الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204271 / تحميل: 6097
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

أنّ الحدود كانت تجرى على المنافقين غالبا.

الجدير بالذكر أنّ الآية السابقة وردت أيضا وبنفس النصّ في سورة التوبة الآية ٧٣.

ومن أجل أن يعطي الله تعالى درسا عمليا حيّا إلى زوجات الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد مرّة اخرى يذكر بالعاقبة السيّئة لزوجتين غير تقيتين من زوجات نبيين عظيمين من أنبياء الله ، وكذلك يذكر بالعاقبة الحسنة والمصير الرائع لامرأتين مؤمنتين مضحيتين كانتا في بيتين من بيوت الجبابرة ، حيث يقول أوّلا :( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما ، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (١) .

وبناء على هذا فإنّ القرآن يحذّر زوجتي الرّسول اللتين اشتركتا في إذاعة سرّه ، بأنّكما سوف لن تنجوا من العذاب لمجرّد كونكما من أزواج النبي كما فعلت زوجتا نوح ولوط فواجهتا العذاب الإلهي.

كما تتضمّن الآيات الشريفة تحذيرا لكلّ المؤمنين بأنّ القرب من أولياء الله والانتساب إليهم لا يكفي لمنع نزول عذاب الله ومجازاته.

وورد في كلمات بعض المفسّرين أنّ زوجة نوح كانت تدعى «والهة» وزوجة لوط «والعة»(٢) بينما ذكر آخرون عكس ذلك أي أنّ زوجة لوط اسمها (والهة) وزوجة نوح اسمها (والعة)(٣) .

وعلى أيّة حال فإنّ هاتين المرأتين خانتا نبيّين عظيمين من أنبياء الله.

__________________

(١) «ضرب» أخذ هنا مفعولين ، الأوّل «امرأة نوح» ذكره مؤخّرا ، والثاني «مثلا» ، ويحتمل أن «ضرب» أخذت مفعولا واحدا وهو «مثلا» وكلمة «امرأة نوح» بدل. (البيان في غريب اعراب القرآن ، ج ٢ ، ص ٤٤٩).

(٢) «القرطبي» ج ١٠ ، ص ٦٦٨٠.

(٣) «روح المعاني» ج ٢٨ ، ص ١٤٢ (وقيل أنّ اسم امرأة نوح «واغلة» أو «والغة»).

٤٦١

والخيانة هنا لا تعني الانحراف عن جادّة العفّة والنجابة ، لأنّهما زوجتا نبيّين ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة ، فقد جاء عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بغت امرأة نبي قطّ».

كانت خيانة زوجة لوط هي أن أفشت أسرار هذا النبي العظيم إلى أعدائه ، وكذلك كانت زوجة نوحعليه‌السلام .

وذهب الراغب في «المفردات» إلى أنّ للخيانة والنفاق معنى واحدا وحقيقة واحدة ، ولكن الخيانة تأتي في مقابل العهد والأمانة ، والنفاق يأتي في الأمور الدينية وما تقدّم من سبب النزول ومشابهته لقصّة هاتين المرأتين توجب كون المقصود من الخيانة هنا هو نفس هذا المعنى.

وعلى كلّ حال فإنّ الآية السابقة تبدّد أحلام الذين يرتكبون ما شاء لهم أن يرتكبوا من الذنوب ويعتقدون أنّ مجرّد قربهم من أحد العظماء كاف لتخليصهم من عذاب الله ، ومن أجل أن لا يظنّ أحد أنّه ناج من العذاب لقربه من أحد الأولياء ، جاء في نهاية الآية السابقة :( فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) .

ثمّ يذكر القرآن الكريم نموذجين مؤمنين صالحين فيقول :( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ) .

من المعروف أنّ اسم زوجة فرعون (آسية) واسم أبوها (مزاحم) وقد آمنت منذ أن رأت معجزة موسىعليه‌السلام أمام السحرة ، واستقرّ قلبها على الإيمان ، لكنّها حاولت أن تكتم إيمانها ، غير أنّ الإيمان برسالة موسى وحبّ الله ليس شيئا يسهل كتمانه ، وبمجرّد أن اطّلع فرعون على إيمانها نهاها مرّات عديدة وأصرّ عليها أن تتخلّى عن رسالة موسى وربّه ، غير أنّ هذه المرأة الصالحة رفضت الاستسلام إطلاقا.

وأخيرا أمر فرعون أن تثبت يداها ورجلاها بالمسامير ، وتترك تحت أشعة

٤٦٢

الشمس الحارقة ، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة كبيرة. وفي تلك اللحظات الأخيرة كانت امرأة فرعون بهذا الدعاء إذ قالت :( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وقد استجاب لها ربّها وجعلها من أفضل نساء العالم إذ يذكرها في صفّ مريم.

في رواية عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ومريم بنت عمران ، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون(١) .

ومن الطريف أنّ امرأة فرعون كانت تستصغر بيت فرعون ولا تعتبره شيئا مقابل بيت في الجنّة وفي جواره تعالى ، وبذلك أجابت على نصائح الناصحين في أنّها ستخسر كلّ تلك المكاسب وتحرم من منصب الملكة (ملكة مصر) وما إلى ذلك. لسبب واحد هو أنّها آمنت برجل راع كموسى.

وفي عبارة( وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) تضرب مثلا رائعا للمرأة المؤمنة التي ترفض أن تخضع لضغوط الحياة ، أو تتخلّى عن إيمانها مقابل مكاسب زائلة في هذه الدنيا.

لم تستطع بهارج الدنيا وزخارفها التي كانت تنعم بها في ظلّ فرعون ، والتي بلغت حدّا ليس له مثيل. لم تستطع كلّ تلك المغريات أن تثنيها عن نهج الحقّ ، كما لم تخضع أمام الضغوط وألوان العذاب التي مارسها فرعون. وقد واصلت هذه المرأة المؤمنة طريقها الذي اختارته رغم كلّ الصعاب واتّجهت نحو الله معشوقها الحقيقي.

وتجدر الإشارة إلى أنّها كانت ترجوا أن يبني الله لها بيتا عنده في الجنّة لتحقيق بعدين ومعنيين : المعنى المادّي الذي أشارت إليه بكلمة «في الجنّة» ، والبعد المعنوي وهو القرب من الله «عندك» وقد جمعتهما في عبارة صغيرة

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٤٦.

٤٦٣

موجزة.

ثمّ يضرب الله تعالى مثلا آخر للنساء المؤمنات الصالحات ، حيث يقول جلّ من قائل :( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا ) (١) .

فهي امرأة لا زوج لها أنجبت ولدا صار نبيّا من أنبياء الله العظام (من اولي العزم).

ويضيف تعالى قائلا :( وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ ) و( كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ ) .

كانت في القمّة من حيث الإيمان ، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم الإلهية ، ثمّ إنّها كانت قد أخضعت قلبها لله ، وحملت قلبها على كفّها وهي على أتمّ الاستعداد لتنفيذ أوامر الباري جلّ شأنه.

ويمكن أن يكون التعبير بـ (الكتب) إشارة إلى كلّ الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء ، بينما التعبير بـ (كلمات) إشارة إلى الوحي الذي لا يكون على شكل كتاب.

ونظرا لرفعة مقام مريم وشدّة إيمانها بكلمات الله ، فقد وصفها القرآن الكريم في الآية (٧٥) من سورة المائدة (صدّيقة).

وقد أشار القرآن إلى مقام هذه المرأة العظيمة في آيات عديدة ، منها ما جاء في السورة التي سمّيت باسمها أي (سورة مريم).

على أيّة حال فإنّ القرآن الكريم تصدّى للشبهات التي أثارها بعض اليهود المجرمين حول شخصية هذه المرأة العظيمة ، ونفى عنها كلّ التّهم الرخيصة حول عفافها وطهارتها وكلّ ما يتعلّق بشخصيتها الطاهرة.

والتعبير بـ( فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا ) لإظهار عظمة وعلو هذه الروح ، كما أشرنا إلى ذلك سابقا. أو بعبارة اخرى : إنّ إضافة كلمة (روح) إلى «الله» إضافة

__________________

(١) يوجد شرح مفصّل في كتابنا هذا في ذيل الآية (٩١) من سورة الأنبياء يتعلّق بما هو المقصود من تعبير «الفرج».

٤٦٤

تشريفية لبيان عظمة شيء مثل إضافة «بيت» إلى «الله».

