الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204096 / تحميل: 6083
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

قالت:فمَن قاتل الأقوام إذ نكثوا ؟

فقلت:تفسيره في وقعة الجملِ

قالت:فمَن حاربَ الأرجاس إذ قسطوا ؟

فقلت:صفِّين تُبدي صفحة العملِ

قالت:فمَن قارعَ الأنجاس إذ مَرقوا ؟

فقلت:معناه يوم النَّهروان جَلي

قالت:فمَن صاحب الحوض الشريف غداً؟

فقلت:مَن بيته في أشرف الحللِ

قالت:فمَن ذا لواء الحمد يحمله ؟

فقلت:مَن لم يكن في الرَّوع بالوجلِ

قالت:اُكلُّ الذي قد قلتَ في رجلٍ ؟

فقلت:كلُّ الذي قد قلتُ في رجلِ

قالت:فمَن هو هذا الفرد سِمهُ لنا ؟

فقلت:ذاك أمير المؤمنين علي

وله من قصيدة:

يا كفو بنت محمَّد لولاك ما

زُفَّت إلى بشر مدى الأحقابِ

يا أصل عترة أحمد لولاك لم

يك أحمد المبعوث ذا أعقابِ

كان النبيُّ مدينة العلم التي

حوت الكمال و كنتَ أفضل بابِ

رُدَّت عليك الشمس وهي فضيلةُ

بهرت فلم تُستر بلفِّ نقابِ

لم أحك إلّا ما روته نواصبٌ

عادتك فهي مباحة الأسلابِ

عوملت يا تلو النبيِّ وصنوه

بأوابد جاءت بكلّ عجابِ

قد لقَّبوك أبا ترابٍ بعد ما

باعوا شريعتهم بكفِّ تُرابِ

لم تعلموا أنَّ الوصيَّ هو الذي

آتي الزكاة وكان في المحرابِ

لم تعلموا أنَّ الوصيَّ هو الذي

حَكَم الغدير له على الأصحابِ

وله قوله:

وقالوا:عليُّ علا. قلت:لا

فإنَّ العُلا بعليٍّ عُلا

ولكن أقول كقول النبيِّ

وقد جمع الخلق كلّ الملا

: ألا إنَّ مَن كنت مولى له

يُوالي علياً و إلّا فلا

وله من قصيدة قوله:

وكم دعوةٍ للمصطفى فيه حُقِّقت

وآمال من عادى الوصيِّ خوائبُ

فمَن رَمَدٍ آذاه جَلّاه داعياً

لساعته والريح في الحرب عاصبُ

من سطوةٍ للحرِّ والبرد رفِّعت

بدعوته عنه وفيها عجائبُ

٤١

وفي أيِّ يوم لم يكن شمس يومه

إذا قيل هذا يوم تُقضى المآرب ؟

أفي خطبة الزَّهراء لمّا استخصَّه

كفاءاً لها والكلُّ من قبل طالبُ ؟

أفي الطير لمّا قد دعا فأجابه

وقد ردَّه عنه غبيُّ مواربُ ؟

أفي رفعه يوم التباهل قدره ؟

وذلك مجدٌ ما علمت مواظبُ

أفي يوم خمٍّ إذ أشاد بذكره ؟

وقد سمع الايصاء جاء وذاهبُ

أيعسوب دين الله صنو نبيَّه

ومن حبّه فرضٌ من الله واجبُ

مكانك من فوق الفراقد لائحٌ

ومجدك من أعلى السّماك مراقبُ

وسيفك في جيد الأعادي قلائدُ

قلائد لم يعكف عليهنَّ ثاقبُ

( ألشاعر )

ألصاحب كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عبّاد بن العبّاس بن عبّاد بن أحمد بن إدريس الطالقاني.

قد يرتج القول على صاحبه بالرغم من بلوغه الغاية القصوى من القدرة في تحليل شخصيّات كبيرة أتتهم الفضايل من شتى النواحي، واكتنفتهم المزايا الفاضلة من جهات متفرِّقة، ومن هاتيك النفسيّات الكبيرة التي أعيت البليغ حدودها نفسيَّة - الصاحب - فهي تستدعي الإفاضة في تحليلها من ناحية العلم طوراً، ومن ناحية الأدب تارةً، كما تسترسل القول من وجهة السياسة مرَّة، ومن وجهة العظمة اُخرى، إلى جودٍ هامرٍ، وفضلٍ وافرٍ، وشرفٍ صميم، ومذهبٍ قويم، وفضايل لا تحُصى ومهما هتف المعاجم بشيء من ذلك فإنَّه بعض الحقيقة، ولعلِّ في شهرته بهاتيك المآثر جمعاء غنىً عن الإطناب في وصفه، وإنَّك لا تجد شيئاً من كتب التراجم إلّا وفيه لمعُ من محامده، ومن أشهرها ( يتيمة الدهر ) للثعالبي وهو أبسط مَن كتب فيه من القدماء وقد استوعب فيه ٩١ صحيفة، وإنَّما ألفَّها له ولشعرائه، وأفرد غير واحد من رجال التأليف كتاباً في ترجمته منهم:

١ - مهذّب الدين محمَّد بن علي الحلّي المزبدي المعروف بأبي طالب الخيمي له كتاب [ الديوان المعمور في مدح الصاحب المذكور ].

٤٢

٢ - ألشيخ محمَّد علي بن الشيخ أبي طالب الزاهدي الجيلاني المولود ١١٠٣ و المتوفّى ١١٨١.

٣ - ألسيِّد أبو القاسم أحمد بن محمَّد الحسني الحسيني الإصبهاني، له كتاب [ رسالة الارشاد في أحوال الصاحب بن عباد ] ألفَّها سنة ١٢٥٩.

٤ - ألاُستاذ خليل مردم بك له كتاب في المترجَم طبع في مطبعة الترقّي ٢٥٢ صحيفة بدمشق وهو الجزء الرابع من أئَّمة الأدب الأربعة في أربعة أجزاء.

وبعد هذه الشهرة الطائلة فليس علينا إلّا سرد ترجمة بسيطة هي جُماع ما في هذه الكتب.

وُلد الصاحب في إحدى كور فارس باصطخر أو بطالقان في ١٦ ذي القعدة سنة ٣٢٦، وأخذ العلم والأدب عن والده وأبي الفضل إبن العميد. وأبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي، وأبي الفضل العبّاس بن محمّد النحوي الملقَّب بعرام، وأبي سعيد السيرافي وأبي بكر بن مقسم، والقاضي أبي بكر أحمد بن كامل بن شجرة، و عبد الله بن جعفر بن فارس ويروي عن الأخيرين.

قال السمعاني:إنَّه سمع الأحاديث من الإصبهانيِّين والبغداديِّين والرازيِّين وحدَّث، وكان يحثُّ على طلب الحديث وكتابته، وروى عن إبن مردويه انَّه سمع الصاحب يقول:من لم يكتب الحديث لم يجد حلاوة الإسلام.

وكان يُملي الحديث على خلقٍ كثير فكان المستملي الواحد ينضاف إليه الستَّة كلُّ يبلّغ صاحبه، فكتب عنه الناس الكثير الطيِّب منهم:القاضي عبد الجبّار. والشيخ عبد القاهر الجرجاني. وأبو بكر بن المقري. والقاضي أبو الطيِّب الطبري. وأبو بكر بن عليِّ الذكواني. وأبو الفضل محمَّد بن محمَّد بن إبراهيم النسوي الشافعي.

ثمَّ شاع نبوغه في العلوم وتضلّعه في فنون الأدب، واعترف به الشاهد والغائب حتّى عدَّه شيخنا بهاء الملّة والدين في رسالة غسل الرجلين ومسحهما من علماء الشيعة في عداد ثقة الإسلام الكليني. والصَّدوق. والشيخ المفيد. والشيخ الطوسي والشيخ الشهيد ونظرائهم. ووصفه العلّامة المجلسي الأوَّل في حواشي نقد الرجال بكونه من أفقه فقهاء أصحإبنا المتقدِّمين والمتأخِّرين، وعدَّه في مقام آخر:من

٤٣

رؤساء المحدِّثين والمتكلّمين. وأطراه شيخنا الحرُّ العاملي في ( أمل الآمل ) بأنَّه محقِّقُ متكلّمٌ عظيم الشأن جليل القدر في العلم.

كما أنَّ الثعالبي في ( فقه اللغة ) جعله أحد أئمَّتها الذين اعتمد عليهم في كتابه أمثال الليث. والخليل. وسيبويه. وخلف الأحمر. وثعلب الأحمثي. وابن الكلبي. وإبن دريد. وعدَّه الأنباري ايضاً من علماء اللغة فأفرد له ترجمته في كتابه:طبقات الاُدباء النّحاة، وكذلك السيوطي في ( بغية الوعاة ) في طبقات اللغويِّين والنّحاة، ورآه العلّامة المجلسي في مقدِّمة البحار علُماً في اللغة والعروض والعربّيَّة من الإماميّة.

م - وقال إبن الجوزي في ( المنتظم ) ٧ ص ١٨٠:كان يخالط العلماء والأدباء ويقول لهم:نحن بالنهار سلطان وبالليل إخوان، وسمع الحديث وأملى، وروى أبو الحسن علي بن محمّد الطبري المعروف بكيا قال:سمعت أبا الفضل زيد بن صالح الحنفي يقول:لما عزم الصاحب إسماعيل بن عباد على الإملاء وكان حينئذ في الوزارة خرج يوماً متطلساً متحنّكاً بزيِّ أهل العلم فقال:قد علمتمِ قدمي في العلم فأقروا له بذلك.

فقال:وأنا متلبِّسٌ بهذا الأمر وجميع ما أنفقته من صغري إلى وقتي هذا من مال أبي وجدّي، ومع هذا فلا أخلو من تبعات، اُشهد الله و اُشهدكم أنِّي تائبٌ إلى الله من كلِّ ذنب أذنبته.

واتَّخذ لنفسه بيتاً وسمّاه بيت التوبة، ولبث اُسبوعاً على ذلك، ثمَّ أخذ خطوط الفقهاء بصحَّة توبته، ثمَّ خرج فقعد للإملاء وحضر الخلق الكثير وكان المستملي الواحد ينضاف إليه ستَّة كلٌّ يبلِّغ صاحبه، فكتب الناس حتّى القاضي عبد الجبّار، وكان الصاحب ينفذ كلَّ سنة إلى بغداد خمسة آلاف دينار تفرق في الفقهاء وأهل الأدب وكان لا تأخذه في الله لومة لائم ].

وإخباتاً إلى علمه وأدبه ألّف له غير واحد من الأعلام الأفذاذ تآليف قيِّمة منهم.

١ - شيخنا الصّدوق أبو جعفر القمي ألَّف له كتابه [ عيون أخبار الرِّضا ].

م ٢ - ألحسين بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي كتابه [ نفي التشبيه ] كذا في لسان الميزان ٢ ص ٣٠٦ نقلاً عن فهرست النجاشي، ويظهر من النجاشي ص ٥ انَّه غيره ولم يسمِّه.

