الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204169 / تحميل: 6092
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بنو الحارث بن فهر بن مالك

بنو عامر بن لؤى

بنو سهم بن عمرو

بنو جمح بن عمرو

بنو أنمار بن بغيض

بنو تيم بن مرة بن كعب

بنو عدي بن كعب الخ.

ولكن الفعل والتأثير كان للقبائل المهمة، والزعماء المهمين، وهم بضع قبائل، والباقون تبعٌ لهم الى حد كبير فقد وصف ابن هشام اجتماع دار الندوة الذي بحث فيه قادة القبائل ( مشكلة نبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ) فقال في 2 / 331: وقد اجتمع فيها أشراف قريش:

من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب.

ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل.

ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة.

ومن بني أسد بن عبد العزى: أبوالبختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام.

ومن بني مخزوم: أبو جهل ابن هشام.

ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج.

ومن بني جمح: أمية بن خلف.

ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش، فقال بعضهم لبعض:

إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً.

١٤١

قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: إحبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به...الخ.

- وقال في: 2 / 488 مسمياً المنفقين على جيش المشركين في بدر:

وكان المطعمون من قريش ثم من بني هاشم بن عبد مناف: العباس بن عبد المطلب بن هاشم.

ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.

ومن بني نوفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، يعتقبان ذلك.

ومن بني أسد بن عبد العزى: أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، يعتقبان ذلك.

ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار. انتهى.

واليك هذا الترتيب الذي رتبه الخليفة عمر لقبائل قريش، في سجل الدولة لتوزيع العطاءات، فإنه يدل على تركيبة قبائلها، وتميز بني هاشم عليهم:

- قال البيهقي في سننه: 6 / 364:

عن الشافعي وغيره، أن عمر رضي‌الله‌عنه لما دوَّن الدواوين قال: إبدأ ببني هاشم، ثم قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم وبني المطلب فوضع الديوان على ذلك، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة.

ثم استوت له عبد شمس ونوفل في جذم النسب، فقال: عبد شمس إخوة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه وأمه دون نوفل، فقدمهم، ثم دعا بني نوفل يتلونهم.

ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار، فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم أنهم من المطيبين فقدمهم على بني عبد الدار، ثم دعا بني عبد الدار يتلونهم.

١٤٢

ثم انفردت له زهرة فدعاها تلو عبد الدار.

ثم استوت له تيمٌ ومخزوم، فقال في بني تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل ذكر سابقةً، وقيل ذكر صهراً فقدمهم على مخزوم.

ثم دعا مخزوم يتلونهم.

ثم استوت له سهمٌ وجمحٌ وعديُّ بن كعب، فقيل له إبدأ بعدي فقال بل أقر نفسي حيث كنت، فإن الاسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد، ولكن انظروا بني جمح وسهم، فقيل قدم بني جمح.

ثم دعا بني سهم، وكان ديوان عدي وسهم مختلطاً كالدعوة الواحدة، فلما خلصت اليه دعوته كبر تكبيرة عالية، ثم قال: الحمد لله الذى أوصل اليَّ حظي من رسوله.

ثم دعا بني عامر بن لؤي، قال الشافعي: فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله بن الجراح الفهري لما رأى من تقدم عليه قال: أكل هؤلاء تدعو أمامي؟!

فقال: يا أبا عبيدة، إصبر كما صبرتُ أو كلم قومك فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا.

قال فقدم معاوية بعدُ بني الحارث بن فهر، فصل بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى.

وشجر بين بني سهم وعدي شيء في زمان المهدي فافترقوا، فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمح، للسابقة فيهم.

* *

وقد اعترف الجميع بأن فرع هاشم كانوا متميزين على بقية الفروع في فكرهم وسلوكهم، متفوقين في فعاليتهم وقيمهم وأن جمهور القبائل والملوك كانوا

١٤٣

يحترمونهم احتراماً خاصاً حتى حسدهم زعماء قريش، وتحالفوا ضدهم من أيام هاشم وعبد المطلب.

فقد رتب هاشم ( رحلة الصيف ) الى الشام وفلسطين ومصر لقبائل قريش كلها، فسافر في الصحاري والدول، وفاوض رؤساء القبائل، والملوك، الذين تمر في مناطقهم قوافل قريش، وعقد معهم جميعاً معاهداتٍ بعدم الغارة على قوافل قريش وضمان سلامتها.

وقد فرحت قبائل قريش بهذا الإنجاز، وبادرت الى الإستفادة منه، ولكنها حسدت هاشماً، وتمنى زعماؤها لو أن ذلك تم على يدهم، وكان فخره لهم.

وقد توفي هاشم مبكراً في إحدى سفراته في أرض غزة، في ظروف من حق الباحث أن يشك فيها!

ولكن بيت هاشم لم ينطفئ بعده، فسرعان ماظهر ولده عبد المطلب، وساد في قومه، وواصل مآثر أبيه، فرتب لقريش رحلة الشتاء الى اليمن، وعقد معاهداتٍ لحماية قوافلها مع كل القبائل التي تمر عليها ومع ملك اليمن، وفاز بفخرها كما فاز أبوه بفخر رحلة الصيف.

* *

وعلى الصعيد المعنوي، كانت قبائل قريش ترى أن بني هاشم وعبد المطلب يباهون دائماً بانتمائهم الى إسماعيل، واتباعهم لملة ابراهيم، كأنهم وحدهم أبناء إسماعيل وابراهيم عليهما‌السلام .

وتفاقم الأمر عندما أخذ عبد المطلب يدعي الإلهام عن طريق الرؤيا الصادقة، وأخبرهم بأن الله تعالى أمره بحفر زمزم التي جفت وانقرضت من قديم، فحفرها ونبع ماؤها بإذن الله تعالى، ووجد فيها غزالين من ذهب، فزين بذهبهما باب الكعبة ففاز بمأثرةٍ جديدة وصار - بسبب شحة الماء في مكة - ساقي الحرم والحجيح!

١٤٤

ثم طمأن الناس عند غزو الحبشة للكعبة، بأن الجيش لن يصل اليها، وأن الله تعالى سيتولى دفعهم، فصدقت نبوءته، وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول.

ثم وضع عبد المطلب للناس مراسم وسنناً، كأنه نبي أو ممهد لنبي، فجعل الطواف سبعاً وكان بعض العرب يطوفون بالبيت عريانين لأن ثيابهم ليست حلالاً، فحرم عبد المطلب ذلك. ونهى عن قتل الموؤودة. وأوجب الوفاء بالنذر، وتعظيم الاشهر الحرم. وحرم الخمر. وحرم الزنا ووضع الحد عليه، ونفى البغايا ذوات الرايات الى خارج مكة. وحرم نكاح المحارم. وأوجب قطع يد السارق. وشدد على القتل، وجعل ديته مئة من الإبل.

وقد عظمت مكانة عبد المطلب في قريش وفي قبائل العرب، وكان زعماء قريش يأكلهم الحسد منه! حتى جروه مرتين الى المنافرة والإحتكام الى الكهان فنصره الله عليهم بكرامة جديدة، وتعاظمت مكانته أكثر!

ولعل أكثر ما أثار زعماء قريش في آخر أيام عبد المطلب، أنه ادعى أنه مثل جده ابراهيم عليه‌السلام ، ونذر أن يذبح أحد أولاده قرباناً لرب الكعبة الخ.

وما أن استراح زعماء قريش من عبد المطلب، حتى ظهر ولده أبو طالب وساد في قومه وفي قريش والعرب، وأخذ مكانة أبيه وجده، وواصل سيرة أبيه عبد المطلب ومقولاته.

وفي أيام أبي طالب وقعت المصيبة على زعماء قريش عندما ادعى ابن أخيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبوة، وطلب منهم الإيمان به وإطاعته!

وزاد من خوفهم أن عدداً من بني هاشم وبني المطلب آمنوا بنبوته، وأعلن عمه أبو طالب حمايته لابن أخيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبلغ رسالة ربه بكامل حريته، وهدد قريشاً بالحرب إن هي مست منه شعرة، ووقف في وجه مؤامراتها، وأطلق قصائده في

١٤٥

فضح زعماءها فسارت بشعره الركبان يمدح فيه محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويهجو زعماء قريش حتى أنه سمى زعيم مخزوم أبا الحكم ( أحيمق مخزوم ) كما سماه ابن أخيه محمد ( أبا جهل )!!

ونشط الزعماء القرشيون في مقاومة النبوة بأنواع الإغراءات والتهديدات لأبي طالب وابن أخيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففشلوا!

