الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204247 / تحميل: 6096
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

حاجز عظيم من الإعتقادات والأعمال المختلفة ، ففي يوم القيامة يتجسّد نفس المعنى أيضا.

ولما ذا هذا «الباب» ، ولأي الأهداف؟

للجواب على هذا التساؤل نقول : من الممكن أن يكون هذا الباب من أجل أن يرى المنافقون من خلاله نعم الجنّة ويتحسّرون عليها ، أو أنّ من كان قليل التلوّث بالذنوب وقد نال جزاءه من العذاب بإمكانه أن يدخل منها ويكون مع المؤمنين في نعيمهم.

غير أنّ هذا الحائط ليس من النوع الذي يمنع عبور الصوت حيث يضيف سبحانه : أنّ المنافقين( يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ) لقد كنّا نعيش معكم في هذه الدنيا فما الذي حدث وانفصلتم عنّا وذهبتم إلى الروح والرحمة الإلهية وتركتمونا في قبضة العذاب؟

( قالُوا : بَلى ) كنّا معكم في أماكن كثيرة في الأزقّة والأسواق ، في السفر والحضر ، وكنّا أحيانا جيرانا أو في بيت واحد نعم كنّا معا ، إلّا أنّ اختلافاتنا في العقيدة والعمل كانت هي الفواصل بيننا ، لقد كنتم تسيرون في خطّ منفصل عن خطّنا وكنتم غرباء عن الله في الأصول والفروع ، لذا فأنتم بعيدون عنّا. ثمّ يضيفون : لقد ابتليتم بخطايا وذنوب كثيرة من جملتها :

١ ـ( وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ) وخدعتموها بسلوك طريق الكفر والضلال.

٢ ـ( وَتَرَبَّصْتُمْ ) وانتظرتم موت النبي وهلاك المسلمين وانهدام أساس الإسلام ، بالإضافة إلى التهرّب من إنجاز كلّ عمل إيجابي وكلّ حركة صحيحة ، حيث تتعلّلون وتماطلون وتسوّفون إنجازها.

٣ ـ( وَارْتَبْتُمْ ) في المعاد وحقّانية دعوة النبي والقرآن

٤ ـ وخدعتكم الآمال( وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ ) .

عم هذه الأماني لم تعطكم مجالا ـ حتّى لحظة واحدة ـ للتفكّر الصحيح ، لقد

٤١

كنتم مغمورين في تصوّراتكم وتعيشون في عالم الوهم والخيال ، واستولت عليكم أمنية الوصول إلى الشهوات والأهداف المادية.

٥ ـ( وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ) إنّ الشيطان غرّكم بوساوسه في مقابل وعد اللهعزوجل ، فتارة صوّر لكم الدنيا خالدة باقية واخرى صوّر لكم القيامة بعيدة الوقوع. وفي بعض الأحيان غرّكم بلطف الله والرحمة الإلهية ، وأحيانا جعلكم تشكّون في أصل وجود الله العظيم الخالق.

هذه العوامل الخمسة فهي التي فصلت خطّكم عنّا بصورة كليّة وأبعدتنا عنكم وأبعدتكم عنّا.

«فتنتم» من مادّة (فتنة) جاءت بمعاني مختلفة كـ (الامتحان والانخداع ، والبلاء والعذاب ، والضلالة والانحراف ، والشرك وعبادة الأصنام) والمعنيان الأخيران هنا أنسب أي الضلال والشرك.

«تربّصتم» من مادّة (تربّص) في الأصل بمعنى الانتظار ، سواء كان انتظار البلاء والمصيبة أو الكثرة والنعمة ، والمناسب الأكثر هنا هو انتظار موت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتكاسة الإسلام ، أو أنّ الانتظار بمعنى التعلّل في التوبة من الذنوب وإنجاز كلّ عمل من أعمال الخير.

«وارتبتم» من مادّة (ريب) تطلق على كلّ شكّ وترديد وما سيتوقّع فيما بعد ، والمعنى الأنسب هنا هو الشكّ بالقيامة أو حقّانية القرآن الكريم.

