الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204133 / تحميل: 6085
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الآيات

( سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) )

التّفسير

المسابقة المعنوية الكبرى!!

بعد ما بيّنت الآيات السابقة قيمة هذه الدنيا المتواضعة الفانية ، وكيف أنّ الناس فيها منهمكون في اللذات والتكاثر والتفاخر وجمع الأموال تأتي الآيات

٦١

مورد البحث لتدعو الناس إلى العمل للحصول على موقع في الدار الآخرة ، ذلك الموقع المتّسم بالثبات والبقاء والخلود ، وتدعوهم إلى السباق في هذا المجال وبذل الجهد فيه ، حيث يقول سبحانه :( سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) .

وفي الحقيقة أنّ مغفرة الله هي مفتاح الجنّة ، تلك الجنّة التي عرضها السماوات والأرض وقد أعدّت من الآن لضيافة المؤمنين ، حتّى لا يقول أحد إنّ الجنّة نسيئة ودين ولا أمل في النسيئة ، فعلى فرض أنّها نسيئة فانّها أقوى من كلّ نقد ، لأنّها ضمن وعد الله القادر على كلّ شيء وأصدق من كلّ وعد ، فكيف الحال وهي موجودة الآن وبصورة نقد؟!

وقد ورد نفس هذا المعنى في سورة آل عمران (الآية رقم ١٣٣) مع اختلاف بسيط ، حيث إنّ في الآية مورد البحث جاءت كلمة (سابقوا) من مادّة (المسابقة) وهنا لك وردت كلمة (سارعوا) من مادّة (المسارعة) ، وكلاهما قريب من الآخر بالنظر إلى مفهوم باب «المفاعلة» حيث تتجسّد غلبة شخصين أحدهما على الآخر.

والاختلاف الآخر هو أنّها هنا لك قد جاءت بوصف :( عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) وهنا جاءت :( عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) وإذا دقّقنا قليلا يتّضح أنّ هذين التعبيرين يوضّحان حقيقة واحدة أيضا.

ويقول سبحانه هناك :( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) وهنا يقول :( أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

ولأنّ المتّقين ثمرة شجرة الإيمان الحقيقي ، فإنّ هذين التعبيرين في الواقع كلّ منها لازم وملزوم للآخر.

وبهذه الصورة فإنّ الإثنين يتحدّثان عن حقيقة واحدة ببيانين مختلفين ، ولهذا فما ذكره البعض من أنّ الآية (سورة آل عمران تشير إلى «جنّة المقرّبين» ، وآية مورد البحث تشير إلى «جنّة المؤمنين» ، صحيح حسب الظاهر.

وعلى كل حال فالتعبير بـ (عرض) هنا ليس في مقابل (الطول) كما قال بعض

٦٢

المفسّرين حيث كانوا يبحثون عن طول تلك الجنّة التي عرضها مثل السماء والأرض ، ولهذا السبب فإنّهم واجهوا صعوبة في توجيه ذلك ، حيث إنّ العرض في مثل هذه الاستعمالات بمعنى «السعة».

والتعبير بـ «المغفرة» قبل البشارة بالجنّة ـ الذي ورد في الآيتين ـ هو إشارة لطيفة إلى أنّه ليس من اللائق الدخول إلى الجنّة والقرب من الله قبل المغفرة والتطهير.

وممّا ينبغي ملاحظته أنّ المسارعة لمغفرة الله لا بدّ أن تكون عن طريق أسبابها كالتوبة والتعويض عن الطاعات الفائتة ، وأساسا فانّ طاعة اللهعزوجل يعني تجنّب المعاصي ، ولكنّنا نجد في بعض الأحاديث تأكيد على القيام بالواجبات وبعض المستحبّات كالتقدّم للصفّ الأوّل في الجماعة ، أو الصفّ الأوّل في الجهاد ، أو تكبيرة الإحرام مع إمام الجماعة ، أو الصلاة في أوّل وقتها ، فهذه من قبيل بيان المصداق ولا يقلّل شيئا من المفهوم الواسع للآية.

ويضيف تعالى في نهاية الآية :( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .

ومن المؤكّد أنّ جنّة بذلك الاتّساع وبهذه النعم ، ليس من السهل للإنسان أن يصل إليها بأعماله المحدودة ، لذا فإنّ الفضل واللطف والرحمة الإلهية ـ فقط ـ هي التي تستطيع أن تمنحه ذلك الجزاء العظيم في مقابل اليسير من أعماله ، إذ أنّ الجزاء الإلهي لا يكون دائما بمقياس العمل ، بل إنّه بمقياس الكرم الإلهي.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يرينا بوضوح أنّ الثواب والجزاء لا يتناسب مع طبيعة العمل ، حيث أنّه نوع من التفضل والرحمة.

ولمزيد من التأكيد على عدم التعلّق بالدنيا ، وعدم الفرح والغرور عند إقبالها ، أو الحزن عند إدبارها ، يضيف سبحانه :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي

٦٣

أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) (١) .

نعم ، إنّ المصائب التي تحدث في الطبيعة كالزلازل والسيول والفيضانات والآفات المختلفة ، وكذلك المصائب التي تقع على البشر كالموت وأنواع الحوادث المؤلمة التي تشمل الإنسان ، فإنّها مقدّرة من قبل ومسجّلة في لوح محفوظ.

والجدير بالانتباه أنّ المصائب المشار إليها في الآية هي المصائب التي لا يمكن التخلّص منها ، وليست ناتجة عن أعمال الإنسان. (بتعبير آخر الحصر هنا حصر إضافي).

والشاهد في هذا الكلام قوله تعالى :( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (٢)

وبملاحظة أنّ الآيات يفسّر بعضها البعض الآخر يتبيّن لنا عند ما نضع هاتين الآيتين جنبا إلى جنب أنّ المصائب التي يبتلى بها الإنسان على نوعين :

الأوّل : المصائب التي تكون مجازاة وكفّارة للذنوب ، كالظلم والجور والخيانة والانحراف وأمثالها ، فإنّها تكون مصدرا للكثير من مصائب الإنسان.

الثاني : من المصائب هو ما لا تكون للإنسان يد فيه ، وتكون مقدّرة وحتمية وغير قابلة للاجتناب حيث يبتلي فيها الفرد والمجتمع ، لذا فإنّ الكثير من الأنبياء والأولياء والصالحين يبتلون بمثل هذه المصائب.

إنّ هذه المصائب لها فلسفة دقيقة حيث أشرنا إليها في أبحاث معرفة الله والعدل الإلهي ومسألة الآفات والبلايا.

__________________

(١) بالنسبة لعود الضمير في (نبرأها) فقد ذكروا احتمالات متعدّدة حيث اعتبر البعض أنّ مرجعها للأرض والأنفس ، والبعض الاخر اعتبرها للمصيبة ، وبعض جميعها ، إلّا أنّه بالنظر إلى ذيل الآية فإنّ المعنى الأوّل هو الأنسب لأنّه يريد أن يقول : حتّى قبل خلق السماء والأرض وخلقكم فإنّ هذه المصائب مقدّرة.

(٢) الشورى ، الآية ٣٠.

٦٤

ونقرأ في هذا الصدد القصّة التالية : عند ما أدخل الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام مغلولا مكبّلا في مجلس يزيد بن معاوية ، فالتفت يزيد إلى الإمام ، وقرأ آية سورة الشورى :( ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) وكان يريد أن يظهر أنّ مصائبكم كانت نتيجة أعمالكم ، وبهذا أراد الطعن ، بالإمامعليه‌السلام بهذا الكلام ، إلّا أنّ الإمام ردّ عليه فورا وقال : كلّا ، ما نزلت هذه فينا ، إنّما نزلت فينا :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) (١) .

ولنا بحث مفصّل في هذا المجال في تفسير الآية رقم ٣٠ من سورة الشورى(٢) .

أتباع أهل البيت أيضا عرفوا نفس المعنى ، في هذه الآية ، إذ نقل أنّ الحجّاج عند ما جيء له بسعيد بن جبير وصمّم على قتله ، بكى رجل من الحاضرين. قال سعيد : وما يبكيك؟ فأجاب : للمصاب الذي حلّ بك ، قال : لا تبك فقد كان في علم الله أن يكون ذلك ، ألم تسمع قوله تعالى :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) (٣) .