ثم اتخذوا قراراً باضطهاد المسلمين الذين تطالهم أيديهم، فهرب أكثرهم الى الحبشة وفشل زعماء قريش!

ثم اتخذوا قراراً بالإجماع وضموا اليهم بني كنانة، بعزل كل بني هاشم ومقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة، وحصروهم في شعبهم ثلاث سنوات أو أربع فأفشل الله محاصرتهم بمعجزة!

وما أن فقد بنو هاشم رئيسهم أبا طالب، حتى اتحد زعماء قريش قراراً بالإجماع بقتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي بقي بزعمهم بلا حامٍ ولا ناصر فأفشل الله كيدهم ونقل رسوله الى المدينة التي أسلم أكثر أهلها!

وحاول القرشيون أن يضغطوا على أهل المدينة بالإغراء والوعيد، واليهود ولكنهم فشلوا، لأن المدينة صارت في يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تقع على طريق شريانهم التجاري، وتهددهم بقطع تجارتهم مع الشام ومنطقتها!

فقرروا دخول الحرب مع ابن بني هاشم، وحاربوه في بدر، وأحد، والخندق ففشلوا!

وحاربوه باليهود، واستنصروا عليه بالفرس والروم ففشلوا!

وما هو إلا أن فاجأهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الثامنة من هجرته ودخل عليهم عاصمتهم مكة، بجيش من جنود الله لا قبل لهم به. فاضطروا أن يعلنوا إلقاء سلاحهم، والتسليم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

١٤٦

وقام أهل مكة سماطين ينظرون الى دخول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والى جيشه ..

وتقدم براية الفتح بين يديه شابٌّ أنصاري من قبيلة الخزرج اليمانية، هو عبد الله بن رواحة، وهو يقول للفراعنة:

خلُّوا بني الكفار عن سبيلِهِ

فاليوم نضربْكم على تنزيلهِ

ضرباً يزيل الهام عن مَقِيلِهِ

ويذهلُ الخليلَ عن خليله

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي (2)

فقال عمر بن الخطاب: يابن رواحة، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله، تقول الشعر!!

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مهْ يا عمر، فو الذي نفسي بيده، لكلامه هذا أشد عليهم من وقع النبل )! ( البيهقي في سننه: 10 / 228، ونحوه الترمذي: 4 / 217، والذهبي في سير أعلام النبلاء: 1 / 235 )

فعمر يريد أن يخفف على زعماء قريش وقع هزيمتهم، ولا يتحداهم في عاصمتهم ولا ننسى أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة، وأنه نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم.

ولكن الرؤية النبوية أن هؤلاء الفراعنة لا يفهمون إلا لغة السيوف والسهام، وأن عمل عبد الله بن رواحة عملٌ صحيحٌ، وقيمته عاليةٌ عند الله تعالى، لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل!!

* *

وأعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمان لقريش، وجمع زعماءهم في المسجد الحرام وسيوف جنود الله فوق رؤوسهم وشرح لهم تكبرهم وتجبرهم وتكذيبهم لآيات الله ومعجزاته، وعداءهم لله ورسوله، واضطهادهم لبني هاشم والمسلمين، وحروبهم ومكائدهم ضد الإسلام ورسوله ..

١٤٧

- قال الطبري في تاريخه: 2 / 337:

عن قتادة السدوسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة ثم قال:

لا إله الا إلله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ألا كل مأثرةٍ أو دمٍ أو مالٍ يدَّعى، فهو تحت قدميَّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ...

يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم خلق من تراب. ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) الآية.

يا معشر قريش ويا أهل مكة: ماترون أني فاعلٌ بكم؟!

قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.

ثم قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوةً، وكانوا له فَيْأً، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء. انتهى.

لقد خيرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين إعلان إسلامهم أو القتل: فأعلنوا إسلامهم، فقال لهم: إذهبوا فأنتم الطلقاء، وذلك يعني أنه منَّ عليهم بحياتهم، مع أنهم يستحقون أن يتخذهم عبيداً، أو يقتلهم!!

ويعني أن إعلان إسلامهم الشكلي، لم يرفع جواز استرقاقهم أو قتلهم!

* *

ومما صادفته في تصفحي، ما ارتكبه الشيخ ناصر الدين الألباني من تعصبٍ مفضوح للقرشيين، حيث ضعف هذا الحديث! فقال في سلسلة أحاديثه الضعيفة

١٤٨

3 / 307 برقم 1163: ضعيف. رواه ابن إسحاق في السيرة 4 / 31 - 32، وعنه الطبري في التاريخ 3 / 120، ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 4 / 300 - 301، ساكتاً عليه. وهذا سندٌ ضعيف مرسل، لأن شيخ ابن إسحاق فيه لم يسمَّ، فهو مجهول. ثم هو ليس صحابياً، لأن ابن إسحاق لم يدرك أحداً من الصحابة، بل هو يروي عن التابعين وأقرانه، فهو مرسل، أو معضل. انتهى.

وكأن هذا المحدث لم يطلع على وجود هذا الحديث ومؤيداته في المصادر الأخرى، ولم ير المحدثين والفقهاء وهم يرسلونه إرسال المسلمات ..

وما أدري هل هو جهلٌ بالتاريخ والحديث الى هذا الحد أم حبٌّ للقرشيين ومحاولةٌ لتخليصهم من صفة الرق الشرعية للرسول وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

فإن مسألة الطلقاء ثابتة مشهورة عند جميع الفرق، واسم ( الطلقاء ) كالعلم لأكثر قريش، وهو كثيرٌ في مصادر الحديث، وقد دخلت أحكامه في فقه المذاهب.

- فقد روى البخارى في صحيحه: 5 / 105 - 106

قال لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا ...

- وفي مسلم: 3 / 106: ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده!!

ونحوه في: 5 / 196 ونحوه في مسند أحمد: 3 / 190 و 279

والصحيح أنه لم يثبت معه إلا بنو هاشم.

- وفي مسند أحمد: 4 / 363: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض، الى يوم القيامة.

وقد صححه الحاكم في المستدرك: 4 / 80، وقال عنه في مجمع الزوائد: 10 / 15:

رواه أحمد والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح، وقد جوده رضي‌الله‌عنه وعنا، فإنه رواه عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن هلال العبسي، عن جرير وموسى بن عبد الله بن هلال العبسي.

١٤٩

- وقال الشافعي في كتاب الأم: 7 / 382

قال الأوزاعي: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة، فخلى بين المهاجرين وأرضهم ودورهم بمكة، ولم يجعلها فيئاً.

قال أبو يوسف رحمه‌الله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن مكة وأهلها وقال:

من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ونهى عن القتل إلا نفراً قد سماهم، إلا أن يقاتل أحدٌ فيقتل، وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانعٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.

قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء. ولم يجعل شيئاً قليلاً ولا كثيراً من متاعهم فيئاً. وقد أخبرتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في هذا كغيره، فهذا من ذلك، وتفهَّم فيما أتاك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لذلك وجوهاً ومعاني. انتهى.

وراجع أيضاً مغني ابن قدامة: 7 / 321، ومبسوط السرخسي: 10 / 39، ومسند أحمد: 3 / 279، وسنن البيهقي: 6 / 306، و: 8 / 266 و: 9 / 118، وكنز العمال: 12 / 86.

- وفي كنز العمال: 5 / 735: قال لهم عمر: إن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء، فإن اختلفتم فلا تظنوا عبد الله بن أبي ربيعة عنكم غافلاً - ابن سعد. انتهى.

وكذلك الأمر في مصادرنا:

- ففي نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده: 3 / 30 في جواب علي عليه‌السلام لمعاوية:

وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلانٌ وفلانٌ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم تلحقك ثلمته.

وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم.

هيهات، لقد حنَّ قدحٌ ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها.

ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخر حيث أخرك

١٥٠

القدر، فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر وإنك لذهاب في التيه رواغ عن القصد.

