الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204205 / تحميل: 6093
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

العدل حتّى مع الأعداء :

من خلال استعراضنا الآيات الكريمة أعلاه نلاحظ عمق الدقّة وروعة الظرافة واللطف في طبيعة الأحكام التي وردت فيها ، موضّحة إلى أي حدّ يهتمّ الإسلام بأصل العدالة والقسط في تشريع أحكامه حتّى في أحرج الظروف وأصعبها ، لأنّه يسعى لتعميم الخير وإبعاد الأذى والضرر حتّى عن الكفّار.

في الوقت الذي نلاحظ أنّ العرف العامّ في حياتنا العملية يتعامل في الظروف والأوقات العصيبة بخصوصية معيّنة واستثناء خاصّ ويتخلّى عن الكثير من قيم الحقّ والعدل ويدّعي أن لا مكان لإحقاق الحقّ فيها في حين تؤكّد التشريعات الإلهية على تحمّل كلّ صعوبة حتّى في أدقّ الظروف وأشدّها ضيقا منعا لهدر أيّ حقّ ، لا للقريبين فقط. بل حتّى للأعداء ، إذ يجب أن يحافظ على حقوقهم وترعى حرماتهم.

إنّ مثل هذه الأحكام الإسلامية هي في الحقيقة نوع من الإعجاز ، ودليل على حقّانية دعوة الرّسول الأعظم حيث السعي بمنتهى الجهد لإقامة العدل حتّى في أسوأ حالات الانتهاك للحرمات الإسلامية في مجال النفس والمال كما كان عليه فعل المجتمع الجاهلي.

* * *

٢٦١

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) )

التّفسير

شروط بيعة النساء :

استمرارا للبحث الذي تقدّم في الآيات السابقة والذي استعرضت فيه أحكام النساء المهاجرات ، تتحدّث هذه الآية عن تفاصيل وأحكام بيعة النساء المؤمنات مع الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لقد ذكر المفسّرون أنّ هذه الآية نزلت يوم فتح مكّة عند ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جبل (الصفا) يأخذ البيعة من الرجال ، وكانت نساء مكّة قد أتين إلى رسول الله من أجل البيعة فنزلت الآية أعلاه ، وبيّنت كيفية البيعة معهنّ ،

٢٦٢

ويختّص خطاب الآية برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول تعالى :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ ) إلى قوله :( ... إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبعد هذه الآية أخذ رسول الله البيعة من النساء المؤمنات.

وكتب البعض حول كيفية البيعة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر بإناء فيه ماء ، ووضع يده المباركة فيه ، ووضع النسوة أيديهنّ في الجهة الاخرى من الإناء. وقيل إنّ رسول الله بايع النساء من فوق الملابس.

وممّا يجدر ملاحظته أنّ الآية الكريمة ذكرت ستّة شروط في بيعة النساء ، يجب مراعاتها وقبولها جميعا عند البيعة وهي :

١ ـ ترك كلّ شرك وعبادة للأوثان ، وهذا شرط أساسي في الإسلام والإيمان.

٢ ـ اجتناب السرقة ، ويحتمل أن يكون المقصود بذلك هو سرقة أموال الزوج ، لأنّ الوضع المالي السيء آنذاك ، وقسوة الرجل على المرأة ، وانخفاض مستوى الوعي كان سببا في سرقة النساء لأموال أزواجهنّ ، واحتمال إعطاء هذه الأموال للمتعلّقين بهنّ.

وما قصّة (هند) في بيعتها لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا شاهد على هذا المعنى ، ولكن على كلّ حال فإنّ مفهوم الآية واسع.

٣ ـ ترك التلوّث بالزنا ، إذ المعروف تأريخيا أنّ الانحراف عن جادّة العفّة كان كثيرا في عصر الجاهلية.

٤ ـ عدم قتل الأولاد ، وكان القتل يقع بطريقتين ، إذ يكون بإسقاط الجنين تارة ، وبصورة الوأد تارة اخرى (وهي عملية دفن البنات والأولاد أحياء).

٥ ـ اجتناب البهتان والافتراء ، وقد فسّر البعض ذلك بأنّ نساء الجاهلية كنّ يأخذن الأطفال المشكوكين من المعابر والطرق ويدّعين أنّ هذا الطفل من أزواجهنّ (وهذا الأمر محتمل في حالة الغياب الطويل للزوج).

وقد اعتبر البعض ذلك إشارة إلى عمل قبيح هو من بقايا عصر الجاهلية ،

٢٦٣

حيث كانت المرأة تتزوّج من رجال عدّة ، وعند ما يولد لها طفل تنسبه إلى أيّ كان منهم ، إذا ضمنت رغبته بالطفل.

ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ مسألة الزنا قد ذكرت سابقا ، ولم يكن استمرار مثل هذا الأمر في الإسلام ممكنا ، لذا فإنّ هذا التّفسير مستبعد ، والتّفسير الأوّل أنسب بالرغم من سعة مفهوم الآية الشريفة الذي يشمل كلّ افتراء وبهتان.

كما أنّ التعبير بـ( بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ ) يمكن أن يكون إشارة إلى أطفال أبناء السبيل ، حيث تكون وضعية الطفل الرضيع عند رضاعته في حضن امّه بين يديها ورجليها.

٦ ـ الطاعة لأوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي تبني الشخصية المسلمة وتهذّبها وتربّيها على الحقّ والخير والهدى ، وهذا الحكم واسع أيضا يشمل جميع أوامر الرّسول ، بالرغم من أنّ البعض اعتبره إشارة إلى قسم من أعمال النساء في عصر الجاهلية كالنوح بصوت عال على الموتى ، وتمزيق الجيوب وخمش الخدود وما شابه ، إلّا أنّ مفهوم الطاعة لا ينحصر بذلك.

ويمكن أن يطرح هنا هذا السؤال وهو : لماذا كانت البيعة مع النساء مشروطة بهذه الشروط ، في حين أنّ بيعة الرجال لم تكن مشروطة إلّا بالإيمان والجهاد؟ وللإجابة على ذلك نقول : إنّ الأمور الأساسية المتعلّقة بالرجال في ذلك المحيط هو الإيمان والجهاد ، ولأنّ الجهاد لم يكن مشروعا بالنسبة للنساء لذا ذكرت شروط اخرى أهمّها ما أكّدت عليه الآية الشريفة والتي تؤكّد على صيانة المرأة من الانحراف في ذلك المجتمع.

* * *

بحوث

١ ـ ارتباط بيعة النساء ببناء شخصيتهنّ الإسلامية

لقد ذكرنا في تفسير سورة الفتح ـ في نهاية الآية (١٨) ـ بحثا مفصّلا حول

٢٦٤

البيعة وشروطها وخصوصياتها في الإسلام ، لذا لا ضرورة لتكرار ذلك(١) .

وممّا يجدر التذكير به هنا أنّ مسألة بيعة النساء للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت بشروط بنّاءة ومربّية كما نصّت عليها الآية أعلاه.

إنّ هذه النقطة على خلاف ما يقوله الجهلة والمغرضون في أنّ الإسلام حرم المرأة من الاحترام والقيمة والمكانة التي تستحقّها ، فإنّ هذه الآية أكّدت على الاهتمام بالمرأة في أهمّ المسائل ومن ضمنها موضوع البيعة سواء كانت في الحديبية في العام السادس للهجرة أو في فتح مكّة ، وبذلك دخلن العهد الإلهي مع الرجال وتقبّلن شروطا إضافية تعبّر عن الهوية الإنسانية للمرأة الملتزمة تنقذها من شرور الجاهلية ، سواء القديمة منها أو الجديدة ، حيث تتعامل معها كمتاع بخس رخيص ، ووسيلة لإشباع شهوة الرجال ليس إلّا.

٢ ـ قصّة بيعة (هند) زوجة أبي سفيان

عند ما منّ الله على المسلمين بفتح مكّة ، وجاءت النساء لبيعة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت «هند» زوجة أبي سفيان من ضمن النساء اللواتي جئن لبيعة الرّسول أيضا. هذه المرأة التي ينقل عنها التاريخ قصصا مثيرة في ممارساتها الإجرامية ، وما قصّة فعلها بحمزة سيّد الشهداء في غزوة أحد ، ذلك العمل الإجرامي القبيح ، إلّا مفردة واحدة من الصور السوداء لهذه المرأة المشينة.