وبالرغم من أنّ مفهوم الكلمات المستعملة في الآية واسع ، إلّا أنّ من الممكن أن تكون لبيان المسائل المذكورة بالترتيب ، من مسألة «الشرك» وانتظار «نهاية عمر الإسلام والرّسول» ومن ثمّ «الشكّ في المعاد» الذي يؤدّي إلى «التلوّث العملي» عن طريق «الانخداع بالأماني» والشيطان ، وبناء على هذا فالجمل الثلاث الاولى من الآية ناظرة إلى الأصول الثلاثة للدين ، والجملتان الأخيرتان بعد هما ناظرتان إلى فروع الدين.

٤٢

وأخيرا فإنّ المؤمنين ـ بلحاظ ما تقدّم ـ يخاطبون المنافقين بقولهم :( فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وبهذا الترتيب يواجه المنافقون نفس مصير الكفّار أيضا ، وكلّهم رهينة ذنوبهم وأعمالهم القبيحة ، ولا يوجد لهم أي طريق للخلاص.

ثمّ يضيف سبحانه :( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) (١) ( وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

الإنسان ـ عادة ـ لكي ينجو من العقوبة المتوقّعة في الدنيا ، يتوسّل للخلاص منها إمّا بالغرامة المالية أو طلب العون والمساعدة من قوّة شفيعة ، إلّا أنّه هناك ـ في يوم القيامة ـ لا يوجد أي منهما ينقذ الكفّار والمنافقين من العذاب المحتوم عليهم.

وفي يوم القيامة ـ عادة ـ تنقطع كلّ الأسباب والوسائل المادية المتعارف عليها في هذا العالم للوصول إلى المقاصد المرجوة ، كما تنفصم الروابط حيث يقول سبحانه :( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) (٢) .

( يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ ) (٣) .

( وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ ) (٤) ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً ) (٥) .

( يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ) (٦) .

( فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ) (٧) .

__________________

(١) «مولى» هنا من الممكن أن تكون بمعنى الولي ، أو بمعنى الشخص أو الشيء الذي تكون له الأولوية للإنسان.

(٢) البقرة ، الآية ١٦٦.

(٣) البقرة ، الآية ٢٥٤.

(٤) البقرة ، الآية ٤٨.

(٥) الدخان ، الآية ٤١.

(٦) الطور ، الآية ٤٦.

(٧) المؤمنون ، الآية ١٠١.

٤٣

( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (١)

وبهذه الصورة يوضّح القرآن الكريم أنّ الوسيلة الوحيدة للنجاة في ذلك اليوم هي الإيمان والعمل الصالح في الدنيا ، حتّى أنّ دائرة الشفاعة محدودة للأشخاص الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا وليسوا من الغرباء مطلقا عن الإيمان والذين قطعوا ارتباطهم بصورة كليّة من الله وأوليائه وعصوا أوامره.

* * *

ملاحظة

الإستغاثة العقيمة للمجرمين :

نظرا إلى أنّ الكثير من الناس في يوم القيامة يجهلون طبيعة النظام المهيمن هنالك ويتصوّرون أنّ نفس أنظمة الدنيا تحكم هناك أيضا ، فيحاولون استخدامها.

إلّا أنّه سرعان ما يتبيّن الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه.

فأحيانا يتوسّل المجرمون بالمؤمنين بقولهم لهم :( انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ) إلّا أنّه بسرعة يواجهون الردّ الحاسم ، وهو أنّ منبع النور ليس هنا ، إنّما في دار الدنيا حيث تخلّفتم عنه بالغفلة وعدم المعرفة.

وأحيانا يطلب كلّ منهم العون من الآخر (الأتباع من قائدهم) فيقولون :( فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ) (٢) وهنا يواجهون الردّ المخيّب لآمالهم أيضا.

ثمّ إنّهم يستنجدون ويلتمسون العون من خزنة جهنّم حيث يقولون :( ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ ) (٣)

__________________

(١) المدثر ، الآية ٣٨.

(٢) إبراهيم ، الآية ٢١.

(٣) المؤمن ، الآية ٤٩.

٤٤

وأحيانا يتجاوزن ذلك ويلتمسون من الله أن يخفّف عنهم حيث يقولون :( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ) (١) ولكن هذا الطريق هو الآخر مغلق عليهم أيضا ، لأنّ عهد التكليف قد انقضى وهذه دار الجزاء والعقاب.

* * *

__________________

(١) المؤمنون ، الآية ١٠٧.

