الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204112 / تحميل: 6084
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وقوله تعالى على لسان إبراهيم: ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ... رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ) (1) ، وقال تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل: ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) (2) .

فهذه الصيغة الواردة في موثّقة أبي بصير - وغيرها من الصلاة على آل محمد - صيغة نَعت وإقرار لهم بالولاية والسؤدد والخيريّة على البريّة، فهي قريبة من أحد الصيغ التي ذكرها الصدوق في الفقيه للشهادة الثالثة وهي: (آل محمّد خير البريّة)، وكذلك قريبة من الصيغة التي أوردها السيّد المرتضى في مسائله المبافارقيات (محمّد وعلي خير البشر).

* السابعة: الفتوى بالشهادة الثالثة بعد تكبيرة الإحرام

الفتوى بالشهادة الثالثة في دعاء التوجّه إلى الصلاة، والذي يؤتى به بعد تكبيرة الإحرام.

منها: فتوى الشيخ الطوسي في كتاب الاقتصاد، قال في فصل فيما يقارن حال الصلاة: (أوّل ما يجب من أفعال الصلاة المقارنة لها النيّة،... ويستفتح الصلاة بقوله: (الله أكبر)،... فإن أراد السنّة في الفضيلة كبّر ثلاث مرات...

____________________

(1) إبراهيم: 37، 4.

(2) البقرة: 128.

٦١

ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين مثلما قدّمناه ويقول،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين ويقول بعدهما: (وجّهتُ وجهي للذي فطرَ السماوات والأرض على ملّة إبراهيم ودين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وولاية أمير المؤمنين وما أنا من المشركين، قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي لله ربّ العالمين لا شريك له، وبذلك أُمرتُ وأنا من المسلمين) (1) ، وقريب منه ما جاء في كتاب النهاية (2) .

ومنها: فتوى الحَلَبي في الكافي

قال في الكافي: (فأمّا التوجّه فهو ما يُفتتح به الصلاة من التكبير والدعاء وصفته: أن يقول المتوجّه بعد الفراغ من الإقامة ويداه مبسوطتان تجاه وجهه: اللهمّ إنّي أتوجّه إليك وأتقرّب إليك بمَن أوجبتَ حقّهم عليَّ، آدم، ومحمّد، ومَن بينهما من النبيّين، والأوصياء، والحجج، والشهداء، والصالحين، وآل محمّد المصطفى، علي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والحجّة بن الحسن، اللهمّ فصلِّ عليهم أجمعين، واجعلني بهم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين، اللهمّ اجعل صلاتي بهم مقبولة، وعملي بهم مبروراً، وذنبي بهم مغفوراً، وعيبي بهم مستوراً، ودعائي بهم مستجاباً مَننتَ اللهمّ عليَّ بمعرفتهم، فاختِم لي بطاعتهم وولايتهم، واحشرني عليها وجازني على ذلك الفوز بالجنة، والنجاة من النار برحمتك يا أرحم الراحمين، ثُمّ يكبّر ثلاث تكبيرات،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين ويدعو بعدهما،... ثُمّ يكبّر تكبيرة، ثُمّ ينوي الصلاة ويكبّر تكبيرة الافتتاح مصاحبة للنيّة ويقول بعدها:

____________________

(1) الاقتصاد: ص26 - 261، منشورات جامع جهلستون.

(2) النهاية: ج1، ص294.

٦٢

وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، وولاية أمير المؤمنين والأئمّة من ذريتهم الطاهرين.... (1).

منها: فتوى الشيخ المفيد

قال في المقنعة في باب كيفيّة الصلاة وصفتها: وليستفتح الصلاة بالتكبير فيقول: (الله أكبر ويرفع يديه مع تكبيرة،.... ويكبّر تكبيرة أخرى كالأولى و....، ويكبّر ثالثة،... ثُمّ يكبّر تكبيرة رابعة،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين، إحداهما بعد الأخرى، كما قدّمنا ذكره ويقول: (وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمد، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وما أنا من المشركين،... أعوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الرحيم ثُمّ يقرأ الحمد...)) (2) .

منها: فتوى الشيخ الصدوق في كتابه المقنع في أبواب الصلاة قال: (ثُمّ كبِّر تكبيرتين وقل: وجّهتُ وجهي للذي فطرَ السماوات والأرض، عالِم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم على ملّة إبراهيم، ودين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حنيفاً مسلماً،... (3).

ومنها: فتوى القاضي ابن البرّاج

قال: (وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، ومنهاج عليّ بن أبي طالب، وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونُسكي...) (4) .

____________________

(1) الكافي في الفقه: ص121 - 122، طبعة مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

(2) المقنعة: ص13، طبعة قم، جماعة المدرّسين.

(3) المقنع: ص93، طبع قم، مؤسّسة الإمام الهادي (عليه السلام).

(4) المهذّب: ج1، ص 92 كتاب الصلاة، طبعة جماعة المدرّسين، قم.

٦٣

ومنها: فتوى ابن زهرة الحَلَبي

قال: (وأن يقول بعد تكبيرة الإحرام: وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمد، وولاية أمير المؤمنين عليّ، والأئمّة من ذرّيتهما وما أنا من المشركين...) (1).

ومنها: الشيخ أبي يعلي حمزة بن عبد العزيز الديلمي المعروف بسلاّر.

قال: (ثُمّ يكبّر تكبيرتين، الثانية منهما تكبيرة الافتتاح ثُمّ يقول: وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)...) (2) .

وغيرها من الفتاوى التي يجدها المتتّبع طبقاً للروايات الواردة في دعاء التوجّه للصلاة، والتي يأتي التعرّض لها لاحقاً، وهي ناصّة على كون الإقرار بالشهادة الثالثة بالصيغة المتقدّمة من أوراد الصلاة الخاصّة، والتي يؤتى بها داخل الصلاة فضلاً عن مقدّماتها الخارجة كالأذان والإقامة، نعم، في بعض فتاوى المتأخّرين تخصيص دعاء التوجّه بما بين الإقامة وتكبيرة الإحرام، وهو الآخر أيضاً نافع في المقام؛ لتوسّطه بين الإقامة وتكبيرة الإحرام فضلاً عن تخلّلها في الإقامة والأذان ذاتيهما.

____________________

(1) غنية النزوع: ص83 كتاب الصلاة، طبعة قم، مؤسّسة الإمام الصادق.

(2) المراسم العلويّة: ص71 كتاب الصلاة، طبعة أمير، قم.

٦٤

ومنها: فتوى الشيخ الصدوق في الفقيه في وصف الصلاة وأدب المصلي قال، قال الصادق: (إذا قمتَ إلى الصلاة فقل... ثُمّ كبّر تكبيرتين وقل: (وجّهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً على ملّة إبراهيم، ودين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومنهاج علي، حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا من المسلمين، أعوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم) (1) ، ثُمّ قال الصدوق في ذيلها: (وإن شئتَ كبّرت سبع تكبيرات ولاءً، إلاّ أنّ الذي وصفناه تعبّد، وإنّما جَرت السنّة في افتتاح الصلاة بسبع تكبيرات لمَا روى زرارة).

ومنها: فتوى الشيخ الطوسي في مصباح المتهجّد قال: (فإذا أراد التوجّه قام مستقبل القبلة وكبّر فقال: الله أكبر، يرفع بها يديه إلى شَحمتي أُذنيه لا أكثر من ذلك، ثُمّ يُرسلهما، ثُمّ يكبّر ثانية وثالثة مثل ذلك ويقول،.... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين مثل ذلك ويقول،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين على ما وصفناه ويقول: وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملّة إبراهيم، ودين محمد، ومنهاج علي حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له، وبذلك أمرتُ وأنا من المسلمين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) (2).

____________________

(1) الفقيه: ج1، ص302 - 34 طبعة جماعة المدرّسين.

(2) مصباح المتهجّد: فصل في سياقه الصلوات الإحدى والخمسين ركعة في اليوم والليلة، ص44 مؤسّسة الأعلمي بيروت.

٦٥

* الثامنة: الفتوى بذكرهم بوصف إمامتهم (عليهم السلام) في خطبة الجمعة

ويراد بذلك: مشروعيّة أو شرطيّة ذِكر أسمائهم بوصف الإمامة في خطبة الجمعة، تضمّن خطبة الجمعة للإمام التي هي عوض ركعتي الظهر، والتي هي شرط في ركعتي صلاة الجمعة، بل هي من الأجزاء الواجبة لتضمنّها لأسماء الأئمّة ففي مفتاح الكرامة (1) قال: وفي الجعفريّة، وكشف الالتباس، وحاشية الإرشاد وجوب الصلاة فيهما على أئمّة المسلمين.

