الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204233 / تحميل: 6094
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

تفاسير أخر لهذه الآية أعرضنا عن ذكرها لأنّها(١) بعيدة.

والوصف الثاني من أوصافهم يذكره القرآن بهذا البيان :( وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) .

فحيث أنّ عيون الغافلين هاجعة آخر الليل والمحيط هادئ تماما ، فلا صخب ولا ضجيج ولا شيء يشغل فكر الإنسان ويقلق باله ينهضون ويقفون بين يدي الله ويعربون له عن حاجتهم وفاقتهم ، ويصفّون أقدامهم ، ويصلّون ويستغفرون عن ذنوبهم خاصّة.

ويرى الكثير من المفسّرين أنّ المراد من «الاستغفار» هنا هو «صلاة الليل» لأنّ «الوتر» منها مشتمل على الاستغفار.

و «الأسحار» جمع سحر على زنة «بشر» ومعناه في الأصل الخفي أو المغطّى ، وحيث أنّه في الساعات الأخيرة من الليل يغطّي كلّ شيء خفاء خاصّ ، فقد سمّى آخر الليل سحرا.

وكلمة «سحر» ـ بكسر السين ـ تطلق أيضا على ما يغطّي وجه الحقائق أو يخفي أسرارها عن الآخرين!.

وقد جاء في رواية في تفسير «الدرّ المنثور» أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ آخر الليل في التهجّد أحبّ إليّ من أوّله ، لأنّ الله يقول : وبالأسحار هم يستغفرون»(٢) .

ونقرأ حديثا آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرّة في السحر»(٣) .

ثمّ يذكر القرآن الوصف الثالث لأهل الجنّة المتّقين فيقول :( وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ

__________________

(١) كلمة «ما» في قوله ما يهجعون يمكن أن تكون زائدة وللتأكيد أو موصولة أو مصدرية كما ورد ذلك في تفسير الفخر الرازي والميزان ، وقال بعضهم بأنها زائدة أو مصدرية فحسب كما جاء في تفسير القرطبي وروح البيان ، وما احتمله بعضهم بأنها نافية فهو بعيد.

(٢) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ١١٣.

(٣) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.

٨١

لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) .

كلمة «حقّ» هنا هو إمّا لأنّ الله أوجب ذلك عليهم : كالزكاة والخمس وسائر الحقوق الشرعية الواجبة ، أو لأنّهم التزموه وعاهدوا أنفسهم على ذلك ، وفي هذه الصورة يدخل في هذا المفهوم الواسع حتّى غير الحقوق الشرعية الواجبة.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الآية ناظرة إلى القسم الثاني فحسب ، فهي لا تشمل الحقوق الواجبة لأنّ الحقوق الواجبة واردة في أموال الناس جميعا ، المتّقين وغير المتّقين حتّى الكفّار.

فعلى هذا حين يقول القرآن :( وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ ) فإنّما يعني أنّه إضافة إلى واجباتهم وحقوقهم أوجبوا على أنفسهم حقّا ينفقونه من مالهم في سبيل الله للسائل والمحروم.

إلّا أنّه يمكن أن يقال أنّ الفرق بين المحسنين وغيرهم هو أنّ المحسنين يؤدّون هذه الحقوق ، في حين أنّ غيرهم ليسوا مقيدين بذلك.

كما يمكن أن يقال في تفسير الآية أنّ المراد بالسائل في ما يخصّ الحقوق الواجبة ، لأنّه يحقّ له السؤال والمطالبة بها والمراد بالمحروم في ما يخصّ الحقوق المستحبّة إذ ليس له حقّ المطالبة بها.

ويصرّح «الفاضل المقداد» في كتابه «كنز العرفان» أنّ المراد من قوله :( حَقٌّ مَعْلُومٌ ) هو الحقّ الذي ألزموه أنفسهم في أموالهم ويرون أنفسهم مسئولين عنه(١) .

وجاء نظير هذا المعنى في سورة المعارج الآيتين ٢٤ و٢٥ إذ يقول سبحانه :( وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) .

ومع ملاحظة أنّ حكم وجوب الزكاة نزل في المدينة وآيات هذه السورة جميعها مكيّة ، فيتأيّد الرأي الأخير.

__________________

(١) مؤدّى ما ورد في كنز العرفان ، ج ١ ، ص ٢٢٦.

٨٢

وما وصلنا من روايات عن أهل البيتعليهم‌السلام يؤكّد أيضا أنّ المراد من «حقّ معلوم» شيء غير الزكاة الواجبة. إذ نقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول(١) : «لكنّ اللهعزوجل فرض في أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة فقالعزوجل ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ ) ، فالحقّ المعلوم غير الزكاة وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله إن شاء في كلّ يوم وإن شاء في كلّ جمعة وإن شاء في كلّ شهر».

وفي هذا المجال أحاديث متعدّدة أخر منقولة عن الإمام علي بن الحسين والإمام الباقر والإمام الصادق أيضا(٢) .

وهكذا فإنّ تفسير الآية واضح بيّن.

وهناك كلام في الفرق بين «السائل» و «المحروم» ، فقال بعضهم «السائل» هو من يطلب العون من الناس ، أمّا «المحروم» فمن يحافظ على ماء وجهه ويبذل قصارى جهده ليعيش دون أن يمدّ يده إلى أحد ، أو يطلب العون من أحد ، بل يصبّر نفسه.

وهذا هو ما يعبّر عنه بالمحارف ، لأنّه قيل في كتب اللغة في معنى «المحارف» بأنّه الشخص الذي لا ينال شيئا مهمّا سعى وجدّ فكأنّ سبل الحياة مغلقة بوجهه!

وعلى كلّ حال ، فهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي لا تنتظروا أن يأتيكم المحتاجون ويمدّوا أيديهم إليكم ، بل عليكم أن تبحثوا عنهم وتجدوا الأفراد المحرومين الذين يعبّر عنهم القرآن بأنّهم( يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) (٣)

لتساعدوهم وتحفظوا ماء أوجههم ، وهذا دستور مهم لحفظ حيثية المسلمين المحرومين وينبغي الاهتمام به.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٧٢ باب ما تجب فيه الزكاة الباب السابع الحديث الثاني.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٢٧ أبواب ما تجب فيه الزكاة الباب السابع الحديث ٣.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢٧٣.

٨٣

وهؤلاء الأشخاص يمكن معرفتهم ـ كما صرّح بذلك القرآن «تعرفهم بسيماهم».

أجل فبرغم سكوتهم إلّا أنّ في عمق وجوههم آثار الهموم وما تحمله أنفسهم من آلام يعرفها المطّلعون ، ويخبر لون وجههم عن كربتهم.

* * *

بحوث

١ ـ التوجّه نحو الله وخلق الله

ما ورد في هذه الآيات عن المتّقين وأوصافهم يتلخّص ـ في الحقيقة ـ في قسمين «التوجّه نحو الله» «الخالق» وذلك في ساعات يتوفّر فيها من جميع الجهات الاستعداد لبيان الحاجة عنده مع حضور القلب ، وتبلغ أسباب انشغال الفكر وانصراف الذهن إلى أدنى حدّ أي في أواخر الليل!

والآخر «التوجّه نحو الخلق» ومعرفة احتياج المحتاجين سواء أظهروا حاجتهم أم كتموها.

وهذا المطلب هو ما أشار إليه القرآن في آياته مرارا وأوصى به ، والآيات التي يرد فيها ذكر الصلاة ، ثمّ يتلوها ذكر الزكاة ، وتعول على الإثنين معا ، تشير إلى هذه المسألة ، لأنّ الصلاة أبرز مظهر لعلاقة الإنسان بالخالق ، والزكاة أجلى مظهر لعلاقته بخلق الله.

٢ ـ السهر ديدن العشّاق

مع أنّ صلاة الليل من الصلوات المستحبّة والنافلة إلّا أنّ القرآن المجيد أشار إليها مرارا ، وهذا دليل على أهميّتها القصوى حتّى أنّ القرآن عدّها وسيلة لبلوغ «المقام المحمود» وأساسا لقرّة العين «كما هو في الآية ٧٩ من سورة الإسراء

٨٤

والآية ١٧ من سورة ألم السجدة».

وفي الرّوايات الإسلامية أيضا اهتمام بالغ على هذه القضيّة وبيان الحاجة «في صلاة الليل» والسهر في السحر : ففي مكان يعدّها النّبي بأنّها كفّارة عن الذنوب فيقول : «يا علي ثلاث كفّارات : منها : التهجّد بالليل والناس نيام»(١) .