ومن الطبيعي أنّ كلّ الحوادث التي تحدث في هذا العالم مسجّلة في لوح محفوظ وفي علم اللهعزوجل اللّامحدود ، وإذا أشرنا هنا إلى المصائب التي تقع في الأرض وفي الأنفس فقط ، فلأنّ موضوع الحديث بهذا الاتّجاه ، كما سنرى في الآية اللاحقة التي يستنتج منها الموضوع نفسه.

وبالضمن فإنّ جملة :( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) تشير إلى تسجيل وحفظ كلّ هذه الحوادث في لوح محفوظ مع كثرتها البالغة ، وذلك سهل يسير على الله تعالى.

والمقصود من «اللوح المحفوظ» هو : العلم اللامتناهي لله سبحانه ، أو صحيفة

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٤٧.

(٢) كان لدينا بحث آخر في نهاية الآية (٧٨) ، (٧٩) من سورة النساء والتي تتناسب مع الآيات مورد البحث.

(٣) روح البيان ج ٩ ، ص ٣٧٥.

٦٥

عالم الخلقة ونظام العلّة والمعلول ، والتي هي مصداق العلم الفعلي لله سبحانه «فتدبّر».

ولنلاحظ الآن ما هي فلسفة تقدير المصائب في اللوح المحفوظ ، ومن ثمّ بيان هذه الحقيقة في القرآن الكريم؟

الآية اللاحقة تزيح هذا الحجاب عن هذا السرّ المهمّ حيث يقول تعالى :( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) .

هاتان الجملتان القصيرتان تحلّان ـ في الحقيقة ـ إحدى المسائل المعقّدة لفلسفة الخلقة ، لأنّ الإنسان يواجه دائما مشاكل وصعوبات وحوادث مؤسفة في عالم الوجود ، ويسأل دائما نفسه هذا السؤال وهو : رغم أنّ الله رحمن رحيم وكريم ، فلما ذا هذه الحوادث المؤلمة؟!

ويجيب سبحانه أنّ هدف ذلك هو : ألا تأسركم مغريات هذه الدنيا وتنشدّوا إليها وتغفلوا عن أمر الآخرة كما ورد في الآية أعلاه.

والمطلوب أن تتعاملوا مع هذا المعبر والجسر الذي اسمه الدنيا بشكل لا تستولي على لباب قلوبكم ، وتفقدوا معها شخصيّتكم وكيانكم وتحسبون أنّها خالدة وباقية ، حيث إنّ هذا الانشداد هو أكبر عدوّ لسعادتكم الحقيقية ، حيث يجعلكم في غفلة عن ذكر الله ويمنعكم من مسيرة التكامل.

هذه المصائب هي إنذار للغافلين وسوط على الأرواح التي تعيش الغفلة والسبات ، ودلالة على قصر عمر الدنيا وعدم خلودها وبقائها.

والحقيقة أنّ المظاهر البرّاقة لدار الغرور تبهر الإنسان وتلهيه بسرعة عن ذكر الحقّ سبحانه ، وقد يستيقظ فجأة ويرى أنّ الوقت قد فات وقد تخلّف عن الركب.

هذه الحوادث كانت ولا تزال في الحياة ، وستبقى بالرغم من التقدّم العلمي العظيم ، ولن يستطيع العلم أن يمنع حدوثها ونتائجها المؤلمة ، كالزلازل والطوفان والسيول والأمطار وما إلى ذلك وهي درس من قسوة الحياة وصرخة مدوّية

٦٦

فيها

وهذا لا يعني أن يعرض الإنسان عن الهبات الإلهية في هذا العالم أو يمتنع من الاستفادة منها ، ولكن المهمّ ألّا يصبح أسيرا فيها ، وألّا يجعلها هي الهدف والنقطة المركزية في حياته.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ القرآن الكريم استعمل لفظ (فاتكم) للدلالة على ما فقده الإنسان من أشياء ، أمّا ما يخصّ الهبات والنعم التي حصل عليها فإنّه ينسبها لله ، (بما آتاكم) ، وحيث أنّ الفوت والفناء يكمن في ذات الأشياء ، وهذا الوجود هو من الفيض الإلهي.

نعم ، إنّ هذه المصائب تكسر حدّة الغرور والتفاخر وحيث يقول سبحانه في نهاية الآية :( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) .

«مختال» من مادّة (خيال) بمعنى متكبّر ، لأنّ التكبّر من التخيّل ، أي من تخيّل الإنسان الفضل لنفسه ، وتصوّره أنّه أعلى من الآخرين. و (فخور) صيغة مبالغة من مادّة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفتخر كثيرا على الآخرين.

والشخص الوحيد الذي يبتلى بهذه الحالات هو المغرور الذي أسكرته النعم ، وهذه المصائب والآفات بإمكانها أن توقظه عن هذا السكر والغفلة وتهديه إلى سير التكامل.

ومن ملاحظة ما تقدّم أعلاه فإنّ المؤمنين عند ما يرزقون النعم من قبل الله سبحانه فإنّهم يعتبرون أنفسهم مؤتمنين عليها ، ولا يأسفون على فقدانها وفواتها ، ولا يغفلون ويسكرون بوجودها. إذ يعتبرون أنفسهم كالأشخاص المسؤولين عن بيت المال إذ يستلمون في يوم أموالا كثيرة ويدفعونها في اليوم الثاني ، وعندئذ لا يفرحون باستلامها ، ولا يحزنون على إعطائها.

وكم هو تعبير رائع ما قاله أمير المؤمنينعليه‌السلام حول هذه الآية : «الزهد كلّه بين كلمتين في القرآن الكريم قال تعالى :( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما

٦٧

آتاكُمْ ) ، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه»(١) .

والنقطة الاخرى الجديرة بالملاحظة هي أنّ هذا الأصل ـ وجود المصائب ـ في حياة الإنسان أمر قدّر عليه طبقا لسنّة حكيمة ، حيث أنّ الدنيا في حالة غير مستقرّة ، وهذا الأصل يعطي للإنسان الشجاعة لتحمّل المصائب ويمنحه الصلاة والسكينة أمام الحوادث ويكون مانعا له من الجزع والضجر

ونؤكّد مرّة اخرى أنّ هذا يتعلّق ـ فقط ـ بالمصائب المقدّرة والغير قابلة للردّ ، وإلّا فإنّ المصائب والمصاعب التي تكون بسبب ذنوب الإنسان وتسامحه في الطاعات ، والالتزامات الإلهيّة ، فإنّها خارجة عن هذا البحث ، ولمواجهتها لا بدّ من وضع برنامج صحيح في حياة الإنسان.

وننهي هذا البحث بما ذكر في التاريخ حيث نقل عن بعض المفسّرين ما يلي : قال : «قتيبة بن سعيد»(٢) : دخلت على إحدى قبائل العرب فرأيت صحراء مملوءة بجمال ميّتة لا تعدّ ، وكانت بقربي امرأة عجوز فسألتها : لمن هذه الجمال؟ قالت : لذلك الرجل الجالس فوق التل الذي تراه يغزل ، فذهبت إليه وقلت : هل هذا كلّه لك؟ قال : كانت باسمي ، قلت : ما الذي جرى وأصبحن بهذا الحال؟ فأجابني ـ دون الإشارة إلى علّة موتهنّ ـ إنّ المعطي قد أخذ. قلت : هل ضجرت لما أصابك؟ وهل قلت شيئا بعد مصابك؟ قال : بلى. وأنشد هذين البيتين :

لا والذي أنا عبد من خلائقه

والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن

ما سرّني أنّ إبلي في مباركها

وما جرى من قضاء الله لم يكن

أنا راض برضى الله تعالى فقط وكلّما يقدّر فأنا أقبله(٣) .

وفي آخر آية مورد البحث نلاحظ توضيحا وتفسيرا لما جاء في الآيات

__________________

(١) نهج البلاغة ، كلمات قصار ٤٣٩.

(٢) قتيبة بن سعيد أحد المحدّثين الذي يروي عن مالك بن أنس (منتهى الأرب).

(٣) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٥٣ وجاء نظير هذا المعنى في تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ٣٧٦.

