الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل7%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140989 / تحميل: 5807
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

إشباع الجياع من أفضل الحسنات :

ليست هذه الآيات مورد البحث هي الآيات الوحيدة التي عدّت إطعام الطعام من الأعمال الصالحة للأبرار وعباد الله ، بل إنّ كثيرا من آيات القرآن اعتمدت هذا المعنى وأكّدت عليه ، وأشارت إلى أنّ لهذا العمل محبوبية خاصّة عند الله ، وإذا ألقينا نظرة على عالم اليوم والذي يموت فيه بسبب الجوع حسب الأخبار المنتشرة ملايين الأشخاص في كل عالم ، والحال أنّ بقية المناطق تلقي بالغذاء الكثير في القمامة تتّضح أهمية هذا الأمر الإسلامي من جهة ، وابتعاد عالم اليوم عن الموازين الأخلاقية من جهة أخرى.

ونورد هنا من باب المثال عددا من الأحاديث الإسلامية التي أكّدت على هذا الجانب : قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أطعم ثلاث نفر من المسلمين أطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السموات»(١) .

وفي حديث للإمام الصادقعليه‌السلام قال : «من أطعم مؤمنا حتى يشبعه لم يدر أحد من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة ، لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل إلّا الله ربّ العالمين»(٢) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام قال : «لئن أطعم مؤمنا محتاجا أحبّ إليّ من أن أزوره ، ولئن أزوره أحبّ إليّ من أن أعتق عشر رقاب»(٣) .

والجدير بالذكر أنّ الرّوايات لم تؤكّد على إطعام المحتاجين والجياع فحسب ، بل صرّحت بعض الروايات أنّ إطعام المؤمنين وإن لم يكونوا محتاجين هو كعتق رقبة العبد ، وهذا يدلّ على أنّ الهدف لا يقتصر على رفع الاحتياج ، بل جلب المحبّة وتحكيم وشائج المودة بعكس ما هو السائد في عالم اليوم المادي ،

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ باب (إطعام المؤمن) الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٦.

(٣) المصدر السابق ، الحديث ١٨.

٢٦١

كدخول صديقين إلى المطعم ودفعهما حساب الطعام كلّ على انفراد وكأنّ استضافة الأفراد سيما إذا كثروا مدعاة للعجب في تلك المجتمعات!!

وورد في بعض الرّوايات أنّ إطعام الجياع بصورة عامّة من أفضل الأعمال (وإن لم يكونوا مسلمين ومؤمنين) كما جاء في الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال : «من أفضل الأعمال عند الله إبراد الكباد الحارة وإشباع الكباد الجائعة والذي نفس محمد بيده لا يؤمن بي عبد يبيت شبعان وأخوه ـ أو قال جاره ـ المسلم الجائع»(١) .

بالرغم من أنّ ذيل هذا الحديث الشريف ذكر إشباع الإنسان المسلم. ولكنه صدره يشمل كل عطشان وجائع ، ولا يبعد اتساع مفهوم الحديث لـ يشمل حتى الحيوانات.

وهناك روايات عديدة في هذا الباب(٢)

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٣٦٩ والملاحظ أن العلّامة المجلسي أورد عنوانا في هذا الباب وذكر فيه ١١٣ حديث يتعلق بإطعام المؤمن وإشباعه ولبسه وأداء دينه. ولبعض منها عمومية.

(٢) المصدر السابق.

٢٦٢

الآيات

( وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) )

التّفسير

مكافئات الجنان العظيمة

بعد الإشارة الإجمالية في الآيات السابقة إلى نجاة الأبرار من العذاب الأليم

٢٦٣

يوم القيامة ، ووصولهم إلى لقاء المحبوب والغرق بالسرور والبهجة ، تتناول هذه الآيات شرح هذه المواهب الإلهية في الجنان ، وعددها في هذه على الأقل خمسة عشرة نعمة ، فتتحدث في البدء عن المسكن والملبس فتقول :

( وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ) .

أجل ، في مقابل كل ذلك الإيثار والاستقامة في وفائهم بالنذر وصيامهم ، وإنفاق طعام الإفطار على المسكين واليتيم والأسير جعلهم الله في رياض خاصّة في الجنان ، وألبسهم أفضل الألبسة ، وليس فقط في هذه الآية ، بل صرح بهذه الحقيقة في آيات أخرى من القرآن ، وهو أنّ مكافآت القيامة إنّما تعطى للإنسان لصبره (صبر في الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وصبر عند المشكلات والمصائب).

فتجد سلام الملائكة لأهل الجنان في الآية (٢٤) من سورة الرعد :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ) .

وجاء في الآية (١١١) من سورة المؤمنون :( إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ) .

ثمّ يضيف سبحانه في الآية التالية :( مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ) ذكر حالة (الاتكاء على الأرائك) إشارة إلى اطمئنانهم وارتياحهم الكاملين ، لأنّ الإنسان لا يجلس متكئا عادة إلّا عند الراحة والاطمئنان والهدوء.

ويشير ذيل الآية إلى الاعتدال الكامل في الجنان ، ولا يعني هذا انعدام الشمس والقمر في الجنان ، بل بسبب ظلال أشجار الجنان لا تكون أشعة الشمس مؤذية.

(زمهرير) : من مادة (زمهر) وهو البرد الشديد ، أو شدّة الغضب أو احمرار العين من أثر الغضب ، والمراد هنا هو المعنى الأول ، وورد في الحديث : أنّ في

٢٦٤

جهنّم نقطة تتلاشى فيها الأعضاء من شدّة البرد(١) .

(أرائك) : جمع «أريكة» ، وتطلق في الأصل على الأسرة التي توضع في غرفة العروس ، والمراد هنا الأسرّة الجميلة والفاخرة.

نقل المفسر المشهور الآلوسي في روح المعاني في حديث عن ابن عباس قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «بينا أهل الجنّة في الجنّة إذ رأوا ضوءا كضوء الشمس ، وقد أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنّة يا رضوان ما هذا؟ وقد قال ربّنا لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ، فيقول لهم رضوان : ليس هذا بشمس ، ولا قمر ، ولكن علي وفاطمة ضحكا ، وأشرقت الجنان من ثغريهما»!

وتضيف الآية الأخرى متمّمة لهذه النعم :

( وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً ) (٢) .

ليست هنا من مشكلة لقطف الثمار ، ولا شوكة لتدخل في اليد ، ولا تحتاج ذلك إلى مشقّة أو حركة!

ونجد من الضروري التذكير مرّة أخرى إنّ هناك تفاوتا كثيرا بين الأصول المتحكمة في حياة الإنسان في ذلك العالم وبين هذا العالم ، وما جاء حول النعم الأخروية في هذه الآيات والآيات القرآنية الأخرى ليس إلّا كونه إشارة بليغة إلى تلك المواهب العظيمة ، وإلّا فإنّ بعض الرّوايات تصرح أنّ هناك من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا تخطر ببال أحد.

وفي حديث لابن عباس بيّنه في ذيل آيات هذه السورة قال : «كلما ذكره الله في القرآن ممّا في الجنّة وسمّاه ليس له مثل في الدنيا ولكن سمّاه الله بالاسم الذي يعرف الزنجبيل ممّا كانت العرب تستطيبه فلذلك ذكره في القرآن ووعدهم أنّهم

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٠٠.

(٢) «قطوف» : على وزن (ظروف) جمع (قطف) على وزن (حفظ) أو جمع (قطف) على وزن (حذف) والأوّل وصف والثّاني مصدر ، ويعني الفواكه المقطوفة أو قطف الفاكهة.

٢٦٥

يسقون في الجنّة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنّة»(١) .

ثمّ توضح الآية الأخرى كيفية استضافة أصحاب الجنان ، وأدوات الضيافة ، والمستقبلين لهم ، فيقول :( وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا ، قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً ) .

تحتوي هذه الآنية على أنواع الأغذية والأشربة المتعددة الأصناف واللذيذة والباعثة على النشاط ، بالقدر الذي يشاءونه ويحبّونه ، والولدان المخلدون يطوفون عليهم ليعرضوا عليهم الآنية والأكواب المليئة بما وعدهم الله بها.

