الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٢٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 600

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 600
المشاهدات: 157651
تحميل: 4976


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 600 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 157651 / تحميل: 4976
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 20

مؤلف:
العربية

«ثمود» : من أقدم الأقوام ، ونبيّهم صالحعليه‌السلام ، وكانوا يعيشون في (وادي القرى) بين المدينة والشام ، وكانوا يعيشون حياة مرفهة ، ومدنهم عامرة.

وقيل : «ثمود» اسم جدّ القبيلة ، وقد سميت به(١) .

«جابوا» : من (الجوبة) ـ على زنة توبة ـ وهي الأرض المقطوعة ، ثمّ استعملت في قطع كلّ أرض ، وجواب كلام ، هو ما يقطع الهواء فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع ، (أو لأنّه يقطع السؤال وينهيه).

وعلى أيّة حال ، فمراد الآية : قطع أجزاء الجبال وبناء البيوت القوية ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٨٢) من سورة الحجر ـ حول ثمود أنفسهم ـ :( وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) ، والآية (١٤٩) من سورة الشعراء ، والتي جاء فيها :( ... بُيُوتاً فارِهِينَ ) .

وقيل : قوم ثمود أوّل من قطع الأحجار من الجبال ، وصنع البيوت المحكمة في قلبها.

«واد» : في الأصل (وادي) ، وهو الموضع الذي يجري فيه النهر ، ومنه سمي المفرج بين الجبلين واديا ، لأنّ الماء يسيل فيه.

والمعنى الثّاني أكثر مناسبة بقرينة ما ورد في القرآن من آيات تتحدث عن هؤلاء القوم ، وما ذكرناه آنفا يظهر بأنّهم كانوا ينحتون بيوتهم في سفوح الجبال(٢) .

وروي : إنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما وصل إلى وادي ثمود ـ شمال الجزيرة العربية ـ في طريقه إلى تبوك ، قال وهو راكب على فرسه : «أسرعوا ، فهي أرض ملعونة»(٣) .

__________________

(١) «ثمود» : من (الثمد) ، وهو الماء القليل الذي لا مادة له ، والمثمود : إذا كثر عليه السؤال حتى فقد مادة ما له ، ويقال أنّها كلمة أعجمية (مفردات الراغب).

(٢) الباء في «الواد» : تعطي معنى الظرفية.

(٣) روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٥ (ما مضمونه).

١٨١

ممّا لا شكّ فيه أنّ ثمود قوم قد وصلوا إلى أعلى درجات التمدن في زمانهم ، ولكنّ ما يذكر عنهم في بعض كتب التّفسير ، يبدو وكأنّه مبالغ فيه أو اسطورة ، كأن يقولوا : إنّهم بنوا ألفا وسبعمائة مدينة من الحجر!

وتتعرض الآية التالية لقوم ثالث :( وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) .

أي : ألم تر ما فعل ربّك بفرعون الظالم المقتدر؟!

«أوتاد» : جمع (وتد) ، وهو ما يثبّت به.

ولم وصف فرعون بذي الأوتاد؟

وثمّة تفاسير مختلفة :

الأوّل : لأنّه كان يملك جنودا وكتائبا كثيرة ، وكانوا يعيشون في الخيم المثبتة بالأوتاد.

الثّاني : لما كان يستعمل من أساليب تعذيب من يغضب عليهم ، حيث غالبا ما كان يدق على أيديهم وأرجلهم بأوتاد ليثبتها على الأرض ، أو يضعهم على خشبة ويثبتهم بالأوتاد ، أو يدخل الأوتاد في أيديهم وأرجلهم ويتركهم هكذا حتى يموتوا.

وورد هذا الكلام في رواية نقلت عن الإمام الصادقعليه‌السلام (١) .

وتنقل كتب التاريخ إنّه قد عذّب زوجته «آسية» بتلك الطريقة البشعة حتى الموت ، لأنّها آمنت بما جاء به موسىعليه‌السلام وصدّقت به.