وفي حديث آخر ورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أشراف امّتي حملة القرآن وأصحاب الليل»(٢) .

وأيضا في حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوصي علياعليه‌السلام إذ قال أربع مرّات : عليك بصلاة الليل(٣) .

وينقل عن الإمام الصادق في تفسير الآية محلّ البحث :( كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) : أنّه قال : كانوا أقلّ الليالي تفوتهم لا يقومون فيها(٤) .

كما ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : الركعتان في جوف الليل أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها(٥) .

كما نقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال لسليمان الديلمي «أحد أصحابه» : لا تدع قيام الليل فإنّ المغبون من حرم قيام الليل(٦) .

وبالطبع فإنّ الرّوايات في هذا الصدد كثيرة ويلاحظ فيها تعابير مثيرة وطريفة جدّا ولا سيّما التعبير بأنّ صلاة الليل وسيلة «لمحو الذنوب» و «تيقّظ الفكر» و «إشراق القلب» و «جلب الرزق» و «سعة العيش» و «الصحّة» ، ولو جمعنا

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٧٣.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٧٥.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٧٧.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٧٩.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٨٧ ، ص ١٤٨.

(٦) بحار الأنوار ، ج ٨٧ ، ص ١٤٦.

٨٥

هذه الرّوايات لحصلنا على كتاب مستقل(١) .

وقد كان لنا بحوث أخر في هذا المجال ذيل الآية (٧٩) من سورة الإسراء وذيل الآية (١٧) من سورة الم السجدة فلا بأس بمراجعتها.

٣ ـ حقّ السائل والمحروم!

ممّا ينبغي ذكره أنّنا قرأنا في الآيات المتقدّمة أنّ في أموال الصالحين والمحسنين حقّا للسائل والمحروم ، وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّهم يعدّون أنفسهم مدينين للمحتاجين والمحرومين ، ويعدّون السائل أو المحروم ذا حقّ عليهم ، حقّ ينبغي دفعه إليه دون امتنان ولا أذى ، فكأنّه دين من سائر الديون.

وكما قلنا آنفا فإنّ هذا التعبير كما تدلّ عليه القرائن المتعدّدة لا علاقة له بالزكاة الواجبة وأمثالها ، بل هو ناظر إلى النفقة المستحبّة التي يعدّها المتّقون دينا عليهم(٢) .

* * *

__________________

(١) للاطلاع على هذه الرّوايات يراجع الجزء الخامس من وسائل الشيعة والجزء الأوّل من مستدرك الوسائل ، والجزء ٨٧ من بحار الأنوار.

(٢) نزول هذه الآيات بمكّة وورود هذا الحكم في خصوص أهل الجنّة الصالحين وروايات أهل البيت كلّها قرائن على أنّ الحقّ في الآية غير الزكاة

٨٦

الآيات

( وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) )

التّفسير

آيات الله وآثاره في أنفسكم :

تعقيبا على الآيات المتقدّمة التي كانت تتحدّث عن مسألة المعاد وصفات أهل النار وأهل الجنّة ، تأتي هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ لتتحدّث عن آيات الله ودلائله في الأرض وفي وجود الإنسان نفسه ليطّلع على مسألة التوحيد ومعرفة الله وصفاته التي هي مبدأ الحركة نحو الخيرات كلّها من جهة ، وعلى قدرته على مسألة المعاد والحياة بعد الموت من جهة اخرى ، لأنّ خالق الحياة على هذه الأرض وما فيها من عجائب قادر على تجديد الحياة بعد الموت كذلك! تقول هذه الآية أوّلا :( وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) .

والحقّ أنّ دلائل الله وقدرته غير المتناهية وعلمه وحكمته التي لا حدّ لها في هذه الأرض كثيرة وفيرة إلى درجة أنّ عمر أيّ إنسان مهما كان لا يكفي لمعرفتها

٨٧

جميعا.

فحجم الأرض وبعدها عن الشمس وحركتها حول نفسها وحركتها حول الشمس والقوى الجاذبة والدافعة التي تنتج عن حجمها وحركتها وهي متعادلة فيما بينها تماما ومتناسقة فجميع هذه الأمور مجتمعة توفّر الحياة على سطح الأرض وكلّ ذلك من آيات الله الكبرى.

في حين أن لو تغيّرت حركة من هذه الحركات واختلفت الخصائص أقل اختلاف ، لاضطربت الموازين وتبدلّت ظروف الحياة على سطح الأرض.

فالمواد التي تتشكّل منها الأرض والمنابع التي هي فوق سطح الأرض وداخلها ـ المعدّة للحياة ـ كلّ منها آية من آيات الله ودلائله.

الجبال والسهول والهضاب والأنهار والعيون التي كلّ منها له أثره في استمرار الحياة واتّساق ظروفها دلائل اخرى من دلائله وآياته.

مئات الآلاف من أنواع النباتات والحشرات والحيوانات أجل ، مئات الآلاف كلّ منها بخصائصه وعجائبه عند مطالعة كتب الأحياء و «البايلوجيا» وكتب الجيولوجيا والتربة وعلم النبات وعلم الحيوان تدع الإنسان يستغرق في حيرة مذهلة!.

وفي كلّ زاوية أو جانب من هذه الكرة الأرضية أسرار مثيرة قلّ أن يلتفت إليها أحد ، إلّا أنّ الباحثين والعلماء كشفوا النقاب عن جزء منها وأظهروا عظمة الخالق وقدرته.

ولا بأس أن ننقل هنا جانبا من كلمات بعض العلماء المعروفين في العالم الذين لهم دراسات كثيرة في هذا الصدد : إنّه «كرسي موريسين» فلنصغ إليه قائلا : «لقد روعي منتهى الدقّة في تنظيم العوامل الطبيعية فلو تضخّمت القشرة الخارجية للكرة الأرضية أكثر ممّا كانت عليه عشر مرّات لانعدم الأوكسجين الذي هو المادّة الأصلية للحياة ، ولو أنّ أعماق البحار كانت أكثر عمقا ممّا هي

٨٨

عليه قليلا أو كثيرا ، لأنجذب جميع الأوكسجين والكربون من سطح الأرض ولم يعد أي إمكان لحياة النبات أو الحيوان على سطح الأرض»!

ويقول في مكان آخر في الغلاف الجوّي الذي يحيط بالأرض : لو أنّ هذا الغلاف الذي يحيط بالأرض من الهواء كان رقيقا لخرقته الشهب الثواقب التي تأتي كلّ يوم بنحو عدّة ملايين فتصيب الأرض حيث ما وقعت ، إلّا أنّ هذا الغلاف الجوّي يمنعها لكثافته فتتلاشى وتحترق عنده فلا تصل إلى الأرض.

ولو أنّ الشهب الثواقب خفّت سرعتها لما احترقت عند اصطدامها بالهواء ولوقعت على الأرض ودمّرت الكثير.

ويقول في مكان آخر أنّ نسبة الأوكسجين في الهواء هي إحدى وعشرين بالمائة فحسب ، فلو كانت هذه النسبة خمسين بالمائة لاحترق به كلّ ما من شأنه الاشتعال في هذا العالم ولو وصلت شظية صغرى من النار إلى شجرة في غابة لاحترقت الغابة جمعاء»!

إنّ نسبة كثافة الهواء المحيط بالأرض إلى درجة بحيث يوصل الأشعّة المناسبة لرشد النباتات ونموّها وتعدم المكروبات الضارّة في الفضاء نفسه وتنتج الفيتامينات النافعة.

ومع وجود الأبخرة المختلفة التي خرجت من باطن الأرض خلال القرون المتمادية وانتشرت في الهواء وأغلبها أبخرة سامّة فمع ذلك فإنّ الهواء المحيط بالأرض لم يتلوّث وما يزال باقيا على حالته الطبيعية المناسبة للحياة الإنسانية.

والجهاز الذي يوجد هذه الموازنة ويحفظ هذا التعادل هو البحر والمحيط الذي منه تستمدّ المواد الحياتية والغذاء والأمطار واعتدال الهواء والنباتات وأخيرا فإنّ وجود الإنسان نفسه يستمدّ منه أيضا.

فكلّ من يدرك هذه المعاني فعليه أن يطأطئ رأسه للبحر تعظيما وأن يشكر

٨٩

مواهبه وخالق البحر»(١) .

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) أي أفلا تبصرون هذه الآيات في أنفسكم أيضا؟!

ولا شكّ أنّ الإنسان أعجوبة عالم الوجود وما هو في العالم الأكبر موجود في عالم الإنسان الأصغر أيضا ، بل في الإنسان عجائب لا توجد في أي مكان من العالم!