(آنية) : جمع (إناء) وهو الوعاء ، و «أكواب» جمع «كوب» ، وهو إناء للشراب الذي لا عروة له ، ويعبر عنه أحيانا بالقدح.

«قوارير» : جمع (قارورة) ، وهي الوعاء البلّوري والزجاجي. والعجب في قوله : أوعية بلّورية مصنوعة من الفضة! والحال لا يوجد مثل هذا في عالم الدنيا ، والأوعية البلّورية إنّما تصنع من رمال خاصّة وذلك بعد اذابتها ، ولكنّ الله الذي جعل خاصيّة في الرمل تجعله يتحول إلى زجاج وبلّور لهو قادر أن يجعلها في معدن آخر كالفضة.

على كل حال فإنّ المستفاد من الآية إنّ هذه الأوعية والكؤوس تكون جامعة بين صفاء الزجاجة وشفافية البلوّر وبين بياض الفضة وجمالها ، ويكون الشراب فيه متجليا ، والملاحظ أنّ هذا المعنى قد أشار إليه الامام الصادقعليه‌السلام أيضا إذ قال : «ينفذ البصر في فضة الجنّة كما ينفذ في الزجاج»(٢) .

وفي العصر الحديث تمّ اكتشاف أنواع من الأشعة (مثل اشعة ايكس) لها قابلية النفوذ الى باطن المواد والأجسام المعتمّة واستجلاء محتوياتها.

وعن ابن عباس قال : «إن لكل نعمة من نعم الجنان شبه في الدنيا إلّا أكواب

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤١١.

(٢) المصدر السابق.

٢٦٦

الفضة إذ لا شبيه لها»(١) .

ثمّ يضيف تعالى :( وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً ) .

صرح الكثير من المفسرين بأنّ عرب الجاهلية كانوا يتلذذون بالشراب الممزوج بالزنجبيل ، لأنّه كان يعطي قوّة خاصة للشراب.

ويتحدث القرآن هنا عن الشراب الطهور الممزوج بالزنجبيل ، ومن البديهي أنّ الفرق بين هذا الشراب وذلك الشراب كالفرق بين السماء والأرض وبالأخرى بين الدنيا والآخرة.

والجدير بالذكر أنّ العرب كانوا يستخدمون نوعين من الشراب : أحدهما يبعث على النشاط والحركة ، والآخر مفتّر ومهدّئ والأوّل يمزج مع الزنجبيل ، أمّا الثّاني فمع الكافور ، وبما أنّ حقائق عالم الآخرة لا يمكن أن يعبر عنها في إطار ألفاظ هذا العالم ، فلا سبيل إلّا استخدام هذه الألفاظ للدلالة على معان أوسع وأعلى تحكي عن تلك الحقائق العظيمة. ولفظ «الزنجبيل» غالبا ما يطلق على الجذر المعطر للتوابل الخاصّة للأغذية والأشربة ، وإن كانت الأقوال مختلفة في معناه.

ثمّ يضيف تعالى :( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ) (٢) .

(سلسبيلا) : هو الشراب الهنيء واللذيذ جدّا الذي ينحدر بسهولة في الحلق ويرى الكثير أنّه مأخوذ من مادة (سلاسة) المأخوذ من السيلان ولهذا يقال للكلام الجذّاب والممتع «سليس».

وقيل أخذ من مادة (تسلسل) وهي الحركة المستمرة التي يتداعى منها السيولة والاتصال ، وعلى هذا فإنّ المعنّيين متقاربين ، والباء زائدة في الصورتين.

وقيل : هو مركب من (سال) و (سبيل) والمعنى الكنائي للإثنين

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٩ ، ص ١٥٩.

(٢) «عينا» : محله في الأعراب ـ كما تقدم ـ أن يكون منصوبا بنزغ الخافض.

٢٦٧

هو الصائغ والهنيء.

وقيل : لا وجود لهذه الكلمة في اللغة عند العرب ، وأنّها من إبداعات القرآن المجيد(١) .

والأول أشهر وأوجه.

ثمّ يتحدث عن المستقبلين في هذا الحفل البهيج المقام بجوار الله في النعيم الأعلى فيقول تعالى( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ) .

إنّهم مخلدون في الجنان ، وطراوة أشبابهم وجمالهم ونشاطهم خالد أيضا ، وكذا استقبالهم للأبرار ، لأنّ عبارة (مخلدون) وعبارة (يطوف عليهم) من جهة أخرى تبيان لهذه الحقيقة.

«لؤلؤا منثورا» : يراد به الإشارة إلى جمالهم وصفائهم وإشراق وجوههم وكذلك حضورهم في كل مكان من المحفل الإلهي والروحاني.

وبما أنّ من المحال وصف النعم والمواهب للعالم الآخر مهما بلغ الكلام من البيان والبلاغة ، ولهذا يقول تعالى في الآية الأخرى كلاما مطلقا :( وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ) (٢) .

وردت في (النعيم) و (الملك الكبير) أقوال كثيرة ، منها ما ورد في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام عند ما سئل عن معنى الآية إذ قال : (أي لا يفنى ولا يزول)(٣) .

أو أنّ نعم الجنان لا توصف لكثرتها.

أو أنّ «الملك الكبير» هو استئذان الملائكة للدخول على أهل الجنان ويحيوهم بالسلام.

__________________

(١) قيل إن «السلسبيل» هو ما لا ينصرف عادة للعملية والعجمة والتنوين الموجود للاتساق مع الآيات السابقة لها.

(٢) قيل إنّ (ثمّ) هنا ظرف مكان ول (رأيت) معنى فعل لازم والتقدير (إذا رميت ببصرك ثمّ رأيت نعيما وملكا كبيرا) ويحتمل أن يكون (ثمّ) اسم إشارة للبعد ومفعولا لرأيت.

(٣) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤١١.

٢٦٨

أو أنّ أهل الجنان يحصلون على ما يشاءون.

أو أنّ أقل أهل الجنان مرتبة يحصل على ملك من السعة أنّه يرى من الطريق ما يكون على بعد ألف سنة لو نظر إليه كان بينه وبين ملكه ألف سنة.

أو يراد به الملك الدائم والأبدي المقترن مع تحقيق جميع الآمال

«النعيم» : يراد بها في اللغة النعم الكثيرة و (ملك كبير) يخبر عن عظمة واتساع رياض أهل الجنّة ، ولذا فإنّ لهما معنيين واسعين بحيث يشملان جميع ما قيل فيهما.

إلى هنا أشير إلى قسم من نعم الجنان من قبيل المساكن والأسرة والظلال والفواكه والشراب والأواني والجماعة المستقبلة للضيوف ، وحان الآن دور زينة أهل الجنان فيقول تعالى :( عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ) (١) .

«سندس» : ثوب رقيق من الحرير ، و «الإستبرق» ثوب غليظ من الحرير ، وقيل أنّه مشتق من الكلمة الفارسية «أستبر» أو «ستبر» ، وقيل : أخذ من أصل عربي (برق) أي التلألؤ.

ثم أضاف تعالى :( وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ) .

وهي الفضة الشفّافة اللامعة كالبلّور وأجمل من الياقوت والدّر واللؤلؤ.

«أساور» : جمع «أسورة» على وزن (مغفرة) وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) أو «سوار» على وزن (حوار) وأخذ في الأصل من الكلمة الفارسية ، (دستوار) وعند انتقالها إلى العربية تغيّرت واختصرت وجاءت بصورة (سوار).

إنّ اختيار اللون الأخضر للباس أهل الجنّة هو لكونه يبعث على النشاط

__________________

(١) «عاليهم» : هناك احتمالان لمحله من الاعراب ، الأول كونه ظرفا ويراد به فوق ، فيكون معنى الآية (فوقهم ثياب سندس) والآخر كونه لا يرجع للضمير «هم» المذكور في الآيات السابقة ، بل يرجع إلى (الأبرار) فيكون المعنى (حال كونهم يعلوهم ثياب سندس خضر).

٢٦٩

كأوراق الأشجار الجميلة ، وبالطبع إنّ للّون الأخضر أنواعا وأقساما ، ولكل منها لطافة :

وورد في بعض آيات القرآن كالآية (٣٠) من سورة الكهف أنّ أهل الجنان يزينون بأساور من ذهب :( يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) وهذا لا ينافي ما جاء في الآية التي نحن بصدد بحثها ، إذ يمكن أن يكون من باب التنويع ، فمرّة هذا ، ومرّة ذاك.

