الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل11%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140885 / تحميل: 5796
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ثمّ يضيف :( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) ،( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) .(١)

في الحقيقة أنّ هذه الأقسام الثلاثة مرتبطة بعضها بالآخر ومكملة للآخر ، وكذلك لأنّنا كما نعلم أنّ القمر يتجلى في الليل ، ويختفي نوره في النهار لتأثير الشمس عليه ، والليل وإن كان باعثا على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل ، ولكن الليل المظلم يكون جميلا عند ما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضيء وآخر السحر ، وطلوع الصبح المنهي الليل المظلم أصفى وأجمل من كل شيء حيث يثير في الإنسان إلى النشاط ويجعله غارقا في النور الصفاء.

هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنيا مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات (الشرك) وعبادة (الأصنام) وطلوع بياض الصباح (التوحيد) ، ثمّ ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى :( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) .(٢)

إنّ الضمير في (إنّها) إمّا يرجع إلى «سقر» ، وإمّا يرجع إلى الجنود ، أو إلى مجموعة الحوادث في يوم القيامة ، وأيّا كانت فإنّ عظمتها واضحة.

ثمّ يضيف تعالى :( نَذِيراً لِلْبَشَرِ ) .(٣)

لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفّار والمذنبين وأعداء الحق.

وفي النهاية يؤكّد مضيفا أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة ، بل :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) فهنيئا لمن يتقدم ، وتعسا وترحا لمن يتأخر.

واحتمل البعض كون التقدم إلى الجحيم والتأخر عنه ، وقيل هو تقدم النفس

__________________

(١) «أسفر» من مادة (سفر) على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب ، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيها جميلا لطلوع الشمس.

(٢) «كبر» : جمع كبرى وهي كبيرة ، وقيل المراد بكون سقر إحدى الطبقات الكبيرة لجهنّم ، هذا المعنى لا يتفق مع ما أشرنا إليه من قبل وكذا مع الآيات.

(٣) «نذيرا» : حال للضمير في «أنّها» الذي يرجع إلى سقر ، وقيل هو تمييز ، ولكنه يصح فيما لو كان النذير مصدرا يأتي بمعنى (الإنذار) ، والمعنى الأوّل أوجه.

١٨١

الإنسانية وتكاملها أو تأخرها وانحطاطها ، والمعنى الأوّل والثّالث هما المناسبان ، دون الثّاني.

* * *

١٨٢

الآيات

( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) )

التّفسير

لم صرتم من أصحاب الجحيم؟

إكمالا للبحث الذي ورد حول النّار وأهلها في الآيات السابقة ، يضيف تعالى في هذه الآيات :( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) .

«رهينة» : من مادة (رهن) وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض ، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدي وظائفها وتكاليفها ، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت ، وإلّا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائما ، ونقل عن أهل اللغة أنّ أحد

١٨٣

معانيها الملازمة والمصاحبة(١) ، فيكون المعنى : الكلّ مقترنون بمعية أعمالهم سواء الصالحون أم المسيئون.

لذا يضيف مباشرة :( إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) .

إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنّة بدون حساب.(٢)

وهناك أقوال كثيرة حول المقصود من أصحاب اليمين :

فقيل هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم ، وقيل هم المؤمنون الذين لم يرتكبوا ذنبا أبدا ، وقيل هم الملائكة ، وقيل غير ذلك والمعنى الأوّل يطابق ظاهر الآيات القرآنية المختلفة ، وما له شواهد قرآنية ، فهم ذو وإيمان وعمل صالح ، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (٣) .

فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنّة بلا حساب ، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل ، كما جاء في سورة الإنشقاق آية (٧) :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) .

ونقل المفسّر المشهور «القرطبي» وهو من أهل السنة تفسير هذه الآية عن الإمام الباقرعليه‌السلام فقال : «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين وكل من أبغضنا أهل البيت فهم مرتهنون».(٤)

وأورد هذا الحديث مفسّرون آخرون منهم صاحب مجمع البيان ونور

__________________

(١) لسان العرب مادة : رهن.

(٢) قال الشّيخ الطوسي في التبيان أن الاستثناء هنا هو منقطع وقال آخرون كصاحب (روح البيان) أنّه متصل ، وهذا الاختلاف يرتبط كما ذكرنا بالتفسيرات المختلفة لمعنى الرهينة ، وما يطابق ما اخترناه من التّفسير هو أن الاستثناء هنا منقطع وعلى التفسير الثّاني يكون متصلا.

(٣) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٨٧٨.

١٨٤

الثقلين والبعض الآخر أورده تذييلا لهذه الآيات.

ثمّ يضيف مبيّنا جانبا من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم :

( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ ) (١) ( عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) .

يستفاد من هذه الآيات أن الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النّار ، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النّار والتحدث معهم ، ولكن ماذا سيجيب المجرمون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها :

الاولى :( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) .

لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة بالله تعالى ، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط الله المستقيم.

والأخرى :( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) .

وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين ، ولكن الظاهر أنه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموما بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.

وصرّح المفسّرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة ، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سببا في دخول النّار ، وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى على أنّ الزّكاة كانت قد فرضت بمكّة بصورة إجمالية ، وإن كان التشريع بجزئياتها وتعيين خصوصياتها وتمركزها في بيت المال كان في المدينة.

والثّالثة :( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) .

كنّا نؤيد ما يصدر ضدّ الحقّ في مجالس الباطل. نقوم بالترويج لها ، وكنّا معهم

__________________

(١) «يتساءلون» : وهو وإن كان من باب (تفاعل) الذي يأتي عادة في الأعمال المشتركة بين اثنين أو أكثر ، ولكنه فقد هذا المعنى هنا كما في بعض الموارد الأخرى ، ولمعنى يسألون ، وتنكير الجنات هو لتبيان عظمتها و (في جنات) خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو في جنات.

١٨٥

أين ما كانوا ، وكيف ما كانوا ، وكنّا نصدق أقوالهم ، ونضفي الصحة على ما ينكرون ويكذبون ونلتذ باستهزائهم الحقّ.

«نخوض» : من مادة (خوض) على وزن (حوض) ، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء ، ويطلق على الدخول والتلوث بالأمور ، والقرآن غالبا ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.

(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات الله للاستهزاء أو ما تروج فيها البدع ، أو المزاح الواقح ، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الافتخار والتلذذ بذكرها ، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والاتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك ، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الاستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.

وأخيرا يضيف :( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) .

من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية ، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم ، ويرفع كلّ مانع هذا الطريق ، خصوصا إذا استمر إلى آخر العمر ، على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ الكفار هم مكلّفون بفروع الدين ، كما هم مكلّفون بالأصول ، وكذلك تشير إلى أن الأركان الاربعة ، أي الصلاة والزّكاة وترك مجالس أهل الباطل ، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان ، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكانا للمصلين الواقعيين ، والمؤتين الزّكاة ، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.

بالطبع فإنّ الصلاة هي عبادة الله ، ولكنّها لا تنفع إذا لم يمتلك الإنسان الإيمان به تعالى ، ولهذا فإنّ أداءها رمز للإيمان والإعتقاد بالله والتسليم لأوامره ، ويمكن القول إنّ هذه الأمور الأربعة تبدأ بالتوحيد ينتهي بالمعاد ، وتحقق العلاقة والرابطة بين الإنسان والخالق ، وكذا بين المخلوقين أنفسهم.

١٨٦

والمشهور بين المفسّرين أنّ المراد من (اليقين) هنا هو الموت ، لأنّه يعتبر أمر يقيني للمؤمن والكافر ، وإذا شك الإنسان في شيء ما فلا يستطيع أن يشك بالموت ونقرأ أيضا في الآية (٩٩) من سورة الحجر :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

ولكن ذهب البعض إلى أنّ اليقين هنا يعني المعرفة الحاصلة بعد موت الإنسان وهي التي تختص بمسائل البرزخ والقيامة ، وهذا ما يتفق نوعا ما مع التّفسير الأوّل.

وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى :( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) .

فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل الله والائمّة ، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل ، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية ، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية ، لا يكن للماء الزلال أن يحييها ، وبعبارة أخرى كما قلنا في بحث الشفاعة ، فإنّ الشفاعة من (الشفع) وتعني ضم الشيء إلى آخر ، ومعنى هذا الحديث هو أنّ المشفّع له يكون قد قطع قسطا من الطريق وهو متأخر عن الركب في مآزق المسير ، فتضم إليه شفاعة الشافع لتعينه على قطع بقية الطريق(١) .

وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند الله ، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة ، وكذلك توكّد على أنّ للشفاعة شروطا وأنّها لا تعني إعطاء الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب ، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وإيصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع ، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين الله تعالى والأولياء.

* * *

__________________

(١) التّفسير الأمثل ، المجلد الأوّل ، ذيل الآية (٤٨) من سورة البقرة.

