الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204083 / تحميل: 6082
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

فتراها تسير باتجاه معين من الزمن ثمّ تعود قليلا ومن ثمّ تتابع مسيرها الأوّل وهكذا ولهؤلاء العلماء من البحوث العلمية في تحليل هذه الظاهرة.

وعليه يمكن حمل إشارة الآيات إلى الكواكب السيّارة «الجوار» ، التي في سيرها لها رجوع «الخنس» ، ثمّ تختفي عند طلوع الفجر وشروق الشمس فهي تشبه غزالا يتصيد طعامه في الليل وما أن يحّل النهار حتى يختفي عن أنظار الصيادين والحيوانات المفترسة فيذهب إلى «كناسه» ، ولذا وصفت الكواكب بـ «الكنّس» ،.

وثمّة احتمال آخر : «الكنّس» : اختفاء الكواكب في ضوء الشمس.

أي إنّها حينما تدور حول الشمس ، تصل في بعض الوقت إلى نقطة مجاورة للشمس فيختفي نورها تماما عن الأبصار ، وهو ما يعبّر عنه علماء الفلك بـ (الاحتراق).

و «الكنّس» : في نظر بعض آخر : إشارة إلى دخول الكواكب في البروج السماوية ، وذلك الدخول يشبه اختفاء الغزلان في أماكن أمنها.

وكما هو معروف ، إنّ كواكب مجموعتنا الشمسية لا تنحصر بهذه الكواكب الخمس ، بل ثمة ثلاثة كواكب أخرى (أورانوس ، بلوتون ، نبتون) ولكنّها لا ترى بالعين المجرّدة لبعدها عنّا ، وللكثير من هذه السيّارات قمرا أو أقمارا ، ، فعدد كواكب هذه المجموعة بالإضافة إلى الأرض هو تسعة كواكب.

و «الجوري» : توصيف جميل لحركة الكواكب ، حيث شبّه بحركة السفن على سطح البحر.

وعلى أيّة حال ، فكأنّ القرآن الكريم يريد بهذا القسم المليء بالمعاني الممتزجة بنوع من الإبهام ، كأنّه يريد إثارة الفكر الإنساني ، وتوجيهه صوب الكواكب السيّارة ذات الوضع الخاص على القبة السماوية ، ليتأمل أمرها وقدرة وعظمة خالقها سبحانه وتعالى.

٤٦١

وثمّة احتمالات أخرى في هذا الموضوع أهملناها لضعفها.

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآيات المذكورة : «هي خمسة أنجم : زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد»(١) .

ويعرض لنا القرآن لوحة أخرى :( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ) .

«عسعس» : من (العسعسة) ، وهي رقة الظلام في طرفي الليل (أوله وآخره) ومنه اطلاق لفظ «عسس» على حرّاس الليل ، وبالرغم من اطلاق هذه المفردة على معنيين متفاوتين ، ولكن المراد منها في هذه الآية هو آخر الليل فقط بقرينة الآية التالية لها ، وهو ما يشابه القسم الوارد في الآية (٣٣) من سورة المدثر :( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) .

والليل ، من النعم الإلهية الكبيرة ، لأنّه : سكن للروح والجسم ، معدّل لحرارة الشمس ، وسبب لإدامة حياة الموجودات أمّا التأكيد على نهايته فيمكن أن يكون بلحاظ كونه مقدمة استقبال نور الصباح ، إضافة لما لهذا الوقت بالذات من فضل كبير في حال العبادة والمناجاة والدعاء ، ويمثل هذا الوقت أيضا نقطة الشروع بالحركة والعمل في عالم الحياة.

ويأتي القسم الثّالث والأخير من الآيات :( وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ) .

فما أروع الوصف وأجمله! فالصبح كموجود حي قد بدأ أوّل أنفاسه مع طلوع الفجر ، ليدّب الروح من جديد في كلّ الموجودات ، بعد أن تقطعت أنفاسه عند حلول ظلام الليل!

ويأتي هذا الوصف في سياق ما ورد في سورة المدّثّر ، فبعد القسم بإدبار الليل ، قال :( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) ، فكأنّ الليل ستارة سوداء قد غطت وجه الصبح ، فما أن أدبر الليل حتى رفعت تلك الستارة فبان وجه الصبح مشرقا ، وأسفر

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٤٤٦.

٤٦٢

للحياة من جديد.

وتجسّد الآية التالية جواب القسم للآيات السابقة :( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) .

فالجواب موجّه لمن اتّهم النبّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باختلاق القرآن ونسبته إلى الباري جلّ شأنه.

وقد تناولت وما بعدها خمسة أوصاف لأمين وحي الله جبرائيلعليه‌السلام ، وهي الأوصاف التي ينبغي توفرها في كلّ رسول جامع لشرائط الرسالة

فالصفة الأولى : إنّه «كريم» : إشارة إلى علو مرتبته وجلالة شأنه.

ومن صفاته أيضا :( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) (١) .

«ذي العرش» : ذات الله المقدّسة. مع أنّ الله مالك كلّ عالم الوجود ، فقد وصف «بذي العرش» لما للعرش من أهمية بالغة على على غيره (سواء كان العرش بمعنى عالم ما وراء الطبيعة ، أو بمعنى مقام العلم المكنون).

أمّا وصفه بـ «ذي قوّة» (أي : صاحب قدرة) ، لما للقدرة العظيمة والقوّة الفائقة من دور مهم وفعّال في عملية حمل وإبلاغ الرسالة ، وعموما ينبغي لكل رسول أن يكون صاحب قدرة معينة تتناسب وحدود رسالته ، وعلى الإخلاص في مجال عدم نسيان ما يرسل به.

«مكين» : صاحب منزلة ومكانة ، وبدون ذلك لا يتمكن الرسول من أداء رسالته على أتمّ وجه ، فلا من كونه شخصا جليلا ، لائقا ، ومقربا للمرسل.

وممّا لا شك فيه إنّ التعبير بـ «عند» لا يراد منه الحضور المكاني ، لأنّ الباري جل شأنه لا يحده مكان ، والمراد هو الحضور المقامي والقرب المعنوي.

وتتناول الآية التالية الصفة الرابعة والخامسة :( مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) .

«ثمّ» : إشارة إلى البعيد ، ويراد بها : إنّ أمين الوحي الإلهي نافذ الكلمة في

__________________

(١) «مكين» : (المكانة) ، وهي المقام والمنزلة ، وما يستفاد من مفردات الراغب وغيره من المفسّرين ، إنّه اسم مكان من (الكون) ولكثرته في الكلام فقد استعمل على صيغة الفعل فقيل : (تمكن) و (تمسكن).

٤٦٣

عالم الملائكة ، ومطاع عندهم ، وإنّه في ذروة الأمانة في عملية إبلاغ الرسالة.

وما نستشفّه من الرّوايات : إنّ جبرائيلعليه‌السلام ينزل أحيانا وبصحبته جمع كبير من الملائكة في حال إبلاغه للآيات القرآنية المباركة ، وهو ما يوحي بأنّه مطاع بينهم ، وهو ما ينبغي أن يكون في كل أمّة تتبع رسولا ، فلا بدّ من طاعتها له.

وروي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لجبرائيلعليه‌السلام عند نزول هذه الآيات : «ما أحسن ما أثنى عليك ربّك! : ذي قوّة عند العرش مكين ، مطاع ثمّ أمين ، فما كانت قوتك؟ وما كانت أمانتك؟

فقال : أمّا قوّتي فإنّي بعثت إلى مداين لوط وهي أربع مداين في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري ، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصواب الدجاج ونباح الكلاب ، ثم هويت بهّن فقلبتهّن. وأمّا أمانتي ، فإنّي لم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره»(١) .