ومن الغريب ما كتبه بعض المفسّرين من اعتبارهم عائشة أفضل النساء ، وأنّها أعظم من غيرها من النساء ذوات القدر الكبير والشأن عند الله. ولقد كان حريّا بهم أن لا يتطرّقوا إلى هذا الحديث في هذه السورة ، التي نزلت لتعلن خلاف ما ذهبوا إليه وبشكل صريح لا يقبل الجدل. فإنّ كثيرا من مفسّري ومؤرّخي أهل السنّة أكّدوا على أنّ اللوم والتوبيخ اللذين وردا في الآيات السابقة كانا موجّهين إلى زوجتي الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حفصة» و «عائشة» ومنها ما جاء في صحيح البخاري الجزء السادس صفحة ١٩٥ ونحن ندعو بهذه المناسبة أهل التفكير الحرّ جميعا لأن يعيدوا تلاوة آيات هذه السورة ثمّ ليتعرّفوا على قيمة وجدارة مثل هذه الأحاديث.

اللهمّ جنّبنا الحبّ الأعمى والبغض الأعمى الذي لا يقوم على البرهان بقدر ما يقوم على العصبية ، واجعلنا من المستسلمين الخاضعين بكلّ وجودنا إلى آيات قرآنك المجيد.

ربّنا ولا تجعلنا من الذين غضب عليهم الرّسول فلم يرض أعمالهم وطريقة حياتهم.

اللهمّ هب لنا استقامة لا نتأثّر معها بالضغوط ، ولا نخضع لعذاب الفراعنة وجبابرة العصر.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة التحريم

* * *

٤٦٥
٤٦٦

بداية الجزء التاسع والعشرون

من

القرآن الكريم

سورة الملك

مكيّة

وعدد آياتها ثلاثون آية

٤٦٧
٤٦٨

«سورة الملك»

محتوى سورة الملك :

تمثّل هذه السورة بداية الجزء التاسع والعشرين من القرآن الكريم ، وهي من السور التي نزلت جميع آياتها في مكّة المكرّمة على المشهور ، كما هو شأن غالبية سور هذا الجزء ، إن لم يكن جميعها كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين(١) ، بخلاف ما عليه سور الجزء السابق حيث كانت مدنية.

ولكن كما سنرى لا حقا أنّ سورة الدهر (سورة الإنسان) من السور المدنية.

وتسمّى سورة الملك أيضا بـ (المنجية) ، وكذلك تسمّى بـ (الواقية) أو (المانعة) بلحاظ أنّها تحفظ الإنسان الذي يتلوها من العذاب الإلهي أو عذاب القبر ، وهي من السور التي لها فضائل عديدة ، وقد طرحت في هذه السورة مسائل قرآنية مختلفة ، إلّا أنّ الأصل فيها يدور حول ثلاثة محاور هي :

١ ـ أبحاث حول المبدأ ، وصفات الله سبحانه ، ونظام الخلق العجيب والمدهش ، خصوصا خلق السموات والنجوم والأرض وما فيها من كنوز عظيمة وكذلك ما يتعلّق بخلق الطيور والمياه الجارية والحواس كالاذن والعين ، بالإضافة إلى وسائل المعرفة الاخرى.

٢ ـ وفي المحور الثاني تتحدّث الآيات الكريمة عن المعاد وعذاب الآخرة ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ١٨٠.

٤٦٩

والحوار الذي يدور بين ملائكة العذاب الإلهي وأهل جهنّم ، بالإضافة إلى امور اخرى في هذا الصدد.

٣ ـ وأخيرا فإنّ آيات المحور الثالث تدور حول التهديد والإنذار الإلهي بألوان العذاب الدنيوي والاخروي للكفّار والظالمين.

ويذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المحور الأساس لجميع هذه السورة يدور حول مالكية الله سبحانه وحاكميته والتي وردت في أوّل آية منها(١) .

فضيلة تلاوة السورة :

نقلت روايات عديدة عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في فضيلة تلاوة هذه السورة نقرأ منها ما يلي :

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة تبارك فكأنّما أحيى ليلة القدر»(٢) .

وجاء في حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وددت أن تبارك الملك في قلب كلّ مؤمن»(٣) .

وجاء في حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «سورة الملك هي المانعة ، تمنع من عذاب القبر ، وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك ، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يكتب من الغافلين»(٤) .

والأحاديث كثيرة في هذا المجال.

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ١٨٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٢٠.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٤٧٠

ومن الطبيعي أنّ جميع هذه الآثار العظيمة لا تكون إلّا من خلال التدبّر في قراءة آيات هذه السورة والعمل بها ، والاستلهام من محتوياتها في الممارسات الحياتية المختلفة.

* * *

٤٧١

الآيات

( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) )

التّفسير

عالم الوجود المتكامل :

تبدأ آيات هذه السورة بمسألة مالكية وحاكمية الله سبحانه ، وخلود ذاته المقدّسة ، وهي في الواقع مفتاح جميع أبحاث هذه السورة المباركة(١) .

__________________

(١) هذه السورة هي ثاني سورة تبدأ بكلمة (تبارك) وسورة الفرقان هي الاخرى بدأت بـ( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى )

٤٧٢

يقول تعالى :( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

«تبارك» : من مادّة (بركة) في الأصل من (برك) على وزن (ترك) بمعنى (صدر البعير) ، وعند ما يقال : (برك البعير) يعني وضع صدره على الأرض. ثمّ استعملت الكلمة بمعنى الدوام والبقاء وعدم الزوال ، وأطلقت كذلك على كلّ نعمة باقية ودائمة ، ومن هنا يقال لمحلّ خزن الماء (بركة) لأنّ الماء يبقى فيها مدّة طويلة.

وقد ذكرت الآية أعلاه دليلا ضمنيّا على أنّ الذات الإلهية مباركة ، وهو مالكيته وحاكميته على الوجود ، وقدرته على كلّ شيء ، ولهذا السبب فإنّ وجوده تعالى كثير البركة ولا يعتريه الزوال.

ثمّ يشير سبحانه في الآية اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحياته ، وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى فيقول :( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) .

«الموت» : حقيقته الانتقال من عالم إلى عالم آخر ، وهذا الأمر وجودي يمكن أن يكون مخلوقا ، لأنّ الخلقة ترتبط بالأمور الوجودية ، وهذا هو المقصود من الموت في الآية الشريفة ، أمّا الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقا ، لذا فإنّه غير مقصود.

ثمّ إنّ ذكر الموت هنا قبل الحياة هو بلحاظ التأثير العميق الذي يتركه الالتفات إلى الموت ، وما يترتّب على ذلك من سلوك قويم وأعمال مقترنة بالطاعة والالتزام ، إضافة إلى أنّ الموت كان في حقيقته قبل الحياة.

أمّا الهدف من الامتحان فهو تربية الإنسان كي يجسّد الاستقامة والتقوى والطهر في الميدان العملي ليكون لائقا للقرب من الله سبحانه ، وقد بحثنا ذلك مفصّلا فيما سبق(١) .

__________________

( عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) .

(١) يمكن مراجعة الشرح الوافي حول الامتحانات الإلهية في تفسير الآية (١٥٥) من سورة البقرة.

٤٧٣

كما أنّ الجدير بالملاحظة في قوله «أحسن عملا» هو التأكيد على جانب (حسن العمل) ، ولم تؤكّد الآية على كثرته ، وهذا دليل على أنّ الإسلام يعير اهتماما (للكيفية) لا (للكميّة) ، فالمهمّ أن يكون العمل خالصا لوجهه الكريم ، ونافعا للجميع حتّى ولو كان محدود الكمية.

لذا ورد في تفسير (أحسن عملا) ، روايات عدّة ، فعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أتمّكم عقلا ، أشدّكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر الله به ، ونهى عنه نظرا ، وإن كان أقلّكم تطوّعا»(١) .

حيث أنّ العقل الكامل يطهّر العمل ، ويجعل النيّة أكثر خلوصا للهعزوجل ويضاعف الأجر.

وجاء في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال حول تفسير (أحسن عملا): «ليس يعني أكثر عملا ، ولكن أصوبكم عملا ، وإنّا الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة. ثمّ قال : الإبقاء على العمل حتّى يخلص ، أشدّ من العمل ، والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا اللهعزوجل »(٢) .