وبالرغم من أنّ الظروف قد اضطرّتها إلى الانحناء أمام عظمة الإسلام فأعلنت إسلامها ظاهريا ، إلّا أنّ قصّة بيعتها تعكس أنّها في الواقع كانت وفّية لما ارتبطت به من عقائد جاهلية سابقة ، لذا فليس عجبا ما ارتكبه آل اميّة وأبناؤهم بحقّ آل الرّسول ، بصورة لم يكن لها مثيل.

__________________

(١) يراجع في هذا الصدد التّفسير الأمثل الآية (١٨) سورة الفتح.

٢٦٥

وعلى كلّ حال ، فقد كتب المفسّرون في قصّة بيعة هند :

«روي أنّ النبي بايعهنّ وكان على الصفا ، وهند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة خوفا من أن يعرفها رسول الله ، فقال أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا ، فقالت هند : انّك لتأخذ علينا أمرا ما أخذته على الرجال.

وذلك انّه بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ، فقال رسول الله : ولا تسرقن. فقالت هند : إنّ أبا سفيان ممسك وانّي أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أمّ لا؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله وعرفها فقال لها : وانّك هند بنت عتبة ، فقالت : نعم فاعف عمّا سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال : ولا تزنين. فقالت هند : أو تزني الحرّة ، فتبسّم عمر بن الخطاب لما جرى بينه وبينها في الجاهلية ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ولا تقتلن أولادكن ، فقالت هند : ربّيناهم صغارا وقتلوهم كبارا وأنتم وهم أعلم. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالبعليه‌السلام يوم بدر. وقال النبي : ولا تأتين ببهتان قالت هند : والله إنّ البهتان قبيح وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق ، ولمّا قال : ولا يعصينك في معروف قالت هند : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء»(١) .

٣ ـ الطاعة بالمعروف

إنّ من جملة النقاط الرائعة المستفادة من الآية أعلاه هو تقييد طاعة الرّسول بالمعروف ، مع أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم ، ولا يأمر بالمنكر أبدا ، وهذا التعبير الرائع يدلّل على أمر في غاية السمو ، وهو أنّ الأوامر التي تصدر من القادة الإسلاميين ـ مع كونهم يمثّلون القدوة والنموذج ـ لن تكون قابلة للتنفيذ ومحترمة إلّا إذا كانت

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٦ ، وجاء القرطبي في تفسيره بهذه القصّة باختلاف يسير ، وكذلك السيوطي في الدرّ المنثور ، وأبو الفتوح في تفسير روح الجنان (في نهاية الآيات مورد البحث).

٢٦٦

منسجمة مع التعاليم القرآنية واصول الشريعة وعندئذ تكون مصداقا (لا يعصينك في معروف).

وكم هي الفاصلة بعيدة بين الأشخاص الذين يعتبرون أوامر القادة واجبة الطاعة ، مهما كانت ومن أي شخص صدرت ، ممّا لا ينسجم مع العقل ولا مع حكم الشرع والقرآن ، وبين التأكيد على إطاعة المعصوم وعدم المعصية في معروف؟!

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في رسالته المشهورة التي أرسلها لأهل مصر حول والولاية مالك الأشتر ، ومع كلّ تلك الصفات المتميّزة فيه : «فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحقّ فإنّه سيف من سيوف الله»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، رسالة رقم (٣٨) وهي رسالة قصيرة كتبها الإمامعليه‌السلام لأهل مصر هي غير ما كتبه الإمامعليه‌السلام من العهد المعروف لمالك الأشتر.

٢٦٧

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣) )

التّفسير

بدأت هذه السورة بآية تؤكّد على قطع كلّ علاقة بأعداء الله ، وتختتم هذه السورة بآية تؤكّد هي الاخرى على نفس المفهوم والموقف من أعداء الله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) وبتعبير آخر فإنّ ختام السورة رجوع إلى مطلعها.

ويحذّر القرآن الكريم من أن يتّخذ أمثال هؤلاء أولياء وأن تفشى لهم الأسرار فيحيطون علما بخصوصيات الوضع الإسلامي.

ويرى البعض أنّ الآية صريحة في أنّ المراد بالمغضوب عليهم فيها هم (اليهود) إذن أنّهم ذكروا في آيات قرآنية اخرى بهذا العنوان ، قال تعالى :( فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ) (١) .

__________________

(١) البقرة ، الآية ٩٠.

٢٦٨

وهذا التّفسير يتناسب أيضا مع سبب النزول الذي ذكر لهذه الآية ، حيث تحدّثنا بعض الرّوايات أنّ قسما من فقراء المسلمين كانوا يذهبون بأخبار المسلمين إلى اليهود مقابل إعطائهم شيئا من فواكه أشجارهم ، فنزلت الآية أعلاه ونهتهم عن ذلك(١) .

ومع ذلك فإنّ للآية مفهوما واسعا حيث يشمل جميع الكفّار والمشركين ، والتعبير بـ «الغضب» في القرآن الكريم لا ينحصر باليهود فقط ، إذ ورد بشأن المنافقين أيضا كما في الآية (٦) من سورة الفتح ، بالإضافة إلى أنّ سبب النزول لا يحدّد مفهوم الآية.

وبناء على هذا فإنّ ما جاء في الآية الشريفة يتناسب مع أمر واسع جاء في أوّل آية من هذه السورة تحت عنوان (موالاة أعداء الله).

ثمّ تتناول الآية أمرا يعتبر دليلا على هذا النهي حيث يقول تعالى :( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ ) (٢) .

ذلك أنّ موتى الكفّار سيرون نتيجة أعمالهم في البرزخ حيث لا رجعة لهم لجبران ما مضى من أعمالهم السيّئة ، لذلك فإنّهم يئسوا تماما من النجاة ، وهؤلاء المجرمون في هذه الدنيا قد غرقوا في آثامهم وذنوبهم إلى حدّ فقدوا معه كلّ أمل في نجاتهم ، كما هو الحال بالنسبة للموتى من الكفّار.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد من الطبيعي أن يكونوا أشخاصا غير أمناء ولا يعتد بكلامهم وعهدهم ، ولا اعتبار لودّهم وصداقتهم ، لأنّهم يائسون تماما من رحمة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٦.

(٢) ذهب بعض المفسّرين إلى احتمالات اخرى في تفسير هذه الآية من جملتها : أنّهم ينسوا من ثواب الآخرة كما يئس المشركون من إحياء أصحاب القبور ، إلّا أنّ التّفسير الذي ذكرناه أعلاه أنسب (وممّا يجدر الانتباه إليه أنّه طبقا للتفسير الأوّل فإنّ (من أصحاب القبور) وصف للكفّار وطبقا للتفسير الأخير فإنّها متعلّقة بـ (يئس).

٢٦٩

الله ، ولهذا السبب فإنّهم يرتكبون أقبح الجرائم وأرذل الأعمال ، وجماعة هذه صفاتها كيف تثقون بها وتعتمدون عليها وتتّخذونها أولياء؟!

اللهمّ ، لا تحرمنا أبدا من لطفك ورحمتك الواسعة

ربّنا ، وفّقنا لنكون أولياء لأوليائك وأعداء لأعدائك ، وثبّت أقدامنا في هذا السبيل

إلهنا ، وفّقنا للتأسّي بأنبيائك وأوليائك

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الممتحنة

* * *

٢٧٠
٢٧١

سورة

الصّفّ

مدنيّة

وعدد آياتها أربع عشرة آية

٢٧٢

«سورة الصّف»

محتوى سورة الصّف :

تدور أبحاث هذه السورة إجمالا حول محورين أساسيين.

الأوّل : فضيلة الإسلام على جميع الأديان السماوية ، وضمان خلوده وبقائه.

والثاني : وجوب الجهاد في طريق حفظ المبدأ وترسيخ أركانه وتطوير العمل لتقدّمه والالتزام به.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل في الآيات الكريمة نلاحظ إمكانية تقسيمها إلى سبعة أقسام من خلال نظرة تفصيلية ، وتشمل ما يلي :

١ ـ تتحدّث بداية السورة عن تنزيه وتسبيح البارئ العزيز الحكيم ، وتمهّد الأرضية لتلقّي وقبول الحقائق والموضوعات التي تليها.

٢ ـ الدعوة إلى الانسجام بين القول والعمل ، والابتعاد عن الدعاوى الفارغة البعيدة عن المسار العملي.