وينفي القرآن ما نسب إلى النبّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) .

«الصاحب» : هو الملازم والرفيق والجليس ، والوصف هذا مضافا الى أنّه يحكي عن تواضع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جميع الناس فلم يرغب يوما في الاستعلاء على أحد منكم ، فإنّه قد عاش بينكم حقبة طويلة ، وجالسكم ، فلمستم عن قرب رجاحة عقله وحسن درايته وأمانته ، فكيف تنسبون له الجنون؟!

وكلّ ما في الأمر إنّه قد جاءكم بعد بعثته بتعاليم تخالف تعصبكم الأعمى وتحارب أهواءكم الجاهلية ، فما راق لكم الانضباط والترابط ، وحبذتم الانفلات والتراخي ، فوليتم الأدبار عن تعاليمه الربانية ونسبتم إليه الجنون ، فرارا من هدي دعوته المباركة!

ونسبة الجنون إلى النبّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بالشيء الجديد في مسير دعوة السماء

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٦ ، وورد هذا المضمون في تفسير (الدر المنثور) في ذيل الآية المبحوثة.

٤٦٤

فقد واجه جميع أنبياء اللهعليهم‌السلام هذا الافتراء الفارغ من قبل جهلة وكفرة عصورهم ، وقد حدثنا القرآن الكريم بتلك الوقائع :( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) (١) .

فالعاقل في منطق الجاهلية ، من يخضع للعادات والتقاليد المعاشة وإن كانت فاسدة منحطة ، ومن يطلق لجماح أهواءه وشهواته العنان ، ومن لا يفكر بأيّ إصلاح أو تغيير لأنّه خروج على السائد المتعارف عليه!

وبناء على هذا المقياس الأعمى فكلّ الأنبياء في نظر عبدة الدنيا مجانين

ويؤكّد القرآن على الارتباط الوثيق ما بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجبرائيلعليه‌السلام :( وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ) ، وهو «الأفق الأعلى» الذي تظهر فيه الملائكة ، حيث شاهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرائيلعليه‌السلام .

وقد استدلّ بعض المفسّرين بالآية (٧) من سورة النجم على التفسير أعلاه ، والتي تقول :( وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ) .

ولكننا نرى أنّ الآية مع بقية آيات السورة تتحدث عن حقيقة أخرى ، فراجع إلى ما ذكرناه في تفسيرنا هذا.

وقال بعض : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رأى جبرائيلعليه‌السلام في صورته الحقيقة مرّتين ، الأولى عند بداية البعثة النبوية المباركة ، حيث ظهر له في الأفق الأعلى وقد غطى الشرق والغرب حتى بهر النبيّ بعظمة هيئته ، والثّانية رآه عند معراجه إلى السماوات العلى واعتبروا الآية المبحوثة إشارة لتلك الرؤيتين.

وثمّة من يذهب في تفسير الآية من كونها تشير إلى مشاهدة اللهعزوجل بالشهود الباطني ، (ولمزيد من الإيضاح ، راجع ذيل الآيات (٥ ـ ١٣) من سورة النجم).

وتأتي الصفة الخامسة :( وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ) .

__________________

(١) الذاريات : الآية ٥٢.

٤٦٥

فهو ليس ممن يقبرون في صدورهم ممّا يوحى إليه ، ولا يبخل ولا يتوانى عن الإبلاغ ويوصله إلى كلّ الناس كاملا وبأمانة.

«ضنين» : من (ضنّة) على وزن (منّة) ، أي : البخل بالأشياء الثمينة والنفيسة ، فالأنبياءعليهم‌السلام منزّهون عن ذلك ، وإذا ما بخل الآخرون بما صار في حوزتهم من علم محدود ، فالنّبي فوق ذلك وأنزه مع ماله من منبع علم إلهي.

وتقول آخر الآيات المبحوثة :( وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) .

فالآيات القرآنية ليست كحديث الكهنة الذي يأخذوه من الشياطين ، ودليلها معها ، حيث أنّ حديث الكهنة محشو بالأكاذيب والتناقضات ، ويدور حول محور ميولهم ورغباتهم ، في حين لا يشاهد ذلك في الآيات القرآنية إطلاقا.

والآية تجيب على إحدى افتراءات المشركين ، حين اتهموا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه كاهن وكلّ ما جاء به قد أخذه من الشياطين! فحديث الشيطان! لا يتعدى أن يكون باطلا وضلالا في حين أنّ الآيات الرّبانية كلّها نور وهداية ، وهذا ما يشعر به كلّ من يواجه القرآن ومنذ وهلته الأولى.

«رجيم» : من (الرجم) ، و (رجام) على وزن (لجام) بمعنى أخذ الحجارة ، وتطلق على رمي الحجار على الأشخاص أو الحيوانات ، ويستعار الرجم للرمي بـ : الظّن ، التوهم ، الشتم والطرد ، و «الشيطان الرجيم» بمعنى المطرود من رحمة الله.

* * *

بحث

مؤهلات الرّسول :

الصفات الخمسة التي ذكرتها الآيات المباركة جبرائيلعليه‌السلام باعتباره رسول الوحي الإلهي إلى النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هي ذات الصفات التي ينبغي توفرها في كلّ رسول ، وبما يناسب نوع ودرجة رسالته.

٤٦٦

فلكي يكون الرسول لائقا لحمل الرسالة ، لا بدّ من تحلّيه بركائز أخلاقية ونفسية عالية ، أي يكون «كريما» محترما.

ولا بدّ من كونه قادر متمكن «ذي قوّة» ، حتى يتمكن من إبلاغ رسالته بكل ما تحمل ، ومن دون أن يصيبه أيّ ضعف أو فتور أو هوان.

وينبغي أن تكون ذو منزلة رفيعة ومقام مرموق عند المرسل ، «مكين» ، لكي يكون طبيعيا مستقرا في استلامه الرسالة ، ولا يناله أيّ خوف أو ارتباك في حال إيصاله لأجوبة الرسالة إلى أيّ كان.

ومن المؤهلات اللازمة ، أن يكون له أعوان ويطيعونه بأمر الرسالة ، ولا يتخاذلون عن طاعته ، «مطاع».

وأخيرا ، لا بدّ من كونه «أمينا» في النقل ، ليعتمد المرسل عليه فيما يريد أن يوصله إليه من الرسالة ، فلا بدّ من الأمانة بكلّ معناها والابتعاد عن الخيانة ولو بأدنى زواياها.

فمتى ما توفرت المؤهلات اللازمة للرسول فيه كان جديرا بأداء حق الرسالة ، ولذلك نرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينتخب رسله بدقة من بين أصحابه ، وأفضل نموذج حي لذلك ، إرساله أمير المؤمنينعليه‌السلام بإيصال الآيات الأولى من سورة براءة إلى مشركي مكّة ، في ظروف قد شرحناها عند تفسيرنا لتلك السورة.

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «رسولك ترجمان عقلك ، وكتابك أبلغ ما ينطق عنك»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة : الكلمات القصار (٣٠١).

٤٦٧

الآيات

( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩) )

التّفسير

إلى اين أيّها الغافلون؟!

أكّدت الآيات السابقة ببيان جلي حقيقة كون القرآن كلام الله فمحتواه ينطق عن كونه كلاما رحمانيا وليس شيطانيا ، وقد نزل به رسول كريم مقتدر وأمين ، وقام بتبليغه النّبي الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لم يبخل في البلاغ في شيء ، وما تهاون عن تعليم الناس فيما أرسل به.

فيما توبخ الآيات أعلاه أولئك الذين عادوا القرآن وانحرفوا عن خطّ سير الرسالة الربّانية الهادية ، فتقول لهم بصيغة الاستفهام التوبيخي :( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) .