ويأتي هنا سؤال : أليس سوار الذهب والفضة من زينة النساء ، فكيف ذكر زينة لرجال الجنّة؟

والجواب واضح ، فهناك الكثير من المجتمعات تكون زينة الذهب والفضة للرجال والنساء (وإن حرمّ الإسلام لبس الذهب للرجال) ولكن بالطبع هناك اختلاف بين أساور الرجال وبين أساور النساء ، ونقل عن لسان فرعون في الآية (٥٣) من سورة الزخرف :( فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ) ويظهر من هذا أنّ لبس الرجال للذهب في مصر كان من علائم العظمة. بالإضافة إلى ما أشرنا إليه في السابق أنّه لا يكفي استعمال الألفاظ العادية المتداولة في هذه الدنيا لبيان نعم الجنان ، وليس هناك من حلّ إلّا باستعمال هذه الألفاظ للإشارة إلى تلك النعم العظيمة التي لا توصف.

ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية مشيرا إلى آخر نعمة وأهمّها من سلسلة النعم :( وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) .

صحيح أنّ من بين هذه النعم ورد الحديث عن الأشربة السائغة من الأكواب المترعة من عين السلسبيل ، ولكنّ بينها وبين ما جاء في هذه الآية فرق كبير ، لأنّ السقاة هناك هم «الولدان المخلدون» من جهة ، والساقي هنا هو «الله تعالى» ، يا له من تعبير عجيب! خصوصا مع ذكر كلمة (رب) الرب الذي طالما تلطف على الإنسان برعايته المستمرة له فكان مالكه ومربيه والذي كان يأخذ بيده في

٢٧٠

مراحل التكامل حتى يوصله إلى المرحلة الأخيرة التي يريدها له ، ثمّ تتجلّى ربوبيته إلى أعلى المراتب والحدود فيسقي بيده عباده الأبرار بالشراب الطهور.

ومن جهة أخرى فإنّ «الطهور» هو الطاهر والمطهر ، وعلى هذا فإنّ هذا الشراب يطهر جسم الإنسان وروحه من كل الأدران والنجاسات ويهبه من الروحانية والنورانية والنشاط ما لا يوصف بوصف : حتى ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يطهرهم عن كلّ شيء سوى الله»(١) .

إنّ هذا الماء الطهور أفضل من أيّة نعمة وأعلى من كلّ موهبة ، إذ أنّه يمزق ستار الغفلة ، ويزيل الحجب ، ويجعل الإنسان أهلا للحضور الدائم في جوار القرب من الله تعالى ، فإذا كان شراب الدنيا يزيل العقل ويبعد الإنسان عن الله ، فإنّ الشراب الطهور يعطى من يد ساقي الجنّة ، فيجرّد الإنسان عن ما سوى الله ، ليغرق في جماله وجلاله ، وهذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الخفي الموهوب في الجنّة ، ففي حديث روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حول عين الشراب الطهور المستقرة عند باب الجنّة قال : «فيسقون منها شربة فيطهر الله بها قلوبهم من الحسد! وذلك قول اللهعزوجل ( وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) (٢) .

والظريف في عبارة طهور أنّها لم ترد في القرآن إلّا في موردين : أحدهما في مورد المطر (الفرقان ٤٨) الذي يطهر كل شيء ويحيي البلاد الميتة ، والآخر في مورد الآية التي نحن بصدد بحثها ، وهو الشراب الخاص بأهل الجنّة.

وفي آخر آية من آيات البحث يتحدث حديثا أخيرا في هذا الإطار فيقول : إنّه يقال لهم من قبل ربّ العزّة بأنّ هذه النعم العظيمة ما هي إلّا جزاء أعمالكم في الدنيا( إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) . لئلا يتصور أحد أنّ هذا الجزاء وهذه المواهب العظيمة تعطى من دون مقابل ، إنّ كل ذلك جزاء السعي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤١١.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٨٥ ذيل الحديث ٦٠.

٢٧١

والعمل ، وثمرة الرياضات وجهاد النفس وبناء الذات وترك المعاصي(١) .

ثمّ إنّ نفس بيان هذا الموضوع فيه لذّة خاصّة ، إذ أنّ الله تعالى أو «ملائكته» يخاطب الأبرار ويقدم لهم الشكر والتقدير ويقول : إنّ هذا جزاء أعمالكم وإنّ سعيكم مشكور ، بل قيل : إنّها نعمة ما فوقها نعمة وموهبة أعلى من كل المواهب وهي شكر الله للإنسان.

«كان» ، فعل ماضي ويخبر عن الماضي ، ولعلّه إشارة إلى أنّ هذه النعم كانت موفرة لكم من قبل ، لأنّ من يهتم كثيرا بضيفه يهيء وسائل الضيافة له من قبل.

* * *

__________________

(١) إن لهذه الآية تقدير مثل (يقال لهم) أو (يقول الله لهم).

٢٧٢

الآيات

( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) )

التّفسير

خمسة مبادئ مهمّة في تنفيذ حكم الله :

شرعت السورة منذ البداية وحتى هذه الآية في تبيان خلق الإنسان ثمّ المعاد والبعث ، وفي هذه الآيات مورد البحث يتوجه الخطاب إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإصدار أوامر مؤكّدة لهداية الناس والصبر والثبات في هذا الطريق ، وفي الواقع إنّ هذه الآيات تشير إلى أنّ نيل كل تلك النعم والمواهب الأخروية لا يتمّ إلّا بالتمسك بالقرآن وإتباع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واطاعة أوامره.

ويقول في البدء :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ) .

قال بعض العلماء إنّ مجيء (تنزيلا) بصورة مفعول مطلق هو إشارة إلى النزول التدريجي للقرآن ، إذ لا يخفى الأثر التربوي لذلك ، وقيل هو إشارة إلى عظمة مقام هذا الكتاب السماوي وتأكيد نزوله من قبل الله تعالى ، خصوصا ما

٢٧٣

ورد من التأكيدات الأخرى في الآيات الآتية (التأكيد بأنّ ، ونحن ، والجملة الاسمية) وهو جواب لمن يتهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكهانة والسحر والافتراء على الله تعالى.

ثمّ يأمر النّبي بأمور خمسة ، أولها الدعوة إلى الصبر والاستقامة فيقول :( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) .

أي لا تخف من المشاكل ومن موانع الطريق وكثرة الأعداء وعنادهم واستقم في سيرك على الصراط المستقيم. والجدير بالانتباه أنّ الأمر بالصبر (مع ملاحظة (فاء التفريع) في (فاصبر) متفرع على نزول القرآن من الله تعالى ، أي إذا كان الله قد أيّدك وحماك فيجب عليك أن تصبر في هذا الطريق ، والتعبير بـ (الرب) إشارة لطيفة أخرى إلى نفس هذا المعنى.

والأمر الثّاني الموجّه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو تحذيره من أي توافق مع المنحرفين ، فيقول تعالى :( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) .

في الحقيقة أنّ هذا الحكم هو تأكيد ثان على الحكم الأوّل ، لأنّ جموع الأعداء كانوا يسعون بطرق مختلفة للتوافق مع النّبي وجرّه إلى طريق الباطل ، كما نقل أنّ «عتبة بن ربيعة» و «الوليد بن المغيرة» قالا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن تركت دعوتك ، فإنّنا سنغنيك حتى ترضى ، ونزوجك أجمل بنات العرب ، وعروض أخرى من هذا القبيل ، فما كان على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هنا باعتباره المرشد الحقيقي والعظيم إلّا أن يقف أمام هذه الوساوس الشيطانية والتهديدات التي صدرت منهم بعد ذلك ، ولا يستسلم للترغيب أو الترهيب.

صحيح أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن قد استسلم ، ولكن هذا التأكيد يشير الى أهمية الموضوع ليكون نموذجا خالدا لسائر مرشدي طريق اللهعزوجل رغم أنّ بعض المفسّرين ذهبوا الى أنّ (آثما) هو عتبة بن ربيعة ، و «كفور» هو الوليد بن المغيرة أو أبو جهل ، وهم من مشركي العرب ، ولكنّ الواضح أنّ كل من (آثم) أي

٢٧٤

(العاصي) و «كفور» أي (المبالغ في الكفر) له معنى واسع إذ يشمل جميع المجرمين والمشركين وإن كان هؤلاء الثلاثة من مصاديقها الواضحة ، والملاحظ أنّ (آثما) له مفهوم عام يستوعب بذلك (الكفور) أيضا ، لذا فإنّ ذكر (كفور) كذكر الخاص بعد العام للتأكيد.