٣ ـ الدعوة إلى الجهاد بيقين ثابت وعزم راسخ.

٤ ـ الإشارة إلى موقف اليهود من العهود ونقضهم لها ، بالإضافة إلى بشارة السيّد المسيحعليه‌السلام بظهور الإسلام العظيم.

٥ ـ الضمان الإلهي لانتصار الإسلام على كافّة الأديان.

٦ ـ الحثّ والتأكيد على الجهاد واستعراض المثوبات الدنيوية والاخروية للمجاهدين في سبيل الحقّ.

٢٧٣

٧ ـ استعراض مختصر لحياة حواري السيّد المسيحعليه‌السلام والدعوة لاستلهام الدروس من سيرتهم.

ومن خلال نظرة شاملة لموضوعات هذه السورة الشريفة نلاحظ أنّ المحور الأساس لها هو (الإسلام والجهاد).

إنّ إختيار اسم «الصّف» لهذه السورة كان بلحاظ العبارة التي وردت في الآية الرابعة منها ، وتسمّى أحيانا بسورة «عيسى»عليه‌السلام ، أو سورة «الحواريين».

والمعروف أنّ هذه السورة نزلت في المدينة ، ويؤيّد هذا المعنى ما ورد فيها من آيات الجهاد الذي لم يشرع في مكّة كما هو معلوم.

فضيلة تلاوة سورة الصّف :

في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول فضيلة تلاوة سورة الصفّ أنّه قال : «من قرأ سورة عيسى كان عيسى مصلّيا عليه مستغفرا له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه»(١) .

نقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة الصفّ وأدمن قراءتها في فرائضه ونوافله ، صفّه الله مع ملائكته وأنبيائه المرسلين»(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٨ ، كما ذكر بقيّة المفسّرين أيضا أسباب النزول هذه باختلافات.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٧ ، نور الثقلين ، ج ٩ ، ص ٣٠٩.

٢٧٤

الآيات

( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسبابا عديدة لنزول الآية الشريفة :( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) بتفاوت يسير فيما ذكروه ، وممّا جاء في أقوالهم ما يلي :

١ ـ أنّ الآية الكريمة نزلت في جماعة من المؤمنين كانوا يقولون : إذا لقينا العدوّ لن نفرّ ولن نرجع عنهم ، إلّا أنّهم لم يفوا بما قالوا يوم «احد» حتّى شجّ وجه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكسرت رباعيته المباركة.

٢ ـ بعد بيان البارئعزوجل الثواب العظيم لشهداء بدر ، قال بعض الصحابة : ما دام الأجر هكذا فإنّنا سوف لن نفرّ في الغزوات المقبلة ، إلّا أنّهم فرّوا في غزوة أحد ، فنزلت الآية أعلاه موبّخة لهم.

٢٧٥

٣ ـ دعا بعض المؤمنين قبل نزول حكم الجهاد أن يرشدهم الله إلى أفضل الأعمال ليعملوا بها ولم يمض وقت طويل حتّى أخبرهم الله سبحانه بأنّ (أفضل الأعمال الإيمان الخالص والجهاد في سبيله) إلّا أنّهم لم يتفاعلوا مع هذا التوجيه ، وتعلّلوا فنزلت الآية تلومهم وتوبّخهم على موقفهم هذا(١) .

التّفسير

المقاتلون المؤمنون صفّ حديدي منيع :

اعتبرت هذه السورة من السور المسبّحات ، ذلك لأنّها تبدأ بتسبيح الله في بدايتها :( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

ولم لا يسبّحونه ولا ينزّهونه من كلّ عيب ونقص :( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) القدير الذي لا يقهر والحكيم المحيط بكلّ شيء علما.

إنّ الالتفات إلى مسألة التسبيح العامّ للكائنات ، الذي يتمّ بلسان الحال والقال ، وكذلك النظام المدهش العجيب الحاكم فيها والذي هو أفضل دليل على وجود خالق عزيز حكيم من شأنه تمكين أسس الإيمان في القلوب ، ومن شأنه أيضا تمهيد الطريق لأمر الجهاد.

ثمّ يضيف البارئعزوجل في معرض لوم وتوبيخ للأشخاص الذين لم يلتزموا بأقوالهم :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (٣) .

وعلى الرغم من أنّ سبب نزول الآية كما مرّ بنا كان متعلّقا بالجهاد في سبيل الله ، وما حدث من فرار في غزوة احد ، ولكن يستفاد من الآية سعة المفهوم الذي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٧٧ ، نور الثقلين ، ج ٩ ، ص ٣٠٩.

(٢) تحدّثنا مرارا في هذا التّفسير حول كيفية التسبيح العام لكائنات العالم ومن ضمن ذلك ما ورد في نهاية الآية (٤٤) من سورة الإسراء ونهاية الآية (٤١) من سورة النور.

(٣) (لم) في الأصل كانت (لما) (مركبة من لام جارّة ، وما استفهامية) ثمّ سقطت الفها بسبب كثرة الاستعمال.

٢٧٦

تعرّضت له ، وبهذا تستوعب كلّ قول لا يقترن بعمل ويستحقّ اللوم والتوبيخ ، سواء يتعلّق بالثبات في ميدان الجهاد أو أي عمل إيجابي آخر.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المخاطب في هذه الآيات هم المتظاهرون بالإيمان والمنافقون ، مع أنّ الخطاب في هذه الآية موجّه إلى الذين آمنوا ، كما أنّ تعبيرات الآيات اللاحقة تبيّن لنا أنّ المخاطب بذلك هم المؤمنون ، ولكنّهم لم يصلوا بعد إلى الإيمان الكامل وأعمالهم غير منسجمة مع أقوالهم.

ثمّ يضيف سبحانه مواصلا القول :( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) (١) حيث التصريحات العلنية في مجالس السمر والادّعاء بالشجاعة ، ولكن ما أن تحين ساعة الجدّ إلّا ونلاحظ الهروب والنكوص والابتعاد عن تجسيد الأقوال المدّعاة.

إنّ من السمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التامّ بين أقواله وأعماله وكلّما ابتعد الإنسان عن هذا الأصل ، فإنّه يبتعد عن حقيقة الإيمان.

«المقت» في الأصل : (البغض الشديد لمن ارتكب عملا قبيحا) وكان عرب الجاهلية يطلقون عبارة (نكاح المقت) لمن يتزوّج زوجة أبيه. وفي الجملة السابقة نلاحظ اقتران مصطلح «المقت» مع «الكبر» ، والذي هو دليل أيضا على الشدّة والعظمة ، كما هو دليل على الغضب الإلهي الشديد على من يطلقون أقوالا ولا يقرنونها بالأعمال.

يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في الميزان : فرق بين أن يقول الإنسان شيئا لا يريد أن يفعله ، وبين الإنسان الذي لا ينجز عملا يقوله.

فالأوّل دليل النفاق ، والثاني دليل ضعف الإرادة(٢) .

__________________

(١) اعتبر بعض المفسّرين (كبر) من أفعال (المدح والذمّ) ، (تفسير روح البيان نهاية الآيات مورد البحث) ، كما فهم البعض منها معنى التعجّب (تفسير الكشّاف).

(٢) الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٨٧.

٢٧٧

وتوضيح ذلك أنّ الإنسان أنّ الإنسان الذي يقول شيئا لم يقرّر إنجازه منذ البداية هو على شعبة من النفاق ، أمّا إذا قرّر القيام بعمل ما ، ولكنّه ندم فيما بعد فهذا دليل ضعف الإرادة.

وعلى كلّ حال ، مفهوم الآية يشمل كلّ تخلّف عن عمد ، سواء تعلّق بنقض العهود والوعود أو غير ذلك من الشؤون ، حتّى أنّ البعض قال : إنّها تشمل حتّى النذور.

ونقرأ في رسالة الإمام عليعليه‌السلام لمالك الأشتر أنّه قال : «إيّاك أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك والخلف يوجب المقت عند الله والناس ، قال الله تعالى :( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) »(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق أنّهعليه‌السلام قال : «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة فيه ، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ، ولمقته تعرّض ، وذلك قوله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) (٢) .

ثمّ تطرح الآية اللاحقة مسألة مهمّة للغاية في التشريع الإسلامي ، وهي موضوع الجهاد في سبيل الله ، حيث يقول تعالى :( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) (٣) .