٦٨

السابقة ، والذي يوضّح حقيقة الإنسان المختال الفخور حيث يقول عنه تعالى :( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ) (١) .

نعم ، إنّ الانشداد العميق لزخارف الدنيا ينتج التكبّر والغرور ، ولازم التكبّر والغرور هو البخل ودعوة الآخرين للبخل. أمّا البخل فلأنّ التكبّر والغرور كثيرا ما يكون بسبب ثراء الإنسان الذي يدفعه إلى أن يحرص عليه ، وبالتالي يبخل في إنفاقه ، ومن هنا فإنّ لازمة الغرور والتكبّر هو البخل.

أمّا دعوة الآخرين إلى البخل ، فلأنّ سخاء الآخرين سيفضح غيرهم من البخلاء ، هذا أوّلا ، والثاني أنّ البخيل يحبّ البخل ، لذا فإنّه يدعو للشيء الذي يرغب فيه.

ولكي لا يتصوّر أنّ تأكيد الله سبحانه على الإنفاق وترك البخل ، أو كما عبّرت عنه الآيات السابقة بـ (القرض لله) مصدره احتياج ذاته المقدّسة ، فإنّه يقول في نهاية الآية :( وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) .

بل نحن كلّنا محتاجون إليه وهو الغني عنّا جميعا ، لأنّ جميع خزائن الوجود عنده وتحت قبضته ، ولأنّه جامع لصفات الكمال فإنّه يستحقّ كلّ شكر وثناء.

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه تتحدّث عن البخل المالي. إلّا أنّه لا ينحصر عليه ، لأنّ مفهوم البخل واسع يستوعب في دائرته البخل في العلم وأداء الحقوق وما إلى ذلك أيضا.

* * *

__________________

(١) «الذين» بدل من (كلّ مختال فخور) وتفسير الكشّاف ذيل الآية مورد البحث) وبالضمن يجدر الانتباه إلى أنّ البدل والمبدّل منه ليس بالضرورة أن يتطابقا في المعرفة والنكرة.

٦٩

الآية

( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) )

التّفسير

الهدف الأساس من بعثة الأنبياء :

ابتدأ الله سبحانه وتعالى عباده بالنعم فكانت رحمته ولطفه ومغفرته ، ونعمه الكثيرة التي لا تحصى والتي أشير إليها في الآيات السابقة ولأنّ هذه النعم تحتاج إلى تقنين في استعمالها ، ونظم وشرائط لنيل نتائجها المرجوّة ، لذا فانّه يحتاج إلى قيادة تقوم بمباشرتها والإشراف عليها وإعطاء التوجيهات الإلهية بشأنها ، وهؤلاء القادة يجب أن يكونوا (قادة إلهيين) والآية مورد البحث ـ التي تعتبر من أكثر الآيات القرآنية محتوى ـ تشير إلى هذا المعنى ، وتبيّن هدف إرسال الأنبياء ومناهجهم بصورة دقيقة ، حيث يقول سبحانه :( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ

٧٠

وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .

«البيّنات» هي الدلائل الواضحة ، ولها معنى واسع يشمل المعجزات والدلائل العقليّة التي تسلّح بها الأنبياء والرسل الإلهيّون.

المقصود من (كتاب) هو نفس الكتب السماوية ، ولأنّ روح وحقيقة الجميع شيء واحد ، لذا فإنّ التعبير بـ (كتاب) جاء بصيغة مفرد.

وأمّا «الميزان» فيعني وسيلة للوزن والقياس ، ومصداقها الحسّي هو الميزان الذي يقاس به وزن البضائع ، ومن الواضح أنّ المقصود هو المصداق المعنوي ، أي الشيء الذي نستطيع أن نقيس به كلّ أعمال الإنسان ، وهي الأحكام والقوانين الإلهيّة أو الأفكار والمفاهيم الرّبّانية ، أو جميع هذه الأمور التي هي معيار لقياس الأعمال الصالحة والسيّئة.

وبهذه الصورة فإنّ الأنبياء كانوا مسلّحين بثلاث وسائل وهي : «الدلائل الواضحة» ، و «الكتب السماوية» ، و «معيار قياس الحقّ من الباطل» والجيّد من الرديء. ولا يوجد مانع من أن يكون القرآن (بيّنة) أي معجزة ، وهو كذلك كتاب سماوي ومبيّن للأحكام والقوانين ، أي أنّ الأبعاد الثلاثة تصبّ في محتوى واحد وهي موجودة في القرآن الكريم.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الهدف من تعبئة هؤلاء الرجال العظام بهذه الأسلحة الأساسية ، هو إقامة القسط والعدل.

وفي الحقيقة أنّ هذه الآية تشير إلى أحد الأهداف العديدة لإرسال الرسل ، لأنّنا نعلم أنّ بعث الأنبياء وسعيهم كان من أجل أهداف عدّة :

منها : التعليم والتربية ، كما جاء في الآية التالية :( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) (١) .

__________________

(١) الجمعة ، الآية ٢.

٧١

والهدف الآخر كسر الأغلال والقيود التي أسّرت الإنسان ، كما قال تعالى :( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) (١) .

والهدف الثالث إكمال القيم الأخلاقية ، كما جاء في الحديث المشهور : «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»(٢) .

والهدف الرابع إقامة القسط والعدل ، الذي أشير إليه في الآية مورد البحث.

وبهذا الترتيب نستطيع تلخيص بعثة الأنبياء في الأهداف التالية : (الثقافية ، الأخلاقية ، السياسية ، الاجتماعية).

ومن الواضح أنّ المقصود من الرسل في الآية مورد البحث ، وبقرينة إنزال الكتب ، هم الأنبياء أولي العزم ومن يمثّلهم.

وممّا يجدر ذكره أنّ المقصود من التعبير القرآني :( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) أي أن يتحرّك الناس أنفسهم لتحقيق القسط ، وليس المقصود أن يلزم الأنبياء على إقامة القسط ، ولهذا يمكن القول بأنّه المراد من الآية وهدفها هو أن يعمل الناس بمفاهيم القسط ويتحرّكوا لتطبيقها.

والمهمّ أن يتربّى الناس على العدل والقسط بحيث يصبحون وأعين له داعين إليه ، منفّذين لبرامجه وسائرين في هذا الاتّجاه بأنفسهم.

ثمّ إنّ أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والاجتماعي والعقائدي والروحي عاليا ، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان ، ويقفون في طريق القسط والعدل ، واستمرارا لمنهج الآية هذه يقول سبحانه :( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ) .

نعم ، إنّ هذه الأسلحة الثلاثة التي وضعت تحت تصرّف الأنبياء هي بهدف أن تكون الأفكار والمفاهيم التي جاء بها الأنبياء فاعلة ومؤثّرة ، وتحقّق أهدافها

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٥٧.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٣٧٢ باب حسن الخلق نهاية الحديث الأوّل.

٧٢

المنشودة ، فقد وضع الحديد والبأس الشديد في خدمة رسل الله.

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ تعبير (أنزلنا) يعكس لنا أنّ الحديد جاء من كرات سماوية إلى الأرض ، إلّا أنّ الصحيح أنّ التعبير بـ (الإنزال) في مثل هذه الحالات هو إشارة إلى الهبات التي تعطى من المقام الأعلى إلى المستوى الأدنى ، ولأنّ خزائن كلّ شيء عند الله تعالى فهو الذي خلق الحديد لمنافع مختلفة ، فعبّر عنه بالإنزال ، وهنا حديث لأمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسيره لهذا القسم من الآية حيث قال : «إنزاله ذلك خلقه إيّاه»(١) .

كما نقرأ في الآية (٦) من سورة الزمر حول الحيوانات حيث يقول سبحانه :( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) .

وفسّر البعض (أنزلنا) بأنّها من مادّة (نزل) على وزن (شبر) بمعنى الشيء الذي يهيّأ لاستقبال الضيوف ، ولكن الظاهر أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

«البأس» في اللغة بمعنى الشدّة والقسوة والقدرة ، ويقال للحرب والمبارزة (بأس) أيضا ، ولذا فإنّ المفسّرين فسّروها بأنّها الوسائل الحربية ، أعمّ من الدفاعية والهجومية ، و

نقل في رواية عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «يعني السلاح وغير ذلك»(٢) .