وتحدّثنا في تفسير الآية :( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٣) ، وقلنا : أنّ الهدف من خلق الإنسان في تلك الآية هو العبودية للهعزوجل ، وهنا نجد الهدف : (اختباره بحسن العمل). وممّا لا شكّ فيه أنّ مسألة الاختبار والامتحان لا تنفكّ عن مسألة العبودية لله سبحانه ، كما أنّ لكمال العقل والخوف من الله تعالى والنيّة الخالصة لوجهه الكريم ـ والتي أشير لها في الروايات أعلاه ، أثرا في تكامل روح العبودية.

ومن هنا نعلم أنّ العالم ميدان الامتحان الكبير لجميع البشر ، ووسيلة هذا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٢٢.

(٢) تفسير الصافي ، الآيات مورد البحث.

(٣) الذاريات ، الآية ٥٦.

٤٧٤

الامتحان هو الموت والحياة ، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي مفهومه تكامل المعرفة ، وإخلاص النيّة ، وإنجاز كلّ عمل خيّر.

وإذا لا حظنا أنّ بعض المفسّرين فسّر (أحسن عملا) بمعنى ذكر الموت أو التهيّؤ وما شابه ذلك ، فإنّ هذا في الحقيقة إشارة إلى مصاديق من المعنى الكلّي.

وبما أنّ الإنسان يتعرّض لأخطاء كثيرة في مرحلة الامتحان الكبير الذي يمرّ به ، فيجدر به ألّا يكون متشائما ويائسا من عون الله سبحانه ومغفرته له ، وذلك من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها ، حيث يقول تعالى :( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) .

نعم ، إنّه قادر على كلّ شيء ، وغفّار لكلّ من يتوب إليه.

وبعد استعراض نظام الموت والحياة الذي تناولته الآية السابقة ، تتناول الآية اللاحقة النظام الكلّي للعالم ، وتدعو الإنسان إلى التأمّل في عالم الوجود ، والتهيّؤ لمخاض الامتحان الكبير عن طريق التدبّر في آيات هذا الكون العظيم ، يقول تعالى :( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ) .

بالنسبة إلى موضوع السموات السبع فقد استعرضنا شيئا حولها في تفسير الآية (١٢) من سورة الطلاق ، ونضيف هنا أنّ المقصود من (طباقا) هو أنّ السموات السبع ، كلا منها فوق الاخرى ، إذ أنّ معنى (المطابقة) في الأصل هو الشيء فوق شيء آخر.

ويمكن اعتبار «السموات السبع» إشارة إلى الكرات السبع للمنظومة الشمسية ، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة ، حيث تبعد كلّ منها مسافة معيّنة عن الشمس أو تكون كلّ منها فوق الاخرى.

أمّا إذا اعتبرنا أنّ جميع ما نراه من النجوم الثابتة والسيارة ضمن السماء الاولى ، فيتّضح لنا أنّ هنالك عوالم اخرى في المراحل العليا ، حيث أنّ كلّ واحد منها يكون فوق الآخر.

٤٧٥

ثمّ يضيف سبحانه :( ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) .

إنّ الآية أعلاه تبيّن لنا أنّ عالم الوجود ـ بكلّ ما يحيطه من العظمة ـ قائم وفق نظام مستحكم ، وقوانين منسجمة ، ومقادير محسوبة ، ودقّة متناهية ، ولو وقع أي خلل في جزء من هذا العالم الفسيح لأدّى إلى دماره وفنائه.

وهذه الدقّة المتناهية ، والنظام المحيّر ، والخلق العجيب ، يتجسّد لنا في كلّ شيء ، ابتداء من الذرّة الصغيرة وما تحويه من الإلكترونات والنيوترونات والبروتونات ، وانتهاء بالنظم الحاكمة على جميع المنظومة الشمسية والمنظومات الاخرى ، كالمجرّات وغيرها إذ أنّ جميع ذلك يخضع لسيطرة قوانين متناهية في الدقّة ، ويسير وفق نظام خاصّ.

وخلاصة القول أنّ كلّ شيء في الوجود له قانون وبرنامج ، وكلّ شيء له نظام محسوب.

ثمّ يضيف تعالى مؤكّدا :( فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ) .

«فطور» من مادّة (فطر) ، على وزن (سطر) بمعنى الشقّ من الطول ، كما تأتي بمعنى الكسر (كإفطار الصيام) والخلل والإفساد ، وقد جاءت بهذا المعنى في الآية مورد البحث.

ويقصد بذلك أنّ الإنسان كلّما دقّق وتدبّر في عالم الخلق والوجود ، فإنّه لا يستطيع أن يرى أي خلل أو اضطراب فيه.

لذا يضيف سبحانه مؤكّدا هذا المعنى في الآية اللاحقة حيث يقول :( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ) .

«كرّتين» من مادّة (كر) على وزن (شرّ) بمعنى التوجّه والرجوع إلى شيء معيّن ، و (كرّة) بمعنى التكرار و (كرّتين) مثنّاها.

إلّا أنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المقصود من ال (كرّتين) هنا ليس التثنية ، بل الالتفات والتوجّه المتكرّر المتعاقب والمتعدّد.

٤٧٦

وبناء على هذا فإنّ القرآن الكريم يأمر الناس في هذه الآيات أن يتطلّعوا ويتأمّلوا ويدقّقوا النظر في عالم الوجود ثلاث مرّات ـ كحدّ أدنى ـ ويتدبّروا أسرار الخلق. وبمعنى آخر فإنّ على الإنسان أن يدقّق في خلق الله سبحانه مرّات ومرّات ، وعند ما لا يجد أي خلل أو نقص في هذا النظام العجيب والمحيّر لخلق الكون ، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى معرفة خالق هذا الوجود العظيم ومدى علمه وقدرته اللامتناهية ، ممّا يؤدّي إلى عمق الإيمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدّسة.

«خاسئ» من مادّة (خسأ) و (خسوء) على وزن (مدح ، وخشوع) وإذا كان مورد استعمالها العين ، فيقصد بهما التعب والعجز ، أمّا إذا استعملت للكلب فيقصد منها طرده وإبعاده.

«حسير» من مادّة (حسر) ، على وزن (قصر) بمعنى جعل الشيء عاريا ، وإذا ما فقد الإنسان قدرته واستطاعته بسبب التعب ، فإنّه يكون عاريا من قواه ، لذا فإنّها جاءت بمعنى التعب والعجز.

وبناء على هذا فإنّ كلمتي (خاسئ) و (حسير) اللتين وردتا في الآية أعلاه ، تعطيان معنى واحدا في التأكيد على عجز العين ، وبيان عدم مقدرتها على مشاهدة أي خلل أو نقص في نظام عالم الوجود.

وفرّق البعض بين معنى الكلمتين ، إذ قال : إن (خاسئ) تعني المحروم وغير الموفّق ، و (حسير) بمعنى العاجز.

وعلى كلّ حال فيمكن استنتاج أساسين من الآيات المتقدّمة :

الأوّل : أنّ القرآن الكريم يأمر جميع السائرين في درب الحقّ أن يتدبّروا ويتأمّلوا كثيرا في أسرار عالم الوجود وما فيه من عجائب الخلق ، وأن لا يكتفوا بالنظر إلى هذه المخلوقات مرّة واحدة أو مرّتين ، حيث أنّ هنالك أسرارا كثيرة وعظيمة لا تتجلّى ولا تظهر من خلال النظرة الاولى أو الثانية. بل تستدعي النظر الثاقب والمتعاقب والدقّة الكثيرة ، حتّى تتّضح الأسرار وتتبيّن الحقائق.

٤٧٧

الأمر الثّاني : الذي يتبيّن لنا من خلال التدقيق في هذا النظام ، هو إدراك طبيعة الانسجام العظيم بين مختلف جوانب الوجود ، بالإضافة إلى خلوه من كلّ نقص وعيب وخلل.

وإذا ما لوحظ في النظرة الأوّلية لبعض الظواهر الموجودة في هذا العالم (كالزلازل والسيول ، والأمراض ، والكوارث الطبيعية الاخرى ، والتي تصيب البشر أحيانا في حياتهم) واعتبرت شرورا وآفات وفسادا ، فإنّه من خلال الدراسات والتدقيقات المتأمّلة يتبيّن لنا أنّ هذه الأمور هي الاخرى تمثّل أسرارا أساسية غاية في الدقّة(١) .