ونلاحظ هنا أنّ التأكيد ليس على القتال فحسب ، بل على أن يكون «في سبيله» تعالى وحده ، ويتجسّد فيه ـ كذلك ـ الاتّحاد والانسجام التامّ والتجانس والوحدة ، كالبنيان المرصوص.

«صف» في الأصل لها معنى مصدري بمعنى (جعل شيء ما في خطّ مستو) إلّا أنّها هنا لها معنى (اسم فاعل).

__________________

(١) نهج البلاغة الرسالة رقم ٥٣ ص ٤٤٤ صبحي الصالح.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب خلف الوعد.

(٣) (صفّا) منصوبة على أنّها حال.

٢٧٨

«مرصوص» من مادّة (رصاص) بمعنى معدن الرصاص ، ولأنّ هذه المادّة توضع بعد تذويبها بين طبقات البناء من أجل استحكامه وجعله قويّا ومتينا للغاية ، لذا أطلقت هذه الكلمة هنا على كلّ أمر قوي ومحكم.

والمقصود هنا أن يكون وقوف وثبات المجاهدين أمام العدو قويّا راسخا تتجسّد فيه وحدة القلوب والأرواح والعزائم الحديدة والتصميم القوي ، بصورة تعكس أنّهم صفّ متراصّ ليس فيه تصدّع أو تخلخل

يقول علي بن إبراهيم في تفسيره موضّحا مقصود هذه الآية : «يصطفّون كالبنيان الذي لا يزول»(١) .

وجاء في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه عند ما كان يهيء أصحابه للقتال بصفّين ، قال : «إنّ الله تعالى قد أرشدكم إلى هذه المسؤولية حيث قال سبحانه :( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) وعلى هذا فاحكموا صفوفكم كالبنيان المرصوص ، وقدموا الدّارع ، وأخّروا الحاسر ، وعضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسيوف عن إلهام ، والتووا في أطراف الرماح ، فإنّه أمور للأسنّة ، وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش ، وأسكن للقلوب ، وأميتوا الأصوات ، فإنّه أطرد للفشل ، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ، ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم ...»(٢) .

* * *

بحثان

١ ـ ضرورة وحدة الصفوف

إنّ من العوامل المهمّة والمؤثّرة في تحقيق النصر عامل الانسجام ووحدة

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣١١.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة (١٢٤) ، صبحي الصالح.

٢٧٩

الصفوف أمام الأعداء في ميادين القتال ، وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحرب العسكرية فحسب ، بل علينا تجسيده في الحروب الاقتصادية والسياسية وإلّا فسوف لن نحقّق شيئا.

إنّ التشبيه القرآني للعدو بأنّه سيل عارم ومدمّر لا يسيطر عليه إلّا من خلال سدّ حديدي محكم ، تشبيه في غاية الروعة والجمال ، والتعبير بأن يكون المؤمنون كـ (البنيان المرصوص) أروع تعبير جاء في هذا الصدد ، وممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ أو البناء العظيم ، دور معيّن في مواجهة السيل ، وهذا الدور مهمّ ومؤثّر على جميع الأجزاء ، وفي حالة قوّته وتماسكه وعدم وجود تخلخل أو تشقّق أو ثغرات فيه ، يصعب عندئذ نفوذ العدوّ منه ، وإذا ما حاول ذلك فإنّ الجميع يوجّهون إليه صفعة مدمّرة.

وممّا يؤسف له أنّ أمثال هذه التعاليم الإسلامية قد نسيت اليوم ، واستبدلت حالة الوحدة والتراصّ في مجتمعنا الإسلامي بحالة من التشتّت والتمزّق ، وأصبحت صفوفنا شتّى ، وكلّ منها ينهش الآخر حتّى أدّى إلى تآكل قوانا وتفرّق جمعنا.

إنّ وحدة الصفّ ليست شعارا إعلاميا ، إنّها تحتاج إلى وحدة العقيدة والتصورات والأهداف وهذا ما يحتاج بالضرورة إلى خلوص النوايا والالتزام بالمفاهيم القرآنية العظيمة ، واعتماد التربية الإلهية في السلوك والمنهج العلمي السليم.

وإذا كان البارئعزوجل يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة ، فإنّه سبحانه في نفس الوقت يعلن سخطه وغضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة ومشتّتة ونتيجته هو ما نراه الآن متجسّدا في تسلّط مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية وعددنا يربو على المليار

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

التي تتميّز بأوراق عريضة جدّا وخضراء وجميلة ، وفاكهتها حلوة ولذيذة.

و «منضود» : من مادّة (نضد) بمعنى متراكم.

وممكن أن يشير هذا التعبير إلى تراكم الأوراق أو تراكم الفاكهة أو كليهما ، حتّى أنّ البعض قال : إنّ هذه الأشجار مليئة بالفاكهة إلى حدّ أنّها تغطّي سيقان وأوراق الأشجار.

وقال بعض المفسّرين : بالنظر إلى أنّ أوراق شجر السدر صغيرة جدّا ، وأوراق شجر الموز كبيرة جدّا ، فإنّ ذكر هاتين الشجرتين إشارة جميلة إلى جميع أشجار الجنّة التي تكون صفاتها بين صفات هاتين الشجرتين(١) .

ثمّ يستعرض سبحانه ذكر النعمة الثالثة من نعم أهل اليمين بقوله :( وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ) .

فسّر البعض هذا (الظلّ الواسع) بحالة شبيهة للظلّ الذي يكون بين الطلوعين من حيث انتشاره في كلّ مكان ، وقد نقل حديث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا المعنى في روضة الكافي(٢) .

والمقصود هنا أن لا حرّ في الجنّة ، وأنّ أهلها في ظلال لطيفة واسعد تلطّف الروح.

وينتقل الحديث إلى مياه الجنّة حيث يقول سبحانه :( وَماءٍ مَسْكُوبٍ ) .

«مسكوب» من مادّة (سكب) على وزن «حرب» وتعني في الأصل الصبّ ، ولأنّ صبّ الماء يكون من الأعلى إلى الأسفل بصورة تيّار أو شلّال فإنّه بذلك يصوّر لنا مشهدا رائعا حيث إنّ خرير المياه ينعش الروح ، ويبهر العيون ، وهذه هي إحدى الهبات التي منحها الله لأهل الجنّة ، ومن الطبيعي أنّ هذه الجنّة المليئة بالأشجار العظيمة ، والمياه الجارية ، لا بدّ أن تكون فيها فواكه كثيرة ، وهذا ما ذكرته

__________________

(١) الفخر الرازي في التّفسير الكبير نهاية الآية مورد البحث ، ج ٢٩ ، ص ١٦٢.

(٢) روضة الكافي ، مطابق نقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢١٦.

٤٦١

الآية الكريمة ، حيث يقول سبحانه في ذكر خامس نعمة :( وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) .

نعم ، ليست كفواكه الدنيا من حيث محدوديتها في فصول معيّنة من أسابيع أو شهور ، أو يصعب قطفها بلحاظ الأشواك ، أو العلو مثل النخيل ، أو مانع ذاتي في نفس الإنسان ، أو أنّ المضيف الأصلي الذي هو الله والملائكة الموكّلين بخدمة أهل الجنّة يبخلون عليهم كلّا ، لا يوجد شيء من هذا القبيل ، فالمقتضي موجود بشكل كامل ، والمانع بكلّ أشكاله مفقود.

ثمّ يشير سبحانه إلى نعمة اخرى حيث يقول :( وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ) أي الزوجات الرفيعات القدر والشأن.

«فرش» : جمع فراش وتعني في الأصل كلّ فراش يفرش ولهذا التناسب فإنّها تستعمل في بعض الأحيان كناية عن الزوج (سواء كان رجلا أو امرأة) لذا جاء في الحديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (الولد للفراش وللعاهر الحجر).

وفسّر البعض الفرش بمعناها الحقيقي وليس كناية ، واعتبرها إشارة إلى الفرش الثمينة والتي لها قيمة عظيمة في الجنّة. ولكن إذا فسّرت بهذه الصورة ، فسيقطع ارتباط هذه الآية مع الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن حوريات وزوجات الجنّة.

ويصف القرآن الكريم زوجات الجنّة بقوله تعالى :( إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ) .