١٨٧

ملاحظة :

شفعاء يوم القيامة :

نستفيد من هذه الآيات والآيات القرآنية الأخرى أنّ الشفعاء كثيرون في يوم القيامة (مع اختلاف دائرة شفاعتهم) ويستفاد من مجموع الرّوايات الكثيرة والمنقولة من الخاصّة والعامّة أنّ الشفعاء يشفعون للمذنبين لمن فيه مؤهلات الشفاعة :

١ ـ الشفيع الأوّل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كما نقرأ في حديث حيث قال : «أنا أوّل شافع في الجنّة»(١) .

٢ ـ الأنبياء من شفعاء يوم القيامة ، كما ورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع الأنبياء في كلّ من يشهد أن لا إله إلّا الله مخلصا فيخرجونهم منها»(٢) .

٣ ـ الملائكة من شفعاء يوم المحشر ، كما نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يؤذن للملائكة والنّبيين والشّهداء أن يشفعوا»(٣) .

٤ ، ٥ ـ الأئمّة المعصومين وشيعتهم كما قال في ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال : «لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة»(٤)

٦ ، ٧ ـ العلماء والشّهداء كما ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء»(٥) .

وورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يشفع الشّهيد في سبعين إنسانا

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٣٠.

(٢) مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ١٢.

(٣) مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٤٣.

(٤) الخصال للصدوقرحمه‌الله ، ص ٦٢٤.

(٥) سنن ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ١٤٤٣.

١٨٨

من أهل بيته»(١) .

وفي حديث آخر نقله المجلسي في بحار الأنوار : «إنّ شفاعتهم تقبل في سبعين ألف نفر»(٢) .

ولا منافاة بين الرّوايتين إذ أنّ عدد السبعين والسبعين ألف هي من أعداد الكثرة.

٨ ـ القرآن كذلك من الشفعاء في يوم القيامة كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «واعلموا أنّه (القرآن) شافع مشفع»(٣) .

٩ ـ من مات على الإسلام فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بلغ الرجل التسعين غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفّع في أهله»(٤) .

١٠ ـ العبادة : كما جاء في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة»(٥) .

١١ ـ ورد في بعض الرّوايات أنّ العمل الصالح كأداء الأمانة يكون شافعا في يوم القيامة.(٦)

١٢ ـ والطريف هو ما يستفاد من بعض الرّوايات من أنّ الله تعالى أيضا يكون شافعا للمذنبين في يوم القيامة ، كما ورد في الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع النّبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي»(٧) .

والرّوايات كثيرة في هذه الباب وما ذكرناه هو جانب منها.(٨)

__________________

(١) سنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ١٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٠٠ ، ص ١٤.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ، ١٧٦.

(٤) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٨٩.

(٥) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ١٧٤.

(٦) مناقب ابن شهر آشوب ، ج ٢ ، ص ١٤.

(٧) صحيح البخاري ، ج ٩ ، ص ١٤٩.

(٨) للاستيضاح يمكن مراجعة كتاب مفاهيم القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٨٨ ـ ٣١١.

١٨٩

ونكرر أنّ للشفاعة شروطا لا يمكن بدونها التشفع وهذا ما جاء في الآيات التي بحثناها والتي تشير بصراحة الى عدم تأثير شفاعة الشفعاء في المجرمين ، فالمهم أن تكون هناك قابلية للتشفع ، لأنّ فاعلية الفاعل لوحدها ليست كافية (أوردنا شرحا مفصلا في هذا الباب في المجلد الأوّل في بحث الشفاعة)

* * *

١٩٠

الآيات

( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣)كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦) )

التّفسير

يفرّون من الحق كما تفرّ الحمر من الأسد :

تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النّار ، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحقّ والحقيقة.

فيقول الله تعالى أوّلا :( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (١) لم يفرّون من دواء

__________________

(١) «ما» مبتدأ و (لهم) خبر و (معرضين) حال الضمير لهم (وعن التذكرة) جار ومجرور ومتعلق بالمعرضين ، وقيل تقديم (عن التذكرة) على (معرضين) دلالة على الحصر أي أنّهم أعرضوا عن التذكرة المفيدة فقط ، على كل حال فإنّ المراد من التذكرة هنا كلّ ما هو نافع ومفيد وعلى رأسها القرآن المجيد.

١٩١

القرآن الشافي؟ لم يطعنون في صدر الطبيب الحريص عليهم؟ حقّا إنّه مثير( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) .

«حمر» : جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي ، بقرينة فرارهم من قبضة الأسد والصياد ، وبعبارة أخرى أنّ هذه الكلمة ذات مفهوم عام يشمل الحمار الوحشي والأهلي.

«قسورة» : من مادة (قسر) أي القهر والغلبة ، وهي أحد أسماء الأسد ، وقيل هو السهم ، وقيل الصيد ، ولكن المعنى الأوّل أنسب.

والمشهور أنّ الحمار الوحشي يخاف جدّا من الأسد ، حتى أنّه عند ما يسمع صوته يستولي عليه الرعب فيركض إلى كلّ الجهات كالمجنون ، خصوصا إذا ما حمل الأسد على فصيل منها ، فإنّها تتفرق في كل الجهات بحيث يعجب الناظر من رؤيتها.

وهذا الحيوان وحشي ويخاف من كل شيء ، فكيف به إذا رأى الأسد المفترس؟!

على كل حال فإنّ هذه الآية تعبير بالغ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح ، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور ، وكذلك لتوحشّهم من كل شيء ، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.

( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (١) ، وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من الله تعالى أن ينزل على كلّ واحد منهم كتابا.

وهذا نظير ما جاء في الآية (٩٣) من سورة الإسراء :( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى

__________________

(١) «صحف» : جمع صحيفة ، وهي الورقة التي لها وجهان ، وتطلق كذلك على الرسالة والكتاب.

١٩٢

تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) .

وكذا في الآية (١٢٤) من سورة الأنعام حيث يقول :( قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) .

وعلى هذا فإنّ كلّا منهم يتنظر أن يكون نبيّا من اولي العزم! وينزل عليه كتابا خاصّا من الله بأسمائهم ، ومع كل هذا فليس هناك من ضمان في أن يؤمنوا بعد كل ذلك.

وجاء في بعض الرّوايات أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا نؤمن بك حتى تأتينا بصحف من السماء عليها فلان ابن فلان من ربّ العالمين ، ويأتي الأمر علنا باتباعك والإيمان بك.(١)

ولذا يضيف في الآية الأخرى :( كَلَّا ) ليس كما يقولون ويزعمون ، فإنّ طلب نزول مثل لهذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية ، والحقيقة( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) .

إذا كانوا يخافون الآخرة فما كانوا يتذرعون بكل هذه الذرائع ، ما كانوا ليكذبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كانوا ليستهزئوا بآيات الله تعالى ، ولا بعدد ملائكته ، ومن هنا يتّضح أثر الإيمان بالمعاد في التقوى والطهارة من المعاصي والذنوب الكبيرة ، والحقّ يقال إن الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنسانا متكبرا ومغرورا وظالما إلى إنسان مؤمن متواضع ومتق عادل.

ثمّ يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطئ :( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) .

إنّ القرآن الكريم قد أوضح الطريق ، ودعانا إلى التبصر فيه ، وأنار لنا السبيل

__________________

(١) تفسير القرطبي ، والمراغي ، وتفاسير اخرى.

١٩٣

ليرى الإنسان موضع أقدامه ، وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلّا بتوفيق من الله وبمشيئته تعالى ، وما يذكرون إلّا ما يشاء الله.

ولهذا الآية عدّة تفاسير :

إحداها : كما ذكرناه سابقا ، وهو أن الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلّا بالتوسل بالله تعالى وطلب الموفقية منه.

وطبيعي أن هذا الإمداد والتوفيق الإلهي لا يتمّ إلّا بوجود أرضية مساعدة لنزوله.

والتّفسير الآخر : ما جاء في الآية السابقة :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) يمكن أن يوجد وهما وأنّ كل شيء مرتبط بإرادة الإنسان نفسه ، وأنّ إرادته مستقلة في كل الأحوال ، وتقول هذه الآية رافعة بذلك هذا الاشتباه ، إنّ الإنسان مرتبط بالمشيئة الإلهية ، وإن هذه الآية مختارا حرّا وهذه المشيئة هي الحاكمة على كل هذا العالم الموجود ، وبعبارة اخرى : إنّ هذا الاختبار والحرية والمعطاة للإنسان في بمشيئته تعالى وإرادته ، ويمكن سلبها أنّى شاء.

وأمّا التّفسير الثّالث فإنّه يقول : إنّهم لا يمكنهم الإيمان إلّا أن يشاء الله ذلك ويجبرهم ، ونعلم أنّ الله لا يجبر أحدا على الإيمان أو الكفر ، والتّفسير الأوّل والثّاني أنسب وأفضل.

وفي النهاية يقول :( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) .

فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكا له تعالى شأنه ، وأن يأملوا مغفرته ، وفي الحقيقة ، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية ، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة ، لذا نقرأ

في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «قال الله : أنا أهل

١٩٤

أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا وأنا أهل إن لم يشرك بي شيئا أن ادخله الجنّة»(١) .