ولكن بما أنّ الصبر والاستقامة في مقابل هذه المشكلات العظيمة ليس بالأمر اليسير ، كان من الضروري لسلوك هذا الطريق التزّود بنوعين من الزاد ، لذا يضيف القرآن في الآية الأخرى :( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) أي في كل صباح ومساء ،. ويقول تعالى أيضا :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

لتتوفر لديك في ظل ذلك الذكر وهذا السجود والتسبيح قوّة كافية وقدرة معنوية لمواجهة مشاكل هذا الطريق.

(بكرة) على وزن (نكتة) يعني بداية اليوم ، و (أصيل) نقيض بكرة ، أي آخر اليوم.

وقيل إنّ إطلاق هذه اللفظة على آخر اليوم مع أنّها مشتقة من مادة (أصل) هو كون آخر اليوم يشكل الأصل والأساس للّيل.

ويستفاد من بعض التعابير أنّ (أصيل) تطلق أحيانا على الفترة ما بين الظهر والغروب (مفردات الراغب الأصفهاني).

ويظهر من آخرين أنّ (أصل) يقال لأوائل الليل ، لأنّهم فسروا ذلك بـ «العشي» والعشي هو بداية الليل كما يقال لصلاتي المغرب والعشاء بالعشائين ، حتى أنّه يستفاد من بعض الكلمات أنّ «العشي» هو من زوال الظهر حتى صباح الغد(١) ولكنّ بالالتفات إلى أنّ كلمة (أصيل) وردت في الآية الشريفة في مقابل «بكرة» ثمّ تحدثت الآية بعد ذلك عن العبادة الليلية. يتّضح أنّ المراد هو الطرف الآخر للنهار.

__________________

(١) مفردات الراغب.

٢٧٥

على كل حال فإنّ هاتين الآيتين في الحقيقة تأكيد لضرورة التوجّه الدائم والمستمر لذات الله المقدسة.

وقال آخرون : إنّ المراد هو الصلوات الخمس ، أو بإضافة صلاة الليل ، أو خصوص صلاة الصبح والعصر والمغرب والعشاء ولكنّ الظاهر هو أنّ هذه الصلوات مصاديق من هذا الذكر الإلهي المستمر والتسبيح والسجدة لمقامه المقدس.

التعبير بـ (ليلا طويلا) إشارة إلى ضرورة التسبيح لفترة طويلة من الليل ، ففي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام لمّا سئل عن المقصود من التسبيح في هذه الآية؟ قالعليه‌السلام : «هو صلاة الليل»(١) .

ولا يستبعد أن يكون هذا التفسير من باب تبيان المصداق الواضح لما تترك صلاة الليل من الأثر البالغ في تقوية روح الإيمان ، وتهذيب النفوس. والحفاظ على حيوية إرادة الإنسان في طريق طاعة الله.

ويجب هنا الالتفات إلى أن الأوامر الخمسة المذكورة في الآيات أعلاه وإن ذكرت بصورة منهج للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي في الحقيقة دستورا يحتذي به كلّ من يخطو في مسير قيادة المجتمع البشري ، إنّهم يجب أن يعلموا بعد الإيمان الكامل بأهدافهم ورسالتهم بضرورة احتراف الصبر والاستقامة. وأن لا يستوحشوا من كثرة مشاكل الطريق ، لأنّ هداية المجتمع من المشاكل العظيمة ، وهي كذلك دائما ، ولم تثمر الرسالة إن لم يمتلك قادتها الصبر والاستقامة.

وفي المرحلة الأخرى يجب الثبات التام أمام الوساوس الشيطانية والتي تعتبر مصداقا للآثم والكفور ، والثبات أمام سعيهم في حرف القادة والأئمة بأنواع

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤١٣.

٢٧٦

الحيل والمكائد ، وأن لا ينخدعوا بالتطميع ولا يتأثروا بالتهديد ، ويذكروا الله تعالى في كل المراحل لاكتساب القدرة الروحية وقوة الإرادة والعزم الراسخ ، والاستمداد من العبادات الليلية ، والمناجاة مع الله ، فإذا ما روعيت هذه الأمور فالنصر حتمي ، وحتى لو عرضت مصيبة أو هزيمة فإنّه يمكن إصلاحها من خلال هذه الأصول ، ومنهج الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلوكه في دعوته نموذج مؤثر لجميع السالكين في هذا الطريق.

* * *

٢٧٧

الآيات

( إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١) )

التّفسير

تحذير مع بيان السبيل!!

رأينا في الآيات السابقة تحذيرا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكي لا يقع تحت تأثير كل آثم أو كفور من المجرمين ، والتاريخ يشهد أنّهم كانوا يستعينون لسذاجتهم بالمال والجاه والنساء للنفوذ في إرادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعزمه على ادامة الدعوة.

الآيات أعلاه عرّفت الأعداء بشكل أكثر وقالت :( إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ) . لا تتعدى أفق أفكارهم دائرة الطعام والنوم والشهوة ، وتمثل هذه اللذائذ المادّية الرخيصة أسمى غاية لهم في الحياة.

٢٧٨

والعجيب أنّهم قاسوا روح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله العظيمة بهذا المقياس! ولم ينتبه هؤلاء الغافلين إلى اليوم الثقيل الذي ينتظرهم ، ثقيل من حيث العقوبات ، ثقيل من حيث المحاسبة ، وثقيل من حيث طول الزمان وشدّة الفضيحة.

وقد جاء التعبير بـ (وراءهم) مع أنّ المفروض أن يقال (أمامهم) لأنّهم نسوا ذلك اليوم ، وكأنّهم تركوه وراءهم ، ولكن على قول بعض المفسّرين أنّ كلمة (وراء) تستعمل أحيانا بمعنى «خلف» وأحيانا بمعنى «أمام»(١) .

الآية التالية تحذرهم من الاغترار بقوتهم وقدرتهم ، إذ أنّ الله الذي أعطاهم إيّاها قادر على أن يستردها بسرعة متى شاء ، فيقول تعالى :( نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً ) (٢) .

(أسر) على وزن (عصر) وأصله الربط بالقيد ، ولهذا سمي الأسير بهذا الاسم لربطه وشدّه ، وهنا إشارة إلى استحكام خلقة الإنسان بحيث يقدر على مزاولة مختلف النشاطات والفعاليات المهمّة.

هنا يشير القرآن إلى نقطة حساسة ، وهي الأعصاب الصغيرة والكبيرة التي تشدّ العضلات فيما بينها كالحبال الحديدية وتربط بعضها بالبعض الآخر ، وحتى المفاصل والعضلات المختلفة وقطع العظام الصغيرة والكبيرة وأعضاء الإنسان بحيث يتكون من مجموع ذلك إنسان واحد مهيأ للقيام بأية فعالية ، وعلى كل حال فهذه الجملة كناية عن القدرة والقوّة.

وتوضّح هذه الآية ضمنا استغناء ذات الله المقدّسة ، عنهم ، وعن طاعتهم وإيمانهم ، ليعلموا أنّ الإصرار على إيمانهم في الحقيقة هو من رحمة الله بهم.

__________________

(١) جاء في تفسير (روح البيان) أن كلمة (وراء) إذا أضيفت إلى الفاعل فإنّها تعني الخلف ، وإذا أضيفت إلى المفعول فإنّها بمعنى «الأمام» روح البيان ، ج ٨ ، ص ٤٣٩.

(٢) في هذه الآية حذف ، وفي التقدير (بدلناهم أمثالهم) كلمة (تبديل) غالبا ما تأخذ مفعولين وهنا الضمير (هم) مفعول أوّل و (أمثالهم) مفعول ثان.

٢٧٩

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (١٣٣) من سورة الأنعام إذ يقول :( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ ) .