إنّ لهذه الآيات دلالة واضحة على دقّة النظام الكوني ، حيث معناها أنّ وجود النظام في كلّ شيء دليل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلك الشيء ، وإلّا ، فإنّ حصول حوادث عشوائية غير محسوبة لا يمكن أبدا أن تكون منطلقا للنظام ومبدأ للحساب.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام في حديث مفضّل المعروف عنه «إنّ الإهمال لا يأتي بالصواب ، والتضادّ لا يأتي بالنظام»(٢) .

ثمّ تتناول الآية التالية صفحة السماء التي يتجسّد فيها الجمال والروعة ، حيث النجوم المتلألئة في جوّ السماء المشعّة بضوئها الساحر في جمال ولطافة ، حيث يقول سبحانه :( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ ) .

إنّ نظرة متأمّلة في ليلة مظلمة خالية من الغيوم إلى جوّ السماء المليء بالنجوم كاف لإثارة الانتباه فينا إلى تلك العوالم العظيمة ، وخاصّة طبيعة النظم

__________________

(١) ذكرنا شرحا لهذا الموضوع في مباحث (إثبات وجود الله) وذلك عند جوابنا على أدلّة الماديين في موضوع (الآفات والبلايا) ، يرجى مراجعة كتاب (خالق العالم).

(٢) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٦٣.

٤٧٨

الحاكمة عليها ، والروعة المتناهية في جمالها ولطافتها وعظمتها ، وسكونها المقترن بالأسرار العجيبة ، والهيبة التي تلقي بظلالها على جميع العوالم ، ممّا يجعل الإنسان أمام عالم مليء بالمعرفة ونور الحقّ ، ويدفعه باتّجاه عشق البارئعزوجل الذي لا يمكن وصفه والتعبير عنه بأي لسان.

وتؤكّد الآية الكريمة ـ مرّة اخرى ـ الحقيقة القائلة بأنّ جميع النجوم التي نشاهدها ما هي إلّا جزء من المساء الاولى ، والتي هي أقرب إلينا من أي سماء اخرى من السموات السبع ، لذا أطلق عليها اسم (السماء الدنيا) أي السماء القريبة والتي هي أسفل جميع السموات الاخرى.

«الرجوم» بمعنى (الرصاص) وهي إشارة إلى الشهب التي تقذف كرصاصة من جهة إلى اخرى من السماء ، كما أنّ (الشهب) هي بقايا النجوم المتلاشية والتي تأثّرت بحوادث معيّنة ، وبناء على هذا ، فإنّ المقصود بجعل الكواكب رجوما للشياطين ، هو هذه الصخور المتبقّية.

أمّا كيفية رجم الشياطين برصاصات الشهب (الأحجار الصغيرة) التي تسير بصورة غير هادفة في جو السماء ، فقد بيّناه بشكل تفصيلي في التّفسير الأمثل في تفسير الآية (١٨) من سورة الحجر ، وكذلك في تفسير الآية (٢٠) من سورة الصافات.

* * *

ملاحظة

عظمة عالم الخلق :

بالرغم من أنّ القرآن الكريم نزل في مجتمع الجاهلية والتأخّر إلّا أنّنا عند ما نلاحظ آياته نراها غالبا ما تدعو المسلمين إلى التفكّر والتأمّل بالأسرار العظيمة التي يزخر بها عالم الوجود ، الأمر الذي لم يكن مفهوما في ذلك العصر ،

٤٧٩

وهذا دليل واضح على أنّ القرآن الكريم صادر من مبدأ آخر ، وأنّ العلم والمعارف الإنسانية كلّما تقدّمت فإنّها تؤكّد عظمة القرآن الكريم أكثر فأكثر.

فالكرة الأرضية التي نعيش عليها ـ مع كبر حجمها وسعتها ـ صغيرة في مقابل مركز المنظومة الشمسية (قرص الشمس) ، بحيث أنّها تساوى مليون ومائتي ألف كرة أرضية مثل أرضنا.

هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ منظومتنا الشمسية جزء من مجرّة عظيمة ، يطلق عليها اسم «درب التبانة»(١) .

وطبقا لحسابات العلماء الفلكيين فإنّه يوجد في مجرتنا فقط (٠٠٠) ـ مائة مليارد ـ نجمة ، حيث تكون الشمس ومع ما عليها من عظمة إحدى نجومها المتوسطة.

ومن جهة ثالثة فإنّ في هذا العالم الواسع مجرّات كثيرة إلى حدّ أنّها تخرج عن الحساب والعدد ، وكلّما تطوّرت التلسكوبات الفلكية العظيمة تمّ كشف مجرّات اخرى عديدة.

فما أعظم قدرة هذا الربّ الذي وضع هذه الأسرار الكبيرة مع ذلك النظام الدقيق «العظمة لله الواحد القهّار».

* * *

__________________

(١) (المجرّات) هي : مجاميع من النجوم تعرف باسم (مدن النجوم) ، ومع أنّ بعضها قريب من البعض الآخر نسبيا ، إلّا أنّ الفاصلة بين بعضها والبعض الآخر تكون أحيانا ملايين السنين الضوئية.

٤٨٠

الآيات

( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) )

التّفسير

هل أنتم الزارعون أم الله؟

استعرضنا لحدّ الآن أربعة أدلّة من الأدلّة السبعة التي جاء ذكرها في هذه السورة حول المعاد ، والآيات ـ مورد البحث واللاحقة لها ـ تستعرض الأدلّة الاخرى المتبقّية والتي كلّ منها مصداق لقدرة الله اللامتناهية.

فالدليل الأوّل يرتبط بخلق الحبوب الغذائية ، والثاني يرتبط بخلق الماء ، والثالث يتعلّق بالنار. وهذه المحاور تشكّل الأركان الأساسيّة في الحياة الإنسانية ، فالحبوب النباتية أهمّ مادّة غذائية للإنسان ، والماء أهمّ عنصر للحياة ، والنار أهمّ وسيلة لإصلاح المواد الغذائية وسائر امور الحياة الاخرى.

يقول سبحانه في البداية :( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) .

٤٨١

الملفت للنظر هنا أنّ الآية استعملت تعبير (تحرثون) من مادّة (حرث) على وزن (درس) وهو يعني الزراعة ونشر الحبوب وتهيئتها للإنبات ، وفي الآية الثانية كان التعبير بـ (تزرعونه) من مادّة «زراعة» بمعنى النمو والنضج.

ومن البديهي أنّ عمل الإنسان هو الحرث فقط ، أمّا النمو فهو من عمل الله سبحانه فقط ، ولذا نقل في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت ، فإنّ الزارع هو الله»(١) .

شرح هذا الدليل هو أنّ عمل الإنسان في الزرع كعمله في الإنجاب حيث ينثر البذرة ويتركها ، والله سبحانه هو الذي يخلق في وسط هذه البذرة الحياة ، فعند ما توضع البذرة في محيط مهيّأ من حيث التربة والضوء والماء ، فإنّها تستفيد ابتداء من المواد الغذائية المخزونة فيها إلى أن تصبح برعما وتولّد جذرا ، ثمّ تنمو بسرعة عجيبة مستفيدة من المواد الغذائية الموجودة في الأرض حيث تعمل أجهزة عظيمة وتحدث تغييرات عميقة في داخل النبات ، تتمخّض عن أغصان وسيقان وأوراق وثمار وأحيانا تنتج البذرة الواحدة عدّة آلاف من البذور(٢) .

يقول العلماء : إنّ التركيبات الموجودة في بناء نبات واحد أعجب وأعقد بمراتب من التشكيلات الموجودة في مدينة صناعية عظيمة مع معاملها المتعدّدة.

هل أنّ القوّة التي لها مثل هذه القدرة تعجز عن إحياء الموتى مرّة اخرى؟

وفي الآية اللاحقة يؤكّد الدور الهامشي للإنسان في نمو ورشد النباتات فيقول :( لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ) .

نعم ، يستطيع البارئ أن يرسل رياحا سامّة تقتل البذور قبل الإنبات

__________________

(١) القسم الأوّل من الحديث جاء في تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، ونقل القسم الثاني في روح البيان كإضافة عليه.

(٢) بالرغم من أنّ الحبّة الواحدة من الحنطة لا تنبت سوى عدّة مئات من الحبوب ، إلّا أنّه كما قلنا في ج ٢ من هذا التّفسير : أنّه قد وجد في بعض مزارع القمح في إحدى المحافظات الجنوبية لإيران أنّ سنبلة واحدة تحوي على أربعة آلاف حبّة وذلك طبقا لما أعلنته منشورات صحفية.