- وفي الكافي: 3 / 512

من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وما أخذ بالسيف فذلك الى الإمام يقبِّله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخيبر وقال: إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وإن أهل مكة دخلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنوةً فكانوا أسراء في يده، فأعتقهم وقال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

قريش بعد فتح مكة

ماذا فعلت قريش بعد أن اضطر بقية فراعنتها وألوف الطلقاء من أتباعهم الى الدخول في الإسلام؟؟

من الطبيعي أن مشاعر الغيظ والكبرياء القرشي بقيت محتدمةً في قلوب أكثرهم إن لم نقل كلهم ولكن في المقابل ظهر فيهم منطقٌ يقول: إن دولة محمد دولتنا فمحمد أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كريم، ودولته دولة قريش، وعزه عزها وفخره فخرها، فهو مهما كان ابن قريش الرحيم، ودولته أوسعُ من دولة قريش وأقوى، والمجال أمام زعمائها مفتوحٌ من داخل هذه الدولة، فلماذا نحاربها، ولماذا نتركها بأيدي الغرباء من الأوس والخزرج اليمانيين!.

أما مسألة من يرث دولة محمد بعده، فهي مسألةٌ قابلةٌ للعلاج، وهي على كل حال مسألةٌ قرشيةٌ داخلية!!

من البديهي عند الباحث أن يفهم أن قريشاً وجهت جهودها لمرحلة ما بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن الهدف الأهم عندها كان: منع محمد أن يرتب الأمر من بعده لبني هاشم، ويجمع لهم بين النبوة والخلافة على حد تعبير قريش!

فالنبوة لبني هاشم، ولكن خلافة محمد يجب أن تكون لقريش غير بني هاشم!

١٥١

لكن رغم وجود هذا المنطق، فإن النصوص واعترافات بعض زعمائهم تدل على أنهم كانوا يعملون على كل الجبهات الممكنة! وأن أكثريتهم كانوا يائسين من أن يشركهم محمد في حكم دولته، لأنه يعمل بجدٍّ لتركيز حكم عترته من بعده ..

لذلك اتجه تفكيرهم بعد فتح مكة الى اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسرعان ما حاولوا تنفيذ ذلك في حنين ..!!

إن فراعنة قريش كفراعنة اليهود أبناء عمهم، فهم لا يعرفون الوفاء، بل كأنهم إذا لم يغدروا بمن عفا عنهم وأحسن اليهم، يصابون بالصداع!!

لقد اعلنوا إسلامهم، وادعوا أنهم ذهبوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليساعدوه في حربه مع قبيلتي هوازن وغطفان، وكان عدد جيشهم ألفين، وعدد جيش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي فتح مكة عشرة آلاف، وعندما التقوا بهوازن في حنين انهزموا من أول رشق سهام، وسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين فانهزموا جميعاً، كما حدث في أحد!

وثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه بنو هاشم فقط، كالعادة، وقاتلوا بشدةٍ مع مئة رجعوا اليهم مئة من الفارين حتى ردوا الحملة، ثم رجع المسلمون الفارون وكتب الله النصر.

وفي أثناء هزيمة المسلمين، قامت قريش بعدة محاولاتٍ لقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

نكتفي منها بذكر ما نقله زعيم بني عبد الدار النضير بن الحارث، الذي سيأتي ذكره في تفسير الآية الثالثة! ونقله عنه محب له ولقريش ولبني أمية هو ابن كثير فقال في سيرته: 3 / 691:

كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول: الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الإخوة وبنو العم.

ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش الى حنين، وهم على دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك.

١٥٢

فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه، إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنضير؟

قلت: لبيك.

قال: هل لك الى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه؟

قال: فأقبلت إليه سريعاً.

فقال: قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع!

قلت: قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم زده ثباتاً.

قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجرٌ ثباتاً في الدين، وتبصرة بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداه. انتهى.

وأنت تلاحظ أن هذه الكلام يتضمن إقراراً من هذا الزعيم القرشي على نفسه، وإقرار الإنسان على نفسه حجة وأنه يتضمن ادعاء منه بإيمانه بالله تعالى، فقد ذكر أنه تشهده الشهادة الأولى فقط، ولم يذكر الثانية!

ولكن الدعوى لا تثبت بادعاء صاحبها بدون شهادة غيره!

ومهما يكن فقد اعترف زعيم بني عبد الدار أصحاب راية قريش التي يصدر حاملها الأوامر لألفي مسلح في حنين، بأن إعلان إسلامهم في مكة كان كاذباً، وبأنه كل زعماء قريش كانوا متفقين على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنهم حاولوا محاولاتٍ في حنين ولم يتوفقوا فقد أحبط الله تعالى خططهم، وكشف لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نواياهم!!

بل تدل أحاديث السيرة، على أن زعماء قريش لم يملكوا أنفسهم عند انهزام المسلمين في حنين في أول الأمر، فأظهروا كفرهم الراسخ، وفضحوا أنفسهم!

- ففي سيرة ابن هشام: 4 / 46

قال ابن اسحاق: فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه

١٥٣

وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجالٌ منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لَمَعَهُ في كنانته! وصرخ جبلة بن الحنبل - قال ابن هشام كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشركٌ في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم!

قال ابن اسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار: قلت اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً، قال:

فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطلق ذاك، وعلمت أنه ممنوعٌ مني!! انتهى.

وهذا آخر من أصحاب راية جيش قريش المسلمة، يعترف بأنه في حنين عند الهزيمة أو بعدها ( دار ) مرة أو مراتٍ حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقتله!

إن الناظر في مقومات شخصيات زعماء قريش، وتفكيرهم واهتماماتهم، يصل الى أن قناعة بأن عنادهم بلغ حداً أنهم اتخذوا قراراً بأن يكذبوا بكل الآيات والمعجزات التي يأتيهم بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكفروا بكل القيم والأعراف الإنسانية التي يدعو اليها ويعاملهم بها وأن لا يدخلوا في دينه إلا في حالتين لا ثالثة لهما:

إذا كان السيف فوق رؤوسهم!

أو صارت دولة محمد وسلطانه بأيديهم!

لقد حاربوا هذا الدين ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل الوسائل حتى عجزوا وانهزموا ..

ثم واصلوا تآمرهم ومحاولاتهم اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عجزوا ..

ثم جاؤوا يشترطون الشروط مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليأخذوا سهماً من دولته فعجزوا ..

ثم جاؤوا يدعون أنهم أصحاب الحق في دولة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه من قبائل قريش!!!

- قال في مناقب آل أبي طالب: 2 / 239

قال الشريف المرتضى في تنزيه الأنبياء: إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نص على أمير المؤمنين

١٥٤

بالإمامة في ابتداء الأمر، جاءه قوم من قريش وقالوا له: يا رسول الله إن الناس قريبوا عهد بالإسلام لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب فلو عدلت به الى غيره، لكان أولى!

فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما فعلت ذلك لرأيي فأتخير فيه، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه عليَّ.

فقالوا له: فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس اليه، ليتم لك أمرك، ولا تخالف الناس عليك. فنزلت الآية: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين .

عبد العظيم الحسني عن الصادق عليه‌السلام في خبر: قال رجل من بني عدي اجتمعت اليَّ قريش، فأتينا النبي فقالوا: يا رسول الله إنا تركنا عبادة الأوثان واتبعناك، فأشركنا في ولاية علي فنكون شركاء، فهبط جبرئيل على النبي فقال: يا محمد لئن أشركت ليحبطن عملك الآية. انتهى. ( والحديث الأول في تنزيه الأنبياء/ 167 )

* *

قريش تتمحور حول زعامة سهيل بن عمرو

رغم خيانات زعماء قريش بعد فتح مكة وتآمرهم، فقد حاول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستقطبهم، فأكرمهم وتألفهم وأعطاهم أكثر غنائم المعركة، وأطمعهم بالمستقبل إن هم أسلموا وحسن إسلامهم الخ.

لقد أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقاوم عُقَدهم بنور الحلم، وظلماتهم بنور الإحسان ..!!

وفي هذه الفترة تراجعت زعامة أبي سفيان، ولم يبق منها إلا ( أمجاد ) حربه مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشخصية أبي سفيان تصلح للزعامة في الحرب فقط وفي التجارة، ولا تصلح في السلم للزعامة والعمل السياسي، لذلك تراه بعد أن انكسر في فتح مكة ذهب الى المدينة وطلب منصباً من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعينه جابياً للزكاة من بعض القبائل!!

١٥٥

أما الزعيم الذي يجيد العمل لمصلحة قريش المنكسرة عسكرياً فقد وجدته قريش في سهيل بن عمرو، العقل السياسي المفكر والمخطط ..

وسرعان ما صار سهيل محوراً لقريش، ووارثاً لقيادة زعمائها الذين قتلهم محمد أو أماتهم رب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وسهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، هو في نظر قريش: قرشي أصيل. ولئن كان من بني عامر بن لؤي، الذين هم أقل درجة من بني كعب بن لؤي ( سيرة ابن هشام: 2 / 489 ) ، ولكنه صاحب تاريخ مع محمد، فهو من الزعماء الذين فاوضوا أبا طالب بشأنه.

