الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204305 / تحميل: 6102
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

سبب النّزول

ذكر المفسّرون والمحدّثون والمؤرّخون بصورة مفصّلة سبب نزول هذه الآيات ، وخلاصة ما ذكروه هي ما يلي :

كان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود وهم : «بنو النضير» ، و «بنو قريظة» ، و «بنو قينقاع» ، ويذكر أنّهم لم يكونوا من أهل الحجاز أصلا ، وإنّما قدموا إليها واستقرّوا فيها ، وذلك لما قرءوه في كتبهم العقائدية من قرب ظهور نبي في أرض المدينة ، حيث كانوا بانتظار هذا الظهور العظيم.

وعند ما هاجر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة عقد معهم حلفا بعدم تعرّض كلّ منهما للآخر ، إلّا أنّهم كلّما وجدوا فرصة مناسبة لم يألوا جهدا في نقض العهد.

ومن جملة ذلك أنّهم نقضوا العهد بعد غزوة احد ، التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة.

فقد ذهب «كعب بن الأشرف» زعيم قبيلة «بني النضير» مع أربعين فارسا إلى مكّة ، وهنالك عقد مع قريش حلفا لقتال محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجاء أبو سفيان مع أربعين شخصا ، وكعب بن الأشرف مع أربعين نفرا من اليهود ، ودخلا معا إلى المسجد الحرام ووثقوا العهد في حرم الكعبة ، فعلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك عن طريق الوحي.

والمؤامرة الاخرى هي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل يوما مع شيوخ الصحابة وكبارهم إلى حي بني النضير ، وذلك بحجّة استقراض مبلغ من المال منهم كديّة لقتيلين من طائفة بني عامر ، قتلهما (عمرو بن اميّة) أحد المسلمين ، وربّما كان الهدف من ذلك هو معرفة أخبار اليهود عن قرب حتّى لا يباغت المسلمون بذلك.

فبينما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتحدّث مع كعب بن الأشرف إذ حيكت مؤامرة يهودية لاغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنادى القوم : إنّكم لا تحصلون على هذا الرجل بمثل هذه الحالة وها هو قد جلس بالقرب من حائطكم ، فليذهب أحدكم إلى السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه ، فقام «عمرو بن جحاش» وأبدى

١٦١

استعداده لتنفيذ الأمر ، وذهب إلى السطح لتنفيذ عمله الإجرامي ، إلّا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم عن طريق الوحي بذلك ، فقفل راجعا إلى المدينة دون أن يتحدّث بحديث مع أصحابه ، إلّا أنّ الصحابة تصوّروا أنّ الرّسول سيعود مرّة اخرى ، ولمّا عرفوا فيما بعد أنّ الرّسول في المدينة عاد الصحابة إليها أيضا.

وهنا أصبح من المسلّم لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقض اليهود للعهد ، فأعطى أمرا للاستعداد والتهيّؤ لقتالهم.

وجاء في بعض الروايات أيضا أنّ أحد شعراء بنو النضير هجا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشعر يتضمّن مسّا بكرامة الرّسول وهذا دليل آخر لنقضهم العهد.

وبدأت خطّة المسلمين في مواجهة اليهود وكانت الخطوة الاولى أن أمر رسول الله (محمّد بن سلمة) أن يقتل كعب بن الأشرف زعيم اليهود ، إذ كانت له به معرفة ، وقد نفّذ هذا العمل بعد مقدّمات وقتله.

إنّ قتل كعب بن الأشرف أوجد هزّة وتخلخلا في صفوف اليهود ، عند ذلك أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا للمسلمين أن يتحرّكوا لقتال هذه الفئة الباغية الناقضة للعهد.

وعند ما علم اليهود بهذا لجأوا إلى قلاعهم المحكمة وحصونهم القويّة ، وأحكموا الأبواب ، إلّا أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أن تقلع أشجار النخيل القريبة من القلاع.

لقد أنجز هذا العمل لأسباب عدّة : منها أنّ حبّ اليهود لأموالهم قد يخرجهم من قلاعهم بعد رؤية تلف ممتلكاتهم ، وبالتالي يكون اشتباك المسلمين معهم مباشرة ، كما يوجد احتمال آخر ، وهو أنّ هذه الأشجار كانت تضايق المسلمين في مناوراتهم مع اليهود قرب قلاعهم وكان لا بدّ من أن تقلع.

وعلى كلّ حال ، فقد ارتفع صوت اليهود عند ما شعروا بالضيق ، وهم محاصرون في حصونهم فقالوا : يا محمّد ، لقد كنت تنهى عن هذا ، فما الذي حدا

١٦٢

بك لتأمر قومك بقطع نخيلنا؟

فنزلت الآية (٥) من الآيات محلّ البحث وبيّنت بأنّ هذا العمل هو أمر من اللهعزوجل .

واستمرّت المحاصرة لعدّة أيّام ، ومنعا لسفك الدماء اقترح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم أن يتركوا ديارهم وأراضيهم ويرحلوا من المدينة ، فوافقوا على هذا وحملوا مقدارا من أموالهم تاركين القسم الآخر واستقرّ قسم منهم في «أذرعات الشام» ، وقليل منهم في «خيبر» ، وجماعة ثالثة في «الحيرة» ، وتركوا بقيّة أموالهم وأراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بيد المسلمين بعد أن قاموا بتخريب ما يمكن لدى خروجهم منها.

وقد حدثت هذه الحادثة بعد غزوة (احد) بستّة أشهر ، إلّا أنّ آخرين قالوا : إنّها وقعت بعد غزوة بدر بستّة أشهر(١) .

* * *

التّفسير

نهاية مؤامرة يهود بني النضير :

بدأت هذه السورة بتنزيه وتسبيح الله وبيان عزّته وحكمته ، يقول سبحانه :( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

وهذه في الحقيقة مقدّمة لبيان قصّة يهود بني النضير ، أولئك الذين انحرفوا عن طريق التوحيد ومعرفة الله وصفاته ، وبالإضافة إلى كونهم مغرورين بإمكاناتهم وقدرتهم وعزّتهم ويتآمرون على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

التسبيح العامّ الوارد في الآية لجميع موجودات الأرض والسماء ، أعمّ من

__________________

(١) مجمع البيان وتفسير علي بن إبراهيم وتفسير القرطبي ونور الثقلين (نهاية الآيات مورد البحث) مقتبس باختصار.

١٦٣

الملائكة والبشر والحيوانات والنباتات والجمادات يمكن أن يكون بلسان «القال» ويمكن أن يكون بلسان «حال» هذه المخلوقات حول دقّة النظام المثير للعجب لها في خلق كلّ ذرّة من ذرّات هذا الوجود ، وهو التسليم المطلق لله سبحانه والاعتراف بعلمه وقدرته وعظمته وحكمته.

ومن جهة اخرى فإنّ قسما من العلماء يعتقدون أنّ كلّ موجود في العالم له نصيب وقدر من العقل والإدراك والشعور ، بالرغم من أنّنا لم ندركه ولم نطلع عليه ، وبهذا الدليل فإنّ هذه المخلوقات تسبّح بلسانها ، بالرغم من أنّ آذاننا ليس لها القدرة على سماعها ، والعالم بأجمعه منشغل بحمد الله وتسبيحه وإن كنّا غير مطّلعين على ذلك.

الأولياء الذين فتحت لهم عين الغيب يتبادلون أسرار الوجود مع كلّ موجودات العالم ، ويسمعون نطق الماء والطين بصورة واضحة ، إذ أنّ هذا النطق محسوس من قبل أهل المعرفة. (وهناك شرح أكثر حول هذا الموضوع في تفسير الآية ٤٤ من سورة الإسراء).

وبعد بيان المقدّمة أعلاه نستعرض أبعاد قصّة يهود بني النضير في المدينة حيث يقول سبحانه :( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) .

«حشر» في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرّها إلى ميدان حرب وما إلى ذلك ، والمقصود منه هنا اجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع اليهود ، أو اجتماع اليهود لمحاربة المسلمين ، ولأنّ هذا أوّل اجتماع من نوعه فقد سمّي في القرآن الكريم بأوّل الحشر ، وهذه بحدّ ذاتها إشارة لطيفة إلى بداية المواجهة المقبلة مع يهود بني النضير ويهود خيبر وأمثالهم.

والعجيب أنّ جمعا من المفسّرين ذكروا احتمالات للآية لا تتناسب أبدا مع محتواها ، ومن جملتها أنّ المقصود بالحشر الأوّل ما يقع مقابل حشر يوم القيامة ،

١٦٤

وهو القيام من القبور إلى الحشر ، والأعجب من ذلك أنّ البعض أخذ هذه الآية دليلا على أنّ حشر يوم القيامة يقع في أرض الشام التي ابعد اليهود إليها ، وهذه الاحتمالات الضعيفة ربّما كان منشؤها من وجود كلمة «الحشر» ، في حين أنّ هذه الكلمة لم تكن تستعمل هذا بمعنى الحشر في القيامة ، بل تطلق على كلّ اجتماع وخروج إلى ميدان ما ، قال تعالى :( وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ ) (١) .

وكذلك ما ورد في الاجتماع العظيم لمشاهدة المحاججة التي خاضها موسىعليه‌السلام مع سحرة فرعون حيث يقول سبحانه :( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) (٢) .

ويضيف البارئعزوجل :( ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ) لقد كانوا مغرورين وراضين عن أنفسهم إلى حدّ أنّهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة ، وقدرتهم الماديّة الظاهرية. إنّ التعبير الذي ورد في الآية يوضّح لنا أنّ يهود بني النضير كانوا يتمتّعون بإمكانات واسعة وتجهيزات وعدد كثيرة في المدينة ، بحيث أنّهم لم يصدّقوا أنّهم سيغلبون بهذه السهولة ، وذلك ظنّ الآخرين أيضا.

ولأنّ الله سبحانه يريد أن يوضّح للجميع أن لا قوّة في الوجود تقاوم إرادته ، فإنّ إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب ، هو دليل على قدرته سبحانه ، وتحدّ لليهود الذين ظنّوا أنّ حصونهم مانعتهم من الله.

ولذلك يضيف ـ استمرارا للبحث الذي ورد في الآية ـ قوله تعالى :( فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) نعم ، إنّ هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله الله تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين ، وقد خيّم على قلوبهم ، وسلب منهم قدرة

__________________

(١) النمل ، الآية ١٧.

(٢) سورة طه ، الآية ٥٩.

١٦٥

الحركة والمقاومة ، لقد جهّزوا وهيّئوا أنفسهم لقتال المهاجرين والأنصار غافلين عن إرادة الله تعالى ، حيث يرسل لهم جيشا من داخلهم ويجعلهم في مأزق حرج إلى حدّ ينهمكون فيه على تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم من المسلمين.