٤٨٢

وتحطّمها ، أو يسلّط عليها آفة تتلفها بعد الإنبات كالجراد ، أو تنزل عليها صاعقة كبيرة بحيث لا تبقي ولا تذر إلّا شيئا من التبن اليابس ، وعند ذلك تضطربون وتندمون عند مشاهدتكم لمنظرها.

هل كان بالإمكان حدوث مثل هذه الأمور إذا كنتم أنتم الزارعون الحقيقيون؟ إذا فاعلموا أنّ كلّ هذه البركات من مصدر آخر.

«حطام» : من مادّة (حطم) على وزن (حتم) تعني في الأصل كسر الشيء ، وغالبا ما تطلق على كسر الأشياء اليابسة كالعظام النخرة وسيقان النباتات الجافّة ، والمقصود هنا هو التبن.

ويحتمل أيضا أنّ المقصود بالحطام هنا هو فساد البذور في التربة وعدم نموّها(١) .

«تفكّهون» : من مادّة (فاكهة) بمعناها المتعارف ، كما تطلق فكاهة على المزاح وذكر الطرائف التي هي فاكهة جلسات الانس ، ويأتي هذا المصطلح أحيانا للتعجّب والحيرة ، والآية مورد البحث من هذا القبيل.

في بعض الأحيان يضحك الإنسان في الحالة العصبية وتسمّى هذه الضحكة بـ (ضحكة الغضب) كما في المزاح الذي يكون عند الظروف الصعبة والمصائب الثقيلة ، وبناء على هذا فالمقصود : بالفاكهة ـ أحيانا ـ هو المزاح المقترن بالألم.

نعم تتعجّبون وتغمركم الحيرة وتقولون( إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٢) (٣) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) .

وإذا كنتم أنتم الزارعين الحقيقيين ، فهل بإمكانكم أن تمنعوا وتدفعوا عن زرعكم الأضرار والمصير المدمّر والنتيجة البائسة؟ وهذا التحدّي يؤكّد لنا أنّ جميع امور الخلق من الله سبحانه ، وكذلك فإنّه هو الذي ينبت من بذرة لا قيمة لها

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث.

(٢) لجملة( إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) محذوف ، تقديره (وتقولون إنّا لمغرمون).

(٣) «مغرمون» : من مادّة (غرامة) بمعنى الضرر وفقدان الوقت والمال.

٤٨٣

نباتات طريّة وأحيانا مئات أو آلاف البذور منها ، تلك النباتات التي يتغذّى عليها الإنسان بشكل أساسي ويستفيد من أغصانها وأوراقها وأحيانا جذورها وبقيّة أجزائها غذاء للحيوان ودواء للأمراض والأسقام.

* * *

٤٨٤

الآيات

( أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) )

التّفسير

من الذي خلق الماء والنار؟

يشير سبحانه في هذه الآيات إلى سادس وسابع دليل للمعاد في هذا القسم من آيات سورة الواقعة ، التي تبيّن قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، بل في كلّ شيء.

( أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ) .

( أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) .

«مزن» : على وزن (حزن) كما يقول الراغب في المفردات تعني (الغيوم

٤٨٥

البيضاء) وفسّرها البعض بأنّها (الغيوم الممطرة)(١) .

إنّ هذه الآيات تجعل الوجدان الإنساني أمام استفسارات عدّة كي تأخذ إقرارا منه ، حيث يسأل الله سبحانه : هل فكّرتم بالماء الذي تشربونه باستمرار والذي هو سرّ حياتكم؟

وهل تدبّرتم من الذي يأمر الشمس بالشروق على صفحات المحيط حيث تفصل جزئيات الماء الخالص الحلو والطاهر من بين المياه المالحة؟

وهل علمتم من الذي يحمل هذا البخار نحو السماء؟

ومن الذي يأمر البخار بالتجمّع وتشكيل غيوم الأمطار؟

ومن الذي يأمر الرياح بالتحرّك وحمل الغيوم إلى الأراضي القاحلة والميتة؟

ومن الذي يمنح للطبقات العليا في الجوّ هذه الخاصيّة من البرودة بحيث تمنح استمرار صعود البخار نحو الأعلى ، كي يتحوّل البخار إلى قطرات صغيرة وملائمة تسقط على الأرض بهدوء وتعاقب؟

وهل نعلم ماذا سيحدث لو انقطعت الشمس عن الشروق لمدّة سنة واحدة؟

أو توقّفت الرياح عن التحرّك؟

أو رفضت الطبقات العليا حفظ البخار من الصعود إلى الأعلى؟

أو حبسته من النّزول إلى الأرض؟

لا شكّ أنّ الذي سيحدث يمثّل كارثة ، حيث يموت الزرع والنخيل وتهلك مزارعكم وحدائقكم وحيواناتكم ، بل ستهلكون أنتم من الظمأ أيضا.

إنّ القوّة التي أعطت هذه القدرة ومنحت كلّ هذه النعم والبركات العظيمة ، بما أودعته من قوانين ونظم في عالم الخلق ، أتظنّون أنّها غير قادرة على إحياء الموتى؟

__________________

(١) لسان العرب مادّة مزن.

٤٨٦

وهل أنّ إحياء الموتى غير هذا؟

أليس إحياء الأراضي الميتة نوعا من أنواع إحياء الموتى؟

نعم ، إنّه دليل على ذلك ، وهو دليل على التوحيد وعظمة القدرة الإلهيّة ، ودليل أيضا على الحشر والمعاد.

وإذا لاحظنا في الآيات أعلاه عملية استعراض لماء الشرب ـ فقط ـ وعدم التحدّث عن تأثيره في حياة الحيوانات أو النباتات فإنّ السبب هو الأهميّة البالغة للماء في حياة الإنسان نفسه ، بالإضافة إلى أنّه قد أشير له في الآيات السابقة في الحديث الزرع ، لذا لا حاجة لتكرار ذلك.

والطريف هنا أنّ أهميّة الماء وتأثيره في حياة الإنسان تزداد مع مرور الزمن وتقدّم الصناعة والعلم والمعرفة الإنسانية ، فالإنسان الصناعي يحتاج إلى الماء بصورة متزايدة ، لذلك فإنّ كثيرا من المؤسسات الصناعية العظيمة لا تكون لها القدرة على الفاعلية إلّا حينما تكون على ضفاف الأنهار العظيمة.

وأخيرا ـ ولإكمال البحث في الآية اللاحقة ـ يقول سبحانه :( لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ ) (١) .

نعم ، لو أراد الله تعالى ، للأملاح المذابة في مياه البحار أن تتبخّر مع ذرّات الماء ، وتصعد إلى السماء معها وتشكّل غيوما مالحة ومرّة ، وتنزل قطرات المطر مالحة مرّة أيضا كمياه البحر ، فهل هنالك من قوّة تمنعه؟ ولكنّه بقدرته الكاملة لم يسمح للأملاح بذلك ، ولا للمكروبات ـ أيضا ـ أن تصعد إلى السماء مع بخار الماء. ولهذا فإنّ قطرات المطر عند ما يكون الجوّ غير ملوّث تعتبر أنقى وأطهر وأعذب المياه.

«أجاج» : من مادّة (أجّ) على وزن (حجّ) وقد أخذت في الأصل من «أجيج

__________________

(١) في هذه الجملة حذفت اللام وفي التقدير هكذا «لو نشاء لجعلناه».

٤٨٧

النار» يعني اشتعالها واحتراقها ، ويقال «أجاج» للمياه التي تحرق الفمّ عند شربها لشدّة ملوحتها ومرارتها وحرارتها.

نختتم حديثنا هذا بحديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث ذكر الرواة أنّ النّبي كان إذا شرب الماء قال : «الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا»(١) .

وأخيرا نصل إلى سابع ـ وآخر ـ دليل للمعاد في هذه السلسلة من الآيات الكريمة ، وهو خلق النار التي هي أهمّ وسيلة لحياة الإنسان وأكثرها أهميّة له في المجالات الصناعية المختلفة ، حيث يقول سبحانه :( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ) .

«تورون» : من مادّة «ورى» على وزن (نفى) بمعنى الستر ، ويقال للنار التي تكون مخفية في الوسائل التي لها القابلية على الاشتعال والتي تظهر بشرارة «ورى» و «ايراء» ، وخروجها يكون عن.