لم تركتم طريق الهداية؟! أو من العقل أن تصدّوا عن النور وتتجهوا صوب الظلام؟! ألا ترحمون أنفسكم؟! وكيف تعملون على هدم أركان سعادتكم وسلامتكم؟!

٤٦٨

وتأتي الآية الثّانية لتقول :( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ )

فالآية تتحدث بلسان الوعظ والتذكير ، عسى أن يستيقظ من تملكه نوم غفلته.

لا يمكن للهداية والتربية أن تؤدّي فعلها بوجود المرشد الناحج فقط ، بل لا بدّ من توفر عنصر الاستعداد وتقبل الهداية من قبل الطرف الآخر ، ولذلك فبعد الوعظ والتذكير جاءت الآية التالية لتبيّن هذه الحقيقة :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) .

فالآية الاولى :( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) قد ذكرت عمومية الفيض الإلهي في القرآن الكريم ، فيما خصصت الآية التالية :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) عملية الاستفادة من هذا الفيض الجزيل وحددته بشرط الاستقامة.

وهذه القاعدة جارية في جميع النعم والمواهب الإلهية في العالم ، فإنّها عامّة التمكين ، خاصّة الاستفادة ، فمن لا يملك الإرادة والتصميم على ضوء الهدي القرآني لا يستحق فيض رحمة الله ونعمه.

والآية الثّانية من سورة البقرة :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) تدخل في سياق هذا المعنى.

وعلى أيّة حال ، فالآية تؤكّد مرّة اخرى على حرية الإنسان في اختياره الطريق الذي يرضاه ، سواء كان طريق حقّ ، أم طريق باطل.

ويفهم من «يستقيم» ، أنّ طريق السعادة الحقّة ، طريق مستقيم ، وما دونه لا يكون كذلك ، ولولا الإفراط والتفريط والوساوس الشيطانية وأغشية الضلال لسار الإنسان على هذه السبل المنجية ، باستجابته لنداء الفطرة واتباعه الخط المستقيم ، والخط المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للهدف المنشود.

ولكي لا يتصور بأنّ مشيئة وإرادة الإنسان مطلقة في سيره على طريق المستقيم ، ولكي يربط الإنسان مشيئة بمشيئة وتوفيق اللهعزوجل ، وجاءت

٤٦٩

الآية التالية ولتقول :( وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ )

والآيتان السابقتان تبيّنان فلسفة «أمر بين الأمرين» التي أشار إليها الإمام الصادق عليه‌السلام ، فمن جهة ، إنّ الإرادة والقرار بيدكم ، ومن جهة اخرى ، يلزم تلك الإرادة وذلك القرارة ما يشاء الله ربّ العالمين وإنّ خلقتم أحرارا مختارين ، فالحرية والإختيار منه جلّ اسمه ، ولولا إرادته ذلك لما كان.

فالإنسان ليس بمجبور على أعماله مطلقا ، ولا هو بمختار بكلّ معنى الإختيار ، ولكن كما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «لا جبر ولا تفويض الأمر بين الأمرين» ،

فكلّ ما للإنسان من : عقل ، فهم قدرة بدنية ، وقدرة على اتخاذ القرار ، كلّ ذلك من اللهعزوجل ، فهو من جهة في حالة الحاجة الدائمة للاتصال به جلّ شأنه ، ولو شاء الله لتوقف كلّ شيء وانتهى ، وهو من جهة اخرى مسئول عن أعماله لما له من حرية واختيار على تنفيذها.

ويفهم من «ربّ العالمين» ، إنّ المشيئة الإلهية تقضي بهداية وتكامل الإنسان وكلّ الموجودات ، فالله لا يريد أن يضل أو يذنب أحد من الخلق ، بل يريد أن يسعد كلّ الخلق في جوار رحمته ورضوانه ، وبمقتضى ربوبيته فهو الموفّق والمعين لكلّ من يريد أن يسلك طريق التكامل.

والخطأ القاتل الذي وقع فيه المتجبرة ، إنّهم تمسّكوا بالآية الثّانية دون الاولى وربّما كان المفوضة قد تمسّكوا بالآية الاولى مفصولة عن الآية الثانية لها والفصل فيما بين آيات القرآن كثيرا ما يوقع في هاوية الضلال والخروج بنتائج خاطئة باطلة ، وينبغي التعامل مع الآيات القرآنية على كونها كلّ مترابط ، لا آيات فرادى.

وقيل : إنّه لمّا نزل قوله تعالى :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) ، قال أبو جهل : جعل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله تعالى :( وَما

٤٧٠

تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) (١) .

اللهمّ! لا توفيق إلّا منك ، فوفقنا للسير على طريق رضوانك

اللهمّ! لقد رغبنا في سلوك طريقك ومنهجك ، فاجعل مشيئتك أن تأخذ بأيدينا في هذا الطريق

اللهمّ! إنّا نخاف أهوال الحشر والقيامة ، لخلو صحائف أعمالنا من الحسنات ، فعاملنا بعفوك ولطفك ، ولا تشدد علينا بعدلك

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة التّكوير

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٦٢ ؛ وفي روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٥٤.

٤٧١
٤٧٢

سورة

الإنفطار

مكيّة

وعدد آياتها تسع وعشرة آية

٤٧٣
٤٧٤

«سورة الإنفطار»

محتوى السورة :

لا تشذ السورة عن سياق سور الجزء الأخير من القرآن الكريم ، وتدور حول محور المسائل المتعلقة بيوم القيامة ، تتضمّن مجموع آياتها المواضيع التالية :

١ ـ أشراط الساعة ، وهي الحوادث الهائلة التي سيشهدها العالم أواخر لحظات عمره وعند قيام الساعة.

٢ ـ التذكير بالنعم الإلهية الداخلة في كلّ وجود الإنسان ، وكسر حالة غرور الإنسان ، وتهيئته المعاد.

٣ ـ الإشارة إلى ملائكة تسجيل أعمال الإنسان.

٤ ـ بيان عاقبة المحسنين والمسيئين في يوم القيامة.

٥ ـ لمحات سريعة عمّا سيجري في ذلك اليوم العظيم.

فضيلة السورة :

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ هاتين السورتين :( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ) و( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) وجعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة والنافلة ، لم يحجبه من الله حجاب ، ولم يحجزه من الله حاجز ، ولم يزل ينظر إلى الله وينظر

٤٧٥

الله إليه حتى يفرغ من حساب الناس»(١) .

ولا شك أنّ حصول ثواب السورتين إنّما يتمّ وضعهما في أعماق روحه ، وبنى على أسسها أركان نفسه وعمله ، ولا لمن يلوكهما في لسانه ولا غير!

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٧ ، نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٢٠ (عن ثواب الأعمال : ص ١٢١).

٤٧٦

الآيات

( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) )

التّفسير

عند ما يحلّ الحدث المروع!

تقدّم لنا الآيات (مرّة اخرى) مشاهدا مروعة من يوم القيامة ، فتخبر عن تفطّر السماء من هول الكارثة :( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ) .

ثمّ تنتقل إلى ما سيصيب الكواكب ونظامها :( وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ) .

فسينهدم العالم العلوي ، وستحدث الإنفجارات العظيمة المهيبة في كلّ النجوم السماوية ، وسيتخلخل نظام المنظومات الشمسية ، فتخرج النجوم من مساراتها لتصطدم الواحدة بالأخرى وتتلاشى فينتهي عمر العالم ، ويتناثر كلّ شيء ليبنى على أنقاضه عالم جديد آخر.

«انفطرت» : من (الإنفطار) ، بمعنى الإنشقاق ، وقد ورد التعبير في آيات اخرى كالآية الاولى من سورة الإنشقاق :( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) ، والآية (١٨) من

٤٧٧

سورة المزمل :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ) .