صحيح أنّ مقتل زعيمهم «كعب بن الأشرف» ـ قبل الهجوم على قلاعهم وحصونهم ـ كان سببا في إرباكهم واضطراب صفوفهم ، إلّا أنّ من الطبيعي أنّ مقصود الآية غير ما تصوّره بعض المفسّرين ، فإنّ ما حدث كان نوعا من الإمداد الإلهي للمسلمين الذين حصل لهم مرّات عديدة حين جهادهم ضدّ الكفّار والمشركين.

والطريف هنا أنّ المسلمين كانوا يخرّبون الحصون من الخارج ليدخلوا إلى عمق قلاعهم ، واليهود كانوا يخرّبونها من الداخل حتّى لا يقع شيء مفيد منها بأيدي المسلمين ، ونتيجة لهذا فقد عمّ الخراب التامّ جميع قلاعهم وحصونهم.

وذكرت لهذه الآية تفاسير اخرى أيضا منها : أنّ اليهود كانوا يخربونها من الداخل لينهزموا ، أمّا المسلمون فتخريبهم لها من الخارج ليظفروا باليهود ويجهّزوا عليهم (إلّا أنّ هذا الاحتمال مستبعد).

أو يقال إنّ لهذه الآية معنى كنائي ، وذلك كقولنا : إنّ الشخص الفلاني هدم بيته وحياته بيده ، يعني أنّه بسبب جهله وتعنّته دمّر حياته.

أو أنّ المقصود من تخريب اليهود لبعض البيوت ، هو من أجل إغلاق الأزقّة الموجودة داخل القلاع ومنع المسلمين من التقدّم ولكي لا يستطيعوا السكن فيها.

أو أنّهم هدموا قسما من البيوت داخل القلعة حتّى إذا ما تحوّلت الحرب إلى داخلها يكون هنا لك مكان كاف للمناورة والحرب.

أو أنّ مواد بناء بعض البيوت كان ثمينا فخرّبوها لكي يحملوا ما هو مناسب منها ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب من الجميع.

وفي نهاية الآية ـ بعنوان استنتاج كلّي ـ يقول تعالى :( فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي

١٦٦

الْأَبْصارِ ) .

«اعتبروا» من مادّة (اعتبار) وفي الأصل مأخوذة من العبور ، أي العبور من شيء إلى شيء آخر ، ويقال لدمع العين «عبرة» بسبب عبور قطرات الدموع من العين ، وكذلك يقال (عبارة) لهذا السبب ، حيث أنّها تنقل المطالب والمفاهيم من شخص إلى آخر ، وإطلاق «تعبير المنام» على تفسير محتواه ، بسبب أنّه ينقل الإنسان من ظاهره إلى باطنه.

وبهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس وعظات (عبر) لأنّها توضّح للإنسان سلسلة من التعاليم الكلية وتنقله من موضوع إلى آخر.

والتعبير بـ «اولي الأبصار» إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الحوادث بعين واقعية ويتوغلون إلى أعماقها.

كلمة (بصر) تقال دائما للعين الباصرة ، و «البصيرة» تقال للإدراك والوعي الداخلي(١) .

وفي الحقيقة أنّ «أولي الأبصار» هم أشخاص لهم القابلية على الاستفادة من (العبر) ، لذلك فإنّ القرآن الكريم يلفت نظرتهم للاستفادة من هذه الحادثة والاتّعاظ بها.

وممّا لا شكّ فيه أنّ المقصود من الإعتبار هو مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل ، كمقارنة حال الكفّار مع حال ناقضي العهد من يهود بني النضير ، إلّا أنّ هذه الجملة لا ترتبط أبدا بـ «القياسات الظنّية» التي يستفيد منها البعض في استنباط الأحكام الدينيّة.

والعجيب هنا أنّ بعض فقهاء أهل السنّة استفادوا من الآية أعلاه لإثبات هذا المقصود ، بالرغم من أنّ البعض الآخر لم يرتضوا ذلك.

__________________

(١) المفردات للراغب.

١٦٧

والخلاصة أنّ المقصود من العبرة والإعتبار في الآية أعلاه هو الانتقال المنطقي والقطعي من موضوع إلى آخر ، وليس العمل على أساس التصوّر والخيال.

وعلى كلّ حال فإنّ مصير طائفة «بني النضير» بتلك القدرة والعظمة والشوكة ، وبتلك الصورة من الاستحكامات القويّة ، صار موضع (عبرة) حيث أنّهم استسلموا لجماعة من المسلمين لا تقارن قوّاتها بقوّاتهم ، وبدون مواجهة مسلّحة ، بحيث كانوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم وتركوا بقيّة أموالهم للمسلمين المحتاجين ، وتفرّقوا في بقاع عديدة من العالم ، في حين أنّ اليهود سكنوا في المدينة من أجل أن يدركوا النبي الموعود الذي ورد في كتبهم ، ويكونوا في الصفّ الأوّل من أعوانه كما ذكر المؤرّخون ذلك.

وبهذا الصدد نقرأ حديثا ورد عن الإمام الصادق حيث يقول : «كان أكثر عبادة أبي ذرّرحمه‌الله التفكّر والإعتبار»(١) .

ومع الأسف فإنّ كثير من الناس يفضّلون تجربة الشدائد والمحن والمصائب بأنفسهم ويذوقوا مرارة الخسائر شخصيّا ، ولا يعتبرون ولا يتّعظون بوضع الآخرين وما يواجهونه في أمثال هذه الموارد ، ويقول الإمام عليعليه‌السلام «السعيد من وعظ بغيره»(٢) .

وتضيف الآية اللاحقة( وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا ) .

وبدون شكّ فإنّ الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من رؤوس الأموال التي جهدوا جهدا بليغا في الحصول عليها ، هو بحدّ ذاته أمر مؤلم لهم ، وبناء على هذا فإنّ مراد الآية أعلاه أنّه لو لم يحلّ بهم هذا العذاب ، فإنّ بانتظار هم عذابا آخر هو القتل أو الأسر بيد المسلمين إلّا أنّ الله سبحانه أراد لهم التيه في الأرض

__________________

(١) كتاب الخصال مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ص ٢٧٤.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ٨٦.

١٦٨

والتشرّد في العالم ، لأنّ هذا أشدّ ألما وأسى على نفوسهم ، إذ كلّما تذكّروا أرضهم وديارهم ومزارعهم وبساتينهم التي أصبحت بيد المسلمين. وكيف أنّهم شردوا منها بسبب نقضهم العهد ومؤامراتهم ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ ألمهم وحزنهم ومتاعبهم تضاعف وخاصّة على المستوى النفسي.

نعم ، إنّ الله أراد لهذه الطائفة المغرورة والخائنة ، أن تبتلى بمثل هذا المصير البائس.

وكان هذا عذابا دنيويا لهم ، إلّا أنّ لهم جولة اخرى مع عذاب أشدّ وأخزى ، ذلك هو عذاب الآخرة ، حيث يضيف سبحانه في نهاية الآية( وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ) .

هذه عاقبتهم في الدنيا والآخرة ، وهي درس بليغ لكلّ من أعرض عن الحقّ والعدل وركب هواه ، وغرّته الدنيا وأعماه حبّ ذاته.

وبما أنّ ذكر هذه الحادثة مضافا إلى تجسيد قدرة الله وصدق الدعوة المحمّدية ، فهي في نفس الوقت تمثّل إنذارا وتنبيها لكلّ من يروم القيام بأعمال مماثلة لفعل بني النضير ، لذا ففي الآية اللاحقة يرشدنا سبحانه إلى هذا المعنى :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) (١) .

«شاقّوا» من مادّة (شقاق) وهي في الأصل بمعنى الشقّ والفصل بين شيئين ، وبما أنّ العدو يكون دائما في الطرف المقابل ، فإنّ كلمة (شقاق) تطلق على هذا العمل.

وجاء مضمون هذه الآية باختلاف جزئي جدّا في سورة الأنفال الآية ١٣ ، وذلك بعد غزوة بدر وانكسار شوكة المشركين ، والتي تبيّن عمومية محتواها من كلّ جهة ، في قوله تعالى :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ

__________________

(١) «من» شرطية وجزاؤها محذوف وتقديره : ومن يشاقق الله يعاقبه فإن الله شديد العقاب.

١٦٩

فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

والشيء الجدير بالملاحظة أنّ بداية الآية الكريمة طرحت مسألة العداء لله ورسوله ، إلّا أنّ الحديث في ذيل الآية اقتصر عن العداء لله سبحانه فقط ، وهو إشارة إلى أنّ العداء لرسول الله هو عداء لله أيضا.

والتعبير بـ( شَدِيدُ الْعِقابِ ) لا يتنافى مع كون الله «أرحم الراحمين» لأنّه في موضع العفو والرحمة فالله أرحم الراحمين ، وفي موضع العقاب والعذاب فإنّ الله هو أشدّ المعاقبين ، كما جاء ذلك في الدعاء : «وأيقنت أنّك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة»(١) .

وفي الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث نلاحظ جوابا على اعتراض يهود بني النضير على قطع المسلمين لنخيلهم ـ كما ورد في شأن النزول ـ بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتهيئة ظروف أفضل لقتال بني النضير أو لزيادة حزنهم وألمهم ، فيضطرّوا للنزول من قلاعهم ومنازلة المسلمين خارج القلعة وقد أثار هذا العمل غضب اليهود وحنقهم ، فقالوا : يا محمّد ، ألم تكن الناهي عن مثل هذه الأعمال؟ فنزلت الآية الكريمة مبيّنة لهم أنّ ذلك من أمر الله سبحانه حيث يقول البارئ :( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ ) (٢) ( وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) .

«لينة» من مادّة (لون) تقال لنوع جيّد من النخل ، وقال آخرون : إنّها من مادّة (لين) بمعنى الليونة التي تطلق على نوع من النخل ، والتي لها أغصان ليّنة قريبة من الأرض وثمارها ليّنة ولذيذة.

وتفسّر (ليّنة) أحيانا بألوان وأنواع مختلفة من شجر النخيل ، أو النخل الكريم ، والتي جميعها ترجع إلى شيء واحد تقريبا.

__________________

(١) دعاء الافتتاح (من أدعية شهر رمضان المبارك).

(٢) «ما» في الآية أعلاه شرطية وجزاؤها (فبإذن الله).

١٧٠

وعلى كلّ حال فإنّ قسما من المسلمين أقدموا على قطع بعض نخيل بني النضير ، في الوقت الذي خالف البعض الآخر ذلك ، وهنا نزلت الآية أعلاه وفصلت نزاعهم في هذا الموضوع(١) .