وتوضيح ذلك : إنّ لإشعال النار وإيجاد الشرارة الاولى ، والتي تستحصل اليوم بواسطة الكبريت والقداحات وما إلى ذلك ، فإنّهم كانوا يحصلون عليها من الحديد والحجر المخصّص للقدح ، حيث تظهر الشرارة بضرب الواحد بالآخر ، أمّا أعراب الحجاز فكانوا يستفيدون من نوعين من الشجر الخاصّ الذي ينمو في الصحراء وهما (المرخ) و (العفار) حيث يأخذون قطعتي خشب ويضعون الاولى أسفل والعفار فوقه فتتولّد الشرارة منها كما تتولّد من الحجر المستعمل للقدح.

وفسّر أغلب المفسّرين الآية بأنّها دليل آخر على قدرة الله البالغة في النار المخفية في خشب الأشجار الخضراء كمولّد للشرر والنار ، في الوقت الذي تكون فيه الأشجار الخضراء مشبّعة بالماء ، فأين الماء؟ وأين النار؟

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٤٨ ، وتفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٢٩.

٤٨٨

هذا الخالق العظيم الذي يتميّز بهذه القدرة ، الذي وضع الماء والنار جنبا إلى جنب الواحد داخل الآخر ، كيف لا يستطيع أن يلبس الموتى لباس الحياة ، ويحييهم في الحشر.

وقد ورد دليل شبيه بهذا حول المعاد في آخر آيات سورة «يس» أيضا يقول تعالى :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) .(١)

ولكن كما ذكرنا في تفسير الآية أعلاه فإنّ تعبير القرآن يمكن أن يكون إشارة إلى دليل أظرف ، وهو حشر وتحرّر الطاقات وانطلاقها.

وبتعبير آخر : فإنّ الحديث هنا ليس فقط عن (القادحات) بل عن المواد التي لديها قابلية الاشتعال ـ كالخشب والحطب ـ حيث تولّد عند احتراقها كلّ هذه الحرارة والطاقة.

وتوضيح ذلك : أنّه ثبت من الناحية العلمية أنّ النار التي نشاهدها اليوم عند احتراق الأخشاب هي نفس الحرارة التي أخذتها الأشجار من الشمس على مرّ السنين وادّخرتها في داخلها ، فنحن نتصوّر أنّ أشعّة الشمس طيلة إشراقها على الشجر خلال خمسين سنة قد ذهبت آثارها غافلين عن أنّ حرارتها قد ادّخرت في الشجرة ، وعند ما تصل شرارة النار إلى الأخشاب اليابسة تبدأ بالاحتراق وتطلق الحرارة الكامنة فيها.

وبذلك يكون هنا أيضا معاد ومحشر وتحيا الطاقات من جديد مرّة اخرى ، ولسان حال الأشجار يقول : إنّ الخالق الذي هيّأ لنا الحشر قادر أن يهيّأ لكم حشرا يا بني البشر. (ولمزيد من الاطلاع في هذا المجال راجعوا البحث المفصّل الذي بيّناه في الآية من سورة يس).

جملة (يورون) ـ بمعنى إشعال النار ـ بالرغم من أنّها فسّرت هنا بما يستفاد

__________________

(١) سورة يس ، الآية ٨٠.

٤٨٩

منه توليد النار ، إلّا أنّه لا مانع من أن تشمل الأشياء المشتعلة أيضا كالحطب باعتباره نارا خفيّة تظهر وقت توفّر الشروط المناسبة لها.

ولا تنافي بين المعنيين ، حيث المعنى الأوّل يفهمه العامّة من الناس ، والثاني أدقّ ، يتوضّح مع مرور الزمن وتقدّم العلم والمعرفة.

وفي الآية اللاحقة يضيف مؤكّدا الأبحاث أعلاه بقوله سبحانه :( نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) .

إنّ عودة النار من داخل الأشجار الخضراء تذكّرنا برجوع الأرواح إلى الأبدان في الحشر من جهة ، ومن جهة اخرى تذكّرنا هذه النار بنار جهنّم.

يقول الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزاء من نار جهنّم»(١) .

أمّا تعبير( مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) فإنّه إشارة قصيرة ومعبّرة للفوائد الدنيوية لهذه النار ، وقد ورد تفسيران لمعنى المقوين :

الأوّل : أنّ (مقوين) من مادّة (قواء) على وزن (كتاب) بمعنى الصحراء اليابسة المقفرة ، ولهذا أطلقت كلمة (المقوين) على الأشخاص الذين يسيرون في الصحاري ، ولأنّ أفراد البادية فقراء ، لذا فقد جاء هذا التعبير بمعنى «الفقير» أيضا.

والتّفسير الثاني : أنّ (مقوين) من مادّة (قوّة) بمعنى أصحاب القوّة ، وبناء على هذا فإنّ المصطلح المذكور هو من الكلمات التي تستعمل بمعنيين متضادّين(٢) .

صحيح أنّ النار هي مورد استفادة الجميع ـ ولكن المسافرين يستفيدون منها ويعتمدون عليها في الدفء والطهي وخاصّة في أسفارهم في الأزمنة القديمة أكثر من الآخرين.

واستفادة «الأقوياء» من النار واضحة أيضا ، وذلك لاتّساع المجالات التي

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٩٢ ، وتفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٣١.

(٢) من الجدير بالملاحظة أنّ كلمة (متاع) تطلق على كلّ وسيلة يستفيد منها الإنسان في حياته.

٤٩٠

يستعلمون النار فيها في امور حياتهم المختلفة ، خصوصا مع اتّساع دائرة البحث العلمي كما في عالمنا المعاصر ، حيث إنّ الحرارة الناشئة من أنواع النار تحرّك عجلة المصانع العظيمة ، وإذا ما تعطّلت هذه الوسيلة المهمّة وانطفأت شعلتها العظيمة ـ والتي جميعها من الشجر ـ بما في ذلك النار المأخوذة من الفحم الحجري أو المواد النفطية حيث ترجع إلى النباتات بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ فإنّها ستتعطّل الحياة المدنية ، بل وستنطفئ حياة الإنسان أيضا.

وبدون شكّ فإنّ النار من أهمّ كتشافات البشر ، في حين أنّ الله تعالى هو الذي أوجدها ودور الإنسان فيها بسيط وعادي جدّا.

لقد قفز اكتشاف النار بالإنسانية مرحلة مهمّة حيث بدأت تسير من ذلك الوقت في مراحل جديدة من التمدّن والرقي.

نعم هذه الحقائق جميعا عبّر عنها القرآن الكريم بجملة قصيرة :( نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) .

وممّا يجدر ذكره أنّ الآية أعلاه استعرضت في البداية الفوائد المعنوية للنار ، والتي تذكّرنا بيوم القيامة ، والتي هي محور الحديث في هذا البحث ، ثمّ انتقلت إلى ذكر تفاصيل الفوائد الدنيوية لها ، لأنّ للناحية الاولى أهميّة أكثر ، بل تمثّل الأصل والأساس في البحث.

بعد ذكر النعم الثلاث (الحبوب الغذائية ، والماء ، والنار) والتي روعي ترتيب أهميّتها وفق تسلسل طبيعي ـ لأنّ اهتمام الإنسان يبدأ أوّلا بالحبوب الغذائية ثمّ يمزجها بالماء ومن ثمّ يطهوها ويهيّؤها للغذاء بواسطة النار ـ يستنتج سبحانه نتيجة مهمّة بعد ما ركّز على أهميّة هذه النعم للإنسان وذلك بتسبيحه والشكر له تعالى باعتباره المصدر الوحيد لهذه النعم فيقول سبحانه في آخر آية مورد

٤٩١

البحث :( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (١) .

نعم ، إنّ الله الذي خلق كلّ هذه النعم ، والتي كلّ منها تذكّرنا بقدرته وتوحيده وعظمته ومعاده ، لائق للتسبيح والتنزيه من كلّ عيب ونقص.

إنّه ربّ ، وكذلك فإنّه «عظيم» وقادر ومقتدر ، وبالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ من الواضح أنّ جميع البشر هم المقصودون.

* * *

تعقيب

من المناسب هنا الإشارة إلى بعض الأحاديث الشريفة ـ حول الآيات أعلاه ـ عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عن الإمام عليعليه‌السلام .