والعجب أنّ هذا الإنسان على عظمته وعقله وعلمه وهذا الابتداع والابتكار والصنع العجيب كان أوّل يومه على صورة نطفة صغرى لا قيمة لها!! لكن ما أن استقرّت في الرحم حتّى تكاملت بسرعة وتبدلّت يوما بعد يوم ولحظة بعد اخرى فإذا هذه النطفة التي لا قيمة لها تغدو إنسانا كاملا سويّا!

خليّة واحدة التي هي أصغر جزء في بدن الإنسان تشكّل بناية ضخمة متداخلة عجيبة فهي على حدّ تعبير بعض العلماء تعادل «مدينة صناعية».

يقول أحد علماء «علم الأحياء» إنّ هذه المدنية العظمى مع آلاف الأبواب أو البوابات المثيرة وآلاف المعامل والمخازن وشبكات المجاري والتأسيسات الكثيرة والارتباطات والأعمال الحياتية المختلفة كلّ ذلك في مساحة صغيرة جدّا بمقدار خلية من أكثر الأمور تعقيدا وإثارة ، إذ لو أردنا أن نهيّئ تأسيسات مثلها ولن نستطيع أبدا ـ لكان علينا أن نشغل مساحة آلاف الهكتارات من الأرض وعليها البنايات والماكنات المختلفة المعقّدة لنصل إلى مثل هذه الخطّة!!

إلّا أنّ الطريف أنّ جهاز الخلقة جعل كلّ ذلك في مساحة تعدل خمسة عشر ميلونيم الميليمتر فحسب(٢) .

إنّ الأجهزة الموجودة في بدن الإنسان كالقلب والكلية والرئة وخاصّة

__________________

(١) الكاتب كرسي موريسين في كتابه (أسرار خلق الإنسان) من ص ٣٣ إلى ٣٦.

(٢) سفرة في أعماق وجود الإنسان قسم الخلايا.

٩٠

عشرات آلاف الكيلومترات من الأعصاب الرقيقة أو الكبيرة والأعصاب الدقيقة التي لا ترى بالعين المجرّدة وجميعها مسئولة عن إيصال الغذاء والماء والتهوية إلى عشرة مليون مليارد خلية ، والحواس المختلفة كالسمع والبصر والحواس الاخر كلّ منها آية عظمى من آيات الله.

وأهمّ من كلّ ذلك لغز الحياة التي لم تعرف أسرارها وبناء الروح أو العقل الإنساني الذي يعجز عن إدراكه عقول جميع الناس وهنا ـ ينحني الإنسان ويتمتم بالتسبيح والحمد والثناء لله دون إختياره ويترنّم بهذه الأشعار :

فيك يا أعجوبة الكو

ن غدا الفكر كليلا

أنت حيّرت ذوي الل

لبّ وبلبلت العقولا

كلّما قدّم فكري فيك شبرا فرّ ميلا

ناكصا يخبط في عمياء لا يهدى سبيلا

وقد ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»(١) .

أجل إنّ معرفة النفس في جميع المراحل طريق لمعرفة الله والتعبير : «أفلا تبصرون» تعبير لطيف : أي إنّ هذه الآيات حولكم وفي داخلكم وفي تمام وجودكم بحيث لو فتحتم أعينكم ولو قليلا لأبصرتم آيات الله ولا رتوت أرواحكم من إدراك عظمته!.

وفي الآية الثالثة من الآيات ـ محلّ البحث ـ إشارة إلى القسم الثالث من دلائل عظمة الخالق وقدرته على المعاد إذ تقول :( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ) .

وبالرغم من أنّ بعض الرّوايات الإسلامية تفسّر «الرزق» في هذه الآية ب

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٦٠٣ مادّة نفس.

٩١

«المطر» الذي يمنح الحياة وهو مصدر الخير والبركة في الأرض جميعا ، والآية (٥) من سورة الجاثية أيضا توافق هذا التّفسير إذ تقول :( وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) إلّا أنّ هذا المعنى يمكن أن يكون مصداقا جليّا من مصاديق الآية ، في حين أنّ سعة مفهوم الرزق تشمل حبّات المطر وغيرها كنور الشمس الذي يأتي من السماء وله أثره الفاعل في الحياة ، والهواء الذي هو أساس حياة الموجودات.

كلّ هذا لو أخذنا مفهوم السماء بالمعنى اللغوي أي السماء التي فوقنا ، إلّا أنّ بعضهم فسّرها بعالم الغيب وما وراء الطبيعة أو اللوح المحفوظ الذي تقدّر منه أرزاق العباد!

وبالطبع فإنّ الجمع بين التّفسيرين ممكن ، وأن كان التّفسير الأوّل أنسب وأوضح!.

وأمّا جملة و( ما تُوعَدُونَ ) فيمكن أن تكون تأكيدا على مسألة الرزق ووعد الله في هذا المجال ، أو أنّ المراد منها الجنّة الموعودة ، لأنّنا نقرأ الآية ١٥ من سورة النجم( عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ) أو أنّها إشارة إلى كلّ خير وبركة أو عذاب ينزل من السماء! أو أنّ «ما توعدون» ناظر إلى جميع هذه المعاني ، لأنّ مفهوم «ما توعدون» واسع جدّا.

وعلى كلّ حال ، فهذه الآيات الثلاث فيها ترتيب لطيف ، فالآية الاولى تتحدّث عن أسباب وجود الإنسان وحياته ، والآية الثانية تتحدّث عن الإنسان نفسه ، والآية الثالثة تتحدّث عن أسباب بقائه ودوامه!.

وجدير بالالتفات أيضا أنّ ما يمنع البصيرة ويصدّها عن مطالعة أسرار الخلق وأسرار الأرض وعجائب وجود الإنسان هو «الحرص على الرزق» ، فالله سبحانه يطمئن الإنسان في الآية الأخيرة بأنّ رزقه مضمون ، ليستطيع أن ينظر إلى عجائب العالم ويتحقّق فيه قوله :( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ؟!

٩٢

لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تقسم فتقول :( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) .

وقد بلغ الأمر حدّا أن يقسم الله على ما لديه من عظمة وقدرة ليطمئن عباده الشاكّين ضعاف الأنفس الحريصين إنّ ما توعدون في مجال الرزق والثواب والعقاب والقيامة جميعه حقّ ولا ريب في كلّ ذلك(١) .

والتعبير بـ( مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) تعبير لطيف ودقيق إذ يتحدّث عن أكثر الأشياء لمسا ، لأنّه قد يخطئ الإنسان في الباصرة أو السمع بأن يتوهّم أنّه سمع أو رأى ، إلّا أنّه لا يمكن أن يتوهّم أنّه قال شيئا مع أنّه لم يقله لذلك فإنّ القرآن يقول : كما أنّ ما تنطقون محسوس عندكم وله واقع ، فإنّ الرزق والوعد الإلهي عنده كذلك!

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ النطق بنفسه واحد من أكبر الأرزاق والمواهب الإلهيّة التي لم يتمتّع بها أي موجود حيّ سوى الإنسان ، وليس بخاف أثر الكلام والنطق في الحياة الاجتماعية وتعليم الناس وتربيتهم وانتقال العلوم وحلّ مشاكل الحياة على أحد.

* * *

بحوث

١ ـ قصّة الأصمعي المثيرة

ينقل الزمخشري في كشّافه عن الأصمعي(٢) أنّه قال خرجت من مسجد البصرة فبصرت بأعرابي من أهل البادية راكبا على دابته فواجهني وسألني : من أي

__________________

(١) هناك كلام بين المفسّرين في أنّ مرجع الضمير في «أنّه» على أي شيء يعود؟ قال بعضهم يعود على الرزق ، وقال بعضهم يعود على ما توعدون وقال بعضهم يعود على النّبي والقرآن إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

(٢) كان يدعى «عبد الملك بن قريب» وكان يعيش في عهد هارون الرشيد وله حافظة عجيبة واطّلاعات واسعة عن تاريخ العرب وأشعارها وتوفّي في البصرة سنة ٢١٦ الكنى والألقاب ، ج ٢ ، ص ٢٧.

٩٣

القبائل أنت؟! فقلت من بني الأصمع فقال من أين تأتي؟ فقلت : من مكان يقرأ فيه كلام الله فقال لي : اقرأ لي منه ، فقرأت له آيات من سورة الذاريات حتّى بلغت( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ ) فقال كفى. ثمّ نهض وعمد إلى بعير عنده فنحره وقسّم لحمه على المحتاجين من الذاهبين والآئبين ثمّ عمد إلى سيفه وقوسه فكسّرهما أيضا وألقاهما جانبا واستدار إلى الوراء ومضى وانتهت هذه القصّة!.