وفي فوائد الشرايع: أنّه أولى واعتمدَ في المدارك والشافية على صحيح محمّد الطويل، وظاهر الدروس أو صحيحها: أنّ الصلاة على أئمّة المسلمين من وظائف الثانية، كالنافع والمعتبر، وكأنّه مالَ إليه في إرشاد الجعفريّات، وفي موضع من السرائر والمنقول عن مصباح السيّد: أنّه يدعو لأئمّة المسلمين في الثانية، وظاهر النهاية: أنّه يدعو لأئمّة المسلمين وقد تضمّنت صحيحة (2) محمّد بن مسلم الأمر بذكر أسماءهم (عليهم السلام)، وكذا موثّق سماعة (3).

وقال في الجواهر: (لكنّ ظاهره (الموثّق)، وظاهر صحيح ابن مسلم إيجاب الصلاة على الأئمّة في الثانية، بل في الثاني منهما ذِكرهم (عليهم السلام) تفصيلاً، فمقتضى الجمع بين النصوص ذلك فيهما معاً إلاّ أنّ ندرة الفتوى بها وما سمعتهُ من إجماع الشيخ وغيره على الاجتزاء بدونه، وسوق النصوص للأعم من الواجب والمندوب ونحو ذلك ممّا لا يخفى يمنع من الجرأة على الوجوب، وإن كان الوجوب في الجملة ظاهر ما سمعته في مصباح السيّد، ونهاية الشيخ، والنافع، والمعتبر وغيرها، بل ربّما استُظهرَ من موضع من السرائر إلاّ أنّه استُظهر منه الندب؛ لحصر الواجب في الخطبة في أربعة أصناف (4).

____________________

(1) مفتاح الكرامة: ج3، ص114.

(2) الكافي: ج3، ص422 باب تهيئة الإمام للجمعة وخطبته.

(3) الوسائل: أبواب صلاة الجمعة ب24، ح1.

(4) الجواهر: ج11، ص215.

٦٦

والحاصل: إنّ مشروعيّة ذِكر الأسماء للأئمّة (عليهم السلام) ورجحانه بالخصوص في خطبة الجمعة، لا خلاف فيه والخُطبة - كما مرّ - عِوض الركعتين وبمنزلة الجزء المقدّم على ركعتي صلاة الجمعة، فهي أدخل في الصلاة من الأذان والإقامة، وقد تضمّنت لكلّ من الشهادات الثلاث وإن كانت بصورة الحمد لله والصلاة على النبي بالتوصيف، والصلاة على الأئمّة بوصف الإمامة، لاسيّما وأنّه قد أُمرَ ندباً ووجوباً بذكر الأسماء تفصيلاً في: صحيح محمد بن مسلم، ومجموعاً في موثّق سماعة.

وهذا التشريع الخاص بذكرهم (عليهم السلام) في خطبة الجمعة يدفع كثيراً من الاستبعادات والإشكاليات التي ذكرها جماعة: من أنّ صورة الأذان لو كانت متضمّنة للشهادة الثالثة على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لتوفّرت الدواعي لنقلها ونحوه ممّا ذُكر في استبعاد تضمّن الأذان للشهادة الثالثة كفصل؛ فإنّ هذه الاستبعادات بعينها تتأتّى في خطبة صلاة الجمعة، وليس من وجه في الجواب إلاّ تدريجيّة التشريع وبيان الأحكام ولو بسبب عدم استجابة الناس وتقبّلهم لذلك، كما في إبلاغ أصل الولاية بنحو عام لكلّ المسلمين كما في واقعة غدير خم، حيث كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخشى تمرّد المنافقين فطمأنَهُ الله تعالى بقوله: ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (1).

____________________

(1) المائدة 67.

٦٧

السيرةُ على عهدِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

بالرغم من كون تشريع الأحكام وإبلاغها من الله تعالى ورسوله الكريم تدريجيّاً، بل إنّ بعض تفاصيل الأحكام تأخّر إبلاغها إلى عهد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بعهدٍ معهود من رسول الله، إذ كمال الدين بنصب رسول الله لعلي (عليه السلام) والمطهّرين من ولده أئمّة، إلاّ أنّه يُطرح السؤال:

عن أنّ تشريع الشهادة الثالثة في الأذان هل وقعَ في عهد رسول الله، أم أنّه تمّ بيانه وإبلاغه على يدي أئمّة أهل البيت، الذين يمسّون الكتاب المكنون واللوح المحفوظ، الذين عهد إليهم النبي العلم الإلهي من بعده، فإنّ الذي يسترعي الانتباه هو ظاهره حذف السلطة بعد رسول الله على عهد الثاني لفصل (حيّ على خير العمل)، فإنّ ظاهره التصرّف في الأذان بالنقيصة أو زيادة (الصلاة خير من النوم)، تثير التساؤل بأنّ الأذان الذي كان على عهد رسول الله قد نقص منه أمور وزيد فيه أموراً أخرى، وهذا التطاول يزيد في احتمال مطروح بدواً، في كون الشهادة الثالثة قد حصلَ التأذين بها في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لاسيّما مع الإعلان عنها في واقعة الغدير وقبلها من الوقائع ونزول آية إكمال الدين (1) ، وأنّه ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ... ) (2) ، وهذا ما يظهر بوضوح من مصحّح ابن أبي عمير الآتي، مع اعتضاد مضمونه وتوافقه مع فتاوى السيّد المرتضى وابن برّاج، وتطابق بعض مضمونه مع بعض الأحاديث النبويّة المرويّة من قِبل الفريقين فهاهنا نقطتان:

____________________

(1) المائدة: آية 3.

(2) المائدة: آية 67.

٦٨

الأولى: فتوى كلّ من: السيّد المرتضى، وابن برّاج بجواز (محمّد وعلي خير البشر) بعد قول: (حيّ على خير العمل) في الأذان، كما أفتى بذلك السيّد المرتضى في المسائل المبافارقيّة (1) ، وفتوى (2) ابن برّاج بجواز قول: (آل محمّد خير البريّة) مرّتين بعد قول: (حيّ على خير العمل) في الأذان والإقامة.

ثُمّ إنّ هاتين الفتويين بَنياها العَلَمان على المتون الروائيّة التي أشار إلى روايتها الصدوق في الفقيه، وقد أشار الشيخ الطوسي في المبسوط والنهاية بورودها، فيستفاد إلى أنّ أحد موضعي الشهادة الثالثة في الأذان بعد فصل (حيّ على خير العمل) مضافاً إلى الموضع الأوّل، والذي هو الشهادة الثانية فبضميمة النقطة الثانية وهي:

الثانية: وهي ما ورد في مصحّحة ابن أبي عمير، أنّه سأل أبا الحسن (عليه السلام) عن (حيّ على خير العمل) لمَ تُركت من الأذان؟ قال: (تريد العلّة الظاهرة أو الباطنة؟ قلت: أريدهما جميعاً، فقال: أمّا العلّة الظاهرة فلئلاّ يدع الناس الجهاد اتّكالاً على الصلاة، وأمّا الباطنة؛ فإنّ خير العمل الولاية، فأراد من أمر بترك حيّ على خير العمل من الأذان: أن لا يقع حثٌ عليها ودعاء إليها).

ومراده (عليه السلام) من العلّة الباطنة: السبب الحقيقي الخفي الذي دفعَ الثاني إلى حذفها من الأذان أنّه لكي لا يُدعى إلى الولاية، مع أنّ متن (حيّ على خير العمل) ليس فيه لفظ الولاية فلا يكون هذا الفصل دعوة إلى الولاية إلاّ بضميمة ما ذُكر في النقطة من وجود (آل محمّد خير البريّة)، أو (محمّد وعلي خير البشر)، وأنّ هذا الفصل كان قد قُرأ به في الأذان في بعض أيّام رسول الله أو فترة من الفترات،

____________________

(1) المسائل المبافارقية: ص256.

(2) المهذّب: ج1، ص92، كتاب الصلاة، طبعة جماعة المدرّسين، قم.

٦٩

وحيث إنّ هذين الفصلين مترابطان، حُذف الفصل الأوّل وهو (حيّ على خير العمل)؛ لئلاّ يُذكر الفصل الثاني وهو (آل محمّد خير البريّة) أو (محمّد وعلي خير البشر)، والذي كان يمارَس في بعض الأحيان في عهد رسول الله، فلكي لا يُذكر هذا الفصل الثاني حُذف الأوّل.

وبهاتين النقطتين يتبيّن سند روائي معتبر على تشريع الشهادة الثالثة منذ عهد رسول الله، وأنّ هذه المصحّحة والروايات المشار إليها في النقطة الأولى سند روائي لتاريخ تشريع الشهادة الثالثة، وأنّها تشريع نبوي، وهذا ما تعطيه تصريح الرواية من أنّ السند الحقيقي من إقدام الثاني بحذف (حيّ على خير العمل) والداعي الأصلي لديه هو: لئلاّ يُدعى بالولاية بتوسّط حيّ على خير العمل، ممّا يستلزم أنّ قَبل عهد الثاني - وهو عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - كان يُدعى للولاية بتوسّط (حيّ على خير العمل).