أوّلا : نقرأ في تفسير روح المعاني حديثا للإمام عليعليه‌السلام أنّه في إحدى الليالي كان الإمام يصلّي ويقرأ سورة الواقعة ـ ولمّا وصل إلى الآية :( أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) قال ثلاث مرّات : بعد انتهاء صلاته «بل أنت يا ربّ» وعند ما وصل إلى الآية :( أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) قال ثلاث مرّات «بل أنت يا ربّ» وعند ما وصل إلى قوله تعالى :( أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) قال ثلاث مرّات أيضا «بل أنت يا ربّ» ثمّ تلا قوله تعالى :( أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ) قل ثلاث مرّات «بل أنت يا ربّ»(٢) .

وموضع العبرة في هذا الحديث هي ضرورة ملاحظة هذه الآيات التي وردت في القرآن الكريم بعنوان استفهام تقريري وأن يعطي الإنسان جوابا إيجابيا لله

__________________

(١) الباء في (باسم ربّك) يمكن أن تكون للتعدية (حيث إنّ الفعل المتعدّي سبّح يؤخذ بمنزلة اللازم) واحتمل البعض أيضا أنّ الباء هنا جاءت للاستعانة أو زائده أو ملابسة ، إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

(٢) تفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٣٠.

٤٩٢

سبحانه الذي يتحدّث معه لتركيز هذه الحقائق في روحه ونفسه ، وعليه أن يتعمّق في ذلك من خلال القراءة المتدبّرة الواعية ، ولا يقتنع بالتلاوة الفارغة.

ثانيا : جاء في حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا تمنعوا عباد الله فضل ماء ولا كلأ ولا نار فإنّ الله تعالى جعلها متاعا للمقوين ، وقوّة للمستضعفين»(١) .

ثالثا : ونقرأ في حديث آخر أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال حينما نزلت الآية الكريمة :( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) : «اجعلوها في ركوعكم»(٢) ، أي قولوا في ركوعكم : سبحان ربّي العظيم وبحمده.

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦١.

(٢) ذكر هذا الحديث المرحوم الطبرسي في مجمع البيان بكونه حديثا صحيحا ، ج ٩ ، ص ٢٢٤ ، وجاء أيضا في كتاب (من لا يحضره الفقيه) مطابقا لنقل نور الثّقلين ، ج ٥ ، ص ٢٢٥ ، وكذلك في تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦٨.

٤٩٣

الآيات

( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) )

التّفسير

المطهّرون ومعرفة أسرار القرآن :

استمرارا للأبحاث التي جاءت في الآيات السابقة ، والتي تركّز الحديث فيها حول الأدلّة السبعة الخاصّة بالمعاد ، ينتقل الحديث الآن عن أهميّة القرآن الكريم باعتباره يشكّل مع موضوع النبوّة ركنين أساسيين بعد مسألة المبدأ والمعاد والتي بمجموعها تمثّل أهمّ الأركان العقائدية ، فبالإضافة إلى أنّ للقرآن الكريم أبحاثا عميقة حول أصلي التوحيد والمعاد ، فإنّه يعتبر تحكيما لهذين الأصلين.

يبدأ الحديث بقسم عظيم ، حيث يقول سبحانه :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) .

يعتقد الكثير من المفسّرين أن (لا) التي جاءت هنا ليست بمعنى النفي حيث إنّها زائدة وللتأكيد ، كما جاء نفس هذا التعبير في الآيات القرآنية الاخرى حول

٤٩٤

القسم بيوم القيامة والنفس اللوامة وربّ المشارق والمغارب والشفق ، وما إلى ذلك.

في الوقت الذي اعتبر البعض الآخر أنّ (لا) هنا جاءت للنفي ، حيث قالوا : إنّ المطلب (مورد القسم) أهمّ من أن يقسم به ، كما نقول في تعبيراتنا اليوميّة : نحن لا نقسم بالموضوع الفلاني ، أي نفي القسم وأنّ (لا) هنا جاءت إشارة لذلك.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر ، لأنّه قد ورد في القرآن الكريم القسم بالله صراحة ، فهل أنّ النجوم أفضل من الذات الإلهيّة حتّى لا يقسم بها؟

وحول (مواقع النجوم) فقد ذكر المفّسرون تفسيرات عديدة لها :

الأوّل : هو المعنى المتعارف عليه من حيث مداراتها وأبراجها ومسيرها.

والآخر : هو أنّ المقصود بذلك مواقع طلوعها وغروبها.

والثّالث : هو سقوط النجوم في الحشر والقيامة.

وفسّرها آخرون : بأنّ معناه هو غروب النجوم فقط.

واعتبرها آخرون إشارة وانسجاما مع قسم من الرّوايات حول نزول آيات وسور القرآن الكريم في فواصل زمنية مختلفة ، وذلك لأنّ «النجوم» جمع نجمة تستعمل للأعمال التي تنجز بصورة تدريجيّة.

وبالرغم من أنّ المعاني لا تتنافي حيث يمكن جمعها في الآية أعلاه ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر ، وذلك لأنّ أكثر الناس كانوا لا يعلمون أهميّة هذا القسم عند نزول الآيات ، بعكس الحالة اليوم ، والتي توضّح لنا أنّ لكلّ نجمة من النجوم مكانها المخصّص ومدارها ومسارها المحدّد لها بدقّة وحساب ، وذلك طبقا لقانون الجاذبية ، وإنّ سرعة السير لكلّ منها محدّدة أيضا وفق قانون معيّن وثابت.

وهذه المسألة بالرغم من أنّها غير قابلة للحساب بصورة دقيقة في الأجرام

٤٩٥

السماوية البعيدة ، إلّا أنّ المجاميع الموجودة في المنظومة الشمسية التي تشكّل النجوم القريبة لنا ، قد درست بدقّة وتبيّن أنّ نظام مداراتها دقيق إلى حدّ مدهش.

وعند ما يلاحظ الإنسان ـ طبقا لتصريحات العلماء ـ أنّ في (مجرّتنا) فقط ألف مليون نجمة ، وتوجد في الكون مجرّات كثيرة ، وكلّ واحدة منها لها مسار خاصّ ، عندئذ ستتوضّح لنا أهميّة هذا القسم القرآني.

ونقرأ في كتاب (الله والعلم الحديث) ما يلي :

«يعتقد العلماء الفلكيون أنّ هذه النجوم التي تتجاوز الملياردات ، والتي نرى قسما منها بالعين المجرّدة ، والقسم الكثير منها لا يمكن رؤيته إلّا بالتلسكوبات بل إنّ قسما منها لا نستطيع مشاهدته حتّى بالتلسكوبات ، اللهمّ إلّا بوسائل خاصّة نستطيع أن نصوّرها بها.

كلّ من هذه النجوم تدور في مدارها الخاصّ ، ولا يوجد أي احتمال أنّ واحدة منها تكون في حقل الجاذبية لنجمة اخرى. أو أنّ بعضها يصطدم بالبعض الآخر ، وفي الواقع أنّ حالة التصادم المفترضة مثل ما لو افترضنا أنّ سفينة في المحيط الهاديء تصطدم مع سفينة اخرى تجري في البحر الأبيض المتوسّط وكلّ منها سائرة بموازاة الاخرى وبسرعة واحدة إنّ هذا الأمر لو لم يكن محالا فهو بعيد جدّا. كذلك الأمر بالنسبة للنجوم حيث أنّ كلا منها لها مدارها الخاصّ بها ولن تصطدم بالأخرى رغم السرعة الهائلة لكلّ منها»(١) .

وبالنظر إلى هذه الاكتشافات العلمية عن وضع النجوم ، تتوضّح أهميّة القسم أعلاه ، ولهذا السبب فإنّه تعالى يضيف في الآية اللاحقة :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) .

التعبير بـ( لَوْ تَعْلَمُونَ ) يوضّح وبشكل جليّ أنّ معرفة البشر في ذلك الزمان

__________________

(١) الله والعلم الحديث ، ص ٣٣.

٤٩٦

لم تدرك هذه الحقيقة بصورة كاملة ، وهذه بحدّ ذاتها تعتبر إعجازا علميّا للقرآن الكريم ، حيث في الوقت الذي كانت تعتبر النجوم عبارة عن مسامير فضائية رصّعت السماء بها فانّ مثل هذا البيان القرآني الرائع في ظلّ ظروف وأوضاع يخيّم عليها الجهل ، محال أن يصدر من بشر عادي.

