الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204206 / تحميل: 6093
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الصالحة هو الإيمان ومعرفة الله وتسبيحه وتنزيهه.

وقد فسّر البعض «التسبيح» هنا بمعنى (شكر النعمة) والتي من ملازماتها إعانة المحرومين ، وهذان التّفسيران لا يتنافيان مع بعضهما البعض ، وهما مجموعان في مفهوم الآية الكريمة.

لقد سبق تسبيحهم (الاعتراف بالذنب) ، ولعلّ هذا كان لرغبتهم في تنزيه الله تعالى عن كلّ ظلم بعيدا عمّا نزّل بجنّتهم من دمار وبلاء عظيم ، وكأنّ لسان حالهم يقول : ربّنا إنّنا كنّا نحن الظالمين لأنفسنا وللآخرين ، ولذا حقّ علينا مثل هذا العذاب ، وما أصابنا منك هو العدل والحكمة.

كما يلاحظ في قسم آخر من آيات القرآن الكريم ـ أيضا ـ أنّ التسبيح قبل الإقرار بالظلم ، حيث نقرأ ذلك في قصّة يونسعليه‌السلام عند ما أصبح في بطن الحوت ، وذلك قوله :( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (١) .

والظلم بالنسبة لهذا النبي العظيم هو بمعنى ترك الأولى ، كما أوضحنا ذلك في تفسير هذه الآية.

إلّا أنّ المسألة لم تنته إلى هذا الحدّ ، حيث يقول تعالى :( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) .

والملاحظ من منطوق الآية أنّ كلّ واحد منهم في الوقت الذي يعترف بذنبه ، فإنّه يلقي بأصل الذنب على عاتق الآخر ، ويوبّخه بشدّة ، وأنّه كان السبب الأساس فيما وصلوا إليه من نتيجة بائسة مؤلمة ، وكلّ منهم ـ أيضا ـ يؤكّد أنّه لم يكن غريبا عن الله والعدالة إلى هذا الحدّ.

نعم ، هكذا تكون عاقبة كلّ الظالمين عند ما يصبحون في قبضة العذاب الإلهي.

ومع الإقرار بالذنب فإنّ كلا منهم يحاول التنصّل ممّا لحق بهم ، ويسعى جاهدا

__________________

(١) الأنبياء ، الآية ٨٧.

٥٤١

لتحويل مسئولية البؤس والدمار على الآخرين.

ويحتمل أن يكون شعور كلّ منهم ـ أو غالبيتهم ـ بالأدوار المحدودة لهم فيما حصل ، هو الذي دفع كلا منهم للتخلّي عن مسئولية ما حصل ، وذلك كأن يقترح شخص شيئا ، ويؤيّده الآخر في هذا الاقتراح ، ويتبنّى ثالث هذا العمل ، ويظهر الرابع رضاه بسكوته ومن الواضح في مثل هذه الأحوال مساهمة الجميع في هذه الجريمة ومشاركتهم في الذنب.

ثمّ يضيف تعالى :( قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ ) .

لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم ، وهنا اعترفوا بالطغيان ، والطغيان مرحلة أعلى من الظلم ، لأنّ الظالم يمكن أن يستجيب لأصل القانون إلّا أنّ غلبة هواه عليه يدفعه إلى الظلم ، أمّا الطاغي فإنّه يرفض القانون ويعلن تمرّده عليه ولا يعترف برسميّته.

ويحتمل أن يكون المقصود بالظلم هو : (ظلم النفس) ، والمقصود بالطغيان هو (التجاوز على حقوق الآخرين).

وممّا يجدر ملاحظته أنّ العرب تستعمل كلمة (ويس) عند ما يواجهون مكروها ويعبّرون عن انزعاجهم منه ، كما أنّهم يستعملون كلمة (ويح) أحيانا ، وأحيانا اخرى (ويل) وعادة يكون استعمال الكلمة الاولى في المصيبة البسيطة ، والثانية للأشدّ ، والثالثة للمصيبة الكبيرة ، واستعمال كلمة (الويل) من قبل أصحاب البستان يكشف عن أنّهم كانوا يعتبرون أنفسهم مستحقّين لأشدّ حالات التوبيخ.

وأخيرا ـ بعد عودة الوعي إلى ضمائرهم وشعورهم. بل واعترافهم بالذنب والإنابة إلى الله ـ توجّهوا إلى البارئعزوجل داعين ، وقالوا :( عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ ) (١) فقد توجّهنا إليه ونريد منه انفاذنا ممّا

__________________

(١) «راغبون» : من مادّة (رغبة) ، هذه المادّة كلّما كانت متعدية بـ (إلى) أو (في) تكون بمعنى الميل إلى شيء معيّن ، وكلّما

٥٤٢

تورّطنا فيه

والسؤال المطروح هنا : هل أنّ هؤلاء ندموا على العمل الذي أقدموا عليه ، وقرّروا إعادة النظر في برامجهم المستقبلية ، وإذا شملتهم النعمة الإلهية مستقبلا فسيؤدّون حقّ شكرها؟ أم أنّهم وبّخوا أنفسهم وكثر اللوم بينهم بصورة موقتة ، شأنهم شأن الكثير من الظالمين الذين يشتدّ ندمهم وقت حلول العذاب ، وما إن يزول الضرّ الذي حاقّ بهم إلّا ونراهم يعودون إلى ما كانوا عليه سابقا من ممارسات مريضة؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، والمستفاد من سياق الآية اللاحقة أنّ توبتهم لم تقبل ، بلحاظ عدم اكتمال شروطها وشرائطها ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات قبول توبتهم ، لأنّها كانت عن نيّة خالصة ، وعوضهم عن جنّتهم بأخرى أفضل منها ، مليئة بأشجار العنب المثمرة.

ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات ، بلحاظ الاستفادة من هذا الدرس والإعتبار به :( كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

وهكذا توجّه الآية خطابها إلى كلّ المغرورين ، الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية ، وغلب عليهم الحرص والاستئثار بكلّ شيء دون المحتاجين بأنّه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك. وإذا ما جاءت صاعقة وأحرقت تلك الجنّة ، فمن الممكن أن تأتي صاعقة أو عذاب عليكم من أمثال الآفات والحروب المحلية والعالمية المدمّرة ، وما إلى ذلك ، لتذهب بالنعم التي تحرصون عليها.

* * *

__________________

كانت متعدّية بـ (عن) تكون بمعنى الانصراف وعدم الاعتناء بشيء معيّن.

٥٤٣

بحثان

١ ـ الاستئثار بالنعم بلاء عظيم

جبل الإنسان وطبع على حبّ المال ، ويمثّل هذا الحبّ غريزة في نفسه ، لأنّ له فوائد شتّى ، وهذا الحبّ غير مذموم إذا كان في حدّ الاعتدال ، وجعل نصيب منه للمحتاجين ، وهذا لا يعني الاقتصار على أداء الحقوق الشرعية فقط ، بل أداء بعض الإنفاقات المستحبّة.

وجاء في الرّوايات الإسلامية ضرورة جعل نصيب للمحتاجين الحاضرين ممّا يقطف من ثمار البساتين وحصاد الزرع. وهذا ما يعرف بعنوان (حقّ الحصاد) وهو مقتبس من الآية الشريفة :( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) (١) ، وهذا الحقّ غير حقّ الزكاة ، وما يعطى للمحتاجين الحاضرين منه أثناء قطف الثمار أو حصاد الزرع غير محدود بحدّ معيّن(٢) .

إلّا أنّ التعلّق بالمال حينما يكون بصورة مفرطة وجشعة فإنّه يأخذ شكلا منحرفا وأنانيا ، وقد لا يكون بحاجة إليه ، فحرمان الآخرين والاستئثار بالأموال والتلذّذ بحيازة النعم والمواهب الإلهية دون سواه ، مرض وبلاء كما نلاحظ في حياتنا المعاصرة مفردات ونماذج كثيرة في مجتمعاتنا البشرية تعيش هذه الحالة.