وبالرغم من أنّ المفسّرين ـ كما رأينا ـ قد أخذوا التقوى هنا بمعناها المفعولي ، وقالوا إنّ الله تعالى أهل لأن يتّقى من الشرك والمعصية ، ولكن هناك احتمالا آخر ، وهو أنّ تؤخذ بمعناها الفاعلي ، أي أن الله أهل للتقوى من كلّ أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخاف الحكمة ، وما عند العباد من التقوى هو قبس ضعيف من ما عند الله ، وإنّ كان التعبير بالتقوى بمعناه الفاعلي والذي يقصد به الله تعالى قليل الاستعمال ، على كل حال فإنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف ، وانتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.

ونتعرض هنا بالدعاء إليه خاضعين متضرعين تعالى :

ربّنا! اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة.

اللهم! إن لم تشملنا ألطافك فإنّنا لا نصل إلى مرادنا ، فامنن علينا بعنايتك.

اللهم! أعنّا على طريق مليء بالمنعطفات والهموم والمصائد الشيطانية الصعبة ، وأعنا على الشيطان المتهيئ لإغوائنا ، فبغير عونك لا يمكننا المسير في هذا الطريق.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة المدّثّر

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٥.

١٩٥
١٩٦

سورة

القيامة

مكيّة

وعدد آياتها أربعون آية

١٩٧
١٩٨

«سورة القيامة»

محتوى السورة :

كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلّا بعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين ، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور :

١ ـ المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.

٢ ـ المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.

٣ ـ المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والانتقال إلى العالم الآخر.

٤ ـ الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.

فضيلة السورة :

في حديث روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنّه كا مؤمنا بيوم القيامة ، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة»(١) .

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام قال : «من أدمن قراءة( لا أُقْسِمُ ) وكان يعمل بها ، بعثها الله يوم القيامة معه في قبره ، في أحسن صورة

__________________

(١) مجمع البيان ، ١٠ ـ ، ص ٣٩٣.

١٩٩

تبشّره وتضحك في وجهه ، حتى يجوز الصراط والميزان»(١) .

والجدير بالملاحظة أنّ ما كنّا نستفيد منه في القرائن التي في فضائل تلاوة السور القرآنية قد صرّح بها الإمام هنا في هذه الرّواية حيث يقول : «من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها» ولذا فإنّ كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.

* * *

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢٠٠

ألمجد يعلم أنّ المجد من أربي

ولو تماديت في غيٍّ وفي لعبِ

إنّي لمن معشر إن جَّمعوا لِعُلى

تفرَّقوا عن نبيٍّ أو وصيِّ نبي

إذا هممتَ ففتِّش عن شبا هممي

تجده في مهجات الأنجم الشهبِ

وإن عزمتُ فعزمي يستحيل قذى

تدمي مسالكه في أعين النّوبِ

ومعرك صافحت أيدي الحمام به

طلى الرِّجال على الخرصان من كثبِ

حلَّت حباها المنايا في كتائبه

بالضرب فاجتثَّت الأجساد بالقضبِ

تلاقت البيض في الأحشاء فاعتنقت

والسمهريّ من الماذيِّ واليلبِ(١)

بكت على الأرض دمعاً من دمائهمُ

فاستعربت من ثغور النورِ والعشبِ

ويحدّثنا شعره أنَّه ما كان يَعدُّ الشعر لنفسه فضيلةً ومأثرةً بل كان يتَّخذه وسيلة إلى غرضه فيقول:

وما الشعر فخري ولكنَّما

أطول به همَّة الفاخرِ

انزِّهه عن لقاء الرِّجال

واجعله تحفة الزائرِ

فما يتهدّى إليه الملو

ك إلّا من المثَل السائرِ

وإنّي وإن كنت من إهله

لتنكر في حرفة الشاعرِ

ويقول:

وما قوليَ الأشعار إلّا ذريعة

إلى أمل قد آن قود جنيبهِ

وإنّي إذا ما بلّغ الله غاية

ضمنت له هجر القريض وحوبهِ

ويقول:

ما لك ترضى أن يقال:شاعرٌ ؟

بُعداً لها من عدد الفضايلِ

كفاك ما أروق من أغصانه

وطال من أعلامه الأطاولِ

فكم تكون ناظماً وقائلاً

وأنت غبّ القول غير فاعلِ؟!

وهو في شعره يرى نفسه أشعر الاُمم تارة، ويرى شعره فوق شعر البحتري ومسلم بن الوليد اُخرى، ويتواضع طوراً ويجعل نفسه زميل الفرزدق أو جرير، ويرى نفسه ضريباً لزهير، ومرَّة يتفوَّه بالحقِّ وينظر إلى شعره بعين الرِّضا ويرى كلامه

____________________

١ - الماذي:الدرع اللينة السهلة والسلاح كله. واليلب:الدروع من الجلود.

٢٠١

فوق كلّام الرِّجال، وقد أجمع الأكثرون إنَّه أشعر قريش قال الخطيب البغدادي في تاريخه ٢ ص ٢٤٦:سمعت أبا عبد الله محمَّد بن عبد الله الكاتب بحضرة أبي الحسين بن محفوظ وكان أحد الرؤساء يقول:سمعت جماعةً من أهل العلم بالأدب يقولون:ألرَّضي أشعر قريش. فقال إبن محفوظ:هذا صحيحٌ وقد كان في قريش من يجيد القول إلّا أنَّ شعره قليل، فأمّا مجيدٌ مكثرٌ فليس إلّا الرَّضي.

وحمل الثناة على أدبه وشعره كبقيَّة مآثره وفضائله وملكاته الفاضلة متواترة في المعاجم يضيق عن جمعها المجال، فنضرب عنها صفحاً روماً للإختصار، ونقتصر بذكر نبذةٍ يسيرةٍ، منها:

١ - قال النسّابة العمري في ( المجدي ):إنَّه نقيب نقباء الطالبيين ببغداد وكانت له هيبةٌ وجلالةٌ وفيه ورعٌ وعفَّةٌ وتقشّفٌ ومراعاةٌ للأهل وغيرةٌ عليهم وعسفٌ بالجاني منهم، وكان أحد علماء الزَّمان قد قرأ على أجلّاء الرِّجال وشاهدت له جزءاً مجلّداً من تفسير منسوب إليه في القرآن مليح حسن يكون بالقياس في كبر تفسير أبي جعفر الطبري أو أكبر، وشعره أشهر من أن يُدلَّ عليه، وهو أشعر قريش إلى وقتنا، وحسبك أن يكون قريش في أوَّلها الحرث بن هشام والعبلي وعمر بن أبي ربيعة، وفي آخرها بالنسبة إلى زمانه محمَّد بن صالح الموسوي الحسني، وعليّ بن محمّدِ الحمّاني(١) وإبن طباطبا الإصبهاني(٢)

٢ - قال الثعالبي في ( اليتيمة ):هو اليوم أبدع إبناء الزَّمان، وأنجب سادة العراق، يتحلّى مع محتده الشريف، ومفخره المنيف، بأدبٍ ظاهرٍ، وفضلٍ باهرٍ وحظٍّ من جميع المحاسن وافر، ثمَّ هو أشعر الطالبيِّين مَن مضى منهم ومَن غَبَر على كثرة شعرائهم المفلقين كالحِمّاني وإبن طباطبا وإبن الناصر وغيرهم، ولو قلت:إنَّه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أجريه من ذكره شاهد عدل من شعره العالي القِدح، الممنَّع عن القَدح، الذي يجمع إلى السلاسة متانةً، وإلي السهولة رصانةً، ويشتمل على معان يقرب جناها، ويبعد مداها، وكان أبوه يتولّى نقابة نقباء

____________________

١ - أحد شعراء الغدير في القرن الثالث مرت ترجمته ج ٣ ص ٥٧ - ٦٩.

٢ - أحد شعراء الغدير في القرن الرابع مرت ترجمته ج ص ٣٤٠ - ٣٤٧.

٢٠٢

الطالبيِّين ويحكم فيهم أجمعين والنظر في المظالم والحجِّ بالناس ثمَّ ردّت هذه الأعمال كلّها إلى ولده الرَّضي سنة ٣٨٨ وأبوه حيُّ.

٣ - قال إبن الجوزي في ( المنتظم ) ٧ ص ٢٧٩ كان الرَّضي نقيب الطالبيِّين ببغداد حفظ القرآن في مدَّة يسيرة بعد أن جاوز ثلاثين سنة وعرف من الفقه والفرائض طرفاً قويّاً وكان عالماً فاضلاً وشاعراً مترسِّلاً، عفيفاً عالي الهمَّة متدينا، اشترى في بعض الأيّام جزازاً من إمرأة بخمسة دراهم فوجد جزءاً بخّط أبي علي بن مقلة فقال:للدّلال أحضر المرأة فأحضرها فقال:قد وجدت في الجزاز جزءاً بخطِّ إبن مقلة فإن أردتِ الجزء فخذيه وإن إخترتِ ثمنه فهذه خمسة دراهم. فأخذتها ودعت له وانصرفت، وكان سخيّا جواداً.