وتوضّح الآية اللاحقة ما هو المقصود من ذكر هذا القسم؟ حيث يقول سبحانه :( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّه يردّ على المشركين المعاندين الذين يصرّون باستمرار على أنّ هذه الآيات المباركة هي نوع من التكهّن ـ والعياذ بالله ـ أو أنّه حديث جنوني أو شعر ، أو أنّه من قبل الشيطان فيردّ عليهم سبحانه بأنّه وحي سماوي وحديث بيّن وعظمته وأصالته لا غبار عليها ، ومحتواه يعبّر عن مبدأ نزوله ، وأنّ هذا الموضوع واضح بحيث لا يحتاج لبيان المزيد.

إنّ وصف القرآن بـ «الكريم» (بما أنّ الكرم بالنسبة لله هو : الإحسان والإنعام ، ويستعمل للبشر بمعنى اتّصاف الشخص بالأخلاق والإحسان ، وبصورة عامّة فهو إشارة إلى المحاسن العظيمة)(١) إشارة للجمال الظاهري للقرآن من حيث الفصاحة وبلاغة الألفاظ والجمل ، وكذلك فإنّها إشارة لمحتواه الرائع ، لأنّه نزل من قبل مبدأ ومنشأ كلّه كمال وجمال ولطف.

نعم ، إنّ القرآن كريم وقائله كريم ومن جاء به كذلك ، وأهدافه كريمة أيضا.

ثمّ يستعرض الوصف الثاني لهذا الكتاب السماوي العظيم حيث يقول تعالى :( فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) .

إنّه في «لوح محفوظ» في علم الله ، محفوظ من كلّ خطأ وتغيير وتبديل ، وطبيعي أنّ الكتاب الذي يستلهم مفاهيمه وأفكاره من المبدأ الأعلى وأصله عند

__________________

(١) الراغب في المفردات مادّة (كريم).

٤٩٧

الله ، فإنّه مصون من كلّ تحريف وخطأ واشتباه.

وفي ثالث وصف له يقول سبحانه :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (١) .

ذكر الكثير من المفسّرين ـ تماشيا مع بعض الرّوايات الواردة عن الأئمّة المعصومين ـ بعدم جواز مسّ (كتابة) القرآن الكريم بدون غسل أو وضوء.

في الوقت الذي اعتبر بعض آخر أنّها إشارة إلى الملائكة المطهّرين الذين لهم علم بالقرآن ، ونزلت بالوحي على قلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقابل قول المشركين الذين كانوا يقولون : إنّ هذه الكلمات قد نزلت بها الشياطين على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كما اعتبر بعضهم أنّها إشارة إلى أنّ الحقائق والمفاهيم العالية في القرآن الكريم لا يدركها إلّا المطهّرون ، كما في قوله تعالى :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .(٢)

وبتعبير آخر فإنّ طهارة الروح في طلب الحقيقة تمثّل حدّا أدنى من مستلزمات إدراك الإنسان لحقائق القرآن ، وكلّما كانت الطهارة والقداسة أكثر كان الإدراك لمفاهيم القرآن ومحتوياته بصورة أفضل.

إنّ التفاسير الثلاثة المارّة الذكر لا تتنافى مع بعضها البعض أبدا ويمكن جمعها في مفهوم الآية مورد البحث.

وفي رابع وآخر وصف للقرآن الكريم يقول تعالى :( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) (٣) إنّ الله المالك والبارئ لجميع الخلق ، قد نزّل هذا القرآن لهداية البشر ، وقد أنزله سبحانه على قلب النّبي الطاهر ، وكما أنّ العالم التكويني صادر منه وهو تعالى ربّ العالمين فكذلك الحال في المجال التشريعي ، فكلّ نعمة وهداية فمن ناحيته ومن عطائه.

__________________

(١) «لا يمسّه» جملة خبرية يمكن أن تكون بمعنى النهي أو النفي.

(٢) البقرة ، ٢.

(٣) تنزيل هنا مصدر بمعنى اسم مفعول أي (منزل) وهو خبر لمبتدأ محذوف ، أو أنّه خبر بعد خبر.

٤٩٨

ثمّ يضيف سبحانه :( أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ) هل أنتم بهذا القرآن وبتلك الأوصاف المتقدّمة تتساهلون ، بل تنكرونه وتستصغرونه في حين تشاهدون الأدلّة الصادقة والحقّة بوضوح ، وينبغي لكم التسليم والقبول بكلام الله سبحانه بكلّ جديّة ، والتعامل مع هذا الأمر كحقيقة لا مجال للشكّ فيها.

عبارة «هذا الحديث» في الآية الكريمة إشارة للقرآن الكريم ، و «مدهنون» في الأصل من مادّة (دهن) بالمعنى المتعارف عليه ، ولأنّ الدهن يستعمل للبشرة وامور اخرى ، فإنّ كلمة (أدهان) جاءت بمعنى المداراة والمرونة ، وفي بعض الأحيان بمعنى الضعف وعدم التعامل بجدية ولأنّ المنافقين والكاذبين غالبا ما يتّصفون بالمداراة والمصانعة ، لذا استعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى التكذيب والإنكار ، ويحتمل أن يكون المعنيان مقصودان في الآية.

والأصل في الإنسان أن يتعامل بجديّة مع الشيء الذي يؤمن به ، وإذا لم يتعامل معه بجديّة فهذا دليل على ضعف إيمانه به أو عدم تصديقه.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يقول سبحانه إنّكم بدلا من أن تشكروا الله تعالى على نعمه ورزقه وخاصّة نعمة القرآن الكبيرة ، فانّكم تكذّبون به :( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) (١) .

قال البعض : إنّ المقصود أنّ استفادتكم من القرآن هي تكذيبكم فقط ، أو أن التكذيب تجعلونه وسيلة لرزقكم ومعاشكم(٢) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مناسب للآيات السابقة ولسبب النّزول أكثر من التّفسيرين الأخيرين.

وانسجاما مع هذا الرأي فقد نقل كثير من المفسّرين عن ابن عبّاس قوله :

__________________

(١) طبقا لهذا التّفسير فإنّ كلمة (شكر) هنا محذوفة وتقديرها كالتالي : «وتجعلون شكر رزقكم أنّكم تكذّبون» ، أو أنّ الرزق كناية عن (شكر الرزق).

(٢) طبقا لهذين التّفسيرين فلا يوجد شيء مقدّر.

٤٩٩

أصاب الناس عطش في بعض أسفارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسقوا ، فسمع رجلا يقول : مطرنا بنوء كذا ، فنزلت الآية (لأنّ العرب كانوا يعتقدون في الجاهلية بالأنواء وأنّ لها الأثر في نزول المطر ، ويقصد بها النجوم التي تظهر بين آونة واخرى في السماء ، وأنّ ظهورها يصاحبه نزول المطر ، كما يعتقدون ، ولهذا يقولون : مطرنا بنوء كذا ، أي ببركة طلوع النجم الفلاني ، وهذا بذاته أحد مظاهر الشرك الجاهلي وعبادة النجوم)(١) .

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّه جاء في بعض الرّوايات عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه فلّما كان يفسّر الآيات ، وإجمالا كان يتصدّى للتفسير عند ما تستلزم الضرورة ، كما في هذا المورد حيث أخبرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ المقصود من( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) «وتجعلون شكركم أنّكم تكذّبون»(٢) .

* * *

تعقيب

أوّلا : خصوصية القرآن الكريم

يستنتج من الأوصاف الأربعة ـ التي ذكرت في الآيات أعلاه ـ حول القرآن ، أنّ عظمة القرآن هي في عظمة محتواه من جهة ، وعمق معناه من جهة اخرى ، ومن جهة ثالثة فإنّ القداسة القرآنية لا يستوعبها إلّا الطاهرون والمؤمنون ، ومن جهة رابعة : في الجانب التربوي المتميّز فيه ، لأنّه نزل من ربّ العالمين ، وكلّ واحدة من هذه الصفات تحتاج إلى بحث مفصّل أوضحناه في نهاية الآيات المناسبة لكلّ موضوع.

__________________

(١) نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ونقل أيضا في الدّر المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦٣ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٩٨ : والمراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٥٢ ، وروح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٥٣ في نهاية الآيات مورد البحث باختلاف يسير.

(٢) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٦٣ ، ونور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٢٧.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624