الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل15%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 511

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 511 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141014 / تحميل: 5812
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

أشير إليها في كتابكم السماوي لو أنّكم قرأتموه وعملتم به.

يقول تعالى :( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ) أي نزلت عليهم التوراة وكلّفوا بالعمل بها ولكنّهم لم يؤدّوا حقّها ولم يعملوا بآياتها فمثلهم( كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ) .

لا يشعر هذا الحيوان بما يحمل من كتب إلّا بثقلها ، ولا يميّز بين أن يكون المحمول على ظهره خشب أو حجر أو كتب فيها أدقّ أسرار الخلق وأحسن منهج في الحياة.

لقد اقتنع هؤلاء القوم بتلاوة التوراة واكتفوا بذلك دون أن يعملوا بموجبها.

هؤلاء مثلهم كمثل الحمار الذي يضرب به المثل في الغباء والحماقة.

وذلك أوضح مثال يمكن أن يكشف عن قيمة العلم وأهميّته.

ويشمل هذا الخطاب جميع المسلمين الذين يتعاملون بألفاظ القرآن دون إدراك أبعاده وحكمه الثمينة. (وما أكثر هؤلاء بين المسلمين).

وهناك تفسير آخر هو أنّ اليهود لمّا سمعوا تلك الآيات والآيات المشابهة في السور الاخرى التي تتحدّث عن نعمة بعث الرّسول قالوا : نحن أهل كتاب أيضا ، ونفتخر ببعثة سيّدنا موسىعليه‌السلام كليم الله ، فردّ عليهم القرآن أنّكم جعلتم التوراة وراء ظهوركم ولم تعملوا بما جاء فيها.

على أي حال يعتبر ذلك تحذيرا للمسلمين كافّة من أن ينتهوا إلى ما انتهى إليه اليهود فقد شملتهم الرحمة الإلهية ونزل عليهم القرآن الكريم ، لا لكي يضعوه على الرفوف يعلوه الغبار ، أو يحملوه كما تحمل التعاويذ أو ما إلى ذلك. وقد لا يتعدّى اهتمام بعض المسلمين بالقرآن أكثر من تلاوته بصوت جميل في أغلب الأحيان.

ثمّ يقول تعالى :( بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ) إذ لم يكتفوا بمخالفة القرآن عملا ، بل أنكروه بلسانهم أيضا ، حيث نصّت الآية (٨٧) من سورة

٣٢١

البقرة وهي تصف اليهود قائلة :( أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) .

ويقول تعالى في آخر الآية في عبارة وجيزة :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

صحيح أنّ الهداية شأن إلهي ، ولكن ينبغي أن تهيّأ لها الأرضية اللازمة ، وهي الروح التواقة لطلب الحقّ والبحث عنه ، وهي امور يجب أن يهيّئها الإنسان نفسه ، ولا شكّ أنّ الظالمين يفتقدون مثل هذه الأرضية.

وأوضحنا سابقا أنّ اليهود اعتبروا أنفسهم امّة مختارة ، أو نسيجا خاصّا لا يشبه غيره ، وذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما ادّعوا أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه المنتقمون ، وهذا ما أشارت إليه الآية (١٨) من سورة المائدة :( وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (رغم أنّهم يقصدون الأبناء المجازيين).

ولكن القرآن شجب هذا التعالي مرّة اخرى بقوله :( قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١) .

فالأحبّاء يتمنون اللقاء دائما ، ولا يتمّ اللقاء المعنوي بالله يوم القيامة إلّا عند ما تزول حجب عالم الدنيا وينقشع غبار الشهوات والهوى ، وحينئذ سيرى الإنسان جمال المحبوب ويجلس على بساط قربه ، ويكون مصداقا لـ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) فيدخل إلى حرم الحبيب.

إنّ خوفكم وفراركم من الموت دليل قاطع على أنّكم متعلّقون بهذه الدنيا وغير صادقين في ادّعائكم.

ويوضّح القرآن الكريم هذا المعنى بتعبير آخر في سورة البقرة آية (٩٦) عند ما يقول تعالى :( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ

__________________

(١) اعتبر بعض المفسرين (من دون الناس) حالا لاسم إن ، بينما قال آخرون : إنها صفة لأولياء.

٣٢٢

أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) .

ثمّ يشير القرآن إلى سبب خوفهم من الموت بقوله :( وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) .

لأنّ خوف الإنسان من الموت ناشئ من عاملين أساسيين :

الأوّل : عدم إيمان الإنسان بالحياة بعد الموت واعتقاده أنّ الموت زوال وفناء.

والثّاني : أعماله السيّئة التي يعتقد أنّه سيواجهها بعد مماته في عالم الآخرة عند ما تقام المحكمة الإلهية.

وإنّما يخاف اليهود من الموت لسوء أعمالهم إذ أنّهم يعتقدون ـ أيضا ـ بيوم الحساب.

وقد وصفهم القرآن الكريم بالظالمين ، وذلك لأنّ الظلم يتّسع ليشمل جميع الأعمال السيّئة والجرائم التي ارتكبوها ، من قتلهم الأنبياء وقول الزور وغصب الحقوق وتلوّثهم بمختلف المفاسد الأخلاقية.

غير أنّ هذا الخوف وذلك الفرار لا يجدي شيئا ، فالموت أمر حتمي لا بدّ أن يدرك الجميع ، إذ يقول تعالى :( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

الموت قانون عام يخضع له الجميع بما فيهم الأنبياء والملائكة وجميع الناس( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .

وكذلك المثول أمام محكمة العدل الإلهي لا يفلت منها أحد ، إضافة إلى علم الله تعالى بأعمال عباده بدقّة وبتفصيل كامل.

وبهذا سوف لا يكون هناك طريق للتخلّص من هذا الخوف سوى تقوى الله وتطهير النفس والقلب من المعاصي ، وبعد أن يخلص الإنسان لله تعالى فإنّه لن

٣٢٣

يخاف الموت حينئذ.

ويعبّر الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام عن هذه المرحلة بقوله : «هيهات بعد اللتيا والتي ، والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امّه»(١) .

* * *

بحثان

١ ـ العالم بلا عمل

ممّا لا شكّ فيه أنّ لطلب العلم تبعات ومسئوليات عديدة ، ولكن مع كثرة هذه التبعات فإنّها لا تساوي شيئا أمام بركاته. وأشدّ ما يخيف الإنسان ويقلقه أن يتحمّل مصاعب طلب العلم ، ويعاني في سبيل ذلك الأمّرين دون أن يحصد بركاته ، وعندها سيكون مثل هذا الإنسان كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا على ظهره لا يعلم منها شيئا.

وقد شبّه العالم بلا عمل في بعض الأمثال بأنّه (كالشجر بلا ثمر) أو (كالسحاب بلا مطر) أو (كالشمعة التي تحرق نفسها لتضيء أطرافها ولكنّها تفنى وتزول) أو (كالحيوان الذي يدير الطاحونة فإنّه يمشي ساعات طويلة دون أن يقطع أيّة مسافة بل يبقى دائما يدور حول نفسه) ، وما إلى ذلك من التشبيهات التي يوضّح كلّ واحد منها جانبا من جوانب النقص حينما لا يقرن العلم بالعمل.

وقد حملت الروايات بشدّة على مثل هؤلاء العلماء الذين لا يعملون بما يعلمون ، ففي رواية عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من إزداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلّا بعدا»(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ٥.

(٢) المحجّة البيضاء ، ج ١ ، ص ١٢٥ ، ١٢٦.

٣٢٤

والعلم يهتف بالعمل فإنّ أجابه وإلّا ارتحل عنه»(١) .

وفي رواية اخرى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتبر العالم الذي لا يعمل بموجب علمه غير جدير بهذا اللقب حيث يقول : «لا يكون المرء عالما حتّى يكون بعلمه عاملا»(٢) .

وليس أفضل من العالم الذي يعمل بعلمه دون أن يستفيد من مزايا العلم ذاتيا وماديا ، فقد ورد عن أمير المؤمنين في خطبة له على المنبر «أيّها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلّكم تهتدون ، إنّ العالم العامل بغيره ، كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله بل قد رأيت أنّ الحجّة عليه أعظم والحسرة أدوم»(٣) .