«انتثرت» : من (النثر) على وزن (نصر) ، بمعنى نشر الشيء وتفريقه ، و «الانتثار» : هو الانتشار والتفرق. وباعتبار أنّ انتشار النجوم يؤدّي إلى تفرقها في السماء (كحبات العقد المنفرط) فقد فسّرها الكثير من المفسّرين بـ (سقوط النجوم) ، وهو من لوازم معنى الانتثار.

«الكواكب» : جمع (كوكب) ، وله معان كثيرة ، منها : النجوم بشكل عام ، والزهرة بشكل خاص ، النبت إذا طال ، البياض الذي يظهر في سواد العين ، لمعان الحديد : بريقه وتوقده و «غلام كوكب» : ممتلئ إذا ترعرع وحسن وجهه ، وكوكب كلّ شيء : معظمه ، مثل كوكب الشعب وكوكب السماء وكوكب الشمس.

والكوكب أيضا : الماء ، السيف ، سيد القوم إلخ.

وعلى ما يبدو أنّ المعنى الحقيقي هو (النجم المتلألئ) ، وما دون ذلك معان مجازية استعملت لعلاقة المشابهة.

ولكن ، ما هي العوامل التي ستؤدي بالكواكب إلى التناثر والتفرق في الفضاء مع فقدانها لنظامها الذي يحكمها؟

هل بسبب فقدان التعادل الموجود في الجاذبية فيما بينها؟ أم ثمّة قوّة هائلة ستفعل ذلك؟ أم بسبب التوسع المستمر الحاصل في العالم ـ كما يقول ذلك العلم الحديث؟

لا يستطيع أيّ أحد أن يتكهن السبب بدّقة وكلّ ما نعلمه أنّ هذه الأمور تهدف إلى تعريف الإنسان بما سيحدث بالمستقبل الآت ، وتدعوه لخلاص نفسه من أهوالها ، وهو الكائن الضعيف وسط تلك الحوادث الجسام؟!

فالآيات تحذر الإنسان من أن يتخذ العالم الفاني هدفا لوجوده ، فيتصوره محل خلوده ، لأنّ ذلك سيؤول إلى تلوث قلب الإنسان (شاء أم أبى) ، وما ينتج عن التلوث سوى الذنوب المؤدّية إلى عذاب الجحيم

٤٧٨

وينتقل البيان القرآني من السماء إلى الأرض ، فيقول :( وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ) أي اتصلت.

مع أنّ البحار متصلة فيما بينها قبل حلول ذلك اليوم (ما عدا البحيرات) ، لكنّ اتصالها سيكون بشكل آخر ، حيث ستفيض جميعها وتتمزق حدودها وتصير بحرا واحدا لتشمل كلّ الأرض ، بسبب الزلازل المرعبة وتحطم الجبال وسقوطها في البحار هذا أحد تفاسير الآية السادسة من سورة التكوير (الآنفة الذكر)( وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ) .

وثمّة احتمال آخر بخصوص الآية المبحوثة والآية (٦) من سورة التكوير ، يقول : يراد بـ «فجّرت» و «سجّرت» الإنفجار والاحتراق ، لأنّ مياه البحار والمحيطات ستتحول إلى قطعة من نار لأهب.

وكما أشرنا سابقا ، فالماء يتكون من عنصرين شديدي الاشتعال (الأوكسجين والهيدروجين) فلو تحلل الماء إلى عنصريه فسيكفيه شرارة صغيرة لجعله قطعة ملتهبة من النيران.

وتتناول الآية التالية عرضا لمرحلة القيامة الثانية ، مرحلة تجديد الحياة وإحياء الموتى ، فتقول :( إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ) واخرج الموتى للحساب.

«بعثرت» : قلب ترابها وأثير ما فيها.

واحتمل (الراغب) في مفرداته : إنّ «بعثرت» تكونت من كلمتين ، (بعث) و (أثيرت) ، فجاء المعنى منهما ، كقولنا : «بسملة» من «بسم» ولفظ الجلالة «الله».

وعلى آيّة حال ، فإننا نرى شبيه هذا المعنى قد ورد في سورة الزلزال :( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) أي الأموات (بناء على المشهور من تفاسيرها) ، وفي الآيتين (١٣ و١٤) من سورة النّازعات :( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) .

وتوضح الآيات إنّ إحياء الموتى وإخراجهم من القبور سيكون مفاجئا وسريعا.

٤٧٩

وبعد ذكر كلّ تلك العلائم لما قبل البعث ولما بعده ، تأتي النتيجة القاطعة :( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) .

نعم ، فستتجلى حقائق الوجود : وسيصير كلّ شيء بارز إنّه «يوم البروز» وسيرى الإنسان كلّ أعماله محضرة بخيرها وشرّها ، لأنّه يوم إزالة الحجب ، ورفع مبررات الغرور والغفلة ، وعندها سيعلم الإنسان ما قدّم لآخرته ، وما ترك بعده من آثار حسنها وسيئها ، مثل : الصدقة الجارية ، فعل الخير ، عمارة الأبنية ، الكتب التي ألفها ، ما سنّ من السنن فإن كان ما خلّفه خالصا لله فسينال حسناته ، وإن كانت نيّة أفعاله غير خالصة لله فستصل إليه سيئات تبعاته.

وهذه نماذج من الأعمال التي ستصل نتائجها إلى الإنسان بعد الموت ، وهو : المراد من «وأخّرت».

صحيح أنّ الإنسان يعلم بما عمل في دنياه بصورة إجمالية ، لكنّ حبّ الذات والإشتغال بالشهوات والنسيان غالبا ما ينسيه ما قدّمت يداه ، فيتغافل عن النظر إلى ما بدّ منه ، أمّا في ذلك اليوم الذي سيتحول ويتغير فيه كلّ شيء حتى روح الإنسان فسيلتفت إلى ما قام به من عمل بكلّ دقّة وتفصيل ، كما تشير إلى ذلك الآية (٣٠) من سورة آل عمران :( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) ، فكلّ سيرى كلّ أعماله حاضرة مجسمة أمام عينه.

وقيل : «ما قدّمت» ، إشارة إلى أعمال أوّل عمر الإنسان ، و «أخّرت» ، إشارة إلى أعمال آخر عمره.

ويبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب من جميع الجهات.

ويراد بـ «نفس» الواردة بالآية ، كلّ نفس إنسانية.

* * *

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الصالحة هو الإيمان ومعرفة الله وتسبيحه وتنزيهه.

وقد فسّر البعض «التسبيح» هنا بمعنى (شكر النعمة) والتي من ملازماتها إعانة المحرومين ، وهذان التّفسيران لا يتنافيان مع بعضهما البعض ، وهما مجموعان في مفهوم الآية الكريمة.

لقد سبق تسبيحهم (الاعتراف بالذنب) ، ولعلّ هذا كان لرغبتهم في تنزيه الله تعالى عن كلّ ظلم بعيدا عمّا نزّل بجنّتهم من دمار وبلاء عظيم ، وكأنّ لسان حالهم يقول : ربّنا إنّنا كنّا نحن الظالمين لأنفسنا وللآخرين ، ولذا حقّ علينا مثل هذا العذاب ، وما أصابنا منك هو العدل والحكمة.

كما يلاحظ في قسم آخر من آيات القرآن الكريم ـ أيضا ـ أنّ التسبيح قبل الإقرار بالظلم ، حيث نقرأ ذلك في قصّة يونسعليه‌السلام عند ما أصبح في بطن الحوت ، وذلك قوله :( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (١) .

والظلم بالنسبة لهذا النبي العظيم هو بمعنى ترك الأولى ، كما أوضحنا ذلك في تفسير هذه الآية.

