تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب8%

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 493

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 187711 / تحميل: 5855
الحجم الحجم الحجم
تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنّا بها(١) .

فلمّا توسّط بهم أرض المدينة، قال لهم: ذلك عير. وهذا أحد.

فنزلوا عن ظهر إبله. وقالوا له: قد أصبنا بغيتنا. فلا حاجة لنا إلى إبلك.(٢) فاذهب حيث شئت. وكتبوا إلى إخوانهم الّذين بفدك وخيبر، إنّا أصبنا الموضع. فهلمّوا إلينا.

فكتبوا إليهم، إنّا قد استقرّت بنا الدّار، واتّخذنا بها(٣) الأموال، وما أقربنا منكم. فإذا كان ذلك، فما أسرعنا إليكم.

واتّخذوا بأرض المدينة أموالا.(٤) فلمّا كثرت أموالهم بلغ ذلك تبّع. فغزاهم.

فتحصّنوا منهم.(٥) فحاصرهم. [وكانوا يرقّون للضّعفاء أصحاب تبّع ويلقون إليهم باللّيل التّمر والشّعير. فبلغ ذلك تبّع. فرّق لهم].(٦) وآمنهم فنزلوا عليه.

فقال لهم: إنّي قد استطبت بلادكم، ولا أراني إلّا مقيما فيكم.

فقالوا له:(٧) [إنّه] ليس ذلك لك. إنّها مهاجر نبيّ. وليس ذلك لأحد حتّى يكون ذلك.

فقال لهم: فإنّي مخلّف فيكم من أسرتي، من إذا كان ذلك، ساعده ونصره.

فخلّف [فيهم](٨) حيّين الأوس والخزرج. فلمّا كثروا بها، كانوا يتناولون أموال اليهود. فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا.

فلمّا بعث الله محمّدا ـ صلّى الله عليه وآله ـ آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود.

وهو قول الله ـ عزّ وجلّ ـ( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. فَلَمَّا جاءَهُمْ، ما عَرَفُوا ) [من نعت محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ](٩) ( كَفَرُوا بِهِ ) [حسدا وخوفا على الرئاسة](١٠) ( فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

[وفي روضة الكافي(١١) ، مثله، سواء.

في تفسير عليّ بن إبراهيم(١٢) : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن حريز، عن

__________________

(١) المصدر: فارنا.

(٢) المصدر: بغتينا فلا حاجة لنا في إبلك.

(٣) ليس في المصدر.

(٤) المصدر: الأموال. (٥) المصدر: منه. وهو الظاهر.

(٦) ليس في أ.

(٧ و ٨) يوجد في المصدر.

(٩ و ١٠) يوجد في أ، فقط.

(١١) الكافي ٨ / ٣٠٨، ح ٤٨١. (١٢) تفسير القمي ١ / ٣٢ ـ ٣٣.

٨١

أبي عبد الله ـ عليه السّلام. قال: نزلت هذه الآية في اليهود والنّصارى. يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، يَعْرِفُونَهُ ) ، يعني: رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ( كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) . لأنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ قد أنزل عليهم في التّوراة والإنجيل والزّبور، صفة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ وصفة أصحابه ومبعثه ومهاجرته. وهو قوله تعالى(١) :( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ، أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ. تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً. يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ) . فهذه صفة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في التوراة والإنجيل وصفة أصحابه.

فلمّا بعثه الله ـ عزّ وجلّ ـ عرفه أهل الكتاب، كما قال ـ جلّ جلاله:( فَلَمَّا جاءَهُمْ، ما عَرَفُوا. كَفَرُوا بِهِ ) .

فكانت اليهود، يقولون للعرب، قبل مجيء النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله: أيّها العرب! هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة. ويكون مهاجرته بالمدينة. وهو آخر الأنبياء.

وأفضلهم. في عينيه حمرة. وبين كتفيه خاتم النّبوّة الشّملة. ويجتزئ بالكسرة والتّمرات.

ويركب الحمار العريّ. وهو الضّحوك القتّال. يضع سيفه على عاتقه ولا يبالي من لاقى.

يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر. لنقتلنّكم به، يا معشر العرب! قتل عاد.

فلمّا بعث الله نبيّه بهذه الصّفة، حسدوه وكفروا به، كما قال الله:( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا. كَفَرُوا بِهِ ) .