ومثل هؤلاء العلماء سيكونون بلاء على المجتمع ووبالا عليه ، وسينتهي المجتمع الذي علماؤه من هذا القبيل إلى مصير خطير.

يقول الشاعر :

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها

فكيف إذا الرعاة لها ذئاب!

٢ ـ لماذا أخاف الموت

قلّة من الناس فقط لا يخافون الموت ويبتسمون له ويحتضنونه ويهبون تلك النفس المتعبة ليحصلوا على الخلود.

والآن لماذا تخاف الموت الأغلبية الغالبة من الناس وتخاف من أعراضه ، بل حتّى من اسمه؟

إنّ السبب الأساسي وراء هذا الخوف هو عدم إيمان هؤلاء بالحياة بعد الموت ، أو إذا كانوا مؤمنين بذلك فإنّهم لم يصدّقوا به تصديقا حقيقيّا ، ولم يتمكّن

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار (٣٦٦).

(٢) اصول الكافي ، ج ١ ، باب استعمال العلم ، حديث ٢٢٦.

(٣) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٦٠٣.

٣٢٥

من جميع أفكارهم وإحساساتهم ومشاعرهم.

إنّ خوف الإنسان من العدم شيء طبيعي ، بل إنّ الإنسان يخاف من الظلمة في الليل التي هي عدم النور ، وأحيانا يصل بالإنسان الخوف إلى أنّه يخاف من الميّت.

ولكن إذا صدقت النفس أنّ (الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر) وإذا أيقنت هذه النفس أنّ هذا البدن الترابي إنّما هو سجن للروح وسور يضرب الحصار عليها ، إذا آمنت بذلك حقّا وكانت نظرة الإنسان إلى الموت هكذا فإنّه سوف لن يخشى الموت أبدا ، وفي نفس الوقت الذي يعتزّ بالحياة من أجل الارتقاء في سلّم التكامل.

لهذا نجد في قصّة عاشوراء : أنّه كلّما ضاقت حلقة الأعداء وإزداد ضغطهم على الإمام الحسين وأصحابه ازدادت وجوههم إشراقا ، حتّى أنّ الشيوخ من أصحابه كانت الابتسامة تطفو على وجوههم في صبيحة عاشوراء ، وحينما كانوا يسألون يقولون : إنّنا سنستشهد بعد ساعات فنعانق الحور العين(١) .

والسبب الآخر الذي يجعل الإنسان يخاف من الموت هو التعلّق بالدنيا أكثر من اللازم ، الأمر الذي يجعله يرى الموت الشيء الذي سيفصله عن محبوبه ومعشوقه التي هي الدنيا.

وكثرة السيّئات وقلّة الحسنات في صحيفة الأعمال هي السبب الثالث وراء الخوف من الموت ، فقد جاء أنّ رجلا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله ، ما بالي لا أحبّ الموت؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لك مال؟ قال : نعم ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد قدّمته؟ قال : لا. قال : فمن ثمّة لا تحبّ الموت»(٢) (لأنّ صحيفة أعمالك خالية من الحسنات).

__________________

(١) مقتل الحسين ـ المقرّم ـ ص ٢٦٣.

(٢) المحجّة البيضاء ، ج ٨ ، ص ٢٥٨.

٣٢٦

وجاء رجل آخر وسأل (أبا ذرّ) نفس السؤال فأجابه أبو ذرّ قائلا : «لأنّكم عمّرتم الدنيا وخرّبتم الآخرة ، فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب»(١) .

* * *

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٨ ، ص ٢٥٨.

٣٢٧

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١) )

سبب النّزول

نقل في سبب نزول هذه الآيات وخصوصا الآية( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً ) روايات مختلفة جميعها تخبر عن معنى واحد ، هو أنّه في أحد السنوات «أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم «دحيّة بن خليفة» بتجارة زيت من الشام والنبي يخطب يوم الجمعة فلمّا رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي إلّا رهط فنزلت الآية فقال : «والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا».

٣٢٨

وقال المقاتلان : بينا رسول الله يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحيّة بن خليفة بن فروة الكلبي ثمّ أخذ بني الخزرج ثمّ أخذ بني زيد بن مناة من الشام بتجارة وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلّا أتته وكان يقدم إذا قدم بكلّ ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيره فينزل عند «أحجار الزيت» ، وهو مكان في سوق المدينة ثمّ يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول الله قائم على المنبر يخطب فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلّا إثنا عشر رجلا وامرأة فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو لا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء وأنزل الله هذه الآية(١) .

التّفسير

أكبر تجمّع عبادي سياسي اسبوعي :

كانت الأبحاث السابقة تدور حول مسألة التوحيد والنبوّة والمعاد ، وكذلك ذمّ اليهود عبيد الدنيا ، بينما انصبّ الحديث في الآيات مورد البحث على الركائز الإسلامية المهمّة التي تؤثّر كثيرا على استقرار أساس الإيمان ، وتمثّل الهدف الأساس للسورة ، وهي صلاة الجمعة وبعض الأحكام المتعلّقة بها.

ففي البداية يخاطب الله تعالى المسلمين جميعا بقوله :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

«نودي» من مادّة (نداء) وهي هنا بمعنى الأذان إذ لا نداء للصلاة غير الأذان.

وجاء في الآية (٥٨) من سورة المائدة( وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٨٧ ، وأغلب التفاسير الاخرى.

٣٢٩

فعند ما يرتفع الأذان لصلاة الجمعة يكون لزاما على الناس أن يتركوا مكاسبهم ومعايشهم ، ويذهبوا إلى الصلاة وهي أهمّ ذكر لله.

وعبارة( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ) إشارة إلى أنّ إقامة صلاة الجمعة وترك المكاسب والعمل في هذا الوقت ، خير وأنفع للمسلمين من حطام الدنيا وملاذها الزائلة لو كانوا يعقلون. وإلّا فإنّ الله غني عن الجميع.

هذه نظرة عابرة إلى فلسفة صلاة الجمعة وما فيها من فضائل سنبحثها تباعا.

من الواضح أنّ لأمر ترك البيع والشراء مفهوما واسعا يشمل كلّ عمل يمكن أن يزاحم الصلاة.

أمّا لماذا سمّي يوم الجمعة بهذا الاسم؟ فهو لاجتماع الناس في هذا اليوم للصلاة ، وهذه المسألة لها تاريخ سنبحثه في النقاط القادمة.

ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض الروايات جاءت حول الصلاة اليومية «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة»(١) .

وقد عبّرت الآية السابقة فيما يتعلّق بصلاة الجمعة بقولها (فاسعوا) لتعطي أهميّة بالغة لصلاة الجمعة.

المقصود من (ذكر الله) بالدرجة الاولى هو الصلاة ، ولكنّنا نعلم أنّ خطبتي صلاة الجمعة مشتملة هي الاخرى ومتضمّنة (لذكر الله) وهي في الحقيقة جزء من صلاة الجمعة. وبناء على ذلك ينبغي الإسراع لحضور الخطبتين أيضا.

تضيف الآية التي تليها قائلة :( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

ورغم أنّ عبارة( ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) أو ما يشابهها من تعابير ، وردت في القرآن الكريم للحثّ على طلب الرزق والكسب والتجارة ، لكن الظاهر أنّ مفهوم

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٩٠.

٣٣٠

هذه الجملة أوسع من ذلك بكثير. لهذا فسّرها بعضهم بعيادة المريض وزيارة المؤمن وطلب العلم والمعرفة ، ولم يحصروها بهذه المعاني كذلك.

من الواضح أنّ الانتشار في الأرض وطلب الرزق ليس أمرا وجوبيا ، ولكن ـ كما هو معلوم أصوليّا «أمر بعد الحظر والنهي» ـ دليل على الجواز والإباحة. مع أنّ البعض فهم من هذا التعبير أنّ المقصود هو استحباب طلب الرزق والكسب بعد صلاة الجمعة ، وإشارة إلى كونه مباركا أكثر.

وجاء في الحديث أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمشي في السوق بعد صلاة الجمعة.