وقال البعض الآخر : إنّ الآية دالّة على عمل شخصين من الصحابة ، وقد كان أحدهم يقوم بقطع الجيّد من شجر النخل ليغضب اليهود ويخرجهم من قلاعهم ، والآخر يقوم بقطع الرديء من الأشجار كي يبقي ما هو جيّد ومفيد ، وحصل خلاف بينهم في ذلك ، فنزلت الآية حيث أخبرت أنّ عملهما بإذن الله(٢) .

ولكن ظاهر الآية يدلّ على أنّ المسلمين قطعوا بعض نخل (اللينة) وهي نوع جيّد من النخل ، وتركوا قسما آخر ، ممّا أثار هذا العمل اليهود ، فأجابهم القرآن الكريم بأنّ هذا العمل لم يكن عن هوى نفس ، بل عن أمر إلهي صدر في هذا المجال ، وفي دائرة محدودة لكي لا تكون الخسائر فادحة.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا العمل كان استثناء من الأحكام الإسلامية الأوّلية التي تنهي عن قطع الأشجار وقتل الحيوانات وتدمير وحرق المزارع والعمل أعلاه كان مرتبطا بمورد معيّن حيث أريد إخراج العدو من القلعة وجرّه إلى موقع أنسب للقتال وما إلى ذلك ـ وعادة توجد استثناءات جزئيّة في كلّ قانون ، كما في جواز أكل لحم الميّت عند الضرورة القصوى والإجبار.

جملة( وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) ترينا على الأقل أنّ أحد أهداف هذا العمل هو خزي ناقضي العهد هؤلاء ، وكسر لشوكتهم وتمزيق لروحيّتهم.

* * *

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٩٣ ، وجاء هذا المعنى في الدرّ المنثور ، ج ٩ ، ص ١٨٨.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٨٣.

١٧١

بحثان

١ ـ الجيوش الإلهيّة اللامرئية :

في الوقت الذي تعتبر القوى الماديّة أكبر سلاح لتحقيق الإنتصار من وجهة نظر الماديين ، فإنّ اعتماد المؤمنين يتمركز حول محورين (القيم المعنوية والإمكانات المادية) والذي قرأنا نموذجا منه في قصّة اندحار بني النضير كما بيّنت ذلك الآيات السابقة.

ونقرأ في هذه الآية أحد العوامل المؤثّرة في هذا الإنتصار حيث ألقى الله سبحانه الرعب في قلوب اليهود ، بحيث أخذوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم ، وتخلّوا عن ديارهم وأموالهم مقابل السماح لهم بالخروج من المدينة.

وقد ورد هذا المعنى بصورة متكرّرة في القرآن الكريم ، منها ما ورد في قصّة اخرى حول قسم آخر من اليهود وهم (بنو قريظة). حيث اشتبكوا اشتباكا شديدا مع المسلمين بعد غزوة الأحزاب ، وفي هذا المعنى يقول سبحانه :( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ) .

وجاء هذا المعنى في غزوة بدر حيث يقول تعالى :( سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) .

وبعض هذا الخوف الذي هو عبارة عن جيش إلهي غير مرئي يكاد يكون أمرا طبيعيّا ، ولكن بعضه يمثّل سرّا من الأسرار غير الواضحة لنا ، أمّا الطبيعي منه فانّ المؤمنين يرون أنفسهم منتصرين سواء قتل أو تغلّب على العدوّ. والشخص الذي يؤمن بهذا الإعتقاد لا يجد الخوف طريقا إليه ، ومثل هذا الإنسان سيكون أعجوبة في صموده وثباته كما يكون ـ أيضا ـ مصدر خوف وقلق لأعدائه ، والذي نلاحظه في عالم اليوم أنّ بلدانا عديدة تملك قدرات هائلة من الإمكانات العسكرية المتطورة والمادية الكبيرة ، تخشى من ثلّة من المؤمنين الصادقين

١٧٢

الذائدين عن الحقّ ، ويحاولون دائما تحاشي مواجهتهم.

وفي حديث حول هذا المعنى يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نصرت بالرعب مسيرة شهر»(١) .

يعني أنّ الرعب لم يصب الأعداء في خطّ المواجهة فحسب ، بل أصاب من كان من الأعداء على مسافة شهر واحد من جيش الإسلام.

وحول جيوش الإمام المهديعليه‌السلام نقرأ أنّ ثلاثة جيوش تحت أمره وهم : (الملائكة ، والمؤمنون ، والرعب)(٢) .

وفي الحقيقة ، إنّ الأعداء يبدلّون كافّة إمكاناتهم لتجنّب الضربة من الخارج ، إلّا أنّهم غفلوا عن أنّ الله سبحانه يهزمهم داخليّا ، حيث أنّ الضربة الداخلية أوجع للنفس ، ولا يمكن تداركها بسهولة ، حتّى لو وضعت تحت تصرّفهم كلّ الأسلحة والجيوش ، فإنّها غير قادرة على أن تحقّق النصر مع فقدان المعنوية العالية والروحية المؤهّلة لخوض القتال ، وبالتالي فإنّ الفشل والخسران أمر متوقّع جدّا لأمثال هؤلاء.

٢ ـ مؤامرات اليهود المعاصرة

إنّ التاريخ الإسلامي اقترن منذ البداية بمؤامرات اليهود ، ففي كثير من الحوادث الأليمة والفجائع الدامية ترى أصابعهم مشهودة بشكل مباشر أو غير مباشر. والعجيب أنّ هؤلاء نزحوا إلى ديار الحجاز طمعا في أن يكونوا في الصفّ الأوّل من أصحاب النبي الموعود إلّا أنّهم بعد ظهوره أصبحوا من ألدّ أعدائه.

وعند ما نستقرئ حالتهم المعاصرة فإنّنا نلاحظ أيضا أنّهم متورّطون في أغلب المؤامرات المدبّرة ضدّ الإسلام ، ويتجسّد موقفهم هذا في داخل الأحداث

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٥١٩ ، (نهاية الآية ١٥١ / آل عمران).

(٢) إثبات الهداة ، ج ٧ ، ص ١٢٤.

١٧٣

تارة ومن خارجها اخرى ، وفي الحقيقة فإنّ هذا هو موضع تأمّل واعتبار لمن كان له قلب وبصيرة.

والطريق الوحيد لكسر شوكتهم كما يؤكّده تاريخ صدر الإسلام ، هو التعامل الحدّي والجدّي معهم ، خصوصا مع الصهاينة الذين لا يتعاملون بمبادئ العدل والحقّ أبدا ، بل منطقهم القوّة ، وبغيرها لا يمكن التفاهم معهم ، ومع هذا فإنّ خوفهم الحقيقي هو من المؤمنين الصادقين.

وإذا كان المسلمون المعاصرون مسلّحين بالإيمان والاستقامة المبدئية ـ كأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فإنّ الرعب سيستحوذ على قلوب اليهود ونفوسهم ، وبالإمكان عندئذ إخراجهم من الأرض الإسلامية التي اغتصبوها بهذا الجيش الإلهي.

وهذا درس علّمنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه قبل أربعة عشر قرنا.

* * *

١٧٤

الآيتان

( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) )

سبب النّزول

بما أنّ هذه الآيات تكملة للآيات القرآنية السابقة التي تتحدّث عن اندحار يهود بني النضير ، لذا فإنّ سبب نزولها هو استمرار لنفس أسباب نزول الآيات السابقة. والتوضيح كما يلي :

بعد خروج يهود بني النضير من المدينة بقيت بساتينهم وأراضيهم وبيوتهم

١٧٥

وقسم من أموالهم في المدينة ، فأشار بعض شيوخ المسلمين على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تماشيا مع سنّة جاهلية ـ حيث قالوا له خذ الصفوة من أموالهم وربع ممتلكاتهم ، واترك لنا المتبقّي كي نقسّمه بيننا ، فنزلت الآيات أعلاه حيث أعلنت صراحة أنّ هذه الغنائم التي لم تكن بسبب قتال ، ولم تكن نتيجة حرب ، فإنّها جميعا من مختصات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره رئيسا للدولة الإسلامية ، ويتصرّف بها كما يشاء ، وفقا لما يقدره من المصلحة في ذلك.

وسنلاحظ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم هذه الأموال بين المهاجرين الفقراء في المدينة ، وعلى قسم من الأنصار من ذوي الفاقة(١) .

التّفسير

حكم الغنائم بغير الحرب :

إنّ هذه الآيات ـ كما ذكر سابقا ـ تبيّن حكم غنائم بني النضير ، كما أنّها في نفس الوقت توضّح حكما عاما حول الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب ، كما ذكر ذلك في كتب الفقه الإسلامي بعنوان (الفيء).

يقول الله تعالى :( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) (٢) .

«أفاء» من مادّة (فيء) على وزن شيء ـ وهي في الأصل بمعنى الرجوع ، وإطلاق كلمة (فيء) على هذا اللون من الغنائم لعلّه باعتبار أنّ الله سبحانه قد خلق هذه النعم والهبات العظيمة في عالم الوجود في الأصل للمؤمنين ، وعلى رأسهم

__________________

(١) مجمع البيان نهاية الآيات مورد البحث وتفاسير اخرى.

(٢) «ما» في (ما أفاء الله ورسوله) موصولة في محلّ رفع مبتدأ وما في( فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ) نافية ، ومجموع هذه الجملة خبر ، وهنالك احتمال ثان : وهو أنّ (ما) في (ما أفاء) شرطية ، (وما) الثانية مع جملتها تكون جوابا للشرط ومجيء (الفاء) في صدر جملة الخبر حينما تكون فيها شبهة بالشرط ، فلا إشكال فيه.

١٧٦

الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو أشرف الكائنات ، وبناء على هذا فإنّ الجاحدين لوجود الله والعاصين له بالرغم من امتلاكهم للبعض من هذه النعم بموجب القواعد الشرعية والعرفية ، إلّا أنّهم يعتبرون غاصبين لها ، ولذلك فإنّ عودة هذه الأموال إلى أصحابها الحقيقيين (وهم المؤمنون) يسمّى (فيئا) في الحقيقة.

«أوجفتم» من مادّة (إيجاف) بمعنى السّوق السريع الذي يحدث غالبا في الحروب.

«خيل» بمعناه المتعارف عليه (وهي اسم جنس وجمعها خيول)(١) .

«ركاب» من مادّة (ركوب) وتطلق في الغالب على ركوب الجمال.

والهدف من مجموع الجملة أنّ جميع الموارد التي لم يحدث فيها قتال وفيها غنائم ، فإنّها لا توزّع بين المقاتلين ، وتوضع بصورة تامّة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية وهو يصرفها في الموارد التي سيأتي الحديث عنها لا حقا.