ثمّ أشار تعالى إلى جميع البحوث الواردة في هذه السورة والتي تشكل بمجموعها برنامجا متكاملا للحياة السعيدة ، فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (١) .

إن علينا إيضاح الطريق ، لا اجباركم على اختيار الطريق ، وعليكم تمييز الحق من الباطل بما لديكم من العقل والإدراك ، واتخاذ القرار بإرادتكم واختياركم ، وهذا في الحقيقة تأكيدا على ما جاء في صدر السورة في قوله :( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) .

وقد يتوهّم بعض السذّج من العبارة أعلاه أنّها تعني التفويض المطلق للعباد ، فجاءت الآية التالية لتنفي هذا التصور وتضيف :( وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (٢) .

وهذا في الحقيقة إثبات لأصل مشهور هو (الأمر بين الأمرين) ، إذ يقول من جهة :( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ) فعليكم أن تختاروا ما تريدون ، ويضيف من جهة أخرى :( وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) أي ليس لكم لاستقلال الكامل ، بل إن قدرتكم واستطاعتكم وحريتكم لا تخرج عن دائرة المشيئة الإلهية ، وهو قادر على أن يسلب هذه القدرة والحرية متى شاء.

من هذا يتّضح أنّه لا جبر ولا تفويض في الأوامر ، بل إنّها حقيقة دقيقة وظريفة بين الأمرين ، أو بعبارة أخرى : إنّها نوع من الحرية المرتبطة بالمشيئة

__________________

(١) قيل أن في الآية حذف ، والتقدير : (فمن شاء اتخذ إلى رضى ربّه سبيلا) ولكن الحق عدم احتياج الآية للتقدير ، لأن جميع طرق التكامل تنتهي إلى الله تعالى.

(٢) جمع من المفسرين قالوا أن جملة (إن يشاء الله) محلها من الإعراب منصوبة على الظرفية فيكون المعنى : (ما تشاءون إلا وقت مشيئة الله) ويحتمل أن التقدير هنا (شيئا) فيكون المعنى : (وما تشاءون إلا شيئا يشاء الله).

٢٨٠

الإلهية ، إذ يمكن سلبها متى يشاء ليتسنى للعباد تحمل ثقل المسؤولية الذي يعتبر رمزا للتكامل من جهة ، ومن جهة أخرى أن لا يتوهموا استغنائهم عن الله تعالى.

والخلاصة ، أنّ هذه الآية تدعو الإنسان إلى أن لا يتوهّم أنّه مستغن عن رعاية الله وتوفيقه. وفي نفس الوقت تؤكد حريته في أعماله وسلوكه.

ويتضح هنا أنّ تمسك بعض المفسّرين القائلين بالجبر كالفخر الرازي بهذه الآية بسبب الخلفيات الذهنية المسبقة في هذه المسألة ، فيقول : واعلم أنّ هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر!(١) نعم ، إذا فصلنا هذه الآية عن الآيات السابقة فهناك محلّ لهذا الوهم. ولكن بالالتفات إلى ما ورد من تأثير الإختيار في آية ، وفي آية أخرى تأثير المشيئة الإلهية ، يتّضح بصورة جيدة مفهوم (الأمر بين الأمرين).

وعجيب أن أنصار التفويض يتمسكون بتلك الآية التي تتحدث عن الإختيار المطلق فقط ، وأنصار الجبرية يتمسكون بالآية التي تشير إلى الجبر فقط ، ويريد كل منهما تبرير أحكامهم المسبقة بتلك الآية ، والحال أنّ الفهم الصحيح للكلام الإلهي (أو أي كلام آخر) يستوجب ضمّ الآيات جنبا إلى جنب ، وترك التعصب والقضاء بالأحكام المسبقة.

ولعلّ آخر الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) . يشير حكمه إلى هذا المعنى ، لأنّ حكمة الله تستوجب إعطاء الحرية للعباد في سلوك طريق التكامل ، وإلّا فإنّ التكامل الإجباري لا يعدّ تكاملا ، بالإضافة إلى أنّ حكمة الله لا تتفق مع فرض الأعمال الخيرة على أناس وفرض الأعمال الشريرة على أناس آخرين ، ثمّ أنّه يثيب الجماعة الأولى ويعاقب الثانية.

ثمّ تشير الآية الأخرى بعد ذلك إلى مصير الصالحين والطالحين في جملة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٣٠ ص ٢٦٢.

٢٨١

يسيرة غنية المحتوى إذ تقول الآية :( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) والظريف أنّ صدر الآية يقول :( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ) ويقول ذيلها :( وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) وهذا يشير إلى أنّ مشيئته تعالى بعقوبة الإنسان تتبع مشيئة الإنسان للظلم والمعاصي ، وبقرينة المقابلة يتّضح أنّ مشيئته تعالى في الرحمة تتبع إرادة الإنسان في الإيمان والعمل الصالح وإقامة العدل ، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر إلّا من حكيم.

والعجيب أنّ مع هذه القرينة فهناك أفراد كالفخر الرازي ممن يتخذ صدر هذه الآية دليلا على مسألة الجبر من دون الالتفات إلى آخر الآية التي يتحدث عن حرية الإرادة في أعمال الظالمين(١) .

اللهم! أدخلنا في رحمتك ونجّنا من العذاب الأليم الذي ينتظر الظالمين.(٢) اللهم! أدخلنا في رحمتك ونجّنا من العذاب الأليم الذي ينتظر الظالمين.

ربّنا! إنّك أوضحت السبيل إليك. وقد عزمنا على سلوكه ، فأعنّا على ذلك.

ربّنا! إنّنا إن لم نكن من الأبرار ولكنّا نحبّهم ، فاحشرنا معهم.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الدهر

* * *

__________________

(١ ، ٢) ـ لمزيد من التوضيح حول آيات (المشيئة) راجع تفسير الآية ٣٧ سورة الزمر.

٢٨٢
٢٨٣

سورة

المرسلات

مكيّة

وعدد آياتها خمسون آية

٢٨٤

«سورة المرسلات»

محتوى السورة :

المشهور أنّ هذه السورة مكيّة ، ولكن صرح البعض أنّ الآية (٤٨)( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) مدنية ، ولكن لم يذكروا لذلك دليلا واضحا ، وإذا كانت مسألة الركوع والصلاة سببا لهذا الاستنباط فإنّ ذلك يبدو بعيدا. إذ كثيرا ما كان المسلمون يقيمون الصلاة مع الركوع في مكّة ، على كلّ حال فإنّ أكثر محتويات هذه السورة تدور حول المسائل المرتبطة بالقيامة وتهديد وإنذار المشركين والمنكرين ، ومن خصائص هذه السورة تكرار الآية :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) عشر مرات بعد كل موضوع جديد ، وتنبئ السورة بعد ذكر الأقسام عن القيامة والحوادث الثقيلة والصعبة للبعث ، ثمّ تذكر عقب ذلك هذه الآية :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) :

وتتحدث السورة أولا عن الوقائع المؤسفة للأقوام المذنبين الأوائل.

ثمّ تتحدث ثانيا عن جانب من خصوصيات خلق الإنسان.

وفي المرحلة الثّالثة عن بعض المواهب الإلهية في الأرض.

وفي الرّابعة تشرح السورة جانبا من عذاب المكذبين ، وفي كل من هذه المراحل إشارة إلى مواضيع موقظة ومحركة ، ثمّ تأكيد تلك الآية بعد ذكر كلّ موضوع من هذه المواضيع ، وحتى أنّه أشار في قسم من ذلك إلى نعم الجنان للمتقين ليمزج الإنذار بالبشارة والترهيب بالترغيب.

٢٨٥

على كل حال فإنّ هذا التكرار يذكر بتكرار بعض الآيات في سورة الرحمن باختلاف أنّ الكلام يدور عن النعم ، أمّا في السورة فغالبا ما تتحدث عن عذاب المكذبين.

اختيار اسم (المرسلات) لهذه السورة هو لتناسبه مع الآية الأولى لهذه السورة.

فضيلة السورة :

روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قرأ سورة المرسلات كتب أنّه ليس من المشركين»(١) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأها عرّف الله بينه وبين محمد»(٢) لا شك أنّ الثواب والفضيلة تكون لمن يقرؤها ويتفكر ويعمل بها ، لذا روي في حديث أنّ أحد أصحاب النّبي قال : أسرع الشيب إليك يا رسول الله! فقال : «شيبتني سورة هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون»(٣) .