وحين مضيت إلى حجّ بيت الله الحرام بمعيّة هارون الرشيد وكنت مشغولا في الطواف إذا أنا برجل يناديني بصوت ضعيف فنظرت فإذا هو ذلك الأعرابي وكان نحيلا مصفّر الوجه «وكان يظهر عليه العشق الملتهب الذي لم يدع له قرارا» فسلّم عليّ وطلب منّي أن أعيد عليه سورة الذاريات فلمّا بلغت الآية آنفة الذكر صرخ : وقال وجدنا وعد ربّنا حقّا ثمّ أضاف هل هناك آية بعدها؟! فقرأت فورب السماء والأرض أنّه لحقّ : فصرخ ثانية وقال يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتّى حلف ليصدّقوه بقوله حتّى ألجأوه إلى اليمين(١) .

٢ ـ أين الجنّة؟!

كما ذكرنا في الآيات آنفة الذكر فإنّ بعض المفسّرين يرى أنّ جملة( وَما تُوعَدُونَ ) معناها الجنّة. وقالوا : يستفاد من هذه الآية أنّ الجنّة في السماء ، إلّا أنّ هذا الكلام لا ينسجم مع الآية التي تتحدّث عن الجنّة فتقول :( عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) (٢)

وكما قلنا ـ إنّ هذا التّفسير لجملة( وَما تُوعَدُونَ ) لا دليل عليه ، بل يمكن أن يكون إشارة إلى وعد الله برزقه أو عذاب السماء.

وإذا كان في الآية (١٥) من سورة النجم قد ورد أنّ جنّة المأوى في السماء عند سدرة المنتهى فليس ذلك دليلا على هذا المعنى ، لأنّ «جنّة المأوى» قسم من

__________________

(١) تفسير الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٢) آل عمران ، الآية ١٣٣.

٩٤

بساتين الجنّة لا جميع الجنّة (فلاحظوا بدقّة).

٣ ـ الاستفادة من آيات الله تحتاج إلى قابلية!

حين تتحدّث آيات القرآن عن أسرار الخلق ودلائل الله في عالم الوجود تقول تارة أنّ في ذلك( لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) يونس الآية ٦٧.

وتارة تقول :( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الرعد الآية ٣.

واخرى تقول :( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) الرعد الآية ٤.

أو تقول :( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) النحل الآية ٧٩.

وفي مكان آخر تقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى ) سورة طه الآية ٥٤.

وتارة تقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) الحجر الآية ٧٥.

وأخيرا تقول :( لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ ) الروم الآية ٢٢.

والآيات محلّ البحث تقول :( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ؟!

أي إنّ آيات الله في الأرض وفي أنفسكم واضحة جليّة لأولئك الذين لهم بصر ثاقب.

وهذه التعبيرات تدلّ دلالة واضحة على أنّ الاستفادة من الآيات التي لا تحصى ـ الدالّة على وجود ذاته المقدّسة في الأرض تحتاج إلى استعداد كاف ، عين باصرة ، اذن سميعة ، فكر يقظ ، قلب ذكي وروح مهيّأة لقبول الحقائق متعطّشة لها وإلّا فمن الممكن أن يعيش الإنسان سنين بين هذه الآيات إلّا أنّ مثله كمثل الحيوانات التي همّها علفها.

٤ ـ الرزق حقّ

من جملة الأمور التي يحكمها نظام دقيق هي «مسألة الرزق» التي أشير إليها في الآيات محلّ البحث إشارات واضحة.

٩٥

صحيح أنّ الاستفادة من مواهب الحياة مشروطة بالجدّ والسعي والمثابرة وأنّ الكسل والخنوع مدعاة للتأخّر والحرمان من الحياة إلّا أنّه من الخطأ البيّن أن نتصوّر أنّ رزق الإنسان يزداد بالحرص والولع والأعمال الكثيرة وأنّ رزقه يقلّ بالتعفّف والتجلّد وما إلى ذلك.

ونلاحظ في الأحاديث الإسلامية تعابير طريفة في هذا المجال : ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ الرزق لا يجرّه حرص حريص ولا يصرفه كره كاره»(١) .

وفي حديث آخر عن الصادقعليه‌السلام جوابا على بعض أصحابه وقد طلب منه أن يعظه وينصحه فقالعليه‌السلام «... وإن كان الرزق مقسوما فالحرص لماذا»(٢) ؟!

والهدف من بيان هذه الأحاديث ليس هو الوقوف بوجه الجدّ والسعي بل هو تنبيه الحريصين أن يلتفتوا إلى أنّ رزقهم مقدّر ليرتدعوا عن حرصهم!.

وهنا لطيفة جديرة بالالتفات وهي أنّ الرّوايات الإسلامية ذكرت أمورا كثيرة على أنّها مدعاة للرزق أو مانعة له ، وكلّ منها مهمّ في نفسه!

نقرأ عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «والذي بعث جدّي بالحقّ نبيّا انّ الله تبارك وتعالى يرزق العبد على قدر المروءة وأنّ المعونة تنزل على قدر شدّة البلاء»(٣) .

وعنهعليه‌السلام أنّه قال : «كفّ الأذى وقلّة الصخب يزيدان في الرزق»(٤) . كما نقل عن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «التوحيد نصف الدين واستنزل الرّزق بالصدقة»(٥) .

وهناك امور أخر ذكرت على أنّها مدعاة لزيادة للرزق كتنظيف نواحي البيت وغسل الأواني وتنظيفها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٢٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٢٥ الحديث ٣١.

(٤) المصدر السابق ، ص ١٢٦ (الحديثان ٣٥ و٣٧).

(٥) المصدر السابق.

٩٦

الآيات

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) )

التّفسير

ضيوف إبراهيمعليه‌السلام

من هذا المقطع ـ فما بعد ـ يتحدّث القرآن في هذه السورة عن قصص الأنبياء الماضين والأمم المتقدّمة تأكيدا وتأييدا للموضوع آنف الذكر وما حواه من مسائل ، وأوّل جانب يثيره هذا المقطع هو قصّة الملائكة الذين جاءوا لعذاب قوم لوط ، ومرّوا على إبراهيمعليه‌السلام على صورة بشر ، ليبشّروه بالولد ، مع أنّ إبراهيم بلغ سنّا كبيرا فهو في مرحلة المشيب وامرأته كانت عقيما كذلك!

٩٧

فمن جهة يعدّ إعطاء هذا الولد لإبراهيم وزوجه وهما في مرحلة الكبر واليأس من الإنجاب تأكيدا على كون الأرزاق مقدّرة كما أشير إلى ذلك في الآيات المتقدّمة.

ومن جهة اخرى يعدّ دليلا آخر على قدرة الحقّ وآية من آيات معرفة الله التي ورد البحث عنها في الآيات آنفا.

ومن جهة ثالثة يعدّ بشرى للأمم المؤمنة بأنّها في رعاية الحقّ ـ كما أنّ الآيات التالية تتحدّث عن عذاب قوم لوط وهي في الوقت ذاته تهديد للمجرمين.

ففي البدء يوجّه الله سبحانه الخطاب لنبيّه فيقول :( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) (١) .

والتعبير بـ «المكرمين» إمّا لأنّ هؤلاء الملائكة كانوا مأمورين من قبل الحقّ ، وقد ورد التعبير عنهم في الآية (٢٦) من سورة الأنبياء أيضا بمثل هذا ـ( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ) أو لأنّ إبراهيمعليه‌السلام أكرمهم ، أو للوجهين معا.

ثمّ يبيّن القرآن حالهم فيقول :( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) (٢) .

قال بعضهم : جملة أنّهم «قوم منكرون» لم يصرّح بها إبراهيم ، بل حدّث بها نفسه لأنّ هذا الكلام لا ينسجم مع وافر الاحترام للضيف الكرام.

إلّا أنّه كما هو المعتاد قد يقول المضيّف للضيف في حال الاحترام والترحيب : «لا أدري أين التقيت بك من قبل ـ أو يبدو انّك غريب ..»

__________________

(١) «الضيف» له معنى وصفي ، ويطلق على المفرد كما يطلق على الجمع أيضا ولذلك فقد وصف بالمكرمين ، وما قاله بعضهم إنّه مصدر ولا يثنّى ولا يجمع فلا يبدو صحيحا. ولكن كما يقول الزمخشري في الكشّاف حيث إنّه كان في الأصل مصدرا وبعد أن أصبح ذا معنى وصفي فإنّه استعمل في المفرد والجمع معا ، فلاحظوا بدقّة.