ثمّ يضيف سبحانه أنّ الانتصارات لا تكون غالبا لكم( وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

نعم ، لقد تحقّق الإنتصار على عدو قوي وشديد كيهود (بني النضير) وذلك بالمدد الإلهي الغيبي ، ولتعلموا أنّ الله قادر على كلّ شيء ، ويستطيع سبحانه بلحظة واحدة أن يذلّ الأقوياء ، ويسلّط عليهم فئة قليلة توجّه لهم ضربات موجعة وتسلب جميع إمكاناتهم.

ولا بدّ للمسلمين أن يتعلّموا من ذلك دروس المعرفة الإلهية ، ويلاحظوا علائم حقّانية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويلتزموا منهج الإخلاص والتوكّل على الذات الإلهية المقدّسة

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : إنّ الخيل في الأصل من مادّة (خيال) بمعنى التصوّرات الذهنية ، وخيلاء بمعنى التكبّر والتعالي على الآخرين لأنّه ناتج من تخيّل الفضيلة ، ولأنّ ركوب الإنسان على الحصان يشعر بالإحساس بنوع من الفخر والزهو غالبا ، لذلك أطلق لفظ الخيل على الحصان ، والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ خيل تطلق على الحصان وكذلك على راكبيه.

١٧٧

في جميع ممارساتهم.

وهنا قد يتبادر سؤال وهو : إنّ الحصول على غنائم بني النضير لم يتمّ بدون حرب ، بل إنّ المسلمين زحفوا بجيشهم نحو قلاعهم وحاصروها ، وقيل أنّ اشتباكا مسلّحا قد حصل في حدود ضيّقة بين الطرفين.

وفي مقام الجواب نقول : بأنّ قلاع بني النضير ـ كما ذكروا ـ لم تكن بعيدة عن المدينة ، وذكر بعض المفسّرين أنّ المسافة بين المدينة والقلاع ميلان وأنّ المسلمين ذهبوا إليها سيرا على أقدامهم ، وبناء على هذا فلم يواجهوا مشقّة حقيقية. أمّا بالنسبة لموضوع الاشتباك المسلّح فإنّه لم يثبت من الناحية التأريخية ، كما أنّ الحصار لم يستمرّ طويلا ، وبناء على هذا فإنّنا نستطيع القول بأنّه لم يحدث شيء يمكن أن نسمّيه قتالا ، ولم يرق دم على الأرض.

والآية اللاحقة تبيّن بوضوح مورد صرف (الفيء) الوارد في الآية السابقة وتقول بشكل قاعدة كليّة :( ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) .

وهذا يعني أنّ هذه الغنائم ليست كباقي الغنائم الحربية التي يكون خمس منها فقط تحت تصرّف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر المحتاجين ، والأربعة الأخماس الاخرى للمقاتلين.

وإذا ما صرّحت الآية السابقة برجوع جميع الغنائم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يفهم من ذلك أن يصرفها جميعا في موارده الشخصية ، وإنّما أعطيت له لكونه رئيسا للدولة الإسلامية ، وخاصّة كونه المتصدّي لتغطية حاجات المعوزين ، لذا فإنّ القسم الأكبر يصرف في هذا المجال.

وقد ذكر في هذه الآية بصورة عامّة ستّ مصارف للفيء.

١ ـ سهم لله ، ومن البديهي أنّ الله تعالى مالك كلّ شيء ، وفي نفس الوقت غير محتاج لأي شيء ، وهذا نوع من النسبة التشريفية ، حتّى لا يحسّ بقيّة الأصناف

١٧٨

اللاحقة بالحقارة والذلّة ، بل يرون سهمهم مرادفا لسهم اللهعزوجل ، فلا ينقص من قدرهم شيء أمام الناس.

٢ ـ سهم الرّسول : ومن الطبيعي أن يصرف لتأمين احتياجاته الشخصيةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يحتاجه لمقامه المقدّس وتوقّعات الناس منه.

٣ ـ سهم ذوي القربى : والمقصود بهم هنا وبدون شكّ أقرباء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبني هاشم ، حيث أنّهم مستثنون من أخذ الزكاة والتي هي جزء من الأموال العامّة للمسلمين(١) .

وأساسا لا دليل على أنّ المقصود من ذوي القربى هم أقرباء الناس جميعا ، لأنّه في هذه الحالة ستشمل جميع المسلمين ، لأنّ الناس بعضهم أقرباء بعض.

ولكن هل هناك شرط يقضي أن يكون ذوو القربى من المحتاجين والفقراء أو لا يشترط ذلك؟ لقد اختلف المفسّرون في ذلك بالرغم من أنّ القرائن الموجودة في نهاية هذه الآية والآية اللاحقة توضّح لزوم شرط الحاجة.

(٤ ، ٥ ، ٦) : «سهم اليتامى» و «المساكين» و «أبناء السبيل» ، وهل أنّ جميع هؤلاء يلزم أن يكونوا هاشميين أو أنّها تشمل عموم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، ففقهاء أهل السنّة ومفسّروهم يعتقدون أنّ هذا الأمر يشمل العموم ، في الوقت الذي اختلفت الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المجال ، إذ يستفاد من قسم منها أنّ هذه الأسهم الثلاثة تخصّ اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من بني هاشم فقط ، في حين صرّحت روايات اخرى بعمومية هذا الحكم ، ونقل أنّ الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «كان أبي يقول : لنا سهم رسول

__________________

(١) هذا التّفسير لم يأت به الشيعة فقط ، حيث جاء ذكره في تفاسير أهل السنّة أيضا ، كما ذكر ذلك الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، والبرسوني في روح البيان ، وسيّد قطب في ظلال القرآن ، والمراغي في تفسيره والآلوسي في روح المعاني.

١٧٩

الله ، وسهم ذي القربى ونحن شركاء الناس فيما بقي»(١) .

والآيات الثامنة والتاسعة من هذه السورة ، التي هي توضيح لهذه الآية ، تؤيّد أيضا أنّ هذا السهم لا يختّص ببني هاشم ، لأنّ الحديث دالّ على عموم فقراء المسلمين من المهاجرين والأنصار.

وبالإضافة إلى ذلك ، فقد نقل المفسّرون أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد حادثة بني النضير قسّم الأموال المتبقية بين المهاجرين من ذوي الحاجة والمسكنة ، وعلى ثلاثة أشخاص من طائفة الأنصار ، وهذا دليل آخر على عمومية مفهوم الآية. وإذا لم تكن بعض الروايات متناسبة معها ، فينبغي ترجيح ظاهر القرآن(٢) .

ثمّ يستعرض سبحانه فلسفة هذا التقسيم الدقيق بقوله تعالى :( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) فيتداول الأغنياء الثروات فيما بينهم ويحرم منها الفقراء(٣) .

وذكر بعض المفسّرين سببا لنزول هذه الجملة بشكل خاصّ ، وأشير له بشكل إجمالي في السابق ، وهو أنّ مجموعة من زعماء المسلمين قد جاؤوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد واقعة بني النضير ، وقالوا له : خذ المنتخب وربع هذه الغنائم ، ودع الباقي لنا نقتسمه بيننا ، كما كان ذلك في زمن الجاهلية. فنزلت الآية أعلاه تحذّرهم من تداول هذه الأموال بين الأغنياء فقط.

والمفهوم الذي ورد في هذه الآية يوضّح أصلا أساسيّا في الإقتصاد الإسلامي وهو : وجوب التأكيد في الإقتصاد الإسلامي على عدم تمركز الثروات بيد فئة محدودة وطبقة معيّنة تتداولها فيما بينها ، مع كامل الاحترام للملكية

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦١ ، ووسائل الشيعة ، ج ، ص ٣٦٨ ، حديث ١٢ وباب واحد من أبواب الأنفال.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٥٦ ، (حديث ٤ ، باب واحد من أبواب الأنفال).

(٣) (دولة) بفتح الدال وضمّها بمعنى واحد ، وفرّق البعض بين الإثنين وذكر أنّ (دولة) بفتح الدال تعني الأموال ، أمّا بضمّها فتعني الحرب والمقام ، وقيل أنّ الأوّل اسم مصدر ، والثاني مصدر ، وعلى كلّ حال فإنّ لها أصلا مشتركا من مادّة «تداول» بمعنى التعامل من يد إلى اخرى.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

ج : قد أشار الأعلام في المصادر المعقولية إلى وجه امتياز الأجزاء عن المركّب ، وأنّ الأجزاء من دون شرط التمام تعتبر أجزاء ، وبشرط الاجتماع تسمّى مركّباً.

وقول : أنّ المركّب مفتقر إلى الأجزاء إنّما يصحّ بنحو من الاعتبار ، وإلاّ فهما من حيث الوجود الحقيقي الذي له منشئية الآثار متّحدان ، فالأجزاء بالأسر هو عين المركّب ، وبما أنّ الشرط هو الهيئة الاجتماعية ، لا يمكن أن يحدث من دون التئام واجتماع للأجزاء كُلّها على النسق المعيّن المعتبر.

وقول : أنّ المركّب محتاج إلى الأجزاء ، في الحقيقة أنّه إذا لوحظ الأجزاء بالأسر ، فحاجة المركّب إليها احتياج الشيء إلى نفسه ، وإذا لوحظ المركّب بالمعنى المتقدّم بالقياس إلى كُلّ واحد من الأجزاء ، مع قطع النظر عن شرط التمام ، فالاحتياج وإن كان ثابتاً ، إلاّ أنّ كُلّ واحد من تلك الأُمور التي ينشأ منها المركّب ، لا يوصف بأنّه جزء قبل الاجتماع إلاّ بعلاقة الأوّل.

لأنّ وصف الجزئية والكُلّية متضايفان ، يمتنع أن يتحقّق أيّ منهما قبل الآخر ، فاحتياج المركّب إلى الجزء بالدقّة العقلية ، وأن كان لابدّ من تحقّق الأجزاء لأنّها عين المركّب ، ولا دليل على لزوم تقدّمها عليه ، بل ممكن تحقّق المركّب مع جميع أجزائه دفعة واحدة ، بل في المركّب من جنس وفصل ، ومن الوجود والماهية يستحيل تقدّم الأجزاء على المركّب في الوجود ، الذي له منشئية الآثار ، وتوقّفه على حصوله ليس في الحقيقة احتياج المركّب إلى الجزء بالدقّة العقلية ، وإن كان لابدّ من تحقّق الأجزاء ليلتئم منها المركّب ، وهذا ما يسع له المجال في المقام.

فالقضية المذكورة في صورة إمكان فرض الاحتياج بديهية ، يكفي فيها تصوّر الأطراف.

