الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 624

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 624 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204053 / تحميل: 6079
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الأعمال وأكثرها إجراما وانحطاطا بحقّ الشعوب المستضعفة ، هؤلاء الذين تلبّسوا بلباس الإنسانية ، وهم في الحقيقة ذئاب مفترسة تصبغ حياة المحرومين بلون الدم والظلام ثمّ يضيف سبحانه :( وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) (١) .

وممّا تقدّم يتّضح لنا أنّ هؤلاء ليسوا ممّن لم يراعوا مبدأ التوحيد للسيّد المسيحعليه‌السلام فقط ، بل دنسوه بأنواع الشرك ، ولم يراعوا أيضا حتّى حقّ الرهبانية التي ابتدعوها باسم الزهد ، حيث وضعوا مكائد في طريق خلق الله ، وجعلوا من الأديرة والكنائس مراكز لأنواع الفساد ، وأوجدوا انحرافا خطيرا في رسالة السيّد المسيحعليه‌السلام .

ومن مفهوم الآية يتّضح لنا أنّ الرهبانية لم تكن جزءا من رسالة السيّد المسيحعليه‌السلام ، إلّا أنّ أتباعه هم الذين ابتدعوها من بعده ، حيث بدأت بشكل معتدل ثمّ مالت نحو الانحراف.

وطبقا لتفسير آخر فإنّ نوعا من الرهبانية والزهد كان من مبدأ السيّد المسيحعليه‌السلام ، إلّا أنّ أتباعه وأصحابه ابتدعوا نوعا آخر من الرهبانية لم يقرّرها الله لهم(٢) .

__________________

(١) حول تركيب ومعنى هذه الآية يوجد اختلاف كثير بين المفسّرين ، حيث اعتبرها البعض عطفا على الرأفة والرحمة ، وأخذوا بنظر الإعتبار (حبّ) قبل الرهبانية تقديرا ، لأنّ الرهبانية ليست شيئا يكون في القلب ، بل أنّ حبّها والتعلّق بها يكون في القلب ، واعتبرها آخرون منصوبة بفعل مضمر حيث إنّ (ابتدعوها) تفسّر ذلك في تقدير : ابتدعوا رهبانية ، ابتدعوها. وبالنسبة لـ (إلّا ابتغاء رضوان الله) توجد وجهتا نظر : الاولى : أنّها استثناء منقطع ، ومفهومه هو : (ولكنّهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله). والاخرى : أنّها استثناء متّصل ومفهومها أنّنا قرّرنا ووضعنا نوعا من الرهبانية عليهم ، والهدف من ذلك هو جلب رضى الله تعالى ، ولكنّهم حرّفوا الرهبانية إلى نوع آخر كان خلافا لرضى الله ، والظاهر أنّ التفسير الأوّل في كلا الموردين مناسب أكثر ، لذا يرجى الانتباه هنا.

(٢) طبقا للتفسير الأوّل حسب الرأي الذي يقول بأنّه استثناء منقطع ، والتّفسير الثاني يقول بالاستثناء المتّصل.

٨١

والتّفسير الأوّل هو الأكثر شهرة ، والمناسب أكثر من بعض الجهات.

وعلى كلّ حال ، فالمستفاد من الآية أعلاه إجمالا هو أنّ الرهبانية لم تكن في شريعة السيّد المسيحعليه‌السلام ، وأنّ أصحابه ابتدعوها من بعده ، وكان ينظر إليها في البداية على أنّها نوع من أنواع الزهد والإبداعات الخيّرة لكثير من السنن الحسنة التي تشيع بين الناس. ولا تتّخذ عنوان التشريع أو الدستور الشرعي ، إلّا أنّ هذه السنّة تعرّضت إلى الانحراف ـ فيما بعد ـ وتحريف التعاليم الإلهية ، بل اقترنت بممارسات قبيحة على مرّ الزمن.

والتعبير القرآني بجملة :( فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها ) دليل على أنّه لو اعطي حقّها لكانت سنّة حسنة.

وما ورد في الآية التالية التي تتحدّث عن الرهبان والقساوسة يتناول هذا المعنى حيث يقول تعالى :( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ، الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) (١) (يرجى ملاحظة ذلك).

وهكذا يتبيّن أنّ كلمة «الرهبانية» كلّما كانت بمعنى الرأفة والرحمة فإنّها تشكّل دليل إضافيا على صحّة الادّعاء أعلاه ، لأنّها ستكون بمعنى مستوى الرأفة والرحمة التي وضعها الله في قلوبهم بعنوان أنّها صفة حميدة.

ومختصر الكلام هو : إذا وجدت سنّة حسنة بين الناس تكون أصولها الكليّة وخطوطها العريضة في دائرة المبدأ الحقّ (كالزهد ، مثلا ، فإنّ ذلك ليس عملا قبيحا ، بل يعتبر مصداقا من مصاديق الخطّ العام للمبدأ ، خاصّة إذا لم تنسب هذه

__________________

وهذه النقطة أيضا جديرة بالملاحظة وهي : إذا كانت الرهبانية عطف على الرأفة والرحمة كما اخترناه في المتن ، فإنّ المقصود من جعلها في القلوب هو نفس الميل القلبي لهم إلى هذه المسألة ، في حين أنّ المقصود من (ما كتبناها) هو أنّ مسألة الرهبانيّة لم تكن حكم الله في دين السيّد المسيح ، بالرغم من أنّ الله تعالى قد وضع حبّها في قلوبهم ، وبناء على هذا فلا تتنافى مع جملة (ابتدعوها).

(١) المائدة ، الآية ٨٢.

٨٢

السنّة إلى المبدأ الإلهي ولسوء الحظّ فإنّ جملة من الإفراطات والتفريطات وجدت بين ظهرانينا تحت قناع الدين وتحوّلت إلى سنّة سيّئة.

إنّ مراسم الأعياد والتعازي والوفيّات الخاصّة بعظماء الإسلام وما يتعلّق بإحياء ذكرى الشهداء والأحبّة الراحلين ـ سواء في يوم استشهادهم ، أو اليوم السابع ، أو بعد مرور أربعين يوما من الشهادة أو الوفاة ، وكذا ما يتعلّق بذكراهم السنوية ـ هو مصداق للمفاهيم الكليّة في الإسلام حول تعظيم شعائر الله تعالى ، وإحياء ذكر قادة الإسلام وعموم شهداء المسلمين ، وبغضّ النظر عن الجزئيات والتفاصيل فإنّ هذه المراسم مصداق من الأصل الكلّي فقط ، ولا يمكن اعتبارها مبادئ شرعية.

وكلّما أنجزت هذه المراسم بدون تجاوز للحدود الشرعية وعدم تدنيسها بالخرافات والممارسات اللاشرعيّة ، فإنّها ـ من المسلّم ـ مصداق لابتغاء رضوان الله ، ومصداق سنّة حسنة ، وفي غير هذه الصورة فإنّها ستكون بدعة الشؤم والسنّة السيّئة.