وهذا ما تفسّره الروايات في النقطة الأولى من: أنّ تشريع الشهادة الثالثة قد كان في أصل التشريع الأوّلي للأذان، وأنّ تعبيره (عليه السلام) بالعلّة الباطنة يريد به الوصف للعلّة، أي السبب الخفي الذي حذا بالثاني على أن يَقدِم على حذف (حيّ على خير العمل)، فلا يُتوهم أنّ لفظ الباطن هو وصف للمعنى الخفي لحيّ على خير العمل؛ لأنّه بعيد ممجوج، إذ سؤال الراوي عن سبب ترك وحذف (حيّ على خير العمل) من قِبَل السلطة في الأذان، ولذلك ترك العلّة الظاهرة لهذا الترك والحذف، أي العلّة المُعلنة على السطح من قِبَل السلطة للناس وهو قوله (عليه السلام):

إنّ سلطة الثاني ادّعت (لئلاّ يدع الناس الجهاد اتّكالاً على الصلاة)، إذ المعروف أنّ حذف (حيّ على خير العمل) هي من بِدع الثاني، فهذه المصحّحة منادية بوجوب الدعاء والحثّ على ولاية آل محمّد في الأذان في التشريع الأوّلي من قِبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إلاّ أنّ الثاني قام بحذفه.

٧٠

ويَدعم مضمون هذه المصحّحة - بالإضافة إلى الروايات المشار إليها في النقطة الأولى، والتي أفتى بها كلّ من السيّد المرتضى، وابن برّاج -: ما رواه الفريقان مستفيضاً عن النبي، وما هو مجانس لفظاً لمضمون هذه الروايات في ذلك سورة البيّنة أنّ آل محمّد خير البريّة، وأنّ (محمّداً وعليّاً خير البشر)، فقوالب هذه الألفاظ والجُمل هي أحاديث نبويّة مرويّة عند الفريقين، وهو يشاكل ويجانس لفظاً (حيّ على خير العمل)، وهو عين الفصل الثاني الذي أشارت إليه روايات النقطة الأولى، لاسيّما وأنّ الآية في سورة البيّنة: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (1) ، فلاحظ ما رواه العامّة من تسمية علي بخير البريّة، فكانوا يقولون له على عهد رسول الله: جاء خير البريّة، وذَهب خير البريّة.

فقد روى السيوطي في الدرّ المنثور (2) في ذيل الآية، قال: وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله (قال: كنّا عند النبي (صلّّى الله عليه وآله وسلّم)، فأقبلَ علي (عليه السلام) فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة) ونَزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، فكان أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا أقبل علي (عليه السلام) قالوا: جاء خير البريّة).

وقال السيوطي: وأخرج ابن عدي، وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً (علي خير البريّة).

____________________

(1) البيّنة: الآية 7.

(2) الدرّ المنثور للسيوطي: ج6، ص389.

٧١

وأخرج ابن عدي عن ابن عبّاس، قال: لمّا نَزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعلي: (هو أنتَ وشيعتك يوم القيامة راضيين مرضيين).

وأخرجَ ابن مردويه عن علي (عليه السلام) قال: (قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ألم تسمع قول الله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جيئت الأمم للحساب، تُدعونَ غرّاً محجّلين) (1).

وروى الطبري ابن جرير، المتوفّى سنة 31 هجريّة في تفسيره جامع البيان: وقد حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا عيسى بن فرقد عن أبي الجارود عن محمّد بن علي ( أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، فقال النبي (صلّى الله عليه ((وآله)) وسلّم): (أنت يا علي وشيعتك) (2).

وقد روى الشوكاني في فتح القدير (3) هذه الروايات عن تلك المصادر الحديثيّة، وروى الآلوسي في روح المعاني (4) هذه الروايات أيضاً عن نفس تلك المصادر الحديثيّة.

وروى ابن حسنويه الحنفي في كتابه (دُر بحر المناقب)، ص59 مخطوط فقال: (وعن الإمام فخر الدين الطبري يرفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: بينما نحن بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوماً في مسجده بالمدينة، فذُكرَ بعض الصحابة، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

____________________

(1) الدرّ المنثور للسيوطي: ج6، ص389.

(2) تفسير الطبري: ج30، ص335.

(3) فتح القدير: ج5، ص477.

(4) روح المعاني للآلوسي: ج3، ص6.

٧٢

(إنّ لله لواءً من نور وعموده من زبرجد، خلقه الله تعالى قبل أن يخلق السماء بألفي عام مكتوب عليه (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، آل محمّد خير البشر، وأنت يا علي إمام القوم، فعند ذلك قال علي: الحمدُ لله الذي هدانا وأكرمنا بك وشرّفنا....) الحديث (1).

____________________

(1) إحقاق الحق، ج4، ص284. فقد أورده إمام الحنابلة احمد بن حنبل الشيباني المروزي في فضائل الصحابة ص46 مخطوط كما حكاه في إحقاق الحق ج4، ص249 إلى ص258.

وروى مُحب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص96 وفي الرياض النظرة: ج2، ص220 وابن حجر في لسان الميزان: ج3، ص166، ج6، ص78، ج1، ص175 وأخرجه ابن مردويه في كتابه المناقب وغيرها من المصادر فلاحظ إحقاق الحق.

٧٣

تَقادُم السيرة على الشهادة الثالثة

المحطّةُ الأُولى:

إنّ من أقدم الشهادات التاريخيّة على السيرة في ذِكر الشهادة الثالثة هي: ما ذكرهُ العامّة في كُتب التراجم في ترجمة كدير الضبّي، وهو أحد صحابة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإنّه ذَكرها في تشهّد الصلاة حيث صلّى على النبي وعلى الوصي بلفظ الوصي، وهو يُنبئ عن السيرة الموجودة لدى صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممّن كان يتشيّع لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ويظهر من التراجم المشار إليها (1) معروفيّة تضعيفه لأجل ذلك.

وروى محمد بن سليمان الكوفي القاضي، المتوفّى بعد الثلاثمائة هجري قمري في كتابه مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (حدّثنا محمد بن منصور، عن عثمان بن أبي شيبه، عن جرير عن المغيرة، عن سمّاك بن سلمة قال: دخلتُ على كدير الضبّي حين صلّيت الغداة فقالت لي امرأته: ادنوا منه؛ فإنّه يصلّي فسمعته يقول: سلام على النبي والوصي (2) ، فقلت: لا والله، لا يراني الله عائداً إليك).

بل إنّ هناك روايات أخرى تُعدّ أقدم من ذلك عن جماعة كثيرة من الصحابة وهي: ما روي عن ابن عبّاس في عدّة روايات بسند متّصل عن

____________________

(1) لاحظ التذييل الثالث في خاتمة الفصل الأوّل.

(2) مناقب الإمام علي أمير المؤمنين: ص386 تصحيح المحمودي، والحديث رواه كلّ من: العقيلي، وابن حجر في ترجمة كدير الضبّي من كتاب الضعفاء ولسان الميزان، ج4، ص486.

٧٤

النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (1) ، وسيأتي ذِكرها في الفصل الثاني في الطوائف الروائيّة العامّة، كالطائفة الأولى حيث قرنَ فيها الشهادات الثلاث، وقريب منه ما رواه الصدوق عن ابن عبّاس بسند متصل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2) ، وعن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين - والأصبغ من أوائل التابعين - وهذا ما يُدلّل على أنّ السيرة متقادِمة في الصحابة والتابعين، وكذلك ما رواه الفضل بن شاذان، عن الأعمش، عن جابر، عن مجاهد، عن عبد الله بن العبّاس (3) ، وستأتي في الفصل الثاني في الطائفة الأولى من طوائف الروايات العامّة، وكذلك ما رواه الفضل بن شاذان عن عبد الله بن مسعود (4) ، وكذلك روى عنه الفضل بن شاذان (5) حديث المعراج من اقتران الشهادات الثلاث.

أقول: فيظهر من هذه الروايات وغيرها، أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حرّضَ على اقتران الشهادات الثلاث في عدّة مواطن؛ لدفع المسلمين على الاعتياد على ذِكر الشهادة الثالثة كلّما ذكروا الشهادتين، وجعلها شعاراً لهم في كلّ المواطن والشعائر العباديّة ومنها الأذان، وقد روى الصدوق بإسناده في كمال الدين (6) عن أبي الطفيل عامر بن واثلة اقتران الشهادات الثلاث، وهناك روايات أخرى في الفصل الثاني رواها الطبراني،

____________________

(1) الفضائل لابن شاذان: ص93، البحار: ج38، ص318.

(2) توحيد الصدوق: ص279 - 282، ح4، ح1.

(3) الفضائل لابن شاذان: ص83، الخصال للصدوق: ج1، ص323.

(4) الفضائل لابن شاذان: ص152.