٤٥

الآيات

( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) )

سبب النزول

وردت لنزول الآية الاولى أعلاه عدّة أسباب : منها أنّ الآية المذكورة نزلت ـ بعد سنة من هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تتحدّث عن المنافقين ، وذلك أنّهم سألوا سلمان الفارسي : حدّثنا عمّا في التوراة ، فخبّرهم أنّ القرآن أحسن القصص كما في قوله تعالى :( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ

٤٦

رَبَّهُمْ ) (١) وعاودوا بعدها سؤال سلمان فجاءهم هذا التوبيخ والعتاب.

وقيل كان الصحابة بمكّة مجدبين ، فلمّا هاجروا أصابوا الخير والنعمة ، فتغيّروا عمّا كانوا عليه ، فقست قلوبهم فعوتبوا من ذلك(٢) .

كما نلاحظ أسباب نزول اخرى للآية ، وبما أنّها تتحدّث عن نزول هذه الآية في مكّة ، لذا فإنّها غير قابلة للاعتماد ، لأنّ المشهور أنّ جميع هذه السورة قد نزلت في المدينة.

التّفسير

إلى متى هذه الغفلة؟

بعد ما وجّهت الآيات السابقة مجموعة من الإنذارات الصارمة والتنبّهات الموقظة ، وبيّنت المصير المؤلم للكفّار والمنافقين في يوم القيامة ، جاءت الآية الاولى مورد البحث بشكل استخلاص نتيجة كليّة من ذلك ، فتقول :( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ، وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) (٣) .

«تخشع» من مادّة «خشوع» بمعنى حالة التواضع مقترنة بالأدب الجسمي والروحي ، حيث تنتاب الإنسان هذه الحالة ـ عادة ـ مقابل حقيقة مهمّة أو شخصية كبيرة.

ومن الواضح أنّ ذكر اللهعزوجل إذا دخل أعماق روح الإنسان ، وسماع الآيات القرآنية بتدبّر فإنّها تكون سببا للخشوع ، والقرآن الكريم هنا يلوم بشدّة

__________________

(١) الزمر ، الآية ٢٣.

(٢) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٢٣٧ كما جاء في تفسير الدرّ المنثور أيضا أسباب نزول كثيرة للآية من جملتها سبب النزول الثاني (الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ١٧٥) وأتى البيضاوي أيضا في تفسير (أنوار التنزيل) بنفس سبب النزول المذكور.

(٣) (يأن) من مادّة (أنّى) من مادّة (إنا) على وزن (ندا) ومن مادّة (أناء) على وزن جفاء بمعنى الاقتراب وحضور وقت الشيء.

٤٧

قسما من المؤمنين لعدم خشوعهم أمام هذه الأمور. لأنّه قد ابتلى كثير من الأمم السابقة بمثل هذا من الغفلة والجهل. وهذه الغفلة تؤدّي إلى قساوة القلب وبالتالي إلى الفسق والعصيان.

ولهذا هل نقتنع بادّعاء الإيمان ، والعيش في رفاه والانشغال بالأكل والشرب ونمرّ أمام هذه المسائل المهمّة ببساطة؟ وهل أنّ أعمالنا ومسئولياتنا تتناسب مع الإيمان الذي ندّعيه؟

هذه التساؤلات لا بدّ من الإجابة عنها مع أنفسنا بهدوء وموضوعية.

جملة :( فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ) قد تكون إشارة إلى الفاصلة الزمنية بينهم وبين أنبيائهم ، ويحتمل أن يكون المقصود بها طول العمر ، أو طول الأمانيّ ، أو عدم نزول العذاب الإلهي منذ مدّة طويلة ، أو كلّ ذلك ، لأنّ كلّ واحدة من هذه الأسباب يمكن أن تكون عاملا للغفلة والقساوة ، وهي بدورها تسبّب الذنب والإثم.

جاء في حديث للإمام عليعليه‌السلام : «لا تعالجوا الأمر قبل بلوغه فتندموا ، ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم»(١) .

ونقرأ في حديث آخر عن لسان عيسى المسيحعليه‌السلام : «لا تكثروا بالكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم ، فإنّ القلب القاسي بعيد من الله ، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنّكم أرباب ، وانظروا في ذنوبكم كأنّكم عبيد ، والناس رجلان : مبتلى ومعافى ، فارحموا أهل البلاء ، واحمدوا الله على العافية»(٢) .