جملة( وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً ) إشارة إلى ذكر الله تعالى الذي وهب كلّ تلك البركات والنعم للإنسان. وقال بعضهم : إنّ الذكر هنا يعني التفكّر كما جاء في الحديث «تفكّر ساعة خير من عبادة سنة»(١) .

وفسّرها آخرون بمعنى التوجّه إلى الله تعالى في الكسب والمعاملات وعدم الانحراف عن جادّة الحقّ والعدالة.

غير أنّه من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ تلك المعاني ، كما أنّه من المسلّم أنّ روح الذكر هو التفكّر. والذكر الذي لا يكون مقرونا بالتفكّر لا يزيد عن كونه لقلقة لسان ، وإنّ الذكر الممزوج بالتفكّر هو سبب الفوز في جميع الحالات.

وممّا لا شكّ فيه أنّ استمرار الذكر والمداومة عليه يرسخ الخوف من الله ويعمّقه في نفس الإنسان ، ويجعله يستشعر ذلك في أعماق نفسه ، ويقضي نهائيا على أسباب الغفلة والجهل اللذين يشكّلان السبب الأساس لكلّ الذنوب ، ويضع الإنسان في طريق الفلاح دائما. وهناك تتحقّق حقيقة( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

في آخر الآية ـ مورد البحث ـ ورد ذمّ عنيف للأشخاص الذين تركوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاة الجمعة وأسرعوا للشراء من القافلة القادمة ، إذ يقول تعالى :

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٨٩.

٣٣١

( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ) .

ولكن( قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .

فمن المؤكّد ، أنّ الثواب والجزاء الإلهي والبركات التي يحظى بها الإنسان عند حضوره صلاة الجمعة والاستماع إلى المواعظ والحكم التي يلقيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ينتج عن ذلك من تربية روحية ومعنوية ، لا يمكن مقارنتها بأي شيء آخر. فإذا كنتم تظنّون انقطاع الرزق فإنّكم على خطأ كبير لأنّ( اللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .

التعبير بـ «اللهو» إشارة إلى الطبل وسائر آلات اللهو التي كانت تستعمل عند دخول قافلة جديدة إلى المدينة. فقد كانت تستعمل كإعلان وإخبار عن دخول القافلة ، إضافة إلى كونها وسيلة للترفيه والدعاية واللهو ، كما نشاهد ما يشابه ذلك في الغرب هذه الأيّام.

التعبير بـ «انفضّوا» بمعنى الانتشار والانصراف عن صلاة الجمعة والذهاب إلى القافلة. فقد ورد في سبب النزول أنّ المسلمين تركوا الرّسول في خطبة الجمعة وتجمّعوا مع باقي الناس حول قافلة (دحيّة) ـ الذي لم يكن قد أسلم بعد ـ ولم يبق في المسجد إلّا ثلاثة عشر شخصا أو أقل ، كما جاء في رواية اخرى.

والضمير في «إليها» يرجع إلى التجارة التي أسرعوا إليها ، ولم يكن «اللهو» هو الهدف المقصود بل كان مجرّد مقدّمة للإعلان عن وصول القافلة إلى المدينة ، وكذلك للترفيه والدعاية للبضاعة.

التعبير بـ «قائما» يكشف عن أنّ الرّسول كان واقفا يلقي خطبة الجمعة ، كما جاء في حديث عن جابر أنّه قال : (لم أر رسول الله قطّ يخطب وهو جالس ، وكلّ من قال يخطب وهو جالس فكذّبوه)(١) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٨٦.

٣٣٢

وجاء في رواية اخرى أنّه سئل عبد الله بن مسعود يوما : هل كان الرّسول يخطب واقفا؟ قال : ألم تسمعوا قوله تعالى :( وَتَرَكُوكَ قائِماً ) (١) .

وجاء في «الدرّ المنثور» أنّ معاوية كان أوّل شخص ألقى خطبة الجمعة وهو «قاعد».

* * *

بحوث

١ ـ أوّل صلاة جمعة في الإسلام

جاء في بعض الرّوايات أنّ مسلمي المدينة كانوا يتحدّثون مع بعضهم ـ قبل هجرة الرّسول إليهم ـ أنّ لليهود يوما يجتمعون فيه هو (السبت) وللنصارى يوما يجتمعون فيه هو (الأحد) فلما ذا لا نتّخذ نحن يوما معيّنا نذكر الله فيه كثيرا ونشكره؟ وانتخبوا يوما قبل السبت وكان يسمّى (يوم العروبة) وذهبوا إلى (أسعد بن زرارة) ـ أحد وجهاء المدينة وقد صلّى بهم جماعة ووعظهم وسمّي ذلك اليوم بيوم الجمعة لاجتماع المسلمين به. ثمّ أمر (أسعد) أن يذبحوا كبشا ليصنعوا منه غداء وعشاء لجميع المسلمين الذين كان عددهم من القلّة بحيث كفاهم الكبش لهاتين الوجبتين. وكانت هذه أوّل جمعة تقام في الإسلام.

أمّا أوّل جمعة أقامها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه فكانت بعد وصوله إلى المدينة بأربعة أيّام ، وكان وصوله يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل ، بقي بعدها أربعة أيّام في قبا فبنوا (مسجد قبا) وتحرّكوا بعدها إلى المدينة ، وكان ذلك يوم الجمعة ، ولم تكن المسافة بين قبا والمدينة طويلة (وتعتبر قبا اليوم من ضواحي المدينة).

وكان الرّسول قد وصل ضاحية (بني سالم) عند أذان الجمعة فأقيمت صلاة الجمعة

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٢٢ ، ومفسّرين آخر كـ (الآلوسي في روح المعاني والقرطبي).

٣٣٣

هناك. وهذه هي أوّل جمعة أقامها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإسلام ، وقد ألقى فيها خطبة كانت هي بدورها أوّل خطبة لرسول الله في المدينة المنوّرة)(١) .

نقل أحد المحدّثين عن عبد الله بن كعب قوله : (إنّ أبي كان يترحّم على أسعد بن زرارة كلّما سمع أذان صلاة الجمعة ، وعند ما سألته عن سبب ذلك أجابني : (لأنّه كان أوّل رجل أقام صلاة الجمعة) ، فقلت : كم كان عددكم ذلك اليوم؟ قال : أربعون رجلا فقط)(٢) .

٢ ـ أهميّة صلاة الجمعة

إنّ أفضل دليل على أهميّة هذه الفريضة العظيمة هو الآيات الأخيرة في هذه السورة المباركة ، التي أمرت جميع المسلمين وأهل الإيمان بمجرّد سماعهم لأذان الجمعة أن يسرعوا إليها ويتركوا الكسب والعمل ، وكلّ ما من شأنه أن يزاحم هذه الفريضة ، إلى الحدّ الذي نهتهم عن الذهاب إلى تلك القافلة رغم حاجتهم الماسّة إلى ما فيها من طعام إذ كانوا يعيشون القحط والمجاعة. ودعتهم إلى الاستمرار في صلاة الجمعة حتّى النهاية.

ورد في أحاديث اخرى في هذا المجال ـ أيضا ـ منها الخطبة التي نقلتها جميع مصادر المسلمين عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جاء فيها قوله : «إنّ الله تعالى فرض عليكم الجمعة ، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافا بها أو جحودا لها ، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ألا ولا زكاة له ، ألا ولا حجّ له ، ألا ولا صوم له ، ألا ولا برّ له ، حتّى يتوب»(٣) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «صلاة الجمعة فريضة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٨٦.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٨٨.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٧ ، باب وجوب صلاة الجمعة ، حديث ٢٨.

٣٣٤

والاجتماع إليها فريضة مع الإمام ، فإن ترك رجل من غير علّة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض ولا يدع ثلاث فرائض من غير علّة إلّا منافق»(١) .

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتى الجمعة إيمانا واحتسابا استأنف العمل»(٢) . أي استغفر ذنوبه ويبدأ العمل من جديد.

والرّوايات كثيرة في هذا المجال ولا يتّسع المجال لذكرها جميعا ، لذا نحاول أن ننهي هذا البحث بحديث آخر ، حيث جاء رجل إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنّي تهيّأت عدّة مرّات للحجّ ولكنّي لم اوفّق. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليك بالجمعة فإنّها حجّ المساكين»(٣) . وفي ذلك إشارة إلى أنّ ما يتضمّنه هذا المؤتمر الإسلامي الكبير (أي الحجّ) من بركات ، موجودة في اجتماع صلاة الجمعة.