وقصّة (أصحاب الجنّة) التي حدّثتنا الآيات السابقة عنها ، هي كشف وتعرية واضحة لهذه النفسيات المريضة لأصحاب الأموال الذين يستأثرون بالخير والنعم والهبات الإلهية ، ويؤكّدون بحصرها فيهم دون سواهم ويتجسّد هذا المعنى في الخطّة التي اعدّت من جانب أصحاب الجنّة في حرمان المحتاجين ، بالتفصيل الذي ذكرته الآيات الكريمة

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٤١.

(٢) يمكن مطالعة الروايات التي جاءت في هذا المجال في ج ٦ ، من (وسائل الشيعة) أبواب زكاة الغلات ، باب ١٣ ، وفي (سنن البيهقي) ج ٤ ، ص ١٣٣.

٥٤٤

وغاب عن بالهم أنّ آهات هؤلاء المحرومون تتحوّل في أحيان كثيرة إلى صواعق محرقة ، تحيل سعادة هؤلاء الأغنياء الظالمين إلى وبال ، وتظهر هذه الصواعق على شكل كوارث ومفاجات وثورات ، ويشاهدون آثارها المدمّرة بامّ أعينهم ، ويتحوّل ترفهم وبذخهم إلى زفرات وآهات وصرخات تشقّ عنان السماء ، معلنين التوبة والإقلاع عن الممارسات الاستئثارية ، ولات ساعة متاب.

٢ ـ العلاقة بين (الرزق) و (الذنوب)

ممّا يستفاد ـ ضمنا ـ من القصّة أعلاه وجود علاقة بين الذنب والرزق ، وممّا يؤيّد هذا ما ورد في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الرجل ليذنب الذنب ، فيدرأ عنه الرزق ، وتلا هذه الآية :( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ ، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ ) (١) .

ونقل عن ابن عبّاس أيضا أنّه قال : إنّ العلاقة بين الذنب وقطع الرزق ، أوضح من الشمس ، كما بيّنها اللهعزوجل في سورة ن والقلم(٢) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩٥ ، (حديث ٤٤).

(٢) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٧.

٥٤٥

الآيات

( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) )

التّفسير

١ ـ استجواب كامل :

إنّ طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق ، واستخلاص المواقف ، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة ، وهذا الأسلوب مؤثّر جدّا من الناحية التربوية فمثلا تستعرض الآيات الشريفة حياة الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم ثمّ كذلك بالنسبة إلى الطالحين والظالمين ، ويجعل كلا منهما في ميزان ، ويسلّط الأضواء عليهما من خلال عملية

٥٤٦

مقارنة ، للوصول إلى الحقيقة.

وتماشيا مع هذا المنهج وبعد استعراض النهاية المؤلمة لـ (أصحاب الجنّة) في الآيات السابقة ، يستعرض البارئعزوجل حالة المتّقين فيقول :( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) .

«جنّات» من (الجنّة) حيث كلّ نعمة متصوّرة على أفضل صورة لها تكون هناك ، بالإضافة إلى النعم التي لم تخطر على البال.

ولأنّ قسما من المشركين والمترفين كانوا يدّعون علوّ المقام وسموّه في يوم القيامة كما هو عليه في الدنيا ، لذا فإنّ الله يوبّخهم على هذا الادّعاء بشدّة في الآية اللاحقة. بل يحاكمهم فيقول :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .

هل يمكن أن يصدّق إنسان عاقل أنّ عاقبة العادل والظالم ، المطيع والمجرم ، المؤثر والمستأثر واحدة ومتساوية؟ خاصّة عند ما تكون المسألة عند إله جعل كلّ مجازاته ومكافآته وفق حساب دقيق وبرنامج حكيم.

وتستعرض الآية (٥٠) من سورة فصّلت موقف هؤلاء الأشخاص المماثل لما تقدّم ، حيث يقول تعالى :( وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) .

نعم ، إنّ الفئة المغرورة المقتنعة بتصرّفاتها الراضية عن نفسها تعبر أنّ الدنيا والآخرة خاصّة بها وملك لها.

ثمّ يضيف تعالى أنّه لو لم يحكم العقل بما تدعون ، فهل لديكم دليل نقلي ورد في كتبكم يؤيّد ما تزعمون :( أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ ) (١) أي ما اخترتم من الرأي

إن توقّعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين

__________________

(١) جملة (إنّ لكم ..) مفعول به لـ (تدرسون) وطبقا للقواعد فإنّها يجب أن تقرأ (أن) بـ (فتح الهمزة). إلّا أنّ مجيء اللام على رأس اسم (أن) جعلها تقرأ (إن) بـ (كسر الهمزة) وذلك لأنّ الفعل يصبح معلّقا عن العمل.

٥٤٧

وعلى مستواهم ، حديث هراء لا يدعمه العقل ، ولم يأت في كتاب يعتدّ به ولا هو موضع اعتبار.

ثمّ تضيف الآية اللاحقة أنّه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل ، فهل أخذتم عهدا من الله أنّه سيكون معكم إلى الأبد :( أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ) .

وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمّن يستطيع الادّعاء منهم بأنّه قد أخذ عهدا من الله سبحانه في الاستجابة لميوله وأهوائه ، وإعطائه ما يشاء من شأن ومقام ، وبدون موازين أو ضوابط ، وبصورة بعيدة عن مقاييس السؤال وموازين الاستجابة؟ حتّى يمكن القول بأنّ المجرمين متساوون مع المؤمنين(١) .

ويضيف سبحانه ـ استمرارا لهذه التساؤلات ـ كي يسدّ عليهم جميع الطرق ومن كلّ الجهات ، فيقول :( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) فمن منهم يضمن أنّ المسلمين والمجرمين سواء ، أو يضمن أنّ الله تعالى سيؤتيه كلّ ما يريد؟!.

وفي آخر مرحلة من هذا الاستجواب العجيب يقول تعالى :( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) .

فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أنّ هذه الأصنام المنحوتة من الحجارة ، والتي لا قيمة لها ولا شعور ، تكون شريكة الله تعالى وتشفع لهم عنده.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ (شركاء) هنا بمعنى (شهداء).

ومن خلال العرض المتقدّم نستطيع القول : إنّ هؤلاء المجرمين لإثبات ادّعاءاتهم في التساوي مع المؤمنين في يوم القيامة ، بل أفضليتهم أحيانا كما يذهب بعضهم لذلك ، لا بدّ لهم أن يدعموا قولهم هذا بإحدى الوسائل الأربعة

__________________

(١) فسّر البعض مصطلح (بالغة) هنا بمعنى (مؤكّد) ، وفسّرها البعض الآخر بأنّها (مستمر) والمعنى الثاني أنسب ، وبناء على هذا فإنّ (الجارّ والمجرور) في (إلى يوم القيامة) تكون متعلّقة بـ (بالغة).

٥٤٨

التالية : إمّا دليل من العقل ، أو كتاب من الكتب السماوية ، أو عهد من الله تعالى ، أو بواسطة شفاعة الشافعين وشهادة الشاهدين. وبما أنّ جواب جميع هذه الأسئلة سلبي ، لذا فإنّ هذا الادّعاء فارغ من الأساس وليست له أيّة قيمة.

* * *

٥٤٩

الآيات

( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) )

التّفسير

العجز عن السجود :

تعقيبا للآيات السابقة التي استجوب الله تعالى فيها المشركين والمجرمين استجوابا موضوعيا ، تكشف لنا هذه الآيات جانبا من المصير البائس في يوم القيامة لهذه الثلّة المغرمة في حبّها لذاتها ، والمكثرة للادّعاءات ، هذا المصير المقترن بالحقارة والذلّة والهوان.

يقول تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) (١) .