والواضح أنّ هذا من قبيل بيان المصداق.

والمقصود من «المنافع» هنا هو كلّ ما يفيد الإنسان من الحديد ، وتتبيّن الأهميّة البالغة للحديد في حياة الإنسان أنّ البشرية قد بدأت عصرا جديدا بعد اكتشافه ، سمّي بعصر الحديد ، لأنّ هذا الاكتشاف قد غيّر الكثير من معالم الحياة في أغلب المجالات ، وهذا يمثّل أبعاد كلمة (المنافع) في الآية الكريمة أعلاه.

وقد أشير إلى هذا المعنى بآيات مختلفة في القرآن ، منها قوله تعالى بشأن

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٠ ، حديث ١٠٠.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٠ ، حديث ١٠١.

٧٣

تصميم ذي القرنين على صنع سدّه العظيم :( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) (١) .

وكذلك قوله سبحانه :( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ) (٢) وذلك عند ما شمل لطفهعزوجل داودعليه‌السلام بتليين الحديد له ليستطيع أن يصنع دروعا منه يقلّل فيها أخطار الحروب وهجمات العدو.

ثمّ يشير سبحانه إلى هدف آخر من أهداف إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية ، وخلقه وتسخيره الوسائل المفيدة للإنسان كالحديد مثلا ، حيث يقول تعالى :( وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) .

المقصود من (علم الله) هنا هو التحقّق العيني ليتوضّح من هم الأشخاص الذين يقومون بنصرة الله ومبدئه ، ويقومون بالقسط؟ ومن هم الأشخاص الذين يتخلّفون عن القيام بهذه المسؤولية العظيمة؟

ومفهوم هذه الآية يشبه ما ورد في قوله تعالى :( ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (٣) .

وبهذه الصورة نلاحظ أنّ المسألة هنا مسألة اختبار وتمحيص واستخراج الصفوة التي استجابت لمسؤوليتها والقيام بواجبها الإلهي ، وهذا هو هدف آخر من الأهداف الأساسية في هذا البرنامج.

ومن الطبيعي أنّ المقصود بـ (نصرة الله) أنّها نصرة الدين والمبدأ والحاملين وحي الرسالة ، وإقامة الحقّ والقسط وإلّا فإنّ الله ليس بحاجة إلى نصرة أحد ، بل الكلّ محتاج إليه ، ولتأكيد هذا المعنى تنتهي الآية بقوله تعالى :( إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) .

حيث بإمكانه سبحانه أن يغيّر ما يشاء من العالم ، بل يقلبه رأسا على عقب

__________________

(١) الكهف ، الآية ٩٦.

(٢) سبأ ، الآية ١٠ ـ ١١.

(٣) آل عمران ، الآية ١٧٩.

٧٤

بإشارة واحدة ، ويهلك أعداءه ، وينصر أولياءه وبما أنّ الهدف الأساس له سبحانه هو التربية وتكامل البشر ، لذا فقد دعاهمعزوجل إلى نصرة مبدأ الحقّ.

* * *

تعقيب

١ ـ الحدود بين القوّة والمنطق

رسمت الآية أعلاه صورة وافية ومفصّلة من وجهة النظر الإسلامية في مجال التربية والتعليم ، وتوسعة دائرة العدل وإقامة القسط في المجتمع الإنساني.

ففي البداية أكّدت الآية على ضرورة الاستفادة من الدلائل والبيّنات والكتب السماوية ، وضوابط القيم ، وبيان الأحكام والقوانين وذلك لترسي أساسا لثورة فكرية وثقافية متينة مرتكزة على قاعدة من العقل والمنطق.

إلّا أنّه في حالة عدم جدوى تلك الوسائل والأساليب ، وحين الوصول إلى طريق مغلق في الاستفادة من الأسلوب المتقدّم بسبب تعنّت الطواغيت ، ومواجهة الاستكبار لرسل الحقّ والقسط ، والإعراض عن قيم وضوابط وأحكام (الكتاب والميزان) فهنا يأتي دور «الحديد» الذي فيه «بأس شديد» حين يوجّه صفعة قويّة على رؤوس الجبابرة بهذا السلاح كي يستسلموا للقسط والعدل ودعوة الحقّ التي جاء بها الأنبياءعليهم‌السلام ، ومن الطبيعي أنّ نصرة المؤمنين أساسيّة في هذا المجال.

وورد حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصدد حيث قال : «بعثت بالسيف بين يديّ الساعة ، حتّى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي ، تحت ظلّ رمحي»(١) .

وهذا الحديث إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمور بحمل السلاح أمام الكفر

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٨٣.

٧٥

والاستكبار ، ولكن لا بلحاظ أنّ هذا هو الأصل والأساس في المنهج الإسلامي كما جاء ذلك صراحة في الآية الكريمة أعلاه.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «الخير كلّه في السيف ، وتحت السيف ، وفي ظلّ السيف»(١) .

وجاء عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في هذا الصدد : «إنّ اللهعزوجل فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره ، والله ما صلحت دنيا ولا دين إلّا به»(٢) .

ونختم حديثنا بقول آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقيم الناس إلّا بالسيف ، والسيوف مقاليد الجنّة والنار»(٣) .

وبناء على هذا فإنّ القادة الإلهيين يحملون في يد الكتب السماوية وهي مشعل الحقّ ، وباليد الاخرى السيف. يدعون الناس أوّلا بالعقل والمنطق إلى الحقّ والعدل ، فإنّ أعرض الطواغيت عن المنطق ، ورفض المستكبرون الاستجابة لنهج الحقّ والعقل عندئذ يأتي دور السيف والقوّة لتحقيق أهدافهم الإلهية.

٢ ـ الحديد واحتياجات الحياة الأساسية

بعض المفسّرين شرح هدف الآية أعلاه بما يلي :

إنّ الحياة الإنسانية بصورة عامّة تتقوّم بأربعة مرتكزات (الزراعة ، والحياكة ، أي الصناعة ، ـ والسكن ، والسلطة) ، ولهذا السبب فإنّ الحاجات الأساسية للإنسان باعتباره موجودا اجتماعيا تتركّز بـ (الغذاء والسكن واللباس) والتي لا يستطيع أن يوفّرها لنفسه بصورة فردية ، ومسألة تأمينها بشكل عام لا بدّ أن تكون بواسطة المجتمع ولأنّ كلّ مجتمع لا يخلو من تزاحم المصالح ، وكذلك العديد من المشاكل

__________________

(١) فروع الكافي ، ج ٥ ، ص ٨ ، حديث ١١ ، ١٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) فروع الكافي ، ج ٥ ، ص ٢ ، حديث ١.

٧٦

والتعقيدات. لهذا ، فإنّه بحاجة إلى (سلطة) تجري العدل فيه وترعى الحقوق وتنظّم الحياة والملفت هنا أنّ هذه الاسس الأربعة المتقدّمة الذكر تعتمد جميعها بشكل أساسي على الحديد ، وعلينا أن نتصوّركم ستكون حياة الإنسان صعبة لو لم يكن هذا المعدن (الحديد) في خدمتها.

ولأنّ الحاجة إليه ماسّة ومتزايدة ، فإنّ الله سبحانه قد وفّره بحيث سهّل ويسّر عملية الحصول عليه ، وبالرغم من عدم إغفال الدور المفيد لكلّ من الفلّزات الاخرى ، إلّا أنّ الحديد يبقى له دور أساس في حياة الإنسان.

ومن هنا يتوضّح مقصود قول اللهعزوجل :( فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ) (١) .

* * *

__________________

(١) مقتبس من التّفسير الكبير فخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٤٢.

٧٧

الآيتان

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) )

التّفسير

تعاقب الرسل واحدا بعد الآخر :

للقرآن الكريم منهجه المتميّز ، ومن خصوصياته أنّه بعد بيان سلسلة من الأصول العامّة يشير ويذكّر بمصير الأقوام السابقة ، لكي يكون ذلك شاهدا وحجّة.

وهنا أيضا يتجسّد هذا المنهج : حيث يشير في المقدّمة إلى إرسال الرسل مع

٧٨

البيّنات والكتاب والميزان والدعوة إلى الإيمان بالحقّ ، لنيل مرضاته سبحانه والفوز بالسعادة الأبديّة ثمّ يتحدّث عن بعض الأمم السابقة وأنبيائهم ويعكس هذه الاسس في منهج دعوتهم.