٣ - ألشيخ الحسن بن محمَّد القمي ألّف له كتابه [ تاريخ قم ]

٤٤

٤ - أبو الحسن أحمد بن فارس الرازي اللغوي كتابه [ الصاحبيّ ].

٥ - ألقاضي علّي بن عبد العزيز الجرجاني كتابه [ ألتهذيب ].

م ٦ - أبو جعفر أحمد بن أبي سليمان داود الصّواف المالكي، ألَّف للصاحب كتابه [ الحجر ] ووجَّهه إليه فقال الصاحب:رُدّوا الحجر من حيث جاء. ثمَّ قبله ووصله عليه، ذكره إبن فرحون في ( الديباج المذهَّب ) ص ٣٦ ] وللصاحب آثارٌ خالدةُ في العلم والأدب منها:

١ - كتاب أسماء الله وصفاته.

٢ - كتاب نهج السبيل في الاُصول.

٣ - كتاب ألإمامة في تفضيل أمير المؤمنين.

٤ - كتاب ألوقف والأبتداء.

٥ - كتاب ألمحيط في اللغة في عشر مجلّدات(١)

٦ - كتاب ألزيديَّة.

٧ - كتاب ألمعارف في التاريخ.

٨ - كتاب ألوزراء.

٩ - كتاب ألقضاء والقدر.

١٠ - كتاب ألروزنامجه. ينقل عنه الثعالبي في ( يتيمة الدهر ).

١١ - كتاب أخبار أبي العيناء.

١٢ - كتاب تاريخ الملك واختلاف الدُّول.

١٣ - كتاب الزيديِّين.

١٤ - كتاب جوهرة الجمهرة لإبن درُيد.

١٥ - كتاب الإقناع في العروض.

١٦ - كتاب نقض العروض.

١٧ - كتاب ديوان رسائله في عشر مجلّدات.

١٨ - كتاب ألكافي في الرَّسائل وفنون الكتابة.

____________________

١ - كذا في معجم الأدباء، وفي كشف الظنون:في سبع مجلدات.

٤٥

١٩ - كتاب ألأعياد وفضايل النيروز.

٢٠ - كتاب ديوان شعره.

٢١ - كتاب ألشواهد.

٢٢ - كتاب ألتذكرة.

٢٣ - كتاب ألتعليل.

٢٤ - كتاب الأنوار.

٢٥ - كتاب ألفصول المهذِّبة للعقول.

٢٦ - كتاب رسالة الأبانة عن مذهب أهل العدل.

٢٧ - كتاب في الطبّ.

٢٨ - كتاب في الطبِّ أيضاً.

٢٩ - كتاب الكشف عن مساوي شعر المتنبّي طبعت بمصر في ٢٦ صحيفة قال الثعالبي في ( اليتيمة ):ولَمّا عمل الصاحب هذه الرِّسالة عمل القاضي أبو الحسن عليّ بن عبد العزيز الجرجاني كتابه ( الوساطة ) بين المتنبّي وخصومه في شعره، وقال فيه بعض اُدباء نيسابور:

أيا قاضياً قد دنت كتبه

وإن أصبحت داره شاحطه

كتاب ( الوساطة ) في حسنه

لعقد معاليك كالواسطه

٣٠ - رسالةٌ في فضل سيِّدنا عبد العظيم الحسني المدفون بالري.

٣١ - كتاب السفينة نسبها إليه الثعالبي في تتمَّة اليتيمة.

م ٣٢ - كتابٌ مفرد في ترجمة الشافعي محمَّد بن ادريس إمام الشافعيَّة كما في ( الكواكب الدريَّة ) ص ٢٦٣ ].

م - وشافهني الاستاذ حسين محفوظ الكاظمي بانَّه رأى من تآليف الصاحب ما يلي:

١ - الفصول الأدبيَّة والمراسلات العباديَّة، مرتَّبة على خمسة عشر باباً في كلِّ باب خمسة عشر فصلاً، والنسخة مؤرِّخةٌ بسنة ٦٢٨.

٢ - رسالة في الهداية والضَّلالة، مخطوطةٌ بالخطّ الكوفي، نسخت من نسخة المؤِّلف وعليها خّطه.

٤٦

٣ - الأمثال السائرة من شعر أبي الطيِّب المتنبيّ، وهي ٣٧٢ بيتاً، والنسخة بخّط الباخرزي مؤرّخة بسنة ٤٣٤ ].

والقارئ جِدُّ عليم بأنَّ مؤلِّف هذه الكتب المتنوِّعة أحد أفذاذ العلم الذين لم يعدهم أيُّ مقام منيع من الفنون، فهو فيلسوفٌ متكلّمٌ فقيهٌ محدِّثٌ مؤرِّخٌ لغويُّ نحويٌ أديبٌ كاتبٌ شاعرٌ، فما ظنّك بمثله من نابغة جمع الشوارد، وألَّف بين متفرِّقات العلوم، وهل تجده إلّا في الذروة والسنام من الفضل الظاهر، فحقِّ له هذا الصيت الطاير. والذكر السائر مع الفلك الدائر.

كانت للصاحب مكتبةٌ عامرةٌ وقد نوَّه بها لمّا أرسل إليه صاحب خراسان الملك نوح بن منصور الساماني في السير يستدعيه إلى حضرته، ويرغِّبه في خدمته وبذل البذول السنيَّة، فكان من جملة أعذاره قوله:ثمَّ كيف لي بحمل أموالي مع كثرةً أثقالي ؟ وعندي من كتب العلم خاصَّة ما يُحمل على أربعمائة حمل أو أكثر.

في ( معجم الاُدباء ) قال أبو الحسن البيهقي:وأنا أقول:بيت الكتب الذي بالري دليلٌ على ذلك بعد ما أحرقه السلطان محمود بن سبكتكين فإنِّي طالعت هذا البيت فوجدت فهرست تلك الكتب عشر مجلّدات، فإنَّ السلطان محمودَ لمّا ورد إلى الري قيل له:إنَّ هذه الكتب كتب الروافض وأهل البدع فاستخرج منها كلَّ ما كان في علم الكلام وأمر بحرقه.

يظهر من كلام البيهقي هذا أنَّ عمدة الكتب التي اُحرقت هي خزانة كتب الصاحب، وهكذا كانت تعبث يد الجور بآثار الشيعة وكتبهم ومآثرهم.

وكان خازن تلك المكتبة ومتولّيها أبو بكر محمَّد بن إبراهيم بن عليّ المقري المتوفّى ٣٨١(١) وأبو محمّد عبد الله الخازن بن الحسن الأصبهاني.

وزارته صِلاته مادحوه

قال أبو بكر الخوارزمي:ألصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودبِّ ودرج من وكرها، ورضع أفاويق درّها، وورثها عن آبائه كما قال أبو سعيد الرستمي في حقِّه:

ورث الوزارة كابراً عن كابر

موصولة الأسناد بالأسنادِ

____________________

١ - توجد ترجمته في الوافي بالوفيات للصفدي ١ ص ٣٤١.

٤٧

يروي عن العبّاس عبّاد وزا

ـرته وإسماعيل عن عبّاد

وهو أوَّل من لُقِّب بالصاحب من الوزراء لأنَّه كان يصحب أبا الفضل بن العميد فقيل له:صاحب إبن العميد، ثمَّ اُطلق عليه هذا اللقب لمّا تولى الوزارة وبقي عَلَما عليه، وذكر الصّابي في كتاب التّاجي:انَّه إنَّما قيل له الصاحب لأنَّه صحب مؤيّد الدولة إبن بويه منذ الصبى وسمّاه الصاحب فأستمرِّ عليه هذا اللقب واشتهر به ثمَّ سُمّي به كلُّ من ولي الوزارة بعده.

إستكتبه مؤيِّد الدولة من ٣٤٧ تقريباً إلى سنة ٣٦٦ وسافر معه إلى بغداد سنة ٣٤٧ حتّى استوزره من سنة ٣٦٦، إلى وفاة مؤيّد الدولة سنة ٣٧٣ ثمَّ استوزره أخوه فخر الدولة، وسافر معه إلى الري عاصمة مملكته، ولم يؤل الصاحب جُهداً في خدمة أميره وتوسيع مملكته قال الحموي:فتح الصاحب خمسين قلعة سلّمها إلى فخر الدولة لم يجتمع عشرٌ منها لأبيه ولا لأخيه.

وله أيّام وزارته عطائه الجزل، وسيب يده المتدفِّق، وبرُّء المتواصل إلى العلماء والشعراء، قال الثعالبي:حدَّثني عون بن الحسين قال:كنت يوماً في خزانة الخلع للصاحب فرأيت في ثبت حسابات كاتبها - وكان صديقي - مبلغ عمائم الخزّ التي صارت تلك الشتوة للعلويِّين والفقهاء والشعراء خاصَّة غير الخدم والحاشية ثمانمائة وعشرين، وكان ينفذ الى بغداد في السنة خمسة آلاف دينار تفرَّق على الفقهاء والاُدباء، وكانت صِلاته وصدقاته وقرباته في شهر رمضان تبلغ مبلغ ما يطلق منها في جميع شهور السنة، فكان لا يدخل عليه في شهر رمضان أحدٌ كائناً من كان فيخرج من داره إلّا بعد الإفطار عنده، وكانت داره لا تخلو في كلِّ ليلة من لياليه من ألف نفس مفطرة فيها [ يتيمة الدهر ٣ ص ١٧٤ ].

كان عهده أخصب عهد للعلم والأدب بتقريبه رجالات الفضيلة وتشويقه إيّاهم وتنشيطهم لنشر بضائعهم الثمينة حتّى نفق سوقها، ورايج أمرها، وكثرت طلّابها، و نبغت روّادها، فكانت قلائد الدرر منها تُقابل بالبدر والصرر فمدحه على فضله المتوِّفر.

وجوده المديد الوافر خمسمائة شاعر، تجد مدايحهم مبثوثةً في الدواوين والمعاجم،

____________________

(١) توجد ترجمه في الوافى بالوفيات للصفدى ١ ص ٣٤٢.

_٣_

٤٨

قال الحموي، حدَّث إبن بابك قال:سمعت الصاحب يقول:مُدحت والعلم عند الله بمائة ألف قصيدة شعراً عربيَّة وفارسيَّة. وقد خلّدت تلك القصائد له على صفحة الدهر ذكراً لا يبلى، وعظمةً لا يخلقها مرُّ الجديدين ومن أولئك الشعراء:

١ - أبو القاسم الزعفراني عمر بن إبراهيم العراقي له قصائد في الصاحب منها نونيَّة مطلعها:

سواك يعدُّ الغنى واقتنى

ويأمره الحرص أن يخزنا

وأنت إبن عبّادٍ نِ المرتجى

تعدُّ نوالك نيل المنى

٢ - أبو القاسم عبد الصمد بن بابك يمدح الصاحب بقصيدة أوَّلها:

خلعت قلايدها عن الجوزاءِ

عذراء رقَّصها لعاب الماءِ

٣ - أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الوزير من آل بويه له قصيدة منها:

أقول وقلبي في ذراك مخيَّمٌ

وجسمي جنيبٌ للصبا والجنائب

يُجاذب نحو الصاحب الشوق مقودي

وقد جاذبتني عنه أيدي الشواذبِ

٤ - ألوزير أبو العبّاس الضبّي المتوفّى ٣٩٨ [ أحد شعراء الغدير الآتي شعره وترجمته ] له قصايد في مدح المترجَم.