٥٦١

( علي ـ البحرين ـ ٢٦ سنة ـ تعليم عالي )

معنى التقليد والأدلّة عليه :

س : ما هو التقليد؟ ومتى بدأ؟ وما الدليل عليه؟

ج : التقليد لغةً بمعنى : جعل الشخص أو غيره ذا قلادة ، فيقال : تقلّد السيف ، أي ألقى حمالته في عنقه ، وفي حديث الخلافة : «قلّدها رسول الله علياً »(١) ، أي جعلها قلادة له ، ومعنى أنّ العامي قلّد المجتهد ، أنّه جعل أعماله على رقبة المجتهد وعاتقه ، وأتى بها استناداً إلى فتواه.

وقد أشارت جملة من الروايات إلى هذا المعنى ، نذكر منها معتبرة عبد الرحمن بن الحجّاج قال : « كان أبو عبد اللهعليه‌السلام قاعداً في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء إعرابي ، فسأل ربيعة الرأي عن مسألة ، فأجابه ، فلمّا سكت ، قال له إعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئاً ، فأعاد المسألة عليه ، فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الإعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «هو في عنقه » ، قال : أو لم يقل : وكُلّ مفتٍ ضامن »(٢) .

وهناك أخبار مستفيضة يمكنك الرجوع إليها في كتاب وسائل الشيعة(٣) .

وعلى هذا نرى بأنّ اللغة والاصطلاح والعرف متطابقة على أنّ التقليد هو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل ، فالتقليد أمّا أن يكون بمعنى الأخذ والالتزام ، أو يكون معناه العمل استناداً إلى رأي الغير ، وهو العالم الجامع للشرائط.

والضرورة تقتضي التقليد ، وذلك لأنّ كُلّ مكلّف يعلم علماً إجمالياً بثبوت أحكام إلزامية فرضها الشارع المقدّس عليه ـ من وجوب أو حرمة ـ والإتيان

__________________

١ ـ الاجتهاد والتقليد : ٧٨.

٢ ـ الكافي ٧ / ٤٠٩.

٣ ـ وسائل الشيعة ٢٧ / ٢٢٠.

٥٦٢

بالواجب وترك المحرّم له طريقان : أمّا أنّه يعرف الواجب فيأتي به ، والمحرّم فيتركه ، وأمّا أنّه غير عالم بهما ، فيجب الرجوع إلى العالم بهما ، وهو المتخصّص في عمله لإبراء ذمّته أمام مولاه ، وهذا هو معنى التقليد الذي هو الاعتماد على المتخصّصين والرجوع إليهم.

ومن هنا يظهر : أنّ التقليد من الأُمور الارتكازية ، حيث رجوع كُلّ ذي صنعة إلى أصحاب الصنائع ، وكُلّ من لا يعرف أحكام الدين يعتمد في معرفته على المجتهد المتخصّص ، فيضع عمله كالقلادة في رقبة المجتهد الذي يقلّده ، وهذا غير محدّد بزمان ، بل هو جار في كُلّ الأزمنة.

والتقليد من فطريات العقول والشارع ، قد أمضاه بعدم الردع عنه ، فرجوع الجاهل إلى العالم في زمان الأئمّةعليهم‌السلام ، كان رجوعاً إلى من علم الأحكام بالعلم الوجداني ، الحاصل من مشافهة الأئمّةعليهم‌السلام ، وأمّا في زماننا ، فهو رجوع إلى من عرف الأحكام بالظنّ الاجتهادي والإمارات.

ويكون عمله تنزيلياً تعبّدياً لا وجدانياً ، فهو الطريق الأكثر عملية لُجلّ الناس ، لاعتيادهم في كُلّ مجال على الرجوع إلى ذوي الاختصاص والخبرة ، وهو واجب كُلّ مكلّف لا يتمكّن من الاجتهاد أو الاحتياط.

( أحمد ـ الكويت ـ ٢٠ سنة ـ طالب )

العقل في حالة قطعيته مقدّم على النصّ :

س : تقبّل الله أعمالكم ، ووفّقكم الله لمرضاته ، في الحقيقة عندي استفسار بخصوص العقل ، ما هو دوره في الأُصول العقائدية؟ هل القرآن والسنّة مقدّمتان على العقل أم هو العكس؟

ج : لا نتمكّن أن نجيب بضرس قاطع بتقديم النصّ على العقل ، أو بتقديم العقل على النصّ ، بل لابدّ من التفصيل ، فتارة يكون حكم العقل قطعياً وبدرجة كاملة من الوضوح ، وفي مثله يقدَّم العقل ، ويكون كقرينة على

٥٦٣

التصرّف في ظهور النصّ ، فإنّ القرائن ذات ألوان مختلفة ، وأحد تلك الألوان هي القرائن العقلية.

فإذا حكم العقل بنحو القطع بأنّ الله سبحانه لا يمكن أن يكون جسماً ، أو في مكان معيّن مثلاً ، فإذا جاء نصّ يقول :( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (١) فلابدّ من حمله على الكناية عن السيطرة الكاملة.

هذا إذا كان حكم العقل قطعياً ، وأمّا إذا لم يكن قطعياً ، فيؤخذ بظاهر النصّ ، ولا يجوز تأويله ، ورفع اليد عنه بحكم العقل.

إذاً ، العقل في حالة قطعيته هو المقدّم على النصّ ، وفي حالة عدم قطعيته يكون النصّ هو المقدّم.

( أبو بكر أحمد صدّيق ـ مصر ـ شافعي ـ ٣٢ سنة ـ دكتوراه فلسفة في التربية )

قول لا إله إلاّ الله مشروط بالإخلاص :

س : أُريد معرفة مدى صحّة الحديث التالي؟ وما هي الكتب التي ورد بها؟ وما هو تعليقكم عليه : « من قال لا اله إلاّ الله ومدّها ، هدمت له أربعة آلاف ذنب من الكبائر » (٢) ، مع إرسال النصوص الأصلية الاستدلالية إن أمكن ، أو إرشادي إلى مواقعها تحديداً ، وجزاكم الله خيراً ، ونفعنا بعلمكم.

ج : لا يوجد هذا الحديث في مصادرنا ، ولم يُروَ عن أهل البيتعليهم‌السلام .

وأمّا المصادر السنّية ، فقد ورد في كتب غير معتبرة الصحّة ، فقد رواه المتّقي الهندي في كنز العمّال عن ابن النجار ، وذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان ـ وهو كتاب تراجم الضعفاء في ترجمة نعيم بن تمام ـ قال : « عن أنس : وعنه الحسن بن إسماعيل اليمامي ، له حديث أخرجه ابن النجار في الذيل في ترجمة أبي القاسم عبد الله بن عمر الكلوذاني المعروف بابن

__________________

١ ـ طه : ٥.

٢ ـ كنز العمّال ١ / ٦٠.

٥٦٤

داية ، من روايته عن يونس عن الحسن ولفظ المتن : «من قال لا إله إلاّ الله ومدّها ، هدمت له ذنوب أربعة آلاف كبيرة » ، هذا حديث باطل »(١) .

وقال الفتني في تذكرة الموضوعات : « فيه نعيم كذّاب »(٢) .

وأمّا تعليقنا عليه : فبعد أن قلنا بعدم صدوره عن أئمّتناعليهم‌السلام ، فإنّه لا يثبت لدينا مشروعية التعبّد به ، وكذلك هناك أحاديث لدينا تخالف مضمونه ، وتبيّن أن قول لا إله إلاّ الله مشروط بالإخلاص أو الصدق ، وهذه الشروط تعني الالتزام العقائدي والأخلاقي والعملي بمعنى لا إله إلاّ الله.

قال الله تعالى :( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ) (٣) .

وقال الإمام عليعليه‌السلام : «من قال : لا إله إلاّ الله بإخلاص فهو بريء من الشرك ، ومن خرج من الدنيا لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة »(٤) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : «من قال : لا إله إلاّ الله مخلصاً دخل الجنّة »(٥) .

وقال زيد بن أرقم : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قال : لا إله إلاّ الله مخلصاً دخل الجنّة » ، قيل : وما إخلاصها؟ قال : « أن تحجزه عن محارم الله عزّ وجلّ »(٦) .

فهذه الروايات تبيّن وتوضّح مراد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمامعليه‌السلام من قول لا إله إلاّ الله ، وشروط نفعها لقائلها ، وهو الإخلاص والصدق والمعرفة ، وعدم ارتكاب المعصية بإصرار وعناد ، وليس مجرّد التلفّظ بها من دون ذلك كُلّه.

__________________

١ ـ لسان الميزان ٦ / ١٦٩.

٢ ـ تذكرة الموضوعات : ٥٥.

٣ ـ محمّد : ١٩.

٤ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤١١.

٥ ـ ثواب الأعمال وعقابها : ٥.

٦ ـ المعجم الأوسط ٢ / ٥٦ ، المعجم الكبير ٥ / ١٩٧ ، الدرّ المنثور ٢ / ٢٣٧ ، تفسير الثعالبي ٢ / ٢٢.

٥٦٥

( رضا ـ بريطانيا ـ ١٨ سنة ـ طالب )

معرفة الحقّ من خلال قواعد عقلية :

س : هناك كثير من يقول أنّه لا يمكن معرفة الحقّ مطلقاً ، أي ليس هناك مثلاً قانون صحيح مطلقاً ، ولكن صحيح إلى درجة ، كيف يمكن الردّ على هذا؟ أرجو الإجابة ، وأشكركم جزيل الشكر.

ج : ينبغي ملاحظة أُمور :

أوّلاً : إنّ الدليل العقلي غير قابل للتخصيص من دون دليل آخر ، فالدليل العقلي هو بنفسه يتولّى تعيين حوزة شموله.

وبعبارة واضحة : كُلّ ما يثبته أو ينفيه العقل ، يأتي بكُلّ قيوده وسعة دلالته.

وثانياً : الحكم على صحّة أو فساد أمر هو قانون عقلي ، يجب فيه اتباع حكم العقل ؛ فالعقل هو الذي يتكفّل إعطاء نسبة الصحّة أو الفساد لكُلّ قضية وموضوع.

ثالثاً : المقصود من الحقّ المطلق هو الأمر الذي يعتبره العقل من البديهيات والأوّليات ، بحيث يكون العلم به ضرورياً ، فلا يرى احتمال الخلاف فيه جائزاً.

نعم ، إنّ لم تصل معرفة العقل لقانون أو قاعدةٍ إلى هذا المستوى ، فقد يرى اشتمال العلم به مع احتمالات أُخرى قد تتناقض مع ذلك العلم.

وعلى سبيل المثال : يجزم العقل باستحالة اجتماع النقيضين ، ولا يرى مجالاً لأي احتمال مخالف لهذا الحكم القطعي ، وحتّى أنّه يرى هذا الحكم مستقلاً عن أيّ قيد وشرط ، فلا يختصّ بزمان أو مكان ، أو أيّة خصوصية أُخرى.

ثمّ في فرض هذا الحكم ، كيف يعقل أن يحتمل تخصيص هذا القانون والحكم المقطوع به ، أو تقليل نسبة الصحّة فيه.

