الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٢٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 600

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 600
المشاهدات: 157629
تحميل: 4976


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 600 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 157629 / تحميل: 4976
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 20

مؤلف:
العربية

قيل في معنى «وما أمروا ...» أن المقصود هو : إنّ التوحيد والصلاة والزكاة من المسائل الثابتة في دين أهل الكتاب ، لكنّهم لم يبقوا أو فياء لهذه التعاليم.

وقيل : المقصود هو إنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم. وهذه امور معروفة فلما ذا يعرضون عنها؟.

يبدو أنّ المعنى الثّاني أقرب. لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الاختلاف في قبول الدين الجديد ، والمناسب هنا أن يكون المراد في «أمروا ...» هو الدين الجديد أيضا.

أضف إلى ذلك أنّ المعنى الأوّل يصدق على أهل الكتاب وحدهم ، بينما المعنى الثّاني يشمل المشركين أيضا.

المقصود ب «الدين» في عبارة( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ) قد يكون «العبادة». وعبارة «إلّا ليعبدوا الله» في الآية تؤكّد هذا المعنى.

ويحتمل أيضا أن يكون المقصود مجموع الدين والشريعة ، أي أنّهم أمروا أن يعبدوا الله وأن يخلصوا له الدين والتشريع في جميع المجالات. وهذا المعنى يتناسب أكثر مع المفهوم الواسع للدين. وجملة( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) تؤيد هذا المعنى لأنّها طرحت الدين بمفهومه الواسع.

«حنفاء» جمع «حنيف» ، من الفعل الثّلاثي حنف ، أي عدل عن الضلال إلى الطريق المستقيم ، كما يقول الراغب في المفردات. والعرب تسمي كلّ من حج أو ختن «حنيفا» إشارة إلى أنّه على دين إبراهيم.

و «الأحنف» من كانت رجله عوجاء. ويبدو أنّ الكلمة كانت في الأصل تستعمل للانحراف والاعوجاج ، والنصوص الإسلاميّة استعملتها بمعنى الانحراف عن الشرك إلى التوحيد والهداية.

ومن الممكن أن تكون المجتمعات الوثنية قد أطلقت على من يترك الأوثان ويتجه إلى التوحيد اسم «حنيف» ، أي منحرف. ثمّ أصبحت الكلمة بالتدريج اسما

٣٦١

لسالكي طريق التوحيد ومن مستلزمات الكلمة الإخلاص في التوحيد والاعتدال التام واجتناب أي إفراط أو تفريط ؛ غير أنّ هذه معان ثانوية للكلمة.

جملة( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (١) إشارة إلى أنّ الأصول المذكورة في الآية وهي : التوحيد الخالص ، والصلاة (الارتباط بالله) والزكاة (الارتباط بالنّاس) من الأصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان ، بل إنّها قائمة في أعماق فطرة الإنسان.

ذلك لأنّ مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد ، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره ، ثمّ إنّ الروح الاجتماعية المدنية للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين.

من هنا ، هذه التعاليم لها جذور في أعماق الفطرة ، وهي لذلك كانت في تعاليم كلّ الأنبياء السابقين وتعاليم خاتم النبيينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

__________________

(١) دين القيمة ، مضاف مضاف إليه ، وليس صفة وموصوف ومفهومها أنّه دين ورد في الكتب السابقة مستقيم وذو قيمة أو أنّه دين فيه احكام وتعليمات ذات قيمة ، فعلى هذا جاءت الكلمة بصيغة المؤنث لأنّها صفة للكتب أو الملة والشريعة.

٣٦٢

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨) )

التّفسير

خير البريّة وشرّها :

الآيات السابقة تحدثت عن انتظار أهل الكتاب والمشركين لبيّنة تأتيهم من الله ، لكنّهم تفرقوا من بعد ما جاءتهم البيّنة.