ويبدأ بشيوخ الأنبياء وبداية سلسلة رسل الحقّ ، نوح وإبراهيمعليهما‌السلام ، حيث يقول سبحانه :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ) .

وممّا يؤسف له أنّ الكثيرين لم يستفيدوا من هذا الميراث العظيم ، والنعم الإلهيّة الفيّاضة ، والهبات والألطاف العميمة ، حيث يقولعزوجل :( فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) .

نعم ، لقد بدأت النبوّة بنوحعليه‌السلام توأما مع الشريعة والمبدأ ، ومن ثمّ إبراهيمعليه‌السلام من الأنبياء اولي العزم في امتداد خطّ الرسالة ، وهكذا حلقات متواصلة على مرّ العصور والقرون ، فإنّ القادة الإلهيين من ذريّة إبراهيمعليه‌السلام يتصدّون للقيام بمسؤولية الرسالة ، إلّا أنّ المستفيد من هذا النور الإلهي العظيم هم القلّة أيضا ، في حين أنّ الغالبية سلكت طريق الانحراف.

ثمّ يشير إشارة مختصرة إلى قسم آخر من سلسلة الأنبياء الكرام التي تختتم بعيسىعليه‌السلام آخر رسول قبل نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول سبحانه :( ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا ) .

حيث حملوا نور الهداية للناس ليضيئوا لهم الطريق ، وتعاقبوا في حملها الواحد بعد الآخر ، حتّى وصل الدور إلى السيّد المسيحعليه‌السلام :( وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) .

«قفّينا» من (قفا) بمعنى الظهر ، ويقال للقافية قافية بسبب أنّ بعضها يتبع بعضا ، وتطلق عادة على الحروف المتشابهة في آخر كلّ بيت من بيوت الشعر ، والمقصود في الجملة من الآية أعلاه أنّ الأنبياء جاءوا بلحن واحد وأهداف منسجمة ، الواحد تلو الآخر ، وبدأوا وأكملوا التعليمات التي حملوها من الله إلى أقوامهم

٧٩

وهذا التعبير جميل جدّا ، وهو إشارة لطيفة إلى مبدأ وحدة الرسالات وتوحيد النبوّة.

ثمّ يشير هنا إلى الكتاب السماوي للسيّد المسيحعليه‌السلام حيث يقول :( وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ ) ويستمرّ متحدّثا عن خصوصيات أتباعه فيقول سبحانه :( وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) .

ويرى بعض المفسّرين أنّ مصطلحي «الرأفة» و «الرحمة» بمعنى واحد ، إلّا أنّ قسما آخر اعتبرهما مختلفين وقالوا : إنّ «الرأفة» تعني الرغبة في دفع الضرر ، و «الرحمة» تعني الرغبة في جلب المنفعة.

ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالبا ، لأنّ قصد الإنسان ابتداء هو دفع الضرر ومن ثمّ يفكّر في جلب المنفعة.

وممّا يدلّل به على هذا الرأي ما استفيد من آية حدّ الزاني والزانية حيث يقول سبحانه :( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ) (١) .

إنّ موضوع الرأفة والرحمة بالنسبة للأتباع الحقيقيين للسيّد المسيحعليه‌السلام لم يذكر في هذه الآية فقط ، بل ورد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى :( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) (٢)

وبالرغم من أنّ الآية الكريمة أخذت بنظر الإعتبار مسيحيي الحبشة وشخص «النجاشي» بالذات ، حيث آوى المسلمين وعاملهم بإحسان ومحبّة خاصّة ، إلّا أنّها بشكل عام تشير إلى الرأفة والرحمة والعواطف الإيجابية للمسيحيين الحقيقيين.

ومن الطبيعي ألّا يكون المقصود هنا المسيحيين الذين يمارسون أقذر

__________________

(١) النور ، الآية ٢.

(٢) المائدة ، الآية ٨٢.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وقوله :( ولا تسألون ) معناه لا تطالبون. والسؤال الطلب. وهو أيضاً الإخبار الذي اقتضاه ما تقدّم من الكلام ، أي : لا يقال لكم : لم عصي آباؤكم؟ وإنّما يقال لكم : لم عصيتم ولم ظلمتم )؟(1) .

نعود لحديث المنزلة الذي هو محور هذا البحث بعد أن نقلنا نصوصه من الكتب المعتبرة ، وبيّنا بعضاً مما يجب تبيينه وأمّا من حيث السند فنقول :

كلّ ذي اطّلاع ومطالعة يعلم بأنّ المشهور بين إخواننا من أهل السنّة قطعية أحاديث الصحيحين ، لكن البعض منهم لم يلتزموا بهذه القاعدة ؛ لأنّهم يناقشون في سند حديث المنزلة فلم يسلّموا بصحته رغم أنّه في الصحاح ، فيظهر أنّه ليس هناك قاعدة يلجؤون إليها ويلتزمون بها دائماً ، وإنّما هي أهواء يسمونها قواعد وأسس ، فيطبقونها متى ما شاؤا ويتركونها متى ما شاؤا!!

ورواة هذا الحديث من الصحابة أكثر من ثلاثين ، وربما يبلغون الأربعين رجل وامرأة.

وأقرّ بصحته وتواتره أعلامهم ، يقول ابن عبد البر في الاستيعاب عن هذا الحديث : ( هومن أثبت الأخبار وأصحّها. قال : وطرق حديث سعد بن أبي وقاص كثيرة جدّاً. فذكر عدّة من الصحابة الذين رووا هذا الحديث ، ثمّ قال : وجماعة يطول ذكرهم ). ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري بعد أنّ يذكر أسامي عدّة من الصحابة ، ويروي نصوص روايات جمع منهم يقول : ( وقد استوعب طرقه ابن عساكر في ترجمة علي )(2) .

__________________

1 ـ التبيان ، الشيخ الطوسي ، تفسير الآية المذكورة 1 : 491.

2 ـ الاستيعاب3 : 1097 ، وتهذيب الكمال2 : 483 ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7 : 60.

٢٠١

فهذا الحديث مضافاً إلى أنّه متواتر عند أصحابنا الإمامية هو من الأحاديث الصحيحة المعروفة المشهورة عند أهل السنة ، بل هو من الأحاديث المتواترة عندهم كذلك.

يقول الحاكم النيسابوري : ( هذا حديث دخل في حدّ التواتر )(1) . كما أنّ الحافظ السيوطي أورد هذا الحديث في كتابه الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ، وتبعه الشيخ علي المتقي في كتابه قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة.

كذبة مفضوحة :

1 ـ إنّهم لم يكتفوا بحذف وتضعيف ماجاء في أهل بيت النبوّةعليهم‌السلام بل عمد بعضهم إلى وضع حديث المنزلة للشيخين ، فروى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ( أبو بكر وعمر منّي بمنزلة هارون من موسى )(2) .

ونقول في الجواب :

ما أسرع ما ينقض الكذب نفسه أو يفضحه أبناء جنسه ، فلقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ، وقال : ( حديث لا يصح )(3) . ويقول الذهبي في كتابه ميزان الاعتدال : ( هذا حديث منكر )

__________________

1 ـ كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب للحافظ الكنجي : 283 ، الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة : حرف الألف.

2 ـ تاريخ بغداد 11 / 385 رقم 6257 ، كنوز الحقائق من حديث خير الخلائق ـ هامش الجامع الصغير ـ حرف الألف.

3 ـ العلل المتناهية 1 / 199 رقم 312.

٢٠٢

وقال في مكان آخر : ( خبر كذب )(1) . وابن حجر العسقلاني أيضاً يكذّب هذا الحديث في لسان الميزان(2) .

فهذا الحديث الموضوع الذي شيعة أبي بكر أنفسهم ينصّون على عدم صحّته ، بالاضافة أنّه غير موجود في شيء من الصحاح والمسانيد والسنن ، ويفهم حتّى الطفل أنّه وضع مقابل حديث المنزلة الذي ذكرنا مصادره آنفا ، فماذا يسمى هذا أيّها الأحرار في دينكم وضمائركم؟!