وهو من أعضاء دار الندوة الذين قرروا مقاطعة بني هاشم.

وهو من الذين ائتمروا على قتله عندما ذهب الى الطائف، وقرروا نفيه من مكة، وهددوه بالقتل إن هو دخلها، ورفضوا أن يجيروه حتى يستطيع الدخول الى مكة وتبليغ رسالة ربه ففي تاريخ الطبري: 2 / 82 : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للأخنس بن شريق: ائت سهيل بن عمرو فقل له إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ فأتاه فقال له ذلك، قال فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب! انتهى.

وهو من الزعماء الذين واصلوا العمل لقتل محمد بعد وفاة أبي طالب، حتى أنجاه الله منهم بالهجرة.

وهو أحد الذين حبسوا المسلمين وعذبوهم على إسلامهم، ومن المعذبين على يده ولده أبو جندل.

وهو أحد قادة المشركين في بدر، وأحد أثريائهم الذين كانوا يطعمون الجيش.

وهو أحد الذين كانوا يؤلمون قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعالياتهم الخبيثة، فلعنهم الله تعالى وطردهم من رحمته، وأمر رسوله أن يلعنهم، ويدعو عليهم في صلاته.

وهو أحد المنفقين أموالهم على تجهيز الناس لحرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحد والخندق وغيرهما.

١٥٦

- قال في سير أعلام النبلاء: 1 / 194

يكنى أبا يزيد، وكان خطيب قريش وفصيحهم ومن أشرافهم وكان قد أسر يوم بدر وتخلص. قام بمكة وحض على النفير، وقال: يال غالب أتاركون أنتم محمداً والصباة يأخذون عيركم! من أراد مالاً فهذا مال، ومن أراد قوة فهذه قوة.

وكان سمحاً جواداً مفوهاً.

وقد قام بمكة خطيباً عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو من خطبة الصديق بالمدينة فسكنهم!! وعظم الإسلام. انتهى.

وهو الذي انتدبته قريش لمفاوضة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية، وقد أجاد المفاوضة وشدد عليه بالشروط، ولم يقبل أن يكتب في المعاهدة ( رسول الله ) ووقع الصلح معه نيابة عن كل قريش.

وهو المعروف عند قريش بأنه سياسي حكيم، أكثر من غيره من فراعنتها.

وهو أخيراً من أئمة الكفر الذين أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتالهم! وإعلانه الإسلام تحت السيف لا يغير من آيات الله شيئاً! ففي تفسير الصنعاني: 1 / 242 : عن قتادة في قوله ( وقاتلوا أئمة الكفر ) هو أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبه بن ربيعة، وأبو جهل، وسهيل بن عمرو. انتهى.

وقد اختار سهيل بن عمرو البقاء في مكة بعد فتحها ودخولها تحت حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يهاجر الى المدينة كبعض الطلقاء، ولم يطلب من محمد منصباً، لأن كبرباءه القرشي وتاريخه في الصراع مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأبيان عليه ذلك!!

ولكنه قبل هدية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حنين وكانت مئة بعير، بينما كان رفضها في أيام القحط والسنوات العجاف التي حدثت على قريش بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أشفق عليهم وأرسل اليهم مساعدة، وكانت أحمالاً من المواد الغذائية، فقبلها أكثرهم وكان سهيل ممن رفضوها!

١٥٧

إنه تاريخٌ طويلٌ مشرقٌ عند القرشييين، وإن كان أسود عند الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !! ومن أجل هذا النسب وهذا التاريخ والصفات، اجتمعت حوله قريش بعد فتح مكة، وانضوت تحت زعامته!

* *

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عين حاكماً لمكة بعد فتحها، هو عتاب بن أسيد الأموي وحعل معه أنصارياً، ولكن قريشاً كانت تفضل عليه سهيلاً، وتسمع كلامه أكثر منه!

والدليل على ذلك أنه بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتدت قريش عن الإسلام، وخاف حاكمها عتاب أن يقتلوه فاختبأ مع أنه قرشي أموي وبعد أيام وصلهم خبر يطمئنهم ببيعة أبي بكر التيمي، وأن أحداً من بني هاشم لن يحكم بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمأن سهيل بن عمرو، وخطب في قريش بنفس خطبة أبي بكر في المدينة، والتي مفادها أنه من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات، ونحن لا نعبد محمداً، بل هو رسولٌ بلغ رسالته ومات، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر، فاسمعوا له وأطيعوا.

لقد طمأنهم سهيل بأن الأمر بيد قريش، وليس بيد بني هاشم والأنصار اليمانية الذين ( يعبدون ) محمداً، فلماذا الرجوع عن الإسلام!

فأطاعته قريش وانتهى مشروع الردة!

وأصدر سهيل أمره لعتاب الحاكم من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخرج من مخبئك، واحكم مكة باسم الزعيم القرشي غير الهاشمي أبي بكر بن أبي قحافة التيمي!

( راجع سيرة ابن هشام: 4 / 1079، وفيها: فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، وظهر عتاب بن أسيد ).

سهيل بن عمرو يحاول الإستقلال!

اقتنعت قريش بعد فتح مكة أن العمل العلني ضد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محكوم بالفشل ..

١٥٨

فركزت جهودها على العمل السياسي المتقن، والعمل السري الصامت، لإبعاد عترته عن الحكم، وجعله في قريش ..

ولكن المشكلة عندها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسير قدماً في ترتيب الأمر من بعده لعلي ومن بعده للحسن والحسين، أولاد بنته فاطمة وقريش لا تطيق علياً ولا أحداً من بني هاشم لذلك قرر قادتها وفي مقدمتهم سهيل بن عمرو أن يقوموا بأنشطة متعددة، منها محاولة جريئة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كتبوا اليه ثم جاؤوه وفداً برئاسة سهيل بن عمرو، طالبين اليه أن يرد ( اليهم ) عدداً من أبنائهم وعبيدهم، الذين تركوا مكة أو مزارعهم في الطائف، وهاجروا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتفقهوا في الدين، كما تنص الآية القرآنية!

قال سهيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحن اليوم حلفاؤك، وقد انتهت الحرب بيننا وتصالحنا، وأنا الذي وقعت الصلح السابق معك في الحديبية!

وهؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك، ولم يأتوك ليتفقهوا في الدين كما زعموا، ثم إن كانت هذه حجتهم فنحن نفقههم في الدين، فأرجعهم الينا!!

ومعنى هذا الطلب البسيط من زعيم قريش الجديد: أن قريشاً حتى بعد فتح مكة واضطرارها الى خلع سلاحها وإسلامها تحت السيف تريد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإعتراف بأنها وجودٌ سياسيٌّ مستقل، في مقابل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه ودولته!!

- روى الترمذي في: 5 / 298

عن ربعي بن حراش قال: أخبرنا علي بن أبي طالب بالرحبة فقال: لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا يا رسول الله: خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم.

١٥٩

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلوبهم على الإيمان! قالوا من هو يا رسول الله؟

فقال له أبو بكر: من هو يا رسول الله؟

وقال عمر: من هو يا رسول الله؟

قال هو خاصف النعل، وكان أعطى علياً نعله يخصفها. هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي.

- وروى أبو داود: 1 / 611

عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب قال: خرج عبدانٌ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق!

فقال ناسٌ: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم!

فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا!

وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل. انتهى.

ولا يغرك ذكر الحديبية في الحديث، فهذا من أساليب الرواة القرشيين في التزوير فالحادثة وقعت بعد فتح مكة، ولو كانت قبله لطالب سهيلٌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوفاء لهم بشرطهم، لأنهم شرطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلح الحديبية أن يرد اليهم من يأتيه منهم، ولا يردون اليه من يأتيهم من المسلمين!

ولو كانت قبل فتح مكة، لكانت مطالبةً بشرطهم، وما استحقت هذا الغضب النبوي الشديد، وهو لا يغضب إلا بحق، ولا يغضب إلا لغضب الله تعالى، ولا يرضى إلا بما يرضي الله تعالى!

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

ثمّ يقول تعالى :( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) .