هذه الآيات تذكر مجموعتين من النّاس مختلفتين في موقفهما من الدعوة «كافرة» و «مؤمنة» تذكر الكافرين أوّلا بالقول :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) .

وإنّما قال «كفروا» لكفرهم بالدين المبين ، وإلّا فإنّ كفرهم ليس بجديد.

٣٦٣

وعبارة( أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) عبارة قارعة مثيرة ، تعني أنّه لا يوجد بين الأحياء وغير الأحياء موجود أضل واسوأ من الذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحق وإتمام الحجّة ، وساروا في طريق الضلال ، مثل هذا المعنى ورد أيضا في قوله تعالى :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) (١) .

وفي قوله سبحانه يصف أهل النّار :( أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) (٢) .

وهذه الآية التي نحن بصددها تذهب في وصف هؤلاء المعاندين إلى أبعد ممّا تذهب إليه غيرها ، لأنّها تصفهم بأنّهم شرّ المخلوقات ، وهذا بمثابة بيان الدليل على خلودهم في نار جهنم.

ولم لا يكونون شرّ المخلوقات وقد فتحت أمامهم جميع أبواب السعادة فاعرضوا عنها كبرا وغرورا وعنادا.

تقديم ذكر «أهل الكتاب» على «المشركين» في هذه الآية أيضا ، قد يعود إلى ما عندهم من كتاب سماوي وعلماء ومن صفات صريحة لنبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتبهم ، لذلك كانت معارضتهم أفظع وأسوأ.

الآية التالية تذكر المجموعة الثّانية ، وهم المؤمنون وتقول :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .

والآية التالية تذكر جزاء هؤلاء المؤمنين ، وما لهم عند الله من مثوبة :

( جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) .

يلاحظ أنّ الحديث عن المؤمنين مقرون بذكر الأعمال الصالحة ، باعتبارها ثمرة دوحة الإيمان. وفي ذلك إشارة إلى أن ادعاء الإيمان وحده لا يكفي ، بل

__________________

(١) الأنفال ، الآية ٢٢.

(٢) الأعراف. الآية ١٧٩.

٣٦٤

لا بدّ أن تشهد عليه الأعمال الصالحة. لكن الكفر وحده ـ وإن لم يقترن بالأعمال السيئة ـ مبعث السقوط والشقاء. أضف إلى أن الكفر عادة منطلق لانواع الذنوب والجرائم والانحرافات.

عبارة( أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) تبيّن بجلاء أن الإنسان المؤمن ذا الأعمال الصالحة أفضل من الملائكة ، فعبارة الآية مطلقة وليس فيها استثناء والآيات الاخرى تشهد على ذلك أيضا ، مثل آية سجود الملائكة لآدم ، ومثل قوله سبحانه :( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ) (١) .

هذه الآية تحدثت عن الجزاء المادي الذي ينتظر المؤمنين ، وعن الجزاء المعنوي الروحي لهم ، وهو رضا الله عنهم ورضاهم عنه.

إنّهم راضون عن الله لأنّ الله أعطاهم ما أرادوه ، والله راض عنهم لأنّهم أدّوا ما أراده منهم ، وإنّ كانت هناك زلة فقد غفرها بلطفه وكرمه. وأية لذة أعظم من أن يشعر الإنسان أنّه نال رضا المحبوب ووصاله ولقاءه.

نعم ، نعيم جسد الإنسان جنات الخلد ، ونعيم روحه رضا الله ولقاؤه.

جملة( ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) تدل على أن كل هذه البركات تنطلق من «خشية الله». لأنّ هذه الخشية دافع للحركة صوب كلّ طاعة وتقوى وعمل صالح.

بعض المفسّرين قرن هذه الآية ، بالآية (٢٨) من سورة فاطر حيث يقول سبحانه :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) وخرج بنتيجة هي أنّ الجنّة للعلماء طبعا لا بدّ أن نأخذ بنظر الإعتبار وجود مراتب ومراحل للخشية وهكذا مراتب للعلم.