٥ - ألكاتب أبو القاسم علي بن القاسم القاشاني كتب إلى الصاحب بقصيدةٍ أوّلها:

إذا الغيوم أرجفنَّ باسقها

وحفِّ أرجاءها بوارقها

٦ - أبو الحسن محمَّد بن عبد الله السلامي العراقي المتوفّى سنة ٣٩٤ له في الصاحب قصيدة أوّلها:

رقى العذَّال أم خدع الرقيبِ

سقت ورد الخدود من القلوبِ

وله فيه اُرجوزةٌ منها:

فما تحلُّ الوزراء ما عقدْ

بجهدهم ما قاله وما اجتهدْ

شتّان ما بين الأسود والنقدْ

هل يستوي البحر الخضَّم والثمدْ

أمنيَّتي من كلِّ خير مُستعدْ

أن يسلم الصاحب لي طول الأبدْ

٧ - ألقاضي أبو الحسن عليّ بن العزيز الجرجاني المتوفّى سنة ٣٩٢ له من قصيدة في الصاحب قوله:

٤٩

أوَ ما أنثنيت عن الوداع بلوعة

ملأت حشاك صبابةً وغليلا؟!

ومدامع تجري فيحسب انَّ في

آما قهنَّ بنان إسماعيلا؟!

يا أيّها القرم الذي بعلوِّه

نال العلاء من الزَّمان السولا

قسمت يداك على الورى أرزاقها

فكنوك قاسم رزقها المسئولا

وله فيه قصايد كثيرة اُخرى.

٨ - أبو الحسن عليّ بن أحمد الجوهري الجرجاني [ أحد شعراء الغدير يأتي شعره وترجمته ] له قصايد كثيرة في الصاحب همزيَّة. رائيَّة. فائية. بائيَّة و غيرها.

٩ - أبو الفياض سعد بن أحمد الطبري، له في الصاحب قصايد منها ميميَّة أوَّلها:

ألدمع يُعرب ما لا يُعرب الكلمُ

والدمع عدلٌ وبعض القول متَّهمُ

١٠ - أبو هاشم محمَّد بن داود بن أحمد بن داود بن أبي تراب علي بن عيسى بن محمَّد البطحائي بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . المعروف بالعلوي الطبري له شعرٌ كثير في الصاحب وللصاحب فيه كذلك.

١١ - أبو بكر محمَّد بن العبّاس الخوارزمي له قصايد في الصاحب ومن قصيدة يمدحه:

ومَن نصر التوحيد والعدل فعله

وأيقظ نوّام المعالي شمائله

و من ترك الأخيار ينشد أهله

أحل أيّها الربّع الذي خفَّ آهله

١٢ - أبو سعد نصر بن يعقوب له قصيدة في الصاحب مطلعها:

أبي لي أن اُبالي بالليالي

وأخشى صرفها فيمن يُبالي

١٣ - ألسيَّد أبو الحسين عليّ بن الحسين بن عليّ بن الحسين بن القاسم بن محمَّد بن القاسم بن الحسن بن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام صهر الصاحب له قصيدة تربو على الستِّين بيتاً يمدح بها الصاحب خالية من حرف الواو، ذكر الثعالبي في يتيمة الدهر منها ٢٠ بيتاً، ومؤلِّف ( الدرجات الرفيعة ) ١٤ بيتاً أوَّلها.

برقٌ ذكرت به الحبائبْ

لَمّا بدى فالدَّمع ساكبْ

١٤ - أبو عبد الله الحسين بن أحمد الشهير بإبن الحجّاج البغدادي المتوفّى ٣٩١ [ أحد شعراء الغدير يأتي شعره وترجمته ] له فائيَّة يمدح بها الصاحب أوِّلها:

٥٠

أيّها السائل عنّي

أنا في حالٍ طريفه

و اُخرى مطلعها:

ساق على حسن وجهها تَلفي

وسرّها ما رأته العين من دَنفي

وله نونيَّة في مدحه أوَّلها:

يا عذولي أما أنا

فسبيلي إلى العنا

وحديثي من حقِّه

في الزمان أن يُدوَّنا

١٥ - أبو الحسن عليّ بن هارون بن المنجِّم له قصيدةُ في الصاحب يصف بها داره بقوله:

و أبوابها أثوابها من نقوشها

فلا ظلم إلا حين تُرخى ستورها

١٦ - ألشيخ أبو الحسن بن أبي الحسن صاحب البريد ابن عمة الصاحب له قصيدةُ يصف بها داراً بناها المترجم بإصبهان وانتقل إليها:

دارٌ على العزِّ والتأييد مبناها

وللمكارم والعلياء مغناها

١٧ - أبو الطيِّب الكاتب له في وصف دار الصاحب بإصبهان قصيدةٌ مطلعها:

و دار ترى الدنيا عليها مدارها

تحوز السماء أرضها وديارها

١٨ - أبو محمَّد إبن المنجِّم له رائيِّةٌ يصف بها دار الصاحب مستهلّها:

هجرت ولم أنو الصدود ولا الهجرا

ولا أضمرت نفسي الصروف ولا الغدرا

١٩ - أبو عيسى إبن المنجِّم يمدح الصاحب بقصيدة يصف داره ويقول:

هي الدار قد عمَّ الأقاليم نورها

ولو قدرت بغداد كانت تزورها

٢٠ - أبو القاسم عبيد الله بن محمَّد بن المعلّى يصف دار الصاحب بقصيدة أوَّلها:

بي من هواها وإن أظهرت لي جلدا

وجدٌ يُذيب وشوقٌ يصدع الكبدا

٢١ - أبو العلاء الأسدي يمدحه بقصيدة ويصف داره مطلعها:

و أسعد بدارك انَّها الخلدُ

والعيش فيها ناعمٌ رغدُ

٢٢ - أبو الحسن الغويري له قصايد في الصاحب منها قصيدةٌ يصف بها داره بإصبهان أوَّلها:

دارٌ غدت للفضل داره

أفلاك أسعده مداره

٥١

٢٣ - أبو سعيد الرستمي محمَّد بن محمَّد بن الحسن الأصبهاني مدح الصاحب بقصائد منها بائيَّة مستهلّها:

عقَّني بالعقيق ذاك الحبيب

فالحشى حشوه الجوى والنحيب

وله من قصيدة لاميَّة يمدح بها الصاحب قوله:

أفي الحقِّ أن يُعطى ثلاثون شاعراً

ويحرم ما دون الرضى شاعرٌ مثلي؟!

كما اُلحقت واو بعمر وزيادةً

وضويق باسم الله في ألف الوصلِ

٢٤ - أبو محمَّد عبد الله بن أحمد الخازن الإصبهاني له قصايد يمدح بها الصاحب أجودها قصيدةٌ مطلعها:

هذا فؤادك نهبى بين أهواءِ

وذاك رأيك شورى بين آراءِ

٢٥ - أبو الحسن عليّ بن محمَّد البديهي وهو الذي قال فيه صاحبنا المترجَم:

تقول البيت في خمسين عاماً

فلمْ لقَّبت نفسك بالبديهي

له قصايد يمدح بها الصاحب منها لاميَّة أوَّلها:

قد أطعت الغرام فاعص العذولا

ما عسى عائب الهوى أن يقولا

٢٦ - أبو إبراهيم إسمعيل بن أحمد الشاشي العامريُّ، له قصايد صاحبيَّة منها بائيَّةٌ أوَّلها:

سرينا إلى العليا فقيل كواكبُ

وثرنا إلى الجلّي فقيل قواضبُ

٢٧ - أبو طاهر بن أبي الربيع عمرو بن ثابت له صاحبيّات منها جيميَّة أوَّلها:

أما لصحابي بالعذيب معرَّجُ

على دمنٍ أكنافها تتأرَّجُ

٢٨ - أبو الفرج الحسين بن محمَّد بن هند وله صاحبيّات منها قصيدةٌ أوَّلها:

لها من ضلوعي أن يشبّ وقودها

ومن عبراتي أن تفضَّ عقودها

٢٩ - ألعميري قاضي قزوين، أهدى إلى الصاحب كتباً وكتب معها:

ألعميريُّ عبد كافي الكفاة

وإن اعتدَّ في وجوه القضاةِ

خدم المجلس الرفيع بكتبٍ

مفعماتٍ من حسنها مترعاتِ

فوقَّع الصاحب بقوله:

قد قبلنا من الجميع كتاباً

ورددنا لوقتها الباقياتِ

٥٢

لست أستغنم الكثير فطبعي

قول خذ ليس مذهبي قول هاتِ

٣٠ - أبو الرَّجاء الأهوازي مدح الصاحب لمّا ورد الصاحب الأهواز ومن قصيدته:

إلى ابن عبّاد أبي القاسم

ألصاحب إسماعيل كافي الكفاةْ

وتشرب الجند هنيئاً بها

من بعد ماء الريّ ماء الفراتْ(١)

٣١ - أبو منصور أحمد بن محمَّد اللجيمي الدينوري له شعر يمدح به الصاحب.

٣٢ - أبو النجم أحمد الدامغاني المعروف ب‍ ( شصت كلّه ) المتوفّى سنة ٤٣٢ له قصيدةٌ بالفارسيَّة مدح بها الصاحب.

٣٣ - ألشريف الرضي [ أحد شعراء الغدير يأتي شعره وترجمته ] مدح الصاحب بداليَّة سنة ٣٧٥ ولم ينفذها إليه، واُخرى سنة ٣٨٥ قيل وفاة الصاحب بشهر وأنفذها إليه.

٣٤ - ألقاضي أبو بكر عبد الله بن محمّد بن جعفر الأسكي، له شعرٌ في الصاحب ومنه قوله:

كلُّ برٍّ ونوالٍ وصله

واصل منك إلى معتزله

يا بن عبّاد ستلقى ندماً

لفراق الجيرة المرتحله

٣٥ - أبو القاسم غانم بن محمَّد بن أبي العلا الأصبهاني، له صاحبيّات مدحاً ورثاءً قال الثعالبي في تتميم يتيمته:كان يُساير الصاحب يوماً فرسم له وصف فرس كان تحته فقال مرتجلاً:

طرفٌ تحاول شأوه ريح الصَّبا

سفهاً فتعجز أن تشقَّ غباره

بارى بشمس قميصه شمس الضحى

صبغاً ورضَّ حجاره بحجاره

٣٦ - أبو بكر محمّد بن أحمد اليوسفي الزوزني له صاحبيَّة أوَّلها:

أطلع الله للمعالي سعودا

وأعاد الزمان غضّاً جديدا

____________________

١ - أعجب ما رأيت من تعاليق معجم الادباء الطبعة الثانية تعليق هذا البيت في ج ٦ ص ٢٥٤ جعل الاستاذ الرفاعي الشطر الثاني في المتن ( من بعد ماء الري ماء الصراة ) وقال في التعليق:الصراة:نهر بالعراق.