__________________

(١) «يوم» ظرف متعلّق بمحذوف تقديره : (اذكروا يوم ...) ، واحتمل البعض ـ أيضا ـ أنّه متعلّق بـ (فليأتوا) في الآية

٥٥٠

جملة( يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ) كما قال جمع من المفسّرين ، كناية عن شدّة الهول والخوف والرعب وسوء الحال ، إذ أنّ المتعارف بين العرب عند مواجهتهم أمرا صعبا أنّهم يشدّون ثيابهم على بطونهم ممّا يؤدّي إلى كشف سيقانهم.

ونقرأ جواب ابن عبّاس المفسّر المعروف عند ما سئل عن تفسير هذه الآية قال : كلّما خفي عليكم شيء من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب ، ألم تسمعوا قول الشاعر :

وقامت الحرب بنا على ساق.

إنّ هذا القول كناية عن شدّة أزمة الحرب.

وقيل : إنّ (ساق) تعني أصل وأساس الشيء ، كساق الشجرة ، وبناء على هذا فإنّ جملة (يكشف عن ساق) تعني أنّ أساس كلّ شيء يتّضح ويتبيّن في ذلك اليوم ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر.

وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للبارئعزوجل ، فيسجد المؤمنون ، ويعجز المجرمون عن السجود ، لأنّ نفوسهم المريضة وممارساتهم القبيحة قد تأصّلت في طباعهم وشخصياتهم في عالم الدنيا ، وتطفح هذه الخصال في اليوم الموعود وتمنعهم من إحناء ظهورهم للذات الإلهية المقدّسة.

وهنا يثار سؤال : إنّ يوم القيامة ليس بيوم تكاليف وواجبات وأعمال ، فلم السجود؟

يمكن استنتاج الجواب من التعبير الذي ورد في بعض الأحاديث ، نقرأ في الحديث التالي عن الإمام الرضاعليه‌السلام في قوله تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) قال : «حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّدا وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود»(١) .

__________________

السابقة ، إلّا أنّ هذا المعنى مستبعد.

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩٥ ، ح ٤٩.

٥٥١

وبتعبير آخر : في ذلك اليوم تتجلّى العظمة الإلهية ، وهذه العظمة تدعو المؤمنين للسجود فيسجدون ، إلّا أنّ الكافرين حرموا من هذا الشرف واللطف.

وتعكس الآية اللاحقة صورة جديدة لحالتهم حيث يقول سبحانه :( خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) (١) .

هذه الآية الكريمة تصف لنا حقيقة المجرمين عند ما يدانون في إجرامهم ويحكم عليهم ، حيث نلاحظ الذلّة والهوان تحيط بهم ، وتكون رؤوسهم مطأطئة تعبيرا عن هذه الحالة المهينة.

ثمّ يضيف تعالى :( وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ ) .

إلّا أنّهم لن يسجدوا أبدا ، لقد صحبوا روح التغطرس والعتوّ والكبر معهم في يوم القيامة فكيف سيسجدون؟

إنّ الدعوة للسجود في الدنيا لها موارد عديدة ، فتارة بواسطة المؤذّنين للصلاة الفردية وصلاة الجماعة ، وكذلك عند سماع بعض الآيات القرآنية وأحاديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ولذا فإنّ الدعوة للسجود لها مفهوم واسع وتشمل جميع ما تقدّم.

ثمّ يوجّه البارئعزوجل الخطاب لنبيّه الكريم ويقول :( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ) .

وهذه اللهجة تمثّل تهديدا شديدا من الواحد القهّار لهؤلاء المكذّبين المتمردين ، حيث يخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لا تتدخّل ، واتركني مع هؤلاء ، لاعاملهم بما يستحقّونه. وهذا الكلام الذي يقوله ربّ قادر على كلّ شيء ، ـ بالضمن ـ باعث على اطمئنان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين أيضا ، ومشعرا لهم بأنّ الله معهم وسيقتصّ من جميع الأعداء الذين يثيرون المشاكل والفتن والمؤامرات أمام

__________________

(١) «ترهقهم» من مادّة (رهق) ، (على وزن شفق) بمعنى التغطية والإحاطة.

٥٥٢

الرّسول والرسالة ، ولن يتركهم الله تعالى على تماديهم.

ثمّ يضيف سبحانه :( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) .

نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إذا أحدث العبد ذنبا جدّد له نعمة فيدع الاستغفار ، فهو الاستدراج»(١) .

والذي يستفاد من هذا الحديث ـ والأحاديث الاخرى في هذا المجال ـ أنّ الله تعالى يمنح ـ أحيانا ـ عباده المعاندين نعمة وهم غارقون في المعاصي والذنوب وذلك كعقوبة لهم. فيتصوّرون أنّ هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم ولياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف ، وتستولي عليهم الغفلة إلّا أنّ عذاب الله ينزل عليهم فجأة ويحيط بهم وهم بين أحضان تلك النعم الإلهية العظيمة وهذا في الحقيقة من أشدّ ألوان العذاب ألما.

إنّ هذا اللون من العذاب يشمل الأشخاص الذين وصل طغيانهم وتمردّهم حدّه الأعلى ، أمّا من هم دونه في ذلك فإنّ الله تعالى ينبّههم وينذرهم عن ممارساتهم الخاطئة عسى أن يعودوا إلى رشدهم ، ويستيقظوا من غفلتهم ، ويتوبوا من ذنوبهم ، وهذا من ألطاف البارئعزوجل بهم.

وبعبارة اخرى : إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية :

إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربّه.

أو أن ينزل الله عليه العذاب ليعود إلى رشده.

أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له ، فيعطيه الله نعمة بدل البلاء وهذا هو : (عذاب الاستدراج) والذي أشير له في الآيات القرآنية بالتعبير

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤٠.

٥٥٣

أعلاه وبتعابير اخرى.

لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظا عند إقبال النعم الإلهية عليه ، وليحذر من أن يكون ما يمنحه الله من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته (عذاب الاستدراج) ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الأمور ويحاسبون أنفسهم باستمرار ، ويعيدون تقييم أعمالهم دائما ، كي يكونوا قريبين من طاعة الله ، ويؤدّون حقّ الألطاف والنعم التي وهبها الله لهم.

جاء في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام قال : إنّي سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالا فرزقني ، وإنّي سألت الله أن يرزقني ولدا فرزقني ، وسألته أن يرزقني دارا فرزقني ، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجا؟ فقال : «أمّا مع الحمد فلا»(١) .

والتعبير بـ (أملي لهم) إشارة إلى أنّ الله تعالى لا يستعجل أبدا بجزاء الظالمين ، والاستعجال يكون عادة من الشخص الذي يخشى فوات الفرصة عليه ، إلّا أنّ الله القادر المتعال أيّما شاء وفي أي لحظة فإنّه يفعل ذلك ، والزمن كلّه تحت تصرّفه.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا تحذير لكلّ الظالمين والمتطاولين بأن لا تغرّهم السلامة والنعمة أبدا ، وليرتقبوا في كلّ لحظة بطش الله بهم(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي نقلا عن نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٩٧ ، ح ٥٩.

(٢) سبق كلام حول عقوبة (الاستدراج) في الآية (١٨٣) من سورة الأعراف ، وكذلك في الآية (١٧٨) سورة آل عمران.

٥٥٤

الآيات

( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) )

التّفسير

لا تستعجل بعذابهم :

استمرارا للاستجواب الذي تمّ في الآيات السابقة للمشركين والمجرمين ، يضيف البارئعزوجل سؤالين آخرين ، حيث يقول في البداية :( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) .

أي إذا كانت حجّتهم أنّ الاستجابة لدعوتك تستوجب أجرا ماديا كبيرا ، وأنّهم غير قادرين على الوفاء به ، فإنّه كذب ، حيث أنّك لم تطالبهم بأجر ، كما لم يطلب أي من رسل الله أجرا.