ومن الملفت للنظر أنّه قد ورد ذمّ شديد لتارك صلاة الجمعة ، حتّى عدّ التاركون للجمعة في صفّ المنافقين عند ما تكون صلاة الجمعة واجبا عينيّا (أي في زمن حضور الإمام المعصومعليه‌السلام ) وأمّا في زمن الغيبة ـ وبناء على أنّه واجب مخيّر بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر ـ فإنّه لا يكون مشمولا بهذا الذمّ والتقريع رغم عظمة صلاة الجمعة وأهميّتها في هذا الوقت أيضا (للتوسّع في ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهيّة).

٣ ـ فلسفة صلاة الجمعة العبادية والسياسيّة

إنّ صلاة الجمعة ـ قبل كلّ شيء ـ عبادة جماعية ولها أثر العبادات عموما ، حيث تطهّر الروح والقلب من الذنوب ، وتزيل صدأ المعاصي عن القلوب ، خاصّة وأنّها تكون دائما مسبوقة بخطبتين تشتملان على أنواع المواعظ والحكم ، والحثّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٤ ، حديث ٨.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٥ ، حديث ١٠.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٥ ، حديث ١٧.

٣٣٥

على التقوى وخوف الله.

أمّا من الناحية السياسيّة والاجتماعية فهي أكبر مؤتمر اسبوعي عظيم بعد مؤتمر الحجّ السنوي ، لهذا نجد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في الرواية التي نقلناها سابقا من أنّ الجمعة حجّ من لا يملك القدرة على المشاركة في الحجّ.

ويعطي الإسلام في الحقيقة أهميّة خاصّة لثلاثة مؤتمرات كبيرة :

التجمّعات التي تتمّ يوميا لصلاة الجماعة.

التجمّع الأسبوعي الأوسع في صلاة الجمعة.

ومؤتمر الحجّ الذي يعقد في كلّ سنة مرّة.

ودور صلاة الجمعة مهمّ جدّا خاصّة وأنّ من واجبات الخطيب هو التحدّث في الخطبتين عن المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبذلك سيكون هذا التجمّع العظيم والمهيب منشأ للبركات والنعم التالية :

أـ توعية الناس على المعارف الإسلامية والأحداث السياسية والاجتماعية المهمّة.

ب ـ توثيق الاتّحاد والانسجام بين المسلمين أكثر لإخافة الأعداء.

ج ـ تجديد الروح الدينية وتصعيد معنويات المسلمين.

د ـ إيجاد التعاون لحلّ المشكلات العامّة التي تواجه المسلمين.

ولهذا فإنّ أعداء الإسلام يخافون دائما من صلاة الجمعة الجامعة للشرائط.

ولهذا أيضا ـ كانت صلاة الجمعة مصدر قوّة سياسية في أيدي حكومات العدل كحكومة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي استثمرها أحسن استثمار لخدمة الإسلام ، وكذلك كانت مصدر قوّة أيضا لحكومات الجور كدولة بني اميّة الذين استغلّوها لتحكيم قدرتهم وسيطرتهم وإضلال الناس.

وعلى مدى التأريخ نلاحظ أنّ أي محاولة للتمرّد على النظام تبدأ أوّلا بالامتناع عن صلاة الجمعة خلف الإمام المنصوب من قبل الحاكم ، فقد جاء في

٣٣٦

قصّة عاشوراء أنّ بعض الشيعة اجتمعوا في دار (سليمان بن صرد الخزاعي) ثمّ بعثوا رسالة إلى الإمام الحسين من الكوفة جاء فيها (.. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ، لسنا نجتمع معه في جمعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله»(١) .

وفي الصحيفة السجادية عن الإمام السجّادعليه‌السلام : «اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك ، في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها»(٢) .

وفي خطبة الجمعة يتمّ تبديد جميع الإشاعات التي كان الأعداء قد بثّوها خلال الأسبوع ، وتدبّ بعد ذلك الحياة في جموع المسلمين ويبدأ دم جديد بالتدفّق.

ومن الجدير بالإشارة إليه أنّ فقه أهل البيتعليهم‌السلام ينصّ على عدم جواز إقامة أكثر من جمعة واحدة في منطقة نصف قطرها فرسخ ، كما يمكن أن يشارك في صلاة الجمعة من كان يبعد عنها بمسافة فرسخين (أي ما يعادل أحد عشر كم).

كلّ هذا يعني أنّه لا يمكن إقامة أكثر من صلاة جمعة في مدينة واحدة صغيرة أو كبيرة ، مع أطرافها وضواحيها ، وبناء على هذا فسيكون هذا التجمّع هو أوسع تجمّع يقام في تلك المنطقة.

ولكنّنا نجد مع الأسف أنّ هذه المراسم العبادية السياسية التي تستطيع أن تكون مصدر حركة عظيمة في المجتمعات الإسلامية ، نجدها بسبب سيطرة الحكومات الفاسدة على بعض الدول الإسلامية قد فقدت روحها ومعناها ، إلى الحدّ الذي لا تترك أي أثر إيجابي ، وأصبحت تقام باعتبارها مراسم حكومية رسمية لا أكثر ، وذلك ممّا يحزّ بالنفس ويؤلم كثيرا.

__________________

(١) البحار ، ج ٤٤ ، ص ٣٣٣.

(٢) الصحيفة السجادية ، دعاء ٤٢.

٣٣٧

إنّ أهمّ صلاة جمعة تقام على طول العام هي الصلاة التي تقام قبل الذهاب إلى عرفات في مكّة ، حيث يشارك فيها عدد غفير من الحجّاج الذين تجمّعوا من مختلف أنحاء العالم. ويكون هناك تمثيل حقيقي لكلّ فئات المسلمين في الكرة الأرضية ، ومن اللائق أن يهيّأ لمثل هذه الصلاة الحسّاسة خطبة عظيمة يشارك في إعدادها أئمّة الجمع ليعرضوا فيها امور المسلمين المختلفة.

ومن الطبيعي أن تعطي مثل هذه الخطبة أكلها ، وتفيض بالبركات والوعي بين المسلمين وتحلّ مشاكلهم الخطيرة.

ولكن مع شديد الأسف نرى أنّ خطبة الجمعة في هذه الأيّام لا تتناول سوى الأمور الهامشية ، أو يتمّ التحدّث عن امور معروفة للجميع ، ولا يتمّ التحدّث عن الأمور الأساسية التي تهمّ المسلمين!!

ألا ينبغي البكاء على ذهاب هذه الفرص الذهبية وضياع هذه الثروة المعنوية؟! ألا يدعو ذلك إلى الأسف ويتطلّب الإسراع في الإصلاح؟!

٤ ـ آداب صلاة الجمعة ومضمون الخطبتين

تجب صلاة الجمعة ـ مع توافر الشروط اللازمة ـ على الرجال البالغين والأصحاء الذين لهم القدرة على حضورها والمشاركة فيها ، ولا تجب على المسافرين والمسنّين رغم جواز الحضور فيها للمسافر. وكذلك يمكن للنساء المشاركة في صلاة الجمعة رغم أنّها غير واجبة عليهنّ.

أقلّ عدد يمكن انعقاد الجمعة به هو خمسة رجال.

صلاة الجمعة ركعتين وتقام بدلا عن صلاة الظهر ، وتحسب الخطبتان اللتان يتمّ إلقاؤهما قبل صلاة الجمعة بدل الركعتين الأخيرتين.

وصلاة الجمعة كصلاة الصبح يستحبّ أن يقرأ فيها الحمد والسورة جهرا ،

٣٣٨

ويستحبّ كذلك أن تقرأ سورة الجمعة في الركعة الاولى والمنافقون في الركعة الثانية.

وهناك قنوتان في صلاة الجمعة : أحدهما قبل ركوع الركعة الاولى ، والثاني بعد ركوع الركعة الثانية.