الثّالث : «ذي الأوتاد» : كناية عن قدرة واستقرار الحكم.

ولا تنافي فيما بين التفاسير الثلاثة ، ويمكن إدخالها جميعها في معنى الآية.

وينتقل القرآن العرض ما كانوا يقومون به من أعمال :( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ) ( فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ )

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٧١ ، الحديث (٦) ، كما نقله عن علل الشرائع.

١٨٢

الفساد الذي يشمل كلّ أنواع الظلم والاعتداء والانحراف ، والذي هو نتيجة طبيعية من نتائج طغيانهم ، فكلّ من يطغى سيؤول أمره إلى الفساد لا محال.

ويذكر عقابهم الأليم وبعبارة موجزة :( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ )

«السوط» : هو الجلد المضفور الذي يضرب به ، وأصل السوط : خلط الشيء بعضه ببعض ، وهو هنا كناية عن العذاب ، العذاب الذي يخلط لحم الإنسان بدمه فيؤذيه أشدّ الإيذاء.

وجاء في كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام عن الامتحان : «والذي بعثه بالحقّ للتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر»(١) .

«صبّ عليهم» : تستعمل في الأصل لانسكاب الماء ، وهنا إشارة إلى شدّة واستمرار نزول العذاب ، ويمكن أن يكون إشارة لتطهير الأرض من هؤلاء الطغاة أمّا أنسب معاني «السوط» فهو المعروف بين النّاس به.

فعلى إيجاز الآية ، لكنّها تشير إلى أنواع العذاب الذي أصابهم ، فعاد أصيبوا بريح باردة ، كما تقول الآية (٦) من سورة الحاقة :( وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ) ، وأهلك قوم ثمود بصيحة سماوية عظيمة ، كما جاء في الآية (٥) من سورة الحاقة أيضا :( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) ، والآية (٥٥) من سورة الزخرف تنقل صورة هلاك قوم فرعون :( فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وتحذر الآية التالية كلّ من سار على خطو أولئك الطواغيت :( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) .

«المرصاد» : من (الرصد) ، وهو الاستعداد للترقب ، وهو في الآية يشير إلى عدم وجود أيّ ملجأ أو مهرب من رقابة الله وقبضته ، فمتى شاء سبحانه أخذ المذنبين بالعقاب والعذاب.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٦.

١٨٣

وبديهي ، أنّ التعبير لا يعني أنّ الله تعالى له مكان وكمين يرصد فيه الطواغيت ، بل كناية عن إحاطة القدرة الإلهية بكلّ الجبارين والطغاة والمجرمين ، وسبحانه وتعالى عن التجسيم وما شابه.

وقد ورد في معنى الآية عن الإمام عليعليه‌السلام قوله : «إنّ ربك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم»(١) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «المرصاد قنطرة على الصراط ، لا يجوزها عبد بمظلمة عبد»(٢) .

وهذا مصداق جلّي للآية ، حيث أنّ المرصاد الإلهي لا ينحصر بيوم القيامة والصراط ، بل هو تعالى بالمرصاد لكلّ ظالم حتى في هذه الدنيا ، وما عذاب تلك الأقوام الآنفة الذكر إلّا دليل واضح على هذا.

«ربّك» : إشارة إلى أنّ هذه السنّة الإلهية لم تقف عند حدّ الذين خلوا من الأقوام السالفة ، بل هي سارية حتى على الظالمين من امّتك يا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي ذلك تسلية لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتطمينا لقلوب المؤمنين ، فالوعد الإلهي قد أكّد على عدم انفلات الأعداء المعاندين من قبضة القدرة الإلهية أبدا أبدا ، وفيه تحذير أيضا لأولئك الذين يؤذون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويظلمون المؤمنين ، تحذير بالكف عن ممارساتهم تلك وإلّا سيصيبهم ما أصاب الأكثر منهم قدرة وقوّة ، وعندها فسوف لن تقوم لهم قائمة إذا ما أتتهم ريح عاصفة أو صيحة مرعبة أو سيل جارف يقطع دابرهم.