(5) الفضائل لابن شاذان: ص153.

(6) كمال الدين: ص294 - 296، ح3.

٧٥

والحافظ ابن عساكر، والسيوطي، وابن عدي وغيرهم، عن أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبي الحمراء خادم الرسول، وغيرهم من الصحابة في اقتران الشهادات الثلاث وكلّها من كُتب ومصادر العامّة (1).

المحطّةُ الثانية:

ما يظهر من سيرة الطالبيين في حلب، والشام، ومصر من التأذين بالشهادة الثالثة، عندما تسلّموا سدّة الحكم في أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع وطواله، وإليك هذه النصوص التاريخيّة:

1 - ما ذكرهُ ابن العديم في كتابه بغية الطلب في تاريخ حلب، روى بسنده عن أبي بكر الصولي: أنّه لمّا أُجلس أحمد بن عبد الله - وهو الخارج بالشام في أيّام المكتفي بالله، وكان ينتمي إلى الطالبيين وهو المعروف بصاحب الخال وقُتل بالدكّة في سنة إحدى وتسعين ومائتين (291 هجري قمري) - على سدّة الحكم، سار أحمد بن عبد الله إلى حمص ودُعي له بها وبكورها، وأمَرهم بأن يُصلّوا الجمعة أربع ركعات، وأن يَخطبوا بعد الظهر ويكون أذانهم: أشهدُ أنّ محمّداً رسول الله، أشهدُ أنّ عليّاً وليّ المؤمنين، حيّ على خير العمل، وضَربَ الدراهم والدنانير وكُتب عليها: (الهادي المهدي، لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، ( جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً )) ، وعلى الجانب الآخر: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2).

____________________

(1) ملحقات إحقاق الحق: ج16، ص468 - 493.

(2) بُغية الطلب في أخبار حلب: ج2، ص944.

٧٦

2 - ما ذكرهُ أبو عبد الله محمّد بن علي بن حمّاد في كتابه (أخبار ملوك بني عبيد)، في ترجمة عبيد الله ابن محمد الطالبي (1) المتوفّى سنة (322 هجريّة قمريّة)، مؤسّس الدولة العبيديّة في مصر قال: (وكان ممّا أحدثَ عبيد الله أن: قطعَ صلاة التراويح في شهر رمضان، وأمرَ بالصيام يومين قبله، وقنتَ قبل صلاة الجمعة قبل الركوع، وجهرَ بالبسملة في الصلاة المكتوبة، وأسقطَ من أذان الصبح (الصلاة خير من النوم)، وزاد (حيّ على خير العمل)، (محمّد وعلي خير البشر)، ونصّ الأذان طول مدّة بني عبيد بعد التكبير والتشهدين: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح مرّتين، حيّ على خير العمل، محمّد وعلي خير البشر مرّتين، لا إله إلاّ الله مرّة) (2).

3 - ما رواه القاضي التنوّخي (أبي علي الحسن بن أبي القاسم التنوّخي (المتوفّى 384 هجريّة قمريّة)، عن أبي الفرج الأصفهاني المتوفّى سنة (356هـ) قال: سمعتُ رجلاً من القطعيّة يؤذِّن: الله أكبر، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله، أشهدُ أنّ محمّداً رسول الله، أشهد أنّ عليّاً وليّ الله، محمد وعلي خير البشر فمَن أبى فقد كفر، ومَن رَضي فقد شكر، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله) (3).

____________________

(1) وهو عبيد الله بن محمد بن الحسين بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب، كما ذُكر في نسبه وولِد سنة (260 هجريّة)، وتوفي يوم الاثنين الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة واثنان وعشرون (322 هجريّة قمريّة)، كما جاء في أخبار ملوك بني عبيد ج1، ص49.

(2) أخبار ملوك بني عبيد: ج1، ص5.

(3) نشوار المحاضرة للتنوّخي: ج2، ص133.

٧٧

4 - قال المقريزي في (المواعظ والاعتبار): (... وأوّل مَن قال في الأذان بالليل (محمّد وعليّ خير البشر) الحسين المعروف بابن شكنبه، ويقال: اشكنبه، وهو اسم أعجمي معناه: الكرش، وهو: علي بن محمد بن علي بن إسماعيل بن الحسين بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وكان أوّل تأذينه بذلك في أيّام سيف الدولة بن حمدان بحلب في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة (347 هجريّة قمريّة)، قاله الشريف محمد بن أسعد الجوباني النسّابة، ولم يزل الأذان بحلب يزاد فيه (حيّ على خير العمل، محمد وعلي خير البشر) إلى أيّام نور الدين محمود) (1).

5 - ما ذكره المقريزي في حوادث سنة (356) ستة وخمسين وثلاثمائة في مصر، قال: (لمّا دخلَ جوهر (2) القائد لعساكر المُعز لدين الله وقد بنى القاهرة وأظهر مذهب الشيعة، وأذّن في جميع المساجد الجامعة بـ(حيّ على خير العمل)، وأعلن بتفضيل عليّ بن أبي طالب على غيره وجهرَ بالصلاة عليه، وعلى الحسن والحسين وفاطمة الزهراء رضوان الله عليهم....) (3).

____________________

(1) خطط المقريزي: ج2، ص271 - 272 (المواعظ والاعتبار في ذِكر الخُطب والآثار).

(2) وهو جوهر الصيقلي والقائد أبو الحسن، والمعروف بالكاتب الرومي، كان من موالي المُعز بن المنصور.... وفيات الأعيان لابن خلّكان: ج1، ص375 وهو الذي فتح مصر للدولة الفاطميّة.

(3) المواعظ والاعتبار في ذِكر الخُطب والآثار للمقريزي: ج2، ص34، وذُكرت مصادر أخرى ما هو قريب من ذلك مثل: العِبر في خبر مَن غبر، ج2، ص316 - الذهبي: ص86، ومثل: الوفيان لابن خلّكان، ج1، ص375 - 386، والمنتظم لابن الجوزي في تاريخ الأمم والملوك: ج14، ص197، وكتاب أخبار ملوك بني عبيد: ج1، ص85.

٧٨

وذكرَ ابن العديم في كتابه زبدة الحلب من تاريخ حلب قال: (واستقرّ أمر سعد الدولة بحلب (1) ، وجدّد الحلبيّون عمارة المسجد الجامع بحلب، وزادوا في عمارة الأسوار في سنة سبع وستين وثلاثمائة (367هـ)، وغيّر سعدٌ الأذان بحلب وزاد فيه (حيّ على خير العمل، ومحمد وعلي خير البشر) (2).

وذكرَ أبو الفداء (3) في (اليواقيت والضرب في تاريخ حلب) نظير ذلك.

6 - وقال ناصر خسرو في كتابه (سفرنامه)، في عنوان اليمامة التي زارها أثر مُدن سابقة ذكرها سنة 433 هجريّة قمريّة: إنّ أمراؤها علويون منذ القديم ولم يَنتزع أحد الولاية منهم، إذ ليس في جوارهم سلطان أو مَلك قاهر، وهؤلاء العلويون ذو شوكة فلديهم ثلاثمائة أو أربعمائة فارس، ومذهبهم الزيديّة وهم يقولون في الإقامة: محمد وعلي خير البشر، وحيّ على خير العمل، وقيل: إنّ سكّان هذه المدينة شريفيّة خاضعون للأشراف....) (4).

7 - ما ذكرهُ المؤرِّخون من حوادث كثيرة في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس في بغداد، بين سنّة جماعة الخلافة والشيعة، ومن مظاهر تلك الخلافات الحاصلة بين الطرفين:

____________________

(1) وهو من ملوك الدولة الحمدانيّة، وهم من الشيعة الاثنى عشريّة، والتي بدأت من سنة 892 م إلى 991 م.

(2) زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن العديم: ج1، ص159 - 160.

(3) اليواقيت والضرب في تاريخ حلب: ص134.

(4) سفرنامه: ناصر خسرو، ص141 - 142.

٧٩

التأذين بحيّ على خير العمل بالأذان من قِبل الشيعة، وبالصلاة خير من النوم في أذان سنّة الجماعة والخلافة، وبالكتابة على أبواب المساجد والدور والدروب (محمّد وعلي خير البشر)، فلاحظ المصادر التاريخيّة في ذلك (1).

____________________

(1) الكامل في التاريخ: ج8، ج9، من سنة 362 هـ.ق إلى سنة 45 هـ.ق، والبداية والنهاية لابن كثير، تاريخ الخلفاء للسيوطي، السيرة الحلبيّة، تاريخ أبي الفداء، المنتظم لابن الجوزي، النجوم الزاهرة، الشذرات لابن عماد الحنبلي.