(٢) سلاما منصوب بفعل محذوف وتقديره : نسلّم عليكم سلاما : أمّا سلام فهو مبتدا وخبره محذوف وأصله عليكم سلام أو سلام عليكم فكأنّ إبراهيم أراد أن يحيّهم بأحسن من تحيّتهم ، لأنّ الجملة الاسمية تدلّ على الثبات والدوام تفسير الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٤٠١.

٩٨

فبناء على هذا يمكن التمسّك بظاهر الآية وأنّ إبراهيم قال هذا الكلام صراحة وإن كان الاحتمال الأوّل غير بعيد. خاصّة أنّ «الضيف» لم يردّوا على هذا الكلام ، ولو كان إبراهيم قال مثل هذا الكلام صراحة ، فلا بدّ أن يجيبوه.

وعلى كلّ حال فإنّ إبراهيم أدّى ما عليه من حقّ الضيافة( فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) .

والفعل «راغ» كما يقول الراغب في مفرداته مشتقّ من «روغ» ـ على وزن «شوق» ـ ومعناه التحرّك مقرونا بخطّه خفيّة ، لأنّ إبراهيم فعل «كذلك» وقام بذلك خفاء لئلّا يلتفت الضيف فلا يقبلوا بضيافته التي تستلزم نفقة كثيرة! إلّا أنّه لم هيّأ إبراهيم طعاما كثيرا؟ مع أنّ ضيفه كانوا كما يقول بعض المفسّرين «ثلاثة» وقال بعضهم : كانوا اثني عشر ـ وهذا أقصى ما قاله بعض المفسّرين(١) ـ.

فذلك لأنّ الكرماء لا يهيّؤون الطعام بمقدار الضيف فحسب ، بل يهيّؤون طعاما يستوعب حتّى العمّال ليشاركوهم في الأكل ، وربّما أخذوا بنظر الإعتبار حتّى الجار والأقارب فعلى هذا لا يعدّ مثل هذا الطعام الذي هيّأه إبراهيم إسرافا ، ويلاحظ هذا المعنى في يومنا هذا عند بعض العشائر التي تعيش على طريقتها القديمة.

و «العجل» على وزن «طفل» معناه ولد البقر «وما يراه بعضهم أنّه الخروف فلا ينسجم مع متون اللغة»! وهذه الكلمة مأخوذة في الأصل من العجلة ، لأنّ هذا الحيوان في هذه السنّ وفي هذه المرحلة يتحرّك حركة عجلى ، وحين يكبر تزول عنه هذه الصفة تماما.

و «السمين» معناه المكتنز لحمه ، وانتخاب مثل هذا العجل إنّما هو لإكرام الضيف وليسع المتعلّقين والأكلة الآخرين!

__________________

(١) اقتباس عن روح البيان وحاشية تفسير الصافي ذيل الآيات محلّ البحث.

٩٩

وفي الآية التاسعة والستّين من سورة هود جاء وصف هذا العجل بأنّه «حنيذ» أي مشويّ ، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث لم تذكر شيئا عن هذا العجل ، إلّا أنّه لا منافاة بين التعبيرين.

ثمّ تضيف الآية بالقول عن إبراهيم وضيفه( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ) إلّا أنّه لاحظ أنّ أيديهم لا تصل إلى الطعام فتعجّب و( قالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) .

وكان إبراهيم يتصوّر أنّهم من الآدميين( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) لأنّه كان معروفا في ذلك العصر وفي زماننا أيضا بين كثير من الناس الملتزمين بالتقاليد العرفية ، أنّه متى ما أكل شخص من طعام صاحبه فلن يناله أذى منه ولا يخونه ولذلك فإنّ الضيف إذا لم يأكل من طعام صاحبه ، يثير الظنّ السيء بأنّه جاء لأمر محذور ، وقد قيل على سبيل المثل في لغة العرب : من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك»!

و «الإيجاس» مشتقّ من وجس ـ على وزن مكث ـ ومعناه في الأصل الصوت الخفي ومن هنا فقد أطلق الإيجاس على الإحساس الداخلي والخفي ، فكأنّ الإنسان يسمع صوتا داخله وحين يقترن الإيجاس بالخيفة يكون معناه الإحساس بالخوف.

وهنا قال له الضيف كما ورد في الآية (٧٠) من سورة هود طمأنة له فـ( قالُوا لا تَخَفْ ) .

ويضيف القرآن :( وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) .

وبديهي أنّ الغلام عند ولادته لا يكون عليما ، إلا أنّه من الممكن أن يكون له استعداد بحيث يكون في المستقبل عالما كبيرا والمراد به هنا هو ذلك المعنى!.

وهذا الغلام من هو؟ هل هو إسحاق أم إسماعيل؟! هناك أقوال بين المفسّرين وإن كان المشهور أنّه إسحاق واحتمال كونه إسماعيل ـ مع ملاحظة الآية (٧١) من سورة هود التي تقول فبشّرناها بإسحاق ـ يبدو غير صحيح ، فبناء على ذلك ليس

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

العدل حتّى مع الأعداء :

من خلال استعراضنا الآيات الكريمة أعلاه نلاحظ عمق الدقّة وروعة الظرافة واللطف في طبيعة الأحكام التي وردت فيها ، موضّحة إلى أي حدّ يهتمّ الإسلام بأصل العدالة والقسط في تشريع أحكامه حتّى في أحرج الظروف وأصعبها ، لأنّه يسعى لتعميم الخير وإبعاد الأذى والضرر حتّى عن الكفّار.

في الوقت الذي نلاحظ أنّ العرف العامّ في حياتنا العملية يتعامل في الظروف والأوقات العصيبة بخصوصية معيّنة واستثناء خاصّ ويتخلّى عن الكثير من قيم الحقّ والعدل ويدّعي أن لا مكان لإحقاق الحقّ فيها في حين تؤكّد التشريعات الإلهية على تحمّل كلّ صعوبة حتّى في أدقّ الظروف وأشدّها ضيقا منعا لهدر أيّ حقّ ، لا للقريبين فقط. بل حتّى للأعداء ، إذ يجب أن يحافظ على حقوقهم وترعى حرماتهم.

إنّ مثل هذه الأحكام الإسلامية هي في الحقيقة نوع من الإعجاز ، ودليل على حقّانية دعوة الرّسول الأعظم حيث السعي بمنتهى الجهد لإقامة العدل حتّى في أسوأ حالات الانتهاك للحرمات الإسلامية في مجال النفس والمال كما كان عليه فعل المجتمع الجاهلي.

* * *

٢٦١

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) )

التّفسير

شروط بيعة النساء :

استمرارا للبحث الذي تقدّم في الآيات السابقة والذي استعرضت فيه أحكام النساء المهاجرات ، تتحدّث هذه الآية عن تفاصيل وأحكام بيعة النساء المؤمنات مع الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لقد ذكر المفسّرون أنّ هذه الآية نزلت يوم فتح مكّة عند ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جبل (الصفا) يأخذ البيعة من الرجال ، وكانت نساء مكّة قد أتين إلى رسول الله من أجل البيعة فنزلت الآية أعلاه ، وبيّنت كيفية البيعة معهنّ ،

٢٦٢

ويختّص خطاب الآية برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول تعالى :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ ) إلى قوله :( ... إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبعد هذه الآية أخذ رسول الله البيعة من النساء المؤمنات.

وكتب البعض حول كيفية البيعة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر بإناء فيه ماء ، ووضع يده المباركة فيه ، ووضع النسوة أيديهنّ في الجهة الاخرى من الإناء. وقيل إنّ رسول الله بايع النساء من فوق الملابس.

وممّا يجدر ملاحظته أنّ الآية الكريمة ذكرت ستّة شروط في بيعة النساء ، يجب مراعاتها وقبولها جميعا عند البيعة وهي :

١ ـ ترك كلّ شرك وعبادة للأوثان ، وهذا شرط أساسي في الإسلام والإيمان.

٢ ـ اجتناب السرقة ، ويحتمل أن يكون المقصود بذلك هو سرقة أموال الزوج ، لأنّ الوضع المالي السيء آنذاك ، وقسوة الرجل على المرأة ، وانخفاض مستوى الوعي كان سببا في سرقة النساء لأموال أزواجهنّ ، واحتمال إعطاء هذه الأموال للمتعلّقين بهنّ.

وما قصّة (هند) في بيعتها لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا شاهد على هذا المعنى ، ولكن على كلّ حال فإنّ مفهوم الآية واسع.

٣ ـ ترك التلوّث بالزنا ، إذ المعروف تأريخيا أنّ الانحراف عن جادّة العفّة كان كثيرا في عصر الجاهلية.

