١) من هذه السورة في شأن آياته في الأرض وفي نفس «الإنسان» ووجوده ـ وهي ضمنا دليل على قدرة الله على المعاد والحياة فتقول أوّلا :( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ) .

«الأيد» على وزن الصيد ، معناه القدرة والقوّة ـ وقد تكرّر هذا المعنى في آيات القرآن المجيد ، وهو هنا بمعنى قدرة الله المطلقة العظيمة في خلق السماوات!

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526