ومن باب النموذج: لاحظ ما وقعَ قبل سنة 356 هجريّة قمريّة، كالذي مرّ في الإشارة إليه في كتابه نشوار المحاضرة برواية القاضي التنوّخي عن أبي الفرج الأصفهاني، وكذلك سنة 441 هجريّة قمريّة، و442 هجريّة قمريّة، لاحظ: الكامل في التاريخ، والمنتظم، وتاريخ أبي الفداء، والنجوم الزاهرة، وكذلك سنة 443 هجريّة قمريّة، لاحظ المصادر السابقة، وكذلك سنة 444 هجريّة، 445 هجريّة، وسنة 448 هجريّة قمريّة وهي السنة التي تركَ فيها الشيخ بغداد وهاجر إلى النجف بسبب تلك الفتنة، ولاحظ: البداية والنهاية، والسيرة الحلبيّة، وكذلك سنة 450هـ ق، وموقف البساسيري (*)، ونهاية الأرب في فنون الأدب، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي.

(*) البساسيري: وهو قائد تركي الأصل، كان من مماليك بني بويه، وقد حكمَ آل بويه من سنة 320 هجريّة قمريّة إلى سنة 448 هجريّة قمريّة جنوب إيران والعراق، وأمّا بغداد فقد حكموها من سنة 334 هجريّة قمريّة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

ثمّ يقول تعالى :( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) .

إنّ حملة العرش بالرغم من أنّهم لم يشخّصوا بصورة صريحة في هذه الآية وهل هم من الملائكة أم من جنس آخر؟ إلّا أنّ ظاهر تعبير الآية الكريمة أنّهم من الملائكة ، ومن غير المعلوم أنّ المقصود بـ (ثمانية) هل هم ثمانية ملائكة؟ أم ثمانية مجاميع من الملائكة؟ سواء كانت هذه المجاميع صغيرة أو كبيرة.

جاء في الروايات الإسلامية أنّ حملة العرش في عالم الدنيا أربعة أشخاص أو أربع (مجاميع) إلّا أنّهم في يوم القيامة يكونون ضعف ذلك ، كما نقرأ ذلك في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (إنّهم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية)(١) .

أمّا ما يتعلّق بحقيقة العرش ، وماهية الملائكة ، فذلك كما يلي :

المقصود بـ (العرش) كما هو واضح ليس تختا ممّا يكون للسلاطين ، ولكنّه ـ كما بيّنا سابقا في تفسير كلمة (العرش) ـ بأنّها تعني (مجموعة عالم الوجود) حيث أنّه عرش حكومة الله سبحانه ، ويدبّر حكومته تعالى من خلاله بواسطة الملائكة الذين هم جاهزون لتنفيذ أمره سبحانه.

وجاء في رواية اخرى أنّ حملة العرش في يوم القيامة أربعة من الأوّلين ، وأربعة من الآخرين ، والأشخاص الأوّلون الأربعة هم : (نوح) و (إبراهيم) ، و (موسى) ، و (عيسى) ، أمّا الأشخاص الآخرون الأربعة فهم (محمّد) و (علي) و (الحسن) ، و (الحسين)(٢) .

وهذا الحديث من الممكن أن يكون إشارة إلى مقام شفاعتهم للأوّلين والآخرين ، والشفاعة ـ عادة ـ تكون لمن هم أهل لها ، وممّن لهم لياقة لنيلها ، ومع ذلك فإنّه يوضّح المفهوم الواسع للعرش.

__________________

(١) تفسير (علي بن إبراهيم) ج ٢ ، ص ٣٨٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤٦.

٥٨١

أمّا إذا كان حملة العرش ثمانية مجاميع ، فمن الطبيعي أن تتعهّد المجاميع للقيام بهذه المهمّة ، سواء كان هؤلاء من الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء ، وممّا تقدّم نلاحظ أنّ قسما من تدبير نظام وشؤون ذلك اليوم هو من مهمّة الملائكة وقسم من الأنبياء ، حيث أنّ الجميع جاهزون لتنفيذ أمر الله ، ويتحرّك بإرادته تعالى.

هنالك آراء في أنّ الضمير في (فوقهم) هل يرجع إلى «البشر»؟ أم إلى (الملائكة)؟ وبما أنّ الحديث في الجملة السابقة كان حول الملائكة ، فإنّ الضمير يرجع إليهم حسب الظاهر ، وبهذه الصورة فإنّ الملائكة تحيط بالعالم من جميع جهاته ، ولهذا فإنّ المقصود بـ (من فوقهم) هو (العلو من حيث المقام).

وهنالك احتمال بأنّ حملة عرش الله هم أشخاص أعلى وأفضل من الملائكة ، وتماشيا مع هذا الاحتمال فإنّ ما جاء في الحديث السابق منسجم معه ، حيث ورد فيه أنّ حملة عرش الله هم ثمانية من الأنبياء والأولياء.

وبما أنّ الحوادث المتعلّقة بيوم القيامة ليست واضحة لنا نحن سكنة هذا العالم المحدود ، لذا فليس بمقدورنا إذا إدراك المسائل المتعلّقة بحملة العرش في ذلك اليوم. إنّ الذي نتحدّث به عن هذه الأمور ما هو إلّا شبح يتراءى لنا من بعيد في ظلّ الآيات الإلهية ، وإلّا فلا تتمّ رؤية الحقيقة بدون معايشة الواقع(١) .

وممّا يجدر ملاحظته أنّ في (النفخة الاولى للصور) يموت ويفنى جميع من في السموات والأرض ، وبناء على هذا فإنّ مسألة بحث «حملة العرش» مرتبط «بالنفخة الثانية» ، حيث يتمّ إحياء الجميع ، وبالرغم من أنّه لم يأت ذكر للنفخة الثانية في الآية أعلاه ، إلّا أنّ ذلك يتّضح من خلال القرائن ، والمطالب التي سترد في الآيات اللاحقة تتعلّق بالنفخة الثانية أيضا(٢) .

* * *

__________________

(١) تطرقنا مرارا في هذا التّفسير إلى المعاني التي وردت حول (العرش) لغويا وقرآنيا ، ومن ضمن ما بحثناه حول هذه المسألة ما جاء في نهاية الآية ٥٤ من سورة الأعراف.

(٢) في الحقيقة أنّه توجد آية محذوفة بتقدير «ثمّ نفخ فيه اخرى».

٥٨٢

الآيات

( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) )

التّفسير

يا أهل المحشر : اقرؤا صحيفة أعمالي

قلنا في تفسير الآيات السابقة أنّ (نفخ الصور) يحدث مرّتين.

الاولى : عند ما يأمر تعالى بنهاية العالم وموت الأحياء وتلاشي الوجود.

والثانية : بحدوث العالم الجديد ، عالم الآخرة حيث البعث والنشور ، وكما ذكرنا فإنّ بداية الآيات تخبرنا عن النفخة الاولى ، ولم تستعرض تفاصيل النفخة الثانية.

واستمرارا للحديث في هذا الصدد ، وخصوصيات العالم الجديد الذي

٥٨٣

سيكون عند النفخة الثانية ، تحدّثنا هذه الآيات عن شيء من ذلك حيث يقول تعالى :( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) .

«تعرضون» من مادّة (عرض) بمعنى عرض شيء معيّن ، بضاعة أو غيرها.

وممّا لا شكّ فيه أنّ جميع ما في الوجود ـ بشرا وغيره ـ هو بين يدي الله سبحانه ، سواء في هذه الدنيا أو في عالم الآخرة ، إلّا أنّ هذا الأمر يظهر ويتّضح بصورة أشدّ في يوم القيامة ، كما في مسألة حاكمية الله المطلقة والدائمة على عالم الوجود ، حيث تتّضح في يوم القيامة أكثر من أي وقت آخر.

إنّ جملة :( تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ الأسرار الخاصّة بالإنسان وما يحاول إخفاءه يتحوّل في ذلك اليوم إلى حالة من الظهور والوضوح كما يقول تعالى :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) (١)

في ذلك اليوم لن يقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفيّة فحسب ، بل على صفات وروحيات وأخلاقيات ونيّات الجميع فإنّها هي الاخرى تبرز وتظهر ، وهذا أمر عظيم جدّا ، بل إنّه أعظم من انفجار الأجرام السماوية وتلاشي الجبال ـ كما يقول البعض ـ حيث الفضيحة الكبرى للطالحين ، والعزّة والرفعة للمؤمنين بشكل لا نظير له ، يوم يكون الإنسان عريانا ليس من حيث الجسم فقط ، بل أعماله وأسراره الخفية تكون على رؤوس الأشهاد ، نعم لا يبقى أمر مخفي من وجودنا وكياننا أجمع في ذلك اليوم العظيم.

ويمكن أن يكون المراد هو الإشارة للإحاطة العلمية لله تعالى بجميع المخلوقات ، ولكن التّفسير الأوّل أنسب.

لذا يقول سبحانه بعد ذلك :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) (٢) .

__________________

(١) الطارق ، الآية ٩.