٥٣

ومنها:

بعث الدهر جنده وبعثنا

نحوه دعوة الإ~له جنودا

يا عميد الزَّمان إنَّ الليالي

كدن يتركن كلَّ قلب عميدا

حادثات أردن إحداث هدم

لعلاه فأحدثت تشييدا

وله من اُخرى قوله:

سلامٌ عليها إنَّ عيني عِندما

أشارت بلحظ الطرف تخضبَ عندما

٣٧ - أبو بكر يوسف بن محمّد بن أحمد الجلودي الرازي له قصيدةٌ صاحبيَّةٌ منها قوله:

رياضٌ كأنَّ الصاحب القرم جادها

بأنوائه أو صاغها من طباعه

يجلّي غيابات الخطوب برأيه

كما صدع الصبح الدُّجى بشعائه

ومنها:

سحابٌ كيمناهُ وليلٌ كبأسه

وبرقٌ كماضية وخرقٌ كباعه

٣٨ - أبو طالب عبد السَّلام بن الحسين المأموني، قال فريد وجدي في ( دائرة المعارف ) ٦ ص ٢٠:مدح الصاحب بقصايد فأعجبه نظمه توفّي سنة ٣٨٣.

٣٩ - أبو منصور الجرجاني، كتب إلى الصاحب قوله:

قل للوزير المرتجى

كافي الكفاة الملتجى

إني رزُقت ولداً

كالصبح إذ تبلّجا

لا زال في ظلّك ظ

ـلّ المكرمات والحجى

فسمَّه وكنِّه

مشرَّفا متوَّجا

فوقَّع الصاحب تحتها بقوله:

هنّئته هنّئته

شمس الضحى بدر الدجا

فسمِّه محسِّناً

وكنِّه أبا الرجا

٤٠ - ألأوسي مدح الصاحب ببائيَّة أنشدها بين يديه فلمّا بلغ إلى قوله:

لمَّا ركبت إليك مُهري أنعلت

بدر السماء وسمّرت بكواكب

قال له الصاحب. لِمَ أنّثت المُهر ؟ ولِم شبَّهت النعل بالبدر ولا يشبهه ؟ ولو

٥٤

شبَّهته بالهلال لكان أحسن فإنَّه علي هيئته فقال:الأوسي:أمّا تأنيث المهر فلأنِّي عنيت المهرة ؟ وأمّا تشبيهي النعل ببدر السماء فلأنِّي أردت النعل المطبقة.

٤١ - إبراهيم بن عبد الرَّحمن المعرّي مدح الصاحب بقصيدة منها:

قد ظهر الحقُّ وبان الهُدى

لمن له عينان أو قلبُ

مثل ظهور الشمس في حجبها

إذ رفعت عن نورها الحجبُ

بالمَلك الأعظم مستبشرٌ

شرق بلاد الله والغربُ

٤٢ - محمَّد بن يعقوب أحد أئمَّة النحو كتب إلى الصاحب كما في ( دمية القصر ) ١ ص ٣٠١:

قل للوزير أدام الله نعمته

مُستخدماً لمجاري الدَّهر والقدرِ

أردت عبداً وقد أعطيته ولداً

فسمِّه بأسم مَن بالعرب مفتخرِ

وإن وصلت له تشريف كنيته

جمعت بالطَول بين الروض والمطرِ

لا زال ظلّك ممدوداً ومنتشراً

فإنَّه خير ممدودٍ ومنتشرِ

هنَّيته ابناً يشيع الاُنس في البشر

هنَّيت مَقدم هذا الصارم الذكرِ

٤٣ - محمَّد بن علي بن عمر أحد أعيان الري قرأ على الصاحب ومدحه برائيَّة.

والاُدباء يعبِّرون عن المترجَم وأبي إسحاق الصّابي بالصادين كما وقع في قول الشيخ أحمد البربير المتوفّى سنة ١٢٢٦ في كتابه ( الشرح الجلي ) ص ٢٨٣ يمدح كاتباً مليحاً.

لله كاتباً الذي أنا رقّه

وهو الذي لا زال قرَّة عيني

في ميم مبسمه ولام عذاره

ما بات ينسخ بهجة الصّادين

شعره في المذهب

وللصاحب مراجعات ومراسلات مع مادحيه تجدها في الكتب والمعاجم، وشعره كما سمعت كثيرٌ مدوَّنٌ ونحن نقتصر من نظمه الذهبيِّ بما عقد سمط جمانه في المذهب ذكر له الثعالبي في [ يتيمة الدهر ] ج ٣ ص ٢٤٧:

حبُّ عليّ بن أبي طالب

هو الذي يهدي إلى الجنَّةِ

إن كان تفضيلي له بدعةً

فلعنة الله على السنَّةِ

٥٥

وذكر له في الكتاب:

ناصبٌ قال لي:معاوية خا

لك خير الأعمام والأخوالِ

فهو خالٌ للمؤمنين جميعاً

قلت:خالٌ لكن من الخير خالي

وذكر له فقيه الحرمين الكنجي الشافعي المتوفّى سنة ٦٥٨ في ( كفاية الطالب ) ص ٨١، والخوارزمي في ( المناقب ) ص ٦٩:

يا أمير المؤمنين المرتضى

إنَّ قلبي عندكم قد وقفا

كلّما جدِّدت مدحي فيكمُ

قال ذو النصب:نسيت السلفا(١)

مَن كمولاي عليّ زاهد

طلّق الدنيا ثلاثاً ووفى؟!

مَن دُعي للطير أن يأكله ؟

ولنا في بعض هذا مكتفى

من وصيُّ المصطفى عندكُم ؟

ووصيّ المصطفى من يُصطفى

وذكر الفقيه الكنجي في الكتاب ص ١٩٢، وسبط إبن الجوزي في ( تذكرة خواصّ الاُمَّة ) ص ٨٨، والخوارزمي في ( المناقب ) ص ٦١:

حبُّ النبيِّ وأهل البيت معتمدي(٢)

إنَّ الخطوب أساءت رأيها فينا

أيا إبن عمّ رسول الله أفضل مَن

ساس الأنام وساد الهاشميِّينا

يا نُدرة الدين يا فرد الزمان أصخ

لمدح مولى يرى تفضيلكم دينا

هل مثل سيفك في الإسلام لو عرفوا ؟

وهذه الخصلة الغرّاء تكفينا

هل مثل علمك إذ زالوا وإذ وهنوا

وقد هديت كما أصبحت تهدينا ؟

هل مثل جمعك للقرآن نعرفه

لفظاً ومعنىً وتأويلاً وتبيينا ؟

هل مثل حالك عند الطير تحضره

بدعوةٍ نلتَها دون المصلّينا ؟

هل مثل بذلك للعاني الأسير وللـ

ـطفل الصغير وقد أعطيت مسكينا ؟

هل مثل صبرك إذ خانوا وإذ ختروا

حتّى جرى ما جرى في يوم صفِّينا ؟

هل مثل فتواك إذ قالوا مجاهرةً

: لولا عليٌّ هلكنا في فتاوينا ؟

يا ربّ سهِّل زياراتي مشاهدهم

فإنَّ روحي تهوى ذلك الطينا

____________________

١ - تسب السلفا. الخوارزمي

٢ - هذه الابيات المحكية عن الكتب الثلاث لم توجد في ( أعيان الشيعة ) سوى ثلاثة منها.

٥٦

يا ربّ صيِّر حياتي في محبَّتهم

ومحشري معهم آمين آمينا

وذكر إبن شهر آشوب من هذه القصيدة بعد البيت الثاني من أوَّلها:

أنت الإمام ومنظور الأنام فمن

يردّ ما قلته يقمع براهينا

هل مثل فعلك في ليل الفراش وقد

فديت بالروح ختّام النبيِّينا ؟

هل مثل فاطمة الزَّهراء سيِّدةٌ

زوَّجتها يا جمال الفاطميِّينا ؟

هل مثل برِّك في حال الركوع وما

برُّ كبرِّك برّاً للمزكَينا ؟

هل مثل فعلك عند النعل تخصفها

لو لم يكن جاحدوا التفضيل لاهينا ؟

هل مثل نجليك في مجدٍ وفي كرم

إذ كوّنا من سلال المجد تكوينا ؟

وله في مناقب الخطيب الخوارزمي ص ١٠٥، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص ٢٤٣، وتذكرة خواصِّ الاُمَّة ص ٣١، ومناقب إبن شهر آشوب، وغيرها قصيدةٌ ولوقوع الإختلاف فيها نجمع بين رواياتها ونشير إلى ما روته رجال العامَّة ب‍ ( ع ):

بلغت نفسي مناها

بالموالي آل طه

برسول الله مَن

حاز المعالي وحواها

وببنت المصطفى مَن

أشبهت فضلاً أباها

ع مَن كمولاي عليٍّ

والوغى تحمي لظاها ؟

ع مَن يصيد الصَّيد فيها

بالظبى حتّى انتظاها ؟

يوم أمضاها عليهم

ثمَّ أمضاها عليهم فارتضاها

ع مَن له في كلِّ يومٍ

وقعاتٌ لا تُضاهي ؟

ع كم وكم حرب ضروس

سدِّ بالمرهف فاها ؟

ع اُذكروا أفعال بدرِ

لستُ أبغي ما سواها

ع اُذكروا غزوة اُحدٍ

إنَّه شمس ضُحاها

ع اذكروا حرب حنينٍ

إنَّه بدر دُجاها

ع اُذكروا الأحزاب قِدماً

إنَّه ليث شراها

ع اُذكروا مهجة عمرو

كيف أفناها شجاها ؟

ع اُذكروا أمر براءه

واخبروني مَن تلاها ؟

٥٧

ع اُذكروا مَن زوّج الـ

ـزهراء قد طاب ثراها(١)

ع اذكروا بكرة طيرٍ

فلقد طار ثناها ؟

ع اُذكروا لي قلل العلم

ومن حلِّ ذراها

ع حاله حالة ها

رون لموسى فافهماها

ع أعلى حبِّ عليٍّ

لامني القوم سفاها ؟!

ع أهملوا قرباه جهلاً

وتخطّوا مُقتضاها

ع أوَّل النَّاس صلاةً

جعل التقوى حُلاها

ع رُدَّت الشَّمس عليه

بعد ما غاب سناها

ع حجَّة الله على الخلق

شقى مَن قد قلاها

وبحبّي الحسن الـ

ـبالغ في العليا مداها

والحسين المرتضى

يوم المساعي إذ حواها

ليس فيهم غير نجم

قد تعالى وتناهى

عترةٌ أصبحت الدُّ

نيا جميعاً في حماها

ما تحدِّث عصب الـ

ـبغي بأنواع عماها

أردت الأكبر بالسـ

ـمِّ وما كان كفاها

وانبرت تبغي حسيناً

وعرته وعراها

منعته شربةً والطَّيـ

ر قد أروت صداها

فأفاتت نفسه

يا ليت روحي قد فداها

بنته تدعوا أباها

اُخته تبكي أخاها

لو رأى أحمدُ ما

كان دهاه ودهاها

لشكا الحال إلى الله

وقد كان شكاها(٢)

وله في مناقبي إبن شهر اشوب والخطيب الخوارزمي ص ٢٣٣ قصيدةٌ نجمع بينهما

____________________

١ - في لفظ أهل السنة:

اذكروا من زوّج

الزهراء كيما تتباهى

٢ - غير واحد من الأبيات لا يوجد في ( أعيان الشيعة ).