روي عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «أخبرني الروح الأمين أنّ الله لا إله غيره إذا وقف الخلائق وجميع الأولين والآخرين ، أتى بجهنّم ثمّ يوضع عليها صراط أدق من الشعر وأحدّ من السيف ، عليه ثلاث قناطر الاولى : الأمانة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٨٧.

(٢) المصدر السابق.

١٨٤

والرحم ، والثّانية : عليها الصلاة ، والثّالثة : عليها عدل ربّ العالمين لا إله غيره ، فيكلّفون الممر عليها ، فتحبسهم الرحم والأمانة ، فإن نجوا منها حبستهم الصلاة ، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين جلّ ذكره ، وهو قول الله تبارك وتعالى :( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) (١) .

وعن الإمام عليعليه‌السلام : «ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد ، على مجاز طريقه ، وبموضع الشجى من مساغ ريقه»(٢) .

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٧٣ ، عن روضة الكافي الحديث ٤٨٦ ، اقتباس.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٩٧.

١٨٥

الآيات

( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) )

التّفسير

موقف الإنسان من تحصيل النعمة وسلبها!

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن عقاب الطغاة ، وتحذيرهم وإنذارهم ، تأتي هذه الآيات لتبيّن مسألة الابتلاء والتمحيص وأثرها على الثواب والعقاب الإلهي ، وتعتبر مسألة الابتلاء من المسائل المهمّة في حياة الإنسان.

وتشرع الآيات ب :( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) .

وكأنّه لا يدري بأنّ الابتلاء سنّة ربّانية تارة يأتي بصورة اليسر والرخاء

١٨٦

واخرى بالعسر والضراء.

فلا ينبغي للإنسان أن يغتر عند الرخاء ، ولا أن ييأس عند ما تصيبه عسرة الضراء ، ولا ينبغي له أن ينسى هدف وجوده في الحالتين ، وعليه أن لا يتصور بأن الدنيا إذا ما أرخت نعمها عليه فهو قد أصبح مقرّبا من الله ، بل لا بدّ أن يفهمها جيّدا ويؤدّي حقوقها ، وإلّا فسيفشل في الامتحان.

ومن الجدير بالملاحظة ، أنّ الآية ابتدأت بالحديث عن إكرام الله تعالى للإنسان «فأكرمه ونعمه» ، في حين تلومه على اعتقاده بهذا الإكرام في آخرها :( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) ، وذلك لأنّ الإكرام الأوّل هو الإكرام الطبيعي ، والإكرام الثّاني بمعنى القرب عند الله تعالى.

( وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) .

فيأخذه اليأس ، ويظن إنّ الله قد ابتعد عنه ، غافلا عن سنّة الابتلاء في عملية التربية الربّانية لبني آدم ، والتي تعتبر رمزا للتكامل الإنساني ، فمن خلال نظرة ومعايشة الإنسان للابتلاء يرسم بيده لوحة عاقبته ، فأمّا النعيم الدائم ، وأمّا العقاب الخالد.

وتوضح الآيتان بأنّ حالة اليسر في الدنيا ليست دليل قرب الله من ذلك الإنسان ، وكذا الحال بالنسبة لحالة العسر فلا تعني بعد الله عن عبده ، وكلّ ما في الأمر أنّ الحالتين صورتان مختلفتان للامتحان الذي قررته الحكمة الإلهية ، ليس إلّا.

وتأتي الآية (٥١) من سورة فصّلت في سياق الآيتين :( وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ) .

وكذا الآية (٩) من سورة هود :( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ ) .

وتنبهنا الآيتان أيضا ، بأن لا نقع في خطأ التشخيص ، فنحكم على فلان بأن

١٨٧

الله راضي عنه لأنّه يفعم بالنعم الإلهية ، وأن فلان قد سخط عليه الله لأنّه محروم من نعم كثيرة ، ولا بدّ لنا من الرجوع إلى المعايير الثابتة عند القيام بعملية التشخيص والتقييم ، فالعلم والإيمان والتقوى هي أسس التقييم ، وليس ظاهر التمتع بحالة السراء

فما أكثر الأنبياء الذين تناوشتهم أنياب البلايا والمصائب ، وما أكثر الكافرين والطغاة الذين تنعموا بمختلف ملاذ الدنيا ، إنّها من سنن طبيعة الحياة الدنيا ، ولكن

أين الأنبياء من الكافرين و.. عقبى الدار؟!