يجب إلقاء الخطبتين قبل الصلاة ، كما يجب أن يقوم الخطيب واقفا لإلقاء الخطبة ، ومن يلقي الخطبة يجب أن يكون إمام صلاة الجمعة. ويجب أن يرفع الخطيب صوته ليسمعه جميع من يحضر الصلاة ويطّلع على مضمون الخطبة. وينبغي السكوت والإنصات إلى الخطيب والجلوس في مقابله.

ومن اللائق أن يكون الخطيب فصيحا وبليغا ومطّلعا على أحوال المسلمين وعارفا بشؤون المجتمع الإسلامي ، وشجاعا وصريح اللهجة ولا يتردّد في إظهار الحقّ ، ويجب أن تكون سيرته مدعاة للتأثير على الناس ، وكذلك حديثه ينبغي أن يربط الناس أكثر بالله جلّ شأنه.

ومن اللائق أن يرتدي الإمام أنظف الملابس ، ويستخدم العطر ، ويمشي بوقار وسكينة. وعند ما يرتقي المنبر يبدأ بالسلام على الناس ويقف مقابلهم ويتكئ على سيف أو عصى. ويجلس على المنبر متى ينتهي الأذان. ويبدأ بخطبته بعد تمام الأذان.

وبحمد الله ويثني عليه ويصلّي على رسوله في بداية الخطبة الاولى (ويقرأ هذا القسم باللغة العربية احتياطا ، وما تبقّى بلسان الحاضرين).

وعليه أن يوصي الناس بتقوى الله ، ويقرأ سورة من السور القصيرة ، ويراعي هذا الأمر في الخطبتين. وفي الخطبة الثانية ، بعد الصلاة على النبي وأئمّة المسلمين ، يدعو ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات.

ومن المناسب أن يناقش الخطيب في خطبته شؤون المسلمين وما يتعلّق بدينهم ودنياهم مع التركيز على الأولويات. وينبغي أن ينبّههم إلى مؤامرات

٣٣٩

الأعداء ويحثّهم ضمن برنامج طويل أو قصير المدّة.

خلاصة القول يجب أن تتوفّر في الخطيب عناصر الوعي والتفكير الصحيح والمتابعة لشؤون المسلمين ، ليستثمر الخطبة في تحقيق الأهداف الإسلامية العليا ، ويدفع المسلمين نحوها(١) .

جاء في حديث عن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّه قال : «إنّما جعلت الخطبة يوم الجمعة لأنّ الجمعة مشهد عام ، فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية ، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم ، ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق ، من الأهوال التي لهم فيها المضرّة والمنفعة وإنّما جعلت خطبتين لتكون واحدة للثناء على الله والتمجيد والتقديس للهعزوجل ، والاخرى للحوائج والأعذار والإنذار والدعاء ولما يريد أن يعلّمهم من أمره ونهيه ما فيه الصلاح والفساد»(٢) .

٥ ـ شرائط وجوب صلاة الجمعة

لا شكّ في وجوب أن يكون إمام الجمعة ـ ككل إمام جماعة ـ عادلا إضافة إلى شروط إضافية وقع خلاف فيها وفي وجوب توفّرها.

وقد ذهب البعض أنّ هذه الصلاة من وظائف الإمام المعصوم ونائبه الخاصّ ، أو بتعبير آخر أنّها ـ أي صلاة الجمعة ـ من شؤون عصر حضور الإمام المعصوم.

هذا في وقت يرى عدد كبير من المحقّقين أنّ حضور الإمام المعصوم شرط للوجوب التعييني لصلاة الجمعة ، وليس شرطا في الوجوب التخييري ، حيث يمكن إقامة صلاة الجمعة في زمان الغيبة بدلا عن صلاة الظهر ، وهذا هو الحقّ ، بل

__________________

(١) هناك خلاف في جزئيات وأحكام صلاة الجمعة ينبغي الرجوع فيها إلى فتاوى الفقهاء ، وهذا المذكور خلاصة لتلك الآراء.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٣٩.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وقد روي أنّه حينما سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن هذه الآية ، قال : «نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون».

فقال الراوي : وأيّ شيء تقولون؟

فقالعليه‌السلام : «نمجد ربّنا ، ونصلّي على نبيّنا ، ونشفع لشيعتنا ، فلا يردنا ربّنا»(١) .

ونستفيد من هذه الرواية : إنّ الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام سيقفون صفّا يوم القيامة مع الملائكة والروح ، وسيكونون من المأذون لهم في الكلام والشفاعة ، وسيكون حديثهم منصبّا حول الذكر والثناء والتسبيح للباريعزوجل .

ثمّ إنّ وصف قولهم بكلمة «صوابا» للدلالة على أنّهم لا يشفعون إلّا لمن ملك مقدمات الشفاعة والتي لا تتعارض والحساب(٢) .

ويشير القرآن واصفا ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس والملائكة أجمعون يوم الفصل ، يوم عقاب العاصين وثواب المتقين ، يشير بقوله :( ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ ) .

«الحقّ» : هو الأمر الثابت واقعا ، والذي تحققه قطعي. وهذا المعنى ينطبق تماما على يوم القيامة ، لأنّه سيعطي كلّ إنسان حقّه ، إرجاع حقوق المظلومين من الظالمين ، وتتكشف كلّ الحقائق التي كانت مخفية على الآخرين فانّه بحق : يوم الحقّ ، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى.

وإذا ما التفت الإنسان إلى هذه الحقيقة (حقيقة يوم القيامة) فسيتحرك بدافع قوي نحو اللهعزوجل للحصول على رضوانه سبحانه بامتثال أوامره تعالى ولهذا يقول القرآن مباشرة :( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ) .

فجميع مستلزمات التوجه والحركة نحو الله متوفرة بعد أن بيّن طريق الحقّ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٧.

(٢) بحثنا مسألة «الشفاعة» من حيث : شروطها ، خصائصها وفلسفتها ، مع الإجابة على الإشكالات الواردة بشأنها في تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.

٣٦١

وأشار إلى معالم سبل الشيطان ، بلغ الله أوامره بواسطة الأنبياء والرسل وبالقدر الكافي ، أودع في الإنسان العقل (النّبي الباطن) ، رغّب للمتقين بالمفاز ، أنذر المجرمين عذابا أليما ، عيّن يوما لمحكمة العدل الإلهي بيّن أسلوب المحاكمة ، ولم يبق للإنسان سوى اختيار ما يتخذه إلى ربّه مآبا ، وبمحض إرادته.

و «المآب» : هو محل رجوع ، ويأتي أيضا بمعنى «الطريق».

ثمّ يؤكّد القرآن على مسألة عقاب المجرمين الذين يتوهمون أنّه يوم بعيد أو نسيئة ، يقول القرآن إنّ عقاب المجرمين لواقع ، ويوم القيامة لقريب :( إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ) .

وما عمر الدنيا بكامله إلّا ساعة من زمن الآخرة الخالد ، وكما قيل : (كل ما هو آت قريب) ، وتقول الآيات (٥ ـ ٧) من سورة المعارج ، في هذا المجال :( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً ) .

ويقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «كل آت قريب دان»(١) .

ولم لا يكون قريبا ما دام الأساس في العذاب الإلهي هو نفس أعمال الإنسان والتي هي معه على الدوام :( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) (٢) .

وبعد أن وجّه الإنذار للناس ، يشير القرآن إلى حسرة الظالمين والمذنبين في يوم القيامة ، حين لا ينفع ندم ولا حسرة ، إلّا من أتى الله بقلب سليم :( يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) .

وذهب بعض المفسّرين أنّ كلمة «ينظر» في الآية بمعنى «ينتظر» ، والمراد : انتظار الإنسان يوم القيامة لجزاء أعماله.

وفسّرها بعض آخر بـ : النظر في صحيفة الأعمال.

وقيل : النظر إلى ثواب وعقاب الأعمال.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٣.

(٢) العنكبوت ، ٥٤.

٣٦٢

وكل ما ذكر مبني على إهمال مسألة حضور وتجسّم الأعمال في يوم القيامة ، ومعه ينتفي أيّ دور للتأويلات المذكورة.