(٢) «هاؤم» كما يقول أصحاب اللغة هي بمعنى (خذوا) وإذا كان المخاطب جمع مذكر ، فيقال : (هاؤم) ، وإذا جمعت جمع

٥٨٤

إنّ الفرحة تملؤه بصورة لا مثيل لها ، حتّى يكاد يطير من شدّة فرحته ، حيث أنّ كلّ ذرّة من ذرّات وجوده تغمرها الغبطة والسعادة والشكر لله سبحانه على هذه النعم والتوفيق والهداية التي منّ الله بها عليه ويصرخ (الحمد لله).

ثمّ يعلن بافتخار عظيم فيقول :( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) (١) .

«ظنّ» في مثل هذه الموارد تكون بمعنى (اليقين) إنّه يريد أن يقول : إنّ ما تفضّل به الله تعالى عليّ كان بسبب إيماني بهذا اليوم ، والحقيقة أنّ الإيمان بالحساب والكتاب يمنح الإنسان روح التقوى ، والتعهّد والإحسان بالمسؤولية ، وهذا من أهمّ عوامل تربية الإنسان.

ثمّ يبيّن الله تعالى في الآيات اللاحقة جانبا من جزاء وأجر هؤلاء الأشخاص حيث يقول :( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) (٢) .

وبالرغم من أنّ الجملة أعلاه تجسّد كلّ ما يستحقّ أن يقال في هذا الموضوع ، إلّا أنّه سبحانه يضيف للتوضيح الأكثر :( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ) .

إنّ الجنّة التي تكون عالية ورفيعة بشكل لم ير أحد مثلها قطّ ، ولم يسمع بها ، ولم يتصور مثلها.

( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) (٣) .

حيث لا جهد مكلّف ولا مشقّة ولا صعوبة في قطف الثمار ، ولا عائق يحول من الاقتراب للأشجار المحمّلة بالثمار ، وجميع هذه النعم في متناول الأيدي بدون

__________________

مؤنث (هائن) وإذا كان مفردا مذكرا كان (هاء) وتكون (بالفتح) ، وإذا كان مفردا مؤنثا فإنّ (الهاء) تكون مكسورة ، وللتثنية هاؤما ، يقول الراغب في المفردات : (هاء) تستعمل بمعنى الأخذ ، و (هات) بمعنى العطاء.

(١) ال «هاء» في (حسابيه) تكون (هاء الاستراحة) ، أو (هاء السكتة) ، وليس لها معنى خاص. أيضا في (كتابيه).

(٢) «الرضا» تكون عادة حالة وصفة للأشخاص ، إلّا أنّه سبحانه جعلها صفة للحياة نفسها في الآية أعلاه ، وهذه تمثّل نهاية التأكيد ، يعني أنّها حياة يعمّها الرضا والسرور.

(٣) «قطوف» جمع (قطف) على وزن (حزب) بمعنى أنّ الثمر قد اقتطف ، وتأتي أحيانا بمعنى الثمار المهيّئة للاقتطاف أيضا.

٥٨٥

استثناء.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يوجّه البارئعزوجل خطابه المملوء بالحبّ والمودّة والاعتزاز إلى أهل الجنّة بقوله :( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) .

وهكذا كانت هذه النعمة العظيمة التي منحها الله لهؤلاء المتقين جزاء أعمالهم الصالحة التي ادّخروها ليوم كان فيه الحساب الحقّ ، وأرسلوها سلفا أمامهم ، وإنّ الأعمال الخيّرة والمحدودة هي التي أثمرت هذه الثمار الكبيرة حيث ظلّ الرحمة الإلهية واللطف الربّاني.

* * *

ملاحظات

١ ـ تفسير آخر لكلمة (العرش)

جاء في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «حملة العرش ـ والعرش العلم ـ ثمانية ، أربعة منّا ، وأربعة ممّن شاء الله»(١) .

وجاء أيضا في حديث آخر لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «فالذين يحملون العرش ، هم العلماء ، الذين حمّلهم الله علمه»(٢) .

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه قال : «العرش ليس هو الله ، والعرش اسم علم وقدرة»(٣) .

إنّ ما يستفاد من هذه الأحاديث ـ بشكل عام ـ أنّ للعرش تفسيرا آخر بالإضافة إلى التّفسير السابق الذي ذكرناه سابقا ـ وهو (صفات الله) ـ صفات مثل

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٠٦ (حديث ٢٨).

(٢) المصدر السابق ، (حديث ٢٦).

(٣) المصدر السابق ، (حديث ٢٧).

٥٨٦

(العلم) و (القدرة) ، وبناء على هذا ، فإنّ حملة العرش الإلهي هم حملة علمه ، وكلّما كان الإنسان أو الملك أكثر علما ، كان له سهم أكبر في حمل العرش العظيم.

ومن هنا فإنّ هذه الحقيقة تتبلور بصورة أفضل وهي : أنّ العرش ليس تختا جسمانيا يشبه تخوت السلاطين ، بل له معان عديدة كنائية مختلفة إذا استعمل منسوبا إلى الله تعالى.

٢ ـ مقام الإمام عليعليه‌السلام وشيعته

جاء في روايات عديدة أنّ الآية :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) نزلت في حقّ الإمام عليعليه‌السلام وشيعته(١) .

٣ ـ جواب على سؤال

والسؤال المطروح هو : هل أنّ دعوة المؤمنين لأهل المحشر لقراءة كتاب حسابهم وصحيفة أعمالهم ـ طبقا لما جاء في الآية الكريمة :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) ـ تعني أنّ صحيفة أعمالهم خالية من أي ذنب؟

وفي مقام الجواب يمكن أن نستفيد من بعض الأحاديث منها حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «يدني الله العبد يوم القيامة ، فيقرره بذنوبه كلّها ، حتى إذا راى أنّه قد هلك قال الله تعالى : إنّي سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثمّ يعطى كتاب حسناته بيمينه»(٢) (٢).

وقال البعض أيضا : إنّ الله تعالى يبدّل سيّئات المؤمنين في ذلك اليوم إلى (حسنات) وبذلك لا تبدو أي نقطة سوداء في صحائف أعمالهم.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٦٦.

(٢) (في ضلال القرآن) ج ٨ ، ص ٢٥٦.

٥٨٧

الآيات

( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) )

التّفسير

يا ليتني متّ قبل هذا :

كان الحديث في الآيات السابقة عن (أصحاب اليمن) حيث صحائف أعمالهم بأيديهم اليمنى ، ويوجّهون نداءهم إلى أهل المحشر بكلّ فخر للاطلاع على صحيفة أعمالهم وقراءتها ، ثمّ يدخلون جنّات الخلد حيث تكون مستقرّهم الأبدي.

أمّا هذه الآيات فتستعرض الطرف المقابل لأصحاب اليمين وهم (أصحاب الشمال) وتقدّم مقارنة بين المجموعتين ، حيث يقول تعالى :( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ، فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ) (١) .

__________________

(١) ال (هاء) في (كتابيه) و (حسابيه) و (ماليه) و (سلطانيه) وكذلك في الكلمات التي ستأتي في الآيات اللاحقة هي

٥٨٨

( وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) (١) .

نعم ، في ذلك اليوم العظيم ، يوم البعث ويوم البروز والظهور ، يوم الحساب والمحكمة الإلهية العظيمة ، حيث تتوضّح وتنكشف حقيقة الأعمال القبيحة والسيّئة للإنسان وعند ما يواجهها يبدأ يجأر ويصرخ ويطلق الزفرات الساخنة المتلاحقة من الأعماق على المصير السيء الذي أوصل نفسه إليه ، والشرّ الذي جلبه عليها ، ويتمنّى أن يقطع علاقته بماضيه الأسود تماما ، ويتمنّى أن يموت ويفنى ويتخلّص من هذه الفضيحة الكبيرة المهلكة ، ويعبّر عن هذا الشعور قوله تعالى :( وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) (٢)

وذكرت تفاسير اخرى ـ أيضا ـ لمعنى قوله :( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) منها أنّ المقصود من (القاضية) هي الموتة الاولى ، يعني يا ليتنا لم نحي مرّة اخرى ونبعث من جديد ، في حين كان أقبح شيء في نظرهم هو الموت ، ويتمنّى هؤلاء أن لو استمرّ موتهم ولم يواجهوا الخزي في حياتهم الثانية في المحكمة الإلهية العادلة.

وقيل أنّ المقصود من «القاضية» (نفخة الصور) الاولى حيث عبّر عنها بـ (القارعة) أيضا ، ويعني ذلك تمنّيهم عدم حدوث النفخة الثانية ، لذا فهم يقولون : يا ليت لم تكن هذه النفخة ، إلّا أنّ التّفسير الذي تحدّثنا عنه في البداية أنسب من الجميع.

ثمّ يضيف تعالى مستعرضا اعتراف المجرمين بذنوبهم فيقول :( ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ) فالأموال التي كنت أجمعها في الدنيا لم تنقذني الآن ولم تعنّي ولم تدفع عنّي الأهوال أو تحلّ مشاكلي.