٥٨

لاختلافهما في عدد الأبيات ألا وهي:

ما لعليِّ العُلى أشباهُ

لا والّذي لا إ~له إلّا هو

مبناه مبنى النبيِّ تعرفه

وابناه عند التفاخر إبناهُ

إنَّ عليّاً علا إلى شرفٍ

لو رامه الوهم ذلَّ مرقاهُ(١)

أيا غداة الكساء لا تهني

عن شرح علياه إذ تكسّاهُ

يا ضحوة الطير تنبئي شرفاً

فاز به لا يُنال أقصاهُ

براءة استعملي بلاغك مَن

أقعد عنه ومَن توّلاهُ؟!

يا مرحب الكفر قد أذاقك مَن

مِن حدِّ ما قد كرهت ملقاهُ ؟!

يا عمرو مَن ذا الذي أنالك من

حارة الحتف حين تلقاهُ ؟!

لو طلب النجم ذات أخمصه

علاه والفرقدان نعلاهُ

أما عرفتم سموَّ منزله ؟!

أما عرفتم علوَّ مثواهُ ؟!

أما رأيتم محمَّداً حدباً

عليه قد حاطه ورّباهُ ؟!

واختصَّه يافعاً وآثره

واعتامه مخلصاً وآخاهُ

زوَّجه بضعة النبوَّة إذ

رآه خير امرئٍ وأتقاهُ

يا بأبي السيِّد الحسين وقد

جاهد في الدين يوم بلواهُ

يا بأبي أهله وقد قُتلوا

من حوله والعيون ترعاهُ

يا قبَّح الله اُمَّةً خذلت

سيَدها لا تريد مرضاهُ

يا لعن الله جيفةً نجساً

يقرع من بغضه ثناياهُ

وله داليَّة ذكرها الخوارزمي في ( المناقب ) ص ٢٢٣، وإبن شهر آشوب في مناقبه ونجمع بين الرِّوايتين وهي:

هو البدر في هيجاء بدر وغيرهُ

فرايصه من ذكره السيف ترعدُ

عليٌّ له في الطير ما طار ذكره

وقامت به أعداؤه وهي تشهدُ

عليٌّ له في هل أتى ما تلوتمُ

على الرَّغم من آنافكم فتفرّدوا

____________________

١ - هذا البيت وما بعده الى أربعة أبيات لا توجد في مناقب ابن شهر آشوب بل رواها الخوارزمي.

٥٩

وكم خبر في خيبر قد رويتمُ

ولكنَّكم مثل النعام تشرَّدوا

وفي اُحدٍ ولّى رجالٌ وسيفه

يسوِّد وجه الكفر وهو مسوِّدُ

ويوم حنينٍ حنَّ للغلِّ بعضكم

وصارمه عضب الغرار مهنَّدُ

تولىّ اُمور النّاس لم يستغلّهم

ألا ربما يرتاب مَن يتقلّدُ

ولم يك محتاجاً إلى علم غيره

إذا احتاج قومٌ في قضايا تبلّدوا

ولا سدَّ عن خير المساجد بابه

وأبوابهم إذ ذاك عنه تُسدَّدُ

وزوجته الزَّهراء خير كريمةٍ

لخير كريم فضلها ليس يُجحدُ(١)

وبالحسنين المجد مدّ رواقه

ولولاهما لم يبقِ للمجد مشهدُ

تفرّغت الأنوار للأرض منهما

فِللّه أنوارٌ بدت تتجدّدُ

هم الحجج الغرُّ التي قد توضَّحت

وهم سرج الله التي ليس تخمدُ

اُو إليكُم يا آل بيت محمَّدٍ

فكلّكمُ للعلم والدين فرقدُ

وأترك من ناواكمُ وهو هتكه

يُنادى عليه مولدٌ ليس يُحمدُ

وذكر له الحمّوئي صاحب ( فرايد السمطين ) في السمط الثاني في الباب الأوَّل:

منايح الله جاوزت أملي

فليس يدركها شكري ولا عملي

لكنَّ أفضلها عندي وأكملها

محبَّتي لأمير المؤمنين علي

وذكر العلّامة المجلسي في ( البحار ) ج ١٠ ص ٢٦٤ نقلاً عن بعض الكتب القديمة من قصيدةٍ طويلةٍ له:

أجروا دماء أخي النبيِّ محمَّد

فلتجر غزر دموعنا ولتهملِ

ولتصدر اللَّعنات غير مزالة

لعِداه من ماضٍ ومن مُستقبلِ

و تجرَّدوا لبنيه ثمَّ بناته

بعظايم فاسمع حديث المقتلِ

منعوا الحسين الماء وهو مجاهدٌ

في كربلاء فنُح كنوح المعولِ

منعوه أعذب منهلٍ وكذا غداً

يردون في النيران أوخم منهلِ

أيجزُّ رأس إبن النبيِّ وفي الورى

حيُّ أمام ركابه لم يُقتلِ ؟

وبنو السفاح تحكّموا في أهل حيّ

على الفلاح بفرصةٍ وتعجّلِ

____________________

١ - هذا البيت رواه الخوارزمي ولا يوجد فيما جمع له السيد في ( أعيان الشيعة )

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ولا يختّص هذا الأمر بما حدث تأريخيا في صدر الإسلام ، بل إنّنا نلاحظ اليوم بأعيننا نماذج وصورا حيّة لا تخفى على أحد ، في طبيعة تعامل المنافقين في الدولة الإسلامية مع مختلف الفصائل المعادية للإسلام ، وسوف تصدق أيضا في المستقبل القريب والبعيد. ومن المسلّم أنّ المؤمنين الصادقين إذا التزموا بواجباتهم فإنّهم سينتصرون عليهم ، ويحبطون خططهم.

والآية اللاحقة تتحدّث عن سبب هذا الاندحار ، حيث يقول سبحانه :( لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ) .

ولأنّهم لا يخافون الله ، فإنّهم يخافون كلّ شيء خصوصا إذا كان لهم أعداء مؤمنون مثلكم( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) .

«رهبة» في الأصل بمعنى الخوف المقترن بالاضطراب والحذر ، فهو خوف عميق له جذور وتظهر آثاره في العمل.

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه نزلت في يهود بني النضير وأسباب اندحارهم أمام المسلمين ، إلّا أنّ مقصودها حكم عام وكلّي ، لأنّه لن يجتمع في قلب الإنسان خوفان : الخوف من الله ، والخوف من غيره. لأنّ كلّ شيء مسخّر بأمر الله ، وكلّ إنسان يخشى الله ويعلم مدى قدرته لا ينبغي أن يخاف من غيره.

إنّ مصدر جميع هذه الآلام هو الجهل وعدم إدراك حقيقة التوحيد ، ولو كان مسلمو اليوم بالمعنى الواقعي (يعني مؤمنين موحّدين حقّا) فإنّهم لا يقفون بشجاعة أمام القوى الكبرى بإمكاناتها المادية والعسكرية فحسب ، بل إنّ القوى الكبرى هي التي تخشاهم وتخاف منهم ، كما نلاحظ نماذج حيّة لهذا المعنى ، حيث نرى دولا كبرى مع ما لديها من الأسلحة والوسائل المتطوّرة تخشى شعبا صغيرا لأنّه مسلّح بالإيمان ومتّصف بالتضحية.

وشبيه هذا المعنى ما ورد في قوله تعالى :( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا

٢٠١

الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) (١).

ثمّ يستعرض دليلا واقعيا واضحا يعبّر عن حالة الخوف والاضطراب حيث يقول سبحانه :( لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ ) .

«قرى» جمع قرية ، أعمّ من المزروعة وغير المزروعة ، وتأتي أحيانا بمعنى الناس المجتمعين في مكان واحد.

«محصّنة» من مادّة (حصن) على وزن «جسم» بمعنى مسوّرة ، وبناء على هذا فإنّ (القرى المحصّنة) تعني القرى التي تكون في أمان بوسيلة أبراجها وخنادقها والمواضع التي تعيق تقدّم العدو فيها.

«جدر» جمع جدار ، والأساس لهذه الكلمة بمعنى الارتفاع والعلو.

نعم ، بما أنّهم خرجوا من حصن الإيمان والتوكّل على الله ، فإنّهم بغير الالتجاء والاتّكاء على الجدران والقلاع المحكمة لا يتجرّؤون على مواجهة المؤمنين.

ثمّ يوضّح أنّ هذا ليس ناتجا عن جهل بمعرفة فنون الحرب ، أو قلّة في عددهم وعدّتهم ، أو عجز في رجالهم ، بل إنّ( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) .

إلّا أنّ المشهد الذي عرض يتغيّر في حالة مواجهتهم لكم ويسيطر عليهم الرعب والاضطراب بصورة مذهلة.

وهذا الأمر تقريبا يمثّل أصلا كليّا في مورد اقتتال الفئات غير المؤمنة فيما بينهم ، وكذلك محاربتهم للمؤمنين.

ونشاهد مصاديق هذا المعنى بصورة متكرّرة أيضا في التأريخ المعاصر ، حيث نلحظ عند اشتباك مجموعتين غير مؤمنتين مع بعضهما شدّة الفتك وقسوة الانتقام وشراسة المواجهة بينهما بصورة لا تدعو للشكّ في قوّة كلّ منهما ولكن لو تغيّرت المعادلة ، وأصبحت المواجهة بين مجموعة غير مؤمنة بالله واخرى مؤمنة مستعدّة للشهادة في سبيل الله ، عند ذلك نرى أعداء الحقّ يلوذون إلى القلاع

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٥١.

٢٠٢

المحكمة ويخفون أنفسهم في المواضع ووراء المتاريس وخلف الأسلحة ، ويسيطر عليهم الخوف ويهيمن عليهم الرعب ويملأ كلّ وجودهم ، والحقيقة أنّ المسلمين إذا جعلوا إيمانهم وقيمهم الإسلامية هي الأساس فإنّهم منتصرون ومتفوقون على الأعداء بلا ريب.

ولهذا السبب ـ واستمرارا لما ورد في نفس الآية ـ نستعرض سببا آخر من أسباب اندحار المنافقين ، حيث يقول سبحانه :( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) .

«شتّى» بمعنى (شتيت) أي متفرّق.

إنّ القرآن الكريم في تحليل المسائل بشكل دقيق جدّا وملهم يؤكّد على أنّ (التفرقة والنفاق الداخلي) وليدة (الجهل وعدم المعرفة) لأنّ الجهل عامل الشرك ، والشرك عامل للتفرقة ، والتفرقة تسبّب الهزيمة. وبالعكس فإنّ «العلم» عامل لوحدة العقيدة والعمل والانسجام والاتّفاق ، وهذه الصفات بحدّ ذاتها مصدر للانتصار.