قيل أيضا أن «الخشية» أسمى من «الخوف» ، لأنّها خوف مقرون بالتعظيم والاحترام.

* * *

__________________

(١) الاسراء ، الآية ٧٠.

٣٦٥

بحوث

١ ـ عليعليه‌السلام وشيعته خير البريّة

ثمّة روايات كثيرة بطرق أهل السنة في مصادرهم الحديثية المعروفة ، وهكذا في المصادر الشيعية ، فسّرت الآية :( أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) بأنهم علي وشيعته.

«الحاكم الحسكاني النيسابوري» عالم أهل السنة المعروف في القرن الخامس الهجري نقل هذه الرّوايات في كتابه المشهور «شواهد التنزيل» بطرق مختلفة ، ويزيد عدد هذه الرّوايات على العشرين نذكر منها على سبيل المثال ما يلي :

١ ـ عن ابن عباس قال : عند ما نزلت آية :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال رسول الله لعلي : «هو أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضبانا مقحمين»(١) .

٢ – وعن أبي برزة قال : حينما تلا رسول الله هذه الآية قال : «هم أنت وشيعتك يا علي ، وميعاد ما بيني وبينك الحوض»(٢) .

٣ – وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنّا جالسين عند النبيّ جوار الكعبة ، فاقدم علينا علي ، وحين رآه النبيّ قال : «قد أتاكم أخي» ، ثمّ التفت إلى الكعبة ، وقال : «وربّ هذه البيّنة! إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة».

ثمّ التفت إلينا وقال : «أما والله إنّه أوّلكم إيمانا بالله ، وأقومكم بأمر الله ، وأوفاكم بعهد الله ، وأقضاكم بحكم الله ، وأقسمكم بالسوية ، وأعدلكم في الرعية وأعظمكم عند الله مزية»

قال جابر : فأنزل الله :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) فكان علي إذا أقبل قال أصحاب محمّد قد أتاكم خير البرية بعد رسول

__________________

(١) شواهد التنزيل ، ج ٢ ، ص ٣٥٧ ، الحديث ١١٢٦.

(٢) المصدر السابق ، ص ٣٥٩ ، الحديث ١١٣٠.

٣٦٦

الله(١) .

نزول هذه الآية جوار الكعبة لا يتنافى مع مدنية السّورة. إذ من الممكن أن تكون من قبيل النزول المجدد ، أو التطبيق ، أضف إلى ذلك أنّ نزول هذه الآيات لا يستبعد أن يكون خلال أسفار النّبي إلى مكّة من المدينة ، خاصّة أنّ الراوي (جابر بن عبد الله الأنصاري) قد التحق بالنّبي في المدينة.

بعض هذه الأحاديث رواها ابن حجر في الصواعق ، ومحمّد الشبلنجي في نور الأبصار(٢) .

وجلال الدين السيوطي نقل القسم الأعظم من الرّواية الأخيرة عن ابن عساكر عن جابر بن عبد الله الأنصاري(٣) .

٤ ـ في «الدر المنثور» عن ابن عباس قال : «حين نزلت آية :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) . قال رسول الله لعلي : «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين».

٥ – وفي الدر المنثور أيضا عن ابن مردويه عن عليعليه‌السلام قال : «قال لي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألم تسمع قول الله( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ؟ أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرّا محجلين»(٤) .

كثير من علماء السنة ، سوى من ذكرنا ، نقلوا مثل هذه الرّوايات في كتبهم منهم : الخطيب الخوارزمي في المناقب ، وأبو نعيم الأصفهاني في كفاية الخصام ، والعلّامة الطبري في تفسيره ، واين صباغ المالكي في الفصول المهمّة ، والعلّامة

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٣٦٢ ، الحديث ١١٣٩.

(٢) الصواعق المحرقة ، ص ٩٦ ؛ ونور الأبصار ، ص ٧٠ و ١٠١.