«الرهبانية» من مادّة (رهب) مأخوذة من معنى الخوف من الله ، ويفهم أنّها كانت في البداية مصداقا للزهد وعدم الاهتمام بشؤون الدنيا ، إلّا أنّها تعرّضت فيما بعد لانحرافات واسعة ، وإذا ما لا حظنا موقف الإسلام المناهض والمقاوم للرهبانية بشدّة فمن هذا الباب وبهذا اللحاظ. كما سنستعرض ذلك فيما يلي :

* * *

بحوث

١ ـ الإسلام والرهبانية

ذكرنا أنّ الرهبانية أخذت من «الرهبة» التي جاءت بمعنى الخوف من الله ، وكما يقول الراغب في المفردات ، الخوف الذي يكون ممزوجا بالزهد

٨٣

والاضطراب والترهّب يعني : (التعبّد والعبادة) والرهبانية بمعنى : (شدّة التعبّد).

وإذا فسّرنا الآية أعلاه بأي شكل ، فإنّها ترينا أنّها كانت نوعا من الرهبانية الممدوحة بين المسيحيين ، بالرغم من أنّها لم تكن أصلا وإلزاما فيما جاء به السيّد المسيح من عند الله تعالى ، إلّا أنّ أتباع السيّد المسيحعليه‌السلام أخرجوا (الرهبانية) من حدودها وجرّوها إلى الانحراف والتحريف ، ولهذا فإنّ الإسلام ندّد فيها بشدّة ، حتّى أنّ الكثير من المصادر الإسلامية أوردت الحديث المعروف : «لا رهبانية في الإسلام»(١) .

ومن جملة الممارسات القبيحة للمسيحيين في مجال الرهبانية تحريم الزواج للنساء والرجال بالنسبة لمن يتفرّغ (للرهبنة) والانزواء الاجتماعي ، وإهمال كافّة المسؤوليات الإنسانية في المجتمع ، والركون إلى الصوامع والأديرة البعيدة ، والعيش في محيط منزو عن المجتمع بالإضافة إلى جملة من المفاسد التي حصلت في الأديرة ومراكز الرهبان ، كما سنشير إلى جوانب منها في هذا البحث إن شاء الله.

وبالرغم من أنّ هؤلاء الرجال البعيدين عن الدنيا (الرهبان والراهبات) قد أدّوا خدمات إيجابية كثيرة كتمريض المصابين بأمراض خطرة كالجذام وما شابهه ، بالإضافة إلى القيام بالتبليغ والإرشاد بين أقوام بدائية متوحّشة ، وقيامهم ببرامج للدراسة والتحقيق إلّا أنّ هذه الأمور تعتبر قليلة الأهميّة قياسا إلى المفاسد التي اقترنت معها.

وأساسا فإنّ الإنسان مخلوق اجتماعي ، وتكامله المادّي والمعنوي مبتن على هذا الأساس ، وما جاءت به الأديان السماوية لا ينفي دور الإنسان في المجتمع ، بل يحكم قواعده وأسسه بصورة أفضل.

__________________

(١) جاء هذا الحديث في مجمع البحرين في مادّة (رهب) كما ذكر ذلك في النهاية لابن الأثير.

٨٤

إنّ الله سبحانه أوجد الغريزة الجنسية في الإنسان لحفظ النسل ، وكلّ مذهب أو قانون يتعارض مع هذه الغريزة فإنّه باطل.

الزهد الإسلامي الذي يعني البساطة في الحياة والابتعاد عن الكماليات ، وعدم الوقوع في أسر المال والموقع ـ لا يرتبط أصلا بمسألة الرهبانية ، لأنّ الرهبانية تعني الانفصال والغربة عن المجتمع ، والزهد يعني التحرّر من المادّيّات والترفّع عن المغريات لكي تتمّ المعايشة بصورة اجتماعية أفضل.

ونقرأ في قصّة «عثمان بن مظعون» في موت ولده أنّه لم يعد يخرج للعمل حزنا عليه ، وانشغل في العبادة وترك كلّ عمل سواها وجعل من بيته مسجدا فعند ما وصل خبره للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أحضره وقال له : «يا عثمان ، إنّ الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية ، إنّما رهبانية امّتي الجهاد في سبيل الله»(١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الإعراض عن الحياة الماديّة والانزواء الاجتماعي ، وتعطيل الأعمال بصورة سلبية ، يجب أن يصبّ في مسير إيجابي ، وذلك بالجهاد في سبيل الله. ثمّ أنّ الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن له بعض فضائل صلاة الجماعة ، والتي هي تأكيد على نفي الرهبانية في الشرع الإسلامي.

وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام عند ما سأله أخوه علي بن جعفر : الرجل المسلم هل يصلح أن يسيح في الأرض أو يترهّب في بيت لا يخرج منه قالعليه‌السلام : «لا».

وتوضيح ذلك : إنّ السياحة التي نهي عنها في هذه الرواية ، هي تلك الممارسة التي تكون على مستوى الرهبانية ويمكن أن نطلق عليها (الرهبانية السيّارة) وذلك أنّ بعض الأفراد قبل أن يوفّروا لأنفسهم المستلزمات الأساسية لحياتهم من سكن أو عمل أو مصدر عيش فإنّهم يقومون بالسياحة والتجوّل في ربوع الدنيا

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ١١٤ باب النهي عن الرهبانية ، حديث ١.

٨٥

وبدون تهيئة مستلزمات الطريق من الزاد والمال بل يعتمدون على أخذ المساعدات من الناس عند كلّ نقطة يصلون إليها ، ظانّين أنّ ذلك نوعا من الزهد وترك الانشغال بالدنيا.

إلّا أنّ الإسلام كما نفى الرهبانية الثابتة ، فإنّه قد نفى الرهبانية السّيارة أيضا انسجاما مع التعاليم الإسلامية ، فإنّ الزهد والصلاح مهمّ للإنسان المسلم ، شريطة أن يكون في قلب المجتمع وليس في الانزواء والغربة عنه والبعد منه.

٢ ـ المصدر التأريخي للرهبانية

لم تكن الرهبانية موجودة بشكلها الحالي في القرون الاولى للتاريخ المسيحي ، وقد ظهرت بعد القرن الميلادي الثالث في حكم الإمبراطور الروماني (ديسيوس) ـ وقتاله الشديد لأتباع السيّد المسيحعليه‌السلام ، ونتيجة لما لحق بهم من الأذى من قبل هذا الإمبراطور المتعطّش للدماء ، فإنّهم لجأوا إلى الجبال والصحاري(١) .

وجاء هذا المعنى بصورة أدقّ في الروايات الإسلامية حيث نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لابن مسعود : «هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟

فقلت : الله ورسوله أعلم.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله ، فغضبت أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرّات ، فلم يبق منهم إلّا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه ، فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسىعليه‌السلام (يعنون محمّدا) ـ فتفرّقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية ، فمنهم من تمسّك بدينه ، ومنهم من كفر».

__________________

(١) دائرة المعارف القرن العشرين مادّة (رهب).

٨٦

ثمّ قال : «أتدري ما رهبانية أمّتي؟»

قلت : الله ورسوله أعلم.

قال : «الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحجّ والعمرة»(١) .

والمؤرّخ المسيحي المشهور (ويل دورانت) ينقل في تأريخه المعروف في ج ١٣ بحثا مفصّلا حول الرهبانية ، حيث يعتقد أنّ ارتباط الراهبات (النساء) التاركات للدنيا) بالرهبان بدأ منذ القرن العاشر الميلادي(٢) .