٤ - قال إبن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة:حفظ الرَّضي القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدَّة يسيرةٍ وعرف من الفقه والفرائض طرفاً قويّاً، وكان عالماً أديبا، وشاعراً مفلقاً، فصيح النظم ضخم الألفاظ قادراً على القريض، متصرِّفاً في فنونه إن قصد الرِّقَّة في النسيب أتى بالعجب العجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يشقّ فيه غباره، وإن قصد في المراثي جاء سابقاً والشعراء منقطع أنفاسها على اثره، وكان مع هذا مترسلا ذا كتابة، وكان عفيفاً شريف النفس عالي الهمَّة مستلزماً بالدين وقوانينه، ولم يقبل من أحد صلةً ولا جائزةّ حتّى انَّه ردَّ صِلات أبيه.

٥ - قال الباخرزي في ( دمية القصر ) ص ٦٩:له صدر الوسادة بين الأئمّة و السادة وأنا إذا مدحته كنت كمن قال لذكاءٍ:ما أنورك، ولحضارةٍ:ما أغررك، وله شعرٌ إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه، وعقد بالنجم نواصيه، وإذا نسب انتسب رقَّة الهواء إلى نسيبه، وفاز بالقِدح المعلّى في نصيبه، حتّى إذا انشد الراوي غزليّاته بين يدي الفرهاة، لقال له من العزّ:هات، وإذا وصف فكأنَّه في الأوصاف أحسن من الوصائف والوصاف، وإن مدح تحيِّرت فيه الأوهام بين مادحٍ وممدوحٍ، له بين المتراهنين في الحلبتين سبق سابق مروح، وإن نثر حمدت منه الأثر، ورأيت هناك خرزات من العقد تنفضّ، وقطرات من المزن ترفضّ، ولعمري انَّ بغداد قد

٢٠٣

أنجبت به فبوّأته ظلالها، وأرضعته زلالها، وأنشقته شمالها، وورد شعره دجلتها فشرب منها حتّى شرق، وانغمس فيها حتّى كاد يقال:غرق، فكلّما انشدت محاسنه تنزَّهت بغداد في نضرة نعيمها، واستنشقت من أنفاس الهجير بمراوح نسيمها.

٦ - قال الرفاعي في ( صحاح الأخبار ) ص ٦١:كان أشعر قريش وذلك لإنَّ الشاعر المجيد من قريش ليس بمكثر والمكثر ليس بمجيد والرَّضي جمع بين فضلي الإكثار والإجادة، وكان صاحب ورع وعفّة وعدل في الأقضية وهيبة في النفوس.

ألقابه ومناصبه

لقّبه بهاء الدولة سنة ٣٨٨ بالشريف الأجلّ، وفي سنة ٣٩٢ بذي المنقبتين، وفي سنة ٣٩٨(١) بالرَّضي ذي الحسبين، وفي سنة ٤٠١ أمر أن تكون مخاطباته ومكاتباته بعنوان ( الشريف الأجلّ ) وهو أوَّل مَن خوطب بذلك من الحضرة الملوكيّة.

إنَّ المناصب والولايات كانت متكثِّرة على عهد سيِّدنا الشريف من الوزارة التنفيذيَّة والتفويضيّة، والأمارة على البلاد بقسميها العامّة والخاصَّة، والعامَّة بضربيها:استكفاءً بعقد عن إختيار، واستيلاء بعقد عن إضطرار، والإمارة على جهاد المشركين بقسميها:المقصورة على سياسة الجيش وتدبير الحرب، والمفوِّض معها إلى الأمير جميع أحكامها من قسم الغنائم وعقد الصلح، والإمارة على قتال أهل الردَّة، وقتال أهل البغي، وقتال المحاربين، وولاية القضاء، وولاية المظالم، وولاية النقابة بقسميها:العامَّة والخاصَّة وولاية إمامة الصَّلوات، وإمارة الحجِّ، وولاية الدواوين باقسامها، وولاية الحسبة، وغيرها من الولايات.

فمنها ما كان يخصُّ بالكتّاب والاُدباء، وآخر بالثقات ورجال العدل و النصفة، وثالث بالأماجد والأشراف والمترفين، ورابع باُباة الضيم وأصحاب البسالة والفروسيَّة، وخامس بذوي الآراء والفكرة القويَّة والدُّهاة، وسادس بأعاظم العلويِّين وأعيان العترة النبويَّة، وسابع بالفقهاء وأئمَّة العلم والدين.

وهناك ما يخصُّ بجامع تلكم الفضايل، ومجتمع هاتيك المآثر كسيِّدنا الشريف ذلك المثل الأعلى في الفضايل كلّها فعلى الباحث عن مواقفه ومقاماته ونفسيّاته

____________________

١ - في البداية والنهاية ج ١١ ص ٣٣٥ سنة ٣٩٦.

٢٠٤

الكريمة أن يقرأ ولو بصورة مصغَّرة دروس المناصب التي كان يتوّلاها الشريف فعندئذ يجد صورةً مكبَّرة تجاه عينيه ممثلّة من العلم والفقه والحكمة والثقة والسداد والأنفة والفتوِّة والهيبة والعظمة والجلال والروعة والوفاء وعزَّة النفس والرأي و الحزم والعزم والبسالة والعفَّة والسودد والكرم والإباء والغنى عن أيِّ أحد قد حليت بالأدب والشعر ولا يراها إلّا مثال الشريف الرَّضي.

تولىّ الشريف بنقابة الطالبيِّين، وإمارة الحاجّ والنظر في المظالم سنة ٣٨٠ وهو ابن ٢١ عاما على عهد الطائع، وصدرت الأوامر بذلك من بهاء الدولة وهو بالبصرة سنة ٣٩٧، ثمَّ عهد اليه في ١٦ محرَّم سنة ٤٠٣ بولاية اُمور الطالبيِّين في جميع البلاد فدُعي ( نقيب النقباء ) ويقال:إنَّ تلك المرتبة لم يبلغها أحدٌ من أهل البيت إلّا الإمام عليّ بن موسى الرِّضا سلام الله عليه الذي كانت له ولاية عهد المأمون، واُتيحت للشريف الخلافة على الحرمين على عهد القادر كما في المجلّد الأول من شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد وكان هو والولايات كما قيل:

لم تُشيِّد له الولايات مجداً

لا ولا قيل:رفَّعت مقداره

بل كساها وقد تحزَّمها الدهـ

ـرجلالاً وبهجةً ونضاره

وذكر تحليل المناصب التي توّلاها سيِّدنا الشريف وشروطها في تآليف علماء السلف وأفردوا فيها كتباً ونحن نأخذ مختصر ما في [ الأحكام السلطانيَّة ] للماوردي المتوفّى سنة ٤٥٠.

ألنقابة

ألنقابة موضوعةٌ على صيانة ذوي الأنساب الشريفة عن ولاية من لا يكافئهم في النسب، ولا يساويهم في الشرف، ليكون عليهم أحبى وأمره فيهم أمضى، وهي على ضربين:خاصَّة وعامَّة، وأمّا الخاصَّة فهو أن يقتصر بنظره على مجرَّد النقابة من غير تجاوز لها إلى حكم وإقامة حدّ فلا يكون العلم معتبراً في شروطها ويلزمه في النَّقابة على أهله من حقوق النظر اثنا عشر حقّاً:

١ - حفظ أنسابهم من داخل فيها وليس هو منها، أو خارج عنها وهو منها، فيلزمه حفظ الخارج منها كما يلزمه حفظ الداخل فيها ليكون النسب محفوظا على صحَّته

٢٠٥

معزوّاً إلى جهته.

٢ - تمييز بطونهم ومعرفة أنسابهم حتّى لا يخفى عليه منهم بنو أب، ولا يتداخل سب في نسب، ويثبتهم في ديوانه على تمييز أنسابهم.

٣ - معرفة من وُلد منهم من ذكر أو أنثى فيثبته، ومعرفة من مات منهم فيذكره، حتّى لا يضيع نسب المولود إن لم يثبته، ولا يدَّعي نسب الميت غيره إن لم يذكره:

٤ - أن يأخذهم من الآداب بما يضاهي شرف أنسابهم وكرم محتدهم لتكون حشمتهم في النفوس موقورة وحرمة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم محفوظة.

٥ - أن ينزّههم عن المكاسب الدنيئة. ويمنعهم من المطالب الخبيثة:حتّى لا يستقلَّ منهم مُبتذل، ولا يستضام منهم مُتذلِّل.

٦ - أن يكفَّهم عن ارتكاب المآثم، ويمنعهم من انتهاك المحارم، ليكونوا على الدين الذي نصره أغير، وللمنكر الذي أزالوه أنكر، حتّى لا ينطق بذمِّهم لسان، ولا يشنأهم إنسان.

٧ - أن يمنعهم من التسلّط على العامَّة لشرفهم والتشطط عليهم لنسبهم فيدعوهم ذلك إلى المقت والبغض، ويبعثهم على المناكرة والبعد، ويندبهم إلى استعطاف القلوب وتألّف النفوس، ليكون الميل إليهم أوفى والقلوب لهم أصفى.

٨ - أن يكون عوناً لهم في استيفاء الحقوق حتّى لا يضعفوا عنها، وعوناً عليهم في أخذ الحقوق منهم حتّى لا يمنعوا منها، ليصيروا بالمعونة لهم منتصفين، وبالمعونة عليهم منصفين.