(٣) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٧٩.

(٤) المصدر السابق.

٣٦٧

الشوكاني في فتح الغدير ، والشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة ، والآلوسي في روح المعاني.

باختصار هذا الحديث من الأحاديث المعروفة المشهورة المقبولة لدى أكثر علماء الإسلام ، وفيه بيان لفضيلة كبرى من فضائل علي وأتباعه.

وهذه الرّوايات تدل ضمنا أنّ كلمة «الشيعة» باعتبارها اسما لأتباع عليعليه‌السلام كانت قد شاعت منذ عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين على لسان الرّسول نفسه.

وأولئك الذين يخالون أنّ الكلمة هذه ظهرت في عصور متأخرة في خطأ كبير.

٢ ـ ضرورة إخلاص النيّة في العبادة

بعض علماء اصول الفقه استدلوا بالآية :( وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) على لزوم «قصد القربة» في العبادات ، وأن الأصل في الأوامر أنّها تعبدية لا توصلية. وهذا يتوقف على كون «الدين» في الآية بمعنى العبادة كي يصحّ الاستدلال بها على لزوم الإخلاص في العبادات ويتوقف على أن يكون (الأمر) في الآية بشكل مطلق كي يكون مفهومها لزوم قصد القربة في كل الأوامر (عداما خرج منها بدليل). غير أنّ مفهوم الآية ليس كذلك على الظاهر. فالمقصود إثبات التوحيد مقابل الشرك ، أي إنّ هؤلاء لم يؤمروا إلّا بالتوحيد ، وبهذا لا ترتبط المسألة بالأحكام الفرعية.

٣ ـ منحني الصعود والسقوط

من آيات هذه السّورة المباركة يستفاد أنّ الإنسان فريد بين مخلوقات الكون في البون الشاسع الذي يفصل بين منحني ارتفاعه وسمّوه وبين منحني سقوطه وهبوطه. لو كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات (عبارة «عملوا الصالحات» تشمل كلّ الأعمال الصالحة لا بعضها) فهو أفضل خلق الله ؛ وإنّ سلك

٣٦٨

طريق الكفر والضلالة والعناد هبط إلى هوة سحيقة وكان شرّ خلق الله.

هذا البون الشاسع بين الاتجاهين ـ رغم خطورته وحساسيته ـ له دلالة كبيرة على مكانة النوع البشري وقابليته للتكامل. وطبيعي أن يكون إلى جانب هذه القابلية العظيمة إمكان عظيم للهبوط والسقوط.

ربّنا! نستمد العون من فضلك وإحسانك لبلوغ درجة «خير البرية» ربّنا! اجعلنا من شيعة ذلك الرجل الصالح الذي كان أجدر من نال هذه الدرجة.

ربّنا! منّ علينا بإخلاص يجعلنا متفانين في حبّك وعبادتك.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة البيّنة

* * *

٣٦٩
٣٧٠

سورة

الزّلزلة

مدنيّة

وعدد آياتها ثماني آيات

٣٧١
٣٧٢

«سورة الزلزلة»

محتوى السّورة :

اختلف المفسّرون في مكّية هذه السّورة أو مدنيتها. كثيرون ذهبوا إلى أنّها مدنية. بينما ذهب بعض إلى أنّها مكّية لما تتناوله آياتها من حديث حول «المعاد» و «أشراط الساعة» (علامات يوم القيامة) وهي موضوعات الآيات المكّية عادة. ولكنّ ثمّة رواية عن «أبي سعيد الخدري» أنّه سأل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نزول هذه السّورة عن آية :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) وأبو سعيد انضم إلى المسلمين في المدينة(١) .