ولأنّ إحياء القلوب الميتة لا يكون إلّا بالذكر الإلهي ، الحياة الروحية التي لن تكون إلّا بظلّ الخشوع والخضوع وخاصّة في أجواء القرآن الكريم لذا فإنّ القرآن يشبّه عملية إحياء القلوب الميتة بإحياء الأراضي الميتة ، فكما أنّ هذه تحيا ببركة نزول الأمطار كذلك فإنّ القلوب تحيا بذكر الله سبحانه حيث يضيف

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٨ ، ص ٨٣ ، الحديث ٨٥.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٣٨.

٤٨

سبحانه في الآية اللاحقة :( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

هذه الآية تشير إلى إحياء الأراضي بوسيلة المطر ، كذلك فإنّ إحياء القلوب الميتة يكون بواسطة ذكر الله وقراءة القرآن المجيد الذي نزل من سماء الوحي على القلب الطاهر للنبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلاهما جديران بالتدبّر والتعقّل ، لذا أشير في الروايات السابقة إلى كليهما.

ونقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسيره لهذه الآية أنّه قال : «لعدل بعد الجور»(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسيره للآية :( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) قال : «يحيي الله تعالى الأرض بالقائم بعد موتها ، يعني بموتها كفر أهلها ، والكافر ميّت»(٢) .

ومن الواضح أنّ هذه التفاسير في الحقيقة هي بيان لمصاديقها البارزة ، ولا تحدّ من مفهوم الآية أبدا.

وجاء في حديث آخر عن الإمام الكاظمعليه‌السلام : «فإنّ الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر»(٣) .

ويرجع مرّة اخرى في الآية اللاحقة إلى مسألة الإنفاق ، والتي هي إحدى ثمار شجرة الإيمان والخشوع ، حيث يتكرّر نفس التعبير الذي قرأناه في الآيات السابقة مع إضافة ، حيث يقول تعالى :( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) (٤) .

__________________

(١) روضة الكافي مطابق لنقل الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٤٣

(٢) كمال الدين مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٤٢.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٧٨ ، ص ٣٠٨.

(٤) المصدّقين والمصدّقات بمعنى «المتصدقين والمتصدقات» ، وعطف (أقرضوا الله) الذي هو «جملة فعلية» على «الجملة الاسمية» السابقة ، لأنّ معنى هذه الجملة هو «الذين أقرضوا الله».

٤٩

أمّا لما ذا طرحت مسألة الإنفاق بعنوان القرض الحسن لله سبحانه؟ ولما ذا كان الجزاء المضاعف الأجر الكريم؟

يمكن معرفة الإجابة على هذه التساؤلات في البحث الذي بيّناه في نهاية الآية (١١) من نفس هذه السورة.

احتمل البعض أنّ المقصود من القرض الحسن لله في هذه الآيات والآيات المشابهة(١) بمعنى الإقراض للعباد ، لأنّ الله تعالى ليس بحاجة للقرض ، بل إنّ العباد المؤمنين هم الذين بحاجة إلى القرض ، ولكن بملاحظة سياق الآيات يفهم أنّ المقصود من «القرض الحسن» في كلّ هذه الآيات هو الإنفاق في سبيل الله ، بالرغم من أنّ القرض لعباد الله هو من أفضل الأعمال أيضا.

ويرى «الفاضل المقداد» أيضا في كنز العرفان في تفسير القرض الحسن بأنّه كلّ الأعمال الصالحة(٢) .

موعظة وتوبة :

إنّ آية :( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ) من الآيات المثيرة في القرآن الكريم ، حيث تليّن القلب ، وترطّب الروح وتمزّق حجب الغفلة وتعلن منبّهة : ألم يأن للقلوب المؤمنة أن تخشع مقابل ذكر الله وما نزّل من الحقّ! وتحذّر من الوقوع في شراك الغفلة كما كان بالنسبة لمن سبق حيث آمنوا وتقبّلوا آيات الكتاب الإلهي ، ولكن بمرور الزمن قست قلوبهم.

لذلك نلاحظ بصورة مستمرة أنّ أفرادا مذنبين جدّا قد هداهم الله إلى طاعته بعد سماعهم هذه الآية التي وقعت في نفوسهم كالصاعقة ، وأيقظتهم من سباتهم وغفلتهم التي كانوا فيها ، ولهذا شواهد عديدة حيث تنقل لنا كتب التاريخ العديد

__________________

(١) تراجع الآية (٢٤٥ من سورة البقرة) (الحديد الآية ١١) و (التغابن آية ١٧) و (المزمل آية ٢٠).