وبدون شكّ فإنّ هذه الظاهرة الاجتماعية ـ كما هو شأن كلّ ظاهرة اخرى لها أسسا روحية بالإضافة إلى الاسس التأريخية ، حيث يمكن الإشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ مسألة ردّ الفعل الروحي للأشخاص والأقوام تختلف فيما بينها مقابل الاندحارات والمصاعب التي يواجهوها. حيث يميل البعض نتيجة لذلك إلى الانزواء والانشغال بالأمور الشخصية فقط ، ويبعدون أنفسهم بصورة كاملة عن المجتمع والنشاطات الاجتماعية ، في الوقت الذي يتعلّم آخرون من الانتكاسات والمصاعب دروس الاستقامة والصلابة والقدرة على تحدّي المشاكل ومقاومتها.

ومن هنا فإنّ القسم الأوّل يلتمس طريق الرهبانية أو أي سلوك مشابه له ، بعكس القسم الثاني الذي يصبح أكثر تماسا بالمجتمع وأقوى في مواجهة تحديّاته.

٣ ـ المفاسد الأخلاقية والاجتماعية الناشئة من الرهبانية

إنّ الانحراف عن قوانين الخلقة غالبا ما يكون مصحوبا بانفعالات سلبية ، وبناء على هذا فلا عجب فيمن يبتعد عن الحياة الاجتماعية التي هي جزء من

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٤٣ بتلخيص قليل ، ونقل حديث آخر شبيه بهذا في الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٧٧.

(٢) تاريخ ويل دورانت ، ج ١٣ ، ص ٤٤٣.

٨٧

فطرته أن يصاب بردود فعل شديدة ، لذلك فإنّ الرهبانية ـ لأنّ منهجها خلافا لطبيعة الإنسان وفطرته ـ فإنّها استبطنت مفاسد كثيرة من جملتها :

أوّلا : أنّ الرهبانية تتعارض مع طبيعة الإنسان المدنية وبالتالي فإنّها تؤدّي بالمجتمعات الإنسانية إلى الانحطاط والتخلّف.

ثانيا : ليست الرهبانية عائقا عن كمال النفس وتهذيب الروح والأخلاق فقط ، بل تجرّ إلى الانحرافات الأخلاقية والكسل وسوء الظنّ والغرور والعجب والتشاؤم وما إلى ذلك ، وعلى فرض أنّ الإنسان استطاع أن يصل إلى فضيلة أخلاقية في حالة الانزواء ، فإنّها في الواقع لا تعدّ كذلك ، إذ أنّ الفضيلة أن يحرّر الإنسان نفسه من التلوث الأخلاقي في قلب المجتمع.

ثالثا : إنّ ترك الزواج والإعراض عنه ، والذي هو من مبادئ الرهبانية ، ليس فقط يعوق عن الكمال ، بل هو سبب لظهور العقد والأمراض النفسية وما إلى ذلك.

ونقرأ في دائرة المعارف أنّ بعض الرهبان كانوا يعتبرون الاهتمام بجنس المرأة عمل شيطاني ، لحدّ أنّهم منعوا وجود أنثى أي حيوان في الدير خوفا من الروح الشيطانية لهذه الأنثى التي قد تدنّس روحانيّتهم وتسبّب لها انتكاسة.

ومع هذه الحالة فإنّ التأريخ يذكر لنا فضائح عديدة من الأديرة إلى حدّ أن وصفها (ويل دورانت) بأنّها بيوت للفحشاء والدعارة ، ومراكز لتجمّع عبّاد البطون وطلّاب الدنيا واللاهين ، بحيث أنّ أفضل المشروبات كانت توجد في الأديرة.

وطبقا لشهادة التأريخ فإنّ السيّد المسيحعليه‌السلام لم يتزوّج أبدا ، وهذا لم يكن بسبب موقف له من سنّة الزواج ، بل لقصر عمره ، وانشغاله المستمر في مسئولياته الرسالية التي كانت تستدعي منه السفر والتجوّل والتبليغ في المناطق النائية في العالم ، وهي التي لم تسمح له بالزواج.

إنّ البحث حول الرهبانية يستحقّ كتابا مستقلا ، وإذا أردنا أن نستفيض في هذا البحث فإنّنا سنخرج عن بحث التّفسير.

٨٨

وننهي بحثنا هذا بحديث للإمام عليعليه‌السلام تعقيبا على المفهوم الذي طرحته الآية التالية حيث تقول الآية :( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (١)

فقد قالعليه‌السلام في تفسيرها : «هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري»(٢) .

٤ ـ إنجيل أم أناجيل!

«الإنجيل» في الأصل مصطلح يوناني بمعنى البشارة أو تعليم جديد ، وهو اسم الكتاب الذي نزّل على السيّد المسيحعليه‌السلام ، وجاء هذا المصطلح اثني عشرة مرّة في القرآن الكريم ، وقد استعمل بهذا المعنى.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ ما يعرف باسم الإنجيل اليوم كتب كثيرة يعبّر عنها بالأناجيل ، والمشهور منها أربعة وهي «لوقا» و «مرقس» و «متّى» و «يوحنّا» ويعتقد المسيحيون أنّ هذه الأناجيل كتبت بواسطة أربعة من أصحاب السيّد المسيحعليه‌السلام أو طلّابه ، وتأريخ تأليفها يرجع إلى ثمان وثلاثين سنة بعد السيّد المسيحعليه‌السلام إلى غاية قرن بعده ، وبناء على هذا فإنّ الكتاب الأصلي للسيّد المسيح ـ الذي هو كتاب سماوي مستقل ـ قد اندثر ، وبقي بعضه في ذاكرة طلّابه الأربعة ، حيث مزج مع أفكارهم وحرّرت هذه الأناجيل.

ولدينا بحث مفصّل أكثر في هذا المجال في نهاية الآية (٣) من سورة آل عمران.

* * *

__________________

(١) الكهف ، الآية ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) كنز العمّال ، ج ٢ ، والحديث ٤٤٩٦.

٨٩

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) )

سبب النّزول

نقل كثير من المفسّرين أنّ للآيات أعلاه سببا للنزول خلاصته ما يلي :

بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه ، فقدم عليه ودعاه فاستجاب له ، وآمن به ، فلمّا كان عند انصرافه ، قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته ، وهم أربعون رجلا : ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به ، فقدموا مع جعفر ، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة ، استأذنوا وقالوا : يا نبي الله إنّ لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة ، فإن أذنت لنا انصرفنا ، فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها ، فأذن لهم فانصرفوا ، فأتوا بأموالهم فواسوا بها

٩٠

المسلمين ، فأنزل الله تعالى فيهم :( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) إلى قوله تعالى :( .. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) (١)

فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين.

فلمّا سمع أهل الكتاب ممّن يؤمن به قوله :( أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ) فخروا على المسلمين فقالوا : يا معشر المسلمين : أمّا من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا ، فنزلت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ) الآية ، فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة(٢) .

التّفسير

الذين لهم سهمان من الرحمة الإلهية :

بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن أهل الكتاب والمسيحيين ، فإنّ الآيات مورد البحث مكمّلة لما جاء في الآيات السابقة ، يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ) .

وللمفسّرين رأيان حول طبيعة المخاطب في هذه الآية :

الأوّل : إنّ المخاطب هم المؤمنون ، حيث يبيّن لهم سبحانه أنّ الإيمان الظاهري غير كاف للفرد ، ولا بدّ أن يكون الإيمان عميقا توأما مع التقوى والعمل ، كي ينالوا الأجر العظيم والذي ستتعرّض له الآية الكريمة.