__________________

(هاء السكتة) أو (الاستراحة) وكما قلنا فإنّ هذه الهاء ليس لها معنى خاصّ ، بل إنّها تعتبر وقفا لطيفا في مثل هذه الكلمات ، ولها تناسب مع الوضع الروحي وحالة الأشخاص الذين يقولون مثل هذا الكلام (يرجى الانتباه لذلك).

(١) جملة (كانت القاضية) لها محذوف تقديره : (كانت هذه الحالة القاضية).

(٢) النبأ ، الآية ٤٠.

٥٨٩

( هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) فليست أموالي لم تسعفني في هذه الشدّة ، بل أنّ قدرتي ومقامي وسلطتي هي الاخرى هلكت وزالت عنّي.

وخلاصة الأمر : إنّ الأموال والمقام والسلطان والقوّة كلّها لم تفدني ولم تدفع عنّي ما أنا ملاقيه من عقاب على ما أسرفت في السابق ، وقد وقفت بين يدي محكمة العدل الإلهي ، وأنا لا أملك أي قوّة تنفعني في هذا اليوم ، فقد ذهبت قدرتي ، وقطع أملي من كلّ شيء ، وتعطّلت بي الأسباب. وهكذا يكون المجرمون في نهاية الذلّ والخزي والندم ، ولات ساعة مندم.

اعتبر البعض معنى ال (سلطان) هنا هو الدليل والبرهان الذي يكون عاملا في الإنتصار ، وبذلك يكون تفسير الآية ، أنّ المذنب يقول في ذلك اليوم : إنّي لا أملك أي دليل وحجّة أستطيع بها تبرير أعمالي في حضرة البارئعزوجل .

وقيل أيضا أنّ المراد من (السلطان) هنا ليس السلطة الحكومية ، ذلك لأنّ الداخلين إلى جهنّم ليسوا جميعا سلاطين أو أمراء ، بل إنّ المراد هو سلطة الإنسان على نفسه وحياته وإرادته ، ولكن بما أنّ الكثير من أهل النار كانوا يتمتعون بسلطة ونفوذ في عالم الدنيا ، أو أنّهم كانوا من أصحاب الأموال لذا يمكن اعتبار وجهة النظر هذه صحيحة حسب الظاهر.

* * *

ملاحظة

بعض القصص المثيرة :

نقلت في هذا المجال قصص كثيرة تؤكّد على المفاهيم العامّة التي احتوتها الآيات الكريمة أعلاه ، كموضع شاهد وعبرة وتأييد لما ذهبت إليه الآيات المباركات ، لتكون درسا لأولئك الذين جعلوا (المال والسلطان) همّهم الأوّل ، وانغمسوا حتّى الأذقان في الغفلة والغرور والذنوب من أجلهما ، ومن جملتها ما

٥٩٠

يلي :

١ ـ نقل في (سفينة البحار) عن كتاب (النصائح) ما نصّه : (عند ما اشتدّ مرض هارون الرشيد في خراسان أمر بإحضار طبيب من طوس ، ثمّ أوصى أن يعرض إدراره مع إدرار قسم من المرضى والأصحاء على الطبيب ، ففحص الطبيب قناني الإدرار الواحدة بعد الاخرى ، حتّى وصل إلى القنينة قال : قولوا لصاحب هذه القنينة أن يوصي ، لأنّ قواه قد انهدّت وبنيته قد هدمت ، فعند سماع هارون هذا الكلام يئس من حياته ، وتلا هذه الأبيات الشعرية :

إنّ الطبيب بطبّه ودوائه

لا يستطيع دفاع نحب قد أتى

ما للطبيب يموت بالداء الذي

قد كان يبرئ مثله فيما مضى

وفي هذه الأثناء سمع الناس يتداولون خبر موته ، ولكي يبطل مفعول هذه الإشاعة ، أمر باستحضار دابة ، وطلب أن يركب عليها ، وعند ما امتطى الدابة ضعفت أرجلها عن حمله ، قال : أنزلوني ، فإنّ الذي أشاع هذه الشائعة قد صدق. ثمّ أمر بجلب أكفان له ، واختار كفنا منها نال إعجابه ، وقال احضروا لي قبرا بالقرب من فراشي هذا ، ثمّ نظر إلى قبره ، وتلا هذه الآيات :( ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) (١) .

٢ ـ ونقل ـ أيضا ـ في نفس المصدر عن العالم الكبير (الشيخ البهائي) ما نصّه هكذا : (كان هنالك رجل كثير الحساب لنفسه واسمه (توبة) ، حوّل عمره البالغ ستّين عاما إلى أيّام فكان مجموعها (٢١٥٠٠) وعند ذلك قال : يا ويلي إذا لم أكن قد أذنبت في اليوم إلّا ذنبا واحدا فإنّ مجموع ذنوبي الآن يربو على واحد وعشرين ألف ذنب؟ فكيف الاقي ربّي بواحد وعشرين ألف ذنب؟ وبينما هو في

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٥٢٣ ، مادّة رشد.

٥٩١

هذه الحال إذ صرخ صرخة سقط على أثرها على الأرض وسلّم روحه إلى بارئها)(١) .

٣ ـ ورد في كتاب «اليتيمة» للثعالبي أنّه لمّا حانت وفاة عضد الدولة لم يتحرّك لسانه إلّا بهذه الآية( ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) .

* * *

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٤٨٨ مادّة ذنب (باقتباس).

٥٩٢

الآيات

( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) )

التّفسير

خذوه فغلّوه :

استمرارا للآيات السابقة التي كانت تتحدّث عن (أصحاب الشمال) الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى ، فتنطلق الآهات والأنّات ، ويتمنّى أحدهم الموت ـ يشير تعالى في الآيات أعلاه إلى قسم من العذاب الذي يلاقونه يوم القيامة فيقول :( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ) .

«غلّوه» من مادّة (غلّ) ، وكما قلنا سابقا أنّ المراد هو السلسلة التي كانوا يربطون بها أيدي وأرجل المجرمين إلى أعناقهم مقترن بالكثير من المشقّة والألم.

٥٩٣

( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) .

«السلسلة» في الأصل مأخوذة من مادّة (تسلسل) بمعنى الاهتزاز والارتعاش ، لأنّ حلقات السلسلة الحديدية تهتزّ وتتحرّك.

التعبير بـ (سبعون ذراعا) يمكن أن يكون من باب (الكثرة) إذ أنّ العدد سبعين كثيرا ما يستعمل للكثرة ، كما يمكن أن يكون المقصود هو العدد (سبعون) نفسه ، وعلى كلّ حال ، فإنّ مثل هذا الزنجير يطوق به المجرمون بحيث يربطون به من كلّ جانب.

وقال بعض المفسّرين : إنّ هذه السلاسل الطويلة ليست لشخص واحد. بل لمجاميع يربط كلّ منها بسلسلة ، وذكر هذه العقوبة بعد ذكر الغلّ في الآيات السابقة يتناسب أكثر مع هذا المعنى.

«ذراع» : بمعنى الفاصلة بين الساعة ونهاية الأصابع ، (وقياسها بحدود نصف متر) وكانت وحدة الطول المستعملة عند العرب ، وهي قياس طبيعي ، وقال البعض إنّ (الذراع) الوارد في الآية الكريمة هو غير الذراع المتعارف عليه ، حيث أنّ كلّ وحدة منه تمثّل فواصل عظيمة ، ويربط بهذا الزنجير جميع أهل جهنّم.

ونكرّر هنا مرّة اخرى قولنا أنّ المسائل المرتبطة بالقيامة لا نستطيع تصويرها بالكامل بواسطة بياننا نحن سكّان الدنيا ، إلّا أنّنا نعكس شبحا ـ فقط ـ من خلال ما جاء في الآيات والروايات.

التعبير بـ (ثمّ) في هذه الآية يوضّح لنا أنّ المجرمين بعد دخولهم في النار يربطون بالسلسلة ذات السبعين ذراعا ، وهذه عقوبة جديدة لهم. كما يوجد احتمال أنّ هذه السلاسل الفردية أو الجماعية تكون قبل الدخول في جهنّم ، و (ثم) جاءت للتأخير في الذكر.

وتتطرق الآيتان التاليتان لبيان السبب الرئيسي لهذا العذاب العسير ، فيقول

٥٩٤

تعالى :( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) .

وكلّما كان الأنبياء والأولياء ورسل الله تعالى يدعونه للتوجّه إلى (الواحد الأحد) لم يكن ليقبل ، ولذا فإنّ ارتباطه بالخالق كان مقطوعا بصورة تامّة.

( وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ) .

وبهذا الشكل فإنّ هؤلاء قد قطعوا علاقتهم مع (الخلق) أيضا.