(٢) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٥٨.

٥٠

منها ، حتّى أنّ البعض منهم أصبح في صفّ الزهّاد والعبّاد ، ومن جملتهم العابد المعروف «فضيل بن عيّاض» الزاهد.

حيث يحكى عنه أنّه كان في أوّل أمره يقطع الطريق بين «أبيورد» و «سرخس» ، وعشق جارية ، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تاليا يتلو :( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ) قال : (بلى والله قد آن) فرجع وأوى إلى خربة فإذا فيها رفقة ، فقال بعضهم : نرتحل ، وقال بعضهم : حتّى نصبح ، فإنّ فضيلا قد قطع الطريق علينا. فتاب الفضيل وأمّنهم.

وحكي أنّه جاور الحرم حتّى مات(١) .

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد رجال البصرة المعروفين قال : بينما كنت أسير في طريق فسمعت فجأة صيحة ، فذهبت متتبعا آثارها ، فشاهدت رجلا مغمى عليه على الأرض ، قلت : ما هذا! قالوا : رجل واعي القلب سمع آية من القرآن واندهش ، قلت : أي آية؟ قالوا :( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ) وفجأة أفاق الرجل عند سماع صوتنا وبدأ بقراءة هذا الشعر المؤثّر :

أما آن للهجران أن ينصر ما

وللغصن غصن البان أن يتبسّما

وللعاشق الصبّ الذي ذاب وانحنى

ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما

كتبت بماء الشوق بين جوانحي

كتابا حكى نقش الوشي المنمنما

قال ذلك ثمّ سقط على الأرض. مدهوشا مرّة اخرى ، فحرّكناه وإذا به قد سلّم روحه إلى بارئه وربّه(٢) .

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٣٦٩. وروح البيان ، ج ٩ ، ص ٣٦٥. وتفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٢.

(٢) تفسير نور المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٥٦.

٥١

الآيتان

( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) )

التفسير

الدنيا متاع الغرور :

استمرارا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة في بيان حال المؤمنين وأجرهم عند الله تعالى ، تضيف الآيات التالية بهذا الصدد قوله تعالى :( وَالَّذِينَ

٥٢

آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) .

«الصدّيق» صيغة مبالغة من (الصدق) بمعنى الشخص الذي يستوعب الصدق جميع وجوده ، حيث يصدّق عمله قوله ، وهو النموذج التامّ للصدق.

«شهداء» جمع «شهيد» من مادّة (شهود) بمعنى الحضور مع المشاهدة سواء كانت بالعين المجرّدة أو البصيرة ، وإذا أطلقت على «الشاهد» كلمة شاهد وشهيد ، فالسبب هو حضوره ومشاهدته في المكان ، كما يطلق هذا المصطلح على «الشهداء في سبيل الله» بسبب حضورهم في ميدان الجهاد.

إلّا أنّ المراد من (الشهداء) في الآية مورد البحث قد يكون الشهادة على الأعمال ، كما يستفاد من الآيات القرآنية الاخرى ، فالأنبياء شهداء على أعمال أممهم ، ورسول الإسلام شاهد عليهم وعلى الامّة الإسلامية ، والمسلمون أيضا شهداء على أعمال الناس(١) .

وبناء على هذا ، فإنّ الشهادة على الأعمال مقام عال ، والذي يكون من نصيب المؤمنين.

واحتمل البعض أنّ (شهداء) هنا هو الشهداء في سبيل الله ، أي الأشخاص المؤمنون الذين لهم أجر وثواب الشهادة ، يحسبون بمنزلة الشهداء ، لذا ذكر

في حديث أنّ شخصا ذهب إلى الإمام الصادقعليه‌السلام ، فقال له : ادع الله أن يرزقني الشهادة. فقال الإمامعليه‌السلام أنّ المؤمن شهيد ، ثمّ قرأ هذه الآية :( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) (٢) .

ومن الطبيعي أنّه يمكن الجمع بين المعنيين ، خصوصا أنّ القرآن الكريم أطلق مصطلح «شهيد وشهداء» في الغالب على الأعمال وما إلى ذلك.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الله تعالى يصف المؤمنين الحقيقيين هنا بوصفين : الأوّل :

__________________

(١) يراجع التّفسير الأمثل ، تفسير الآية (٧٨) من سورة الحجّ ، وتفسير الآية (٤١) من سورة النساء.