٥٥٥

«مغرم» من مادّة (غرامة) وهي ما يصيب الإنسان من ضرر دون أن يرتكب جناية ، و (مثقل) من مادّة (ثقل) بمعنى الثقل ، وبهذا فإنّ الله تعالى أسقط حجّة اخرى ممّا يتذرّع به المعاندون.

وقد وردت الآية أعلاه وما بعدها (نصّا) في سورة الطور (آية ٤٠ ـ ٤١).

ثمّ يضيف واستمرارا للحوار بقوله تعالى :( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) .

حيث يمكن أن يدّعي هؤلاء بأنّ لهم ارتباطا بالله سبحانه عن طريق الكهنة ، أو أنّهم يتلقّون أسرار الغيب عن هذا الطريق فيكتبونها ويتداولونها ، وبذلك كانوا في الموقع المتميّز على المسلمين ، أو على الأقل يتساوون معهم.

ومن المسلّم به أنّه لا دليل على هذا الادّعاء أيضا ، إضافة إلى أنّ لهذه الجملة معنى (الاستفهام الإنكاري) ، ولذا فمن المستبعد ما ذهب إليه البعض من أنّ المقصود من الغيب هو (اللوح المحفوظ) ، والمقصود من الكتابة هو القضاء والقدر ، وذلك لأنّهم لم يدّعوا أبدا أنّ القضاء والقدر واللوح المحفوظ في أيديهم.

ولأنّ العناد واللامنطقية التي كان عليها أعداء الإسلام تؤلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدفعه إلى أن يدعو الله عليهم ، لذا فإنّه تعالى أراد أن يخفّف شيئا من آلام رسوله الكريم ، فطلب منه الصبر وذلك قوله تعالى :( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) .

أي انتظر حتّى يهيء الله لك ولأعوانك أسباب النصر ، ويكسر شوكة أعدائك ، فلا تستعجل بعذابهم أبدا ، واعلم بأنّ الله ممهلهم وغير مهملهم ، وما المهلة المعطاة لهم إلّا نوع من عذاب الاستدراج.

وبناء على هذا فإنّ المقصود من (حكم ربّك) هو حكم الله المقرّر الأكيد حول انتصار المسلمين.

وقيل أنّ المقصود منها هو : أن تستقيم وتصبر في طريق إبلاغ أحكام الله تعالى.

كما يوجد احتمال آخر أيضا وهو أنّ المقصود بالآية أنّ حكم الله إذا جاء

٥٥٦

فعليك أن تستسلم لأمره تعالى وتصبر ، لأنّه سبحانه قد حكم بذلك(١) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

ثمّ يضيف تعالى :( وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) :

والمقصود من هذا النداء هو ما ورد في قوله تعالى :( فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

وبذلك فقد اعترف النبي يونسعليه‌السلام بترك الأولى ، وطلب العفو والمغفرة من الله تعالى. كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا النداء هو اللعنة التي أطلقها على قومه في ساعة غضبه. إلّا أنّ المفسّرين اختاروا التّفسير الأوّل لأنّ التعبير بـ «نادى» في هذه الآية يتناسب مع ما ورد في الآية (٨٧) من سورة الأنبياء ، حيث من المسلّم انّه نادى ربّه عند ما كانعليه‌السلام في بطن الحوت.

«مكظوم» من مادّة (كظم) على وزن (هضم) بمعنى الحلقوم ، و (كظم السقاء) بمعنى سدّ فوهة القربة بعد امتلائها ، ولهذا السبب يقال للأشخاص الذين يخفون غضبهم وألمهم ويسيطرون على انفعالاتهم ويكظمون غيظهم بأنّهم : كاظمون ، والمفرد : كاظم ، ولهذا السبب يستعمل هذا المصطلح أيضا بمعنى (الحبس).

وبناء على ما تقدّم فيمكن أن يكون للمكظوم معنيان في الآية أعلاه : المملوء غضبا وحزنا ، أو المحبوس في بطن الحوت ، والمعنى الأوّل أنسب ، كما ذكرنا.

ويضيف سبحانه في الآية اللاحقة :( لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ) (٣) .

من المعلوم أنّ يونسعليه‌السلام خرج من بطن الحوت ، والقي في صحراء يابسة ،

__________________

(١) في هذه الصورة ستكون اللام في (لحكم ربّك) هي لام التعليل.

(٢) الأنبياء ، الآية ٨٧.

(٣) مع انّ (النعمة) مؤنث ، إلّا أنّ فعلها (تداركه) جاء بصورة مذكر ، وسبب هذا أنّ فاعل المؤنث يكون لفظيا ، وأنّ الضمير المفعول أصبح فاصلا بين الفعل والفاعل (فتأمّل!).

٥٥٧

عبّر عنها القرآن الكريم بـ (العراء) وكان هذا في وقت قبل الله تعالى فيه توبته وشمله برحمته ، ولم يكن أبدا مستحقّاعليه‌السلام للذمّ.

ونقرأ في قوله تعالى :( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) (١) كي يستريح في ظلالها.

كما أنّ المقصود من (النعمة) في الآية أعلاه هو توفيق التوبة وشمول الرحمة الإلهية لحالهعليه‌السلام حسب الظاهر.

وهنا يطرح سؤالان :

الأوّل : هو ما جاء في الآيتين ١٤٣ ، ١٤٤ من سورة الصافات في قوله تعالى :( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) وهذا مناف لما ورد في الآية مورد البحث.

وللجواب على هذا السؤال يمكن القول : كانت بانتظار يونسعليه‌السلام عقوبتان : إحداهما شديدة ، والاخرى أخفّ وطأة. الاولى الشديدة هي أن يبقى في بطن الحوت إلى يوم يبعثون ، والأخفّ : هو أن يخرج من بطن الحوت وهو مذموم وبعيد عن لطف الله سبحانه ، وقد كان جزاؤهعليه‌السلام الجزاء الثاني ، ورفع عنه ما ألمّ به من البعد عن الألطاف الإلهية حيث شملته بركة اللهعزوجل ورحمته الخاصّة.

والسؤال الآخر يتعلّق بما جاء في قوله تعالى :( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) (٢) وإنّ ما يستفاد من الآية مورد البحث أنّهعليه‌السلام لم يكن ملوما ولا مذموما.

ويتّضح الجواب على هذا السؤال بالالتفات إلى أنّ الملامة كانت في الوقت الذي التقمه الحوت توّا ، وأنّ رفع المذمّة كان متعلّقا بوقت التوبة وقبولها من قبل الله تعالى ، ونجاته من بطن الحوت.

لذا يقول البارئعزوجل في الآية اللاحقة :( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ

__________________

(١) الصافات ، الآية ١٤٥ و١٤٦.

(٢) الصافات ، الآية ١٤٣.

٥٥٨

الصَّالِحِينَ ) .

وبذلك فقد حمّله الله مسئولية هداية قومه مرّة اخرى ، وعاد إليه يبلّغهم رسالة ربّه ، ممّا كانت نتيجته أن آمن قومه جميعا ، وقد منّ الله تعالى عليهم بألطافه ونعمه وأفضاله لفترة طويلة.

وقد شرحنا قصّة يونسعليه‌السلام وقومه ، وكذلك بعض المسائل الاخرى حول تركه لـ (الأولى) واستقراره فترة من الزمن في بطن الحوت والإجابة على بعض التساؤلات المطروحة في هذا الصدد بشكل مفصّل في تفسير الآيات (١٣٩ ـ ١٤٨) من سورة الصافات وكذلك في تفسير الآيات (٨٧ ، ٨٨) من سورة الأنبياء.

* * *

٥٥٩

الآيتان

( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢) )

التّفسير

يريدون قتلك لكنّهم عاجزون

هاتان الآيتان تشكّلان نهاية سورة القلم ، وتتضمّنان تعقيبا على ما ورد في بداية السورة من نسبة الجنون إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل الأعداء.