٩ - أن ينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم العامَّة في سهم ذوي القربى في الفيئ والغنيمة الذي لا يخصُّ به أحدهم حتّى يقسِّم بينهم بحسب ما أوجبه الله لهم.

١٠ - أن يمنع أياماهم أن يتزوَّجن إلّا من الأكفاء لشرفهنَّ على ساير النساء صيانةً لأنسابهنَّ، وتعظيماً لحرمتهنَّ، أن يزوّجهنَّ غير الولاة، أو ينكحهنَّ غير الكفاة.

١١ - أن يقوم ذوي الهفوات منهم فيما سوى الحدود بما لا يبلغ به حدّاً، ولا ينهر به دماً، ويقيل ذا الهيئة منهم عثرته، ويغفر بعد الوعظ زلَّته.

٢٠٦

١٢ - مراعاة وقوفهم بحفظ اُصولها وتنمية فروعها، وإذا لم يرد إليه جبايتها راعي الجباة لها فيما أخذوه وراعى قسمتها إذا قسَّموه وميَّز المستحقّين لها إذا خصّت، وراعى أوصافهم فيها إذا شرطت، حتّى لا يخرج منهم مستحّق، ولا يدخل فيها غير محقّ.

ألنقابة العامة

فعمومها أن يردَّ إلى النقيب في النقابة عليهم مع ما قدّمناه من حقوق النظر خمسة أشياء.

١ - ألحكم بينهم فيما تنازعوا فيه.

٢ - ألولاية على أيتامهم فيما ملكوه.

٣ - إقامة الحدود عليهم فيما ارتكبوه.

٤ - تزويج الأيامى اللّاتي لا يتعيَّن أوليائهنَّ أو قد تعيَّنوا فعضلوهنَّ.

٥ - ايقاع الحجر على من عته منهم أو سفه، وفكّه إذا أفاق ورشد.

فيصير بهذه الخمسة عامَّ النقابة فيعتبر حينئذ في صحّة نقابته وعقد ولايته أن يكون عالماً من أهل الإجتهاد ليصحَّ حكمه، وينفذ قضاؤه. إلى آخر ما في ( الأحكام السلطانيَّة ) ص ٨٢ - ٨٦. وهذه النقابة هي التي كانت ولايتها لسيِّدنا المترجَم.

ولاية المظالم

نظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاهد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفَّة، قليل الطمع، كثير الورع، لأنَّه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة، وثبت القضاة فيحتاج إلى الجميع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين، فإن كان ممَّن يملك الاُمور العامَّة كالوزراء والأمراء لم يحتج النظر فيها إلى تقليد وكان له بعموم ولايته النظر فيها، وإن كان ممَّن لم يفوّض إليه عموم النظر إحتاج إلى تقليد وتولية إذا اجتمعت فيه الشروط المتقدِّمة، وهذا إنَّما يصحّ فيمن يجوز أن يُختار لولاية العهد، أو لوزارة التفويض، أو لإمارة الأقاليم، إذا كان نظره في المظالم عامّاً فإن اقتصر به على تنفيذ ما عجز القضاة عن

٢٠٧

تنفيذه، وإمضاء ما قصرت يدهم عن امضائه حاز أن يكون دون هذه الرُّتبة في القدر والخطر بعد أن لا تأخذه في الحقِّ لومة لائم، ولا يستشفّه الطمع إلى رشوة. إلى آخر ما في ( الأحكام السلطانيَّة ) ص ٦٤ - ٨٢.

ألولاية على الحج

ألولاية على الحجِّ ضربان:أحدهما أن تكون على تسيير الحجيج، والثاني على إقامة الحجّ، فأمّا تسيير الحجيج فهو ولاية سياسة وزعامة وتدبير. والشروط المعتبرة في المولى أن يكون مطاعاً ذا رأي وشجاعةٍ وهيبةٍ وهدايةٍ، والذي عليه في حقوق هذه الولاية عشرة أشياء.

١ - جمع الناس في مسيرهم ونزولهم حتّى لا يتفرَّقوا فيخاف عليهم التَّوى والتغرير.

٢ - ترتيبهم في المسير والنزول بإعطاه كلّ طائفة منهم مقاداً حتّى يعرف كلُّ فريق منهم مقاده إذا سار، ويألف مكانه إذا نزل، فلا يتنازعون فيه ولا يضلّون عنه.

٣ - يرفق بهم في السير حتّى لا يعجز عنه ضعيفهم، ولا يضلُّ عنه منقطعهم، وروي عن النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم انَّه قال:ألضعيف أمير الرفقة. يُريد أنَّ من ضعف دوابّه كان على القوم أن يسيروا بسيره.

٤ - أن يسلك بهم أوضح الطرق وأخصبها ويتجنَّب أجدبها وأوعرها.

٥ - أن يرتاد لهم المياه إذا انقطعت والمراعي إذا قلّت.

٦ - أن يحرسهم إذا نزلوا ويحوطهم إذا رحلوا حتّى لا يتخطَّفهم داعرٌ ولا يطمع فيهم متلصِّص.

٧ - أن يمنع عنهم من يصدّهم عن المسير، ويدفع عنهم من يحصرهم عن الحجِّ بقتال إن قدر عليه، أو ببذل مال إن أجاب الحجيج إليه، ولا يسعه أن يجبر أحداً على بذل الخفارة إن امتنع منها، حتّى يكون باذلاً لها عفواً ومجيباً إليها طوعاً، فإنَّ بذل المال على التمكين من الحجّ لا يجب.

٨ - أن يُصلح بين المتشاجرين ويتوسَّط بين المتنازعين، ولا يتعرَّض للحكم بينهم إجباراً إلا أن يفوَّض الحكم إليه، فيُعتبر فيه أن يكون من أهله فيجوز له حينئذ ألحكم بينهم، فإن دخلوا بلداً فيه حاكمٌ جاز له ولحاكم البلد أن يحكم بينهم فأيّهما

_١٣_

٢٠٨

حكم نفذ حكمه.

٩ - أن يقوِّم زائغهم ويؤدِّب خائنهم ولا يتجاوز التعزير إلى الحدّ إلّا أن يُؤذن له فيستوفيه إن كان من أهل الإجتهاد فيه.

١٠ - أن يراعي اتِّساع الوقت حتّى يؤمن الفوات ولا يلجئهم ضيقه إلى الحثِّ في السير، فإذا وصل إلى الميقات أمهلهم للإحرام وإقامة سننه.

وأمّا الولاية على إقامة الحجِّ فالوالي فيه بمنزلة الإمام في إقامة الصَّلوات، فمَن شروط الولاية عليه مع الشروط المعتبرة في أئمَّة الصلوات أن يكون عالماً بمناسك الحجِّ وأحكامه، عارفاً بمواقيته وأيّامه، وتكون مدَّة ولايته مقدَّرة بسبعة أيّام أوَّلها من صلاة الظهر في اليوم السابع من ذي الحجَّة وآخرها يوم الثالث عشر من ذي الحجَّة، وعلى الذي يختصُّ بولايته خمسة أحكام متَّفقٌ عليها وسادس مختلفٌ فيه ألا وهي:

١ - إشعار الناس بوقت إحرامهم والخروج إلى مشاعرهم ليكونوا له متَّبعين وبأفعاله مقتدين.

٢ - ترتيبهم للمناسك على ما استقرَّ الشرع عليه لأنَّه متبوعٌ فيها فلا يقدِّم مؤخَّراً ولا يؤِّخر مقدَّماً سواء كان الترتيب مستحقّاً أو مستحبّاً.

٣ - تقدير المواقف بمقامه فيها ومسيره عنها كما تقدَّر صلاة المأمومين بصلاة الإمام.

٤ - إتِّباعه في الأركان المشروعة فيها، والتأمين على أدعيته بها ليتّبعوه في القول كما اتَّبعوه في العمل.

٥ - إمامتهم في الصَّلوات. وأمَّا السادس المختلف فيه:حكمه بين الحجيج فيما لا يتعلّق بالحجِّ، وإقامة التعزير والحدّ في مثله. ا ه‍.

تولّى الشريف الرَّضي هذه الإمارة منذ صباه في أكثر أيّام حياته ووزيراً لأبيه ونائباً عنه، ومستقلّاً بها من سنة ٣٨٠، وله فيها مواقف عظيمة سجَّلها التاريخ وأبقى له ذكرى خالدة، قال أبو القاسم بن فهد الهاشمي في ( إتحاف الورى بأخبار القرى ) في حوادث سنة ٣٨٩:حجَّ فيها الشريفان المرتضى والرَّضي فاعتقلهما في الطريق إبن الجراح الطائي فأعطياه تسعة آلاف دينار من أموالهما.

٢٠٩

ولادته ووفاته

وُلد الشريف الرَّضي ببغداد سنة ٣٥٩ بإطباق من المؤرِّخين ونشأ بها(١) وتوفي بها يوم الأحد ٦ محرّم(٢) سنة ٤٠٦ كما في معجم النجاشي. وتاريخ بغداد للخطيب. و عمدة الطالب. والخلاصة. وغيرها.