2 ـ قالوا : إنّ هارون لم يخلف موسى إلّا في فترة ذهابه فقط ، فكذا علي خلفه في فترة غيابهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك.

والجواب :

1 ـ لقد بيّنا آنفاً منازل هارون من موسى ، وكلّها ثابتة للإمام عليعليه‌السلام بالنصّ إلّا النبوّة فقد استثنيت ولم يستثنى غيرها من المنازل.

2 ـ لقد كرر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حديث المنزلة في موارد عديدة ، منها :

أ ـ غزوة تبوك ، على ما مرّ تفصيله.

ب ـ يوم غدير خمّ ، كما بيّنا في حديث الغدير.

ج ـ يوم المؤاخاة ، كما أخرجه أحمد بإسناده عن محدوج بن زيد الباهلي قال : ( آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار فبكى علي عليه السلام ، فقال رسول الله : ما يبكيك؟ فقال : لم تواخ بيني وبين أحد ، فقال :

__________________

1 ـ ميزان الاعتدال 5 / 473 رقم 6900.

2 ـ لسان الميزان 5 / 9 رقم 5828.

٢٠٣

إنّما ادخرتك لنفسي ثمّ قال : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى )(1) .

د ـ عندما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في دار أم سلمة ، إذ أقبل علي يريد الدخول على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ( يا أم سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت : نعم. قال : هذا علي سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي )(2) .

وعن ابن عباس أنّه قال : سمعت عمر وعنده جماعة ، فتذاكروا السابقين إلى الإسلام ، فقال عمر : ( أمّا علي ، فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول فيه ثلاث خصال ، لوددت أنّ تكون لي واحدة منهن ، كانت أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من أصحابه ، إذ ضرب النبي صلّى الله عليه وآله على منكب علي فقال له : يا علي أنت أوّل المؤمنين إيماناً ، وأوّل المسلمين إسلاماً ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى )(3) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما في حديث الدار : ( فأيّكم يوآزرني على أمري هذا؟ قال علي : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فقال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعواً. وفي رواية : ( وزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من

__________________

1 ـ فراجع مصادر حديث الغدير والمؤاخاة في هذا الكتاب.

2 ـ ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 1 / 78 ح 125 و 406 ، والمناقب للخوارزمي ص 86 ، وينابيع المودّة للقندوزي 1 : 158 ، 389 ، ومجمع الزوائد ج 9 / 111 ، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 168 ط الحيدرية وص 70 ط الغري ، وميزان الاعتدال ج 2 / 3 ، فرائد السمطين ج 1 / 150.

3 ـ رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج ، والخوارزمي في مناقبه ، وابن عساكر في تاريخ دمشق : 3 / 331 ، والمتقي الهندي في كنز العمال : 15 / 108 و 109.

٢٠٤

بعدي ).

وعن أسماء بنت عميس قالت : ( سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم ) يقول : اللهم إنّي أقول كما قال أخي موسى : اللهم اجعل لي وزيراً من أهلي أخي علياً ، اشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبحك كثيراً ، ونذكرك كثيراً ، إنّك كنت بنا بصيراً )(1) .

3 ـ إنّ خليفة موسى هو يوشع ؛ لأنّ هارون مات في زمن موسى.

والجواب :

إنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بيّن أنّ منزلة علي منه هي منزلة هارون من موسى ، ولم يقل إنّ ما يحصل لهارون يحصل لعلي.

__________________

1 ـ الرياض النضرة 3 : 118 ، ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق 1 / 120 ـ 121 رقم 147 ، الدر المنثور 5 / 566 ، ولمزيد من المصادر راجع مصادر حديث الدار في هذا الكتاب.

٢٠٥

الدليل العاشر : حديث النجوم

إنّ حدبث النجوم وحديث السفينة وحديث الثقلين وغيرها كلّها تؤكد أنّ أهل البيتعليهم‌السلام هم الفرقة الناجية من بين (73) فرقة ؛ لأنّ لفظ ( من ركبها نجا ) ، ولفظ ( لن تضلّوا ما ان تمسكتم بهما أبداً ) ولفظ ( أمان لأهل الأرض ) كلّها تدلّ بوضوح أنّهم الفرقة الناجية من الضلال والانحراف.

وفيها دلالة على العصمة ؛ إذ إنّهم أمان فمن تبعهم أمن على دينه ونفسه ، وهذا لا يكون إلّا مع معصومين لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه ، وقد بيّنا في آية التطهير وغيرها من هم أهل البيتعليهم‌السلام أكثر فكن معنا.

وأمّا نصوص حديث النجوم من كتب أهل السنة المعتبرة :

الصواعق لابن حجر :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ، اختلفوا فصاروا حزب إبليس )(1) .

__________________

1 ـ الصواعق المحرقة لابن حجر 2 : 445 ، ونحوه في ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي 2 : 443 ط اسلامبول ، وجواهر البحار للنبهاني ج 1 / 361 ط الحلبي بمصر ، وذخائر العقبى لمحب الدين الطبري ص 17 ، نظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص 234 ، إحياء الميت للسيوطي بهامش الاتحاف ص 112 ، الجامع الصغير للسيوطي 2 : 680 ، إسعاف الراغبين للصبّان الشافعي بهامش نور الأبصار ص 128 ط السعيدية وص 117.

٢٠٦

كنز العمّال :

( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لامتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ).

( النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت أتاها ما يوعدون ، وأنا أمان لأصحابي ما كنت فيهم ، فإذا ذهبت أتاهم ما يوعدون ، وأهل بيتي أمان لأمّتي ، فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما يوعدون )(1) .

المستدرك على الصحيحين :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس )(2) .

قال الحاكم : ( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ).

محاولة تحريف الكلم عن مواضعه :

1 ـ قال ابن حجر : ( قال بعضهم : يحتمل أنّ المراد بأهل البيت ـ الذين هم أمان ـ علماؤهم ؛ لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم ، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون )(3) .

أقول : يكفي من ابن حجر وأمثاله الاعتراف بهذا الحديث ، أمّا محاولته

__________________

1 ـ كنز العمال ج 12 ، ص 102.

2 ـ المستدرك 3 : 149. ونوه في 2 : 448.

3 ـ الصواعق المحرقة : 152.

٢٠٧

صرف الحديث عن المعصومينعليهم‌السلام وجعله عام في العلماء ، فهذا لايجد له مجالاً في عقول أهل العلم والتحقيق والإنصاف ؛ لأنّ علماءهم مختلفون إلى مذاهب شتّى فأيّهم الأمان من الضلال؟!

أمّا من هم أهل البيت الذين يعنيهم الحديث؟ فالجواب في حديث الكساء ، ذلك الحديث الذي أكثر طرقه عن أم سلمة ، حيث أرادت الدخول مع الخمسةعليهم‌السلام تحت الكساء ، فجذب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الكساء ، ولم يأذن لها بالدخول ، وقال لها : ( وإنك على خير أو إلى خير ) والحديث أيضاً وارد عن عائشة.

أخرج الترمذي عن عمرو بن أبي سلمة ، قال : لمّا نزلت هذه الآية على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم :( إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، في بيت أم سلمة ؛ فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً ، فجللهم بكساء ، وعلي خلف ظهره ، فجلله بكساء ، ثم قال : ( اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس ، وظهّرهم تطهيراً ) ، قالت أمّ سلمة : وأنا معهم يا رسول الله؟ قال : ( أنت على خير )(1) .

وقال الألباني : ( صحيح )(2) .

2 ـ هناك حديث يروونه وهو : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ).

الجواب :

__________________

1 ـ سنن الترمذي 5 : 328 ، كتاب تفسير القرآن.

2 ـ صحيح سنن الترمذي 3 : 306.

٢٠٨

إنّ مصير محاولاتهم الفشل ؛ لأنّهم يكذّب بعضهم بعضاً ، وأمّا أهل البيتعليهم‌السلام فيدعم بعضهم بعضاً.

ولقد ضعّف حديث أصحابي كالنجوم أعلامهم ومفسّريهم ومحدّثيهم ، كالحافظ الدارقطني ، إذ أخرجه في كتابه ( غرائب مالك ) ، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني.