٥٦٦

وباختصار : فإمّا نقطع بقانون أو قاعدة ـ بالدقّة العقلية لا العرفية ـ فهذا لا يجتمع مع احتمال الخلاف فيه ، إذ أنّ الاحتمالات المناقضة هي قضايا لابدّ أن تكون صادرة من العقل ، والعقل يأبى أن يقطع بشيء ويحتمل خلافه.

نعم حدود هذه الأحكام والقوانين العقلية البحتة قد تكون مضيّقة ، ولكن لا ينكر وجود هكذا قواعد مسلّمة عند العقل غير قابلة للنقاش لضرورتها وبداهتها.

( علي نزار ـ الكويت ـ ٢٣ سنة ـ طالب كُلّية الدراسات التجارية )

تسمية علم الكلام :

س : لماذا سمّي العلم الذي يُعنى بدراسة أُصول الدين الإسلامي والاستدلال عليها بأدلّة وبراهين تفيد العلم واليقين بعلم الكلام؟ ودمتم سالمين بجاه محمّد وآله الطاهرين.

ج : إنّ تسمية مباحث العقيدة الإسلامية بعلم الكلام لها وجوه :

١ ـ إنّه سمّي بذلك لأنّ القدماء من العرب سمّوا علم الجدل اليوناني بالمنطق ، والمنطق الذي يدلّ على النفس الناطقة التي تدرك الكُلّيات ، والنطق هو الكلام ، فعلم الكلام وعلم المنطق واحد.

٢ ـ إنّه سمّي بذلك لأنّ أصحابه تكلّموا بمسائل لم يذكرها السلف.

٣ ـ إنّه سمّي بذلك لأنّ المتقدّمين كانوا يعنونون فصول مباحثهم الكلامية بقولهم : كلام في التوحيد ، كلام في القدرة ، وهكذا

٤ ـ إنّه سمّي بذلك لأنّ الماهر الخبير بقوانينه يمتلك قوّة الكلام على إنزال الخصم ومحاكمته والغلبة عليه.

٥ ـ إنّه سمّي بذلك لأنّه كثر فيه الكلام مع المخالفين ما لم يكثر في غيره.

٦ ـ إنّه سمّي بذلك لأنّه يورث القدرة على الكلام في الشرعيات ، كالمنطق في الفلسفيات.

٥٦٧

٧ ـ إنّه سمّي بذلك ـ كما هو المشهور والمودّى إليه النظر ـ لأنّ أوّل مسألة طرحت بين المسلمين في صدر الإسلام بين الأشاعرة والمعتزلة هي : خلق القرآن الكريم أو قدمه ، على أنّ كلام الله قديم كذاته ، أو أنّه من الصفات الفعلية كالرازقية والخالقية ، وليست من الصفات الذاتية التي هي عين ذات الله تعالى ، كالعلم والقدرة والحياة.

وعلى هذا الضوء سمّي العلم المتكفّل لهذه المباحث بعلم الكلام على نحو المجاز في باب التسمية ، بعلاقة الكُلّ والجزء الأوّل أو الأهم أو المعظم.

( فاطمة ـ أمريكا ـ ١٩ سنة ـ طالبة ثانوية )

الرؤية الكونية :

س : ما معنى الرؤية الكونية؟ وما المقصود بالكونية؟ وشكراً.

ج : إنّ النظام الفكري ينقسم إلى قسمين : نظام نظري ، ونظام عملي.

فالنظام الفكري النظري : هو أسلوب من التفكّر عمّا هو موجود.

والنظام الفكري العملي : هو أسلوب من التفكّر عمّا ينبغي أن يُفعل أو لا يُفعل.

فالأوّل يسمّى الرؤية الكونية ، والثاني يسمّى الأيديولوجية ، وقد عُرِّفا بالتعريف التالي :

الرؤية الكونية : مجموعة من المعتقدات والنظريات الكونية المتناسقة حول الكون والإنسان ، بل حول الوجود بصورة عامّة.

الأيديولوجية : مجموعة من الآراء الكُلّية المتناسقة حول سلوك الإنسان وأفعاله.

وهناك تعبير آخر في عرف الحكماء ، حيث يعبّرون عن الرؤية الكونية بالحكمة النظرية ، وعن الأيديولوجية بالحكمة العملية.

ويمكن تقسيم الرؤية الكونية إلى الأقسام التالية :

٥٦٨

١ ـ الرؤية الكونية العلمية : بأن يتوصّل الإنسان من طريق معطيات العلوم التجريبية إلى رؤى كُلّية حول الوجود.

٢ ـ الرؤية الكونية الفلسفية : وتحصل من خلال الاستدلال والبحوث العقلية.

٣ ـ الرؤية الكونية التعبّدية : ويتوصّل الإنسان إليها عن طريق الاعتقاد بقادة الأديان ، والإيمان بأحاديثهم.

٤ ـ الرؤية الكونية العرفانية : التي تحصل عن طريق الكشف والشهود والإشراق ، ومعرفة أبعد الحقائق بالتأمّل الذاتي ، والتوجّه الروحي ، والسلوك المهذّب نحو الله تعالى.

( أحمد ـ السعودية ـ سنّي ـ ٢٠ سنة ـ طالب جامعة )

برهان النظم لا يجري في عالم التشريع :

س : الشيعة تقول بدليل النظم في إثبات الصانع ووحدته ، ولكن لا تطبّق دليل النظم في حياتها الفقهية ، فنجد الفقهاء لا يأخذون بدليل النظم في منازل القمر ، وإثبات دخول الشهر أو خروجه؟

ج : لا يخفى عليكم أوّلاً : أنّ برهان النظم لا يختصّ بالشيعة كما ذكرت ، بل هو برهان اعتمد عليه المسلمون كُلّهم ، بل وغيرهم من الأديان الأُخرى ، على إثبات وجود الله تعالى.

وثانياً : أنّ برهان النظم يجري في عالم التكوين ، فهو يُثبت أنّ للكون نظام ، ولا يجري في عالم التشريع والتكليف ، فهو لا يثبت لنا حكماً شرعياً ، بل الأحكام تثبت من خلال القرآن والسنّة.

وعليه ، فالفقهاء يتعبّدون بما ورد من الروايات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام ، ولا يعتمدون على برهان النظم في أُمورهم الفقهية ، ففي قضية الصوم مثلاً ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «صم لرؤية الهلال ، وأفطر لرؤيته »(١) .

__________________

١ ـ الاستبصار : ٦٣.

٥٦٩

وعليه ، فلابدّ من إثبات دخول الشهر أو خروجه من خلال رؤية الهلال ، لا من خلال الاعتماد على الحسابات ، أو الاعتماد على برهان النظم.

( أحمد محمّد ـ ـ )

البكاء من خشية الله :

س : حُرمت البكاء من خشية الله تعالى ، فماذا أفعل؟ جزاكم الله خيراً.

ج : من وصايا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر : «يا أبا ذر : من استطاع أن يبكي قلبه فليبك ، ومن لم يستطع فليشعر قلبه الحزن وليتباك ، يا أبا ذر ، إنّ القلب القاسي بعيد من الله تعالى ، ولكن لا تشعرون »(١) .

إذا لم تساعدك العينان على البكاء ، فاحمل نفسك على البكاء وتشبّه بالباكين ، متذكّراً الذنوب العظام ، ومنازل مشهد اليوم العظيم ، يوم تبلى السرائر ، وتظهر فيه الضمائر ، وتنكشف فيه العورات ، عندها يحصل لك باعث الخشية ، وداعية البكاء الحقيقي ، والرقّة وإخلاص القلب.

وقد ورد في الحديث ما يدلّ على استحباب التباكي ، ولو بتذكّر من مات من الأولاد والأقارب والأحبّة ، فعن إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : أكون أدعو فأشتهي البكاء ولا يجيئني ، وربما ذكرت بعض من مات من أهلي فأرق وأبكي ، فهل يجوز ذلك؟

فقالعليه‌السلام : «نعم ، فتذكّرهم ، فإذا رققت فأبك ، وأدع ربّك تبارك وتعالى »(٢) .

ثمّ لا يخفى عليك أن ترك الذنوب والمعاصي ، وأن تذكر الله كثيراً ، وأن تدعو وتتوسّل بأهل البيتعليهم‌السلام ، وتأكل الحلال وتجتنب الحرام ، وتأكل العدس المطبوخ ، وغير ذلك ، لأنّ هذه الأُمور تساعد على البكاء من خشية الله تعالى.

__________________

١ ـ الأمالي للشيخ الطوسي : ٥٢٩.

٢ ـ الكافي ٢ / ٤٨٣.

٥٧٠

( وسام صباح عبد الرضا ـ العراق ـ ٢٨ سنة ـ طبيب )

احتياج المركّب إلى الجزء :

س : في الكتب العقائدية أجد العبارة التالية : « المركّب يحتاج إلى الجزء » ونحن نعلم : بأنّ المركّب يتألّف من جزئين فأكثر ، ويستحيل وجود مركّب من جزء واحد فقط ، فهل المقصود بالجزء في العبارة هو جنس الجزء ، الذي يصدق على أفراده؟ أم المقصود به المقابل للمركّب من باب التضايف؟

والسؤال الثاني : يقول ابن ميثم البحرانى : « الواجب بالذات لا يتركّب عن غيره ، وإلاّ لافتقر إلى ذلك الغير ، فكان ممكناً بذاته هذا خلف »(١) .

هل يقصد القائل أنّ المركّب محتاج إلى الغير في تركّبه ، كي يكون مركّباً ، وبذلك فإن ارتفع الغير ارتفع التركيب فيرتفع المركّب ، أي أنّ التركيب يكون عن طريق الغير ، وما يأتي من الغير يزول بزواله ، فيكون المركّب من الغير ممكناً بذاته ، لحاجته للغير في كونه مركّباً ، أم لكم رأي آخر في ذلك؟ الرجاء عدم إهمال الرسالة والإجابة بالسرعة الممكنة.

ج : بالنسبة إلى السؤال الأوّل نقول : المقصود جنس الجزء ، فهم يريدون أن يقولوا : أنّ المركّب يحتاج إلى كُلّ جزء من أجزائه ، إذ بفقدان أي جزء من الأجزاء ينعدم ذلك المركّب ويزول ، فهو بحاجة في تحقّقه إلى كُلّ واحد من أجزائه.

وهم من باب الاختصار في التعبير قالوا : المركّب مفتقر إلى الجزء ، يعني إلى كُلّ جزء من أجزائه ، أنّ هذا هو المقصود ، وليس المقصود أنّه يحتاج إلى واحد من أجزائه دون بقية الأجزاء.