إنّ حملة العرش بالرغم من أنّهم لم يشخّصوا بصورة صريحة في هذه الآية وهل هم من الملائكة أم من جنس آخر؟ إلّا أنّ ظاهر تعبير الآية الكريمة أنّهم من الملائكة ، ومن غير المعلوم أنّ المقصود بـ (ثمانية) هل هم ثمانية ملائكة؟ أم ثمانية مجاميع من الملائكة؟ سواء كانت هذه المجاميع صغيرة أو كبيرة.

جاء في الروايات الإسلامية أنّ حملة العرش في عالم الدنيا أربعة أشخاص أو أربع (مجاميع) إلّا أنّهم في يوم القيامة يكونون ضعف ذلك ، كما نقرأ ذلك في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (إنّهم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية)(١) .

أمّا ما يتعلّق بحقيقة العرش ، وماهية الملائكة ، فذلك كما يلي :

المقصود بـ (العرش) كما هو واضح ليس تختا ممّا يكون للسلاطين ، ولكنّه ـ كما بيّنا سابقا في تفسير كلمة (العرش) ـ بأنّها تعني (مجموعة عالم الوجود) حيث أنّه عرش حكومة الله سبحانه ، ويدبّر حكومته تعالى من خلاله بواسطة الملائكة الذين هم جاهزون لتنفيذ أمره سبحانه.

وجاء في رواية اخرى أنّ حملة العرش في يوم القيامة أربعة من الأوّلين ، وأربعة من الآخرين ، والأشخاص الأوّلون الأربعة هم : (نوح) و (إبراهيم) ، و (موسى) ، و (عيسى) ، أمّا الأشخاص الآخرون الأربعة فهم (محمّد) و (علي) و (الحسن) ، و (الحسين)(٢) .

وهذا الحديث من الممكن أن يكون إشارة إلى مقام شفاعتهم للأوّلين والآخرين ، والشفاعة ـ عادة ـ تكون لمن هم أهل لها ، وممّن لهم لياقة لنيلها ، ومع ذلك فإنّه يوضّح المفهوم الواسع للعرش.

__________________

(١) تفسير (علي بن إبراهيم) ج ٢ ، ص ٣٨٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤٦.

٥٨١

أمّا إذا كان حملة العرش ثمانية مجاميع ، فمن الطبيعي أن تتعهّد المجاميع للقيام بهذه المهمّة ، سواء كان هؤلاء من الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء ، وممّا تقدّم نلاحظ أنّ قسما من تدبير نظام وشؤون ذلك اليوم هو من مهمّة الملائكة وقسم من الأنبياء ، حيث أنّ الجميع جاهزون لتنفيذ أمر الله ، ويتحرّك بإرادته تعالى.

هنالك آراء في أنّ الضمير في (فوقهم) هل يرجع إلى «البشر»؟ أم إلى (الملائكة)؟ وبما أنّ الحديث في الجملة السابقة كان حول الملائكة ، فإنّ الضمير يرجع إليهم حسب الظاهر ، وبهذه الصورة فإنّ الملائكة تحيط بالعالم من جميع جهاته ، ولهذا فإنّ المقصود بـ (من فوقهم) هو (العلو من حيث المقام).

وهنالك احتمال بأنّ حملة عرش الله هم أشخاص أعلى وأفضل من الملائكة ، وتماشيا مع هذا الاحتمال فإنّ ما جاء في الحديث السابق منسجم معه ، حيث ورد فيه أنّ حملة عرش الله هم ثمانية من الأنبياء والأولياء.

وبما أنّ الحوادث المتعلّقة بيوم القيامة ليست واضحة لنا نحن سكنة هذا العالم المحدود ، لذا فليس بمقدورنا إذا إدراك المسائل المتعلّقة بحملة العرش في ذلك اليوم. إنّ الذي نتحدّث به عن هذه الأمور ما هو إلّا شبح يتراءى لنا من بعيد في ظلّ الآيات الإلهية ، وإلّا فلا تتمّ رؤية الحقيقة بدون معايشة الواقع(١) .

وممّا يجدر ملاحظته أنّ في (النفخة الاولى للصور) يموت ويفنى جميع من في السموات والأرض ، وبناء على هذا فإنّ مسألة بحث «حملة العرش» مرتبط «بالنفخة الثانية» ، حيث يتمّ إحياء الجميع ، وبالرغم من أنّه لم يأت ذكر للنفخة الثانية في الآية أعلاه ، إلّا أنّ ذلك يتّضح من خلال القرائن ، والمطالب التي سترد في الآيات اللاحقة تتعلّق بالنفخة الثانية أيضا(٢) .

* * *

__________________

(١) تطرقنا مرارا في هذا التّفسير إلى المعاني التي وردت حول (العرش) لغويا وقرآنيا ، ومن ضمن ما بحثناه حول هذه المسألة ما جاء في نهاية الآية ٥٤ من سورة الأعراف.

(٢) في الحقيقة أنّه توجد آية محذوفة بتقدير «ثمّ نفخ فيه اخرى».

٥٨٢

الآيات

( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) )

التّفسير

يا أهل المحشر : اقرؤا صحيفة أعمالي

قلنا في تفسير الآيات السابقة أنّ (نفخ الصور) يحدث مرّتين.

الاولى : عند ما يأمر تعالى بنهاية العالم وموت الأحياء وتلاشي الوجود.

والثانية : بحدوث العالم الجديد ، عالم الآخرة حيث البعث والنشور ، وكما ذكرنا فإنّ بداية الآيات تخبرنا عن النفخة الاولى ، ولم تستعرض تفاصيل النفخة الثانية.

واستمرارا للحديث في هذا الصدد ، وخصوصيات العالم الجديد الذي

٥٨٣

سيكون عند النفخة الثانية ، تحدّثنا هذه الآيات عن شيء من ذلك حيث يقول تعالى :( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) .

«تعرضون» من مادّة (عرض) بمعنى عرض شيء معيّن ، بضاعة أو غيرها.

وممّا لا شكّ فيه أنّ جميع ما في الوجود ـ بشرا وغيره ـ هو بين يدي الله سبحانه ، سواء في هذه الدنيا أو في عالم الآخرة ، إلّا أنّ هذا الأمر يظهر ويتّضح بصورة أشدّ في يوم القيامة ، كما في مسألة حاكمية الله المطلقة والدائمة على عالم الوجود ، حيث تتّضح في يوم القيامة أكثر من أي وقت آخر.

إنّ جملة :( تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ الأسرار الخاصّة بالإنسان وما يحاول إخفاءه يتحوّل في ذلك اليوم إلى حالة من الظهور والوضوح كما يقول تعالى :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) (١)

في ذلك اليوم لن يقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفيّة فحسب ، بل على صفات وروحيات وأخلاقيات ونيّات الجميع فإنّها هي الاخرى تبرز وتظهر ، وهذا أمر عظيم جدّا ، بل إنّه أعظم من انفجار الأجرام السماوية وتلاشي الجبال ـ كما يقول البعض ـ حيث الفضيحة الكبرى للطالحين ، والعزّة والرفعة للمؤمنين بشكل لا نظير له ، يوم يكون الإنسان عريانا ليس من حيث الجسم فقط ، بل أعماله وأسراره الخفية تكون على رؤوس الأشهاد ، نعم لا يبقى أمر مخفي من وجودنا وكياننا أجمع في ذلك اليوم العظيم.

ويمكن أن يكون المراد هو الإشارة للإحاطة العلمية لله تعالى بجميع المخلوقات ، ولكن التّفسير الأوّل أنسب.

لذا يقول سبحانه بعد ذلك :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) (٢) .

__________________

(١) الطارق ، الآية ٩.

(٢) «هاؤم» كما يقول أصحاب اللغة هي بمعنى (خذوا) وإذا كان المخاطب جمع مذكر ، فيقال : (هاؤم) ، وإذا جمعت جمع

٥٨٤

إنّ الفرحة تملؤه بصورة لا مثيل لها ، حتّى يكاد يطير من شدّة فرحته ، حيث أنّ كلّ ذرّة من ذرّات وجوده تغمرها الغبطة والسعادة والشكر لله سبحانه على هذه النعم والتوفيق والهداية التي منّ الله بها عليه ويصرخ (الحمد لله).

ثمّ يعلن بافتخار عظيم فيقول :( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) (١) .

«ظنّ» في مثل هذه الموارد تكون بمعنى (اليقين) إنّه يريد أن يقول : إنّ ما تفضّل به الله تعالى عليّ كان بسبب إيماني بهذا اليوم ، والحقيقة أنّ الإيمان بالحساب والكتاب يمنح الإنسان روح التقوى ، والتعهّد والإحسان بالمسؤولية ، وهذا من أهمّ عوامل تربية الإنسان.