وهذه الآية لعلّها تشير إلى الزوجات المؤمنات في هذه الدنيا حيث يمنحهنّ الله سبحانه خلقا جديدا في يوم القيامة ، ويدخلن الجنّة وهنّ في قمّة الحيوية والشباب والجمال والكمال الظاهر والباطن ، وبشكل يتناسب مع كمال الجنّة وخلوّها من كلّ نقص وعيب.

وإذا كان المقصود بذلك (الحوريات) فإنّ الله تعالى خلقهنّ بصورة لا يعتريهنّ فيها غبار العجز والضعف ، ويمكن أن يكون التعبير بالإنشاء إشارة إلى

٤٦٢

المعنيين أيضا.

ثمّ يضيف تعالى :( فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً ) .

واحتمال أن يكون الوصف مستمرّا ، كما صرّح كثير من المفسّرين بذلك ، وأشير له في الرّوايات الإسلامية أيضا ، حيث الزواج لا يغيّر وضعهنّ ويبقين أبكارا(١) .

ويضيف في وصفهنّ بوصف آخر فيقول تعالى :( عُرُباً ) .

(عربا) جمع (عروبة) على وزن (ضرورة) بمعنى المرأة التي يحكي وضع حالها عن مقام عفّتها وطهارتها ، وعمّا تكنّه من المحبّة لزوجها ، (إعراب) : على وزن (إظهار) معناه هو نفس مدلول الإظهار ، ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى الفصاحة ولطافة الكلام ، ويمكن جمع المعنيين في هذه الآية.

والوصف الآخر لهن( أَتْراباً ) أي أنّها متماثلات في الجمال وأتراب في الظاهر والباطن ، ومتماثلات في العمر مع أزواجهنّ.

(أتراب) جمع (ترب) على وزن (ذهن) بمعنى المثل والشبيه ، وقال البعض : إنّ هذا المعنى أخذ من الترائب وهي عظام قفص الصدر ، لأنّها تتشابه الواحدة مع الاخرى.

إنّ هذا الشبه والتماثل يمكن أن يكون في أعمار الزوجات بالنسبة لأزواجهنّ ، كي يدركن إحساسات ومشاعر أزواجهنّ كاملة ، وبذلك تصبح الحياة أكثر سعادة وانسجاما ، بالرغم من أنّ السعادة تحصل مع اختلاف العمر أحيانا ، إلّا أنّ الغالب ليس كذلك. كما يمكن أن يكون المقصود بالتشابه والتساوي في الصفات الجمالية والنفسية وحسن الظاهر والباطن.

ثمّ يضيف تعالى :( لِأَصْحابِ الْيَمِينِ ) .

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٢٣ وبالضمن يجدر الانتباه إلى أنّ هذه الحالة ، مع فاء التفريع عطفت على الآية السابقة.

٤٦٣

وهذا تأكيد جديد على اختصاص هذه الصفات والنعم الإلهيّة بهم.

ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة مكمّلة لجملة( إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ) (١) .

وفي نهاية هذا العرض يقول سبحانه :( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) .

«ثلّة» : في الأصل بمعنى قطعة مجتمعة من الصوف ، ثمّ أطلقت على كلّ مجموعة من الناس عظيمة ومتماسكة ، وبهذا الترتيب فإنّ مجموعة عظيمة من أصحاب اليمين هم من الأمم السابقة ، ومجموعة عظيمة من الامّة الإسلامية ، لأنّ بين المجموعتين كثير من الصالحين والمؤمنين. بالرغم من أنّ السابقين للإيمان في الامّة الإسلامية أقلّ من السابقين للإيمان في الأمم السابقة ، وذلك لكثرة تلك الأمم وكثرة أنبيائها.

وقال البعض : إنّ هاتين المجموعتين كلاهما من الامّة الإسلامية ، قسم من أوّلهم وقسم من آخرهم ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل أصحّ.

* * *

__________________

(١) في الصورة الاولى عبارة (أصحاب اليمين) خبر لمبتدأ محذوف ، وفي التقدير تصبح هكذا : (هذه كلّها لأصحاب اليمين) وفي الصورة الثانية جار ومجرور متعلّق بأنشأناهنّ ، والتّفسير الأوّل أصحّ.

٤٦٤

الآيات

( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) )

التّفسير

العقوبات المؤلمة لأصحاب الشمال :

بعد الاستعراض الذي مرّ بنا حول النعم والهبات العظيمة التي منحها الله سبحانه للمقرّبين من عباده ولأصحاب اليمين من أوليائه ، يتطرّق الآن إلى ذكر المجموعة الثالثة( أَصْحابُ الشِّمالِ ) والعذاب المؤلم والعاقبة السيّئة التي حلّت بهم ، في عملية مقارنة لوضع المجموعات الثلاثة حيث يقول البارئ :( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ) .

٤٦٥

أصحاب الشمال هم الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى إشارة إلى سوء عاقبتهم ، وأنّهم من أهل المعاصي والذنوب ، وممّن تكون النار مصيرا لهم ، ويستعمل هذا التعبير عادة لبيان (حسن) أو (سوء) نهاية الإنسان كما في قولنا : السعادة أقبلت علينا يا لها من سعادة!. أو المصيبة داهمتنا يا لها من مصيبة. وكذلك في قوله تعالى :( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ) .

ثمّ يشير سبحانه إلى ثلاثة أنواع من العقوبات التي يواجهونها ، الهواء الحارق القاتل من جهة( سَمُومٍ ) والماء المغلي المهلك من جهة اخرى( وَحَمِيمٍ ) ، وظلّ الدخان الخالق الحارّ من جهة ثالثة( وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) هذه الألوان من العذاب حاصرهم وتطوقهم وتسلب منهم الصبر والقدرة إنّها آلام وعذاب لا يطاق ، ولو لم يكن غيره من جزاء لكفاهم.

«سموم» : من مادّة (سمّ) بمعنى الهواء الحارق الذي يدخل في مسام الجلد فتهلكهم ، (ويقال للسمّ سمّا لأنّه ينفذ في جميع خلايا الجسم).

و «حميم» : بمعنى الشيء الحارّ ، وهنا جاء بمعنى الماء الحارق والذي أشير له في آيات قرآنية سابقة كما في قوله تعالى( يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ) .(١)

«يحموم» : من نفس المادّة أيضا ، وهنا بمناسبة الظلّ فسّرت الكلمة بمعنى الظلّ الغليظ الأسود والحارّ.

ثمّ يضيف البارئ مؤكّدا فيقول :( لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ) .

المظلّة عادة تحمي الإنسان من الشمس والمطر والهواء ولها منافع اخرى ، والظلّ المشار إليه في الآية الكريمة ليس له من هذه الفوائد شيء يذكر.

والتعبير بـ (كريم) من مادّة (كرامة) بمعنى مفيد فائدة ، ولذلك فإنّ المتعارف بين العرب إذا أرادوا أن يعرفوا شيئا أو شخصا بانّه غير مفيد يقولون (لا كرامة

__________________

(١) الحجّ. ١٩.

٤٦٦

فيه).

ومن الطبيعي أنّ مظلّة من الدخان الأسود الخانق لا ينتظر منها إلّا الشرّ والضرر (لا كرامة).

وبالرغم من أنّ أجزاء أهل النار له أنواع مختلفة مرعبة من العذاب ، إلّا أنّ ذكر الأقسام الثلاثة يكفي لإعطاء فكرة عن بقيّة الأهوال.

وفي الآيات اللاحقة يذكر الأسباب التي أدّت بأصحاب الشمال إلى هذا المصير المخيف والمشؤوم ، وذلك بثلاث جمل ، يقول في البداية :( إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ ) .

«مترف» : كما ورد في لسان العرب من مادّة ترف ـ على وزن (سبب) ـ بمعنى التنعّم ، وتطلق على الشخص الذي ملكته الغفلة وجعلته مغرورا سكران ، وجرّته إلى الطغيان.(١)

صحيح أنّ أصحاب الشمال ليسوا جميعا من زمرة المترفين ، إلّا أنّ المقصودين في القرآن الكريم هم أربابهم وأكابرهم.

والملاحظ في عصرنا الحاضر أنّ فساد المجتمعات وعوامل الانحراف ورأس الحروب والدمار ونزيف الدم وأنواع الظلم ومركز الشهوات والفساد في العالم أجمع بيد «الزمرة» المترفة المغرورة ، ولهذا فالقرآن الكريم قد شخصّهم وحدّد موقفه منهم ابتداء.