يقول تعالى :( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) .

«ليزلقونك» من مادّة (زلق) بمعنى التزحلق والسقوط على الأرض ، وهي كناية عن الهلاك والموت.

ثمّة أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية :

١ ـ قال كثير من المفسّرين : إنّ الأعداء حينما يسمعون منك هذه الآيات العظيمة للقرآن الكريم ، فإنّهم يمتلئون غضبا وغلا ، وتتوجّه إليك نظراتهم الحاقدة وبمنتهى الغيظ ، وكأنّما يريدون أن يطرحوك أرضا ويقتلوك بنظراتهم الخبيثة

٥٦٠

الغاضبة.

وأضاف قسم آخر في توضيح هذا المعنى ، أنّهم يريدون قتلك بالحسد عن طريق العين ، وهو ما يعتقد به الكثير من الناس ، لوجود الأثر المرموز في بعض العيون والتي يمكن أن تؤثّر على الطرف الآخر بنظرة خاصّة تميت المنظور.

٢ ـ وقال البعض الآخر : إنّها كناية عن نظرات ملؤها الحقد والغضب ، كما يقال عرفا : إنّ فلانا نظر إليّ نظرة وكأنّه يريد التهامي أو قتلي.

٣ ـ ويوجد تفسير آخر للآية الكريمة يحتمل أن يكون أقرب التفاسير ، وهو أنّ الآية الكريمة أرادت أن تظهر التناقض والتضادّ لدى هؤلاء المعاندين ، وذلك أنّهم يعجبون ويتأثّرون كثيرا عند سماعهم الآيات القرآنية بحيث يكادون أن يصيبوك بالعين (لأنّ الإصابة بالعين تكون غالبا في الأمور التي تثير الإعجاب كثيرا) إلّا أنّهم في نفس الوقت يتّهمونك بالجنون ، وهذا يمثّل التناقض حقّا. إذ أين الجنون ولغو الكلام وأين هذه الآيات المثيرة للإعجاب والنافذة في القلوب؟

إنّ هؤلاء ذوي العقول المريضة لا يدركون ما يقولون وما وقعوا فيه من التناقض فيما ينسبونه إليك.

وعلى كلّ حال فإنّ ما يتعلّق بموضوع حقيقة إصابة العين وصحّتها ـ من وجهة النظر الإسلامية أو عدمها ، وكذلك من وجهة نظر العلوم الحديثة ، فهذا ما سنستعرضه في البحوث التالية إن شاء الله.

وأخيرا يضيف تعالى في آخر آية :( وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) .

حيث أنّ معارف القرآن الكريم واضحة ، وإنذاراته موقظة ، وأمثاله هادفة ، وترغيباته وبشائره مربّية ، وبالتالي فهو عامل وسبب ليقظة النائمين وتذكرة للغافلين ، ومع هذا فكيف يمكن أن ينسب الجنون إلى من جاء به؟

وتماشيا مع هذا الرأي فإنّ (ذكر) على وزن (فكر) تكون بمعنى (المذكّر).

وفسّرها البعض الآخر بمعنى (الشرف) ، وقالوا : إنّ هذا القرآن شرف لجميع

٥٦١

العالمين ، وهذا ما هو وارد ـ أيضا ـ في قوله تعالى :( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) (١) .

إلّا أنّ (الذكر) هنا بمعنى المذكّر والمنبّه ، بالإضافة إلى أنّ أحد أسماء القرآن الكريم هو (الذكر) وبناء على هذا ، فإنّ التّفسير الأوّل أصحّ حسب الظاهر.

* * *

بحث

هل أنّ إصابة العين لها حقيقة؟

يعتقد الكثير من الناس أنّ لبعض العيون آثارا خاصّة عند ما تنظر لشيء بإعجاب ، إذ ربّما يترتّب على ذلك الكسر أو التلف ، وإذا كان المنظور إنسانا فقد يمرض أو يجنّ

إنّ هذه المسألة ليست مستحيلة من الناحية العقلية ، حيث يعتقد البعض من العلماء المعاصرين بوجود قوّة مغناطيسية خاصّة مخفية في بعض العيون بإمكانها القيام بالكثير من الأعمال ، كما يمكن تدريبها وتقويتها بالتمرين والممارسة ، ومن المعروف أنّ «التنويم المغناطيسي» يكون عن طريق هذه القوّة المغناطيسية الموجودة في العيون.

إنّ (أشعة ليزر) هي عبارة عن شعاع لا مرئي يستطيع أن يقوم بعمل لا يستطيع أي سلاح فتّاك القيام به ، ومن هنا فإنّ القبول بوجود قوّة في بعض العيون تؤثّر على الطرف المقابل ، وذلك عن طريق أمواج خاصّة ليس بأمر مستغرب.

ويتناقل الكثير من الأشخاص أنّهم رأوا بامّ أعينهم أشخاصا لهم هذه القوّة المرموزة في نظراتهم ، وأنّهم قد تسبّبوا في إهلاك آخرين (أشخاص وحيوانات وأشياء) وذلك بإصابتهم بها.

__________________

(١) الزخرف ، الآية ٤٤.

٥٦٢

لذا فلا ينبغي الإصرار على إنكار هذه الأمور. بل يجدر تقبّل احتمال وجود مثل هذا الأمر من الناحية العقلية والعلمية.

كما جاء في بعض الرّوايات الإسلامية ـ أيضا ـ ما يؤيّد وجود مثل هذا الأمر بصورة إجمالية كما في الرواية التالية : «إنّ أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله إنّ بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال : نعم ، فلو كان شيء يسبق القدر لسبقه العين».(المقصود من (الرقية) هي الأدعية التي يكتبونها ويحتفظ بها الأشخاص لمنع الإصابة بالعين ويقال لها التعويذة أيضا)(١) .

وجاء في حديث آخر أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : النّبي رقى حسنا وحسينا فقال : «أعيذكما بالكلمات التامّة وأسمائه الحسنى كلّها عامّة ، من شرّ السامّة والهامّة ، ومن شرّ كلّ عين لامّة ، ومن شرّ حاسد إذا حسد» ثمّ التفت النّبي إلينا فقال : هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق(٢) .

وجاء في نهج البلاغة أيضا : «العين حقّ ، والرقى حقّ»(٣) .

ولمّا كانت الأدعية توسّلا للبارئعزوجل في دفع الشرّ وجلب الخير ، فبأمر من الله تعالى يمنع تأثير القوّة المغناطيسية للعيون ، ولا مانع من ذلك ، كما أنّ للأدعية تأثيرا في كثير من العوامل والأسباب الضارّة وتبطل مفعولها بأمر الله تعالى.

كما يجدر الالتفات إلى هذه النقطة ـ أيضا ـ وهي : إنّ قبول تأثير الإصابة بالعين بشكل إجمالي لا يعني الإيمان بالأعمال الخرافية ، وممارسات الشعوذة التي تنتشر بين العوام ، إذ أنّ ذلك مخالف لأوامر الشرع ، ويثير الشكّ في أصل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤١.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٠٠.

(٣) نهج البلاغة ، من الكلمات القصار جملة (٤٠٠) ، (نقل هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري ، ج ٧ ، ص ١٧١ باب (العين حقّ) ولما ذكرناه فالعين حقّ) وكذلك في (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) ، كما نقل هذا المعنى من منابع مختلفة ج ٤ ، ص ٤٥١.

٥٦٣

الموضوع عند غير المسلمين بهذه المسائل ، كما أنّ هذه الأعمال تربك وتشوش الكثير من الحقائق بما يدس بها من الأوهام والخرافات ، وبذلك يكون الانطباع عنها سلبيا في الأذهان.

اللهمّ : احفظنا بحفظك من شرّ الأشرار ، ومكائد الأعداء.