ثمّ يبيّن الله تعالى في الآيات اللاحقة جانبا من جزاء وأجر هؤلاء الأشخاص حيث يقول :( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) (٢) .

وبالرغم من أنّ الجملة أعلاه تجسّد كلّ ما يستحقّ أن يقال في هذا الموضوع ، إلّا أنّه سبحانه يضيف للتوضيح الأكثر :( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ) .

إنّ الجنّة التي تكون عالية ورفيعة بشكل لم ير أحد مثلها قطّ ، ولم يسمع بها ، ولم يتصور مثلها.

( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) (٣) .

حيث لا جهد مكلّف ولا مشقّة ولا صعوبة في قطف الثمار ، ولا عائق يحول من الاقتراب للأشجار المحمّلة بالثمار ، وجميع هذه النعم في متناول الأيدي بدون

__________________

مؤنث (هائن) وإذا كان مفردا مذكرا كان (هاء) وتكون (بالفتح) ، وإذا كان مفردا مؤنثا فإنّ (الهاء) تكون مكسورة ، وللتثنية هاؤما ، يقول الراغب في المفردات : (هاء) تستعمل بمعنى الأخذ ، و (هات) بمعنى العطاء.

(١) ال «هاء» في (حسابيه) تكون (هاء الاستراحة) ، أو (هاء السكتة) ، وليس لها معنى خاص. أيضا في (كتابيه).

(٢) «الرضا» تكون عادة حالة وصفة للأشخاص ، إلّا أنّه سبحانه جعلها صفة للحياة نفسها في الآية أعلاه ، وهذه تمثّل نهاية التأكيد ، يعني أنّها حياة يعمّها الرضا والسرور.

(٣) «قطوف» جمع (قطف) على وزن (حزب) بمعنى أنّ الثمر قد اقتطف ، وتأتي أحيانا بمعنى الثمار المهيّئة للاقتطاف أيضا.

٥٨٥

استثناء.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يوجّه البارئعزوجل خطابه المملوء بالحبّ والمودّة والاعتزاز إلى أهل الجنّة بقوله :( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) .

وهكذا كانت هذه النعمة العظيمة التي منحها الله لهؤلاء المتقين جزاء أعمالهم الصالحة التي ادّخروها ليوم كان فيه الحساب الحقّ ، وأرسلوها سلفا أمامهم ، وإنّ الأعمال الخيّرة والمحدودة هي التي أثمرت هذه الثمار الكبيرة حيث ظلّ الرحمة الإلهية واللطف الربّاني.

* * *

ملاحظات

١ ـ تفسير آخر لكلمة (العرش)

جاء في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «حملة العرش ـ والعرش العلم ـ ثمانية ، أربعة منّا ، وأربعة ممّن شاء الله»(١) .

وجاء أيضا في حديث آخر لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «فالذين يحملون العرش ، هم العلماء ، الذين حمّلهم الله علمه»(٢) .

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه قال : «العرش ليس هو الله ، والعرش اسم علم وقدرة»(٣) .

إنّ ما يستفاد من هذه الأحاديث ـ بشكل عام ـ أنّ للعرش تفسيرا آخر بالإضافة إلى التّفسير السابق الذي ذكرناه سابقا ـ وهو (صفات الله) ـ صفات مثل

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٠٦ (حديث ٢٨).

(٢) المصدر السابق ، (حديث ٢٦).

(٣) المصدر السابق ، (حديث ٢٧).

٥٨٦

(العلم) و (القدرة) ، وبناء على هذا ، فإنّ حملة العرش الإلهي هم حملة علمه ، وكلّما كان الإنسان أو الملك أكثر علما ، كان له سهم أكبر في حمل العرش العظيم.

ومن هنا فإنّ هذه الحقيقة تتبلور بصورة أفضل وهي : أنّ العرش ليس تختا جسمانيا يشبه تخوت السلاطين ، بل له معان عديدة كنائية مختلفة إذا استعمل منسوبا إلى الله تعالى.

٢ ـ مقام الإمام عليعليه‌السلام وشيعته

جاء في روايات عديدة أنّ الآية :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) نزلت في حقّ الإمام عليعليه‌السلام وشيعته(١) .

٣ ـ جواب على سؤال

والسؤال المطروح هو : هل أنّ دعوة المؤمنين لأهل المحشر لقراءة كتاب حسابهم وصحيفة أعمالهم ـ طبقا لما جاء في الآية الكريمة :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) ـ تعني أنّ صحيفة أعمالهم خالية من أي ذنب؟

وفي مقام الجواب يمكن أن نستفيد من بعض الأحاديث منها حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «يدني الله العبد يوم القيامة ، فيقرره بذنوبه كلّها ، حتى إذا راى أنّه قد هلك قال الله تعالى : إنّي سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثمّ يعطى كتاب حسناته بيمينه»(٢) (٢).

وقال البعض أيضا : إنّ الله تعالى يبدّل سيّئات المؤمنين في ذلك اليوم إلى (حسنات) وبذلك لا تبدو أي نقطة سوداء في صحائف أعمالهم.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٦٦.

(٢) (في ضلال القرآن) ج ٨ ، ص ٢٥٦.

٥٨٧

الآيات

( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) )

التّفسير

يا ليتني متّ قبل هذا :

كان الحديث في الآيات السابقة عن (أصحاب اليمن) حيث صحائف أعمالهم بأيديهم اليمنى ، ويوجّهون نداءهم إلى أهل المحشر بكلّ فخر للاطلاع على صحيفة أعمالهم وقراءتها ، ثمّ يدخلون جنّات الخلد حيث تكون مستقرّهم الأبدي.

أمّا هذه الآيات فتستعرض الطرف المقابل لأصحاب اليمين وهم (أصحاب الشمال) وتقدّم مقارنة بين المجموعتين ، حيث يقول تعالى :( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ، فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ) (١) .

__________________

(١) ال (هاء) في (كتابيه) و (حسابيه) و (ماليه) و (سلطانيه) وكذلك في الكلمات التي ستأتي في الآيات اللاحقة هي

٥٨٨

( وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) (١) .

نعم ، في ذلك اليوم العظيم ، يوم البعث ويوم البروز والظهور ، يوم الحساب والمحكمة الإلهية العظيمة ، حيث تتوضّح وتنكشف حقيقة الأعمال القبيحة والسيّئة للإنسان وعند ما يواجهها يبدأ يجأر ويصرخ ويطلق الزفرات الساخنة المتلاحقة من الأعماق على المصير السيء الذي أوصل نفسه إليه ، والشرّ الذي جلبه عليها ، ويتمنّى أن يقطع علاقته بماضيه الأسود تماما ، ويتمنّى أن يموت ويفنى ويتخلّص من هذه الفضيحة الكبيرة المهلكة ، ويعبّر عن هذا الشعور قوله تعالى :( وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) (٢)

وذكرت تفاسير اخرى ـ أيضا ـ لمعنى قوله :( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) منها أنّ المقصود من (القاضية) هي الموتة الاولى ، يعني يا ليتنا لم نحي مرّة اخرى ونبعث من جديد ، في حين كان أقبح شيء في نظرهم هو الموت ، ويتمنّى هؤلاء أن لو استمرّ موتهم ولم يواجهوا الخزي في حياتهم الثانية في المحكمة الإلهية العادلة.

وقيل أنّ المقصود من «القاضية» (نفخة الصور) الاولى حيث عبّر عنها بـ (القارعة) أيضا ، ويعني ذلك تمنّيهم عدم حدوث النفخة الثانية ، لذا فهم يقولون : يا ليت لم تكن هذه النفخة ، إلّا أنّ التّفسير الذي تحدّثنا عنه في البداية أنسب من الجميع.

ثمّ يضيف تعالى مستعرضا اعتراف المجرمين بذنوبهم فيقول :( ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ) فالأموال التي كنت أجمعها في الدنيا لم تنقذني الآن ولم تعنّي ولم تدفع عنّي الأهوال أو تحلّ مشاكلي.

__________________

(هاء السكتة) أو (الاستراحة) وكما قلنا فإنّ هذه الهاء ليس لها معنى خاصّ ، بل إنّها تعتبر وقفا لطيفا في مثل هذه الكلمات ، ولها تناسب مع الوضع الروحي وحالة الأشخاص الذين يقولون مثل هذا الكلام (يرجى الانتباه لذلك).

(١) جملة (كانت القاضية) لها محذوف تقديره : (كانت هذه الحالة القاضية).

(٢) النبأ ، الآية ٤٠.