٤ ـ عدم قتل الأولاد ، وكان القتل يقع بطريقتين ، إذ يكون بإسقاط الجنين تارة ، وبصورة الوأد تارة اخرى (وهي عملية دفن البنات والأولاد أحياء).

٥ ـ اجتناب البهتان والافتراء ، وقد فسّر البعض ذلك بأنّ نساء الجاهلية كنّ يأخذن الأطفال المشكوكين من المعابر والطرق ويدّعين أنّ هذا الطفل من أزواجهنّ (وهذا الأمر محتمل في حالة الغياب الطويل للزوج).

وقد اعتبر البعض ذلك إشارة إلى عمل قبيح هو من بقايا عصر الجاهلية ،

٢٦٣

حيث كانت المرأة تتزوّج من رجال عدّة ، وعند ما يولد لها طفل تنسبه إلى أيّ كان منهم ، إذا ضمنت رغبته بالطفل.

ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ مسألة الزنا قد ذكرت سابقا ، ولم يكن استمرار مثل هذا الأمر في الإسلام ممكنا ، لذا فإنّ هذا التّفسير مستبعد ، والتّفسير الأوّل أنسب بالرغم من سعة مفهوم الآية الشريفة الذي يشمل كلّ افتراء وبهتان.

كما أنّ التعبير بـ( بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ ) يمكن أن يكون إشارة إلى أطفال أبناء السبيل ، حيث تكون وضعية الطفل الرضيع عند رضاعته في حضن امّه بين يديها ورجليها.

٦ ـ الطاعة لأوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي تبني الشخصية المسلمة وتهذّبها وتربّيها على الحقّ والخير والهدى ، وهذا الحكم واسع أيضا يشمل جميع أوامر الرّسول ، بالرغم من أنّ البعض اعتبره إشارة إلى قسم من أعمال النساء في عصر الجاهلية كالنوح بصوت عال على الموتى ، وتمزيق الجيوب وخمش الخدود وما شابه ، إلّا أنّ مفهوم الطاعة لا ينحصر بذلك.

ويمكن أن يطرح هنا هذا السؤال وهو : لماذا كانت البيعة مع النساء مشروطة بهذه الشروط ، في حين أنّ بيعة الرجال لم تكن مشروطة إلّا بالإيمان والجهاد؟ وللإجابة على ذلك نقول : إنّ الأمور الأساسية المتعلّقة بالرجال في ذلك المحيط هو الإيمان والجهاد ، ولأنّ الجهاد لم يكن مشروعا بالنسبة للنساء لذا ذكرت شروط اخرى أهمّها ما أكّدت عليه الآية الشريفة والتي تؤكّد على صيانة المرأة من الانحراف في ذلك المجتمع.

* * *

بحوث

١ ـ ارتباط بيعة النساء ببناء شخصيتهنّ الإسلامية

لقد ذكرنا في تفسير سورة الفتح ـ في نهاية الآية (١٨) ـ بحثا مفصّلا حول

٢٦٤

البيعة وشروطها وخصوصياتها في الإسلام ، لذا لا ضرورة لتكرار ذلك(١) .

وممّا يجدر التذكير به هنا أنّ مسألة بيعة النساء للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت بشروط بنّاءة ومربّية كما نصّت عليها الآية أعلاه.

إنّ هذه النقطة على خلاف ما يقوله الجهلة والمغرضون في أنّ الإسلام حرم المرأة من الاحترام والقيمة والمكانة التي تستحقّها ، فإنّ هذه الآية أكّدت على الاهتمام بالمرأة في أهمّ المسائل ومن ضمنها موضوع البيعة سواء كانت في الحديبية في العام السادس للهجرة أو في فتح مكّة ، وبذلك دخلن العهد الإلهي مع الرجال وتقبّلن شروطا إضافية تعبّر عن الهوية الإنسانية للمرأة الملتزمة تنقذها من شرور الجاهلية ، سواء القديمة منها أو الجديدة ، حيث تتعامل معها كمتاع بخس رخيص ، ووسيلة لإشباع شهوة الرجال ليس إلّا.

٢ ـ قصّة بيعة (هند) زوجة أبي سفيان

عند ما منّ الله على المسلمين بفتح مكّة ، وجاءت النساء لبيعة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت «هند» زوجة أبي سفيان من ضمن النساء اللواتي جئن لبيعة الرّسول أيضا. هذه المرأة التي ينقل عنها التاريخ قصصا مثيرة في ممارساتها الإجرامية ، وما قصّة فعلها بحمزة سيّد الشهداء في غزوة أحد ، ذلك العمل الإجرامي القبيح ، إلّا مفردة واحدة من الصور السوداء لهذه المرأة المشينة.

وبالرغم من أنّ الظروف قد اضطرّتها إلى الانحناء أمام عظمة الإسلام فأعلنت إسلامها ظاهريا ، إلّا أنّ قصّة بيعتها تعكس أنّها في الواقع كانت وفّية لما ارتبطت به من عقائد جاهلية سابقة ، لذا فليس عجبا ما ارتكبه آل اميّة وأبناؤهم بحقّ آل الرّسول ، بصورة لم يكن لها مثيل.

__________________

(١) يراجع في هذا الصدد التّفسير الأمثل الآية (١٨) سورة الفتح.

٢٦٥

وعلى كلّ حال ، فقد كتب المفسّرون في قصّة بيعة هند :

«روي أنّ النبي بايعهنّ وكان على الصفا ، وهند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة خوفا من أن يعرفها رسول الله ، فقال أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا ، فقالت هند : انّك لتأخذ علينا أمرا ما أخذته على الرجال.

وذلك انّه بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ، فقال رسول الله : ولا تسرقن. فقالت هند : إنّ أبا سفيان ممسك وانّي أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أمّ لا؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله وعرفها فقال لها : وانّك هند بنت عتبة ، فقالت : نعم فاعف عمّا سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال : ولا تزنين. فقالت هند : أو تزني الحرّة ، فتبسّم عمر بن الخطاب لما جرى بينه وبينها في الجاهلية ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ولا تقتلن أولادكن ، فقالت هند : ربّيناهم صغارا وقتلوهم كبارا وأنتم وهم أعلم. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالبعليه‌السلام يوم بدر. وقال النبي : ولا تأتين ببهتان قالت هند : والله إنّ البهتان قبيح وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق ، ولمّا قال : ولا يعصينك في معروف قالت هند : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء»(١) .

٣ ـ الطاعة بالمعروف

إنّ من جملة النقاط الرائعة المستفادة من الآية أعلاه هو تقييد طاعة الرّسول بالمعروف ، مع أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم ، ولا يأمر بالمنكر أبدا ، وهذا التعبير الرائع يدلّل على أمر في غاية السمو ، وهو أنّ الأوامر التي تصدر من القادة الإسلاميين ـ مع كونهم يمثّلون القدوة والنموذج ـ لن تكون قابلة للتنفيذ ومحترمة إلّا إذا كانت

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٦ ، وجاء القرطبي في تفسيره بهذه القصّة باختلاف يسير ، وكذلك السيوطي في الدرّ المنثور ، وأبو الفتوح في تفسير روح الجنان (في نهاية الآيات مورد البحث).

٢٦٦

منسجمة مع التعاليم القرآنية واصول الشريعة وعندئذ تكون مصداقا (لا يعصينك في معروف).

وكم هي الفاصلة بعيدة بين الأشخاص الذين يعتبرون أوامر القادة واجبة الطاعة ، مهما كانت ومن أي شخص صدرت ، ممّا لا ينسجم مع العقل ولا مع حكم الشرع والقرآن ، وبين التأكيد على إطاعة المعصوم وعدم المعصية في معروف؟!

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في رسالته المشهورة التي أرسلها لأهل مصر حول والولاية مالك الأشتر ، ومع كلّ تلك الصفات المتميّزة فيه : «فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحقّ فإنّه سيف من سيوف الله»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، رسالة رقم (٣٨) وهي رسالة قصيرة كتبها الإمامعليه‌السلام لأهل مصر هي غير ما كتبه الإمامعليه‌السلام من العهد المعروف لمالك الأشتر.

٢٦٧

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣) )

التّفسير

بدأت هذه السورة بآية تؤكّد على قطع كلّ علاقة بأعداء الله ، وتختتم هذه السورة بآية تؤكّد هي الاخرى على نفس المفهوم والموقف من أعداء الله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) وبتعبير آخر فإنّ ختام السورة رجوع إلى مطلعها.