ربّنا ، تفضّل علينا بالصبر والاستقامة في سبيل تحصيل رضاك.

إلهي ، وفّقنا للاستفادة من نعمك اللامتناهية وأداء شكرها قبل أن تسلب منّا.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة القلم

* * *

٥٦٤
٥٦٥

سورة

الحاقّة

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥٦٦

«سورة الحاقّة»

محتوى السورة :

تدور موضوعات سورة الحاقّة حول ثلاثة محاور :

المحور الأوّل : وهو أهمّ محاور هذه السورة ، يرتبط بمسائل يوم القيامة وبيان خصوصياتها ، وقد وردت فيه ثلاثة أسماء من أسماء يوم القيامة وهي : (الحاقّة) و (القارعة) و (الواقعة).

أمّا المحور الثاني : فتدور أبحاثه حول مصير الأقوام الكافرين ، خصوصا قوم عاد وثمود وفرعون ، وتشتمل على إنذارات شديدة لجميع الكفّار ومنكري يوم البعث والنشور.

وتتحدّث أبحاث المحور الثالث حول عظمة القرآن الكريم ، ومقام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجزاء المكذّبين.

فضيلة تلاوة سورة الحاقّة

جاء في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الحاقّة حاسبه الله حسابا يسيرا»(١) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : (أكثروا من قراءة الحاقّة ، فإنّ قراءتها في الفرائض والنوافل من الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسلب قارئها دينه حتّى يلقى الله)(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤٢.

(٢) المصدر السابق.

٥٦٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) )

التّفسير

الطغاة والعذاب الأليم :

تبدأ هذه السورة بعنوان جديد ليوم القيامة ، يقول تعالى :( الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ) (١) والمراد من الحاقّة هو اليوم الذي سيتحقّق حتما.

ذهب أغلب المفسّرين إلى أنّ (الحاقّة) اسم من أسماء يوم القيامة ، باعتباره

__________________

(١) هناك وجهات نظر عدّة في إعراب جملة (الحاقّة ، ما الحاقّة) ، إلّا أنّ الأنسب في هذه الآراء هو أن يقال : إنّ (الحاقّة) مبتدأ ، و (ما) الاستفهامية مبتدأ ثان و (الحاقّة) الثانية خبر للمبتدأ الثاني ، وجملة (ما الحاقّة) خبر للمبتدأ الأوّل.

٥٦٨

قطعي الوقوع ، كما هو بالنسبة لـ (الواقعة) في سورة (الواقعة) ، وقد جاء في الآية (١٦) من هذه السورة الاسم نفسه ، وهذا يؤكّد يقينية ذلك اليوم العظيم.

«ما الحاقّة» : تعبير لبيان عظمة ذلك اليوم ، كما يقال : إنّ فلانا إنسان ، يا له من إنسان ، ويقصد من هذا التعبير وصف إنسانيّته دون تقييد حدّها.

والتعبير بـ( ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ) للتأكيد مرّة اخرى على عظمة الأحداث في ذلك اليوم العظيم حتّى أنّ البارئعزوجل يخاطب رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّك لا تعلم ما هو ذلك اليوم؟(١) .

وكما لا يمكن أن يدرك الجنين الذي في بطن امّه المسائل المتعلّقة بالدنيا ، فإنّ أبناء الدنيا كذلك ليس بمقدورهم إدراك الحوادث التي تكون في يوم القيامة.

ويحتمل أنّ المقصود من (الحاقّة) هو الإشارة إلى العذاب الإلهي الذي يحلّ فجأة في هذه الدنيا بالمشركين والمجرمين والطغاة وأصحاب الهوى والمتمرّدين على الحقّ.

كما فسّرت (القارعة) التي وردت في الآية اللاحقة بهذا المعنى ـ أيضا وبلحاظ أنّ هذا التّفسير يتناسب بصورة أكثر مع ما جاء في الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن حلول العذاب الشديد بقوم عاد وثمود وفرعون وقوم لوط ، فقد ذهب بعض المفسّرين إلى هذا الرأي أيضا.

وجاء في تفسير (علي بن إبراهيم) قوله : إنّ (الحاقّة هي الحذر من نزول العذاب) وهو نظير ما جاء في الآية التالية :( وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ ) (٢) (٣)

ثمّ تستعرض الآيات الكريمة اللاحقة مصير الأقوام الذين أنكروا يوم

__________________

(١) ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ جملة (ما أدراك) تتحدّث عن المسائل المعلومة والمسلّمة ، بينما جاءت (وما يدريك) في الموارد والمسائل المبهمة. مجمع البيان ج ١٠ ، ص ٣٤٣ ، كما نقل بعض المفسّرين هذا المعنى أيضا ومنهم القرطبي.

(٢) تفسير (علي بن إبراهيم) ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، ومما يجدر الانتباه إليه أن كلمة (الحاقة) و (الحاق) من مادة واحدة.

(٣) المؤمن ، الآية ٤٥.

٥٦٩

القيامة ، وكذلك نزول العذاب الإلهي في الدنيا ، حيث يضيف تعالى :( كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) .

لقد كان (قوم ثمود) يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام ، فبعث الله النبي صالحعليه‌السلام إليهم ، ودعاهم إلى الإيمان بالله إلّا أنّهم لم يستجيبوا له ، بل حاربوه وتحدّوه في إنزال العذاب الذي أوعدهم به إن كان صادقا ، وفي هذه الحالة من التمرّد الذي هم عليه ، سلّط الله عليهم (صاعقة مدمّرة) أنهت كلّ وجودهم في لحظات ، فخربت بيوتهم وقصورهم المحكمة ، وتهاوت أجسادهم على الأرض.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أنّ القرآن الكريم يعبّر عن عقاب هؤلاء الأقوام المتمردين بـ (العذاب الشديد) ، وقد كان العذاب الشديد بصور متعدّدة حيث عبّر عنه بـ (الطاغية) كما جاء في الآية مورد البحث واخرى بال (رجفة) كما جاء في سورة الأعراف الآية (٧٨) وثالثة كان بصورة (صاعقة) كما ورد في سورة فصّلت الآية (١٣) ، ورابعة كان على شكل (صيحة) كما جاء في سورة هود الآية (٦٧).

وفي الحقيقة فإنّ جميع هذه التعابير ترجع إلى معنى واحد ، لأنّ الصاعقة دائما تكون مقرونة : بصوت عظيم ، ورجفة على النقطة التي تقع فيها ، وعذاب طاغ عظيم.

ثمّ تتطرّق الآية اللاحقة لتحدّثنا عن مصير (قوم عاد) الذين كانوا يسكنون في أرض الأحقاف الواقعة (في شبه جزيرة العرب أو اليمن) وكانوا ذوي قامات طويلة ، وأجساد قوية ، ومدن عامرة ، وأراض خضراء خصبة ، وحدائق نضرة وكان نبيّهم (هود)عليه‌السلام يدعوهم إلى الهدى والإيمان بالله إلّا أنّهم أصرّوا على كفرهم وتمادوا في طغيانهم وتمرّدوا على الحقّ ، فانتقم الله منهم شرّ انتقام ، وأقبرهم تحت الأرض بعد أن سلّط عليهم عذابا شديدا مؤلما ، سنوضّح شرحه في

٥٧٠

الآيات التالية.

يقول تعالى :( وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ) .

«صرصر» على وزن (دفتر) تقال للرياح الباردة أو المقترنة بصوت وضوضاء ، أو المسمومة ، وقد ذكر المفسّرون هذه المعاني الثلاث في تفسيرها ، والجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضا.

«عاتية» من مادّة (عتو) على وزن (علو) بمعنى التمرّد على القانون الطبيعي للرياح وليست على أمر الله.

ثمّ تبيّن الآية التالية وصفا آخر لهذه الرياح المدمّرة ، حيث يقول تعالى :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ) .