٥٨٩

( هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) فليست أموالي لم تسعفني في هذه الشدّة ، بل أنّ قدرتي ومقامي وسلطتي هي الاخرى هلكت وزالت عنّي.

وخلاصة الأمر : إنّ الأموال والمقام والسلطان والقوّة كلّها لم تفدني ولم تدفع عنّي ما أنا ملاقيه من عقاب على ما أسرفت في السابق ، وقد وقفت بين يدي محكمة العدل الإلهي ، وأنا لا أملك أي قوّة تنفعني في هذا اليوم ، فقد ذهبت قدرتي ، وقطع أملي من كلّ شيء ، وتعطّلت بي الأسباب. وهكذا يكون المجرمون في نهاية الذلّ والخزي والندم ، ولات ساعة مندم.

اعتبر البعض معنى ال (سلطان) هنا هو الدليل والبرهان الذي يكون عاملا في الإنتصار ، وبذلك يكون تفسير الآية ، أنّ المذنب يقول في ذلك اليوم : إنّي لا أملك أي دليل وحجّة أستطيع بها تبرير أعمالي في حضرة البارئعزوجل .

وقيل أيضا أنّ المراد من (السلطان) هنا ليس السلطة الحكومية ، ذلك لأنّ الداخلين إلى جهنّم ليسوا جميعا سلاطين أو أمراء ، بل إنّ المراد هو سلطة الإنسان على نفسه وحياته وإرادته ، ولكن بما أنّ الكثير من أهل النار كانوا يتمتعون بسلطة ونفوذ في عالم الدنيا ، أو أنّهم كانوا من أصحاب الأموال لذا يمكن اعتبار وجهة النظر هذه صحيحة حسب الظاهر.

* * *

ملاحظة

بعض القصص المثيرة :

نقلت في هذا المجال قصص كثيرة تؤكّد على المفاهيم العامّة التي احتوتها الآيات الكريمة أعلاه ، كموضع شاهد وعبرة وتأييد لما ذهبت إليه الآيات المباركات ، لتكون درسا لأولئك الذين جعلوا (المال والسلطان) همّهم الأوّل ، وانغمسوا حتّى الأذقان في الغفلة والغرور والذنوب من أجلهما ، ومن جملتها ما

٥٩٠

يلي :

١ ـ نقل في (سفينة البحار) عن كتاب (النصائح) ما نصّه : (عند ما اشتدّ مرض هارون الرشيد في خراسان أمر بإحضار طبيب من طوس ، ثمّ أوصى أن يعرض إدراره مع إدرار قسم من المرضى والأصحاء على الطبيب ، ففحص الطبيب قناني الإدرار الواحدة بعد الاخرى ، حتّى وصل إلى القنينة قال : قولوا لصاحب هذه القنينة أن يوصي ، لأنّ قواه قد انهدّت وبنيته قد هدمت ، فعند سماع هارون هذا الكلام يئس من حياته ، وتلا هذه الأبيات الشعرية :

إنّ الطبيب بطبّه ودوائه

لا يستطيع دفاع نحب قد أتى

ما للطبيب يموت بالداء الذي

قد كان يبرئ مثله فيما مضى

وفي هذه الأثناء سمع الناس يتداولون خبر موته ، ولكي يبطل مفعول هذه الإشاعة ، أمر باستحضار دابة ، وطلب أن يركب عليها ، وعند ما امتطى الدابة ضعفت أرجلها عن حمله ، قال : أنزلوني ، فإنّ الذي أشاع هذه الشائعة قد صدق. ثمّ أمر بجلب أكفان له ، واختار كفنا منها نال إعجابه ، وقال احضروا لي قبرا بالقرب من فراشي هذا ، ثمّ نظر إلى قبره ، وتلا هذه الآيات :( ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) (١) .

٢ ـ ونقل ـ أيضا ـ في نفس المصدر عن العالم الكبير (الشيخ البهائي) ما نصّه هكذا : (كان هنالك رجل كثير الحساب لنفسه واسمه (توبة) ، حوّل عمره البالغ ستّين عاما إلى أيّام فكان مجموعها (٢١٥٠٠) وعند ذلك قال : يا ويلي إذا لم أكن قد أذنبت في اليوم إلّا ذنبا واحدا فإنّ مجموع ذنوبي الآن يربو على واحد وعشرين ألف ذنب؟ فكيف الاقي ربّي بواحد وعشرين ألف ذنب؟ وبينما هو في

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٥٢٣ ، مادّة رشد.

٥٩١

هذه الحال إذ صرخ صرخة سقط على أثرها على الأرض وسلّم روحه إلى بارئها)(١) .

٣ ـ ورد في كتاب «اليتيمة» للثعالبي أنّه لمّا حانت وفاة عضد الدولة لم يتحرّك لسانه إلّا بهذه الآية( ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) .

* * *

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٤٨٨ مادّة ذنب (باقتباس).

٥٩٢

الآيات

( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) )

التّفسير

خذوه فغلّوه :

استمرارا للآيات السابقة التي كانت تتحدّث عن (أصحاب الشمال) الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى ، فتنطلق الآهات والأنّات ، ويتمنّى أحدهم الموت ـ يشير تعالى في الآيات أعلاه إلى قسم من العذاب الذي يلاقونه يوم القيامة فيقول :( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ) .

«غلّوه» من مادّة (غلّ) ، وكما قلنا سابقا أنّ المراد هو السلسلة التي كانوا يربطون بها أيدي وأرجل المجرمين إلى أعناقهم مقترن بالكثير من المشقّة والألم.

٥٩٣

( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) .

«السلسلة» في الأصل مأخوذة من مادّة (تسلسل) بمعنى الاهتزاز والارتعاش ، لأنّ حلقات السلسلة الحديدية تهتزّ وتتحرّك.

التعبير بـ (سبعون ذراعا) يمكن أن يكون من باب (الكثرة) إذ أنّ العدد سبعين كثيرا ما يستعمل للكثرة ، كما يمكن أن يكون المقصود هو العدد (سبعون) نفسه ، وعلى كلّ حال ، فإنّ مثل هذا الزنجير يطوق به المجرمون بحيث يربطون به من كلّ جانب.

وقال بعض المفسّرين : إنّ هذه السلاسل الطويلة ليست لشخص واحد. بل لمجاميع يربط كلّ منها بسلسلة ، وذكر هذه العقوبة بعد ذكر الغلّ في الآيات السابقة يتناسب أكثر مع هذا المعنى.

«ذراع» : بمعنى الفاصلة بين الساعة ونهاية الأصابع ، (وقياسها بحدود نصف متر) وكانت وحدة الطول المستعملة عند العرب ، وهي قياس طبيعي ، وقال البعض إنّ (الذراع) الوارد في الآية الكريمة هو غير الذراع المتعارف عليه ، حيث أنّ كلّ وحدة منه تمثّل فواصل عظيمة ، ويربط بهذا الزنجير جميع أهل جهنّم.

ونكرّر هنا مرّة اخرى قولنا أنّ المسائل المرتبطة بالقيامة لا نستطيع تصويرها بالكامل بواسطة بياننا نحن سكّان الدنيا ، إلّا أنّنا نعكس شبحا ـ فقط ـ من خلال ما جاء في الآيات والروايات.

التعبير بـ (ثمّ) في هذه الآية يوضّح لنا أنّ المجرمين بعد دخولهم في النار يربطون بالسلسلة ذات السبعين ذراعا ، وهذه عقوبة جديدة لهم. كما يوجد احتمال أنّ هذه السلاسل الفردية أو الجماعية تكون قبل الدخول في جهنّم ، و (ثم) جاءت للتأخير في الذكر.

وتتطرق الآيتان التاليتان لبيان السبب الرئيسي لهذا العذاب العسير ، فيقول

٥٩٤

تعالى :( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) .

وكلّما كان الأنبياء والأولياء ورسل الله تعالى يدعونه للتوجّه إلى (الواحد الأحد) لم يكن ليقبل ، ولذا فإنّ ارتباطه بالخالق كان مقطوعا بصورة تامّة.

( وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ) .

وبهذا الشكل فإنّ هؤلاء قد قطعوا علاقتهم مع (الخلق) أيضا.

وبهذا اللحاظ فإنّ العامل الأساسي لبؤس هؤلاء المجرمين هو قطع علاقتهم مع (الخالق) و (الخلق).