فالآية إذن ، تشير إلى فلسفة البلاء ، وما يصيب الإنسان من محن وإحن في دنياه.

وتوجه الآيتان التاليتان نظر إلى الإنسان والأعمال التي تؤدّي بحقّ للبعد عن الله ، وتوجب عقابه :( كَلَّا ) فليس الأمر كما تظنون من أنّ أموالكم دليل على قربكم من الله ، لأنّ أعمالكم تشهد ببعدكم عنه ،( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) ( وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ) .

والملاحظ أنّ الآية لم تخص اليتيم بالإطعام بل بالإكرام ، لأنّ الوضع النفسي والعاطفي لليتيم أهم بكثير من مسألة جوعه.

فلا ينبغي لليتيم أن يعيش حالة الانكسار والذلة بفقدان أبيه ، وينبغي الاعتناء به وإكرامه لسدّ الثغرة التي تسببت برحيل أبيه ، وقد أولت الأحاديث الشريفة والرّوايات هذا الجانب أهمية خاصّة ، وأكّدت على ضرورة رعاية وإكرام اليتيم.

فعن الإمام الصادقعليه‌السلام ، إنّه قال : «ما من عبد يمسح يده على رأس يتيم رحمة له إلّا أعطاه الله بكلّ شعرة نورا يوم القيامة»(١) .

وتقول الآية (٩) من سورة الضحى :( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) .

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٥ ، ص ١٢٠ (الطبعة القديمة).

١٨٨

وهذه الدعوة الربّانية تقابل ما كان سائدا في عصور الجاهلية ، كيف وكانوا يتعاملون مع اليتامى ، ولا تنفصل جاهلية اليوم عن تلك الجاهلية ، فنرى من لم يدخل الإيمان قلبه ، كيف يتوسل بمختلف الحيل والألاعيب لسرقة أموال اليتامى ، والأشد من هذا فإنّهم يتركون اليتامى جانبا بلا اهتمام ولا رعاية ليعيشوا غمّ فقدان الآباء وبأشدّ صورة!

فإكرام اليتيم لا ينحصر بحفظ أموالهم ـ كما يقول البعض ـ بل يشمل حفظ الأموال وغيرها.

«تحاضون» : من (الحض) ، وهو الترغيب ، فلا يكفي إطعام المسكين بل يجب على النّاس أن يتواصوا ويحث بعضهم البعض الآخر على ذلك لتعم هذه السنّة التربوية كلّ المجتمع(١) .

وقد قرنت الآية (٣٤) من سورة الحاقة عدم الإكرام بعدم الإيمان باللهعزوجل :( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ) (٢) .

وتعرض الآية التالية ثالث أعمالهم القبيحة :( وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا ) (٣) .

ممّا لا شكّ فيه أنّ الاستفادة من الميراث المشروع عمل غير مذموم ، ولذا فيمكن أن يكون المذموم في الآية أحد الأمور التالية :

الأوّل : الجمع بين حقّ الإنسان وحقّ الآخرين في الميراث ، لأنّ كلمة «لمّ» بمعنى الجمع ، وفسّرها الزمخشري في الكشّاف بمعنى الجمع بين الحلال والحرام.

وكانت عادة العرب في الجاهلية أن يحرموا النساء والأطفال من الإرث لاعتقادهم بأنّه نصيب المقاتلين (لأنّ أكثر أموالهم تأتيهم عن طريق السلب والإغارة).

__________________

(١) «تخاضون» : في الأصل (تتحاضون) ، وحذفت إحدى التائين للتخفيف.

(٢) «طعام» هو في الآية ذو معنى مصدري أي : (إطعام).