فما في شذرات الذهب:انَّه توفّي بكرة الخميس. فهو من خطأ النسّاخ فإنَّه نقله عن تاريخ ابن خلكان وفي التاريخ:بكرة يوم الأحد. لا الخميس. وأمّا ما في ( دائرة المعارف ) لفريد وجدي ٤ ص ٢٥٣ من انَّه توفي ٤٠٤ فأحسبه مأخوذاً من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، أو انَّه خطأ من الناسخ، وقد أرَّخه فريد وجدي صحيحاً في دائرة المعارف ج ٩ ص ٤٨٧ ب‍ ٦ محرم سنة ٤٠٦، وقد رثى الشريف الرَّضي معاصره أبا الحسن أحمد بن علي البتي المتوفّى سنة ٤٠٥ في شعبان بقصيدة توجد في ديوانه ج ١ ص ١٣٨، وقال جامع الديوان:وبعده بشهور توفي الرَّضي ( رض ).

وعند وفاته حضر إلى داره الوزير أبو غالب فخر الملك وسائر الوزراء والأعيان والأشراف والقضاة حفاةً ومشاةً وصلّى عليه فخر الملك ودُفن في داره الكائنة في محلّة الكرخ بخطِّ مسجد الأنباريِّين(٣) ولم يشهد جنازته أخوه الشريف المرتضى ولم يصلّ عليه ومضى من جزعه عليه إلى الإمام موسى بن جعفر عليهما السَّلام لأنَّه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته، ومضى فخر الملك بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره.

ذكر كثيرٌ من المؤلِّفين نقل جثمانه إلى كربلاء المشرَّفة بعد دفنه في داره بالكرخ فدُفن عند أبيه أبي أحمد الحسين بن موسى، ويظهر من التاريخ انَّ قبره كان في القرون الوسطى مشهوراً معروفاً في الحائر المقدَّس قال صاحب ( عمدة الطالب):وقبره في كربلاء ظاهرٌ معروفٌ. وقال في ترجمة أخيه المرتضى:دُفن عند أبيه وأخيه وقبورهم

____________________

١ - قال جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة ٢ ص ٢٥٧:وكان يقيم في سر من رأى ( سامرا ) وكم له لدة هذا في تاريخه مما يميط الستر عن جهله بتاريخ الشيعة ورجالهم.

٢ - في تاريخ ابن خلكان:وقيل:في صفر. وفي تاريخ ابن كثير:خامس المحرم.

٣ - ينسب اليهم لكثرة من سكنه منهم.

٢١٠

ظاهرةٌ مشهورةٌ. وقال الرفاعي المتوفّى ٨٨٥ في ( صحاح الأخبار ) ص ٦٢:نُقل المرتضى إلى مشهد الحسين بكربلا كأبيه وأخيه ودُفن هناك وقبره ظاهرٌ معروفٌ.

وهذا قريبٌ إلى الإعتبار لأنَّ بني إبراهيم المجاب قطنوا الحائر المقدَّس و جاوروا الإمام السبط سلام الله عليه فدفن فيه إبراهيم المذكور بمقربة ممّا يلي رأس قبر الإمامعليه‌السلام فاتَّخذ بنوه تربته مدفناً لهم، وكان من قطن منهم بغداد أو البصرة كبني موسى الأبرش ينقل بعد موته إلى تربة جدِّه، وقد ثبت انَّ والد الشريف المترجَم نُقل إلى الحائر المقدَّس قبل دفنه ودُفن بها، م - أو دُفن في داره أوّلاً ثمَّ نُقل الى مشهد الحسين كما في ( المنتظم ) لابن الجوزي ٧ ص ٢٤٧ ] وصحَّ ايضاً نقل جثمان الشريف علم الهدى المرتضى إلى الحائر بعد دفنه في داره، وكانت تولية تلك التربة المقدَّسة بيدهم، وما كان يُدفن هناك أيّ أحد إلّا بإجازةٍ منهم كما مرَّ في ترجمة الوزير أبي العبّاس الضبيّ في هذا الجزء ص ١٠٦.

وقد رثى الشريف الرضي غير واحد ممّن عاصروه وفي مقدَّمهم أخوه علم الهدى بقوله:

يا للرجال لفجعةٍ جذمتْ يدي

ووددتُ لو ذهبتْ عليَّ برأسي

ما زلت أحذر وقعها حتّى أتت

فحسوتها في بعض ما أنا حاسي

ومطلتها زمناً فلمّا صمّمت

لم يجدني مطلي وطول مكاسي

لا تنكروا من فيض دمعي عبرةً

فالدمع غير مساعدٍ ومُواسي

لِلَّه عمرك من قصير طاهر

ولربّ عمر طال بالأدناسِ

وممَّن رثاه تلميذه في الأدب مهيار الديلمي المترجَم في شعراء القرن الخامس رثاه بقصيدتين إحديهما ذات ٧٠ بيتاً توجد في ديوانه ج ٣ ص ٣٦٦ مستهلّها:

من جبَّ غارب هاشمٍ وسنامها ؟!

ولوى لويّاً فاستزلَّ مقامها ؟!

وغزا قريشاً بالبطاح فلفَّها

بيد ؟! وقوَّض عزَّها وخيامها ؟!

وأناخ في مضر بكلكل خسفه

يستام واحتملت له ما سامها ؟!

من حلَّ مكّة فاستباح حريمها

والبيت يشهد واستحلَّ حرامها ؟!

ومضى بيثرب مُذعجاً ما شاء من

تلك القبور الطاهرات عظامها ؟!

٢١١

يبكي النبيّ ويستنيح لفاطم

بالطفِّ في إبنائها أيّامها

ألدين ممنوع الحمى، من راعه ؟!

والدار عالية البنا، من رامها ؟!

أتناكرت أيدي الرجال سيوفها

فاستسلمت أم أنكرت إسلامها؟!؟!

أم غال ذا الحسبين حامي ذودها

قدرٌ أراح على الغدوِّ سوامها ؟!

وقصيدته الاُخرى ٤٠ بيتاً توجد في ديوانه ج ١ ص ٢٤٩ مطلعها:

أقريش لا لفم أراك ولا يدِ

فتواكلي غاض الندى وخلي الندي

ولشهرة القصيدتين ووجودهما في غير واحد من الكتب والمعاجم فضلاً عن ديوان مهيار ضربنا عنهما صفحا.

ومن نماذج شعر الشريف الرَّضي في المذهب قوله يفتخر بأهل البيت ويذكر قبورهم ويتشوَّق إليها:

ألا لِلَّه بادرة الطلابِ

وعزم لا يروّع بالعتابِ

وكلّ مشمّر البردين يهوي

هويّ المصلتات إلى الرقابِ

اُعاتبه على بُعد التنائي

ويعذلني على قرب الأيابِ

رأيت العجز يخضع للّيالي

ويرضي عن نوائبها الغضابِ

ولولا صولة الأيّام دوني

هجمت على العلى من كلِّ بابِ

ومن شيم الفتى العربيّ فينا

وصال البيض والخيل العرابِ

له كذب الوعيد من الأعادي

ومن عاداته صدق الضرابِ

سأدّرع الصوارم والعوالي

وما عرّيت من خلع الشبابِ

واشتمل الدجى والركب يمضي

مضاء السيف شذَّ عن القرابِ

وكم ليلٍ عبأت له المطايا

ونار الحيّ حائرة الشهابِ

لفيت الأرض شاحبة المحيّا

تلاعب بالضراغم والذئابِ

فزعت إلى الشحوب وكنت طلقاً

كما فزع المشيب إلى الخضابِ

ولم نر مثل مُبيضِّ النواحي

تعذّبه بمُسودِّ الإهابِ

أبيت مضاجعاً أملي وإنّي

أرى الآمال أشقى للركابِ

٢١٢

إذا ما اليأس خيّبنا رجونا

فشجّعنا الرجاء على الطلابِ

أقول إذا استطار من السواري

زفون القطر رقّاص الحبابِ(١)

كأنَّ الجوَّ غصَّ به فأومى

ليقذفه على قمم الشعابِ

جديرٌ أن تصافحه الفيافي

ويسحب فوقها عذب الربابِ(٢)

إذا همَّ التلاع رأيت منه

رضاباً في ثنيّات الهضابِ(٣)

سقى الله المدينة من محلّ

لباب الماء والنطف العذابِ

وجاد على البقيع وساكنيه

رخيّ الذيل ملآن الوطابِ

وأعلام الغريّ وما استباحتْ

معالمها من الحسب اللبابِ

وقبر بالطفوف يضمُّ شلواً

قضى ظمأ إلى بَرد الشَّرابِ

وبغدادٍ وسامرّا وطوسٍ

هطول الودق منخرق العبابِ

قبورٌ تنطف العبرات فيها

كما نطف الصبير(٤) على الروابي

فلو بخل السِّحاب على ثراها

لذابت فوقها قطع السَّرابِ

سقاك فكم ظمئت إليك شوقاً

علىُ عدواء داري واقترابي

تجافي يا جنوب الريح عنِّي

وصوني فضل بردكِ عن جنابي

ولا تسري إليّ مع الليالي

وما استحقبت* من ذاك الترابِ

قليلٌ أن تُقاد له الغوادي(٥)

وتنحر فيه أعناق السّحابِ

أما شرق التراب بساكنيه

فيلفظهم إلى النّعم الرغابِ

فكم غدت الضغائن وهي سكرى

تدير عليهمٌ كأس المصابِ

صلاة الله تخفق كلِّ يوم

على تلك المعالم والقباب

و انّي لا أزال أكرّ عزمي

وإن قلَّت مساعدة الصحاب

____________________

١ - زفون القطر:دفاع المطر. الحباب:فقاقيع الماء.