إلّا أنّ المسألة لم تنته إلى هذا الحدّ ، حيث يقول تعالى :( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) .

والملاحظ من منطوق الآية أنّ كلّ واحد منهم في الوقت الذي يعترف بذنبه ، فإنّه يلقي بأصل الذنب على عاتق الآخر ، ويوبّخه بشدّة ، وأنّه كان السبب الأساس فيما وصلوا إليه من نتيجة بائسة مؤلمة ، وكلّ منهم ـ أيضا ـ يؤكّد أنّه لم يكن غريبا عن الله والعدالة إلى هذا الحدّ.

نعم ، هكذا تكون عاقبة كلّ الظالمين عند ما يصبحون في قبضة العذاب الإلهي.

ومع الإقرار بالذنب فإنّ كلا منهم يحاول التنصّل ممّا لحق بهم ، ويسعى جاهدا

__________________

(١) الأنبياء ، الآية ٨٧.

٥٤١

لتحويل مسئولية البؤس والدمار على الآخرين.

ويحتمل أن يكون شعور كلّ منهم ـ أو غالبيتهم ـ بالأدوار المحدودة لهم فيما حصل ، هو الذي دفع كلا منهم للتخلّي عن مسئولية ما حصل ، وذلك كأن يقترح شخص شيئا ، ويؤيّده الآخر في هذا الاقتراح ، ويتبنّى ثالث هذا العمل ، ويظهر الرابع رضاه بسكوته ومن الواضح في مثل هذه الأحوال مساهمة الجميع في هذه الجريمة ومشاركتهم في الذنب.

ثمّ يضيف تعالى :( قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ ) .

لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم ، وهنا اعترفوا بالطغيان ، والطغيان مرحلة أعلى من الظلم ، لأنّ الظالم يمكن أن يستجيب لأصل القانون إلّا أنّ غلبة هواه عليه يدفعه إلى الظلم ، أمّا الطاغي فإنّه يرفض القانون ويعلن تمرّده عليه ولا يعترف برسميّته.

ويحتمل أن يكون المقصود بالظلم هو : (ظلم النفس) ، والمقصود بالطغيان هو (التجاوز على حقوق الآخرين).

وممّا يجدر ملاحظته أنّ العرب تستعمل كلمة (ويس) عند ما يواجهون مكروها ويعبّرون عن انزعاجهم منه ، كما أنّهم يستعملون كلمة (ويح) أحيانا ، وأحيانا اخرى (ويل) وعادة يكون استعمال الكلمة الاولى في المصيبة البسيطة ، والثانية للأشدّ ، والثالثة للمصيبة الكبيرة ، واستعمال كلمة (الويل) من قبل أصحاب البستان يكشف عن أنّهم كانوا يعتبرون أنفسهم مستحقّين لأشدّ حالات التوبيخ.

وأخيرا ـ بعد عودة الوعي إلى ضمائرهم وشعورهم. بل واعترافهم بالذنب والإنابة إلى الله ـ توجّهوا إلى البارئعزوجل داعين ، وقالوا :( عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ ) (١) فقد توجّهنا إليه ونريد منه انفاذنا ممّا

__________________

(١) «راغبون» : من مادّة (رغبة) ، هذه المادّة كلّما كانت متعدية بـ (إلى) أو (في) تكون بمعنى الميل إلى شيء معيّن ، وكلّما

٥٤٢

تورّطنا فيه

والسؤال المطروح هنا : هل أنّ هؤلاء ندموا على العمل الذي أقدموا عليه ، وقرّروا إعادة النظر في برامجهم المستقبلية ، وإذا شملتهم النعمة الإلهية مستقبلا فسيؤدّون حقّ شكرها؟ أم أنّهم وبّخوا أنفسهم وكثر اللوم بينهم بصورة موقتة ، شأنهم شأن الكثير من الظالمين الذين يشتدّ ندمهم وقت حلول العذاب ، وما إن يزول الضرّ الذي حاقّ بهم إلّا ونراهم يعودون إلى ما كانوا عليه سابقا من ممارسات مريضة؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، والمستفاد من سياق الآية اللاحقة أنّ توبتهم لم تقبل ، بلحاظ عدم اكتمال شروطها وشرائطها ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات قبول توبتهم ، لأنّها كانت عن نيّة خالصة ، وعوضهم عن جنّتهم بأخرى أفضل منها ، مليئة بأشجار العنب المثمرة.

ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات ، بلحاظ الاستفادة من هذا الدرس والإعتبار به :( كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

وهكذا توجّه الآية خطابها إلى كلّ المغرورين ، الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية ، وغلب عليهم الحرص والاستئثار بكلّ شيء دون المحتاجين بأنّه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك. وإذا ما جاءت صاعقة وأحرقت تلك الجنّة ، فمن الممكن أن تأتي صاعقة أو عذاب عليكم من أمثال الآفات والحروب المحلية والعالمية المدمّرة ، وما إلى ذلك ، لتذهب بالنعم التي تحرصون عليها.

* * *

__________________

كانت متعدّية بـ (عن) تكون بمعنى الانصراف وعدم الاعتناء بشيء معيّن.

٥٤٣

بحثان

١ ـ الاستئثار بالنعم بلاء عظيم

جبل الإنسان وطبع على حبّ المال ، ويمثّل هذا الحبّ غريزة في نفسه ، لأنّ له فوائد شتّى ، وهذا الحبّ غير مذموم إذا كان في حدّ الاعتدال ، وجعل نصيب منه للمحتاجين ، وهذا لا يعني الاقتصار على أداء الحقوق الشرعية فقط ، بل أداء بعض الإنفاقات المستحبّة.

وجاء في الرّوايات الإسلامية ضرورة جعل نصيب للمحتاجين الحاضرين ممّا يقطف من ثمار البساتين وحصاد الزرع. وهذا ما يعرف بعنوان (حقّ الحصاد) وهو مقتبس من الآية الشريفة :( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) (١) ، وهذا الحقّ غير حقّ الزكاة ، وما يعطى للمحتاجين الحاضرين منه أثناء قطف الثمار أو حصاد الزرع غير محدود بحدّ معيّن(٢) .

إلّا أنّ التعلّق بالمال حينما يكون بصورة مفرطة وجشعة فإنّه يأخذ شكلا منحرفا وأنانيا ، وقد لا يكون بحاجة إليه ، فحرمان الآخرين والاستئثار بالأموال والتلذّذ بحيازة النعم والمواهب الإلهية دون سواه ، مرض وبلاء كما نلاحظ في حياتنا المعاصرة مفردات ونماذج كثيرة في مجتمعاتنا البشرية تعيش هذه الحالة.

وقصّة (أصحاب الجنّة) التي حدّثتنا الآيات السابقة عنها ، هي كشف وتعرية واضحة لهذه النفسيات المريضة لأصحاب الأموال الذين يستأثرون بالخير والنعم والهبات الإلهية ، ويؤكّدون بحصرها فيهم دون سواهم ويتجسّد هذا المعنى في الخطّة التي اعدّت من جانب أصحاب الجنّة في حرمان المحتاجين ، بالتفصيل الذي ذكرته الآيات الكريمة

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٤١.

(٢) يمكن مطالعة الروايات التي جاءت في هذا المجال في ج ٦ ، من (وسائل الشيعة) أبواب زكاة الغلات ، باب ١٣ ، وفي (سنن البيهقي) ج ٤ ، ص ١٣٣.