ولا تأثير لمكيتها أو مدنيتها على مفاهيمها التي تدور حول ثلاثة محاور رئيسية : تتحدث أوّلا عن علامات البعث ويوم القيامة ثمّ عن شهادة الأرض على جميع أعمال العباد وبعد ذلك تقسم النّاس إلى مجموعتين صالحة وطالحة وتبيّن أنّ كلّ مجموعة ترى ثمار عملها.

فضيلة السّورة :

وردت في فضيلة هذه السّورة نصوص تحمل إشارات هامّة من ذلك ما روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأها فكأنّما قرأ البقرة وأعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن»(٢) .

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٣٠٨.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٤.

٣٧٣

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام قال :

«لا تملوا من قراءة»( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ) فإنّه من كانت قراءته بها في نوافله لم يصبه اللهعزوجل بزلزلة أبدا ، ولم يمت بها ولا بصاعقة ولا بآفة من آفات الدنيا حتى يموت»(١) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي على ما في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٤٧ ، ح ٤.

٣٧٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨) )

التّفسير

يوم يرى النّاس أعمالهم :

هذه السّورة تبدأ ـ كما ذكرنا في محتواها ـ ببيان صور من الأحداث الهائلة المفزعة التي ترافق نهاية هذا العالم وبدء البعث والنشور. تقول :

( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ) (١) .

( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) .

__________________

(١) إذا شرطية ، يحتمل أن يكون جزاء شرطها «يومئذ تحدث أخبارها» أو «يومئذ يصدر النّاس أشتاتا» ، أو أنّ الجزاء محذوف والجملة جاءت جوابا لسؤال : متى الساعة؟ والتقدير : إذا زلزلت الأرض زلزالها تقوم الساعة.

٣٧٥

عبارة «زلزلها» تعني أنّ الأرض بأجمعها تهتز في ذلك اليوم (خلافا للزلازل العادية الموضعية عادة) أو أنّها إشارة إلى الزلزلة المعهودة ، أي زلزلة يوم القيامة(١) .

و «الأثقال» ذكر لها المفسّرون معاني متعددة. قيل إنّها البشر الذين يخرجون من أجداثهم على أثر الزلزال. كما جاء في قوله سبحانه :( وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ ) (٢) .

وقيل إنّها الكنوز المخبوءة التي ترتمي إلى الخارج ، وتبعث الحسرة في قلوب عبّاد الدنيا(٣) .

ويحتمل أيضا أن يكون المقصود إخراج المواد الثقيلة الذائبة في باطن الأرض ، وهو ما يحدث أثناء البراكين والزلازل ، فإنّ الأرض في نهاية عمرها تدفع ما في أعماقها إلى الخارج على أثر ذلك الزلزال العظيم.

يمكن الجمع بين هذه التفاسير.

في ذلك الجو المليء بالرهبة والفزع ، تصيب الإنسان دهشة ما بعدها دهشة فيقول في ذعر : ما لهذه الأرض تتزلزل وتلقي ما في باطنها؟

( وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها ) .

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الإنسان في الآية هو الكافر الذي كان شاكا في المعاد والبعث ، ولكن الظاهر أنّ الإنسان هنا له معنى عام يشمل كل أفراد البشر. فالدهشة من وضع الأرض في ذلك اليوم لا يختص بالكافرين.

وهل هذا السؤال التعجبي يرتبط بالنفخة الاولى أو الثّانية؟ أي هل يرتبط

__________________

(١) بالمعنى الأوّل الإضافة لها معنى العموم ، وفي الحالة الثانية معنى العهد. ثمّ إنّ الزلزال بكسر الزاي مصدر ، والزلزال بفتح الزاي اسم مصدر ، وهذه القاعدة جارية في الفعل الرباعي المضاعف مثل (صلصال) و (وسواس).

(٢) الإنشقاق ، الآية ٤.

(٣) «أثقال» جمع ثقل ـ على وزن فكر ـ بمعنى الحمل ، وقيل إنّه جمع ثقل ، على وزن عمل ، وهو متاع البيت أو المسافر. والمعنى الأوّل أنسب.