ويحذّر القرآن الكريم من أن يتّخذ أمثال هؤلاء أولياء وأن تفشى لهم الأسرار فيحيطون علما بخصوصيات الوضع الإسلامي.

ويرى البعض أنّ الآية صريحة في أنّ المراد بالمغضوب عليهم فيها هم (اليهود) إذن أنّهم ذكروا في آيات قرآنية اخرى بهذا العنوان ، قال تعالى :( فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ) (١) .

__________________

(١) البقرة ، الآية ٩٠.

٢٦٨

وهذا التّفسير يتناسب أيضا مع سبب النزول الذي ذكر لهذه الآية ، حيث تحدّثنا بعض الرّوايات أنّ قسما من فقراء المسلمين كانوا يذهبون بأخبار المسلمين إلى اليهود مقابل إعطائهم شيئا من فواكه أشجارهم ، فنزلت الآية أعلاه ونهتهم عن ذلك(١) .

ومع ذلك فإنّ للآية مفهوما واسعا حيث يشمل جميع الكفّار والمشركين ، والتعبير بـ «الغضب» في القرآن الكريم لا ينحصر باليهود فقط ، إذ ورد بشأن المنافقين أيضا كما في الآية (٦) من سورة الفتح ، بالإضافة إلى أنّ سبب النزول لا يحدّد مفهوم الآية.

وبناء على هذا فإنّ ما جاء في الآية الشريفة يتناسب مع أمر واسع جاء في أوّل آية من هذه السورة تحت عنوان (موالاة أعداء الله).

ثمّ تتناول الآية أمرا يعتبر دليلا على هذا النهي حيث يقول تعالى :( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ ) (٢) .

ذلك أنّ موتى الكفّار سيرون نتيجة أعمالهم في البرزخ حيث لا رجعة لهم لجبران ما مضى من أعمالهم السيّئة ، لذلك فإنّهم يئسوا تماما من النجاة ، وهؤلاء المجرمون في هذه الدنيا قد غرقوا في آثامهم وذنوبهم إلى حدّ فقدوا معه كلّ أمل في نجاتهم ، كما هو الحال بالنسبة للموتى من الكفّار.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد من الطبيعي أن يكونوا أشخاصا غير أمناء ولا يعتد بكلامهم وعهدهم ، ولا اعتبار لودّهم وصداقتهم ، لأنّهم يائسون تماما من رحمة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٦.

(٢) ذهب بعض المفسّرين إلى احتمالات اخرى في تفسير هذه الآية من جملتها : أنّهم ينسوا من ثواب الآخرة كما يئس المشركون من إحياء أصحاب القبور ، إلّا أنّ التّفسير الذي ذكرناه أعلاه أنسب (وممّا يجدر الانتباه إليه أنّه طبقا للتفسير الأوّل فإنّ (من أصحاب القبور) وصف للكفّار وطبقا للتفسير الأخير فإنّها متعلّقة بـ (يئس).

٢٦٩

الله ، ولهذا السبب فإنّهم يرتكبون أقبح الجرائم وأرذل الأعمال ، وجماعة هذه صفاتها كيف تثقون بها وتعتمدون عليها وتتّخذونها أولياء؟!

اللهمّ ، لا تحرمنا أبدا من لطفك ورحمتك الواسعة

ربّنا ، وفّقنا لنكون أولياء لأوليائك وأعداء لأعدائك ، وثبّت أقدامنا في هذا السبيل

إلهنا ، وفّقنا للتأسّي بأنبيائك وأوليائك

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الممتحنة

* * *

٢٧٠
٢٧١

سورة

الصّفّ

مدنيّة

وعدد آياتها أربع عشرة آية

٢٧٢

«سورة الصّف»

محتوى سورة الصّف :

تدور أبحاث هذه السورة إجمالا حول محورين أساسيين.

الأوّل : فضيلة الإسلام على جميع الأديان السماوية ، وضمان خلوده وبقائه.

والثاني : وجوب الجهاد في طريق حفظ المبدأ وترسيخ أركانه وتطوير العمل لتقدّمه والالتزام به.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل في الآيات الكريمة نلاحظ إمكانية تقسيمها إلى سبعة أقسام من خلال نظرة تفصيلية ، وتشمل ما يلي :

١ ـ تتحدّث بداية السورة عن تنزيه وتسبيح البارئ العزيز الحكيم ، وتمهّد الأرضية لتلقّي وقبول الحقائق والموضوعات التي تليها.

٢ ـ الدعوة إلى الانسجام بين القول والعمل ، والابتعاد عن الدعاوى الفارغة البعيدة عن المسار العملي.

٣ ـ الدعوة إلى الجهاد بيقين ثابت وعزم راسخ.

٤ ـ الإشارة إلى موقف اليهود من العهود ونقضهم لها ، بالإضافة إلى بشارة السيّد المسيحعليه‌السلام بظهور الإسلام العظيم.

٥ ـ الضمان الإلهي لانتصار الإسلام على كافّة الأديان.

٦ ـ الحثّ والتأكيد على الجهاد واستعراض المثوبات الدنيوية والاخروية للمجاهدين في سبيل الحقّ.

٢٧٣

٧ ـ استعراض مختصر لحياة حواري السيّد المسيحعليه‌السلام والدعوة لاستلهام الدروس من سيرتهم.

ومن خلال نظرة شاملة لموضوعات هذه السورة الشريفة نلاحظ أنّ المحور الأساس لها هو (الإسلام والجهاد).

إنّ إختيار اسم «الصّف» لهذه السورة كان بلحاظ العبارة التي وردت في الآية الرابعة منها ، وتسمّى أحيانا بسورة «عيسى»عليه‌السلام ، أو سورة «الحواريين».

والمعروف أنّ هذه السورة نزلت في المدينة ، ويؤيّد هذا المعنى ما ورد فيها من آيات الجهاد الذي لم يشرع في مكّة كما هو معلوم.

فضيلة تلاوة سورة الصّف :

في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول فضيلة تلاوة سورة الصفّ أنّه قال : «من قرأ سورة عيسى كان عيسى مصلّيا عليه مستغفرا له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه»(١) .

نقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة الصفّ وأدمن قراءتها في فرائضه ونوافله ، صفّه الله مع ملائكته وأنبيائه المرسلين»(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٨ ، كما ذكر بقيّة المفسّرين أيضا أسباب النزول هذه باختلافات.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٧ ، نور الثقلين ، ج ٩ ، ص ٣٠٩.

٢٧٤

الآيات

( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسبابا عديدة لنزول الآية الشريفة :( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) بتفاوت يسير فيما ذكروه ، وممّا جاء في أقوالهم ما يلي :

١ ـ أنّ الآية الكريمة نزلت في جماعة من المؤمنين كانوا يقولون : إذا لقينا العدوّ لن نفرّ ولن نرجع عنهم ، إلّا أنّهم لم يفوا بما قالوا يوم «احد» حتّى شجّ وجه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكسرت رباعيته المباركة.

٢ ـ بعد بيان البارئعزوجل الثواب العظيم لشهداء بدر ، قال بعض الصحابة : ما دام الأجر هكذا فإنّنا سوف لن نفرّ في الغزوات المقبلة ، إلّا أنّهم فرّوا في غزوة أحد ، فنزلت الآية أعلاه موبّخة لهم.

٢٧٥

٣ ـ دعا بعض المؤمنين قبل نزول حكم الجهاد أن يرشدهم الله إلى أفضل الأعمال ليعملوا بها ولم يمض وقت طويل حتّى أخبرهم الله سبحانه بأنّ (أفضل الأعمال الإيمان الخالص والجهاد في سبيله) إلّا أنّهم لم يتفاعلوا مع هذا التوجيه ، وتعلّلوا فنزلت الآية تلومهم وتوبّخهم على موقفهم هذا(١) .

التّفسير

المقاتلون المؤمنون صفّ حديدي منيع :

اعتبرت هذه السورة من السور المسبّحات ، ذلك لأنّها تبدأ بتسبيح الله في بدايتها :( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

ولم لا يسبّحونه ولا ينزّهونه من كلّ عيب ونقص :( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) القدير الذي لا يقهر والحكيم المحيط بكلّ شيء علما.

إنّ الالتفات إلى مسألة التسبيح العامّ للكائنات ، الذي يتمّ بلسان الحال والقال ، وكذلك النظام المدهش العجيب الحاكم فيها والذي هو أفضل دليل على وجود خالق عزيز حكيم من شأنه تمكين أسس الإيمان في القلوب ، ومن شأنه أيضا تمهيد الطريق لأمر الجهاد.