الثاني : إنّ المخاطب هنا هم مؤمنو أهل الكتاب ، ويعني : يا من آمنتم بالأنبياء والكتب السابقة آمنوا برسول الإسلام ، ولتكن تقوى الله نصب أعينكم كي يشملكم سبحانه بأنواع أجره وجزائه.

__________________

(١) القصص ، الآية ٥٢ ـ ٥٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٤٤ ، ونقل نفس المعنى في تفسير أبو الفتوح الرازي وروح المعاني مع بعض الاختلاف في نهاية الآيات مورد البحث.

٩١

والذي يؤيّد الرأي الثاني هو ذكر (الأجر المضاعف) والذي ورد في نهاية الآية والمقصود به جزاء الإيمان بالأنبياء السابقين ، وجزاء الإيمان برسول الإسلام.

إلّا أنّ هذا التّفسير إضافة إلى أنّه لا يتناسب مع الآية اللاحقة ـ كما سنوضّح ـ فإنّه كذلك لا ينسجم مع سبب نزول الآية وطبيعة الإطلاق الذي ورد فيها بقوله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) .

وبناء على هذا فلا بدّ من تبنّي الرأي القائل بأنّ المقصود بالمخاطب هم جميع المؤمنين الذين قبلوا ـ بالظاهر ـ دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنّهم لم يؤمنوا بها الإيمان الراسخ الذي يضيء أعماق النفوس ويتجسّد في أعمالهم وممارساتهم.

وتكملة للآية الكريمة يشير القرآن الكريم إلى ثلاث نعم عظيمة تحصل في ظلّ الإيمان العميق والتقوى حيث يقول تعالى :( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

«كفل» على وزن (طفل) بمعنى الحصّة التي توفّر للإنسان حاجته ، ويقال للضامن «كفيل» أيضا بهذا اللحاظ ، حيث يكفل الطرف المقابل ويضمنه بنفسه(١) .

والمقصود من هاتين الحصّتين أو النصيبين هو ما جاء في قوله تعالى :( رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ) .

واحتمل أيضا أنّ هذين النصيبين يمكن أن يكون أحدهما الإيمان برسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآخر الإيمان بالأنبياء السابقين ، لأنّ كلّ مسلم ملزم بموجب

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ هذا المصطلح مأخوذ من (كفل) على وزن «عسل» والمقصود به هو ما يضعونه على كفل ـ القسم الأخير من الظهر ـ الحيوانات كي لا يسقط الراكب ، ولذلك فإنّه يقال لكلّ شيء يسبّب الحفظ (كفل) ، ومن هنا أطلق على الضامن اسم «الكفيل» بسبب هذا المعنى. (أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث). ويستفاد من الراغب أنّ لهذا المصطلح معنيين : الأوّل هو المعنى أعلاه ، والمعنى الثاني يطلق على الشيء الرديء الذي لا قيمة له ، والتشبيه بكفل الحيوانات يكون بلحاظ أنّ كلّ شخص يركب على كفلها فاحتمال سقوطه وارد (يرجى ملاحظة ذلك).

٩٢

اعتقاده أن يؤمن بكلّ الأنبياء السابقين والكتب السماوية ويحترمها.

وذكر البعض أنّ المقصود هو الأجر المستمر والمتعاقب والمضاعف.

إلّا أنّ الجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضا.

وحول القسم الثاني من الجزاء والأجر يقول تعالى :( وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) قال بعض المفسّرين : إنّ المقصود بذلك هو نور الإيمان الذي يسبق المؤمنين في سيرهم يوم القيامة ، ويبدّد ظلمات الحشر ، حيث يتقدّمون إلى الجنّة والسعادة الأبديّة. كما جاء في الآية الكريمة :( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ) (١) .

في الوقت الذي اعتبرها البعض الآخر إشارة إلى نور القرآن الذي يشعّ على المؤمنين في الدنيا ، كما جاء في قوله تعالى :( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ) (٢) .

إلّا أنّ للآية مفهوما مطلقا واسعا حسب الظاهر ولا يختص بالدنيا فقط ولا بالآخرة فحسب ، وبتعبير آخر فإنّ الإيمان والتقوى هي التي تسبّب زوال الحجب عن قلوب المؤمنين ، حيث يتبيّن لهم وجه الحقيقة واضحا وبدون حجاب ، وفي ظلّ الإيمان والتقوى هذين سيكون للإنسان وعي وبصيرة حرّم غير المؤمنين منها.

جاء في روايات أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المقصود بالنور في الآية أعلاه هو : «إمام تأتمون به» ، وهو في الحقيقة بيان واحد من المصاديق الواضحة(٣) .

وأخيرا فإنّ ثالث جزاء للمؤمنين المتّقين هو (غفران الذنوب) لأنّ بدونه لا يكون للإنسان هناء بأي نعمة من الله عليه ، حيث يجب أن يكون في البداية في

__________________

(١) الحديد ، الآية ١٢.

(٢) المائدة ، الآية ١٥.

(٣) نقلت هذه الروايات في تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٢ ، ٢٥٣.

٩٣

مأمن من العذاب الإلهي ثمّ ينتقل إلى المسير في طريق النور والتقوى لينال الرحمة الإلهية المضاعفة.

وفي الآية اللاحقة ـ والتي هي آخر آيات هذه السورة ـ بيان ودليل لما جاء في الآية الآنفة الذكر حيث يقول تعالى :( لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (١) .

إنّه جواب لهؤلاء الكتابيّين الذين زعم قسم منهم : أنّ لهم أجرا واحدا كبقيّة المسلمين حينما رفضوا الإيمان بالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا الذين آمنوا بالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم فلهم أجران : أجر الإيمان بالرسل السابقين ، وأجر الإيمان بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث يجيبهم القرآن ويردّ عليهم بأنّ المقصود بالآية هم المسلمون.

فهؤلاء هم الذين لهم أجران ، لأنّهم آمنوا جميعا برسول الله بالإضافة إلى إيمانهم بكلّ الأنبياء السابقين ، أمّا أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله فليس لهم أي نصيب أو سهم من الأجر ، ذلك ليعلموا أنّ الرحمة الإلهية ليست في اختيارهم حتّى يهبوا ما يشاءون منها وفق مشتهياتهم ، ويمنعوها عن الآخرين.

وهذه الآية تتضمّن كذلك جوابا لما ورد من ادّعاءات واهية من بعض اليهود والنصارى الذين اعتبروا الجنّة والرحمة الإلهية منحصرة بهم ، ظانّين أنّ غيرهم

__________________

(١) في (لا) في (لئلّا) يعلم أهل الكتاب زائدة أو أصلية ، يوجد نقاش بين المفسّرين حول هذه المسألة ، حيث اعتبر الكثيرون أنّ (لا) زائدة وتفيد التأكيد (كما ذكرنا أعلاه) وبناء على أنّ (لا) أصلية ، فقد وردت معاني مختلفة للآية من جملتها أنّ المقصود سيكون كالتالي وهو : أن يعلم أهل الكتاب بأنّه إذا قبلوا الإيمان والإسلام فإنّهم يستطيعون أن يهيّؤوا الفضل الإلهي لهم. وبتعبير آخر فإنّ نفي النفي هنا بمعنى (الإثبات) أو يكون المقصود كالتالي : نحن الذين أعطينا كلّ هذه الهبات للمسلمين حتّى لا يتصوّروا أهل الكتاب أن لا نصيب للمسلمين في الفضل الإلهي. إلّا أنّه بملاحظة نهاية الآية التي تقول :( وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ) وكذلك بملاحظة سبب نزولها الذي مرّ بنا سابقا فإنّ كون (لا) زائدة هو الأنسب ظاهرا ، بل وحسب إعتقاد البعض أنّه في الكثير من الموارد التي تشتمل الجملة على نفي ، فإنّ : (لا) تكون زائدة كما في قوله تعالى :( ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) الأعراف / ١٢. وفي قوله تعالى أيضا :( وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) الأنعام ، الآية ١٠٩ (يرجى ملاحظة ذلك).