٣٧٦

بنهاية الأرض أم بالبعث؟

الظاهر أنّها النفخة الاولى حيث تحدث الزلزلة الكبرى وينتهي فيها هذا العالم.

ويحتمل أيضا أن تكون نفخة البعث والنشور ، وإخراج النّاس من الأجداث والآيات التالية ترتبط بالنفخة الثّانية.

ولما كان القرآن يتحدث في مواضع مختلفة عن أحداث النفختين معا ، فالتّفسير الأوّل أنسب لما ورد من ذكر الزلزال المرعب في نهاية العالم. وفي هذه الحالة يكون المقصود من أثقال الأرض معادنها وكنوزها والمواد المذابة فيها.

وأهم من ذلك أنّ الأرض :

( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) .

تحدّث بالصالح والطالح ، وبأعمال الخير والشر ، ممّا وقع على ظهرها. وهذه الأرض واحد من أهم الشهود على أعمال الإنسان في ذلك اليوم. وهي إذن رقيبة على ما نفعله عليها.

وفي حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أتدرون ما أخبارها»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عملوا على ظهرها.

تقول عمل كذا وكذا ، يوم كذا ، فهذا أخبارها»(١) .

وفي حديث آخر عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «حافظوا على الوضوء وخير أعمالكم الصلاة ، فتحفظوا من الأرض فإنّها امّكم ، وليس فيها أحد يعمل خيرا أو شرّا إلّا وهي مخبرة به»(٢) .

وعن أبي سعيد الخدري قال : متى كنت في بيداء فارفع صوتك بالأذان لأنّي

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٤٩.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٦.

٣٧٧

سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لا يسمعه جن ولا إنس ولا حجر إلّا يشهد له»(١) . وهل إن تحديث الأرض يعني أنّها تتكلم في ذلك اليوم بأمر الله ، أم إن المقصود ظهور آثار أعمال الإنسان على ظهر الأرض؟

واضح أنّ كل عمل يقوم به الإنسان يترك آثاره حتما على ما حوله ، وإن خفيت علينا هذه الآثار اليوم ، تماما مثل آثار أصابع اليد التي تبقى على مقبض الباب ، وفي ذلك اليوم تظهر كل هذه الآثار ، وحديث الأرض ليس سوى هذا الظهور الكبير ؛ تماما كما نقول لشخص نعسان : عينك تقول إنّك كنت سهرانا أمس.

أي إنّ آثار السهر عليها واضحة.

وليس هذا الموضوع بغريب اليوم بعد الاكتشافات العلمية والاختراعات القادرة في كلّ مكان وفي لحظة أن تسجل صوت الإنسان وتصور أعماله وحركاته في أشرطة يمكن طرحها في المحكمة كوثائق إدانة لا تقبل الإنكار.

لو كانت شهادة الأرض فيما مضى عجيبة ، فليست اليوم بعجيبة ونحن نرى شريطا رقيقا يمكن أن يكون بحجم أزرار اللباس قادرا على أن يحتفظ بكثير من الأعمال والأقوال.

وفي حديث عن عليعليه‌السلام قال : «صلوا المساجد في بقاع مختلفة ، فإنّ كلّ بقعة تشهد للمصلّي عليها يوم القيامة»(٢) .

وعنهعليه‌السلام أيضا حينما كان يفرغ من تقسيم بيت المال يصلي ركعتين ويقول : «اشهدي أنّي ملأتك بحق وفرغتك بحق»(٣) .

( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ) (٤) .

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) لئالئ الأخبار ، ج ٥ ، ص ٧٩ (الطبعة الجديدة).

(٣) المصدر السابق.

(٤) الباء في (بأنّ) للسببية واللام في (لها) بمعنى إلى كما ورد في قوله تعالى :( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) (النحل ، الآية ٦٨).