وهكذا فإنّ الانسجام الظاهري للعناصر غير المؤمنة والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية يجب ألّا تخدعنا أبدا ، لأنّ وراءها قلوب متناحرة متنافرة ، ودليلها واضح وهو انهماك كلّ منهم بمنافعه المادية بشكل شديد ، وبما أنّ المنافع غالبا ما تكون متعارضة ، فعندئذ تبرز الاختلافات والشحناء فيما بينهم ، ولن تغني عن ذلك العهود والاتّفاقيات وشعارات الوحدة والانسجام الظاهري. في الوقت الذي تكون فيه وحدة وانسجام المؤمنين على قواعد واصول ربّانية كأصل الإيمان والتوحيد والقيم الإلهية ، وإذا أصيب المسلمون بانتكاسة في أعمالهم فإنّ ذلك دليل على ابتعادهم عن حقيقة الإيمان وما لم يعودوا إلى الإيمان فإنّ وضعهم لن يتحسّن.

* * *

٢٠٣

الآيات

( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) )

التّفسير

حيل الشيطان والمهالك :

يستمرّ البحث في هذه الآيات حول قصّة بني النضير والمنافقين ورسم

٢٠٤

خصوصية كلّ منهم في تشبيهين رائعين :

يقول سبحانه في البداية :( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (١) .

تحدّثنا هذه الآية عن ضرورة الإعتبار بما جرى لبني النضير والقوم الذين كانوا من قبلهم وما جرى لهم ، خاصّة وأنّ الفترة الزمنية بين الحادثتين غير بعيدة.

ويعتقد البعض أنّ المقصود بقوله :( الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) هم مشركو مكّة الذين ذاقوا مرارة الهزيمة بكلّ كبريائهم في غزوة «بدر» ، وأنهكتهم ضربات مقاتلي الإسلام ، لأنّ هذه الحادثة لم يمرّ عليها وقت طويل بالنسبة لحادثة بني النضير ، ذلك لأنّ حادثة بني النضير ـ كما أشرنا سابقا ـ حدثت بعد غزوة «احد» ، وغزوة بدر قبل غزوة احد بسنة واحدة ، وبناء على هذا فلم يمض وقت طويل بين الحادثتين.

في الوقت الذي يعتبرها كثير من المفسّرين إشارة إلى قصّة يهود «بني قينقاع» ، التي حدثت بعد غزوة بدر ، وانتهت بإخراجهم من المدينة.

وطبيعي أنّ هذا التّفسير مناسب أكثر ـ حسب الظاهر ـ باعتباره متلائما أكثر مع يهود بني النضير ، لأنّ يهود بني قينقاع كيهود بني النضير كانوا ذوي ثراء ومغرورين بقدرتهم القتالية ، يهدّدون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين بقوّتهم وقدرتهم العسكرية ـ كما سنذكر ذلك تفصيلا إن شاء الله ـ إلّا أنّ العاقبة لم تكن غير حصاد التيه والتعاسة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

«وبال» بمعنى (عاقبة الشؤم والمرارة) وهي في الأصل مأخوذة من (وابل) بمعنى المطر الغزير ، لأنّ المطر الغزير غالبا ما يكون مخيفا ويقلق الإنسان من عاقبته المرتقبة ، كالسيول الخطرة والدمار وما إلى ذلك.

__________________

(١) هذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره : مثلهم كمثل الذين من قبلهم.

٢٠٥

ثمّ يستعرض القرآن الكريم تشبيها للمنافقين حيث يقول سبحانه :( كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ) (١) .

ما المقصود بـ «الإنسان» في هذه الآية؟

هل هو مطلق الإنسان الذي يقع تحت تأثير الشيطان ، وينخدع بأحابيله ووعوده الكاذبة ، ويسير به في طريق الكفر والضلال ، ثمّ إنّ الشيطان يتركه ويتبرّأ منهم؟.

أو أنّ المقصود به شخص خاصّ أو (إنسان معيّن) كأبي جهل وأتباعه ، حيث أنّ ما حصل لهم في غزوة بدر كان نتيجة تفاعلهم مع الوعود الكاذبة للشيطان ، وأخيرا ذاقوا وبال أمرهم وطعم المرارة المؤلمة للهزيمة والانكسار ، كما في قوله تعالى :( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ) (٢) .

أو أنّ المقصود منه هنا هو (برصيصا) عابد بني إسرائيل ، حيث انخدع بالشيطان وكفر بالله ، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه وابتعد عنه ، كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله ...؟

التّفسير الأوّل هو الأكثر انسجاما مع مفهوم الآية الكريمة ، أمّا التّفسيران الثاني والثالث فنستطيع أن نقول عنهما : إنّهما بيان بعض مصاديق هذا المفهوم الواسع.

__________________

(١) بالرغم من أنّ التعبير بـ (كمثل) في هذه الآية وفي الآية السابقة متشابهان ، فإنّ بعض المفسّرين اعتبر الإثنين دليلا على مجموعة واحدة ، إلّا أنّ القرائن تبيّن بوضوح أنّ الأوّل يحكي وضع يهود بني النضير ، والثاني يحكي وضع المنافقين ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه العبارة أيضا خبر لمبتدأ محذوف تقديره مثلهم كمثل الشيطان.

(٢) الأنفال ، الآية ٤٨.

٢٠٦

وعلى كلّ حال فإنّ العذاب الذي يخشاه الشيطان ـ في الظاهر ـ هو عذاب الدنيا ، وبناء على هذا فإنّ خوفه جدّي وليس هزلا أو مزاحا ، ذلك لأنّ الكثير من الأشخاص يخشون العقوبات الدنيوية المحدودة ، إلّا أنّهم لا يأبهون للعقوبات البعيدة المدى ولا يعيرون لها اهتماما.

نعم ، هكذا حال المنافقين حيث يدفعون بحلفائهم من خلال الوعود الكاذبة والمكر والحيلة إلى اتون المعارك والمشاكل ثمّ يتركونهم لوحدهم ، ويتخلّون عنهم ، لأنّ الوفاء لا يجتمع والنفاق.

وتتحدّث الآية اللاحقة عن مصير هاتين الجماعتين (الشيطان وأتباعه ، والمنافقين وحلفائهم من أهل الكفر) وعاقبتهما البائسة ، حيث النار خالدين فيها ، فيقول سبحانه عنهم :( فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ) (١) .

وهذا أصل كلّي فإنّ عاقبة تعاون الكفر والنفاق ، والشيطان وحزبه ، هو الهزيمة والخذلان ، وعدم الموفّقية ، وعذاب الدنيا والآخرة ، في الوقت الذي تكون ثمره تعاون المؤمنين وأصدقائهم تعاون وثيق وبنّاء ، وعاقبته الخير ونهايته الإنتصار والتمتع بالرحمة الإلهية الواسعة في عالم الدنيا والآخرة.

وتوجّه الآية اللاحقة حديثها للمؤمنين بعنوان استنتاج من حالة الشؤم والبؤس التي اعترت المنافقين وبني النضير والشياطين ، حيث يقول تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) (٢) .

ثمّ يضيف تعالى مرّة اخرى للتأكيد بقوله :( وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

__________________

(١) «عاقبتهما» خبر «كان» ومنصوب ، و (إنّهما في النار) جاءت بمكان اسم كان و «خالدين» حال لضمير «هما».

(٢) «ما» في (ما قدّمت لغد) هل أنّها موصولة أو استفهامية؟ هناك احتمالان ، والآية الشريفة لها القدرة على تقبّل الاحتمالين ، بالرغم من أنّ الاستفهامية أنسب.

٢٠٧

نعم ، التقوى والخوف من الله يدعوان الإنسان للتفكير بيوم غده (القيامة) بالإضافة إلى السعي إلى تنقية وتخليص وتطهير أعماله.

إنّ تكرار الأمر بالتقوى هنا تأكيد محفّز للعمل الصالح ، كما أنّ الرادع عن ارتكاب الذنوب هو التقوى والخوف من الله تعالى.

واحتمل البعض أنّ الأمر الأوّل للتقوى هو بلحاظ أصل إنجاز الأعمال ، أمّا الثاني فإنّه يتعلّق بطبيعة الإخلاص فيها.

أو أنّ الأوّل ملاحظ فيه إنجاز أعمال الخير ، بقرينة جملة (ما قدّمت). والثاني ملاحظ فيه ما يتعلّق بتجنّب المعاصي والذنوب.

أو أنّ الأوّل إشارة إلى التوبة من الذنوب الماضية ، والثاني (تقوى) للمستقبل.

إلّا أنّه لا توجد قرينة في الآيات لهذه التفاسير ، لذا فإنّ التأكّد أنسب.

والتعبير بـ (غد) إشارة إلى يوم القيامة ، لأنّه بالنظر إلى قياس عمر الدنيا فإنّه يأتي مسرعا ، كما أنّ ذكره هنا بصيغة النكرة جاء لأهميّته.

والتعبير بـ (نفس) دلالة على مفرد ، ويمكن أن تعني كلّ نفس ، يعني كلّ إنسان يجب أن يفكّر بـ (غده) بدون أن يتوقّع من الآخرين إنجاز عمل له ، وما دام هو في هذه الدنيا فإنّه يستطيع أن يقدّم لآخرته بإرسال الأعمال الصالحة من الآن إليها.

وقيل أنّه إشارة إلى قلّة الأشخاص الذين يفكّرون بيوم القيامة ، كما نقول : (يوجد شخص واحد يفكّر بنجاة نفسه) إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر ، كما أنّ خطاب( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) وعمومية الأمر بالتقوى ، دليل على عمومية مفهوم الآية.

وأكّدت الآية اللاحقة بعد الأمر بالتقوى والتوجّه إلى يوم القيامة على ذكر الله سبحانه ، حيث يقول تعالى :( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) .

وأساسا فإنّ جوهر التقوى شيئان : ذكر الله تعالى ، وذلك بالتوجّه والانشداد إليه من خلال المراقبة الدائمة منه واستشعار حضوره في كلّ مكان وفي كلّ

٢٠٨

الأحوال ، والخشية من محكمة عدله ودقّة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها في صحيفة أعمالنا ولذا فإنّ التوجّه إلى هذين الأساسين (المبدأ والمعاد) كان على رأس البرامج التربوية للأنبياء والأولياء ، وذلك لتأثيرها العميق في تطهير الفرد والمجتمع.

والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ القرآن الكريم يعلن هنا ـ بصراحة ـ أنّ الغفلة عن الله تسبّب الغفلة عن الذات ، ودليل ذلك واضح أيضا ، لأنّ نسيان الله يؤدّي من جهة إلى انغماس الإنسان في اللذات المادية والشهوات الحيوانية ، وينسى خالقه ، وبالتالي يغفل عن ادّخار ما ينبغي له في يوم القيامة.

ومن جهة اخرى فانّ نسيان الله ونسيان صفاته المقدّسة وأنّه سبحانه هو الوجود المطلق والعالم اللامتناهي ، والغنى اللامحدود وكلّ ما سواه مرتبط به ، ومحتاج لذاته المقدّسة كلّ ذلك يسبّب أن يتصوّر نفسه مستقلا ومستغنيا عن المبدأ(١) .