ثمّ يضيف البارئعزوجل في معرض لوم وتوبيخ للأشخاص الذين لم يلتزموا بأقوالهم :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (٣) .

وعلى الرغم من أنّ سبب نزول الآية كما مرّ بنا كان متعلّقا بالجهاد في سبيل الله ، وما حدث من فرار في غزوة احد ، ولكن يستفاد من الآية سعة المفهوم الذي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٧ ، نور الثقلين ، ج ٩ ، ص ٣٠٩.

(٢) تحدّثنا مرارا في هذا التّفسير حول كيفية التسبيح العام لكائنات العالم ومن ضمن ذلك ما ورد في نهاية الآية (٤٤) من سورة الإسراء ونهاية الآية (٤١) من سورة النور.

(٣) (لم) في الأصل كانت (لما) (مركبة من لام جارّة ، وما استفهامية) ثمّ سقطت الفها بسبب كثرة الاستعمال.

٢٧٦

تعرّضت له ، وبهذا تستوعب كلّ قول لا يقترن بعمل ويستحقّ اللوم والتوبيخ ، سواء يتعلّق بالثبات في ميدان الجهاد أو أي عمل إيجابي آخر.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المخاطب في هذه الآيات هم المتظاهرون بالإيمان والمنافقون ، مع أنّ الخطاب في هذه الآية موجّه إلى الذين آمنوا ، كما أنّ تعبيرات الآيات اللاحقة تبيّن لنا أنّ المخاطب بذلك هم المؤمنون ، ولكنّهم لم يصلوا بعد إلى الإيمان الكامل وأعمالهم غير منسجمة مع أقوالهم.

ثمّ يضيف سبحانه مواصلا القول :( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) (١) حيث التصريحات العلنية في مجالس السمر والادّعاء بالشجاعة ، ولكن ما أن تحين ساعة الجدّ إلّا ونلاحظ الهروب والنكوص والابتعاد عن تجسيد الأقوال المدّعاة.

إنّ من السمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التامّ بين أقواله وأعماله وكلّما ابتعد الإنسان عن هذا الأصل ، فإنّه يبتعد عن حقيقة الإيمان.

«المقت» في الأصل : (البغض الشديد لمن ارتكب عملا قبيحا) وكان عرب الجاهلية يطلقون عبارة (نكاح المقت) لمن يتزوّج زوجة أبيه. وفي الجملة السابقة نلاحظ اقتران مصطلح «المقت» مع «الكبر» ، والذي هو دليل أيضا على الشدّة والعظمة ، كما هو دليل على الغضب الإلهي الشديد على من يطلقون أقوالا ولا يقرنونها بالأعمال.

يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في الميزان : فرق بين أن يقول الإنسان شيئا لا يريد أن يفعله ، وبين الإنسان الذي لا ينجز عملا يقوله.

فالأوّل دليل النفاق ، والثاني دليل ضعف الإرادة(٢) .

__________________

(١) اعتبر بعض المفسّرين (كبر) من أفعال (المدح والذمّ) ، (تفسير روح البيان نهاية الآيات مورد البحث) ، كما فهم البعض منها معنى التعجّب (تفسير الكشّاف).

(٢) الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٨٧.

٢٧٧

وتوضيح ذلك أنّ الإنسان أنّ الإنسان الذي يقول شيئا لم يقرّر إنجازه منذ البداية هو على شعبة من النفاق ، أمّا إذا قرّر القيام بعمل ما ، ولكنّه ندم فيما بعد فهذا دليل ضعف الإرادة.

وعلى كلّ حال ، مفهوم الآية يشمل كلّ تخلّف عن عمد ، سواء تعلّق بنقض العهود والوعود أو غير ذلك من الشؤون ، حتّى أنّ البعض قال : إنّها تشمل حتّى النذور.

ونقرأ في رسالة الإمام عليعليه‌السلام لمالك الأشتر أنّه قال : «إيّاك أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك والخلف يوجب المقت عند الله والناس ، قال الله تعالى :( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) »(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق أنّهعليه‌السلام قال : «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة فيه ، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ، ولمقته تعرّض ، وذلك قوله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) (٢) .

ثمّ تطرح الآية اللاحقة مسألة مهمّة للغاية في التشريع الإسلامي ، وهي موضوع الجهاد في سبيل الله ، حيث يقول تعالى :( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) (٣) .

ونلاحظ هنا أنّ التأكيد ليس على القتال فحسب ، بل على أن يكون «في سبيله» تعالى وحده ، ويتجسّد فيه ـ كذلك ـ الاتّحاد والانسجام التامّ والتجانس والوحدة ، كالبنيان المرصوص.

«صف» في الأصل لها معنى مصدري بمعنى (جعل شيء ما في خطّ مستو) إلّا أنّها هنا لها معنى (اسم فاعل).

__________________

(١) نهج البلاغة الرسالة رقم ٥٣ ص ٤٤٤ صبحي الصالح.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب خلف الوعد.

(٣) (صفّا) منصوبة على أنّها حال.

٢٧٨

«مرصوص» من مادّة (رصاص) بمعنى معدن الرصاص ، ولأنّ هذه المادّة توضع بعد تذويبها بين طبقات البناء من أجل استحكامه وجعله قويّا ومتينا للغاية ، لذا أطلقت هذه الكلمة هنا على كلّ أمر قوي ومحكم.

والمقصود هنا أن يكون وقوف وثبات المجاهدين أمام العدو قويّا راسخا تتجسّد فيه وحدة القلوب والأرواح والعزائم الحديدة والتصميم القوي ، بصورة تعكس أنّهم صفّ متراصّ ليس فيه تصدّع أو تخلخل

يقول علي بن إبراهيم في تفسيره موضّحا مقصود هذه الآية : «يصطفّون كالبنيان الذي لا يزول»(١) .

وجاء في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه عند ما كان يهيء أصحابه للقتال بصفّين ، قال : «إنّ الله تعالى قد أرشدكم إلى هذه المسؤولية حيث قال سبحانه :( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) وعلى هذا فاحكموا صفوفكم كالبنيان المرصوص ، وقدموا الدّارع ، وأخّروا الحاسر ، وعضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسيوف عن إلهام ، والتووا في أطراف الرماح ، فإنّه أمور للأسنّة ، وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش ، وأسكن للقلوب ، وأميتوا الأصوات ، فإنّه أطرد للفشل ، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ، ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم ...»(٢) .

* * *

بحثان

١ ـ ضرورة وحدة الصفوف

إنّ من العوامل المهمّة والمؤثّرة في تحقيق النصر عامل الانسجام ووحدة

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣١١.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة (١٢٤) ، صبحي الصالح.

٢٧٩

الصفوف أمام الأعداء في ميادين القتال ، وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحرب العسكرية فحسب ، بل علينا تجسيده في الحروب الاقتصادية والسياسية وإلّا فسوف لن نحقّق شيئا.

إنّ التشبيه القرآني للعدو بأنّه سيل عارم ومدمّر لا يسيطر عليه إلّا من خلال سدّ حديدي محكم ، تشبيه في غاية الروعة والجمال ، والتعبير بأن يكون المؤمنون كـ (البنيان المرصوص) أروع تعبير جاء في هذا الصدد ، وممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ أو البناء العظيم ، دور معيّن في مواجهة السيل ، وهذا الدور مهمّ ومؤثّر على جميع الأجزاء ، وفي حالة قوّته وتماسكه وعدم وجود تخلخل أو تشقّق أو ثغرات فيه ، يصعب عندئذ نفوذ العدوّ منه ، وإذا ما حاول ذلك فإنّ الجميع يوجّهون إليه صفعة مدمّرة.

وممّا يؤسف له أنّ أمثال هذه التعاليم الإسلامية قد نسيت اليوم ، واستبدلت حالة الوحدة والتراصّ في مجتمعنا الإسلامي بحالة من التشتّت والتمزّق ، وأصبحت صفوفنا شتّى ، وكلّ منها ينهش الآخر حتّى أدّى إلى تآكل قوانا وتفرّق جمعنا.

إنّ وحدة الصفّ ليست شعارا إعلاميا ، إنّها تحتاج إلى وحدة العقيدة والتصورات والأهداف وهذا ما يحتاج بالضرورة إلى خلوص النوايا والالتزام بالمفاهيم القرآنية العظيمة ، واعتماد التربية الإلهية في السلوك والمنهج العلمي السليم.

وإذا كان البارئعزوجل يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة ، فإنّه سبحانه في نفس الوقت يعلن سخطه وغضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة ومشتّتة ونتيجته هو ما نراه الآن متجسّدا في تسلّط مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية وعددنا يربو على المليار

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624