وبهذا اللحاظ فإنّ العامل الأساسي لبؤس هؤلاء المجرمين هو قطع علاقتهم مع (الخالق) و (الخلق).

ويستفاد من التعبير السابق ـ بصورة واضحة ـ أنّه يمكن تلخيص أهمّ الطاعات والعبادات وأوامر الشرع بهذين الأساسين : (الإيمان) و (إطعام) المسكين) وهذا يمثّل إشارة إلى الأهميّة البالغة لهذا العمل الإنساني العظيم والحقيقة كما يقول البعض : إنّ أردأ العقائد هو (الكفر) كما أنّ أقبح الرذائل الأخلاقية هو (البخل).

والطريف في التعبير أنّه لم يقل (كان لا يطعم) ، بل قال : كان لا يحثّ الآخرين على الإطعام ، إشارة إلى :

أوّلا : إنّ حلّ مشكلة المحتاجين وإشباع الجائعين لا يمكن أن يتغلّب عليها شخص واحد ، بل يجب دعوة الآخرين أيضا للمساهمة بمثل هذا العمل ، ليعمّ الخير والفضل والإحسان جميع الناس.

ثانيا : قد يكون الشخص عاجزا عن إطعام المساكين ، ولكن الجميع بإمكانهم حثّ الآخرين على ذلك.

ثالثا : محاربة صفة البخل ، حيث أنّ من صفات البخيل أنّه يمتنع عن العطاء والبذل ، ولا يرغب أو يرتاح لبذل وعطاء الآخرين أيضا.

وينقل أنّ شخصا من القدماء كان يأمر زوجته بأن تطبخ طعاما أكثر من

٥٩٥

حاجتهم لإعطاء المساكين ، ثمّ كان يقول : (أخرجنا نصف السلسلة من أعناقنا وذلك بالإيمان بالله ، والنصف الآخر بالإطعام)(١) .

ثمّ يضيف تعالى :( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ ) أي صديق مخلص وحميم( وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) أي القيح والدم.

والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ (الجزاء) و (العمل) لهؤلاء الجماعة متناسبان تماما ، فبسبب قطع علاقتهم بالله ، فليس لهم هنالك من صديق ولا حميم ، كما أنّ سبب امتناعهم عن إطعام المحتاجين فإنّ طعامهم في ذلك اليوم لن يكون إلّا القيح والدم ، لأنّهم حرموا المساكين من الإطعام وتركوهم نهبا للجوع والألم في الوقت الذي كانوا يتمتّعون لسنين طويلة بألذّ وأطيب الأطعمة.

يقول الراغب في المفردات : «غسلين» غسالة أبدان الكفّار في النار ، إلّا أنّ المتعارف عليه أنّ المقصود به هو الدم والقيح النازل من أجسام أهل النار ، ويحتمل أنّ (الراغب) قد قصد هذا المعنى أيضا.

كما أنّ التعبير بـ (الطعام) يناسب هذا المعنى كذلك.

وهنا يطرح سؤال ، وهو متعلّق بما ورد في الآية الكريمة في قوله تعالى :( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) (٢) ، وقد فسّروا (الضريع) بأنّه نوع من الشوك.

وكذلك ما ورد بهذا الشأن في قوله تعالى :( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ) (٣) ، وقد فسّروا (الزقوم) بأنّه نبات مرّ غير مستساغ الطعم ذو رائحة نتنة حيث يكثر وجود مثل هذا النبات في أرض (تهامة) وهو مرّ وحارق وذو صمغ.

والسؤال هو : كيف يمكن الجمع بين هذه الآيات والآية مورد البحث؟

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٩ ، ص ٥١.

(٢) الغاشية ، الآية ٦.

(٣) الدخان ، ٤٣ ـ ٤٤.

٥٩٦

قال البعض في الجواب : إنّ هذه الكلمات الثلاث (الضريع ، والزقوم ، والغسلين) إشارة إلى موضوع واحد وهو (نبات خشن غير مستساغ الطعم يكون طعام أهل النار).

وقيل : إنّ أهل النّار في طبقات مختلفة ، وإنّ كلّ صنف من هذه النباتات والأطعمة يكون غذاء لمجموعة منهم ، أو طبقة من طبقاتهم.

وقيل : إنّ غذاء أهل النار هو (الزقوم والضريع) ، وشرابهم (الغسلين) ، والتعبير بـ (الطعام) عن الشراب في هذه الآية ليس بالجديد.

ويضيف سبحانه في آخر آية مورد البحث في قوله تعالى للتأكيد :( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ (خاطئ) تقال للشخص الذي يرتكب خطأ عمدا ، أمّا (المخطئ) فتطلق على من ارتكب خطأ بصورة مطلقة (عمدا أو سهوا) وبناء على ما تقدّم فإنّ طعام أهل جهنّم خاصّ للأشخاص الذين سلكوا درب الشرك والكفر والبخل والطغيان تمردّا وعصيانا وعمدا.

* * *

ملاحظة

بداية وضع الحركات على حروف القرآن الكريم :

أخرج «البيهقي» في شعب الإيمان عن «صعصعة بن صوحان» قال : جاء أعرابي إلى علي بن أبي طالب فقال : كيف هذا الحرف «لا يأكله إلّا الخاطون» كلّ والله يخطو؟ (أي إنّ جميع الناس تخطو وتمشي فهل انّ الجميع سوف يأكل من هذا الطعام؟) فتبسّم علي وقال : يا أعرابي (لا يأكله إلّا الخاطئون) قال : صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان الله ليسلّم عبده ، ثمّ التفت عليعليه‌السلام إلى أبي الأسود

٥٩٧

فقال : «إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئا يستدلّون به على صلاح ألسنتهم ، فرسم لهم الرفع والنصب والخفض»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير (الدرّ المنثور) لجلال الدين السيوطي ، ج ٨ ، ص ٢٧٥.

٥٩٨

الآيات

( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) )

التّفسير

القرآن كلام الله قطعا :

بعد الأبحاث التي مرّت بنا في الآيات السابقة حول القيامة وما أعدّه الله سبحانه للمؤمنين والكفّار ، يبيّن البارئعزوجل في هذه الآيات بحثا وافيا حول القرآن والنبوّة ، ليكون البحثان (النبوّة) و (المعاد) كلا منهما مكمّلا للآخر.

يقول الراغب في البداية :( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ) .

المعروف أنّ كلمة (لا) زائدة وللتأكيد في مثل هذه الموارد ، ولكن ذهب البعض إلى أنّ (لا) تعطي معنى النفي أيضا ، ويعني ذلك أنّني لا اقسم بهذا الأمر ، لأنّه أوّلا : لا توجد ضرورة لمثل هذا القسم. وثانيا : يجب أن يكون القسم باسم

٥٩٩

الله ، إلّا أنّ هذا القول ضعيف ، والمناسب هو المعنى الأوّل ، إذ ورد في القرآن الكريم قسم باسم الله وبغيره في الكثير من الآيات.

جملة( بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ) لها معنى واسع ، حيث تشمل كلّ ما يراه البشر وما لا يراه ، وبعبارة اخرى تشمل كلّ عالم (الشهود) و (الغيب).

وقد ذكرت احتمالات اخرى لتفسير هاتين الآيتين ، منها : أنّ المقصود من عبارة( بِما تُبْصِرُونَ ) هو عالم الخلقة ، ومن( وَما لا تُبْصِرُونَ ) هو الخالقعزوجل .

وقيل إنّ المقصود بالأولى هو النعم الظاهرية ، وفي الثانية النعم الباطنية. أو أنّ المقصود بهما : البشر والملائكة على التوالي ، أو الأجسام والأرواح ، أو الدنيا والآخرة.

إلّا أنّ سعة مفهوم هاتين العبارتين يمنع من تحديدهما. وبناء على هذا فإنّ كلّ ما يدخل في دائرة المشاهدة وما هو خارج عنها مشمول للقسم ، إلّا أنّه يستبعد شمولهما للبارئعزوجل ، بلحاظ أنّ جعل الخالق مقترنا بالخلق أمر غير مناسب ، خصوصا مع تعبير (ما) الذي جاء في الآية الكريمة والذي يستعمل في الغالب لغير العاقل.

ويستفاد ضمنا من هذا التعبير بصورة جيّدة أنّ الأمور والأشياء التي لا يراها الإنسان كثيرة جدّا ، وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة ، وهي أنّ المحسوسات التي تحيطنا تشمل دائرة محدودة من الموجودات ـ والأشياء غير المحسوسة ـ سواء في مجال الألوان والأصوات والأمواج والمذاقات وغيرها ـ هي في الواقع أوسع دائرة من الأمور الحسيّة.

فالنجوم التي يمكن رؤيتها في مجموع نصفي الكرة الأرضية بحدود خمسة آلاف نجمة ، طبقا لحسابات علماء الفلك ، أمّا النجوم التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة فهي تعدّ بالمليارات.

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624