٥٤٤

وغاب عن بالهم أنّ آهات هؤلاء المحرومون تتحوّل في أحيان كثيرة إلى صواعق محرقة ، تحيل سعادة هؤلاء الأغنياء الظالمين إلى وبال ، وتظهر هذه الصواعق على شكل كوارث ومفاجات وثورات ، ويشاهدون آثارها المدمّرة بامّ أعينهم ، ويتحوّل ترفهم وبذخهم إلى زفرات وآهات وصرخات تشقّ عنان السماء ، معلنين التوبة والإقلاع عن الممارسات الاستئثارية ، ولات ساعة متاب.

٢ ـ العلاقة بين (الرزق) و (الذنوب)

ممّا يستفاد ـ ضمنا ـ من القصّة أعلاه وجود علاقة بين الذنب والرزق ، وممّا يؤيّد هذا ما ورد في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الرجل ليذنب الذنب ، فيدرأ عنه الرزق ، وتلا هذه الآية :( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ ، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ ) (١) .

ونقل عن ابن عبّاس أيضا أنّه قال : إنّ العلاقة بين الذنب وقطع الرزق ، أوضح من الشمس ، كما بيّنها اللهعزوجل في سورة ن والقلم(٢) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩٥ ، (حديث ٤٤).

(٢) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٧.

٥٤٥

الآيات

( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) )

التّفسير

١ ـ استجواب كامل :

إنّ طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق ، واستخلاص المواقف ، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة ، وهذا الأسلوب مؤثّر جدّا من الناحية التربوية فمثلا تستعرض الآيات الشريفة حياة الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم ثمّ كذلك بالنسبة إلى الطالحين والظالمين ، ويجعل كلا منهما في ميزان ، ويسلّط الأضواء عليهما من خلال عملية

٥٤٦

مقارنة ، للوصول إلى الحقيقة.

وتماشيا مع هذا المنهج وبعد استعراض النهاية المؤلمة لـ (أصحاب الجنّة) في الآيات السابقة ، يستعرض البارئعزوجل حالة المتّقين فيقول :( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) .

«جنّات» من (الجنّة) حيث كلّ نعمة متصوّرة على أفضل صورة لها تكون هناك ، بالإضافة إلى النعم التي لم تخطر على البال.

ولأنّ قسما من المشركين والمترفين كانوا يدّعون علوّ المقام وسموّه في يوم القيامة كما هو عليه في الدنيا ، لذا فإنّ الله يوبّخهم على هذا الادّعاء بشدّة في الآية اللاحقة. بل يحاكمهم فيقول :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .

هل يمكن أن يصدّق إنسان عاقل أنّ عاقبة العادل والظالم ، المطيع والمجرم ، المؤثر والمستأثر واحدة ومتساوية؟ خاصّة عند ما تكون المسألة عند إله جعل كلّ مجازاته ومكافآته وفق حساب دقيق وبرنامج حكيم.

وتستعرض الآية (٥٠) من سورة فصّلت موقف هؤلاء الأشخاص المماثل لما تقدّم ، حيث يقول تعالى :( وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) .

نعم ، إنّ الفئة المغرورة المقتنعة بتصرّفاتها الراضية عن نفسها تعبر أنّ الدنيا والآخرة خاصّة بها وملك لها.

ثمّ يضيف تعالى أنّه لو لم يحكم العقل بما تدعون ، فهل لديكم دليل نقلي ورد في كتبكم يؤيّد ما تزعمون :( أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ ) (١) أي ما اخترتم من الرأي

إن توقّعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين

__________________

(١) جملة (إنّ لكم ..) مفعول به لـ (تدرسون) وطبقا للقواعد فإنّها يجب أن تقرأ (أن) بـ (فتح الهمزة). إلّا أنّ مجيء اللام على رأس اسم (أن) جعلها تقرأ (إن) بـ (كسر الهمزة) وذلك لأنّ الفعل يصبح معلّقا عن العمل.

٥٤٧

وعلى مستواهم ، حديث هراء لا يدعمه العقل ، ولم يأت في كتاب يعتدّ به ولا هو موضع اعتبار.

ثمّ تضيف الآية اللاحقة أنّه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل ، فهل أخذتم عهدا من الله أنّه سيكون معكم إلى الأبد :( أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ) .

وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمّن يستطيع الادّعاء منهم بأنّه قد أخذ عهدا من الله سبحانه في الاستجابة لميوله وأهوائه ، وإعطائه ما يشاء من شأن ومقام ، وبدون موازين أو ضوابط ، وبصورة بعيدة عن مقاييس السؤال وموازين الاستجابة؟ حتّى يمكن القول بأنّ المجرمين متساوون مع المؤمنين(١) .

ويضيف سبحانه ـ استمرارا لهذه التساؤلات ـ كي يسدّ عليهم جميع الطرق ومن كلّ الجهات ، فيقول :( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) فمن منهم يضمن أنّ المسلمين والمجرمين سواء ، أو يضمن أنّ الله تعالى سيؤتيه كلّ ما يريد؟!.

وفي آخر مرحلة من هذا الاستجواب العجيب يقول تعالى :( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) .

فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أنّ هذه الأصنام المنحوتة من الحجارة ، والتي لا قيمة لها ولا شعور ، تكون شريكة الله تعالى وتشفع لهم عنده.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ (شركاء) هنا بمعنى (شهداء).

ومن خلال العرض المتقدّم نستطيع القول : إنّ هؤلاء المجرمين لإثبات ادّعاءاتهم في التساوي مع المؤمنين في يوم القيامة ، بل أفضليتهم أحيانا كما يذهب بعضهم لذلك ، لا بدّ لهم أن يدعموا قولهم هذا بإحدى الوسائل الأربعة

__________________

(١) فسّر البعض مصطلح (بالغة) هنا بمعنى (مؤكّد) ، وفسّرها البعض الآخر بأنّها (مستمر) والمعنى الثاني أنسب ، وبناء على هذا فإنّ (الجارّ والمجرور) في (إلى يوم القيامة) تكون متعلّقة بـ (بالغة).

٥٤٨

التالية : إمّا دليل من العقل ، أو كتاب من الكتب السماوية ، أو عهد من الله تعالى ، أو بواسطة شفاعة الشافعين وشهادة الشاهدين. وبما أنّ جواب جميع هذه الأسئلة سلبي ، لذا فإنّ هذا الادّعاء فارغ من الأساس وليست له أيّة قيمة.

* * *

٥٤٩

الآيات

( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) )

التّفسير

العجز عن السجود :

تعقيبا للآيات السابقة التي استجوب الله تعالى فيها المشركين والمجرمين استجوابا موضوعيا ، تكشف لنا هذه الآيات جانبا من المصير البائس في يوم القيامة لهذه الثلّة المغرمة في حبّها لذاتها ، والمكثرة للادّعاءات ، هذا المصير المقترن بالحقارة والذلّة والهوان.

يقول تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) (١) .

__________________

(١) «يوم» ظرف متعلّق بمحذوف تقديره : (اذكروا يوم ...) ، واحتمل البعض ـ أيضا ـ أنّه متعلّق بـ (فليأتوا) في الآية

٥٥٠

جملة( يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ) كما قال جمع من المفسّرين ، كناية عن شدّة الهول والخوف والرعب وسوء الحال ، إذ أنّ المتعارف بين العرب عند مواجهتهم أمرا صعبا أنّهم يشدّون ثيابهم على بطونهم ممّا يؤدّي إلى كشف سيقانهم.

ونقرأ جواب ابن عبّاس المفسّر المعروف عند ما سئل عن تفسير هذه الآية قال : كلّما خفي عليكم شيء من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب ، ألم تسمعوا قول الشاعر :

وقامت الحرب بنا على ساق.

إنّ هذا القول كناية عن شدّة أزمة الحرب.