٩٤

محروم منها ، حيث يقول سبحانه :( وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ ، قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١)

* * *

بحث

التقوى والوعي :

لقد بيّن القرآن الكريم آثارا كثيرة للتقوى ، ومن جملتها إزالة الحجب عن فكر الإنسان وقلبه.

وقد أشار القرآن الكريم إلى ارتباط «الإيمان والتقوى» مع «البصيرة» منها قوله تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ) (٢)

ومنها قوله تعالى :( وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ) (٣)

وجاء هذا المعنى صراحة في الآيات مورد البحث حيث قال تعالى :( إِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا ) سيجعل الله لكم نورا على ضوئه تستطيعون السير.

والعلاقة بين هاتين الآيتين ـ بالإضافة إلى الجوانب المعنوية التي بقيت مجهولة لنا ـ قابلة للإدراك العقلي أيضا ، لأنّ أكبر حاجز عن المعرفة وأهمّ مانع لها هو الحجاب الذي يغطّي قلب الإنسان ، والذي هو هوى النفس والنزعات الذاتية والأماني الفارغة ، والآمال البعيدة ، والوقوع في أسر المادّة ومغريات الدنيا ، حيث لا تسمح للإنسان أن يرى الحقائق بصورتها الطبيعية ، وبالتالي فإنّ الحكم على الأشياء يكون بعيدا في منطق العقل والصواب.

إلّا أنّ استقرار الإيمان والتقوى في القلوب يبدّد هذه الحجب ويزيل عتمتها

__________________

(١) البقرة ، الآية ١١١.

(٢) الأنفال ، الآية ٢٩.

(٣) البقرة ، الآية ٢٨٢.

٩٥

وظلامها عن صفحة القلب ، ويجعل الروح الإنسانية تفيض بشمس الحقيقة وتتعرّف على الحقائق بصورتها الناصعة وتشعر باللذّة والنشوة من هذا الإدراك الصحيح والعميق للأشياء ، وتتفتّح أمامه السبل السليمة للأهداف المقدّسة التي يسعى نحوها ويتقدّم باتّجاهها.

نعم إنّ التقوى هي التي تعطي للإنسان الوعي والوضوح ، كما أنّ الوعي يعطي للإنسان التقوى ، أي أنّ لكلّ من التقوى والوعي تأثير متبادل بعضهما على البعض الآخر.

ونقرأ هنا في حديث معروف يقول : «لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات».

ولإدراك هذا الحديث نصغي لما قاله الإمام عليعليه‌السلام : «لا دين مع هوى ، لا عقل مع هوى ، من اتّبع هواه أعماه وأصمّه ، وأذلّه وأضلّه»(١) .

ربّاه ، احفظنا من هوى النفس وتفضّل علينا بالتقوى والبصيرة.

إلهنا ، كلّ الفضل والرحمة بيدك ، فلا تحرمنا من فضلك العظيم.

ربّنا ، وفّقنا لإقامة الحقّ والعدل والقسط وحراسة حدود الكتاب والميزان والوقوف بوجه الظالمين.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الحديد

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث مفصّل في هذا المجال في نهاية الآية (٢٩) من سورة الأنفال.

٩٦
٩٧

بداية الجزء الثامن والعشرون

من

القرآن الكريم

سورة المجادلة

مدنيّة

وعدد آياتها اثنان وعشرون آية

٩٨

«سورة المجادلة»

محتوى السورة :

نزلت هذه السورة في المدينة ، وانسجاما مع موضوعات السورة المدنيّة فإنّها تتحدّث في الغالب عن الأحكام الفقهيّة ، ونظام الحياة الاجتماعية ، والعلاقات بين المسلمين وغيرهم ونستطيع أن نلخّص أهمّ أبحاثها في ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : يتحدّث عن حكم (الظهار) الذي كان يعتبر نوعا من الطلاق والانفصال الدائم ، حيث قوّمه الإسلام وجعله في الطريق الصحيح.

الثاني : يتحدّث عن مجموعة من التعليمات الخاصّة بآداب المجالسة ، والتي منها : «التفسّح» في المجالس ومنع النجوى.

الثالث : يتعرّض إلى بحث واف ومفصّل عن المنافقين ، تلك الفئة التي تتظاهر بالإسلام ، إلّا أنّها تتعاون مع أعدائه ، ويحذّر المسلمين المؤمنين من الدخول في حزب الشيطان والنفاق ، ويدعوهم إلى الحبّ في الله والبغض في الله والالتحاق بحزب الله.

وقد سمّيت هذه السورة بـ (سورة المجادلة) وذلك بسبب اللفظة التي وردت في الآية الاولى منها.

فضيلة تلاوة سورة المجادلة :

لقد نقلت روايتان في فضيلة تلاوة سورة المجادلة إحداهما عن الرّسول

٩٩

الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والثانية عن الإمام الصادقعليه‌السلام .

جاء في الرواية الاولى : «من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله في يوم القيامة».

وجاء في الرواية الثانية : «من قرأ سورة الحديد والمجادلة في صلاة فريضة وأدمنها لم يعذّبه الله حتّى يموت أبدا ، ولا يرى في نفسه ولا في أهله سوءا أبدا ، ولا خصاصة في بدنه».

وحيث أنّ موضوعات هذه السورة تتناسب مع الجزاء المرتقب من الله تعالى ، لذلك فإنّ الروايات أعلاه توضّح لنا الهدف من التلاوة من أجل العمل بمحتوياتها ، وليس بتلك التلاوة الخالية من الفكر والعمل.

* * *

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الأوّل: أن يقال: إنّ هذا التعهّد الذي اعتبرناه معنىً ثالثاً للضمان هو تعهّد بأداء الدين أو بأداء الشرط، بحيث يصبح أداء الدين أو أداء الشرط في عهدة البنك في المثال المفروض على حدِّ كون العين المغصوبة في عهدة الغاصب، غاية الأمر أنّ وقوع العين المغصوبة في عهدة الغاصب قهري، وأمّا وقوع أداء الدين أو أداء الشرط في عهدة البنك فهو بسبب إنشائه لمثل هذا التعهّد المفروض كونه نافذاً بحسب الارتكاز العقلائي الممضي شرعاً.

وكما أنّ وقوع العين المغصوبة في عهدة الغاصب يعني كونه مسؤولاً عن نفس العين (أي تسليم العين إلى المالك) ما دامت موجودةً، وإذا تلفت العين تتحوّل العهدة إلى اشتغال الذمّة بقيمتها - على تفصيلٍ وتحقيقٍ لا يسعه المقام - كذلك العهدة الجعلية في محلّ الكلام (أي تعهّد البنك الضامن بأداء الدين وأداء الشرط) فإنّها تعني كون البنك مسؤولاً عن تسليم ما وقع في العهدة الجعلية، وهو أداء الدين أو الشرط بوصفه فعلاً له ماليةٌ لا نفس الدين.