وهنالك رأي ثان وهو : إنّ نعم الله سبحانه واسعة وعديدة ولا تنحصر بالأموال فقط ، بل تشمل الصحّة والشباب والعمر فإذا كانت هذه النعم أو بعضها مبعثا للغرور والغفلة ، فإنّها ستكون مصدرا أساسيا للذنوب ، وهذا المفهوم يسري على أصحاب الشمال.

__________________

(١) لسان العرب ، ج ٩ ، ص ١٧.

٤٦٧

ثمّ يشير سبحانه إلى العامل الثاني الذي كان مصدرا وسببا لعذاب أصحاب الشمال ، فيقول سبحانه :( وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ) .

«الحنث» في الأصل يعني كلّ نوع من الذنوب ، وقد استعمل هذا المصطلح في كثير من الموارد بمعنى نقض العهد ومخالفة القسم ، لكونه مصداقا واضحا للذنب ، وبناء على هذا فإنّ خصوصية أصحاب الشمال ليس فقط في ارتكاب الذنوب ولكن في الإصرار عليها ، لأنّ الذنب يمكن صدوره من أصحاب اليمين أيضا ، إلّا أنّهم لا يصرّون عليه أبدا ، ويستغفرون ربّهم ويعلنون التوبة إليه عند تذكّره.

وفسّر البعض «الحنث العظيم» بمعنى الشرك ، لأنّه لا ذنب أعظم من الشرك.

قال تعالى :( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (١) .

وفسّر (الحنث) بالكذب ، لأنّه أعظم الذنوب ، ومفتاح المعاصي ، خصوصا حينما يكون الكذب توأما لتكذيب للأنبياءعليه‌السلام والمعاد.

والظاهر أنّ هذه جميعا تعتبر مصاديق للحنث العظيم.

وثالث عمل سبب لهم هذا الويل والعذاب ، هو أنّهم قالوا :( وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) .

وعلى هذا فإنّ إنكار القيامة والذي هو بحدّ ذاته مصدر للكثير من الذنوب ، هو وصف آخر لأصحاب الشمال ، ومصدر لشقائهم. وتعبير( كانُوا يَقُولُونَ ) يوضّح لنا أنّهم كانوا يصرّون ويعاندون في إنكار يوم القيامة أيضا.

وهنا مطلبان جديران بالملاحظة وهما :

الأوّل : أنّ القرآن الكريم في معرض حديثه عن (المقرّبين) و (أصحاب اليمين) لم يعط توضيحا عن أعمالهم التي سبّبت لهم تلك النعم وذلك الجزاء ، إلّا ضمن إشارة عابرة. أمّا عند ما جاء دور الحديث عن أصحاب الشمال فقد وضّحت

__________________

(١) النساء ، آية ٤٨.

٤٦٨

أفعالهم بصورة كافية ، وذلك ليكون إتماما للحجّة عليهم من جهة ، وإظهار أنّ جزاءهم هذا كان انسجاما مع مبادئ العدالة تماما من جهة اخرى.

والمسألة الاخرى : أنّ الذنوب الثلاثة التي أشير إليها في الآيات الثلاثة السابقة كانت بمثابة نفي اصول الدين الثلاثة من قبل أصحاب الشمال.

ففي آخر آية تحدّث القرآن الكريم عن تكذيبهم ليوم القيامة ، وفي الآية الثانية عن إنكار التوحيد ، وفي الآية الاولى كانت الحديث عن المترفين وهي إشارة إلى تكذيب الأنبياء كما جاء في قوله تعالى :( وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) .(١)

والتعبير بـ( تُراباً وَعِظاماً ) لعلّه إشارة إلى أنّ لحومنا تتحوّل إلى تراب ، وعظامنا إلى رميم ، ومع ذلك فكيف نكون خلقا جديد؟

ولمّا كانت عودة الحياة إلى التراب أبعد من عودتها إلى العظام لذا ذكر في البداية حيث يقول تعالى :( تُراباً وَعِظاماً ) .

والعجيب أنّ هؤلاء يرون مشاهد المعاد بأعينهم في هذه الدنيا ومع ذلك فإنّهم ينكرونها(٢) . ألم يروا إلى الكثير من الموجودات الحيّة كالنباتات تموت وتجفّ وتصبح ترابا ثمّ تلبس لباس الحياة مرّة اخرى ، وأساسا فإنّ الذي خلق الخلق أوّل مرّة لن يعييه إعادة الخلق ثانية ، ولن يكون عليه ذلك صعبا وعسيرا ولكنّهم مع ذلك يصرّون على إنكار المعاد.

إنّهم لم يكتفوا بما ذكروا وذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث قالوا بتعجّب :( أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ) (٣) الذين لم يبق منهم أثر وتناثرت كلّ ذرّة من تراب أجسادهم

__________________

(١) الزخرف ، ٢٣.

(٢) يجب الانتباه هنا إلى تكرا حرف الاستفهام والتعبير بـ (أنّ) كلّها للتأكيد.

(٣) الهمزة في (أو آبائنا الأوّلون) استفهامية ، والواو واو عطف وهنا قدّمت الهمزة الاستفهامية عليها.

٤٦٩

في جهة ، أو أصبحت جزءا من بدن كائن آخر؟

ولكن ، كما قيل مفصّلا في نهاية سورة ياسين ، فإنّ هذه التساؤلات وغيرها ليست سوى حجج واهية أمام الدلائل القويّة المتوفّرة حول مسألة المعاد.

ثمّ إنّ القرآن الكريم يأمر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم :( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) (١) .

«ميقات» من مادّة (وقت) بمعنى الزمان الذي يحدّد لعمل ما أو موعد.

والمقصود من الميقات هنا هو نفس الوقت المقرّر للقيامة ، حيث يجتمع كلّ البشر للحساب ، ويأتي أحيانا كناية عن المكان الذي عين لإنجاز عمل معيّن ، مثل مواقيت الحجّ ، التي هي أسماء أماكن خاصّة للشروع بالإحرام.

ويستفاد من التعابير المختلفة التي وردت في الآية السابقة والتأكيدات العديدة حول مسألة الحشر ، مثل : (إنّ ، اللام ، «مجموعون» التي جاءت بصيغة اسم مفعول ، ووصف «يوم» بأنّه معلوم) ممّا يكون واضحا ومؤكّدا أنّ حشر جميع الناس ينجز في يوم واحد ، وجاء هذا المعنى في آيات قرآنية اخرى أيضا(٢) .

ومن هنا يتّضح جيّدا أنّ الذين كانوا يتصوّرون أنّ القيامة تقع في أزمنة متعدّدة حيث إنّ لكلّ امّة قيامة ، هم غرباء عن آيات الله تماما.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ معلومية يوم القيامة هي عند الله فقط ، وإلّا فإنّ جميع البشر بما فيهم الأنبياء والمرسلون والمقرّبون والملائكة ليس لهم علم بتوقيتها.

* * *

__________________

(١) استعملت (إلى) في هذه الجملة إشارة إلى أنّ القيامة تكون في نهاية هذا العالم ، ويمكن أن تكون هنا بمعنى بـ «لام» كما هو في الكثير من الآيات القرآنية وردت (لميقات).

(٢) هور ، الآية ١٠٣ ، مريم ، الآية ٩٥.

٤٧٠

الآيات

( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) )

التّفسير

عقوبات جديدة للمجرمين :

هذه الآيات استمرار للأبحاث المرتبطة بعقوبات أصحاب الشمال ، حيث يخاطبهم بقوله :( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ) (١) .

كان الحديث في الآيات السابقة حول الأجواء التي تحيط بـ (أصحاب الشمال) وينتقل الحديث في الآيات أعلاه إلى مشربهم ومأكلهم مقارنا بمأكل ومشرب المقرّبين وأصحاب اليمين.

والجدير بالذكر أنّ المخاطبين في هذه الآيات هم «الضالّون المكذّبون»

__________________

(١) (من) في (من شجر) تبعيضية ، و (من) في (زقّوم) بيانية.

٤٧١

الذين يتّسمون مضافا إلى الضلال والانحراف بأنّ لديهم روح العناد والإصرار على الباطل في مقابل الحقّ.

(زقّوم) كما ذكرنا سابقا : نبات مرّ نتن الرائحة وطعمه غير مستساغ ، وفيه عصارة إذا دخلت جسم الإنسان يصاب بالتورّم ، وتقال أحيانا لكلّ نوع من الغذاء المنفّر لأهل النار(١) .