وقيل : إنّ (ساق) تعني أصل وأساس الشيء ، كساق الشجرة ، وبناء على هذا فإنّ جملة (يكشف عن ساق) تعني أنّ أساس كلّ شيء يتّضح ويتبيّن في ذلك اليوم ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر.

وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للبارئعزوجل ، فيسجد المؤمنون ، ويعجز المجرمون عن السجود ، لأنّ نفوسهم المريضة وممارساتهم القبيحة قد تأصّلت في طباعهم وشخصياتهم في عالم الدنيا ، وتطفح هذه الخصال في اليوم الموعود وتمنعهم من إحناء ظهورهم للذات الإلهية المقدّسة.

وهنا يثار سؤال : إنّ يوم القيامة ليس بيوم تكاليف وواجبات وأعمال ، فلم السجود؟

يمكن استنتاج الجواب من التعبير الذي ورد في بعض الأحاديث ، نقرأ في الحديث التالي عن الإمام الرضاعليه‌السلام في قوله تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) قال : «حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّدا وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود»(١) .

__________________

السابقة ، إلّا أنّ هذا المعنى مستبعد.

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩٥ ، ح ٤٩.

٥٥١

وبتعبير آخر : في ذلك اليوم تتجلّى العظمة الإلهية ، وهذه العظمة تدعو المؤمنين للسجود فيسجدون ، إلّا أنّ الكافرين حرموا من هذا الشرف واللطف.

وتعكس الآية اللاحقة صورة جديدة لحالتهم حيث يقول سبحانه :( خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) (١) .

هذه الآية الكريمة تصف لنا حقيقة المجرمين عند ما يدانون في إجرامهم ويحكم عليهم ، حيث نلاحظ الذلّة والهوان تحيط بهم ، وتكون رؤوسهم مطأطئة تعبيرا عن هذه الحالة المهينة.

ثمّ يضيف تعالى :( وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ ) .

إلّا أنّهم لن يسجدوا أبدا ، لقد صحبوا روح التغطرس والعتوّ والكبر معهم في يوم القيامة فكيف سيسجدون؟

إنّ الدعوة للسجود في الدنيا لها موارد عديدة ، فتارة بواسطة المؤذّنين للصلاة الفردية وصلاة الجماعة ، وكذلك عند سماع بعض الآيات القرآنية وأحاديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ولذا فإنّ الدعوة للسجود لها مفهوم واسع وتشمل جميع ما تقدّم.

ثمّ يوجّه البارئعزوجل الخطاب لنبيّه الكريم ويقول :( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ) .

وهذه اللهجة تمثّل تهديدا شديدا من الواحد القهّار لهؤلاء المكذّبين المتمردين ، حيث يخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لا تتدخّل ، واتركني مع هؤلاء ، لاعاملهم بما يستحقّونه. وهذا الكلام الذي يقوله ربّ قادر على كلّ شيء ، ـ بالضمن ـ باعث على اطمئنان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين أيضا ، ومشعرا لهم بأنّ الله معهم وسيقتصّ من جميع الأعداء الذين يثيرون المشاكل والفتن والمؤامرات أمام

__________________

(١) «ترهقهم» من مادّة (رهق) ، (على وزن شفق) بمعنى التغطية والإحاطة.

٥٥٢

الرّسول والرسالة ، ولن يتركهم الله تعالى على تماديهم.

ثمّ يضيف سبحانه :( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) .

نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إذا أحدث العبد ذنبا جدّد له نعمة فيدع الاستغفار ، فهو الاستدراج»(١) .

والذي يستفاد من هذا الحديث ـ والأحاديث الاخرى في هذا المجال ـ أنّ الله تعالى يمنح ـ أحيانا ـ عباده المعاندين نعمة وهم غارقون في المعاصي والذنوب وذلك كعقوبة لهم. فيتصوّرون أنّ هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم ولياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف ، وتستولي عليهم الغفلة إلّا أنّ عذاب الله ينزل عليهم فجأة ويحيط بهم وهم بين أحضان تلك النعم الإلهية العظيمة وهذا في الحقيقة من أشدّ ألوان العذاب ألما.

إنّ هذا اللون من العذاب يشمل الأشخاص الذين وصل طغيانهم وتمردّهم حدّه الأعلى ، أمّا من هم دونه في ذلك فإنّ الله تعالى ينبّههم وينذرهم عن ممارساتهم الخاطئة عسى أن يعودوا إلى رشدهم ، ويستيقظوا من غفلتهم ، ويتوبوا من ذنوبهم ، وهذا من ألطاف البارئعزوجل بهم.

وبعبارة اخرى : إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية :

إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربّه.

أو أن ينزل الله عليه العذاب ليعود إلى رشده.

أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له ، فيعطيه الله نعمة بدل البلاء وهذا هو : (عذاب الاستدراج) والذي أشير له في الآيات القرآنية بالتعبير

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤٠.

٥٥٣

أعلاه وبتعابير اخرى.

لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظا عند إقبال النعم الإلهية عليه ، وليحذر من أن يكون ما يمنحه الله من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته (عذاب الاستدراج) ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الأمور ويحاسبون أنفسهم باستمرار ، ويعيدون تقييم أعمالهم دائما ، كي يكونوا قريبين من طاعة الله ، ويؤدّون حقّ الألطاف والنعم التي وهبها الله لهم.

جاء في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام قال : إنّي سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالا فرزقني ، وإنّي سألت الله أن يرزقني ولدا فرزقني ، وسألته أن يرزقني دارا فرزقني ، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجا؟ فقال : «أمّا مع الحمد فلا»(١) .

والتعبير بـ (أملي لهم) إشارة إلى أنّ الله تعالى لا يستعجل أبدا بجزاء الظالمين ، والاستعجال يكون عادة من الشخص الذي يخشى فوات الفرصة عليه ، إلّا أنّ الله القادر المتعال أيّما شاء وفي أي لحظة فإنّه يفعل ذلك ، والزمن كلّه تحت تصرّفه.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا تحذير لكلّ الظالمين والمتطاولين بأن لا تغرّهم السلامة والنعمة أبدا ، وليرتقبوا في كلّ لحظة بطش الله بهم(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي نقلا عن نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٩٧ ، ح ٥٩.

(٢) سبق كلام حول عقوبة (الاستدراج) في الآية (١٨٣) من سورة الأعراف ، وكذلك في الآية (١٧٨) سورة آل عمران.

٥٥٤

الآيات

( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) )

التّفسير

لا تستعجل بعذابهم :

استمرارا للاستجواب الذي تمّ في الآيات السابقة للمشركين والمجرمين ، يضيف البارئعزوجل سؤالين آخرين ، حيث يقول في البداية :( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) .

أي إذا كانت حجّتهم أنّ الاستجابة لدعوتك تستوجب أجرا ماديا كبيرا ، وأنّهم غير قادرين على الوفاء به ، فإنّه كذب ، حيث أنّك لم تطالبهم بأجر ، كما لم يطلب أي من رسل الله أجرا.

٥٥٥

«مغرم» من مادّة (غرامة) وهي ما يصيب الإنسان من ضرر دون أن يرتكب جناية ، و (مثقل) من مادّة (ثقل) بمعنى الثقل ، وبهذا فإنّ الله تعالى أسقط حجّة اخرى ممّا يتذرّع به المعاندون.

وقد وردت الآية أعلاه وما بعدها (نصّا) في سورة الطور (آية ٤٠ ـ ٤١).

ثمّ يضيف واستمرارا للحوار بقوله تعالى :( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) .

حيث يمكن أن يدّعي هؤلاء بأنّ لهم ارتباطا بالله سبحانه عن طريق الكهنة ، أو أنّهم يتلقّون أسرار الغيب عن هذا الطريق فيكتبونها ويتداولونها ، وبذلك كانوا في الموقع المتميّز على المسلمين ، أو على الأقل يتساوون معهم.