وكما إذا تلفت العين المغصوبة تتحوّل العهدة القهرية إلى اشتغال الذمّة بقيمة العين، كذلك إذا تلف أداء الدين أو أداء الشرط على الدائن والمشترط بسبب امتناع المدين والمشروط عليه عن الأداء الذي يعتبر نحو تلفٍ للفعل على مستحقّه عرفاً تحوّلت العهدة الجعلية إلى اشتغال الذمّة بقيمة ذلك الفعل، أي بقيمة أداء الدين أو أداء الشرط ؛ لأنّ اشتغال الذمّة بقيمة المال عند تلفه من اللوازم العقلائية لمعنى دخول ذلك المال في العهدة، فإيّ مالٍ دخل في العهدة سواء كان عيناً أو فعلاً له مالية، وسواء كانت العهدة قهريةً كعهدة الغاصب أو جعليةً بسبب اشتغال ذمّة صاحب العهدة بقيمته عند تلفه، فبعد فرض إمضاء العهدة الجعلية عقلائياً وشرعاً يترتّب عليه لازمها من اشتغال الذمّة بالقيمة على تقدير التلف.

وعلى هذا الأساس يصحّ خطاب الضمان من البنك في المقام بوصفه تعهّداً

٢٦١

بالشرط، وهو دفع مبلغ كذا مقداراً بحيث يستتبع اشتغال الذمّة بقيمته بوصفه فعلاً ذا ماليةٍ إذا تلف على المشترط.

ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الشرط المفروض على المقاول من النحو الثاني أو من النحو الثالث، أي أن يكون الشرط هو تمليك المقاول خاصّة أو جامع التمليك بالنحو الذي شرحناه في تحقيق أنحاء الشرط ؛ إذ على كلا التقديرين يمكن أن يدخل الشرط في عهدة البنك، ويستتبع ذلك اشتغال ذمّته بقيمة الشرط عند تلفه على المشترط.

ودعوى: أنّ الشرط إذا كان هو تمليك المقاول خاصّةً فلا يمكن أن يدخل في عهدة البنك ح لأنّ دخوله في عهدته يقتضي كونه مطالباً بتسليمه، مع أنّ تمليك المقاول بما هو فعل للمقاول ليس قابلاً للتسليم من قبل البنك ليدخل في عهدته، نعم، إذا كان الشرط هو الجامع بين تمليك المقاول وغيره أمكن دخول هذا الجامع في عهدة البنك ؛ لأنّه قابل للتسليم.

هذه الدعوى مدفوعة بأنّ فعل الشخص يمكن أن يدخل في عهدة شخصٍ آخر بنحوٍ يستتبع وجوب تسليمه فيما إذا كان قابلاً للوقوع تحت اختيار ذلك الشخص الآخر، من قبيل التعهّد في موارد الكفالة، فإنّ الكفيل يتعهّد بحضور المكفول، وحضوره فعل للمكفول، ولكن حيث إنّه في معرض قدرة الكفيل عليه ولو بالتسبيب أمكن أن يدخل في عهدته، فكذلك في المقام يكون تعهّد البنك مستتبعاً لمطالبته بِحثّ المضمون على أداء الشرط، وحيث لا يتمكّن البنك من إغراء المضمون بأداء الشرط تتحوّل العهدة إلى شغل الذمّة بقيمة الشرط.

الثاني: أن يقال: إنّ العهدة الجعلية التي جعلناها معنىً ثالثاً للضمان هي عبارة عن تحمّل تدراك الشيء بقيمته إذا تلف، فهذا التحمّل بنفسه هو معنى التعهّد

٢٦٢

بذلك الشيء الممضي في الارتكاز العقلائي، فيكون اشتغال الذمّة بالقيمة عند التلف هو مدلول هذا التعهّد ابتداءً. ففي المقام تعود خطابات الضمان إلى تعهّداتٍ من قبل البنك بالشروط المأخوذة على المقاولين، وتعهّد البنك بالشرط بوصفه فعلاً له مالية، يعني اشتغال ذمّته بقيمة هذا الفعل إذا تلف بامتناع المقاول عن أداء الشرط.

والفرق بين تفسير المعنى العقلائي للعهدة الجعلية بهذا الوجه وتفسيره بالوجه المتقدّم أنّ صاحب الشرط ليس له - بناءً على هذا الوجه - مطالبة البنك بإقناع المقاول بالأداء، وإنّما له على تقدير امتناع المقاول أن يُغرِّم البنك قيمة ما تعهّد به، وأمّا على الوجه السابق فله ذلك.

وبما حقّقناه من المعنى الثالث للضمان وتخريج خطابات الضمان على أساسه باعتبارها تعهّداتٍ من البنك بوفاء المقاول بشرطه، يظهر الحال في ما أفاده بعض الأعلام(١) من محاولة تطبيق الكفالة بمعناها المصطلح لدى الفقهاء - أي كفالة النفس - على خطابات الضمان للبنك، وكفالاته للمقاولين، ثمّ استشكاله في اقتضاء هذه الكفالة لدفع المال المستحقّ بدعوى أنّ أثر الكفالة ينحصر في إحضار نفس المكفول.

إنّنا في غنىً عن ذلك كلّه بعد إمكان تطبيق الضمان المالي على كفالات البنك، غاية الأمر أنّه ضمان لا بمعنى نقل الدين من ذمّةٍ إلى ذمّة، ولا بمعنى ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّة، بل بمعنى التعهّد بأداء دينٍ أو شرطٍ للدائن أو المشترط. والضمان بهذا المعنى مطابق للارتكاز العقلائي، كما عرفت سابقاً. ومنه بحسب

____________________

(١) اُنظر: بحوث فقهية: ١١٢.

٢٦٣

الدّقة ما ذهب إلى صحّته كثير من الفقهاء(١) من ضمان الأعيان المغصوبة، فإنّ ضمانها ليس بمعنى النقل من ذمّةٍ إلى ذمّة ؛ إذ لا يوجد شغل الذمّة ما دامت العين موجودة، بل التحقيق في معنى ضمان الأعيان المغصوبة أنّه عبارة عن التعهّد بأدائها، ويترتّب على هذا التعهّد اشتغال الذمّة بقيمتها عند تلفها.

وهكذا نعرف أنّه بعد فرض مساعدة الارتكاز العقلائي والفقهي على تصوير الضمان بمعنى التعهّد بأداء أو أداء الشرط أو أداء العين المغصوبة بنحوٍ يعني اشتغال الذمّة بقيمة الأداء عند تلفه، فلا موجب لربط ضمانات البنك بالكفالة بمعناه المقابل للضمان المالي لدى الفقهاء لكي تكون قاصرةً عن إنتاج شغل الذمّة بالقيمة ؛ لأنّ الكفالة المقابلة للضمان المالي مختصّة بكفالة النفس، ولا تقتضي عند المشهور أكثر من إحضار المكفول.