والملاحظ أنّ جميع هذه السور تعكس أحوال القيامة والمسائل المهولة لتلك المحكمة العظيمة ، وهذه هي التي تركت أثرا في روح النّبي المقدّسة.

من البديهي أنّ القراءة بدون تدبّر وتصميم على العمل لا يمكن أن تترك مثل هذا الأثر.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٤١٤.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الخصال للشيخ الصدوق باب الأربعة حديث ١٠.

٢٨٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) )

التّفسير

الوعود الإلهية وجزاء المكذبين :

ذكرت في صدر السورة ابتداء خمسة أيمان ، وذلك في خمس آيات.

الحديث وافر في تفسير معانيها :

يقول تعالى :( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) (١) أي قسما بالتي ترسل تباعا.

__________________

(١) «عرفا» : بمعنى متتابعا ، وأصله بمعنى (عرف الفرس) المتساقط بعضها على البعض الآخر ، وفسر أحيانا بالعمل الحسن والمعروف.

٢٨٧

( فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ) التي تسرع في حركتها كالعاصفة.

( وَالنَّاشِراتِ نَشْراً ) التي توسّع وتنشر ما وكّلت به.

( فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ) التي تفرق وتفصل.

( فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ) التي تلقي بالآيات الموقظة والمذكرّة.

( عُذْراً أَوْ نُذْراً ) (١) إمّا لإتمام الحجة أو للانذار.

والآن لنر ما هو مفهوم هذه الأيمان المغلقة التي تخبر عن مسائل مهمّة ، ويوجد هنا ثلاث تفاسير مهمّة :

١ ـ إنّ هذه الأيمان الخمسة إشارة إلى الرياح والعواصف التي لها الأثر البالغ في كثير من مسائل الطبيعة في العالم ، فيصبح معنى الآيات حينئذ : أقسم بالريح المتوالية الهبوب.

وأقسم بالأعاصير السريعة.

وأقسم بالناشرات السحاب التي تنزل المطر إلى الأراضي الميتة.

وأقسم بالرياح التي تفرّق السحاب بعد هطول المطر.

وأقسم بالرياح المذكّرة بالله بهذه المعطيات النافعة.

(وقيل أنّ( فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ) إشارة إلى أعاصير العذاب النقيضة للرياح الباعثة للحياة والتي تعتبر بدورها سببا للتذكر واليقظة).

٢ ـ إنّ هذه الأيمان إشارة إلى (ملائكة السماء) : أي أقسم بالملائكة المرسلة تباعا إلى الأنبياء (والملائكة المرسلين بالمناهج المعروفة) ، وأقسم بأولئك المسرعين كالأعصار لتنفيذ مهامهم ، والذين ينشرون ما أنزل الله على الأنبياء ، وأولئك الذين يفصلون بعملهم هذا الحق عن الباطل ، والذين يلقون ذكر الحق وأوامر الله على الأنبياء.

__________________

(١) «عذرا أو نذرا» : محله من الإعراب النصب على أنّه (مفعول لأجله) وقيل (حال).

٢٨٨

٣ ـ القسم الأوّل والثّاني ناظر إلى الرياح والأعاصير ، والقسم الثّالث والرّابع والخامس يتعلق بنشر آيات الحق بواسطة الملائكة ، ثمّ فصل الحق عن الباطل ، وبعد ذلك إلقاء الذكر والأوامر الإلهية على الأنبياء بقصد إتمام الحجّة والإنذار.

وما يمكن أن يكون شاهدا على التفسير الثّالث هو :

أوّلا : فصل المجموعتين من الأقسام التي في الآيات (بالواو) ، والحال أنّ البقية عطفت بالفاء وهي علامة ارتباطها.

ثانيا : إنّ هذه الأيمان كما سوف نرى واردة لموضوع الآية السابعة ، أي أحقيّة البعث والمعاد وواقعيته ، ونعلم أنّ تغيّرا عظيما يحصل في الدنيا عند البعث حيث العواصف الشديدة والزلازل والحوادث المهيبة من جهة ، ثمّ تشكيل محكمة العدل الإلهية من جهة أخرى وعندها تنشر الملائكة صحائف الأعمال وتفصل بين المؤمنين والكافرين ، وتلقي بالحكم الإلهي في هذا المجال.

وطبقا لهذا التّفسير سوف يتناسب القسم مع المقسم له ، ولهذا فإنّ التّفسير الأخير أفضل.

«الذكر» في جملة :( فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ) أمّا أن يكون بمعنى العلوم الملقاة على الأنبياء ، أو الآيات النازلة عليهم ، ونعلم أنّ القرآن جاء التعبير عنه بالذكر كما في الآية (٦) من سورة الحجر :( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) .

كلمة «الملقيات» بصيغة الجمع مع أنّ ملك الوحي ـ أي جبرئيلعليه‌السلام ـ واحد ليس إلّا لما يستفاد من الرّوايات أنّ جماعات كثيرة من الملائكة كانوا يصاحبون جبرئيلعليه‌السلام عند نزول الآيات القرآنية ، كقوله تعالى في الآية (١٥) من سورة عبس :( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) .

والآن لا بدّ أن نرى الغرض من هذه الأيمان ، الآية التالية ترفع الستار عن هذا المعنى ، فتقول :( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ) .

إنّ البعث والنشور ، والثواب والعقاب والحساب والجزاء كلها حق لا ريب

٢٨٩

فيه.

ويرى البعض أنّها إشارة إلى جميع الوعود الإلهية ، وتشمل وعود الصالحين والصالحين ، في الدنيا كانت أو في الآخرة ، ولكنّ الآيات التالية توحي أنّ المراد هو الوعد بالقيامة(١) .

وهنا وإن لم يستدل في هذه الآية على مسألة المعاد واكتفى بالادعاء ، فإنّ ظرافة الموضوع تكمن في أنّ مواضيع الأيمان السابقة تعتبر بحدّ ذاتها دلائل للمعاد ، منها إحياء الأراضي الميتة بالأمطار ، وهذا نموذج ممّا يحدث في المعاد ، ثمّ نزول التكاليف الإلهية على الأنبياء وإرسال الرسل ممّا لا يكون الهدف منه واضحا ومفهوما إلّا بوجود المعاد ، وهذا يشير إلى أنّ واقعة البعث أمر حتمي.

وجاء ما يشابه هذا الموضوع في الآية (٢٣) من سورة الذاريات إذ يقول الله تعالى :( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ ) القسم بالربّ يعتبر إشارة إلى أنّ ربوبية الربّ وتدبيره عالم الخلق يستوجب عدم تركه للخلق دون رزق.

ثمّ ينتهي إلى تبيان علامات ذلك اليوم الموعود ، فيقول : إذا تحقّق ذلك اليوم الموعود فإنّ النجوم سوف تنطفئ وتمحى( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) .

( وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ) أي انشقت.

( وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) أي زالت وانقلعت من مكانها.

(طمست) : من مادة (طمس) ـ على وزن شمس ـ وهو محو وزوال آثار الشيء ، ومن الممكن أن تشير العبارة هنا إلى محو نور النجوم أو اختفائها ، ولكن التفسير الأول أنسب ، كقوله في الآية (٢) من سورة التكوير :( وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) .

نسفت : من مادة (نسف) ـ على وزن حذف ـ وفي الأصل ، بمعنى وضع حبوب الغذاء في الغربال وتحريكه لعزل القشور عن الحبوب ، ويعني هنا تفتيت

__________________

(١) العطف بالفاء أيضا يقوي هذا المعنى.

٢٩٠

الجبال ثمّ نسفها في الريح ، ونستفيد من بعض آيات القرآن المجيد أنّ انقراض العالم يلازم وقوع حوادث مهولة بحيث يتلاشى نظام العالم بكامله. وحلول نظام الآخرة الجديد مكان ذلك النظام ، ولا يمكن وصف تلك الحوادث بأي بيان لما فيها من الرعب والعجب ، وهل يوصف حادث تنقلع فيه الجبال وتندك لتتحول إلى غبار وتكون كالصوف المنفوش؟! وكما يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الحوادث عظيمة للغاية بحيث أنّ أشد الزلازل المهيبة في الدنيا بالنسبة لها كفرقعة صغيرة يفرقعها الأطفال للّعب بها مقابل أقوى قنبلة ذرية.