وبالنسبة إلى السؤال الثاني نقول : هناك قضية ينبغي أن تكون واضحة ، وهي : أنّ الحاجة والافتقار هما من لوازم الإمكان ، والغنى وعدم الاحتياج هما من لوازم الوجوب ، فكُلّما فرضنا الشيء محتاجاً ومفتقراً إلى غيره فذلك يعني أنّه ممكن ، وكُلّما افترضناه واجباً فذلك يعني أنّه غني وليس محتاجاً.

__________________

١ ـ قواعد المرام في علم الكلام : ٤٥.

٥٧١

وإذا تمّت هذه القضية ، وكانت مورد قبولنا ، فسوف نخرج بقضية أُخرى ، وهي : أنّ الشيء متى ما كان مركّباً ، فيلزم أن يكون ممكناً ، لأنّ المركّب يحتاج في تحقّقه إلى كُلّ واحد من أجزائه ، إذ مع انخرام أيّ واحد من الأجزاء يزول ذلك المركّب ، فالخلُّ مثلاً الذي هو مركّب من سكّر وحموضة ، يحتاج في تحقّقه إلى كُلّ واحد من هذين الجزئين ، إذ بعدم تحقّق أي واحد منهما يزول المركّب ، أعني الخلَّ ، ويحصل مركّب آخر.

ونحن ما دمنا قد سلّمنا مسبقاً أنّ الحاجة هي من لوازم الإمكان ، فيلزم أن نحكم بالإمكان على كُلّ موجود مركّب.

( علي العريان ـ أيرلندا ـ ١٩ سنة ـ طالب الثانوية )

عملية التنصيص الإلهي على المرجع مفقودة :

س : أوّلاً : نعلم أنّ الهدف من الإمامة هو الأمان من الفرقة وتوحيد الأُمّة ، ولذلك كانت الإمامة بالنصّ.

ثانياً : نلاحظ أنّ فتاوى مراجعنا في القيادة السياسية في زمان الغيبة متضاربة ، بين قائل بولاية الفقيه المطلقة ، وآخر بولاية الفقيه في الأُمور الحسبية ، وآخر بشورى الفقهاء ، ورابع بأنّ القيادة بالانتخاب الشعبي لمجموعة من الفقهاء ، وخامس يرى أن لا يلزم أن يكون القائد السياسي فقيهاً ، وغيرها من أقوال فقهائنا.

ثالثاً : أنّ المرجعية الدينية امتداد للإمامة ، ولها نفس هدفها ، وهو وحدة المسلمين.

السؤال : ألا يقع الإشكال نفسه على المرجعية الدينية حيث يقال : بأنّ المرجعية التي بها وحدة الأُمّة هي نفسها مختلفة في السبيل الذي يحقّق وحدة الأُمّة ، وبالتالي نحن مختلفون أساساً في مؤهّلات الحاكم السياسي ، الذي فائدته الأُولى توحيد الأُمّة؟

٥٧٢

ج : مسألة توحيد الكلمة على شخص واحد ورأي واحد وموقف واحد ، تحتاج إلى تنصيص من قبل الله سبحانه على شخص واحد للمرجعية الدينية ، كما حصل ذلك في حقّ أئمّتناعليهم‌السلام .

أمّا بعد أن كانت عملية التنصيص الإلهي على المرجع مفقودة ، فتعدّد المرجعية الدينية يكون أمراً طبيعياً ، واختلافهم أيضاً يكون أمراً طبيعياً.

ولا يمكن أن يوجّه نداء لهم بترك اجتهادهم ، وطرحه على الجدار ، وإلزامهم برأي موحّد ، إنّ هذا أشبه بما إذا قلنا لمجموعة أطباء : على كُلّ واحد منكم ترك اجتهاده الشخصي في تشخيص علاج هذا المرض ، وبالتالي عليكم الاجتماع على رأي واحد ، إنّه طلب مرفوض ، ورأي غير مقبول.

تبقى قضية ينبغي لفت الأنظار إليها وهي : أنّ الفقيه الذي لا يرى الولاية السياسية ، يرى في نفس الوقت أن أيّ فقيه إذا تصدّى للعمل السياسي ، وكان مرضياً في طريقته وعمله ، فلا يحقُّ لأيّ شخص إرباك الوضع ، وشقُّ العصا عليه ، فإنّ الحفاظ على النظام ، ووحدة الكلمة ، وتوحيد الصف قضية لازمة ، فإنّ الإسلام دين النظام ، ويريد النظام في أيّ مجال من مجالات الحياة ، ولا ينبغي أن نتصوّر أنّ الذي لا يرى الولاية السياسية يسوّغ لاتباعه إرباك النظام والإخلال به.

( علي عمران ـ السعودية ـ ٢٦ سنة ـ طالب جامعة )

إطلاق لقب العلاّمة :

س : تحية معطّرة برياحين ولاية محمّد وآل محمّد.

أساتذتي القائمين على موقع العقائد حفظكم الله ، طالعت مقالاً بأحد المنتديات بعنوان الألقاب العلمية , وهذا نصّه :

« لقب آية الله : يُطلق على من وصل إلى رتبة الاجتهاد ؛ وآية الله العظمى : يُطلق على من يتصدّى للتقليد والإفتاء ؛ والمرجع : يطلق على من يتبوّأ مقام

٥٧٣

المرجعية والإفتاء ، ويرجع إليه الناس في تقليدهم ؛ والمرجع الأعلى : يطلق على يُقلّده أكثرية الشيعة.

وهي مصطلحات ظهرت في هذا العصر الأخير ، ولم تكن متداولة في العصور الماضية عند الشيعة ، فما كان يُطلق شيء من هذا القبيل على الشيخ المفيد ، ولا الشيخ الطوسي ، ولا الشريف الرضي والمرتضى ، ولا العلاّمة الحلّي ، ولا المحقّق الحلّي ، والشهيدين الأوّل والثاني ، والمجلسي وبقية العلماء في الأزمنة الماضية ، رحمهم الله جميعاً ، وأسكنهم فسيح جنانه مع محمّد وآله ».

سؤالي الأوّل : على من يطلق لقب العلاّمة؟

سؤالي الثاني : هل تدرّج الألقاب من حيث المراتب بنفس الترتيب الذي ذكرت؟ أي أقصد هل أقل مرتبة هي آية الله ، ثمّ آية الله العظمى ، ثمّ المرجع ، ثمّ المرجع الأعلى؟ وجزاكم الله خير جزاء.

ج : الظاهر أنّ لقب العلاّمة يطلق على الذي وصل إلى درجة علمية أعلى من حجّة الإسلام والمسلمين ، وأقلّ من آية الله.

نعم ، بعض الأحيان تختصّ بشخص معيّن ، مثل العلاّمة الحلّي ، والعلاّمة الطباطبائي ، فهي تدلّ على مرتبة أعلى من ذلك قطعاً ، وما ذكرت من الترتيب والتدرّج ، فهو من ناحية الواقع العلمي صحيح.

أمّا قولهم : « إنّ هذه مصطلحات ظهرت » فلا نرى صحّة ذلك ، بل هي ألقاب كما هو في لفظة دكتور وما شاكلها.

( عيسى الشيباني ـ الإمارات ـ ٢٥ سنة ـ طالب ثانوية )

الحكم في المسائل المستحدثة :

س : من المعلوم بأنّ الشيعة الإمامية تتّخذ من القرآن الكريم والسنّة النبوية ـ والمتمثّلة بأهل البيتعليهم‌السلام ـ منهجاً لها في استخراج الأحكام والمسائل الشرعية ، والمقصد من ذلك أنّها لا تستخدم القياس والاستنباط في استخراج المسائل ، كما يستخدمه أهل السنّة.

٥٧٤

ولكن بالنسبة للأُمور المستحدثة والتي لم تكن موجودة في عهد الرسول والأئمّةعليهم‌السلام ، وإنّما ظهرت في العصور المتأخّرة والحديثة ، فما هي أو ما هو الأسلوب المتبع للاستخراج الحلول والمنافذ عند سماحة العلماء إن لم تكن موجودة في القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهّرة؟ ولكم فائق الاحترام والتقدير.

ج : في القرآن الكريم والسنّة الشاملة لأقوال المعصومينعليهم‌السلام ، هناك قواعد كُلّية قد استخرجها العلماء ، وهذه القواعد تنطبق على كثير من المسائل الفرعية ، فإذا جاءت مسألة فرعية فالفقيه يرجعها إلى تلك القواعد الكُلّية ، فإن دخلت تلك المسألة تحت حكم إحدى تلك القواعد أفتى الفقيه بذلك.

مثلاً : إذا اكتشفت مادّة جديدة مسكرة ، والقرآن والسنّة لم يشيرا إلى حرمة تلك المادّة ، لكن الفقيه عنده قاعدة كُلّية : بأنّ كُلّ مسكر حرام ، فيستطيع أن يفتي بحرمة هذه المادّة طبقاً إلى تلك القاعدة ، وكذلك هناك قواعد عقلية كُلّية عامّة يستطيع أن يستخدمها ويفتي على طبقها ، وإذا لم توجد هناك أي قاعدة عامّة ، يمكن إدخال المسائل المستحدثة تحتها ، تصل النوبة إلى الأُصول العملية التي هي أيضاً قواعد مستنبطة من أقوال المعصومينعليهم‌السلام ، وهذه الأُصول يدخل تحتها جميع المسائل الفرعية ، التي لم يمكن إدخالها تحت القواعد العامّة المستنبطة من القرآن والسنّة ، أو التي لا يمكن إدخالها تحت القواعد العامّة المكتشفة بحكم العقل ، وهذه القواعد المشار إليها بقسميها ـ التي يحرز منها الدليل ـ أو التي يؤخذ منها الموقف العملي ـ تدرس في علم أُصول الفقه.

فالفقيه يبحث أوّلاً عن الحكم الشرعي الذي يسند إلى دليل استخرج من القرآن أو السنّة ، أو العقل أو الإجماع ، ويسمّى الحكم المستخرج من تلك القاعدة الحكم الشرعي الظاهري ، أمّا إذا فقدت تلك القواعد ، فإنّ الفقيه يبحث عن الوظيفة العملية للمكلّف عند فقد تلك الأدلّة المستخرجة من القرآن والسنّة والعقل والإجماع ، ويستطيع الفقيه الوصول إلى تلك الوظيفة بأعمال تلك القواعد المسمّاة بالأُصول العملية.

٥٧٥

وعليه ففي كُلّ مسألة مستحدثة يرجع الفقيه إلى القواعد التي لديه لاستخراج حكمها الشرعي الظاهري ، أو الوظيفة العملية اتجاهها.