وبنظرة إلى الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الشريفة يتبيّن لنا أنّ أعمال الإنسان تتجسم في هذا اليوم بصورة معينة ، وتظهر للإنسان فينظر إليها على حقيقتها فيسّر ويفرح عند رؤيته لأعماله الصالحة ، ويتألم ويتحسر عن رؤيته لأعماله السيئة.

وأساسا فإنّ تجسّم الأعمال ومرافقتها للإنسان من أفضل المكافآت للمطيعين وأشدّ عقوبة للعاصين.

كما نجد في الآية (٤٩) من وسورة الكهف :( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) ، وكذا في آخر سورة الزلزال :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) .

في جملة «ما قدمت يداه» تغليب ، لأنّ كل إنسان يؤدي أعماله غالبا بيديه ، ولكنه لا يعني الحصر ، بل يشمل جميع ما ارتكبته الجوارح من لسان وعين واذن ، في الحياة الدنيا.

وينبه القرآن الناس قبل تحقق ذلك اليوم :( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) (١) .

وعلى أيّة حال ، فحينما يرى الكفّار أعمالهم مجسمة أمامهم سيهالهم الموقف وتصيبهم الحسرة والندامة ، حتى يقولون يا ليتنا لم نتجاوز منذ البداية مرحلة التراب في خلقنا ، وعند ما خلقنا في الدنيا ، ثمّ متنا وتحولنا إلى التراب ، فيا ليتنا بقينا على تلك الحال ولم نبعث من جديد!

فهم يعلمون بأنّ التراب بات خيرا منهم ، لأنّه : تغرس به حبّة واحدة فيعطي سنابلا ، وهو مصدر غني للمواد الغذائية والمعدنية والبركات الاخرى ، مهد لحياة

__________________

(١) الحشر ، ١٨.

٣٦٣

الإنسان ، ومع ما له من فوائد جمّة فهو لا يضرّ قط ، بعكس ما كانوا عليه في حياتهم ، فرغم عدم صدور أيّة فائدة منهم ، فليس فيهم إلّا الضرر والأذى!

نعم ، فقد يصل الأمر بالإنسان ، وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات ، لأنّ يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة ، لما بدر منه كفر وذنوب!

وتصور لنا الآيات القرآنية أحوال الكافرين والمجرمين ، وشدّة تأثرهم وتأسفهم وندمهم على ما فعلوا في دنياهم ، يوم الفزع الأكبر ، فتقول الآية (٥٦) من سورة الزمر :( يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) .

وتقول الآية (١٢) من سورة السجدة :( فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ) .

أو ما يقوله كل فرد منهم ـ كما جاء في الآية المبحوثة ـ( يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) .

* * *

بحث

النظرة الصائبة لمسألة «الجبر والإختيار»

!! تعتبر مسألة (الجبر والإختيار) من أقدم المسائل المبحوثة بين أوساط العلماء ، يرى فبعضهم حرية اختيار الإنسان ، ومنهم من يرى بأنّ الإنسان مجبور في أعماله ، وكلّ منهما يمتلك جملة من الأدلة التي أوصلته لما يرى.

ومن اللطيف أنّ كلا الفريقين ، يقبلون عمليا بأنّ الإنسان مختار في أفعاله.

وبعبارة أخرى : إنّ البحث والنقاش الدائر بين العلماء لا يتعدى دائرة البحث العلمي ، أمّا على الصعيد العملي فالكل متفقون على حرية الإختيار للإنسان.

وهذا يظهر لنا بوضوح بأنّه أصل حرية الإرادة والإختيار من الأصول التي انطوت عليها الفطرة الإنسانية ، ولولا الوساوس المختلفة لا تفق الجميع على حقيقة حرية الإرادة في الإنسان.

٣٦٤

إنّ الوجدان النوعي والفطرة الإنسانية عموما من أوضح أدلة الإختيار ، وقد تجلت بصور متنوعة في حياة لإنسان.

وعليه فإذا كان الإنسان لا يقبل بالاختيار ويعتبر نفسه مجبورا في أعماله فلما ذا إذن :

١ ـ يندم على بعض الأعمال التي يقوم بها أو لم ينجزها ، ويضع تجربته كعبرة ليعتبر به مستقبلا ، فإذا لم يكون مختارا ، فلما ذا الندم؟!

٢ ـ يلام ويوبّخ كلّ من يسيء ، فلما ذا يلام إن كان مجبورا في فعله؟!

٣ ـ يمدح ويحترم صاحب العمل الصالح.

٤ ـ يسعى الناس جاهدين لتربية وتعليم أبنائهم ليضمنوا لهم مستقبلا زاهرا ، وإذا كانت الأعمال جبرية ، فلما ذا هذا التعليم.

٥ ـ يسعى العلماء قاطبة لرفع المستوى الأخلاقي في المجتمع؟

٦ ـ يتوب الإنسان على ما فعل من ذنوب ، أو هل للجبر من توبة؟!

٧ ـ يتحسر الإنسان على تقصيره فيما يطلب منه؟

٨ ـ يحاكم المجرمون والمنحرفمون في كل دول العالم ، ويحقق معهم حسب قوانينهم؟

٩ ـ تضع جميع الأمم (المؤمنة أم الكافرة) العقوبات للمجرمين؟

١٠ ـ من يقول بالجبر يصرخ متغنيا في وجه المحاكم لمعاقبة من اعتدى عليه؟

والخلاصة : إن لم يكن للإنسان اختيار ، فما معنى الندم؟ ولماذا يلام ويوبخ؟

أمن العقل أن يلام الإنسان على فعل فعله قهرا؟! ثمّ لماذا يمدح أهل الخير والصلاح؟ فإن كان ما فعلوه خارج عن إرادتهم فلا معنى لتشجيعهم.

والقبول بوجود تأثير للتربية والتعليم على سلوك الإنسان يفقد (الجبر) معناه تماما ، وكذا الحال بالنسبة للمسائل الأخلاقية ، فلا مفهوم لها بدون الاعتراف أولا

٣٦٥

بحرية الإنسان

ثمّ إن كنّا قد جعلنا على أعمالنا جبرا ، فهل يبق للتوبة من معنى؟! ولم الحسرة والحال هذه؟! بل إنّ محاكمة الظالم ظلم واضح ، والأكثر ظلما معاقبته؟!! وكلّ ما ذكر يدلل على أنّ حرية الإرادة وعدم الجبر أصل تحكم به الفطرة الإنسانية ، وهو ما ينسجم تماما والوجدان البشري العام ، والكل يعمل على ضوء هذا الأصل ، ولا فرق في ذلك بين عوام الناس أو خواص العلماء والفلاسفة ، ولا يستثنى من ذلك حتى الجبريين أنفسهم ، وكما قيل في هذا الجانب : (الجبريون اختياريون من حيث لا يعلمون).

والقرآن الكريم حافل بما يؤكّد هذه الحقيقة ، ونظرا لكثرة الآيات التي تؤكّد على حرية إرادة الإنسان ـ مضافا الى الآية المبحوثة :( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ) ـ سنكتفي بذكر ثلاث آيات من القرآن الحكيم.

ففي الآية (٣) من سورة الدهر :( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) .

وفي الآية (٢٩) من سورة الكهف ، يقول تعالى :( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) .

وجاء في الآية (٢٩) من سورة الدهر أيضا :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) .

الحديث حول (الجبر والتفويض) طويل جدّا ، وقد كتبت في ذلك كتب ومقالات عديدة ، وما ذكرناه لا يتعدى كونه إلقاء نظرة سريعة ومختصرة على ضوء (القرآن) و (الوجدان) ، ونختم الحديث بذكر ملاحظة مهمّة وهي : إنّ الدوافع النفسية والاجتماعية قد اختلطت مع الاستدلال الفلسفي عند الكثيرين ممن يقولون بالجبر.

فكثير ممن اعتقدوا بالجبر ، أو (القضاء والقدر) بمعناه الجبري إنّما توسلوا به للفرار من المسؤولية : أو أنّهم جعلوها غطاء لفشلهم الناتج عن تقصيرهم

٣٦٦

وتساهلهم في أداء وظائفهم ، أو جعلوها مبررا لاتباع أهوائهم ونزواتهم الشيطانية.