وكذّبه ابن حزم وحكم ببطلانه وكونه موضوعاً.

وذكر ذلك جماعة ، منهم : أبو حيّان حيث قال عند ذكره هذا الحديث : ( قال الحافظ أبو محمّد بن أحمد بن حزم في رسالته في ( إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد ) ما نصّه : ( وهذا خبر مكذوب موضوع باطل لم يصح قط )(1) .

وضعّف حديث أصحابي كالنجوم الحافظ البيهقي في كتابه ( المدخل ) على ما نقل عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني(2) .

وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر ما نصّه : قد روى أبو شهاب الحناط ، عن حمزة الجزري ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم.

وهذا إسناد لا يصح ، ولا يرويه عن نافع من يحتج به.

وقد روى في هذا الحديث إسناد غير ما ذكر البزار عن سلام بن سليم قال :

__________________

1 ـ المحيط 5 / 528 ، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 / 78.

2 ـ الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف المطبوع على هامش الكشاف 2 / 628.

٢٠٩

حدّثنا الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم.

قال أبو عمرو : هذا إسناد لا تقوم به حجّة ، لأنّ الحارث بن غصين مجهول(1) .

وصرّح بضعف حديث أصحابي كالنجوم الحافظ ابن عساكر.

وقال الحافظ ابن الجوزي ما نصّه : روى نعيم بن حماد ، قال : نا عبد الرحيم ابن زيد العمي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : سألت ربّي فيما يختلف فيه أصحابي من بعدي ، فأوحى إليّ يا محمّد : إنّ أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أضوأ من بعض ، فمن أخذ بشيء مما عليه من اختلافهم فهو على هدى.

وقال يحيى بن معين : عبد الرحيم كذّاب(2) .

قدح الحافظ ابن دحية في حديث أصحابي كالنجوم ونفى صحتّه ، فقد قال الحافظ الزين العراقي ما نصّه : ( وقال ابن دحية ـ وقد ذكر حديث أصحابي كالنجوم ـ حديث لا يصح(3) .

وقال الحافظ أبو محمّد بن أحمد بن حزم في رسالته ( إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد ) ما نصّه : وهذا خبر مكذوب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مما في أيدي العامة ترويه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : إنما مثل أصحابي كمثل النجوم ـ أو كالنجوم ـ بأيّها اقتدوا اهتدوا.

__________________

1 ـ جامع بيان العلم 2 / 90 ـ 91.

2 ـ العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ، وفيض القدير في شرح الجامع الصغير 4 / 76.

3 ـ تعليق تخريج أحاديث منهاج البيضاوي. جاء ذلك عنه في عبقات الأنوار.

٢١٠

وهذا كلام لم يصح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه عبد الرحيم بن زيد العمى ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

وإنّما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم ، لأنّ أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه.

والكلام أيضاً منكر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يثبت ، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يبيح الاختلاف من بعده من أصحابه.

قال ابن معين : عبد الرحيم بن زيد كذّاب ليس بشيء ، وقال البخاري : هو متروك.

وقدح شمس الدين ابن القيم الجوزية في حديث النجوم ، حيث قال في ردّ المقلّدين وأدلّتهم :

الوجه الخامس والأربعون : قولهم : يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.

جوابه من وجوه :

أحدها : إنّ هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش عن أبي سفيان بن جابر ، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر ، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر ، ولا يثبت شيء منها.

قال ابن عبد البر : حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن سعيد : إنّ أبا عبد الله بن مفرح حدّثهم ثنا محمّد بن أيوب الصّموت قال : قال لنا البزار : وأمّا ما يروى عن النبي

٢١١

صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم فهذا الكلام لا يصح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (1) .

وقال الحافظ الزين العراقي ما نصّه : ( حديث أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم : رواه الدارقطني في ( الفضائل ) وابن عبد البر في ( العلم ) من طريقه من حديث جابر وقال : هذا إسناد لا تقوم به حجّة ، لأنّ الحارث بن غصين مجهول.

ورواه عبد بن حميد في ( مسنده ) من رواية عبد الرحيم بن زيد العمي ، عن أبيه ، عن ابن المسيب ، عن ابن عمر. قال البزار : منكر لا يصح.

ورواه ابن عدي في ( الكامل ) من رواية حمزة بن أبي حمزة النصيبي ، عن نافع ، عن ابن عمر بلفظ : فأيّهم أخذتم بقوله ـ بدل اقتديتم ـ وإسناده ضعيف من أجل حمزة فقد اتّهم بالكذب.

ورواه البيهقي في ( المدخل ) من حديث عمر ومن حديث ابن عباس بنحوه ، ومن وجه آخر مرسلاً وقال : متنه مشهور وأسانيده ضعيفة لم يثبت في هذا إسناد.

قال البيهقي : ويؤدّي بعض معناه حديث أبي موسى : النجوم أمنة لأهل السماء ـ وفيه ـ : أصحابي أمنة لأمّتي الحديث.

والدارقطني في ( المؤتلف ) من رواية سلام بن سليم ، عن الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر مرفوعاً ، وسلام ضعيف.

__________________

1 ـ إعلام الموقعين 2 / 223.

٢١٢

وأخرجه في ( غرائب مالك ) من طريق حميد بن زيد ، عن مالك ، عن جعفر ابن محمّد ، عن أبيه ، عن جابر في أثناء حديث وفيه : فبأيّ قول أصحابي أخذتم اهتديتم ، إنما مثل أصحابي مثل النجوم من أخذ بنجم منها اهتدى ، وقال : لا يثبت عن مالك ، ورواته دون مالك مجهولون.

ورواه عبد بن حميد والدارقطني في ( الفضائل ) من حديث حمزة الجزري ، عن نافع ، عن ابن حمزة. وحمزة اتّهموه بالوضع.

ورواه القضاعي في ( مسند شهاب ) من حديث أبي هريرة ، وفيه جعفر ابن عبد الواحد الهاشمي ، وقد كذّبوه.

ورواه ابن طاهر من رواية بشر بن الحسن ، عن الزبيري عدي ، عن أنس ، وبشر كان متّهماً أيضاً.

وأخرجه البيهقي في ( المدخل ) من رواية جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس. وجويبر متروك ، ومن رواية جويبر عن جوّاب بن عبيد الله مرفوعاً. وهو مرسل.

قال البيهقي : هذا المتن مشهور وأسانيده كلّها ضعيفة.

وروى في ( المدخل ) أيضاً عن ابن عمر : سألت ربّي فيما يختلف فيه أصحابي من بعدي ، فأوحى إليّ يا محمّد أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى. وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد العمي. وهو متروك(1) .

__________________

1 ـ الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف المطبوع بهامش الكتاب ، 2 / 628.

٢١٣

وقال القاضي الشوكاني في مبحث الإجماع : وهكذا حديث أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، يفيد حجّية قول كلّ واحد منهم.

وفيه مقال معروف ، لأنّ في رجاله عبد الرحيم العمي عن أبيه ، وهما ضعيفان جدّاً ، بل قال ابن معين : إنّ عبد الرحيم كذّاب ، وقال البخاري : متروك ، وكذا قال أبو حاتم.

وله طريق آخر فيه : حمزة النصيبي وهو ضعيف جدّاً ، قال البخاري : منكر الحديث ، وقال ابن معين : لا يساوي فلساً ، وقال ابن عدي : عامّة مروياته موضوعة.

وروى أيضاً من طريق : جميل بن زيد ، وهو مجهول(1) .

وما ذكرناه كان على سبيل المثال ، إذ إنّ هناك علماء كثيرين غيرهم يصرّحون بضعف حديث أصحابي كالنجوم ، فراجع(2) .

هذه نبذة من أقوالهم في ردّ حديث أصحابي كالنجوم وتضعيفه والحكم بوضعه ، فثبت أنّه مجعول لأغراض سياسية ،( وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) . بل إنّه لا يمكن أن يكون كلّ الصحابة أمان لمن تبعهم ؛ لأنّه صحب الرسول حتّى المنافقين ، كعبد الله بن أبي ومعاوية وامثالهم وممن انقلبوا من بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على أعقابهم خاسرين فقد ورد في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من تبيين حال بعض الصحابة ماهذا نصّه : ( وإنّ أناساً من أصحابي

__________________

1 ـ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول : 83.