فإن قيل: إنّه في موارد شرط الفعل لا يكون المشترط مالكاً لشيءٍ في ذمّة المشترط عليه، ففي مثال المقاول الذي تشترط عليه الجهة التي تتّفق معه بنحو شرط الفعل أن يدفع عشرين ديناراً إذا تخلّف عن الاتّفاق لا تكون الجهة مالكةً لعشرين ديناراً في ذمّته، فكيف يفرض أنّ تعهّد البنك بالشرط في ذمّة المعتهّد عنه ؟

قلنا: قد يقال في شرط الفعل: إنّ المشروط له يملك نفس الفعل على المشروط عليه، ففي المثال المذكور وإن لم تملك الجهة المخصوصة عشرين ديناراً في ذمّة المقاول، ولكنّها تملك عليه فعلاً له قيمة مالية، وهو تمليك عشرين ديناراً، والمفروض أنّ البنك يتعهّد بهذا الفعل للجهة المالكة له، ويستتبع ذلك عند

____________________

(١) منهم الشيخ الطوسي في المبسوط ٣: ٦٠، والمحقّق في شرائع الإسلام ٢: ٩٠، ونقله كذلك عن غيرهما السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٥: ٣٧٢ (الطبعة الحجريّة).

٢٦٤

تلف الفعل أن تملك الجهة قيمة الفعل في ذمّته بمقتضى ضمانه للفعل وتعهّده به.

وإذا لم نقل بأنّ المشروط له يملك الفعل ففي المثال لا تكون الجهة التي اتّفق معها المقاول مالكةً لا لعشرين ديناراً في ذمّته، ولا للتمليك بما هو فعل له مالية، لكنّ هذا لا يعني عدم تعقّل ضمان الشرط، بل يمكن أن يقال: إنّ المشروط عليه إذا يأتِ بالشرط الذي هو تمليك عشرين ديناراً أو خياطة الثوب أو أيّ فعلٍ آخر له مالية يكون ضامناً لقيمة الشرط بالتفويت على المشروط له، وتشتغل ذمّته بقيمة الفعل له ؛ إذ لا موجب لتخصيص الضمان بالتفويت والإتلاف بخصوص ما يكون المفوَّت والمتلَف مملوكاً، بل يكفي أن يكون مضافاً إلى غير المفوِّت والمتلِف ولو بنحوٍ من الحقّية التي لها مالية عرفاً ليكون مشمولاً للضمان في نظر العقلاء. وبناءً على ذلك لا مانع من تعهّد البنك بالشرط حينئذٍ بنحوٍ يستتبع اشتغال ذمّته بقيمته على تقدير التلف.

٢٦٥

الملحق (١١)

[ التخريج الفقهي لفوائد البنك عن بضائع المستوردين ]

يعتبر هذا الملحق تكميلاً للبحث الذي تقدّم في الملحق الأوّل عن التخريجات الفقهية لتحويل الفائدة إلى كسبٍ محلّل ؛ لأنّه يواصل نفس البحث، لكن في نطاق الديون التي تحصل للبنك على التجّار المستورِدِين نتيجةً لتسديده لأثمان البضائع التي استوردها، ويتوسّع في المناقشة الفقهية في هذا المجال.

إنّ الديون التي تحصل على التّجار المستورِدِين الذين فتح البنك الاعتماد لطلبهم نتيجةً لتسديد البنك ما عليهم من ديونٍ تجاه المصدِّرين في الخارج، يمكن تخريج فوائدها الربوية بجملةٍ من الوجوه التي تقدّمت في الملحق الأوّل لتخريج فوائد القرض، وتقدّمت المناقشة فيها.

فمثلاً يمكن أن يقال تطبيقاً للوجه الثاني من تلك الوجوه: إنّ البنك حينما يدفع ثمن البضاعة إلى المصدِّر ويسدّد بذلك دين المستورِد لا يقوم بعملية إقراضٍ للمستورد، ولا يُدخل ثمن البضاعة أولاً في ملكيّة المستورد بعقد القرض ثمّ يدخل في ملكية المصدِّر بعنوان الوفاء، بل إنّ البنك يقوم بتسديد دين

٢٦٦

المستورِد من ماله الخاصّ (أي من مال البنك الخاص)، ولكنّ هذا التسديد لمّا كان بأمرٍ من المستورِد فيكون مضموناً عليه بقيمته ؛ لأنّه هو المتلِف للمبلغ المسدَّد على البنك، فتشتغل ذمّة المستورد بقيمة هذا التسديد دون أن يدخل في ملكيته شيء، أي أنّه ضمان غرامةٍ بقانون الإتلاف، لا بقانون عقد القرض. وعليه فلا يكون فرض الزيادة من البنك على المستورد مؤدّياً إلى قرضٍ ربوي.

وتوهّم كون فرض الزيادة هنا يؤدّي إلى قرضٍ ربويّ، يندفع بالتمييز بين هذين النحوين من الضمان، (أي بين ضمان الغرامة بقانون الإتلاف وضمان الغرامة بعقد القرض). ومعرفة أنّ ضمان الغرامة بلحاظ الأمر بالإتلاف لا يقتضي وقوع قرضٍ ضمنيّ ودخول شيءٍ من المال في ملكية الآمر بالإتلاف - أي المستورد - فلا تكون الزيادة في مقابل المال المقترض.

ولكنّ هذا التخريج مع ذلك غير تامّ، كما تقدّم في الملحق الأوّل.

ويمكن تخريج الفائدة على أساس تحويل القرض إلى بيع، وحيث إنّ البنك يسدِّد دين التاجر المستورِد للمصدِّر بالعملة الأجنبية فيمكن افتراض أنّ البنك يبيع كذا مقداراً من العملة الأجنبية في ذمّته بكذا مقداراً من العملة الداخلية، وحينئذٍ يضيف إلى ما يساوي العملة الأجنبية من العملة الداخلية مقدار الفائدة. ولمّا كان الثمن والمثمن مختلفَين في النوعية والجنس فمظهر البيع أقرب إلى القبول ممّا إذا كانا من جنسٍ واحد. وقد تقدّم تحقيق ذلك في الملحق الأوّل أيضاً.

ويجب عند دراسة المقادير التي تتقاضاها البنوك من التّجار المستورِدين أن نميِّز بين الفائدة والعمولة ولا نخلط بينهما، ولا نساوي بينهما في الحكم.

فما في بعض الإفادات(١) من أنّ دفع البنك لدين التاجر المستورِد إذا كان

____________________

(١) راجع: بحوث فقهية: ١٣٣.

٢٦٧

بملاك القرض فلا يجوز أخذ الفائدة ولا العمولة، غير تامّ إذا كان المقصود بذلك حرمة أخذ كلّ منهما في نفسه ؛ لأنّ معنى الالتزام بحرمة كلّ من الفائدة والعمولة في نفسها على فرض قرضية المعاملة: أنّه كما أنّ أخذ الفائدة يوجب ربوية القرض كذلك أخذ العمولة، مع أنّ الأمر ليس كذلك، بل يجوز للبنك أن يأخذ العمولة، ومجرّد أخذها لا يوجب ربوية القرض ؛ لوضوح أنّ البنك إذا كان يقرض التاجر المستورِد قيمة البضاعة ثمّ يسدِّد دينه على هذا الأساس فمن حقّه أن يأخذ عمولةً على استخدام مبلغ القرض الذي أقرضه للتاجر المستورِد في وفاء دينه المستحقّ عليه للمصدِّر ؛ لأنّ البنك إذ يقرض التاجر مبلغاً من المال لا يجب عليه أن يمتثل أوامر مدينه في كيفية التصرّف في ذلك المبلغ، ولا أن يحقّق رغبته في طريقة إنفاقه، فإذا كلّفه التاجر المستورِد المدين بأن يسدِّد من هذا المبلغ بشكلٍ من الأشكال دينه المستحقّ عليه للمصدِّر في الخارج كان للبنك المقترض أن يأخذ أجرة على ذلك. والمدين لا يرى من مصلحته الامتناع عن تقديم هذا الأجر ؛ لأنّه لو أخذ مبلغ القرض نقداً من هذا البنك وذهب إلى بنكٍ آخر وطالب منه التحويل فإنّ البنك الآخر سوف يطالبه بالأجر أيضاً. وهكذا نجد أنّ أخذ العمولة لا يصيِّر القرض ربوياً.