«حسوما» من مادّة (حسم) على وزن (رسم) بمعنى إزالة آثار شيء ما ، وقيل للسيف (حسام) على وزن (غلام) ، ويقال : (حسم) أحيانا لوضع الشيء الحارّ على الجرح للقضاء عليه من الأساس.

لقد حطّمت وأفنت هذه الريح المدمّرة في الليالي السبع والأيّام الثمانية جميع معالم حياة هؤلاء القوم ، والتي كانت تتميّز بالابّهة والجمال ، واستأصلتهم من الجذور(١) .

ويصوّر لنا القرآن الكريم مآل هؤلاء المعاندين بقوله تعالى :( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) .

إنّه لتشبيه رائع يصوّر لنا ضخامة قامتهم التي اقتلعت من الجذور ، بالإضافة إلى خواء نفوسهم ، حيث أنّ العذاب الإلهي جعل الريح تتقاذف أجسادهم من جهة إلى اخرى.

«خاوية» من مادّة (خواء) على وزن (حواء) في الأصل بمعنى كون الشيء

__________________

(١) «حسوما» جاءت هنا صفة لـ (سبع ليال وثمانية أيّام) ، كما اعتبرها البعض (حالا) لل (ريح) أو (مفعولا به).

٥٧١

خاليا ، ويطلق هذا التعبير أيضا على البطون الجائعة ، والنجوم الخالية من المطر (كما في إعتقاد عرب الجاهلية) ، وتطلق كذلك على الجوز الأجوف الفارغ من اللب.

ويضيف في الآية التالية :( فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ) (١) .

نعم لم يبق اليوم أي أثر لقوم عاد ، بل حتّى مدنهم العامرة ، وعماراتهم الشامخة ومزارعهم النضرة لم يبق منها شيء يذكر أبدا.

لقد بحثنا قصّة قوم عاد بصورة مفصّلة في التّفسير الأمثل ، تفسير الآيات (٥٨ ـ ٦٠) من سورة هود.

* * *

__________________

(١) (باقية) : صفة لموصوف مقدر ، وكانت في الأصل (نفس باقية).

٥٧٢

الآيات

( وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) )

التّفسير

أين الآذان الواعية؟

بعد ما استعرضت الآيات الكريمة السابقة الأحداث التي مرّت بقومي عاد وثمود ، وتستمرّ هذه الآيات في التحدّث عن الأقوام الاخرى كقوم (نوح) وقوم (لوط) لتكون درسا وعبرة لمن وعى وكان له قلب سليم يقول تعالى( وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ ) .

ال «خاطئة» بمعنى الخطأ و (لكليهما معنى مصدري) والمراد من الخطأ هنا هو الشرك والكفر والظلم والفساد وأنواع الذنوب.

ال «المؤتفكات» جمع (مؤتفكة) من مادّة (ائتفاك) بمعنى الانقلاب ، وهي هنا

٥٧٣

إشارة إلى ما حصل في مدن قوم لوط ، حيث انقلبت بزلزلة عظيمة.

والمقصود بـ( وَمَنْ قَبْلَهُ ) هم الأقوام الذين كانوا قبل قوم فرعون ، كقوم شعيب ، وقوم نمرود الذين تطاولوا على رسولهم.

ثمّ يضيف تعالى :( فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً ) .

لقد خالف الفراعنة (موسى وهارون)عليهما‌السلام وواجهوهما بمنتهى العنف والتشكيك والملاحقة وكذلك كان موقف أهل مدينة (سدوم) من لوطعليه‌السلام الذي بعث لهدايتهم وإنقاذهم من ضلالهم وهكذا كان ـ أيضا ـ موقف أقوام آخرين من رسلهم حيث التطاول. والتشكيك والإعراض والتحدّي

إنّ كلّ مجموعة من هؤلاء الأقوام المتمردّين قد ابتلاهم الله بنوع من العذاب ، وأنزل عليه رجزا من السماء بما يستحقّون ، فالفراعنة أغرقهم الله سبحانه في وسط النيل الذي كان مصدرا لخيراتهم وبركة بلدهم وإعمار أراضيهم وديارهم ، وقوم لوط سلّط الله عليهم (الزلزال) الشديد ثمّ (مطر من الحجارة) ممّا أدّى إلى موتهم وفنائهم من الوجود.

«رابية» و (ربا) من مادّة واحدة ، وهي بمعنى الإضافة ، والمقصود بها هنا العذاب الصعب والشديد جدّا.

لقد جاء شرح قصّة قوم فرعون في الكثير من سور القرآن الكريم ، وجاءت بتفصيل أكثر في ما ورد من سورة الشعراء الآية (١٠ ـ ٦٨) يراجع التّفسير الأمثل ، وكذلك في سورة الأعراف من الآية (١٠٣ ـ ١٣٧) راجع التّفسير الأمثل ، وكذلك في سورة طه من الآية (٢٤ ـ ٧٩) راجع التّفسير الأمثل.

وجاءت قصّة لوط أيضا في الكثير من السور القرآنية من جملتها ما ورد في سورة الحجر الآية (٦١ ـ ٧٧) في التّفسير الأمثل.

وأخيرا تعرّض بإشارة موجزة إلى مصير قوم نوح والعذاب الأليم الذي حلّ بهم ، قال تعالى :( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ) .

٥٧٤

إنّ طغيان الماء كان بصورة غطّى فيها السحاب ومن هنا جاء تعبير (طغى) حيث هطل مطر غزير جدّا وكأنّه السيل ينحدر من السماء ، وفاضت عيون الأرض ، والتقت مياههما بحيث أصبح كلّ شيء تحت الماء (القوم وبيوتهم وقصور أكابرهم ومزارعهم وبساتينهم ...) ولم تنج إلّا مجموعة المؤمنين التي كانت مع نوحعليه‌السلام في سفينة.

جملة (حملناكم) كناية عن حمل وإنقاذ أسلافنا وأجدادنا من الغرق ، وإلّا ما كنّا في عالم هذا الوجود(١) .

ثمّ يبيّن الله سبحانه الغاية والهدف من هذا العقاب ، حيث يقول تعالى :( لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) .

إنّنا لم نرد الانتقام منكم أبدا ، بل الهداية والخير والسعادة ، كنّا نروم أن تكونوا في طريق الكمال والنضج التربوي والوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المكرم.

«تعيها» من مادّة (وعى) على وزن (سعى) يقول (الراغب) في المفردات ، و (ابن منظور) في لسان العرب : إنّها في الأصل بمعنى الاحتفاظ بشيء معيّن في القلب ، ومن هنا قيل لإناء (وعاء) لأنّه يحفظ الشيء الذي يوضع فيه ، وقد ذكرت هذه الصفة (الوعي) للآذان في الآيات مورد البحث ، وذلك بلحاظ أنّها تسمع الحقائق وتحتفظ بها.

والإنسان تارة يسمع كلاما إلّا أنّه كأن لم يسمعه ، وفي التعبير السائد : يسمع بإذن ويخرجه من الاخرى.

وتارة اخرى يسمع الكلام ويفكّر فيه ويتأمّله. ويجعل ما فيه خير في قلبه ،

__________________

(١) ومن هنا قال البعض : إنّ للآية محذوف تقديره (حملنا آباؤكم).

٥٧٥

ويعتبر الإيجابي منه منارا يسير عليه في طريق حياته وهذا ما يعبّر عنه بـ (الوعي).

* * *

تعقيب

١ ـ فضيلة اخرى من فضائل الإمام عليعليه‌السلام

جاء في كثير من الكتب الإسلامية المعروفة ـ أعمّ من كتب التّفسير والحديث ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال عند نزول الآية أعلاه( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) : «سألت ربّي ـ أن يجعلها اذن علي» ، وبعد ذلك كان يقول الإمام عليعليه‌السلام : «ما سمعت من رسول الله شيئا قطّ فنسيته ، إلّا وحفظته»(١) .