(٢) تفسير العياشي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٤٤.

٥٣

«الصدّيق» والآخر : «الشهيد» ، وهذا يرينا أنّ المقصود من المؤمنين في الآية مورد البحث هم أصحاب الدرجات العالية في الإيمان لا المؤمن العادي(١) .

ثمّ يضيف تعالى :( لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) .

إنّ هذا التعبير المختصر يشير إلى عظيم الأجر والنور الذي ينتظرهم.

وفي النهاية يضيف تعالى :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) وذلك كي تتوضّح بهذه المقارنة النتيجة التي آلت إليها المجموعتان ، والتي تتدرّج بين القمّة والقاع ، حيث إنّ القسم الأوّل في المقام العالي من دار الخلد ، والقسم الثاني في الدرك الأسفل من النار يندبون سوء حظّهم وانحطاط مصيرهم.

وبما أنّ المجموعة الاولى كانت في أعلى مستويات الإيمان ، ففي المقابل أيضا ذكرت الآية أيضا الكفر بأسوأ صوره في الجماعة الثانية المقارن للتكذيب بآيات الله.

ولأنّ حبّ الدنيا مصدر كلّ رذيلة ، ورأس كلّ خطيئة ، فالآية اللاحقة ترسم بوضوح وضع الحياة الدنيا والمراحل المختلفة والمحفّزات والظروف والأجواء التي تحكم كلّ مرحلة من هذه المراحل ، حيث يقول سبحانه :( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ) .

وبهذه الصورة فإنّ «الغفلة» و «اللهو» و «الزينة» و «التفاخر» و «التكاثر» تشكّل المراحل الخمس لعمر الإنسان.

ففي البداية مرحلة الطفولة ، والحياة في هذه المرحلة عادة مقترنة بحالة من

__________________

(١) طبقا للتفسير أعلاه فإنّ جملة (أولئك هم الصدّيقون والشهداء ، عند ربّهم) ليس لها أي تقدير ، إذ أنّ هؤلاء الجماعة من المؤمنين اعتبروا مصداقا للصدّيقين والشهداء ، إلّا أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ هؤلاء بمنزلة الصدّيقين والشهداء ، ولهم نفس الأجر ، ولكن ليس لهم كامل مميّزاتهم ومفاخرهم. ويقولون : إنّ الآية تقديرها (أولئك لهم مثل أجر الصدّيقين والشهداء). تفسير روح المعاني ، الميزان نهاية الآيات مورد البحث ، وطبعا فإنّ مرجع الضمائر (لهم ، وأجرهم) يختلف أيضا. إلّا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب مع ظاهر الآية (يرجى الانتباه).

٥٤

الغفلة والجهل واللعب.

ثمّ مرحلة المراهقة حيث يأخذ اللهو مكان اللعب ، وفي هذه المرحلة يكون الإنسان لاهثا وراء الوسائل والأمور التي تلهيه وتبعده عن الأعمال الجدّية.

والمرحلة الثالثة هي مرحلة الشباب والحيوية والعشق وحبّ الزينة.

وإذا ما تجاوز الإنسان هذه المرحلة فإنّه يصل إلى المرحلة الرابعة حيث تتولّد في نفسه دوافع العلو والتفاخر.

وأخيرا يصل إلى المرحلة الخامسة حيث يفكّر فيها بزيادة المال والأولاد وما إلى ذلك.

والمراحل الاولى تشخّص حسب العمر تقريبا ، إلّا أنّ المراحل اللاحقة تختلف عند الأشخاص تماما ، والبعض من هذه المراحل تستمر مع الإنسان إلى نهاية عمره ، كمرحلة جمع المال ، وبالرغم من أنّ البعض يعتقد أنّ كلّ مرحلة من هذه المراحل الخمس تأخذ سنين من عمر الإنسان مجموعها أربعون سنة ، حيث تتثبّت شخصية الإنسان عند وصوله إلى هذا العمر.

كما أنّ بعض الأشخاص يمكن أن تتوقّف شخصيتهم في المرحلة الاولى والثانية حتّى مرحلة الهرم ، ولذا فإنّ سمات هذه المرحلة تبقى هي الشاخصة في سلوكهم وتكوين شخصياتهم ، حيث اللعب والشجار واللهو هو الطابع العامّ لهم ، وتفكيرهم منهمك للغاية في تهيئة البيت الأنيق والملابس الفاخرة وغير ذلك من متع الحياة الدنيا حتّى الموت إنّهم أطفال في سنّ الكهولة ، وشيوخ في روحية الأطفال.