٢ - الرباب:السحاب الابيض.

٣ - التلاع ج التلعة:ما علا الارض. ما سفل منها. الهضاب:أعالي الجبال.

٤ - نطف:سال. الصبير:السحاب الذي يصير بعضه فوق بعض

* استحقبت:أدخرت.

٥ - ألغوادي جمع الغادية وهي:ألسحابة.

٢١٣

واخترق الرِّياح إلى نسيم

تطلَّع من تراب أبي ترابِ

بودّي أن تطاوعني الليالي

وينشب في المنىِ ظفري ونابي

فأرمي العيس نحوكم سهاماً

تغلغل بين أحشاء الروابي

ترامى باللغام على طلاها

كما انحدر الغثاء عن العقابِ(١)

وأجنب بينها خرق المذاكي

فاُملي باللغام على اللغابِ(٢)

لعلّي أن ابلّ بكم غليلاً

تغلغل بين قلبي والحجابِ

فما لقياكُم إلّا دليلٌ

على كنز الغنيمة والثوابِ

ولي قبران بالزوراء أشفي

بقربهما نزاعي واكتئابي

أقود إليهما نفسي واُهدي

سلاماً لا يحيد عن الجوابِ

لقائهما يطهِّر من جناني

ويدرأ عن ردائي كلَّ عابِ

قسيم النار جدّي يوم يلقى(٣)

به باب النجاة من العذابِ

وساقي الخلق والمهجات حرّى

وفاتحة الصِّراط إلى الحسابِ

ومن سمحت بخاتمه يمين(٤)

تضنّ بكلِّ عالية الكعابِ

أما في باب خيبر معجزات

تُصدَّق ؟! أو مناجاة الحبابِ ؟!

أرادت كيده والله يأبى

فجاء النصر من قبل الغرابِ(٥)

أهذا البدر يكسف بالدَّياجي؟

وهذي الشمس تُطمس بالضبابِ

وكان إذا استطال عليه جانٌ

يرى ترك العقاب من العقابِ

أرى شعبان يذكرني اشتياقي

فمَن لي أن يذكّركم ثوابي

بكم في الشعر فخرٌ لا بشعري

وعنكم طال باعي في الخطابِ

اُجلّ عن القبائح غير أنّي

لكم أرمي واُرمى بالسبابِ

____________________

١- اللغام:لعاب الابل. والطلى:العنق. الغثاء:البالي من ورق الشجر المخالط زبد السيل العقاب جمع عقبة:مرقى صعب من الجبال.

٢ - اجنب:أقود. اللغاب:السهم لم يحسن بريه.

٣ - اشار الى حديث مر بيانه في ج ٣ ص ٢٩٩.

٤ - اشار الى تصدقه بخاتمه وقد مر حديثه ج ٢ ص ٤٧ و ج ٣ ص ١٥٥ - ١٦٢.

٥ - اشار الى حديث الحباب الذي اسلفناه ج ٢ ص ٢٤١، ٢٤٢.

٢١٤

فأجهر بالولاء ولا اُورّي

وانطق بالبراء ولا أحابي

ومن أولى بكم منّي وليّاً

وفي أيديكمُ طرف انتسابي ؟!

محبّكمُ ولو بغضت حياتي

وزائركم ولو عقرت ركابي

تباعد بيننا غير الليالي

ومرجعنا إلى النسب القرابِ

وقال يرثي الإمام السبط المفدّى الحسين بن عليّ عليهما السَّلام في يوم عاشوراء سنة ٣٩١:

هذي المنازلُ بالغميم فنادها

واسكب سخيَّ العين بعد جمادها

إن كان دينٌ للمعالم فاقضه

أو مهجةٌ عند الطلول ففادها

يا هل تبلّ من الغليل إليهمُ

اشرافة للركب فوق نجادها ؟!

نوئ كمنعطف الحنية دونه

سحم الخدود لهنَّ إرث رمادها

ومناط أطنابٍ ومقعد فتيةٍ

تخبو زناد الحيِّ غير زنادها

ومجرّ ارسان الجياد لغلمة

سجفوا البيوت بشقرها وورادها

ولقد حبست على الديار عصابة

مضمومة الأيدي إلى أكبادها

حسرى تجاوب بالبكاء عيونها

وتعطّ بالزفرات في ابرادها

وقفوا بها حتّى كأنّ مطيّهم

كانت قوائمهنَّ من أوتادها

ثمَّ انثنت والدمع ماء مزادها

ولواعج الأشجان من أزوادها

من كلِّ مُشتملٍ حمايل رنَّة

قطر المدامع من حليّ نجادها

حيَّتك بل حيَّت طلوعك ديمة

يشفي سقيم الربع نفث عهادها

وغدت عليك من الخمايل يمنة

تستام نافقة على روّادها(١)

هل تطلبون من النواظر بعدكم

شيئاً سوى عبراتها وسهادها ؟!

لم يبق ذخرٌ للمدامع عنكُم

كلّا ولا عينٌ جرى لرقادها

شغل الدموع عن الديار بكاؤنا

لبكاء فاطمة على أولادها

لم يخلفوها في الشهيد وقد رأى

دفع الفرات يزاد عن أورادها

أترى درت انَّ الحسين طريدةٌ

لقنا بني الطرداء عند ولادها ؟!

____________________

١ - الخمايل ج خميلة:القطيفة. اليمنة:برد يمنى. تستام:تسأل السوم.

٢١٥

كانت مآتم بالعراق تعدّها

أموَّيةٌ بالشام من أعيادها

ما راقبت غضب النبيّ وقد غدا

زرع النبيّ مظنَّةً لحصادها

باعت بصائر دينها بضلالها

وشرت معاطب غيِّها برشادها

جعلت رسول الله من خصمائها

فلبئس ما ذخرت ليوم معادها

نسل النبيِّ على صعاب مطيِّها

ودم النبيِّ على رؤوس صعادها

وا لهفتاه لعصبةٍ علوَّيةٍ

تبعت اُميَّة بعد عزِّ قيادها

جعلت عران الذلِّ في آنافها

وعلاط وسم الضيم في أجيادها(١)

زعمت بأنَّ الدين سوَّغ قتلها

أو ليس هذا الدين عن أجدادها ؟!

طلبت تراث الجاهليَّة عندها

وشفت قديم الغلِّ من أحقادها

واستأثرت بالأمر عن غيّابها

وقضت بما شاءت على شُهّادها

ألله سابقكم إلى أرواحها

وكسبتم الآثام في أجسادها

إن قوَّضت تلك القباب فإنَّما

خرَّت عماد الدين قبل عمادها

إنَّ الخلافة أصبحت مزويَّة

عن شعبها ببياضها وسوادها

طمست منابرها علوج اُميَّة

تنزو ذئابهمُ على أعوادها

هي صفوة الله التي أوحى لها

وقضى أوامره إلى أمجادها

أخذت بأطراف الفخار فعاذرٌ

أن يصبح الثقلان من حُسّادها

ألزهد والأحلام في فتّاكها

والفتك لولا الله في زُهّادها

عصبٌ يقمَّط بالنجاد وليدها

ومهود صبيتها ظهور جيادها

تروي مناقب فضلها أعداؤها

أبداً وتسنده إلى أضدادها

يا غيرة الله اغضبي لنبيَّه

وتزحزحي بالبيض عن أغمادها

من عصبة ضاعت دماء محمّد

وبنيه بين يزيدها وزيادها

صفدات مال الله ملء أكفِّها

وأكفُّ آل الله في أصفادها(٢)

ضربوا بسيف محمّد إبناءه

ضرب الغرائب عدن بعد ذيادها

____________________

١ - العران:عود يجعل في انف البعير العلاط:حبل يجعل في عنق البعير.

٢ - الصفدات من الصفد:العطاء. والأصفاد:الاغلال.

٢١٦

قد قلت للركب الطلاح كأنَّهم

ربد النسور على ذرى أطوادها(١)

يحدو بعوج كالحني أطاعه

مُعتاصها فطغى على مُنقادها

حتّى تخيّل من هباب رقابها

أعناقها في السير من أعدادها

قف بي ولو لوث الأزار فإنَّما

هي مهجة علق الجوى بفؤادها

بالطفّ حيث غدا مراق دمائها

ومناخ اينقها ليوم جلادها

ألفقر من أرواقها والطير من

طرّاقها والوحش من عوّادها

تجري لها حبب الدموع وإنَّما

حبّ القلوب يكنُّ من أمدادها

يا يوم عاشوراء كم لك لوعة

تترقَّص الأحشاء من ايقادها

ما عدتَ إلّا عاد قلبي غلّة

حرّى ولو بالغت في إبرادها

مثل السليم مضيضة آناؤه

خزر العيون تعوده بعدادها

يا جدّ لا زالت كتائب حسرة

تغشى الضمير بكرِّها وطرادها

أبداً عليك وأدمعٌ مسفوحةٌ

إن لم يراوحها البكاء يغادها

هذا الثناء وما بلغت وإنَّما

هي حلبة خلعوا عذار جوادها

أأقول:جادكم الربّيع ؟ وأنتمُ

في كلِّ منزلة ربيع بلادها

أم استزيد لكم علاً بمدائحي ؟!