ويستفاد من التعبير السابق ـ بصورة واضحة ـ أنّه يمكن تلخيص أهمّ الطاعات والعبادات وأوامر الشرع بهذين الأساسين : (الإيمان) و (إطعام) المسكين) وهذا يمثّل إشارة إلى الأهميّة البالغة لهذا العمل الإنساني العظيم والحقيقة كما يقول البعض : إنّ أردأ العقائد هو (الكفر) كما أنّ أقبح الرذائل الأخلاقية هو (البخل).

والطريف في التعبير أنّه لم يقل (كان لا يطعم) ، بل قال : كان لا يحثّ الآخرين على الإطعام ، إشارة إلى :

أوّلا : إنّ حلّ مشكلة المحتاجين وإشباع الجائعين لا يمكن أن يتغلّب عليها شخص واحد ، بل يجب دعوة الآخرين أيضا للمساهمة بمثل هذا العمل ، ليعمّ الخير والفضل والإحسان جميع الناس.

ثانيا : قد يكون الشخص عاجزا عن إطعام المساكين ، ولكن الجميع بإمكانهم حثّ الآخرين على ذلك.

ثالثا : محاربة صفة البخل ، حيث أنّ من صفات البخيل أنّه يمتنع عن العطاء والبذل ، ولا يرغب أو يرتاح لبذل وعطاء الآخرين أيضا.

وينقل أنّ شخصا من القدماء كان يأمر زوجته بأن تطبخ طعاما أكثر من

٥٩٥

حاجتهم لإعطاء المساكين ، ثمّ كان يقول : (أخرجنا نصف السلسلة من أعناقنا وذلك بالإيمان بالله ، والنصف الآخر بالإطعام)(١) .

ثمّ يضيف تعالى :( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ ) أي صديق مخلص وحميم( وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) أي القيح والدم.

والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ (الجزاء) و (العمل) لهؤلاء الجماعة متناسبان تماما ، فبسبب قطع علاقتهم بالله ، فليس لهم هنالك من صديق ولا حميم ، كما أنّ سبب امتناعهم عن إطعام المحتاجين فإنّ طعامهم في ذلك اليوم لن يكون إلّا القيح والدم ، لأنّهم حرموا المساكين من الإطعام وتركوهم نهبا للجوع والألم في الوقت الذي كانوا يتمتّعون لسنين طويلة بألذّ وأطيب الأطعمة.

يقول الراغب في المفردات : «غسلين» غسالة أبدان الكفّار في النار ، إلّا أنّ المتعارف عليه أنّ المقصود به هو الدم والقيح النازل من أجسام أهل النار ، ويحتمل أنّ (الراغب) قد قصد هذا المعنى أيضا.

كما أنّ التعبير بـ (الطعام) يناسب هذا المعنى كذلك.

وهنا يطرح سؤال ، وهو متعلّق بما ورد في الآية الكريمة في قوله تعالى :( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) (٢) ، وقد فسّروا (الضريع) بأنّه نوع من الشوك.

وكذلك ما ورد بهذا الشأن في قوله تعالى :( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ) (٣) ، وقد فسّروا (الزقوم) بأنّه نبات مرّ غير مستساغ الطعم ذو رائحة نتنة حيث يكثر وجود مثل هذا النبات في أرض (تهامة) وهو مرّ وحارق وذو صمغ.

والسؤال هو : كيف يمكن الجمع بين هذه الآيات والآية مورد البحث؟

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٩ ، ص ٥١.

(٢) الغاشية ، الآية ٦.

(٣) الدخان ، ٤٣ ـ ٤٤.

٥٩٦

قال البعض في الجواب : إنّ هذه الكلمات الثلاث (الضريع ، والزقوم ، والغسلين) إشارة إلى موضوع واحد وهو (نبات خشن غير مستساغ الطعم يكون طعام أهل النار).

وقيل : إنّ أهل النّار في طبقات مختلفة ، وإنّ كلّ صنف من هذه النباتات والأطعمة يكون غذاء لمجموعة منهم ، أو طبقة من طبقاتهم.

وقيل : إنّ غذاء أهل النار هو (الزقوم والضريع) ، وشرابهم (الغسلين) ، والتعبير بـ (الطعام) عن الشراب في هذه الآية ليس بالجديد.

ويضيف سبحانه في آخر آية مورد البحث في قوله تعالى للتأكيد :( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ (خاطئ) تقال للشخص الذي يرتكب خطأ عمدا ، أمّا (المخطئ) فتطلق على من ارتكب خطأ بصورة مطلقة (عمدا أو سهوا) وبناء على ما تقدّم فإنّ طعام أهل جهنّم خاصّ للأشخاص الذين سلكوا درب الشرك والكفر والبخل والطغيان تمردّا وعصيانا وعمدا.

* * *

ملاحظة

بداية وضع الحركات على حروف القرآن الكريم :

أخرج «البيهقي» في شعب الإيمان عن «صعصعة بن صوحان» قال : جاء أعرابي إلى علي بن أبي طالب فقال : كيف هذا الحرف «لا يأكله إلّا الخاطون» كلّ والله يخطو؟ (أي إنّ جميع الناس تخطو وتمشي فهل انّ الجميع سوف يأكل من هذا الطعام؟) فتبسّم علي وقال : يا أعرابي (لا يأكله إلّا الخاطئون) قال : صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان الله ليسلّم عبده ، ثمّ التفت عليعليه‌السلام إلى أبي الأسود

٥٩٧

فقال : «إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئا يستدلّون به على صلاح ألسنتهم ، فرسم لهم الرفع والنصب والخفض»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير (الدرّ المنثور) لجلال الدين السيوطي ، ج ٨ ، ص ٢٧٥.

٥٩٨

الآيات

( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) )

التّفسير

القرآن كلام الله قطعا :

بعد الأبحاث التي مرّت بنا في الآيات السابقة حول القيامة وما أعدّه الله سبحانه للمؤمنين والكفّار ، يبيّن البارئعزوجل في هذه الآيات بحثا وافيا حول القرآن والنبوّة ، ليكون البحثان (النبوّة) و (المعاد) كلا منهما مكمّلا للآخر.

يقول الراغب في البداية :( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ) .

المعروف أنّ كلمة (لا) زائدة وللتأكيد في مثل هذه الموارد ، ولكن ذهب البعض إلى أنّ (لا) تعطي معنى النفي أيضا ، ويعني ذلك أنّني لا اقسم بهذا الأمر ، لأنّه أوّلا : لا توجد ضرورة لمثل هذا القسم. وثانيا : يجب أن يكون القسم باسم

٥٩٩

الله ، إلّا أنّ هذا القول ضعيف ، والمناسب هو المعنى الأوّل ، إذ ورد في القرآن الكريم قسم باسم الله وبغيره في الكثير من الآيات.

جملة( بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ) لها معنى واسع ، حيث تشمل كلّ ما يراه البشر وما لا يراه ، وبعبارة اخرى تشمل كلّ عالم (الشهود) و (الغيب).

وقد ذكرت احتمالات اخرى لتفسير هاتين الآيتين ، منها : أنّ المقصود من عبارة( بِما تُبْصِرُونَ ) هو عالم الخلقة ، ومن( وَما لا تُبْصِرُونَ ) هو الخالقعزوجل .

وقيل إنّ المقصود بالأولى هو النعم الظاهرية ، وفي الثانية النعم الباطنية. أو أنّ المقصود بهما : البشر والملائكة على التوالي ، أو الأجسام والأرواح ، أو الدنيا والآخرة.

إلّا أنّ سعة مفهوم هاتين العبارتين يمنع من تحديدهما. وبناء على هذا فإنّ كلّ ما يدخل في دائرة المشاهدة وما هو خارج عنها مشمول للقسم ، إلّا أنّه يستبعد شمولهما للبارئعزوجل ، بلحاظ أنّ جعل الخالق مقترنا بالخلق أمر غير مناسب ، خصوصا مع تعبير (ما) الذي جاء في الآية الكريمة والذي يستعمل في الغالب لغير العاقل.

ويستفاد ضمنا من هذا التعبير بصورة جيّدة أنّ الأمور والأشياء التي لا يراها الإنسان كثيرة جدّا ، وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة ، وهي أنّ المحسوسات التي تحيطنا تشمل دائرة محدودة من الموجودات ـ والأشياء غير المحسوسة ـ سواء في مجال الألوان والأصوات والأمواج والمذاقات وغيرها ـ هي في الواقع أوسع دائرة من الأمور الحسيّة.

فالنجوم التي يمكن رؤيتها في مجموع نصفي الكرة الأرضية بحدود خمسة آلاف نجمة ، طبقا لحسابات علماء الفلك ، أمّا النجوم التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة فهي تعدّ بالمليارات.

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624