وعلى أي حال فإنّ هذه التعابير القرآنية تشير إلى الاختلاف الكبير بين أنظمة الآخرة وأنظمة الدنيا.

ثمّ أشار القرآن بعد ذلك إلى ما يجري في البعث ، فيضيف : وفي ذلك الوقت يتمّ تعيين وقت للأنبياء والرسل ليأتوا إلى ساحة المحشر ويدلوا بشهادتهم :( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) (١) وهو كقوله :( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) .(٢) ثمّ يضيف تعالى :( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ) (٣) ، أي لماذا تمّ تأخير هذه الشهادة ولأي وقت؟ ثم يقول :( لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) يوم فصل الحق عن الباطل ، فصل صفوف المؤمنين عن الكافرين ، والأبرار عن الأشرار ، ويوم حكم الله المطلق على الجميع ، وقد جاء هذا الحوار لبيان عظمة ذلك اليوم ، ويا له من تعبير بليغ عميق لذلك اليوم ، إنّه «يوم الفصل»!!.

ثمّ يبيّن عظمة ذلك اليوم أيضا ، فيقول تعالى :( وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ )

__________________

(١) (أقّتت) أصلها (وقّتت) من مادة (وقت) إذ أن الواو المضمومة بدلت إلى الهمزة ، ويعني توقيت الوقت لرسل الله تعالى ، وهذا واضح إذ لا يعين لهم وقت بل يتعيّن لعملهم ، أي لشهادتهم على الأمم ، ولذا قيل إن في الآية حذفا.

(٢) الأعراف ، الآية ٦.

(٣) طبقا لهذا التفسير فإن الضمير في (أجلت) يعود إلى شهادة الأنبياء والرسل على الأمم ، وهو ما يستفاد منه في الآية السابقة ، وقيل إنّه يعود إلى جميع الأمور المرتبطة بالأنبياء وما أعطوا من الأخبار بالثواب والعقاب وحوادث القيامة وغيرها ، وقيل : إنّها إشارة إلى جميع الأمور التي وردت في الآيات السابقة كظلام النجوم وغيرها ، ولكن من الواضح أن التّفسير الأوّل أنسب ، لأنّ مرجع الضمير في الآية متصل بذلك.

٢٩١

إنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعلمه الواسع وبنظره الحاد الذي كان يرى من خلاله أسرار الغيب لم يكن مطلقا بصورة كاملة على أبعاد عظمة ذلك اليوم ، فكيف بسائر الناس : وقد قلنا مرارا إنّنا لا نستطيع الإحاطة والعلم بجميع أسرار القيامة العظيمة فنحن سجناء قفص الدنيا ، وما نتصوره عن ذلك اليوم ليس إلّا شبحا وخيالا يحكي عن مجريات الآخرة.

وفي آخر آية من آيات بحثنا هدد الله تعالى المكذبين بيوم القيامة تهديدا شديدا وقال :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

ويل : قيل هو الهلاك ، وقيل المراد به العذاب المتنوع ، وقيل هو واد في جهنّم مليء بالعذاب ، وتستخدم هذه الكلمة عادة فيما يخص الحوادث المؤسفة ، وهنا تحكي الآية عن مصير المكذبين المؤلم في ذلك اليوم(١) .

المراد بالمكذبين هنا هم المكذبون بيوم القيامة ، ونعلم أنّ من لا يؤمن بيوم القيامة ومحكمة العدل الإلهي وبالحساب والجزاء يسهل عليه أن يرتكب الذنوب والظلم والفساد ، بعكس الإيمان الراسخ بذلك اليوم فإنّه يهب الإنسان التقوى والإحساس بالمسؤولية.

* * *

ملاحظات

١ ـ محتوى هذه الأيمان

في الآيات السابقة ذكر أولا بالرياح والأعاصير لما لها من الدور الهام في عالم الخلقة ، فإنّها تحرك السحاب لتقودها إلى الأراضي اليابسة والميتة ، وتصريفها بعد نزول الأمطار ، وتنقل بذور النباتات من مكان إلى آخر وبذلك تنمو الغابات والمراتع ، وتلقّح الرياح أيضا كثيرا من الأزهار والثمار ، وتنقل الحرارة

__________________

(١) ورد مزيد من التوضيح في باب معنى (ويل) واختلافه مع (ويس) و (ريح) في ذيل الآية (٦٠) من سورة الذاريات.

٢٩٢

والبرودة من مناطق الأرض المختلفة إلى نقاط أخرى فتساعد بذلك على تعديل المناخ ، وتأخذ الهواء الطازج المليء بالأوكسجين من المزارع والصحاري إلى المدن ، ثم ترسل الهواء الملوث إلى الصحاري والبحار لغرض التصفية. ثم إنّها تثير مياه البحار وتجعلها أمواجا متلاطمة ، وتدخل الأوكسجين إلى الموجودات المائية الحيّة ، نعم إنّ للرياح والنسيم خدمات عظيمة وحياتية في الكون.

القسم الآخر من الأيمان يتحدث عن منهج نزول الوحي بوسيلة الملائكة ، فإنّ في عالم المعنى أيضا شبها مع النسيم في عالم المادة ، الملائكة يهبطون بكلمات الوحي على قلوب أنبياء الله تعالى كما تنزل قطرات المطر المباركة فتنمو أزهار وثمار المعارف الإلهية في القلوب.

وعلى هذا الأساس فإنّ الله تعالى قد أقسم بمربّي عالم المادة وبمربّي عالم المعنى ، والظريف أنّ جميع هذه الأقسام هو من أجل بيان حقيقة ذلك اليوم الذي تثمر فيه جميع المساعي وهو يوم القيامة ، يوم الفصل.

* * *

٢٩٣

الآيات

( أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) )

التّفسير

جزاء المكذبين بالمعاد

هذه الآيات أيضا تحذّر وبطرق مختلفة المنكرين للبعث ، وتوقظهم ببيانات مختلفة من نوم الغفلة العميق ؛ فتأخذ بأيديهم أوّلا إلى ما مضى من التاريخ لتريهم الأراضي المترامية الأطراف التي كانت ملكا للأقوام السابقين ، فيقول تعالى :( أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ) .

٢٩٤

إنّ آثارهم واضحة على صفحات البسيطة. وليس على صفحات التاريخ فحسب ، أقوام ـ كقوم عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وقوم فرعون ـ عوقبوا جزاء لأعمالهم فبعض أبيدوا بالطوفان وآخرون بالصاعقة ، وجماعة بقوة الرياح ، وقوم بالزلزلة وأحجار السماء.

( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ) لأنّها سنّة مستمرة لا تبعيض فيها ولا استثناء ، وهل يمكن أن يعاقب جماعة لجرم ما ، ويقبل ذلك الجرم من آخرين؟!

ولذا يضيف تعالى في الآية الأخرى :( كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) .

هذه الآية في الحقيقة هي بمنزلة بيان الدليل على هلاك الأمم الأولى ويستتبعه هلاك الأمم الأخرى ، لأنّ العذاب الإلهي ليس فيه جانب الثأر ولا الانتقام الشخصي. بل إنّه تابع لأصل الاستحقاق ومقتضى الحكمة.

وقال البعض : إنّ المراد من (الأولين) هم الأمم المتوغلة في الماضي البعيد كقوم نوح وعاد ثمود ، و (الآخرين) اللاحقون بهم من الأمم الغابرة أمثال قوم لوط وقوم فرعون ولكنّنا نلاحظ أنّ (نتبعهم) جاءت بصيغة فعل مضارع ، والحال أنّ عبارة (ألم نهلك) وردت بصيغة الماضي ، فيتضح من ذلك أنّ (الأولين) هم الأمم السابقة الذين هلكوا بالعذاب الإلهي و (الآخرين) هم الكفار المعاصرون للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الذين يأتون إلى الوجود فيما بعد ، ويتلوثون بالجرائم والمعاصي والظلم والفساد.