(٣) «لمّ» : بمعنى الجمع ، وتأتي بمعنى الجمع مع الإصلاح أيضا.

١٨٩

الثّاني : عدم الإنفاق من الإرث على المحرومين والفقراء من الأقرباء وغيرهم ، فإن كنتم تبخلون بهذه الأموال التي وصلت إليكم بلا عناء ، فأنتم أبخل فيما تكدّون في تحصيله ، وهذا عيب كبير فيكم.

الثّالث : هو أكل إرث اليتامى والتجاوز على حقوق الصغار ، وذلك من أقبح الذنوب ، لأنّ فيه استغلال فاحش لحقّ من لا يستطيع الدفاع عن نفسه.

والجمع بين هذه التّفاسير الثلاث ممكن(١) .

ثمّ يأتي الذّم الرّابع :( وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) (٢) .

فأنتم عبدة دنيا ، طالبي ثروة ، عشاق مال ومتاع ومن يكون بهذه الحال فمن الطبيعي أن لا يعتني في جمعه للمال ، أكان من حلال أم من حرام ، ومن الطبيعي أيضا أن يتجاوز على الحقوق الشرعية المترتبة عليه ، بأن لا ينفقها أو ينقص منها ومن الطبيعي كذلك إنّ القلب الذي امتلأ بحبّ المال والدنيا سوف لا يبقى فيه محل لذكر اللهعزوجل .

ولذا نجد القرآن الكريم بعد ذكره لمسألة امتحان الإنسان ، يتعرض لأربعة اختبارات يفشل فيها المجرمين.

إكرام اليتيم.

إطعام المسكين.

أسهم الإرث.

وجمعه من طريق مشروع وغير مشروع.

وجمع المال بدون قيد أو شرط.

والملاحظ أنّ الاختبارات المذكورة إنّما تدور حول محور الأموال ، للإشارة ما للمال من مطبات مهلكة ، ولو تجاوزها الإنسان لسهلت عليه بقية العقبات في

__________________

(١) «تراث» : في الأصل (وراث) ، ثمّ أبدلت الواو تاء.

(٢) «الجم» : بمعنى الكثير ، كما جاء في (مصباح اللغة) ، و (المقاييس) ، و (الجمّة) الشعر المتجمع في مقدمة الرأس.

١٩٠

طريقه نحو التكامل والرقي والسمو.

وثمّة من يكون متذبذبا في الأمانة (بين أن يؤدي أو يخون) ، وهكذا إنسان غالبا ما تصرعه ووساوس الشيطان وترميه في جانب الخيانة أمّا أولئك الصادقون في إيمانهم فهم الأمناء حقّا في الرعاية والاهتمام لأداء الحقوق الواجبة والمستحبة للآخرين ، ولا تراهم يتهاونون بأدنى درجات التهاون ، ومثلهم هو الذي يتمكن من صعود سلم الرفعة والسمو على طريق الإيمان والتقوى.

والخلاصة : من تجاوز اختبار المال بنجاح ، فهو أهل للاعتماد ، ومن أهل التقوى والورع ، وهو خير أخ وصديق ، وغالبا ما تراه صالحا في كافة مجالات حياته والمجتمع.

ولذلك ، نرى الاختبارات هنا دارت حول محور المال.

* * *

١٩١

الآيات

( كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) )

التّفسير

يوم لا تنفع الذكرى!

بعد أن ذمت الآيات السابقة الطغاة وعبدة الدنيا والغاصبين لحقوق الآخرين ، تأتي هذه الآيات لتحذرهم وتهددهم بوجود القيامة والحساب والجزاء.

فتقول أوّلا : «كلا» (فليس الأمر كما تعتقدون بأن لا حساب ولا جزاء ، وأنّ الله قد أعطاكم المال تكريما وليس امتحانا)( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) .

«الدك» : الأرض اللينة السهلة ، ثمّ استعملت في تسوية الأرض من الارتفاعات والتعرجات ، و (الدكان) : المحل السوي الخالي من الارتفاعات و (الدكة) : المكان السوي المهيأ للجلوس.