وفي روضة الكافي(٢) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن إسحاق بن عمّار. قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله ـ عزّ وجلّ ـ( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ، يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا. كَفَرُوا بِهِ ) .

قال: كان قوم فيما بين محمّد وعيسى ـ صلّى الله عليهما. وكانوا يتوعّدون أهل الأصنام، بالنّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله. ويقولون: ليخرجنّ نبيّ. فليكسرنّ أصنامكم.

وليفعلنّ بكم وليفعلن. فلمّا خرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ كفروا به.

وفي أصول الكافي(٣) ، بإسناده إلى أبي عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد الله

__________________

(١) الفتح / ٢٩.

(٢) الكافي ٨ / ٣١٠، ح ٤٨٢.

(٣) الكافي ٢ / ٣٨٩ ـ ٣٦٠.

٨٢

ـ عليه السّلام. قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر، في كتاب الله ـ عزّ وجلّ.

قال: الكفر في كتاب الله، على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود. [والجحود](١) على وجهين ـ إلى قوله ـ أمّا الوجه الآخر من الجحود، على معرفة. وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده. وقد قال الله ـ عزّ وجلّ ـ(٢) ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ) . وقال الله ـ عزّ وجلّ ـ( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا، كَفَرُوا بِهِ. فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ ) ].(٣)

( بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ) :

«ما» نكرة، موصوفة بالجملة الّتي بعده. مميّز لفاعل «بئس» المستكنّ فيه.

ومعناه: بئس شيء باعوا به أنفسهم، أو شروا به أنفسهم، بحسب ظنّهم، فإنّهم ظنّوا أنّهم أخلصوا أنفسهم من العقاب، بما فعلوا.

( أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ ) : هو المخصوص بالذّمّ.

( بَغْياً ) : طلبا لما ليس لهم وحسدا، تعليل للكفر.

( أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ ) ، أي: لأن ينزّل الله، أي: حسدوا لذلك.

( مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) : على من اختاره للرّسالة.

( فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ) : فصاروا أحقّاء بغضب مترادف.

( وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ) (٩٠) لهم، بخلاف عذاب العاصي فانّه طهرة لذنوبه.

[وفي شرح الآيات الباهرة(٤) : روى محمّد بن يعقوب ـ رحمه الله ـ عن عليّ بن إبراهيم، عن أحمد بن محمّد البرقيّ، عن أبيه، عن محمّد بن سنان، عن عمّار بن مروان، عن منخّل، عن جابر، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام. قال: نزل جبرئيل بهذه الآية على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ هكذا.( بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ ) في عليّ( بَغْياً ) . (الآية).

وفي تفسير العيّاشيّ(٥) : عن جابر. قال: سألت أبا جعفر ـ عليه السّلام ـ عن هذه الآية،(٦) من قول الله( فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا، كَفَرُوا بِهِ ) ، قال: تفسيرها في الباطن: لما

__________________

(١) يوجد في المصدر.

(٢) النمل / ١٤.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٤) تأويل الآيات الباهرة / ٢٥.

(٥) تفسير العياشي ١ / ٥٠، ح ٧٠.

(٦) المصدر: عن.

٨٣

جاءهم ما عرفوا في عليّ كفروا به فقال الله [فيهم: «( فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ ) في باطن القرآن.

قال أبو جعفر](١) فيه: يعني بني أميّة. هم الكافرون في باطن القرآن.

قال أبو جعفر ـ عليه السّلام: نزلت هذه الآية على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ هكذا:( بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ ) في عليّ «( بَغْياً ) . وقال الله في عليّ:( أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) ، يعني: عليّا. قال الله:( فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ) ، يعني: بني أميّة. و( لِلْكافِرِينَ ) ، يعني: بني أميّة، «( عَذابٌ مُهِينٌ ) ].(٢)

( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ ) : يعمّ جميع ما جاء به أنبياء الله.

( قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا ) ، أي: بالتوراة.

( وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ ) :

قال ابن الأنباريّ(٣) : تمّ الكلام عند قوله( بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا ) : ثمّ ابتدأ بالإخبار عنهم.

وصاحب الكشّاف(٤) ، على أنّه حال عن الضّمير في «قالوا»، أي: قالوا ذلك والحال أنّهم يكفرون بما وراء التوراة.

والأوّل، أقرب.