ثمّ يضيف مستنتجا :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

( يَوْمَئِذٍ ) : إشارة إلى يوم البعث الذي يعاقب فيه المكذبون بالعقوبات الشديدة ، والتكرار هو لتأكيد المطلب ، وما احتمله البعض من أنّ هذه الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي ، والآية المشابهة لها والتي وردت سابقا ناظرة إلى العذاب الأخروي يبدو بعيدا جدّا.

ثمّ يمسك القرآن بأيديهم ليأخذهم إلى عالم الجنين ويريهم عظمة الله

٢٩٥

وقدرته وكثرة مواهبه في هذا العالم المليء بالأسرار ، ليفهموا قدرة الله تعالى على المعاد والبعث من جهة وأنّهم غارقون في نعمه اللامتناهية من جهة أخرى ، فيقول تعالى :( أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) أي تافه وحقير( فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ) (١) .

مقرّ فيه ضمان لجميع ظروف الحياة والتربية والنمو والمحافظة على نطفة الإنسان ، فهو عجيب وظريف وموزون بحيث يثير إعجاب كل إنسان.

ثمّ يضيف تعالى : أنّ بقاء النطفة في ذلك المكان المكين والمحفوظ إنّما هو لمدة معينة :( إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) .

مدة لا يعلمها إلّا الله تعالى ، مدة مملوءة بالتغيرات والتحولات الكثيرة بحيث ترتدي النطفة في كل يوم لباسا جديدا من الحياة يؤدي به إلى التكامل في داخل ذلك المخبأ.

ثمّ يستنتج من قدرته تعالى على خلق الإنسان الكامل والشريف من نطفة حقيرة بأن الله تعالى نعم القادر :( فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ) (٢) (٣) وهذا الدليل اعتمده القرآن مرات عديدة لإثبات مسألة المعاد منها قوله تعالى في أول سورة الحج :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

__________________

(١) (قرار) : هو محل الاستقرار و (مكين) يعني محفوظ ، وأصله من المكانة المشتقة من التمكن (وتأتي المكانة أحيانا بمعنى المنزلة).

(٢) للآية حذف تقديره (فنعم القادرون نحن) أي أن المحذوف هو المخصوص بالمدح.

(٣) قال بعض المفسّرين إن معنى الآية هكذا : (إنا قدرنا النطفة بمقاييس ضرورية ومقادير مختلفة ، وخصوصيات في جسم الإنسان وروحه ، فنعم القادرون) ولكن هذا المعنى يبدو بعيدا لأن متن القرآن والقراءة المعروفة له غير مشددة ولذا يبدوا بعيدا وإن قال بعض إن المادة الثلاثية المجردة وردت بمعنى التقدير ، ولكن في الاستعمالات العادّية لا تستعمل كلمة (قادر) بهذا المعنى.

٢٩٦

ثمّ يعود في النهاية ليكرر تلك الآية وهو قوله :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) الويل لأولئك الذين يرون آثار قدرة الله تعالى ثمّ ينكرونها ، يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «أيّها المخلوق السوي ، والمنشأ المرعي في ظلمات الأرحام ومضاعف الأستار ، بدئت من سلالة من طين ، ووضعت في قرار مكين ، إلى قدر معلوم ، وأجل مقسوم ، تمور في بطن أمّك جنينا لا تحير دعاء ، ولا تسمع نداء ، ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها ، ولم تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمّك ، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟!»(١) .

ثمّ يقول تعالى :( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢) ، أَحْياءً وَأَمْواتاً ) (٣) .

«كفات» : ـ على وزن كتاب ـ و (كفت) ـ على وزن كشف ـ هو جمع وضم الشيء للآخر ، ويقال أيضا لسرعة طيران الطيور «كفات» لجمعه لأجنحته حال الطيران السريع حتى يتمكن من شق الهواء والتقدم أسرع.

والمراد هو أنّ الأرض مقر لجميع البشر : إذ تجمع الأحياء على ظهرها وتهيء لهم جميع ما يحتاجونه ، وتضم أمواتهم في بطنها ، فلو أنّ الأرض لم تكن مهيئة لدفن الأموات لسبب العفونة والأمراض الناتجة منها فاجعة لجميع الأحياء.

نعم ، إنّ الأرض هي كالأم التي تجمع أولادها حولها وتضمهم تحت أجنحتها ، وتغذيهم ، وتلبسهم ، وتسكنهم ، وتقضي جميع حوائجهم ، وتحفظ أمواتهم في قلبها أيضا ، وتمتصهم وتزيل مساوئ آثارهم.

وفسّر بعضهم «الكفات» بالطيران السريع ، والآية تشير إلى حركة الأرض

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٦٣.

(٢) «كفاتا» : مفعول ثاني لـ (جعلنا) وهو مصدر قد جاء بصيغة اسم فاعل.

(٣) «أحياء وأمواتا» : حال لضمير مفعول محذوف تقديره (كفاتا لكم أحياء أمواتا).

٢٩٧

حول الشمس والحركات الأخرى والتي كانت غير مكتشفة زمن نزول القرآن.

ولكن بملاحظة الآية الأخرى أي( أَحْياءً وَأَمْواتاً ) يتضح أنّ التفسير الأوّل أنسب ، ويؤيد ذلك قول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عند رجوعه من صفين ووصوله قرب الكوفة ، حيث قال وهو ينظر إلى مقبرة خارج الكوفة : «هذه كفات الأموات» أي مساكنهم. ثم نظر إلى منازل الكوفة فقال : «هذه كفات الأحياء» ثم تلا هذه الآيات :( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً ) (١) .

ثمّ يشير تعالى إلى إحدى النعم الإلهية العظيمة في الأرض ، فيضيف :( وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ ) (٢) هذه الجبال التي قاربت بارتفاعها السماء ، واتصلت أصولها بالبعض الآخر قد لزمت الأرض كالدرع من جهة لحفظها من الضغط الداخلي والضغوط الناتجة من الجزر والمد الخارجي ، ومن جهة أخرى تمنع اصطكاك الرياح مع الأرض حيث تمدّ قبضتها في الهواء لتحركه حول نفسها وكذلك تنظم حركة الأعاصير والرياح من جهة ثالثة ، ولهذا تكون الجبال باعثة على الاستقرار لأهل الأرض.

وفي آخر الآية إشارة إلى إحدى البركات الأخرى للجبال فيضيف تعالى :( وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً ) ماءا سائغا لكم وباعثا للحياة ، ولحيواناتكم ولبساتينكم.

صحيح أنّ كل ماء مستساغ هو من المطر ، ولكن للجبال الدور الأهم في الإيفاء بهذا الغرض ، فإنّ كثيرا من العيون والقنوات هي من الجبال ، ومصدر الأنهار العظيمة هي من الجليد المتراكم على قمم الجبال ، حيث تعتبر من الذخائر المائية المهمّة للإنسان ، إنّ قمم الجبال تكون باردة على الدوام لبعدها عن سطح الأرض ، ولهذا فإنّها تحافظ على الجليد المتراكم عليها لآجال طويلة حتى تتأثر

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤١٧ (نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم).

(٢) «رواسي» : جمع راسية ، وهي الثابتات ، و (شامخات) جمع شامخ ، أي عال ، وتأتي بعض العبارات كالقول (شمخ بأنفه) كناية عن التكبر (مفردات الراغب).

٢٩٨

بشعاع الشمس فيتحول إلى ماء ويتدفق بالتالي على شكل أنهار وجداول.

ثمّ يقول في نهاية هذا القسم :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

أولئك الذين ينكرون كل هذه الآيات وعلامات قدرة الله التي يرونها بأعينهم ، وكذلك يشاهدون النعم الإلهية التي غرقوا فيها ، ثمّ ينكرون البعث ومحكمة القيامة التي هي مظهر العدل والحكمة الإلهية.

* * *

٢٩٩

الآيات

( انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) )

التّفسير

لا قدرة لهم للدفاع ولا طريقا للفرار

في هذه الآيات تبيان لمصير المكذبين بيوم القيامة ، والمنكرين لتلك المحكمة الإلهية العادلة ، تبيان يدخل الرعب والرهبة في قلب الإنسان ، ويوضح أبعاد الفاجعة ، يقول تعالى :( انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) ، انطلقوا إلى جهنّم التي طالما كنتم تستهزئون بها ، توجهوا إلى أنواع العذاب التي هيئتموها بأعمالكم

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511