١٩٢

وجاء تكرار «دكّا» في الآية للتأكيد.

وعموما ، فالآية تشير إلى الزلازل والحوادث المرعبة التي تعلن عن نهاية الدنيا وبداية يوم القيامة ، حيث تتلاشى الجبال وتستوي الأرض ، كما أشارت لذلك الآيات (١٠٦ ـ ١٠٨) من سورة طه :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ) .

وبعد أن ينتهي مرحلة القيامة الاولى (مرحلة الدمار) ، تأتي المرحلة الثّانية ، حيث يعود النّاس ثانية للحياة ليحضروا في ساحة العدل الالهي :( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) .

نعم ، فسيقف الجميع في ذلك المحشر لإجراء الأمر الالهي وتحقيق العدالة الربّانية ، وقد بيّنت لنا الآيات ما لعظمة ذلك اليوم ، وكيف أنّ الإنسان لا سبيل له حينها إلّا الرضوخ التام بين قبضة العدل الالهي.

( وَجاءَ رَبُّكَ ) : كناية عن حضور الأمر الالهي لمحاسبة الخلائق ، أو أنّ المراد : ظهور آيات عظمة الله سبحانه وتعالى ، أو ظهور معرفة اللهعزوجل في ذلك اليوم ، بشكل بحيث لا يمكن لأيّ كان إنكاره ، وكأنّ الجميع ينظرون إليه بأم أعينهم.

وبلا شك ، إنّ حضور الله بمعناه الحقيقي المستلزم للتجسيم والتحديد بالمكان ، هذا المعنى ليس هو المراد ، لأنّ سبحانه وتعالى مبرّأ من الجسمية وخواص الجسمية(١) .

وقد ورد هذا المعنى في كلام للإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام (٢) .

كما وتؤيد الآية (٣٣) من سورة النحل هذا التّفسير بقولها :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا

__________________

(١) يقول الفخر الرازي في تفسيره : إن في الآية محذوف ، تقديره (أمر) أو (قهر) أو (جلائل آيات) أو (ظهور ومعرفة) وظهرت هذه التقديرات في كتب غيره من المفسرين أيضا ، وخصوصا التقدير الأول.

(٢) راجع تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٤١٦.

١٩٣

أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) .

( صَفًّا صَفًّا ) : إشارة إلى ورود الملائكة عرصة يوم القيامة على هيئة صفوف ، ويحتمل تعلق الصفوف بكلّ السماوات.

وتقول الآية التالية :( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ) .

وما نستنبطه من الآية ، إنّ جهنم قابلة للحركة ، فتقرب للمجرمين ، كما هو حال حركة الجنّة للمتقين :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) .

وثمّة من يعطي للآية معنى مجازيا ، ويعتبرها كناية عن ظهور الجنّة والنّار أمام أعين المحسنين والمسيئين.

ولكن ، لا دليل على الأخذ بخلاف الظاهر ، ومن الأفضل التعامل مع ظاهر الآية ، لأنّ حقائق عالم القيامة لا يمكن فهمها وتصورها بشكل دقيق لمحدودية عالمنا أمام ذلك العالم من جهة؟ ولاختلاف القوانين والسنن التي تحكم ذلك العالم من جهة اخرى ثمّ ، ما المانع في تحرك كلّ من الجنّة والنّار في ذلك اليوم؟

وروي : لمّا نزلت هذه الآية ، تغيّر وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله ، وانطلق بعضهم إلى علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقالوا : يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبيّ الله ، فجاء عليعليه‌السلام فاحتضنه ثمّ قال : «يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ، ما الذي حدث اليوم؟».

قال : «جاء جبرائيلعليه‌السلام فأقرأني( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) .

قال : فقلت : كيف يجاء بهم؟

قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، ثمّ أتعرض لجهنم ، فتقول : ما لي ولك يا محمّد ، فقد

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية ٩٠.