( محمّد ـ كندا ـ ٣٣ سنة )

حلّية التدخين :

س : بعد الاستبصار ـ ولله الحمد ـ بدأت أقرأ وابحث كثيراً ، وما أذهلني ظهور بعض المعمّمين المشايخ في التلفاز ، وهم يدخّنون ، وقرأت أنّ شرب الدخّان ليس بحرام عندنا ، لكن بدأ أهل السنّة يعيبون علينا ذلك ، وأُصدّقكم القول أنّ بحكم ماضي مع العامّة ، كنت دائماً مع تحريم الدخّان ، خصوصاً لكراهة رائحته ، وكذلك ضرره البيّن بالنفس ، التي أمر الشارع بحفظها ، وكذلك ضرره بالمال ، الذي أُمرنا بعدم تبذيره.

أفيدونا ، فقد علّمتمونا وعوّدتمونا اشفاء الغليل في أجوبة سماحتكم ، فكثيراً من العامّة والخاصّة يدمنون على شربه ، ولا يمكن القول أنّ شربه لا يمكن تركه ، إذا تبيّن الضرر ، سامحوني فقد أحسست بعدم اطمئنان لحلّيته إلاّ يدخل في الخبائث ، كما يقول العامّة ، وأنا أميل إليهم ، واستغفر الله في قولهم ، حين يجعلونه مشمولاً بحكم الآية الكريمة في حلّية الطيّبات ، وحرمة الخبائث ، أفلا يكون خبثاً شرب الدخّان؟ سامحوني على وقاحتي بحضرتكم ، وجزاكم الله خيراً.

ج : يعتبر التدخين من مستحدثات المسائل ، فهو من المسائل غير المنصوصة الحكم ، إذ لم يكن له وجود زمن النصّ.

فإذا أراد الفقيه أنّ يعرف حكمه ، فيقول : إنّ التدخين نحتمل حرمته شرعاً ، ولا نحتمل وجوبه ، فنتّجه أوّلاً إلى محاولة الحصول على دليل يعيّن حكمه الشرعي ، فلا نجد دليلاً من هذا القبيل ، فيبقى حكم التدخين مجهولاً ، وحرمته مشكوكة لدينا ، لا ندري أهو حرام أو مباح؟

٥٧٦

وحينئذ نتساءل ما هو الموقف العملي ، الذي يتحتّم علينا أن نسلكه تجاه ذلك الحكم المجهول؟ هل يجب الاحتياط ، فلا ندخّن أو نحن في سعةٍ من ذلك ، مادمنا لا نعلم الحرمة؟ ولبيان الموقف العملي نذكر نقاط :

١ ـ إنّ الأصل الأوّلي وهو حلّية أكل شيء أو شربه ما لم يصلنا النهي عنه من الشارع ، إذ لو علمنا عدم النهي عنه أصلاً ، فلأنّ العقل يحكم بذلك سيّما وأنّ طريقة الشارع هي بيان وذكر المحرّمات لا المباحات ، قال تعالى فيما علّم نبيّه الردّ على الكفّار :( قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (١) ، وهناك روايات في ذلك.

أمّا لو لم نعلم النهي ، أو لم يصل إلينا ، أو وصل إلينا مجملاً فشككنا في حكمه ، فالأصل في ذلك هو البراءة لما حقّق في الأُصول مستدلّين بالآيات والروايات ، كقوله تعالى :( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٢) ، وقوله تعالى :( لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا ) (٣) ، إذاً فكُلّ ما لم يثبت حرمته فهو حلال.

٢ ـ ربما يقال : أنّ هذا مفاد الأصل الأوّلي ، ولكن هناك أصل ثانوي في المأكولات والمشروبات ، وهو حرمة ما يتنفّر منه الطبع ، واستدلّ عليه بالآية :( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ) (٤) ، وذلك بأنّ الطيّب ما يستطيب الناس ، والخبائث ما يستخبثه الناس على حسب عادتهم ، فيدخلون التدخين في الخبائث.

__________________

١ ـ الأنعام : ١٤٥.

٢ ـ الإسراء : ١٥.

٣ ـ الطلاق : ٧.

٤ ـ الأعراف : ١٥٧.

٥٧٧

ولكن يبقى أنّ الطيّب له عدّة معاني مأخوذة من آيات الذكر الحكيم ، كالحلال والجيّد والطاهر ، وما لا أذى فيه ، وما فيه الخير والبركة ، وما تستطيبه النفس ولا تنفر منه ، وغير ذلك ، والاستدلال بهذه الآية مبنيّ على المعنى الأخير ، وهو ما تستطيبه النفس ولا تنفر منه ، حتّى يكون الخبيث عكسه ، وهو ما يتجنّبه الناس ، وهو غير ظاهر من الآية ، إذ تبقى المعاني الأُخرى محتملة.

ولو سلّم إرادة هذا المعنى ، ولكن يبقى تحديد المعنى المراد من الخبائث غير منضبط عرفاً ، فهل يراد عرف الناس ، أو عرف المكلّف ، أو عرف قوم معينين؟

ومن الواضح سعة اختلاف العرف بينهم ، فربَّ شيء يتجنّبه أهل بلد ما ، ترى آخرين يأكلونه ، بل يختلف الأمر من شخص إلى شخص ، والتجربة أمامك ، بل يتوجّه النقض عليه بكثير من الأدوية ، التي يتنفّر عن أكلها أو شربها الأغلب ، ومع ذلك لا يحكم أحد بخبثها ، وعلى كُلّ فلا ضابط في تعيّن ذلك ، حتّى يستفاد منه الأصل الثانوي.

٣ ـ وربما يستدلّ على الحرمة من جهة توجّه الضرر على البدن من التدخين ، ولكن المتيقّن هو حرمة الأضرار بالبدن ، إذا كان يؤدّي إلى التهلكة ، أو إلى الأضرار الكبير بالبدن ـ كتلف أحد الأعضاء مثلاً ـ أمّا ما دون ذلك ، فلم يثبت حرمته لا عقلاً ولا شرعاً.

فإنّ العقل لا يأبى من تحمّل الضرر القليل من أجل هدف معيّن ، وأنّ أدلّة الشرع لو سلّم أنّها تنفي الضرر لا تشمل مثل الضرر الجزئي لغرض عقلائي ، لأنّه مخالف للامتنان الذي هو مصبّ أدلّة النهي عن الضرر ، على أنّ مثل هذا الضرر لا يعدّ ضرراً عند العرف ، والعرف أمامك.

وما يظهر من بعض الأخبار من أنّ علّة تحريم أكل بعض الأشياء هو الضرر ، لا يعدو أن يكون حكمة ، وإلاّ لزم تحليل تلك الأشياء إذا قطع بارتفاع الضرر ، كالذبح من دون استقبال القبلة مثلاً ، وبعض الأخبار الأُخرى ضعيفة السند.

٥٧٨

إضافة إلى الإجماع على جواز بعض الأشياء ، مع أنّ فيها مضرّة ـ كدخول الحمّام مع الجوع ، وكثرة الجماع ، والعمل تحت الشمس الحارّة وغيرها ـ.

( سالم أبو المصطفى اللامي ـ العراق ـ ٤١ سنة ـ دبلوم تحليلات مرضيه )

المراد من مسيرة عام :

س : كيف تكون المسافة بين الأرض والسماء الدنيا هي مسيرة ٥٠٠ عام ، والسماء الدنيا فيها أقرب نجم لدينا هو لا يقلّ عن سنة ضوئية ، وإنّ الفرق بينهما كبير جدّاً ، بارك الله بكم.

ج : إنّ مثل هذه الروايات على فرض صحّتها ، وردت على لسان الملائكة في تحديد بُعد السماء الدنيا عن الدنيا ـ كما في الحديث ـ بمسيرة ٥٠٠ عام ، ولم يحدّد الملائكة مسيرة ماذا؟ هل مسيرة رجل؟ أو مسيرة فرس؟ أو مسيرة جمل؟ أو مسيرة الملائكة؟ أو مسيرة الضوء؟

وهكذا يحتمل كلامهم أكثر من احتمال ، فتبقى المسافة مجملة ، كما أنّه ليس هناك ما يثبت أنّ تكون في كُلّ سماء نجوم أو نجوم مرئية إلينا ، فهذه العين البشرية ـ وإن تقدّم العلم ـ تبقى قاصرة عن إدراك ومشاهدة الكثير ممّا خلق الله تعالى.

( أُمّ جعفر ـ البحرين ـ ٢١ سنة ـ طالبة جامعية )

العلم نور من الله :

س : العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء ، كيف يكون ذلك؟ وشكراً ، نسألكم الدعاء.

ج : هذا المقطع هو جملة من حديث للإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «ليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله أن يهديه »(١) ،

__________________

١ ـ منية المريد : ١٤٩.

٥٧٩

والذي يفهم من الحديث أنّ العلم ليس هو مجرّد استحضار المعلومات الخاصّة ، وإن كانت هي العلم في العرف العامّي ، وإنّما هو النور الناشئ من ذلك العلم الموجب للبصيرة ، والخشية من الله تعالى.

وهذا النور الذي يمنّ الله به على عباده ، بعد أن يجد فيهم أهلية الخشية والطاعة ، إذ يتنوّر القلب به بالإفاضة ، وهي تحصل إمّا بالمكاشفة أو بالكسب والتعلّم تحت عناية الله سبحانه ، بما يسبّب للقلب حالات أُخر من الشوق والعزم على العمل الموجب للقرب من الحقّ جلّ وعلا.

( أُمّ جعفر ـ البحرين ـ ٢١ سنة ـ طالبة جامعية )

الفرق بين الوجود والموجود :

س : ما هو الفرق بين الوجود والموجود؟ وشكراً ، نسألكم الدعاء.

ج : كلمة الوجود ـ وهي مبدأ الاشتقاق لكلمة الموجود ـ مصدر يتضمّن معنى الحدث ، ويُنسب إمّا إلى الفاعل أو إلى المفعول ، كما أنّ كلمة الموجود اسم مفعول ، ويتضمّن معنى وقوع الفعل على الذات.

وأحياناً يُؤخذ من كلمة الموجود مصدر جعلي هو الموجودية ، ويستعمل بمعنى الوجود ، هذا من حيث الاصطلاح اللغوي.

أمّا من الجانب الفلسفي ، فإنّ المفهوم الفلسفي للوجود يساوي مطلق الواقع ، وهو المقابل للعدم ، وحسب الاصطلاح فإنّه نقيضه ، ولهذا فهو يشمل الذات الإلهية المقدّسة ، والواقعيات المجرّدة ، والمادّية الجواهر منها والأعراض ، والذوات والحالات.

وهذه الواقعيات العينية عندما تنعكس في الذهن بصورة قضية فإنّه يؤخذ منها على الأقلّ مفهومان اسميّان ، يحتلّ أحدهما طرف الموضوع ، ويحتلّ الآخر الذي هو مفهوم موجود طرف المحمول ، وهو من المفاهيم الفلسفية ، وكونه محمولاً يقتضي أن يصبح مشتقّاً.

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624