أين الجبال من الربى ووهادها ؟!

كيف الثناء على النجوم إذا سمت

فوق العيون إلى مدى أبعادها ؟!

أغنى طلوع الشمس عن أوصافها

بجلالها وضيائها وبعادها

وقال يرثي جدّه الإمام السبط الشهيد في عاشوراء سنة ٣٧٧:

صاحت بذودي بغداد فآنسني

تقلّبي في ظهور الخيل والعيرِ

وكلّما هجهجت بي عن منازلها

عارضتها بجنانٍ غير مذعورِ

أطغى على قاطنيها غير مكترثٍ

وأفعل الفعل فيها غير مأمورِ

خطبٌ يهدِّدني بالبعد عن وطني

وما خُلقت لغير السرج والكورِ

إنّي وإن سامني ما لا اُقاومه

فقد نجوت وقدحي غير مقمورِ

____________________

١ - الطلح:المهزول والمعى ج أطلاح. الربدة:الغبرة. يقال:اربد لونه:تغير. وتربد الرجل:تعبس.

٢١٧

عجلان ألبس وجهي كلَّ داجية

والبرّ عريان من ظبي ويعفورِ

وربَّ قايلة والهمُّ يتحفني

بناظر من نطاف الدمع ممطورِ

:خفِّض عليك فللأحزان آونة

وما المقيم على حُزن بمعذورِ

فقلت:هيهات فات السمع لائمه

لا يفهم الحزن إلّا يوم عاشورِ

يومٌ حدى الظعن فيه بابن فاطمة

سنان مطَّرد الكعبين مطرورِ

وخرَّ للموت لا كفُّ تقلِّبه

إلّا بوطئ من الجُرد المحاضيرِ

ظمأن سلّى نجيع الطعن غلّته

عن باردٍ من عباب الماء مقرورِ(١)

كأنَّ بيض المواضي وهي تنهبه

نارٌ تحكّم في جسمٍ من النورِ

لِلَّه مُلقى على الرَّمضاء عضَّ به

فم الرَّدى بين إقدام وتشميرِ

تحنو عليه الرُّبى ظلّا وتستره

عن النواظر أذيال الأعاصيرِ(٢)

تهابه الوحش أن تدنو لمصرعه

وقد أقام ثلاثاً غير مقبورٍ

وموردٌ غمرات الضربّ غُرَّته

جرَّت إليه المنايا بالمصاديرِ

ومُستطيلٌ على الأزمان يقدرها

جنى الزمان عليها بالمقاديرِ

أغرى به ابن زيادٍ لؤم عنصره

وسعيه ليزيد غير مشكورِ

وودّ أن يتلافى ما جنت يده

وكان ذلك كسراً غير مجبورِ

تُسبى بنات رسول الله بينهمُ

والدين غضُّ المبادي غير مستورِ

إن يظفر الموت منّا بابن منجبة

فطالما عاد ريّان الأظافيرِ

يلقى القنا بجبين شانَ صفحته

وقع القنا بين تضميخٍ وتعفيرِ

من بعد ما ردَّ أطراف الرِّماح به

قلبٌ فسيح ورائ غير محصورِ

والنقع يسحب من أذياله وله

على الغزالة جيبٌ غير مزرورِ

في فيلقٍ شرقٍ بالبيض تحسبه

برقاً تدلّى على الآكام والقورِ(٣)

بني اُميَّة ما الأسياف نائمةٌ

عن شاهر في أقاصي الأرض موتورِ

____________________

١ - مقرور من القر. البرد.

٢ - الاعاصير ج الاعصار. ريح ترتفع بالتراب.

٣ - القور جمع القارة:الجبل الصغير المنقطع عن الجبال.

٢١٨

والبارقات تلوّى في مغامدها

والسابقات تمطَّى في المضاميرِ

إنّي لأرقب يوماً لا خفاء له

عريان يقلق منه كلّ مغرورِ

وللصَّوارم ما شاءت مضاربها

من الرِّقاب شرابٌ غير منزورِ

أكلّ يوم لآل المصطفى قمرٌ

يهوى بوقع العوالي والمباتيرِ ! ؟

وكلّ يوم لهم بيضاء صافية

يشوبها الدهر من رنقٍ وتكديرِ

مغوار قوم يروع الموت من يده

أمسى وأصبح نهياً للمغاويرِ

وأبيض الوجه مشهور تغطرفه

مضى بيوم من الأيّام مشهورِ

ما لي تعجَّبتَ من همّي ونقرته

والحزن جرحٌ بقلبي غير مسبورِ

بأيِّ طرف أرى العلياء إنُ نضبت

عيني ؟ ولجلجت عنها بالمعاذيرِ

ألقى الزمان بكلّم غير مندمل

عمر الزمان وقلب غير مسرورِ

يا جدّ لا زال لي همُّ يحرِّضني

على الدموع ووجدٌ غير مقهورِ

والدمع يخفره عينٌ مؤرّقة

خفر الحنيَّة عن نزع وتوتيرِ

إنَّ السلوّ لمحظورٌ على كبدي

وما السلوُّ على قلب بمحظورِ

وقال يرثي سيِّدنا الإمام الشهيد في يوم عاشوراء سنة ٣٨٧:

راحلٌ أنت والليالي تزول

ومضرٌّ بك البقاء الطويلُ

لا شجاعٌ يبقى فيعتنق البـ

ـيض ولا آملٌ ولا مأمولُ

غاية الناس في الزَّمان فناءٌ

وكذا غاية الغصون الذبولُ

إنَّما المرء للمنيَّة مخبوءٌ وللـ

ـطعن تستجمُّ الخيولُ

من مقيل بين الضلوع إلى طـ

ـول عناءٍ وفي التراب مقيلُ(١)

فهو كالغيم ألَّفته جنوبٌ

يوم دجن ومزَّقته قبولُ

عادةٌ للزَّمان في كلِّ يوم

يتناء خلُّ وتبكي طلولُ

فاللّيالي عونٌ عليك مع البـ

ـين كما ساعد الذوابل طولُ

ربما وافق الفتى من زمان

فرح غيره به متبولُ(٢)

____________________

١ - من قال قيلا وقيلولة ومقيلا. نام نصف النهار.

٢ - يقال:تبلهم الدهر أي أفناهم.

٢١٩

هي دنيا إن واصلت ذا جفت

هذا ملالاً كأنَّها عطبولُ(٢)

كلّ باكٍ يُبكى عليه وإن

طال بقاءٌ والثاكل المثكولُ

والأمانيُّ حسرةٌ وعناء

للذي ظنَّ انَّها تعليلُ

ما يُبالي الحمام أين ترقّي

بعد ما غالت ابن فاطم غولُ

أيّ يوم أدمى المدامع فيه

حادثٌ رائعٌ وخطبٌ جليل

يوم عاشور الذي لا أعـ

ان الصحبُ فيه ولا أجار القبيلُ

يا ابن بنت الرَّسول ضيَّعتْ الـ

ـعهد رجالٌ والحافظون قليلُ

ما أطاعوا النبيَّ فيك وقد

مالت أرواحهم إليك الذحولُ

وأحالوا على المقادير في حربـ

ـك لو أنَّ عذرهم مقبولُ

واستقالوا من بعد ما

أجلبوا فيها أ ألآن أيّها المُستقيلُ؟!

إنَّ أمراً قنّعت من دونه الـ

ـسيف لمن حازه لمرعى وبيلُ

يا حساماً فلّت مضاربه الهـ

ـام وقد فلّه الحسام الصقيلُ

يا جواداً أدمى الجواد من الطـ

ـعن وولّى ونحوه مبلولُ

حجل الخيل من دماء الأعادي

يوم يبدو طعن وتخفى حجولُ

يوم طاحت أيدي السوابق في

النقع واض الونى وعاض الصهيلُ

أتراني أعير وجهيَ صوناً

وعلى وجهه تجول الخيولُ !؟

أتراني ألذّ ماءً ولمّا

يروَ مِن مهجة الإمام الغليلُ ؟!

قبّلته الرِّماح وانتضلت فيه

المنايا وعانقته النّصولُ

والسَّبايا على النجائب تُستاق

وقد نالت الجيوب الذيولُ

من قلوب يدمي بها ناظر الو

ـجد ومن أدمع مراها الهمولُ

قد سلبن القناع عن كلِّ وجهٍ

فيه للصون من قناع بديلُ

وتنقَّبن بالأنامل والدَّمـ

ـع على كلِّ ذي نقابٍ دليلُ

وتشاكين والشكاة بكاءٌ

وتنادين والنداء عويل

لا يغبّ الحادي العنيف

ولا يفتر عن رنَّة العديل العديل

____________________

٢ - العطبول:المرأة الفتية الجميلة.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511