١٩٤

حرّم الله لحمك عليّ ، فلا يبقى أحد إلّا قال : نفسي نفسي ، وإنّ محمّدا يقول : ربّ أمّتي أمّتي»(١) .

نعم ، فحينما يرى المذنب كلّ تلك الحوادث تهتز فرائصه ويتزلزل رعبا ، فيستيقظ من غفلته ويعيش حالة الهمّ والغمّ ، ويتحسر على كلّ لحظة مرّت من حياته بعد ما يرى ما قدّمت يداه ، ولكن. هل للحسرة حينها من فائدة؟!

وكم سيتمنى المذنب لو تسنح له الفرصة ثانية للرجوع إلى الدنيا وإصلاح ما أفسد ، ولكنّه سيرى أبواب العودة مغلقة ، ولا من مخرج!

ويودّ التوبة وهل للتوبة من معنى بعد غلق أبوابها؟!

ويريد أن يعمل صالحا ولكن أين؟ فقد طويت صحائف الأعمال ، ويومها يوم حساب بلا عمل!

وعندها بملإ يصرخ كيانه :( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) .

وفي قولته نكتة لطيفة ، فهو لا يقول قدّمت لآخرتي بل «لحياتي» ، وكأنّ المعنى الحقيقي للحياة لا يتجسد إلّا في الآخرة.

كما أشارت لهذه الآية (٦٤) من سورة العنكبوت :( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

نعم ، ففي دنياهم : يسرقون أموال اليتامى ، لم يطعموا المساكين ، يأخذون من الإرث أكثر ممّا يستحقون ويحبّون المال حبّا جمّا.

وفي أخراهم ، يقول كلّ منهم : يا ليتني قدّمت لحياتي الحقيقية الباقية ولكنّ التمني ليس أكثر من رأس مال المفلسين.

وتشير الآية التالية إلى شدّة العذاب الإلهي :( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ ) .

نعم ، فمن استخدم في دنياه كلّ قدرته في ارتكاب أسوء الجرائم والذنوب ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٨٣ ؛ وعنه الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٤١٥ ، ومثله في تفسير الدّر المنثور.

١٩٥

فلا يجني في آخرته إلّا أشد العذاب

فيما سينعم المحسنون والصالحون في أحسن الثواب ، ويخلدون بحال ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ، فالله «أرحم الراحمين» لمن أخلص النيّة وعمل ، و «أشدّ المعاقبين» لمن تجاوز حدود هدف خلقه.

وتكمل الآية التالية تصوير شدّة العذاب :( وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) .

فوثاقه ليس كوثاق الآخرين ، وعذابه كذلك ، كلّ ذلك بما كسبت يداه حينما أوثق المظلومين في الدنيا بأشدّ الوثاق ، ومارس معهم التعذيب بكلّ وحشية ، متجرد عن كلّ ما وهبه الله من إنسانية.

* * *

١٩٦

الآيات

( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠) )

التّفسير

الشّرف العظيم :

وتنتقل السّورة في آخر مطافها إلى تلك النفوس المطمئنة ثقة بالله وبهدف الخلق ، بالرغم من معايشتها في خضم صخب الحياة الدنيا ، فتخاطبهم بكلّ لطف ولين ومحبّة ، حيث تقول :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) ( ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) ( وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .

فهل ثمّة أجمل وألطف من هذا التعبير!

تعبير يحكي دعوة الله سبحانه وتعالى لتلك النفوس المؤمنة ، المخلصة ، المحبّة والواثقة بوعده جلّ شأنه دعوتها لتعود إلى ربّها ومالكها ومصلحها الحقيقي

دعوة مفعمة برضا الطرفين ، رضا العاشق على معشوقه ، ورضا المعشوق على عاشقه

١٩٧

وتتوج تلك النفوس الطاهرة بتاج العبودية ، لتدخل في صف المقرّبين عند الله ، ولتحصل على إذن دخول جنان الخلد ، وما قوله تعالى : «جنتي» إلّا للإشارة إلى أنّ المضيف هو الله جلّ جلاله فما أروعها من دعوة! وما أعظمه وأكرمه من داع! وما أسعده من مدعو!