٣٧٨

فما فعلته الأرض إنّما كان بوحي ربّها ، وهي لا تتوانى في تنفيذ أمر الرّب.

وعبارة «اوحى» إنّما هي لبيان أنّ حديث الأرض خلاف طبيعتها ، ولا يتيسر ذلك سوى عن طريق الوحي الإلهي.

قيل : إنّ المقصود هو أنّ الله يوحي للأرض أن تخرج أثقالها.

والتّفسير الأوّل أصح وأنسب ،( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ) .

«أشتات» جمع «شتّ» ـ على وزن شط ـ وهو المتفرق والمبعثر. أي إنّ النّاس يردون ساحة المحشر متفرقين مبعثرين. وقد يكون التفرق والتبعثر لورود أهل كلّ دين منفصلين عن الآخرين.

أو قد يكون لورود أهل كلّ نقطة من نقاط الأرض بشكل منفصل.

أو قد يكون لورود جماعة بأشكال جميلة مستبشرة ، وجماعة بوجوه عبوسة مكفهرة إلى المحشر.

أو إن كلّ أمّة ترد مع إمامها وقائدها كما في قوله تعالى :( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) (١) .

أو أنّ يحشر المؤمنون مع المؤمنين والكافرون مع الكافرين.

الجمع بين هذه التفاسير ممكن تماما لأنّ مفهوم الآية واسع.

«يصدر» من الصدور ، وهو خروج الإبل من بركة الماء مجتمعة هائجة وعكسه الورود. وهي هنا كناية عن خروج الأقوام من القبور وورودهم على المحشر للحساب.

ويحتمل أيضا أن يكون صدور النّاس في الآية من المحشر والتوجه نحو مستقرهم في الجنّة أو النّار.

المعنى الأوّل أكثر تناسبا مع الآيات السابقة.

__________________

(١) الاسراء الآية ٧١.

٣٧٩

المقصود من عبارة( لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ) هل هو : ليروا جزاء أعمالهم.

أو ليروا صحيفة أعمالهم وما سجل فيها من حسنات وسيئات أو المشاهدة الباطنية ، بمعنى المعرفة بكيفية الأعمال.

أو أنّها تعني «تجسم الأعمال» ورؤية الأعمال نفسها؟!

التّفسير الأخير أنسب مع ظاهر الآية. وهذه الآية أوضح الآيات الدالة على تجسم الأعمال. حيث تتخذ الأعمال في ذلك اليوم أشكالا تتناسب مع طبيعتها وتنتصب أمام صاحبها. وتكون رفقتها سرورا وانشراحا أو عذابا وبلاء.

ثمّ ينتقل الحديث إلى جزاء أعمال المجموعتين المؤمنة والكافرة ، الصالحة والطالحة.

( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) .

( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) .

وهنا أيضا تفسيرات مختلفة لرؤية الأعمال هل هي رؤية جزاء الأعمال ، أم صحيفة الأعمال ، أو العمل نفسه.

ظاهر الآية يدل أيضا على مسألة «تجسم الأعمال» ومشاهدة العمل نفسه ، صالحا أم سيئا ، يوم القيامة. حتى إذا عمل ما وزنه ذرة من الذرات يره مجسما يوم القيامة.

«مثقال» في اللغة بمعنى الثقل ، وبمعنى الميزان الذي يقاس به الثقل والمعنى الأوّل هو المقصود في الآية.

و «الذرة» ذكروا لها معاني متعددة من ذلك ، النملة الصغيرة ، والغبار الذي يلصق باليد عند وضعها على الأرض ، وذرات الغبار العالقة في الجو التي تتّضح عند ما تدخل حزمة ضوء من ثقب داخل غرفة مظلمة.

والذرة تطلق اليوم على أصغر جزء من أجزاء المادة والتي منها تصنع «القنبلة الذرية» ، مع احتفاظه بخواص المادة الأصلية. ولا ترى بأقوى المجاهر ، وتشاهد

٣٨٠