ويذكر سبحانه مثالا لبداية ونهاية الحياة ويجسّد الدنيا أمام أعين الناس بهذه الصورة حيث يقول سبحانه :( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا

٥٥

ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ) (١) .

«كفّار» هنا ليس بمعنى الأشخاص غير المؤمنين ، ولكن بمعنى «الزرّاع» لأنّ أصل الكفر هو التغطية ، وبما أنّ الزارع عند ما ينثر البذور يغطّيها بالتراب ، فقد قيل له كافر ، ويقال أنّ «الكر» جاء بمعنى القبر أحيانا ، لأنّه يغطّي جسم الميّت كما ورد في (سورة الفتح الآية / ٢٩).

وفي الحديث عن النمو السريع للنبات يقول تعالى :( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ) إذ وردت هنا كلمة «الزرّاع» بدلا من الكفّار.

ويحتمل بعض المفسّرين أيضا أنّ المقصود من «الكفّار» هنا هو نفس الكفر بالله تعالى وذكروا عدّة توجيهات لهذا ، والظاهر أنّ هذا التّفسير لا يتناسب وسياق الآية ، إذ أنّ المؤمن والكافر شريكان في هذا التعجّب.

(حطام) من مادّة (حطم) بمعنى التكسير والتفتيت ، ويطلق على الأجزاء المتناثرة للتبن (حطام) وهي التي تأخذها الرياح باتّجاهات مختلفة.

إنّ المراحل التي يمرّ بها الإنسان مدّة سبعين سنة أو أكثر تظهر في النبات بعدّة أشهر ، ويستطيع الإنسان أن يسكن بجوار المزرعة ويراقب بداية ونهاية العمر في وقت قصير.

ثمّ يتطرّق القرآن الكريم إلى حصيلة العمر ونتيجته النهائية حيث يقول سبحانه :( وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ) .

وأخيرا تنهي الآية حديثها بهذه الجملة :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) .

«غرور» في الأصل من مادّة (غرّ) على وزن «حرّ» بمعنى الأثر الظاهر للشيء ، ويقال (غرّة) للأثر الظاهر في جبهة الحصان ، ثمّ أطلقت الكلمة على حالة الغفلة ، حيث أنّ ظاهر الإنسان واع ، ولكنّه غافل في الحقيقة ، وتستعمل أيضا

__________________

(١) «يهيج» من مادّة هيجان جاءت هنا بمعنيين الأوّل : جفاف النبات ، والآخر : التحرّك والحيوية ، وقد يرجع هذان المعنيان إلى أصل واحد ، لأنّ النبات عند جفافه يكون مهيّأ للاندثار والانتشار بحركة الرياح.

٥٦

بمعنى الخدعة والحيلة.

«المتاع» بمعنى كلّ نوع ووسيلة يستفاد منها ، وبناء على هذا فإنّ جملة (الدنيا متاع الغرور) كما جاءت في قوله تعالى :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) تعني أنّها وسيلة وأداة للحيلة والخدعة للفرد وللآخرين.

وطبيعي أنّ هذا المعنى وارد في الأشخاص الذين يعتبرون الدنيا هدفهم النهائي ، وتكون منتهى غاياتهم ، ولكن إذا كانت الهبات المادية في هذا العالم وسيلة للوصول بالإنسان للسعادة الأبدية ، فذلك لا يعدّ من الدنيا ، بل ستكون جسرا وقنطرة ومزرعة للآخرة التي ستتحقّق فيها تلك الأهداف الكبيرة حقّا.

من البديهي أنّ النظر إلى الدنيا باعتبار أنّها «مقرّ» أو «جسر» سوف يعطي للإنسان توجّهين مختلفين ، الأوّل : يكون سببا للنزاع والفساد والتجاوز والظلم ، والطغيان والغفلة ، والثاني : وسيلة للوعي والتضحية والاخوة والإيثار.

* * *

تعقيب

١ ـ مقام الصدّيقين والشهداء

وصف القرآن الكريم الأنبياء العظام وأمثالهم بأنّهم (صدّيقون) ومن جملتهم إبراهيمعليه‌السلام :( إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) (١) .