وأمّا إذا فرض أنّ القرض كان ربوياً بلحاظٍ آخر كما إذا كان مبنيّاً على الفائدة، فهل يجوز للبنك أخذ العمولة من التاجر لقاء تسديد دينه المستحقّ عليه للمصدِّر بالنحو الذي شرحناه، أولا ؟

والجواب على ذلك أنّنا إذا بنينا في باب القرض الربوي على أنّ الباطل هو شرط الزيادة فقط مع صحة أصل القرض فلا بأس بأخذ العمولة في المقام، وينطبق عليها نفس التخريج الفقهي السابق ؛ إذ هي لقاء تنفيذ المقرض رغبة

٢٦٨

المقترِض في طريقة التصرّف في المبلغ المقترَض. وأمّا إذا قلنا: إنّ أصل القرض في موارد شرط الزيادة باطل، فمعنى هذا أنّ البنك لم يحصل منه تسديد للدين المستحقّ على المستورد للمصِّر في الخارج ؛ لأنّه سدَّده مثلاً من المبلغ المقترَض بتخيّل أنّه مال مملوك للمستورِد، والمفروض أنّ القرض باطل فلا يكون مملوكاً للمستورد، وبالتالي لا يحصل التسديد، فلا يجوز أخذ العمولة إذا كانت في مقابل التسديد حقيقةً.

٢٦٩

الملحق (١٢)

[ التخريج الفقهي للعمولة على خطاب الاعتماد ]

هذا الملحق امتداد لِمَا مرّ في الأُطروحة من بحثٍ فقهيّ عن تخريج العمولة التي يتقاضاها البنك ممّن يزوِّده بخطاب الاعتماد.

وبما ذكرناه من التخريجات الفقهية للعمولة يظهر أنّ أخذ البنك للعمولة لا يتوقّف جوازه على أن يصبح البنك مديناً، كما ذكر ذلك بعض الأعلام، إذ أفاد: أنّ المراجِع للبنك إذا كان يدفع إليه المبلغ نقداً ثمّ يتسلّم منه خطاب الاعتماد فهو يصبح دائناً للبنك بقيمة المبلغ الذي دفعه إليه، ويكون البنك مديناً له، فيجوز للبنك والحالة هذه أن يأخذ العمولة ؛ لأنّها نفع يحصل عليه المدين لا الدائن. والحرام هو أن يحصل الدائن على نفعٍ من ناحية القرض(١) .

والتحقيق: أنّ أخذ العمولة جائز - كما عرفت في الأطروحة - ولو فرض أنّ البنك كان هو الدائن ؛ لأنّ المحرَّم أخذه على الدائن هو الشيء في مقابل المال المقترَض، ولا يحرم على الدائن أن يأخذ شيئاً في مقابل عملٍ من أعماله، أو في

____________________

(١) اُنظر: بحوث فقهية: ١٣٥.

٢٧٠

مقابل تنازلٍ عن حقّ خاصّ غير حقّ المطالبة.

وفي المقام إذا فرضنا أنّ البنك أصدر خطاب الاعتماد لعميله وفوَّضه بتسلّم مبلغ كذا من وكيله في الخارج دون أن يتسلّم منه شيئاً فهذا معناه الإذن له بالاقتراض من وكيله في الخارج ضمن حدود القيمة المسجَّلة في خطاب الاعتماد، ومن حقّ البنك في حالة اقتراض عميله المزوَّد بالخطاب من وكيله في الخارج أن يُلزمه بالوفاء في نفس مكان القرض، أي في الخارج. ونظراً إلى أنّ العميل لا يلائمه الوفاء إلاّ في بلده لا في الخارج فيدفع مبلغاً من المال للبنك الدائن الذي زوَّده بالخطاب، لا في مقابل المبلغ المقترض ليكون فائدة ربوية، بل في مقابل عدم مطالبته البنك الدائن بالوفاء في خصوص المكان الذي وقع فيه القرض.

٢٧١

الفهرس

تمهيد ١٥

موقفنا من الأطروحة١٧

سياسة الأطروحة المقترحة٢١

المعالم الأساسية٢٥

للسياسة المصرفية الجديدة٢٥

نظام البنك اللاربوي ٢٩

الفصل الأوّل:٣١

الأطروحة الجديدة لتنظيم علاقة البنك بالمودعين والمستثمرين ٣١

تقسيم الودائع إلى ثابتةً ومتحرّكة٣٦

تنظيم علاقات البنك ٣٩

في مجال الودائع الثابتة٣٩

الودائع المتحرّكة٧٣

ملاحظات عامّة حول البنك اللاربوي ٨١

الفصل الثاني:٨٧

دراسة الوظائف الأساسيّة للبنوك في ضوء الأطروحة السابقة٨٧

القسم الأوّل من وظائف البنك:٩١

الخدمات المصرفية٩١

القسم الثاني من وظائف البنك:١٥٣

تقديم القروض والتسهيلات ١٥٣

القسم الثالث من وظائف البنك:١٦١

الاستثمار١٦١

الملاحق الفقهية١٦٥

٢٧٢

الملحق (١)١٦٧

[ مناقشة التخريجات التي تحوّل الفائدة إلى كسب محلّل ]١٦٧

الملحق (٢)١٨٥

[ حكم شرط الضمان على عامل المضاربة ]١٨٥

الملحق (٣)٢٢٦

[ التخريج الفقهي لأرباح البنك من المضاربة ]٢٢٦

الملحق (٤)٢٣٠

[ التخريج الفقهي لبقاء رأس المال وحدّ أدنى من الربح لدى المستثمر ]٢٣٠

الملحق (٥)٢٣٢

[ فوائد الودائع الثابتة ]٢٣٢

المحلق (٦)٢٣٦

[ التخريج الفقهي لتحصيل قيمة الشيك ]٢٣٦

الملحق (٧)٢٤٢

[ العمولة على التحويل ]٢٤٢

الملحق (٨)٢٤٤

[ العمولة على تحصيل الكمبيالة ]٢٤٤

الملحق (٩)٢٥٢

[ التخريج الفقهي لقبول البنك للكمبيالة ]٢٥٢

الملحق (١٠)٢٥٨

[ التخريج الفقهي لخطابات الضمان النهائية ]٢٥٨

الملحق (١١)٢٦٦

[ التخريج الفقهي لفوائد البنك عن بضائع المستوردين ]٢٦٦

الملحق (١٢)٢٧٠

[ التخريج الفقهي للعمولة على خطاب الاعتماد ]٢٧٠

الفهرس ٢٧٢

٢٧٣

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624