وللمزيد حول (الزقّوم) يراجع نهاية الآية (٦٢) سورة الصافات ، وكذلك نهاية الآية (٤٣) سورة الدخان.

والتعبير بـ( فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) إشارة إلى الجوع الشديد الذي يصيبهم بحيث إنّهم يأكلون بنهم وشره من هذا الغذاء النتن وغير المستساغ جدّا فيملئون بطونهم.

وعند تناولهم لهذا الغذاء السيء يعطشون. ولكن ما هو شرابهم؟!

يتبيّن ذلك في قوله تعالى :( فَشارِبُونَ عَلَيْهِ ) (٢) ( مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ) .

إنّ البعير الذي يبتلى بداء العطش فإنّ شدّة عطشه تجعله يشرب الماء باستمرار حتّى يهلك ، وهذا هو نفس مصير( الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ) في يوم القيامة.

«حميم» : بمعنى الماء الحارّ جدّا والحارق ، وتطلق عبارة (وليّ حميم) على طبيعة العلاقة الصادقة الوديّة الحارّة ، و «حمّام» مشتقّ من نفس المادّة أيضا.

(هيم) على وزن (ميم) جمع هائم ، واعتبرها البعض جمع أهيم وهيماء ، وهي في الأصل من (هيام) على وزن (فرات) بمعنى مرض العطش الذي يصيب البعير ،

__________________

(١) مجمع البحرين ومفردات الراغب ، ولسان العرب ، وتفسير روح المعاني.

(٢) الجدير بالذكر أنّ في الآية السابقة كان الضمير مؤنثا (منها) يعود على (شجر من زقّوم) وفي هذه الآية كان الضمير مذكرا (عليه) يعود على الشجر ، وذلك لأنّ الشجر اسم جنس يستعمل للذكر والمؤنث ، وكذلك ثمر ، (مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث).

٤٧٢

ويستعمل هذا التعبير للعشق الحادّ أو للعشّاق الذين لا يقرّ لهم قرار.

ويعتبر بعض المفسّرين أنّ معنى (هيم) هي الأراضي الرملية والتي كلّما سقيت بماء تسرّب منها فتظهر الظمأ دائما.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يشير سبحانه إلى طبيعة مأكلهم ومشربهم في ذلك اليوم حيث يقول :( هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) .

فأين نزلهم ونزل أصحاب اليمين الذين ينعمون بالاستقرار في ظلال الأشجار الوارفة ، ويتناولون ألذّ الفواكه وأطيب الأطعمة ، وأعذب الشراب الطهور ، ويطوف حولهم الولدان المخلّدون وحور العين ، وهم سكارى من عشق البارئعزوجل ؟

أين أولئك؟ وأين هؤلاء؟

مصطلح (نزل) كما قلنا سابقا بمعنى الوسيلة التي يكرمون بها الضيف العزيز ، وتطلق أحيانا على أوّل طعام أو شراب يؤتى به للضيوف ، ومن الطبيعي أنّ أهل النار ليسوا ضيوفا ، وأنّ الزقّوم والحميم ليس وسيلة لضيافتهم. بل هو نوع من الطعن فيهم ، وأنّه إذا كان كلّ هذا العذاب هو مجرّد استقبال لهم ، فكيف بعد ذلك سيكون حالهم؟

* * *

٤٧٣

الآيات

( نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) )

التّفسير

سبعة أدلّة على المعاد :

بما أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن تكذيب الضالّين ليوم المعاد ، فإنّ الآيات اللاحقة استعرضت سبعة أدلّة على هذه المسألة المهمّة ، كي يتركّز الإيمان وتطمئن القلوب بالوعود الإلهيّة التي وردت في الآيات السابقة حول «المقرّبين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال» ، وأساسا فإنّ أبحاث هذه السورة تتركّز على بحث المعاد بشكل عامّ.

يقول سبحانه في المرحلة الاولى :( نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ ) أي لم لا

٤٧٤

تصدّقون بالمعاد(١) ؟!

لماذا تتعجّبون من الحشر والمعاد الجسمي بعد أن تصبح أجسامكم ترابا؟ ألم نخلقكم من التراب أوّل مرّة؟ أليس حكم الأمثال واحدا؟

هذه الاستدلالات في الحقيقة شبيهة بما جاء في قوله تعالى :( وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .(٢)

وفي الآية اللاحقة يشير البارئ إلى دليل ثان حول هذه المسألة فيقول :( أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ) (٣) ( أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) .

من الذي يجعل من هذه النطفة الحقيرة التي لا قيمة لها في كلّ يوم بخلق جديد وشكل جديد ، وخلق بعد خلق؟! هذه التطورات العجيبة التي بهرت العقول واولى الألباب من المفكّرين ، هل كانت من خلقكم أم من خلق الله تعالى؟

وهل أنّ القادر على الخلق المتكرّر يعجز عن إحياء الموتى في يوم القيامة؟ إنّ المفاهيم التي وردت في هذه الآية تحكي نفس المفاهيم التي جاءت في قوله تعالى :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) .(٤)

وإذا تجاوزنا ذلك وأخذنا بنظر الإعتبار ما يقوله علماء اليوم حول قطرة الماء هذه (النطفة) التي في ظاهر الأمر لا قيمة لها ، سوف يتّضح لنا الحال أكثر ،

__________________

(١) (لولا) في الاصطلاح تستعمل للحضّ والتحريك لإنجاز عمل ما ، وكما يقول البعض فإنّها في الأصل مركّبة من (لم) و (لا) والتي تعطي معنى السؤال والنفي ثمّ تبدّلت الميم إلى واو ، ويستعمل هذا المصطلح في مكان يتسامح فيه فرد أو أفراد في إنجاز عمل ما ، ويقال لهم : لماذا لا تعملون هكذا وهكذا؟

(٢) سورة يس ، ٧٨ ـ ٧٩.

(٣) جاءت «رأيتم» هنا من الرؤية بمعنى العلم وليست المشاهدة بالعين المجرّدة.

(٤) الحجّ ، ٥.

٤٧٥

حيث يقولون : إنّ الحيمن (الأسبر) هو حيوان مجهري صغير جدّا وإنّ منيّ الرجل يحتوي على عدد هائل من الحيامن في كلّ إنزال تقدّر بين (٢ ـ ٥) مليون حيمن وهذا يمثّل مقدار مجموع سكّان عدّة (بلدان في العالم)(١) هذا الحيوان المنوي يتّحد مع بويضة المرأة (أوول) ، فتتكوّن البيضة المخصّبة التي تنمو بسرعة وتتكاثر بصورة عجيبة ، حيث تصنع خلايا جسم الإنسان ، ومع أنّ الخلايا متشابهة في الظاهر ، إلّا أنّها تتوزّع بسرعة إلى مجاميع عديدة ، فقسم منها يختص بالقلب ، والآخر بالأطراف ، والثالث بالاذن والحنجرة ، وكلّ مجموعة مستقرّة في مكانها المحدّد له ، فلا خلايا الكلية تنتقل إلى خلايا القلب ، ولا خلايا القلب تتحوّل إلى خلايا العين ، ولا العكس.

والخلاصة أنّ «النطفة المخصّبة» في المرحلة الجنينيّة تمرّ بعوالم عديدة مختلفة حتّى تصبح جنينا ، وكلّ هذا في ظلّ خالقية إلهيّة مستمرّة ، في حين أنّ دور الإنسان في هذه العملية بسيط جدّا ، ويقتصر على وضع النطفة في الرحم ، والذي ينجز بلحظة واحدة.

أليست هذه المسألة دليلا حيّا على مسألة المعاد؟

أو ليست هذه القدرة العظيمة تدلّل على قدرة إحياء الموتى أيضا(٢) .

ثمّ يستعرض ذكر الدليل الثالث حيث يقول سبحانه :( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) .

نعم ، إنّنا لن نغلب أبدا ، وإذا قدّرنا الموت فلا يعني ذلك أنّنا لا نستطيع أن نمنح العمر السرمدي ، بل أنّ الهدف هو أن نذهب بقسم من الناس ونأتي بآخرين محلّهم. وأخيرا نعيدكم خلقا جديدا في عالم لا تعلمون عنه شيئا( عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ ) .

__________________

(١) كتاب أوّل جامعة ، ج ١ (بحث معرفة الجنين) ، ص ٢٤١.