2 ـ راجع : سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية.

٢١٤

يؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : أصحابي أصحابي فيقال : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم )(1) .

وفي موضع آخر : ليرفعن رجال منكم ، ثمّ ليختلجن دوني فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك(2) .

وفي موضع آخر : أقول : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سحقاً لمن غيّر بعدي(3) .

وفي آخر : فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى.

وفي آخر : بينا أنا قائم إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلمّ ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم(4) .

قال القسطلاني في شرح صحيح البخاري في هذا الحديث : همل ، بفتح الهاء والميم : ضوال الإبل ، واحدها : هامل ، أو : الإبل بلا راع ، ولا يقال ذلك في الغنم ، يعني : أنّ الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة ، وهذا يشعر بأنّهم صنفان كفّار وعصاة.

نعم ، إنّ الصحابة لا يصح أن يكونوا كلّهم أمان ونجاة لمن اقتدى بهم ،

__________________

1 ـ صحيح البخاري ج 4 ص 110 ، وج 5 ص 191 وص 241 ، و ج 7 ص 195 ، وسنن الترمذي ج 4 ص 38 ، وسنن النسائي ج 4 ص 117 ، وصحيح مسلم ج 8 ص 157.

2 ـ صحيح البخاري 8 : 148 ، وسنن ابن ماجه ج 2ص 1016 ، وسنن الترمذي ج 5ص 4.

3 ـ صحيح البخاري 8 : 150 و 9 : 59.

4 ـ صحيح البخاري 8 : 150 ـ 151.

٢١٥

للأسباب التالية :

1 ـ لبطلان الحديث ، كما صرّح به أعلامهم.

2 ـ كما نقلنا عن الصحاح : أنّ الصحابة منهم من ارتدّ على عقبيه ، ومنهم من غيّر وبدّل وأحدث بعد رحيل الرسول ، ومنهم من آذى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته ، ومنهم

3 ـ ما كان من الشجار بين الصحابة الموجب للتباغض ، وحصل بينهم التشاتم(1) والمقاتلة والاختلافات القاضية بخروج إحدى الفريقين عن حيّز العدالة ، كما تشهد بذلك السقيفة وصفين والجمل و

4 ـ لما أثبتنا من عدم كفاءتهم ، فراجع آية الذكر وحديث الثقلين ومدينة العلم.

5 ـ ما أثبتنا من أدلّة في أنّ أهل البيتعليهم‌السلام هم الأمان وسفينة النجاة وباب حطّة :( وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ) .

6 ـ بل إنّ القرآن الكريم قد أخبر بوجود منافقين في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال تعالى :( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أهل الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثمّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) .

وأخبر القرآن بأنّ البعض قد ينقلب على عقبيه :( وَمَا محمّد إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) .

__________________

1 ـ سنبيّن ذلك حول قصّة السقيفة ، وما حصل مع سعد وعمر و

٢١٦
٢١٧

الدليل الحادي عشر : علي مع الحق

إنّ هذا الحديث القاضي بأحقيّة عليعليه‌السلام على لسان أصدق البشر يقتضي بطلان كلّ من تنازع معه في أيّ أمر.

أمّا صحّة هذا الحديث عن أصدق الخلقصلى‌الله‌عليه‌وآله فكالعادة نستدل بها من كتب المخالف.

المعيار والموازنة :

( قالت لها أم سلمة : يا بنت أبي بكر أبدم عثمان تطلبين؟ فوالله إن كنت لأشدّ الناس عليه وما كنت تدعينه إلّا نعثلاً ، أم على علي بن أبي طالب تنقمين وقد بايعه المهاجرون والأنصار ، أذكّرك الله وخمساً سمعتهن أنا وأنت من رسول الله صلّى الله عليه وآله ، قالت : وما هنّ؟ قالت : [ أتذكرين ] يوم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله ونحن معه حتّى إذا هبط من ( قديد ) مال الناس ذات اليمين وذات الشمال ، فأقبل هو وعلي بن أبي طالب يتناجيان ، فأقبلت على جملك فنهيتك ، وقلت : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ابن عمّه ولعل لهما حاجة ، فعصيتيني ، فهجمت عليهما ، فلم تلبثي أنّ رجعت تبكين ، فقلت لك : قد نهيتك ، فقلت : والله ما جرّأني على ذلك إلّا أنّه يومي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت لك : ما أبكاك؟ فقلت : هجمت عليهما ، فقلت : يا علي إنّما لي من رسول الله صلّى الله عليه من تسعة أيام يوم ، فلا تدعني ويومي؟ فأقبل عليّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢١٨

غضباناً محمّراً وجهه ، فقال : والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي وغيرهم إلّا خرج من الإيمان ، وإنّه مع الحق والحق معه. أتذكرين هذا؟ قالت : نعم.

قالت : ويوم كنت أنا وأنت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنت تغسلين رأسه وأنا أحيس [ له ] حيساً وكان يعجبه فرفع رأسه إليّ فقال : يا بنت أبي أمية أعيذك بالله أنّ تكوني منبحة كلاب الحوأب ، وأنت يومئذٍ ناكبة عن الصراط ، فرفعت يدي من الحيس فقلت : أعوذ بالله وبرسوله من ذلك ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ إحداكن يفعل هذا.

أتذكرين هذا؟ قالت : نعم.

قالت : ويوم كنّا أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت حفصة بنت عمر فتبدّلنا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولبست كلّ امرأة منّا ثياب صاحبتها ، فأقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى جلس إلى جنبك وكنت تعجبينه فقال ـ وضرب بيده على ظهرك ـ : أترين يا حميراء أنّي لا أعرفك أنّ لأمّتي منك يوماً مرّاً. أتذكرين هذا؟ قالت : نعم.

قالت : ويوم كنت أنا وأنت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أسفاره وكان علي يتعاهد ثياب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعله ، فإذا رأى ثوبه قد توسّخ غسله ، وإذا رأى نعله قد نقبت أو رثّت خصفها ، فأقبل علي يوماً فأخذ نعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فخصفها في ظل سمرة ، فأقبل أبوك وعمر فاستأذنا ، فقمنا إلى الحجاب فدخلا ، ثمّ قالا : يا رسول الله ، إنّا والله ما ندري ما قدر ما تصحبنا ، أفلا تعلمنا خليفتك فينا فيكون مفزعنا إليه؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما أنّي قد أرى مكانه ولو فعلت لنفرتم عنه كما نفرت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران.

٢١٩

فلمّا أن خرجا ، خرجت أنا وأنت فقلت له : يا رسول الله من كنت مستخلفاً عليهم؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : خاصف النعل ، قال : فنظرت إلى علي بن أبي طالب فقلت : يا رسول الله ما أرى إلّا علي بن أبي طالب ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو ذاك. أتذكرين هذا؟ قالت : نعم.

قالت : ويوم جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجه عند موته ، فقال : يا نسائي ، اتّقين الله وقرن في بيوتكن ولا يستفزنكن أحد. أتذكرين هذا؟ قالت : نعم.

فخرجت من عندها وقد ضعفت عزيمتها ، وفترت عن الخروج ، وأمرت مناديها فنادى بمكة : ألا إنّ أم المؤمنين قد بدا لها من الخروج. فاجتمع عليها طلحة والزبير ، ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير ، فقلبوا رأيها وموهوا الأمور عليها ، واستغلطوها واستغفلوها )(1) .

( فلمّا سمع الناس قول عمار بن ياسر عرجوا عن أبي موسى وقالوا : يا أبا اليقظان ، إنّك كنت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمكان الذي تعلم ، فنسألك بحقّ الله وحقّ رسوله هل سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر هذه الفتنة؟ فقال عمار : أشهد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا بقتال الناكثين والقاسطين ، وأمرنا بقتال المارقين من أهل النهروان بالطرقات ، وسمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : علي مع الحق والحق مع علي لا يفترقان حتّى يردا علي الحوض يوم القيامة. فقبل الناس قول عمار بن ياسر واستجابوا له(2) .

__________________

1 ـ المعيار والموازنة : 27.

2 ـ المعيار والموازنة : 119.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624