ووصف إدريسعليه‌السلام بنفس الوصف قال تعالى :( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) (٢) .

وحول امّ المسيح السيّدة مريمعليه‌السلام نقرأ قوله تعالى :( وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) (٣) .

__________________

(١) مريم ، آية ٤١.

(٢) مريم ، الآية ٥٦.

(٣) الجاثية ، الآية ٧٥.

٥٧

كما جاء ذكر (الصدّيقين) على مستوى الأنبياء أو من معهم في بعض الآيات القرآنية ، كما في قوله تعالى :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ) (١)

وكما قلنا فإنّ هذا المصطلح صيغة مبالغة من مادّة (صدق) تقال للشخص الذي يحيط الصدق كلّ وجوده ، وينعكس الصدق في أفكاره وأقواله وأعماله وكلّ حياته ، وهذا يعكس لنا أهميّة مقام الصدق.

أمّا (الشهداء) فكما قلنا يمكن أن يقصد بهم الشهداء على الأعمال أو بمعنى الشهداء في سبيل الله ، وفي الآية مورد البحث يمكن الجمع بين الرأيين.

ومن الطبيعي أنّ «الشهيد» في الفكر الإسلامي لا ينحصر بالشخص الذي يقتل في ميدان الجهاد ، بالرغم من أنّه أوضح مصداق لمفهوم الشهيد ، بل ينطبق على كلّ الأشخاص الذين يؤمنون بالعقيدة الإلهيّة ويسيرون في طريق الحقّ حتّى رحيلهم من الدنيا ، وذلك تماشيا مع الروايات الإسلامية فإنّها تعدّ هؤلاء في زمرة الشهداء.

جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «العارف منكم هذا الأمر المنتظر له المحتسب فيه الخير ، كمن جاهد والله مع قائم آل محمّد بسيفه. ثمّ قال : بل والله كمن جاهد مع رسول بسيفه. ثمّ قال الثالثة : بل والله كمن استشهد مع رسول الله في فسطاطه ، وفيكم آية من كتاب الله ، قلت : وأي آية جعلت فداك؟ قال : قول اللهعزوجل :( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) ثمّ قال : «صرتم والله صادقين شهداء عند ربّكم»(٢) .

وننهي هذا الموضوع بحديث : لأمير المؤمنين(٣) عند ما كان بعض أصحابه

__________________

(١) النساء ، الآية ٦٩.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٣٨.

(٣) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٠.

٥٨

يستعجلون في أمر الجهاد ونيل الشهادة حيث قال : «لا تستعجلوا ما لم يعجله الله لكم ، فإنّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيدا»(١) .

٢ ـ الحياة الدنيا لهو ولعب

يصف القرآن الكريم ـ أحيانا ـ الحياة الدنيا بأنّها لهو ولعب ، كما في قوله تعالى :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) (٢) .

ويصفها أحيانا باللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر ، كما في الآيات مورد البحث.

ويصفها أحيانا بأنّها (متاع الغرور) كما في قوله تعالى( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) (٣) .

ويصفها أحيانا بأنّها (متاع قليل) كما جاء في : (الآية ٧٧ من سورة النساء).

وأحيانا يصفها بأنّها عارض ظاهري سريع الزوال. «النساء».

ومجموع هذه التعبيرات والآيات القرآنية توضّح لنا وجهة نظر الإسلام حول الحياة المادية ونعمها ، حيث إنّه يعطيها القيمة المحدودة التي تتناسب مع شأنها ، ويعتبر الميل إليها والانشداد لها ناشئا من توجّه غير هادف (لعب) و (لهو) وتجمّل و (زينة) وحبّ المقام والرئاسة والأفضلية على الآخرين (تفاخر) والحرص وطلب المال والأولاد بكثرة (التكاثر) ويعتبر التعلّق بها مصدرا للذنوب والآثام والمظالم.

أمّا إذا تحوّلت النظرة إلى هذه النعم الإلهيّة ، وأصبحت سلّما للوصول إلى

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٠.

(٢) الأنعام ، الآية ٣٢.

(٣) آل عمران ، الآية ١٨٥.

٥٩

الأهداف الإلهيّة ، عندئذ تصبح رأسمال يشتريها الله من المؤمنين ويعطيهم عوضها جنّة خالدة وسعادة أبديّة ، قال تعالى :( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) (١) .

* * *

__________________

(١) التوبة ، الآية ١١١.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624