استغل المستعمر ـ في بعض الأحيان ـ هذه المقولة ، وجدّ على نشر وتأكيد هذه العقيدة الباطلة لتحكيم سيطرته على الرقاب ، بعد أن يوهم الناس بأنّهم مجبورون من قبل الله على أن يعيشوا تحت سطوة الحاكم الموجود قضاء وقدرا ليأمن المستعمر من المقاومة ، يكسب رضاهم وتسليمهم له!

فالاعتقاد بهذا الرأي يعني تبرير كلّ ما يقوم به الطغاة والجناة ، وتبرير جميع ذنوب المذنبين ، وبالنتيجة : لا يبقى فرق بعد بين الصالح والطالح ، والمطيع والعاصي!!

اللهمّ! قنا من السقوط في زلل العقائد المنحرفة

اللهمّ! أنت المأمول والمرتجى يوم تكون جهنّم للطاغين مرصادا ، والجنّة للمتقين مفازا

اللهمّ! يا واسع المغفرة ، لا تخيبنا يوم نرى أعمالنا مجسمة أمامنا

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة النبأ

* * *

٣٦٧
٣٦٨

سورة

النّازعات

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وأربعون آية

٣٦٩
٣٧٠

«سورة النّازعات»

محتوى السورة :

تبحث هذه السورة كسابقتها مسائل «المعاد» ، وتتلخص مواضيعها عموما بستة أقسام :

١ ـ التأكيد مرارا على مسألة المعاد وتحققه الحتمي.

٢ ـ الإشارة إلى أهوال يوم القيامة.

٣ ـ عرض سريع لقصة موسىعليه‌السلام مع الطاغي فرعون ، تسلية للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وإنذارا للمشركين الطغاة ، وإشارة إلى ما يترتب على إنكار المعاد من سقوط في مستنقع الرذيلة.

٤ ـ طرح بعض النماذج المظاهر قدرة الباري سبحانه في السماء والأرض ، للاستدلال على إمكان المعاد والحياة بعد الموت.

٥ ـ تعود الآيات مرّة اخرى ، لتعرض بعض حوادث اليوم الرهيب ، وما سيصيب الطغاة من عقاب وما سينال الصالحون من ثواب.

٦ ـ وفي النهاية ، يأتي على خفاء تاريخ وقوع يوم القيامة ، والتأكيد على حتمية وقوعه وقربه.

وسميت السورة بـ (النازعات) لورود هذه الكلمة في أوّل آية ، وبها تبدأ السورة من بعد البسملة.

فضيلة السورة :

وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «من قرأ سورة والنازعات لم يكن حبسه

٣٧١

وحسابه يوم القيامة إلّا كقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنّة»(١) .

وعن الإمام الصادق ، أنّه قال : «من قرأها لم يمت إلّا ريّان ، ولم يبعثه الله إلّا ريّان ، ولم يدخله الجنّة إلّا ريّان»(٢) .

وليس غربيا أن ينال الإنسان بكل ما ذكر جزاء من عند الله ، إذا ما أمعن في محتوى السورة وتدبّر إشاراتها الموقظة للنفوس الغافلة ، والمعرّفة بوظائف الإنسان في حياته ، فمن لم يكتف بترديد ألفاظ السورة ، وعمل بها بعد الإمعان والتدبر فحري أن يجزى بما وعد الحق.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٨.

(٢) المصدر السابق.

٣٧٢

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) )

التّفسير

القسم بالملائكة :

جاء القسم القرآني بخمسة أشياء مهمّة ، لتبيان حقيقة وحتمية تحقق يوم القيامة «المعاد» ، فيقول :

( وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ) .

وقبل البدء بالتّفسير لا بدّ من توضيح معاني بعض الكلمات

«النازعات» : من (النوع) ، ونزع الشيء جذبه من مقرّه ، كنزع القوس عن كبده ، ومنه نزع العداوة والمحبّة من القلب(١) . وبذلك تشمل الأمور المعنوية أيضا.

(الغرق) : بالفتح (على وزن الشفق) ، هو الرسوب في الماء ، (على قول كثير من أهل اللغة) ، ويأتي كذلك فيمن غمره البلاء.

__________________

(١) مفردات الرغب ، مادة (نزع).

٣٧٣

و «الغرق» : (على وزن الفرق) ، يقول عنه (ابن منظور) في لسان العرب : إنّه اسم أقيم مقام المصدر الحقيقي ، بمعنى الإغراق ، والإغراق بالنزع هو : أن يباعد السهم ويسحب القوس إلى آخر نقطة ممكنة ، ويضرب مثلا للغو والإفراط.

ومن هنا يتّضح أنّ المعنى المقصود في هذه الآية ليس الغرق في الماء ، بل هو القيام بعمل ما إلى أقصى حدّ ممكن.(١)

«النّاشطات» : من (النشط) ، هي العقد التي يسهل حلها ، وبئر (إنشاط) : هي القريبة القعر يخرج دلوها بجذبة واحدة ، ويقال للإبل التي تتحرك من غير أن يحدى لها (النشيطة) فيكون المعنى عموما : هو التحرك بسهولة.

«السابحات» : من (السبح) ، وهو الحركة السريعة في الماء أو الهواء ولهذا تطلق السابحات على : السباحة في الماء ، الحركة السريعة للخيل ، وأيّة حركة سريعة في عمل ما و «التسبيح» : هو تنزيه الله تعالى من كل عيب ونقص ، وأصله : الحركة السريعة في عبادة الله تعالى.

«السابقات» : من (السبق) ، وهو التقدم في السير ، وبما أنّ السبق لا يتمّ إلّا بالحركة الأسرع فهو يتضمّن معنى الشرعة كذلك.

«المدبرات» : من (التدبير) ، وهو التفكير في عاقبة الأمور ، وأرادت الآية القيام بالأعمال على أحسن وجه.

وبعد هذه التعريفات الموجزة نشرع بالتفسير :

إنّ القسم بهذه الأمور الخمسة قد لفّته هالة من الإبهام والغموض وتبعث على التأمل والتعمق أكثر لمعرفة المراد من هذه الأقسام وأنّها لمن تشير ، وأي شيء تقصد؟

وقد عرضت تفاسير مختلفة ، وقيل الكثير بخصوص هذا الموضوع ، إلّا أنّ

__________________

(١) راجع : لسان العرب ، تفسير مجمع البيان ، تفسير الكشّاف ، ومجمع البحرين.

٣٧٤

معظمها تدور حول ثلاثة محاور :

الأوّل : إنّ القسم المذكور يتعلق بالملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفّار والمجرمين ، ولكون تلك الأرواح قد رفضت التسليم للحق ، فيكون فصلها عن أجسادها بشدّة.

ويتعلق كذلك ، بالملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين برفق ويسر ، وسرعة في إتمام الأمر.

والملائكة التي تسرع في تنفيذ الأوامر الإلهية.

ثمّ الملائكة التي تتسابق في تنفيذ الأوامر الإلهية.

وأخيرا ، يتعلق القسم بالملائكة التي شؤون العالم بأمره سبحانه وتعالى.

الثّاني : تعلق القسم بالنجوم التي تغرب من أفق لتنتقل إلى أفق آخر وبحركة دائبة لا تعرف السكون.

فبعض منها تمشي الهوينا ، والبعض الآخر واسعة الخطوات.

وتراها سابحة في السماء.

وتتسابق فيما بينها.

وأخيرا ، تشترك في تدبير امور الكون ، بما لها من تأثيرات ، (كنور الشمس وضياء القمر بالنسبة إلى الأرض).

الثّالث : تعلق القسم بالمجاهدين في سبيل الله ، أو بخيولهم الخارجة من أوطانهم بعزم شديد لتجول في ميادين القتال بنشاط وتمكن.

و تتسابق فيما بينها مع الجول والتسابق تعمل على إرادة وتدبير امور الحرب.

وقد جمع بعض المفسّرين هذه الآراء ، فبعضها مقتبس من الأوّل ، والقسم الآخر من الثّاني أو الثالث ، لمعنى خاص ، ولكنّ الأصل في كلّ ذلك يعود إلى

٣٧٥

التّفاسير الثّلاثة المذكورة(١) .