وأساسا فإنّ النسيان ـ بحدّ ذاته ـ من أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه ، لأنّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميّزه عن الكثير من المخلوقات ، وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته ، وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في وحل الحيوانية ، ويصبح همّه الأكل والشرب والنوم والشهوات.

وهذه كلّها عامل أساس للفسق والفجور ، بل إنّ نسيان الذات هو من أسوأ مصاديق الفسق والخروج عن طاعة الله ، ولهذا يقول سبحانه :( أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) .

وممّا يجدر بيانه أنّ الآية لم تقل «لا تنسوا الله» ، بل وردت بعبارة( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ ) أي كالأشخاص الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، وهي

__________________

(١) الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٥٣.

٢٠٩

في الحقيقة بيان مصداق حسّي وواضح يمكن للإنسان أن يرى فيه عاقبة نسيان الله تعالى.

والظاهر أنّ المقصود في هذه الآية هم المنافقون والذين أشير لهم في الآيات السابقة ، أو أنّ الملاحظ فيها هم يهود بني النضير ، أو كلاهما.

وجاء نظير هذا المعنى في قوله تعالى :( الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (١) .

ومع وجود قدر من التفاوت بين الآيتين ، أنّه ذكر نسيان الله هناك كسبب لقطع رحمة الله عن الإنسان ، وفي هذه الآية محل البحث سبب لنسيان الذات. وبالتالي فإنّ الآيتين تنتهيان إلى نقطة واحدة. «فلاحظ»

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يستعرض سبحانه مقارنة بين هاتين الجماعتين : الجماعة المؤمنة المتّقية السائرة باتّجاه المبدأ والمعاد ، والجماعة الغافلة عن ذكر الله ، التي ابتليت كنتيجة للغفلة عن الله بنسيان ذاتها.

حيث يقول سبحانه :( لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ) .

ليس في الدنيا ، ولا في المعتقدات ، وليس في طريقة التفكير والمنهج ، وليس في طريقة الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان وأهدافه ، ولا في المحصّلة الأخروية والجزاء الإلهي إذ أنّ خطّ كلّ مجموعة من هاتين المجموعتين في اتّجاه متعارض متعارض في كلّ شيء وكلّ مكان وكلّ هدف إحداهما تؤكّد على ذكر الله والقيامة وإحياء القيم الإنسانية الرفيعة ، والقيام بالأعمال الصالحة كذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون والاخرى غارقة في الشهوات واللذات المادية ، وأسيرة الأهواء ومبتلية بالنسيان(٢) وبهذا فإنّ الإنسان على مفترق

__________________

(١) التوبة ، الآية ٦٧.

(٢) حذف المتعلّق أي متعلّق «لا يستوي» دليل على العموم.

٢١٠

طريقين ، إمّا أن يرتبط بالقسم الأوّل ، أو بالقسم الثاني ، وليس غيرهما من سبيل آخر.

وفي نهاية الآية نلاحظ حكما قاطعا حيث يضيف سبحانه :( أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ ) .

فليس في الدار الآخرة فقط يوجد (فائزون وخاسرون) بل في هذه الدنيا أيضا ، حيث يكون الإنتصار والنجاة والسكينة من نصيب المؤمنين المتّقين ، كما أنّ الهزيمة والخسران في الدارين تكون من نصيب الغافلين.

ونقرأ في حديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه فسّر (أصحاب الجنّة) بالأشخاص الذين أطاعوه ، وتقبّلوا ولاية عليعليه‌السلام . وأصحاب النار بالأشخاص الذين رفضوا ولاية عليعليه‌السلام ، ونقضوا العهد معه وحاربوه(١) .

وطبيعي أنّ هذا أحد المصاديق الواضحة لمفهوم الآية ، ولا يحدّد عموميتها.

* * *

بحوث

١ ـ التعاون العقيم مع أهل النفاق

إنّ ما جاء في الآيات أعلاه حول نقض العهد من قبل المنافقين والتخلّي عن حلفائهم في المواقف الحرجة والحاسمة ، هو مسألة ملاحظة في حياتنا العملية أيضا إنّهم شياطين يعدون هذا وذاك بالعون والدعم ويدفعونهم إلى لهوات الموت ، ولكن حينما تحين ساعة الجدّ والضيق يتخلّون عنهم ويهربون منهم حفاظا على أنفسهم ، بالإضافة إلى أنّهم يملؤون قلوبهم بالشكّ والوسوسة ويدنسونهم بمختلف الذنوب.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٩٢.

٢١١

وليعلم بهذا كلّ من يروم التعاون مع النفاق وأهله ، حيث سيلقى نفس المصير السابق.

والنموذج الذي نلاحظه في عصرنا هو : طبيعة الاتفاقات التي تبرمها القوى الكبرى والشياطين المعاصرين مع رؤوساء الحكومات المرتبطة بهم ، والذي نلاحظه بصورة متكرّرة أنّ هذه الدول بالرغم من أنّها وضعت كلّ ما تملك في طبق وقدّمته لهؤلاء المستكبرين إلّا أنّ هؤلاء خذلوهم في المواطن الصعبة والساعات الحرجة ، فتركوهم لوحدهم حيث تتقاذفهم أعاصير المحن وأمواج الأزمات ، وحيث يتجسّد فيهم قول الله تعالى كما ورد في القرآن الكريم بشأنهم :( كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ) .

٢ ـ قصّة العابد (برصيصا)

نقل بعض المفسّرين وأئمّة الحديث في نهاية الآيات رواية قصيرة عن عابد إسرائيلي اسمه (برصيصا) وهذه القصّة في الحقيقة يمكن أن تكون موضع اعتبار وعظة للبشرية أجمع ، كي يتجنّبوا طريق الهلاك ، ويحذروا من الوقوع في مصيدة الشراك الشيطانية النخرة والتي تكون نتيجتها ـ حتما ـ السقوط في الهاوية.

وخلاصة ما جاء في هذه القصّة ما يلي :

يدّعي «برصيصا» قد عبد الله زمانا من الدهر حتّى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرءون على يديه ، وانّه أتي بامرأة قد جنّت وكان لها اخوة فأتوه بها فكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت ، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها ، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتّى لقى أحد إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وانّه دفنها في مكان كذا ، ثمّ أتى بقيّة إخوتها ، وهكذا انتشر الخبر فساروا إليه فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل ، فامر به فصلب ، فلمّا رفع

٢١٢

على خشيته تمثّل له الشيطان فقال : أنا الذي ألقيت في قلوب أهلها ، وأنا والذي أوقعتك في هذا ، فأطعني فيما أقول أخلّصك ممّا أنت فيه ، قال نعم. قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة ، فقال : أكتفي منك بالإيماء ، فأومى له بالسجود فكفر بالله وقتل ، فهو قوله تعالى :( كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ ) (١) .

نعم هكذا هو مصير من ابتلي بوسوسة الشيطان وسار في خطّه.

٣ ـ ما ينبغي عمله

أكّدت الآيات محل البحث وجوب اهتمام الإنسان بما يرسله من متاع سلفا لغده في يوم القيامة ، قال تعالى :( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) حيث أنّ هذه الذخيرة الاخروية تمثّل أكبر رأسمال حقيقي للإنسان في مشهد يوم القيامة ، لذا فإنّ هذا النوع من الأعمال الصالحة يلزم إعداده وتهيئته وإرساله مسبقا ، وإلّا فلا أحد يهتمّ له بعد وفاته وانقضاء أجله ، وإذا أرسل شيئا فليس له شأن يذكر.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تصدّقوا ولو بصاع من تمر ، ولو ببضع صاع ولو بقبضة ، ولو ببعض قبضة ، ولو تمرة ، ولو بشقّ تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيّبة ، فإنّ أحدكم يلقى الله ، فيقال له : ألم أفعل بك ، ألم أفعل بك ، ألم أجعلك سميعا بصيرا ، ألم أجعل لك مالا وولدا؟ فيقول : بلى ، فيقول الله تبارك وتعالى : فانظر ما قدّمت لنفسك ، قال : فينظر قدّامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله ، فلا يجد شيئا يقي به وجهه من النار»(٢) .

ونقرأ في حديث آخر أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جالسا مع عدد من أصحابه ، إذ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٥ ، تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٥١٨ ، وجاءت هذه القصّة مفصّلة أكثر في روح البيان ، ج ٩ ، ص ٤٤٦.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٩٢.

٢١٣

دخل قوم من قبيلة «مضر» ، متقلّدين السيف ومتهيئين للجهاد في سبيل الله ، إلّا أنّ ملابسهم رثّة ، فعند ما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آثار الطاقة والجوع عليهم ، تغيّرت ملامح وجهه ، فدعا الناس إلى المسجد وارتقى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «أمّا بعد ، ذلكم فإنّ الله أنزل في كتابه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) تصدّقوا قبل أن لا تصدقوا ، تصدّقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة ، تصدّق امرؤ من ديناره ، تصدّق امرؤ من درهمه ، تصدّق امرؤ من برّه ، من شعيرة ، من تمره ، لا يحقّرن شيء من الصدقة ولو بشقّ تمرة».

فقام رجل من الأنصار ، وأعطى كيسا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظهرت آثار الفرحة والسرور على وجهه المبارك ، ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها ، لا ينقص من أجورهم شيئا ، ومن سنّ سنّة سيّئة فعمل بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ، لا ينقص من أوزارهم شيئا. فقام الناس فتفرّقوا فمن ذي دينار ومن ذي درهم ومن ذي طعام ومن ذي ومن ذي فاجتمع فقسّمه بينهم».

وقد أكّدت هذا المعنى آيات قرآنية اخرى ولمرّات عديدة ، ومن جملة ذلك ما ورد في قوله تعالى :( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (١) .

* * *

__________________

(١) البقرة ، الآية ١١٠.

٢١٤

الآيات

( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤) )

التّفسير

لو نزل القرآن على جبل :

تكملة للآيات السابقة التي كانت تهدف إلى تحريك النفوس والقلوب الإنسانية ، وخاصّة عن طريق التذكير بالنهاية التي يكون عليها الإنسان ، والمصير

٢١٥

الذي ينتظره ، والذي يجدر أن يهيّئه في أبهى وأفضل صورة تأتي هذه الآيات المباركات التي هي آخر آيات سورة الحشر ، والتي تأخذ بنظر الإعتبار مجمل ما ورد من آيات هذه السورة ، لتوضّح حقيقة اخرى حول القرآن الكريم ، وهي : أنّ هذا الكتاب المبارك له تأثير عميق جدّا حتّى على الجمادات ، حيث أنّه لو نزل على الجبال لهزّها وحرّكها وجعلها في وضع من الاضطراب المقترن بالخشوع إلّا أنّه ـ مع الأسف ـ هذا الإنسان القاسي القلب يسمع آيات الله تتلى عليه ولا تتحرّك روحه ولا يخشع قلبه ، يقول سبحانه :( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .

فسّر الكثير من المفسّرين هذه الآيات بأنّها تشبيه ، وقالوا : إنّ الهدف من ذلك هو بيان أنّ هذه الآيات إذا نزلت على الجبال بكلّ صلابتها وقوّتها إذا كان لها عقل وشعور ـ بدلا من نزولها على قلب الإنسان ـ فانّها تهتزّ وتضطرب إلى درجة أنّها تتشقّق ، إلّا أنّ قسما من الناس ذوي القلوب القاسية والتي هي كالحجارة أو أشدّ قسوة لا يسمعون ولا يعون ولا يتأثّرون أدنى تأثير ، وجملة :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ) اعتبرت دليلا وشاهدا على هذا الفهم.

وقد حملها البعض الآخر على ظاهرها وقالوا : إنّ كلّ الموجودات في هذا العالم ـ ومن جملتها الجبال ـ لها نوع من الإدراك والشعور الخاصّ بها ، وإذا نزلت هذه الآيات عليها فانّها ستتلاشى ، ودليل هذا ما ورد في الآية (٧٤) من سورة البقرة في وصف جماعة من اليهود ، قال تعالى :( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ، وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) .

والتعبير بـ (مثل) يمكن أن يكون بمعنى هذا الوصف ، كما جاءت هذه الكلمة مرارا مجسّدة لنفس المعنى ، وبناء على هذا ، فإنّ التعبير المذكور لا يتنافى مع هذا التّفسير.

٢١٦

والشيء الممكن ملاحظته هنا ، أنّه تعالى يقول في البداية : إنّ الجبال تخشع وتخضع للقرآن الكريم ، ويضيف أنّها تتشقّق ، إشارة إلى أنّ القرآن الكريم ينفذ تدريجيّا فيها ، وبعد كلّ فترة تظهر عليها آثار جديدة من تأثيرات القرآن الكريم ، إلى حدّ تفقد فيه قدرتها واستطاعتها فتكون كالعاشق الواله الذي لا قرار له ثمّ تنصدع وتنشقّ(١) .

الآيات اللاحقة تستعرض قسما مهمّا من صفات جمال وجلال الله سبحانه ، التي لكلّ واحدة منها الأثر العميق في تربية النفوس وتهذيب القلوب. وتحوي الآيات القرآنية الثلاثة خمسة عشر وصفا لله سبحانه ، أو بتعبير آخر فإنّ ثماني عشرة صفة من صفاته العظيمة تذكرها ثلاث آيات ، وكلّ منها تتعلّق ببيان التوحيد الإلهي والاسم المقدّس ، وتوضّح للإنسان طريق الهداية إلى العالم النوراني لأسماء وصفات الحقّ سبحانه ، يقول تعالى :( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ) .

هنا وقبل كلّ شيء يؤكّد على مسألة التوحيد ، التي هي أصل لجميع صفات الجمال والجلال ، وهي الأصل والأساس في المعرفة الإلهية ، ثمّ يذكر علمه بالنسبة للغيب والشهود.

«الشهادة» و «الشهود» ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ هي الحضور مقترنا بالمشاهدة سواء بالعين الظاهرة أو بعين البصيرة ، وبناء على هذا ، فكلّ مكان تكون للإنسان فيه إحاطة حسيّة وعلمية يطلق عليها عالم شهود ، وكلّ ما هو خارج عن هذه الحدود يطلق عليه «عالم الغيب» وكلّ ذلك في مقابل علم الله سواء ، لأنّ وجوده اللامتناهي في كلّ مكان حاضر وناظر ، فلا مكان ـ إذن ـ خارج حدود علمه وحضوره ، قال تعالى :( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا

__________________

(١) «متصدع» من مادة (صدع) ، بمعنى شق الأشياء القوية ، كالحديد والزجاج ، وإذا قيل لوجع الرأس : صداع ، فإنه بسبب شعور الإنسان أن رأسه يريد أن يتشقق من الألم.

٢١٧

هُوَ ) (١) .

والتوجّه بهذا الفهم نحو الذات الإلهية يؤدّي بالإنسان إلى الإيمان بأنّ الله حاضر وناظر في كلّ مكان ، وعندئذ يتسلّح بالتقوى ، ثمّ يعتمد على رحمته العامّة التي تشمل جميع الخلائق : (الرحمن) ورحمته الخاصّة التي تخصّ المؤمنين ، (والرحيم) لتعطي للإنسان أملا ، ولتعينه في طريق بناء نفسه والتكامل بأخلاقه وسلوكه بالسير نحو الله ، لأنّ هذه المرحلة ـ الحياة الدنيا ـ لا يمكن للإنسان أن يجتازها بغير لطفه ، لأنّها ظلمات وخطر وضياع.

وبهذا العرض ـ بالإضافة إلى صفة التوحيد ـ فقد بيّنت الآية الكريمة ثلاثة من صفاته العظيمة ، التي كلّ منها تلهمنا نوعا من المعرفة والخشية لله سبحانه.

أمّا في الآية اللاحقة ، فبالإضافة إلى التأكيد على مسألة التوحيد فإنّها تذكر ثمانية صفات اخرى لله سبحانه ، حيث يقول البارئعزوجل :( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

( الْمَلِكُ ) الحاكم والمالك الحقيقي لجميع الكائنات.

( الْقُدُّوسُ ) المنزّه من كلّ نقص وعيب.

( السَّلامُ ) (٢) لا يظلم أحد ، وجميع الخلائق في سلامة من جهته.

وأساسا فإنّ دعوة الله تعالى هي للسلامة( وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ) (٣) .

وهدايته أيضا باتّجاه السلامة( يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) (٤) .

__________________

(١) الأنعام ، الآية ٥٩.

(٢) فسّر البعض كلمة «سلام» هنا بمعنى «السلامة من كلّ عيب ونقص وآفة» ، وبالنظر إلى أنّ هذا المعنى مندرج في القدّوس والتي جاءت سابقا ، بالإضافة إلى أنّ كلمة سلام تقال في القرآن الكريم في الغالب بمعنى إعطاء السلامة للآخرين ، وأساسا فإنّ كلمة سلام تقال عند اللقاء وتعني إظهار الصداقة والمحبّة وبيان الروابط الحميمة مع الطرف المقابل ، فإنّ ما ذكرناه أعلاه هو الأنسب حسب الظاهر. (يرجى الانتباه لذلك).

(٣) يونس ، الآية ٢٥.

(٤) المائدة ، الآية ١٦.

٢١٨

والمقرّ الذي اعدّ للمؤمنين أيضا هو : بيت السلامة( لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) .

وتحيّة أهل الجنّة أيضا ليست بشيء سوى السّلام :( إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) (١) .

ثمّ يضيف سبحانه :

( الْمُؤْمِنُ ) (٢) يعطي الأمان لأحبّائه ، ويتفضّل عليهم بالإيمان.

( الْمُهَيْمِنُ ) الحافظ والمراقب لكلّ شيء(٣) .

( الْعَزِيزُ ) القادر الذي لا يقهر.

( الْجَبَّارُ ) مأخوذ من (جبر) يأتي أحيانا بمعنى القهر والغلبة ونفوذ الإرادة ، وأحيانا بمعنى الإصلاح والتعويض ، ومرج الراغب في المفردات كلا المعنيين حيث يقول : «وأصل (جبر) إصلاح شيء بالقوّة والغلبة» وعند ما يستعمل هذا اللفظ لله تعالى ، فإنّه يبيّن أحد صفاته الكبيرة ، حيث أنّ نفوذ إرادته ، وكمال قدرته يصلح كلّ فساد. وإذا استعملت في غير الله أعطت معنى المذمّة ، وكما يقول الراغب فإنّها تطلق على الشخص الذي يريد تعويض نقصه بإظهاره لأمور غير لائقة ، وقد ورد هذا المصطلح عشر مرّات في القرآن الكريم ، تسع مرّات حول الأشخاص الظالمين والمستكبرين المتسلّطين على رقاب الامّة والمفسدين في

__________________

(١) الواقعة ، الآية ٢٦.

(٢) ذكر بعض المفسّرين أنّ المؤمن هنا بمعنى صاحب الإيمان ، إشارة إلى أنّه أوّل شخص مؤمن بذات الله الطاهرة ، وصفاته ورسله (وهو الله تعالى) إلّا أنّ الذي ذكر أعلاه أنسب.

(٣) في الأصل لهذا المصطلح قولان بين المفسّرين وأرباب اللغة ، حيث اعتبره البعض من مادّة (هيمن) والتي تعني المراقبة ، والحفظ ، والبعض الآخر اعتبره من مادّة (إيمان) تبدّلت الهمزة إلى الهاء بمعنى الباعث للهدوء ، وورد هذا المصطلح مرّتين في القرآن الكريم : الاولى : حول القرآن نفسه ، كما في الآية (٤٨) من سورة المائدة ، والثانية : في وصف الله سبحانه في الآية مورد البحث. والموردان مناسبان للمعنى الأوّل ، (لسان العرب وكذلك تفسير روح المعاني والفخر الرازي). كما نقل أبو الفتوح الرازي في نهاية الآية مورد البحث عن أبي عبيدة أنّه جاء في كلام العرب خمس كلمات فقط على هذا الوزن : (مهيمن ، مسيطر ، مبيطر (طبيب الحيوانات) مبيقر (الذي يشقّ طريقه ويمضي فيه) مخيمر (اسم جبل).

٢١٩

الأرض ومرّة واحدة فقط عن الله القادر المتعال ، حيث ورد بهذا المعنى في الآية مورد البحث.

ثمّ يضيف سبحانه :( الْمُتَكَبِّرُ ) .

«المتكبّر» من مادّة (تكبّر) وجاءت بمعنيين :

الأوّل : استعملت صفة المدح ، وقد أطلقت على لفظ الجلالة ، وهو اتّصافه بالعلو والعظمة والسمات الحسنة بصورة عامّة.

والثّاني : استعملت صفة الذمّ وهو ما يوصف به غير اللهعزوجل ، حيث تطلق على الأشخاص صغار الشأن وقليلي الأهميّة الذين يدّعون الشأن والمقام العالي ، وينعتون أنفسهم بصفات حسنة غير موجودة فيهم.

ولأنّ العظمة وصفات العلو والعزّة لا تكون لائقة لغير مقام الله سبحانه ، لذا استعمل هذا المصطلح هنا بمعناه الإيجابي حول الله سبحانه. وكلّما استعمل لغير الله أعطى معنى الذمّ.

وفي نهاية الآية يؤكّد مرّة اخرى مسألة التوحيد التي كان الحديث حولها ابتداء حيث يقول تعالى :( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

ومع التوضيح المذكور فإنّ من المؤكّد أنّ كلّ موجود لا يستطيع أن يكون شريكا وشبيها ونظيرا للصفات الإلهية التي ذكرت هنا.

وفي آخر آية مورد للبحث يشير سبحانه إلى ستّ صفات اخرى حيث يقول تعالى :

( هُوَ اللهُ الْخالِقُ ) .

( الْبارِئُ ) (١) .

__________________

(١) البارئ من مادّة «برء» على وزن (قفل) وهي في الأصل بمعنى التحرّر والتخلّص من الأمور السلبية ، ولذا يقال (بارئ) للشخص الذي يوجد شيئا غير ناقص وموزون بصورة تامّة. وأخذه البعض ـ أيضا ـ من مادّة (برى) على وزن

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624