ومن المسلّم به أنّه لا دليل على هذا الادّعاء أيضا ، إضافة إلى أنّ لهذه الجملة معنى (الاستفهام الإنكاري) ، ولذا فمن المستبعد ما ذهب إليه البعض من أنّ المقصود من الغيب هو (اللوح المحفوظ) ، والمقصود من الكتابة هو القضاء والقدر ، وذلك لأنّهم لم يدّعوا أبدا أنّ القضاء والقدر واللوح المحفوظ في أيديهم.

ولأنّ العناد واللامنطقية التي كان عليها أعداء الإسلام تؤلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدفعه إلى أن يدعو الله عليهم ، لذا فإنّه تعالى أراد أن يخفّف شيئا من آلام رسوله الكريم ، فطلب منه الصبر وذلك قوله تعالى :( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) .

أي انتظر حتّى يهيء الله لك ولأعوانك أسباب النصر ، ويكسر شوكة أعدائك ، فلا تستعجل بعذابهم أبدا ، واعلم بأنّ الله ممهلهم وغير مهملهم ، وما المهلة المعطاة لهم إلّا نوع من عذاب الاستدراج.

وبناء على هذا فإنّ المقصود من (حكم ربّك) هو حكم الله المقرّر الأكيد حول انتصار المسلمين.

وقيل أنّ المقصود منها هو : أن تستقيم وتصبر في طريق إبلاغ أحكام الله تعالى.

كما يوجد احتمال آخر أيضا وهو أنّ المقصود بالآية أنّ حكم الله إذا جاء

٥٥٦

فعليك أن تستسلم لأمره تعالى وتصبر ، لأنّه سبحانه قد حكم بذلك(١) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

ثمّ يضيف تعالى :( وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) :

والمقصود من هذا النداء هو ما ورد في قوله تعالى :( فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

وبذلك فقد اعترف النبي يونسعليه‌السلام بترك الأولى ، وطلب العفو والمغفرة من الله تعالى. كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا النداء هو اللعنة التي أطلقها على قومه في ساعة غضبه. إلّا أنّ المفسّرين اختاروا التّفسير الأوّل لأنّ التعبير بـ «نادى» في هذه الآية يتناسب مع ما ورد في الآية (٨٧) من سورة الأنبياء ، حيث من المسلّم انّه نادى ربّه عند ما كانعليه‌السلام في بطن الحوت.

«مكظوم» من مادّة (كظم) على وزن (هضم) بمعنى الحلقوم ، و (كظم السقاء) بمعنى سدّ فوهة القربة بعد امتلائها ، ولهذا السبب يقال للأشخاص الذين يخفون غضبهم وألمهم ويسيطرون على انفعالاتهم ويكظمون غيظهم بأنّهم : كاظمون ، والمفرد : كاظم ، ولهذا السبب يستعمل هذا المصطلح أيضا بمعنى (الحبس).

وبناء على ما تقدّم فيمكن أن يكون للمكظوم معنيان في الآية أعلاه : المملوء غضبا وحزنا ، أو المحبوس في بطن الحوت ، والمعنى الأوّل أنسب ، كما ذكرنا.

ويضيف سبحانه في الآية اللاحقة :( لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ) (٣) .

من المعلوم أنّ يونسعليه‌السلام خرج من بطن الحوت ، والقي في صحراء يابسة ،

__________________

(١) في هذه الصورة ستكون اللام في (لحكم ربّك) هي لام التعليل.

(٢) الأنبياء ، الآية ٨٧.

(٣) مع انّ (النعمة) مؤنث ، إلّا أنّ فعلها (تداركه) جاء بصورة مذكر ، وسبب هذا أنّ فاعل المؤنث يكون لفظيا ، وأنّ الضمير المفعول أصبح فاصلا بين الفعل والفاعل (فتأمّل!).

٥٥٧

عبّر عنها القرآن الكريم بـ (العراء) وكان هذا في وقت قبل الله تعالى فيه توبته وشمله برحمته ، ولم يكن أبدا مستحقّاعليه‌السلام للذمّ.

ونقرأ في قوله تعالى :( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) (١) كي يستريح في ظلالها.

كما أنّ المقصود من (النعمة) في الآية أعلاه هو توفيق التوبة وشمول الرحمة الإلهية لحالهعليه‌السلام حسب الظاهر.

وهنا يطرح سؤالان :

الأوّل : هو ما جاء في الآيتين ١٤٣ ، ١٤٤ من سورة الصافات في قوله تعالى :( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) وهذا مناف لما ورد في الآية مورد البحث.

وللجواب على هذا السؤال يمكن القول : كانت بانتظار يونسعليه‌السلام عقوبتان : إحداهما شديدة ، والاخرى أخفّ وطأة. الاولى الشديدة هي أن يبقى في بطن الحوت إلى يوم يبعثون ، والأخفّ : هو أن يخرج من بطن الحوت وهو مذموم وبعيد عن لطف الله سبحانه ، وقد كان جزاؤهعليه‌السلام الجزاء الثاني ، ورفع عنه ما ألمّ به من البعد عن الألطاف الإلهية حيث شملته بركة اللهعزوجل ورحمته الخاصّة.

والسؤال الآخر يتعلّق بما جاء في قوله تعالى :( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) (٢) وإنّ ما يستفاد من الآية مورد البحث أنّهعليه‌السلام لم يكن ملوما ولا مذموما.

ويتّضح الجواب على هذا السؤال بالالتفات إلى أنّ الملامة كانت في الوقت الذي التقمه الحوت توّا ، وأنّ رفع المذمّة كان متعلّقا بوقت التوبة وقبولها من قبل الله تعالى ، ونجاته من بطن الحوت.

لذا يقول البارئعزوجل في الآية اللاحقة :( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ

__________________

(١) الصافات ، الآية ١٤٥ و١٤٦.

(٢) الصافات ، الآية ١٤٣.

٥٥٨

الصَّالِحِينَ ) .

وبذلك فقد حمّله الله مسئولية هداية قومه مرّة اخرى ، وعاد إليه يبلّغهم رسالة ربّه ، ممّا كانت نتيجته أن آمن قومه جميعا ، وقد منّ الله تعالى عليهم بألطافه ونعمه وأفضاله لفترة طويلة.

وقد شرحنا قصّة يونسعليه‌السلام وقومه ، وكذلك بعض المسائل الاخرى حول تركه لـ (الأولى) واستقراره فترة من الزمن في بطن الحوت والإجابة على بعض التساؤلات المطروحة في هذا الصدد بشكل مفصّل في تفسير الآيات (١٣٩ ـ ١٤٨) من سورة الصافات وكذلك في تفسير الآيات (٨٧ ، ٨٨) من سورة الأنبياء.

* * *

٥٥٩

الآيتان

( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢) )

التّفسير

يريدون قتلك لكنّهم عاجزون

هاتان الآيتان تشكّلان نهاية سورة القلم ، وتتضمّنان تعقيبا على ما ورد في بداية السورة من نسبة الجنون إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل الأعداء.

يقول تعالى :( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) .

«ليزلقونك» من مادّة (زلق) بمعنى التزحلق والسقوط على الأرض ، وهي كناية عن الهلاك والموت.

ثمّة أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية :

١ ـ قال كثير من المفسّرين : إنّ الأعداء حينما يسمعون منك هذه الآيات العظيمة للقرآن الكريم ، فإنّهم يمتلئون غضبا وغلا ، وتتوجّه إليك نظراتهم الحاقدة وبمنتهى الغيظ ، وكأنّما يريدون أن يطرحوك أرضا ويقتلوك بنظراتهم الخبيثة

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624