ولا يوجد أيّ تضاد بين كلّ ما ذكر ، ويمكن أن تكون الآيات قد رمزت إلى كلّ هذه المعاني وعموما يبدو أنّ التفسير الأوّل أقرب من غيره ، للأسباب التالية :

أوّلا : تناسبه مع يوم القيامة هو ممّا تدور السورة حوله عموما.

ثانيا : نسبة الترابط الموجودة بينه وبين الآيات المشابهة للآيات المبحوثة في أوّل سورة المرسلات.

ثالثا : ملائمة تفسير :( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) للملائكة التي تدبّر شؤون العالم بأمر الله ، والذين لا يتخلفون ولو لحظة واحدة في تنفيذ ما يؤمرون به ، كما تشير الآية (٢٧) من سورة الأنبياء إلى ذلك :( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) ، وخصوصا أنّ (تدبير الأمر) ورد بصيغة مطلقة من دون أيّ قيد أو شرط.

وعلاوة على كلّ ما تقدم فثمّة روايات في تفسير الآيات المبحوثة يتناسب معها التفسير الأوّل ، ومن جملتها :

ما روي عن عليعليه‌السلام في تفسير( النَّازِعاتِ غَرْقاً ) ، إنّه قال : «إنّها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفّار عن أبدانهم بشدّة كما يغرق النازع بالقوس فيبلغ بها غاية المسد»(٢) .

وروي عنهعليه‌السلام في تفسير : «والناشطات» و «السابحات» و «فالمدبرات» ما

__________________

(١) وثمّة رأي يقول : المقصود بهذا القسم ، تلك الحركات الطبيعية والإرادية والصناعية للموجودات ، فمثلا : تتحرك النطفة حركة طبيعية ، فتنفصل من صلب الأب لتستقر في رحم الام ، ثمّ تديم مسيرها بهدوء ، ولتسرع بعد ذلك ، ثمّ تبدأ المواد الحياتية بالتسابق في النطفة حتى يتشكل في النهاية إنسان كامل الهيئة لتقوم بتدبيره ، وكذا الحال بالنسبة للحركات الإرادية حيث يبدأ الإنسان باتخاذ قرار معين وبعده يتحرك بهدوء لتجسيد اولى خطوات التنفيذ ، ثمّ يسرع الخطوات ، ويتسابق مع الآخرين ، ويقوم بكلّ ذلك لتدبير أمره وحياته الاجتماعية والوسائل الصناعية لا تبتعد عن هذا التسلسل ، كما في المراحل التي تطويها الطائرة في مسيرها. (إلّا أنّ هذا التفسير يفتقد الدليل).

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٩٧ ، الحديث ٤.

٣٧٦

يشبه ذلك(١) .

ويمكن توجيه هذا التفسير بشكل أتم ، إذا ما اعتبرنا مسألة قبض أرواح المؤمنين والكفّار مصداق من مصاديق التّفسير وليس كلّ محتواه ، وعليه فالملائكة هم المقصودون بالأقسام المذكورة بصورة عامّة ، ويتمّ تنفيذ الأمر الإلهي من قبلهم على خمس مراحل : الحركة الشديدة الناتجة من عظمة صدور الأمر الإلهي الشروع بالتنفيذ بخطوات هادئة الإسراع في خطوات التنفيذ

فالتسابق ومن ثمّ يكون تدبير الأمر.

وعلى أيّة حال ، فقبض الأرواح من قبل الملائكة مصداق لمفهوم كلّي ، ويعتبر الأرضية الممهدة لبقية البحوث التي تتناولها السورة حول «المعاد».

* * *

ملاحظتان

ويبقى ، بعد كلّ ما تقدم ، سؤالان :

الأوّل : ما سبب مجيء «النازعات» و «الناشطات» بصيغة المؤنث؟

الثّاني : كان القسم في الآيات الثلاثة الاولى بـ «الواو» ، وفي الآيتين الرابعة والخامسة استعملت «الفاء» عوضا عن «الواو» فهل هي للعطف أم للتفريع؟

الجواب الأوّل : «النازعات» جمع (نازعة) ، وهي الطائفة أو المجموعة من الملائكة التي تعمل على تنفيذ ما أمرت به ، وكذا الحال بالنسبة لـ «الناشطات» وبقية صيغ الجمع الاخرى وبما أنّ (الطائفة) مؤنث لفظي ، فقد جاء الجمع بصيغة المؤنث السالم.

الجواب الثّاني : يمكننا القول : أنّ التسابق الحاصل هو نتيجة الحركة السريعة

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٧ ـ ٨ ـ ١٢.

٣٧٧

المقصودة في «السابحات» ، وتدبير الأمور نتيجة لمجموع هذه الحركة.

وآخر ما ينبغي قوله في هذا المجال : إنّ القسم الوارد في الآيات الخمسة الاولى من السورة ، إنّا هو قسم على أمر محذوف (وهو جواب القسم) ، ولكنّ قرينة المقام وما تشير إليه الآيات التالية يبيّن البعث والحشر والقيامة ، وحتمية تحققها ، فيكون التقدير لجواب القسم : (لتبعثن يوم القيامة ولتحشرنّ ولتحاسبن).

* * *

٣٧٨

الآيات

( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) )

التّفسير

صيحة الموت المرعبة!

بعد أن أكّد القرآن الكريم على حقيقة القيامة وحتمية وقوعها في الآيات السابقة ، تتعرض الآيات أعلاه لبعض ما يصاحب يوم القيامة من علامات وأحداث ، فتقول :( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ) ، أي : يوم تحدث الزلزلة العظيمة المهولة.

ثمّ :( تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) .

«الراجفة» : من (الرجف) ، بمعنى الاضطراب والتزلزل ، ولذا يقال للأخبار التي توقع الاضطراب بين أوساط الناس بـ (الأراجيف).

«الرادفة) : من (الردف) ، وهو الشخص أو الشيء الذي يأتي بعد نظيره تتابعا ،

٣٧٩

ولذا يقال لمن يركب خلف آخر ، (رديفه).

ويعتقد كثير من المفسّرين بأنّ «الراجفة» : هي الصيحة ونفخة الصور الاولى التي تعلن عن موت جميع الخلائق ، و «الرادفة» هي الصيحة ونفخة الصور الثّانية التي يبعث فيها الخلق مرّة اخرى ليعيشوا يوم القيامة(١) .

وعليه ، فالآيتان تشيران إلى نفس ما أشارت إليه الآية (٦٨) من سورة الزمر :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ) .

وقيل : «الراجفة» : إشارة إلى الزلزلة التي تدمّر الأرض ، و «الرّادفة» : إشارة إلى الزلزلة التي تدمّر السماوات

والتّفسير الأوّل كما يبدو أقرب للصواب.

وتأتي الآية الاخرى لتقول :( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ ) .

فقلوب العاصين شديدة الاضطراب خوفا من الحساب والجزاء.

«واجفة» : من (الوجف) ، بمعنى سرعة السير ، و (أوجفت البعير) : حملته على الإسراع ، وتستعمل أيضا للاضطراب الشديد لما يصاحبه من اهتزاز وإسراع.

ويكون التزلزل الداخلي من الشدّة بحيث يظهر على وجوه كلّ المذنبين ، ولذا يقول القرآن :( أَبْصارُها خاشِعَةٌ ) (٢) .

فيبدو الاضطراب والخوف ظاهرا على أعين المذنبين ، وتتوقف حركتها وكأنّها قد فقدت حاسة النظر لما أصابها من خوف شديد.

وفي الآية التالية ينتقل الحديث من أخبار يوم القيامة إلى الحياة الدنيا :

__________________

(١) ينبغي ملاحظة أنّ فعل (رجف) قد يأتي متعديا وقد يأتي لازما ، فعلى الحالة الاولى تكون «الراجفة» بمعنى الزلزلة العظيمة التي تزلزل كلّ الأرض والموجودات ، وعلى الحالة الثّانية تعني الأرض دون غيرها ـ فتأمل.

(٢) يعود ضمير «أبصارها» إلى القلوب ، التي تشير هنا إلى معنى (النفوس والأرواح) ، وترجع الإضافة إلى أنّ مركز تأثيرات حواس الإنسان إنّما من روحه ، وما يظهر من اضطراب وخوف على الأعين هو نتيجة لما يسيطر على الروح من خوف.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511