ويراد بالنفس هنا : الروح الإنسانية.

«المطمئنة» : إشارة إلى الاطمئنان الحاصل من الإيمان ، بدلالة الآية (٢٨) من سورة الرعد :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) .

ويعود اطمئنان النفس ، لاطمئنانها بالوعود الإلهية من جهة ، ولاطمئنانها لما اختارت من طريق

وهي مطمئنة في الدنيا سواء أقبلت عليها أم أدبرت ، ومطمئنة عند أهوال حوادث يوم القيامة الرهيبة أيضا.

أمّا (الرجوع إلى الله) ، فهو ـ على قول جمع من المفسّرين ـ رجوع إلى ثوابه ورحمته

ولكنّ الأنسب أن يقال : إنّه رجوع إليه جلّ وعلا ، رجوع إلى جواره وقربه بمعناها الروحي المعنوي ، وليست بمعناها المكاني والجسماني.

وثمّة سؤال يرد إلى الذهن متى ستكون دعوته المباركة ، هل ستكون بعد مفارقة الروح البدن ، أم في يوم القيامة؟؟

لو أخذنا بظاهر الآيات المباركة ، فسياقها يرتبط بالقيامة ، وإن كان تعبير الآية ذو شمولية.

«راضية» : لما ترى من تحقق الوعود الإلهية بالثواب والنعيم بأكثر ممّا كانت تتصور ، وشمول العبد برحمة وفضل الله سيدخل في قلبه الرضا بكلّ ما يحمل الرضا من معان وأكثر.

«مرضيّة» : لرضا الله تبارك وتعالى عنها.

١٩٨

فعبد بما ذكر من أوصاف ، بلا شكّ مكانه الجنّة ، وذلك لأنّه عمل بكلّ ما يملك في سبيل رضوان معبوده الأحد الصمد ، ووصل في عمله لمقام الرضا التام والتسليم الكامل لخالقه تبارك وتعالى ، حتى نال وسام حقيقة العبودية ، ودخل طائعا وواثقا في صف عباد الله الصالحين

وقد خصّ بعض المفسّرين سبب نزول هذه الآيات في (حمزة سيد الشهداء) ، ولكن بلحاظ كون السّورة مكّية ، فيمكن اعتبار ذلك أحد تطبيقات (مصاديق) الآيات وليس شأنا للنزول ، كما هو الحال في ما ذكرنا في أوّل السّورة بشأن الإمام الحسينعليه‌السلام .

روي أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام قد سأله قائلا : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، هل يكره المؤمن على قبض روحه؟

قال : «لا والله ، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك ، فيقول له ملك الموت : يا وليّ الله ، لا تجزع ، فو الذي بعث محمّدا لأنا أبرّبك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك ، افتح عينيك فانظر ، قال : ويمثل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ذريتهمعليهم‌السلام ، فيقال له : هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك ، قال : فيفتح عينيه فينظر ، فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول : «يا أيّتها النفس المطمئنة (إلى محمّد وأهل بيته) ارجعي إلى ربّك راضية (بالولاية) مرضيّة (بالثواب) فادخلي في عبادي (يعني محمّدا وأهل بيته) وادخلي جنّتي» ، فما شيء أحبّ إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي»(١) .

اللهمّ! اجعل نفوسنا مطمئنة ليشملنا خطابك الكريم

اللهمّ! ولا ينال ذلك إلّا بلطفك ، فاغمرنا به

__________________

(١) الكافي ، ج ٣ ، ص ١٢٧ ، باب إنّ المؤمن لا يكره على قبض روحه ، الحديث ٢.

١٩٩

اللهمّ! منّ علينا بكرمك الذي لا ينفد ، واجعلنا من النفوس المطمئنة

اللهمّ! لا يكون الاطمئنان إلّا بذكرك ، فوفقنا إليه بفضلك

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الفجر

* * *

٢٠٠