(٢) في هذا الموضوع ذكرنا توضيحات اخرى في نهاية الآية (٥) من سورة الحجّ.

٤٧٦

وفي تفسير هاتين الآيتين هناك وجهة نظر اخرى وهي : أنّ الآية الثانية لم تأت لبيان هدف الآية الاولى ولكن تكملة لها ، حيث يريد سبحانه أن يبيّن المعنى التالي وهو : أنّنا لسنا بعاجزين ومغلوبين على أن نذهب بقسم ونأتي بآخرين مكانهم(١) .

ويوجد تفسيران لجملة( عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ) .

الأوّل : هو نفس التّفسير المذكور أعلاه ، والذي هو المشهور بين المفسّرين ، وطبقا لهذا الرأي تكون عملية تبديل الأقوام في هذه الدنيا.

والثاني هو : أنّ المقصود من (أمثال) هم نفس البشر الذين يبعثون في يوم القيامة ، والتعبير بـ (مثل) لأنّ الإنسان لا يبعث مرّة اخرى بكلّ خصوصياته التي كان عليها ، إذ أنّه سيكون في وقت جديد وكيفيات جديدة من حيث الروح والجسم.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الهدف هو الاستدلال على المعاد من خلال مسألة الموت ، ويمكن توضيح الدليل بالصورة التالية : إنّ الله الحكيم الذي خلق الإنسان وقدّر له الموت فطائفة يموتون وآخرين يولدون باستمرار ، من البديهي أنّ له هدف.

فإذا كانت الحياة الدنيا هي الهدف فالمناسب أن يكون عمر الإنسان خالدا وليس بهذا المقدار القصير المقترن مع ألوان الآلام والمشاكل.

وسنّة الموت تشهد أنّ الدنيا معبّرا وليست منزلا وأنّها جسر وليست مقصدا ، لأنّها لو كانت مستقرّا ومقصد للزم أن تدوم الحياة فيها.

جملة( وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ ) ظاهرا إشارة إلى خلق الإنسان يوم القيامة ،

__________________

(١) طبقا للتفسير الأوّل فإنّ الجار والمجرور في (على أنّ نبدّل) متعلّق بـ (قدّرنا) والذي جاء في الآية السابقة ، طبقا للتفسير الثاني فإنّها متعلّقة بـ (مسبوقين) (يرجى الانتباه).

٤٧٧

والتي هي الهدف لحياة وفناء هذه الدنيا ، ومن البديهي لأي شخص لم ير الدار الآخرة أنّه لن يستطيع إدراكها ومعرفة قوانينها والأنظمة المسيطرة عليها من خلال الألفاظ والصور التي تنقل لنا عنها ، نعم إنّنا نستطيع أن نرى شبحها وظلالها فقط من التصوير اللفظي لها ، ولذا فإنّ الآية أعلاه تعكس هذه الحقيقة ، حيث تذكر أنّ الله سيخلقنا في عالم جديد وبأشكال وظروف جديدة لا ندرك أسرارها(١) .

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يتحدّث سبحانه عن رابع دليل للمعاد حيث يقول :( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) .

هذا الدليل نستطيع بيانه بصورتين :

الاولى : في المثال التالي : إذا كنا نسير في صحراء وشاهدنا قصرا مهيبا عظيما مثيرا للإعجاب في محتوياته ومواد بنائه وهندسته ، وقيل لنا : إنّ الهدف من هذا القصر هو استعماله كمحطّة للراحة والهدوء لعدّة ساعات فقط لقافلة صغيرة فإنّنا سنحكم في أنفسنا بصورة قاطعة على عدم الحكمة في هذا العمل ، إذ من المناسب لمثل الهدف المتقدّم ذكره أن تعد خيمة صغيرة فقط.

وعلى هذا فإنّ خلق هذه الدنيا العظيمة وما فيها من أجرام سماوية وشمس وقمر وأنواع المخلوقات الأرضية الاخرى ، هل يمكن أن يكون لهدف صغير محدود ، كأن يعيش الإنسان فيها بضعة أيّام؟ كلّا ليس كذلك ، وإلّا فانّه يعني أنّ خلق العالم سيكون بدون هدف ، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المخلوقات العظيمة قد خلقت لموجود شريف ـ مثل الإنسان ـ ليعرف الله سبحانه من خلالها ، معرفة تكون رأسماله الوحيد في الدار الآخرة ، فالهدف إذن هو الدار الآخرة ، وهذا دليل آخر على المعاد.

وهذا البيان هو ما نجده في الآية الشريفة :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما

__________________

(١) اعتبر البعض أن الآية هي إشارة إلى مسخ الأقوام السابقين في هذا العالم ، حيث إن الله سبحانه قد مسخهم بأشكال لا يعلمونها ، إلا أن هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية.

٤٧٨

بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) .(١)

الثانية : هو أنّنا نلاحظ مشاهد المعاد في هذا العالم تتكرّر أمامنا في كلّ سنة وفي كلّ زاوية وكلّ مكان ، حيث مشهد القيامة والحشر في عالم النبات ، فتحيى الأرض الميتة بهطول الأمطار الباعثة للحياة قال تعالى :( إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ) ،(٢) وقد أشير إلى هذا المعنى كذلك في الآية ٦ من سورة الحجّ.

* * *

ملاحظة

حجيّة القياس :

إنّ هذه المسألة تطرح عادة في اصول الفقه ، وهي أنّنا لا نستطيع إثبات الحكم الشرعي عن طريق القياس كقولنا مثلا : (إنّ المرأة الحائض التي يجب أن تقضي صومها يجب أن تقضي صلاتها كذلك) ـ أي يجب أن تكون استنتاجاتنا من الكلّي إلى الجزئي ، وليس العكس ـ وبالرغم من أنّ علماء أهل السنّة قد قبلوا القياس في الغالب كأحد مصادر التشريع في الفقه الإسلامي ، فإنّ قسما منهم يوافقوننا في مسألة (نفي حجيّة القياس).

والظريف هنا أنّ بعض مؤيّدي القياس أرادوا أن يستدلّوا بمقصودهم بالآية التالية :( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ) أي قيسوا النشأة الاخرى (القيامة) على النشأة الاولى (الدنيا).

إلّا أنّ هذا الاستدلال عجيب ، لأنّه أوّلا : إنّ المذكور في الآية هو استدلال عقلي وقياس منطقي ، ذلك أنّ منكري المعاد كانوا يقولون : كيف تكون لله القدرة على إحياء العظام النخرة؟ فيجيبهم القرآن الكريم بالمفهوم التالي : إنّ القوّة التي

__________________

(١) سورة ص ، ٣٧.

(٢) فصّلت ، ٣٩.

٤٧٩

كانت لها القدرة على خلقكم في البداية هي نفسها ستكون لها القدرة لخلقكم مرّة ثانية ، في الوقت الذي لا يكون القياس الظنّي بالأحكام الشرعية بهذه الصورة أبدا ، لأنّنا لا نحيط بمصالح ومفاسد كلّ الأحكام الشرعية.

وثانيا : إنّ من يقول ببطلان القياس يستثني قياس الأولوية ، فمثلا يقول تعالى :( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما ) ونفهم بطريق أولى ألّا تؤذيهما من الناحية البدنية.

والآية مورد البحث من قبيل قياس الأولوية وليس لها ربط بالقياس الظنّي مورد الخلاف والنزاع ، لأنّه لم يكن شيء من المخلوقات في البداية ، واللهعزوجل خلق الوجود من العدم وخلق الإنسان من التراب ، ولذا فإنّ إعادة الإنسان إلى الوجود مرّة اخرى أيسر من خلقه ابتداء ، وتعكس الآية الكريمة التالية هذا المفهوم حيث يقول تعالى :( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) .(١)

وننهي حديثنا هذا بالحديث التالي : «عجبا كلّ العجب للمكذّب بالنشأة الاخرى وهو يرى النشأة الاولى ، وعجبا للمصدّق بالنشأة الاخرى وهو يسعى لدار الغرور»(٢) .

* * *

__________________

(١) الروم ، ٢٧.

(٢) ذكر هذا الحديث في تفسير روح البيان وروح المعاني والقرطبي والمراغي باختلاف مختصر بعنوان خبر ، وبدون تصريح باسم الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ ظاهر تعبيراتهم أنّ الحديث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي كتاب الكافي أيضا نقل القسم الأوّل من هذا الحديث عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام .

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624