ونقل في (غاية المرام) ستّة عشر حديثا في هذا المجال عن طريق الشيعة وأهل السنّة ، كما ينقل (المحدّث البحراني) أيضا في تفسير (البرهان) عن (محمّد بن عبّاس) ثلاثين حديثا في هذا المجال نقلت عن طريق العامّة والخاصّة.

وهذه فضيلة عظيمة لقائد الإسلام العظيم الإمام عليعليه‌السلام حيث يكون موضع أسرار الرّسول ، ووارث علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا السبب فإنّ الجميع كانوا يرجعون إليه ـ الموافق له والمخالف ـ بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك عند ما يواجهون المشاكل الاجتماعية والعلمية المختلفة ، ويطلبون منه التدخّل في حلّها ، كما تحدّثنا بذلك كتب التواريخ بشكل تفصيلي.

__________________

(١) تفسير (القرطبي) ، ج ١٠ ، ص ٦٧٤٣ ، و (مجمع البيان) ، (وروح المعاني) ، و (روح البيان) ، و (أبو الفتوح الرازي) و (الميزان) نهاية الآيات مورد البحث ، وجاء هذا الحديث أيضا في مناقب ابن المغازلي الشافعي) ص ٢٦٥ (الطبعة الإسلامية).

٥٧٦

٢ ـ التناسب بين (الذنب) و (العقاب)

وردت في الآيات أعلاه تعبيرات ملفتة للنظر ، فتعبير (الطاغية) جاء في مورد العذاب الذي سلّط على قوم ثمود ، وعبارة (العاتية) جاءت في مورد العذاب الذي حلّ بقوم عاد ، وبالنسبة إلى ما أصاب قوم فرعون وقوم لوط فقد ورد تعبير (الرابية) كما وردت عبارة (طغى الماء) فيما يتعلّق بطبيعة العذاب الذي شمل قوم نوح والملاحظ من التعبيرات السابقة أنّها جميعا تشترك في مفهوم واحد وهو : (الطغيان والتمرّد) وهو نتيجة طبيعية لما كانت عليه هذه الأقوام جميعا أي إنّ عذاب هؤلاء الطغاة تحقّق بطغيان بعض المواهب الإلهية للناس أعمّ من الماء والهواء والتراب والنار.

كما أنّ هذه التعبيرات ـ أيضا ـ تؤكّد على حقيقة مهمّة ، وهي أنّ العقوبات التي نواجهها في الدنيا والآخرة ما هي إلّا تجسيد لحقيقة أعمالنا ، وأنّ أعمالنا نحن البشر تعود علينا خيرا كانت أم شرّا.

* * *

٥٧٧

الآيات

( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) )

التّفسير

الصّيحة العظيمة :

استمرارا لما تعرّضت له الآيات الاولى من هذه السورة ، والتي كانت تتعلّق بمسألة الحشر والقيامة ، تعرض لنا هذه الآيات صورة عن الحوادث العظيمة في ذلك اليوم الرهيب بأسلوب محرّك ومؤثّر في النفوس كي تحيط الإنسان علما بما ينتظره من حوادث ذات شأن كبير في ذلك الموقف الرهيب.

يقول تعالى في البداية :( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) .

لقد بيّنا فيما سبق أنّ ممّا يستفاد من القرآن الكريم أنّ نهاية عالم الدنيا وبداية عالم الآخرة تكون بصوت مفاجئ عظيم ، وذلك ما عبّر عنه بـ (نفخة الصور).

٥٧٨

ولهذا السبب استعمل البوق في الماضي والحاضر للاستفادة منه في جمع وتهيئة الجيوش ، وكذلك في الإعلان عن موعد الاستراحة ، حيث يتمّ العزف بألحان مختلفة حسب طبيعة الموضوع. الذي يعلن عنه ، فالعزف للنوم والاستراحة يختلف عن عزف التجمّع والتهيّؤ للحركة والتدريب

إنّ مسألة انتهاء هذا العالم ، وبداية العالم الجديد عالم الآخرة ، هي عند الله بسيطة وهيّنة في مقابل قدرته العظيمة ، فبأمر واحد وفي لحظة مفاجئة ينتهي ويفنى من في السموات والأرضين ، وبأمر آخر يلبس سبحانه الجميع لباس الحياة ويستعدّون للحساب ، وهذا هو مقصود الآية الكريمة.

لقد تحدّثنا بصورة مفصّلة حول خصوصيات (الصور) وكيفية (النفخ) فيه ، وعدد النفخات ، والفاصلة الزمنية بين كلّ نفخة ، وذلك في تفسير سورة (الزمر) الآية ٦٨ من التّفسير الأمثل ، لذا لا نرى ضرورة لتكرار ذلك.

والشيء الوحيد الذي نذكّر به هنا هو (نفخة الصور) وكما أشرنا أعلاه فهي (نفختان) : (نفخة الموت) ، و (نفخة الحياة الجديدة) ، لكن هل المقصود في هذه الآية الكريمة هو (النفخة الاولى) أم (الثانية)؟ فهذا ما لا يوجد فيه رأي موحّد بين المفسّرين ، لأنّ الآيات التي ستأتي لاحقا بعضها يتناسب مع نفخة الموت ، والآخر يتناسب مع نفخة الحياة والحشر ، إلّا أنّ منطوق الآيات بشكل إجمالي في رأينا تتناسب أكثر مع النفخة الاولى التي تحصل فيها نهاية عالم الدنيا.

ثمّ يضيف تعالى :( وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) .

«دكّ» كما يقول الراغب في المفردات ، وفي الأصل بمعنى (الأرض المستوية) ولأنّ الأرض غير المستوية تحتاج إلى الدك حتّى تستوي ، لذا استعمل هذا المصطلح في الكثير من الموارد بمعنى «الدق الشديد».

كما يستفاد من مصادر اللغة أنّ أصل معنى (دك) هو (الدقّ والتخريب) ولازم

٥٧٩

ذلك الإستواء ، لذا استعمل هذا المصطلح في هذا المعنى أيضا(١) .

وعلى كلّ حال فإنّ المقصود من هذه الكلمة ـ في الآية مورد البحث ـ هو الدقّ الشديد للجبال والأراضي اللامستوية بعضها ببعض بحيث تستوي وتتلاشى فيها جميع التعرجات.

ثمّ يضيف تعالى :( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) .

في ذلك اليوم العظيم لا تتلاشى فيه الأرض والجبال فحسب ، بل يقع حدث عظيم آخر ، وذلك قوله تعالى :( وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) وذلك بيان لما تتعرّض له ، الأجرام السماوية العظيمة من انفلاقات وتناثر وتلاشي ، حيث تضطرب هذه الأجرام الهائلة وتتحوّل فيها النظام إلى فوضى والتماسك إلى ضعف ، والاستحكام إلى خواء بشكل عجيب. وذلك من خلال حركات وتحوّلات مرعبة جدّا ، كما يعبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى :( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ) الرحمن.

وبعبارة اخرى فإنّ الأرض والسماء الحاليتين تتدمران وتنتهيان ، ويحدث عالم جديد على انقاض العالم السابق يكون أكمل وأتمّ وأعلى من عالمنا الدنيوي.

( وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها ) .

«أرجاء» جمع (رجا) بمعنى جوانب وأطراف شيء معيّن ، و (الملك) هنا بالرغم من ذكرها بصيغة المفرد ، إلّا أنّ المقصود بها هو الجنس والجمع.

إنّ ملائكة الرحمن ـ في الآية أعلاه ـ يصطفون على جوانب وأطراف السماوات ينتظرون تلقّي أمر الواحد الأحد لإنجازه بمجرد الإشارة ، وكأنّهم جنود جاهزون لما يؤمرون به.

__________________

(١) «أقرب الموارد» (مادّة : دك).

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624