و «وراء»، في الأصل، مصدر. جعل ظرفا. ويضاف إلى الفاعل. فيراد ما يتوارى به، وهو خلفه. وإلى المفعول، فيراد به، ما يواريه، وهو قدّامه. ولذلك عدّ من الأضداد.

وقال الفرّاء: معنى وراءه، سواه، كما يقال للرّجل: «يتكلّم بالكلام الحسن، ما وراء هذا الكلام»، شيء يراد، ليس عند المتكلّم به شيء، سوى ذلك الكلام.

( وَهُوَ الْحَقُ ) ، أي: ما وراءه. أي: القرآن الحقّ.

( مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ ) ، أي: التوراة.

[وفي تفسير العيّاشيّ:(٥) قال جابر: قال أبو جعفر ـ عليه السّلام: نزلت هذه الآية على

__________________

(١) يوجد في المصدر: وهاهنا ـ أيضا ـ موجود بين المعقوفتين.

(٢) ما بين المعقوفتين، ليس في أ.

(٣) مجمع البيان ١ / ١٦١.

(٤) الكشاف ١ / ١٦٥.

(٥) تفسير العياشي ١ / ٥١، ح ٧١.

٨٤

محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ هكذا، والله: «( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ ) (١) » في عليّ، يعني: بني أميّة،( قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا ) ، يعني: في قلوبهم بما أنزل الله عليه.

( وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ ) بما أنزل الله في عليّ.( وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ ) ، يعني: عليّا].(٢)

و( مُصَدِّقاً ) ، حال مؤكدة يتضمّن ردّ مقالتهم. فإنّهم لـمّا كفروا بما يوافق التوراة، فقد كفروا بها. ثمّ اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء، مع ادّعائهم الإيمان بالتوراة. والتوراة لا تسوغه بقوله :

( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٩١) :

وإسناد القتل إليهم، مع أنّه فعل آبائهم، لأنّهم راضون به، عازمون عليه.

[وفي تفسير العيّاشيّ(٣) : عن أبي عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام.

قال: قال الله في كتابه، يحكي قول اليهود،( إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ ) . (الآية) فقال:( فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .» وإنّما أنزل هذا، في قوم من(٤) اليهود، وكانوا على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لم يقتلوا الأنبياء بأيديهم، ولا كانوا في زمانهم. وإنّما قتل(٥) الّذين كانوا من قبلهم. فجعلهم الله منهم.

وأضاف إليهم، فعل أوائلهم، بما تبعوهم وتولّوهم].(٦)

( وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ. ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ) (٩٢):( وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ) ، يجوز أن يكون حالا، أي: عبدتم العجل، وأنتم واضعون العبادة غير موضعها. وأن يكون اعتراضا، بمعنى: وأنتم قوم عادتكم الظّلم.

( وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ) ، أي :قلنا لهم. خذوا ما أمرتم به في التوراة بجدّ. واسمعوا، سماع طاعة.

( قالُوا سَمِعْنا ) قولك.( وَعَصَيْنا ) أمرك.

__________________

(١) المصدر:( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ) (النحل / ٢٤)

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٣) تفسير العياشي ١ / ٥١.

(٤) ليس في المصدر.

(٥) المصدر: إنّما قتل أوائلهم الذين كانوا من قبلهم. فنزلوا بهم أولئك القتلة.

(٦) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٨٥

( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) : تداخلهم حبّه. ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم فيه، كما يتداخل الصّبغ، الثّوب والشّرب أعماق البدن.

و( فِي قُلُوبِهِمُ ) بيان لمكان الإشراب.

( بِكُفْرِهِمْ ) : بسبب كفرهم. لأنّهم كانوا مجسّمة، أو حلوليّة. ولم يروا جسما أعجب منه. فتمكّن في قلوبهم، ما سوّل لهم السّامريّ.

[وفي تفسير العيّاشيّ:(١) عن أبي بصير، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قول الله( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) قال: فعمد موسى. فرد(٢) العجل من أنفه إلى طرف ذنبه.

ثمّ أحرقه بالنّار فذرّه في اليمّ.

قال: فكان أحدهم ليقع في الماء وما به إليه من حاجة، فيتعرّض لذلك الرّماد، فيشربه. وهو قول الله( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) ].(٣)

( قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ ) بالتوراة. لأنّه ليس فيها عبادة العجاجيل.

وإضافة الأمر إلى إيمانهم، تهكّم، كما قال قوم شعيب(٤) :( أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ) .

وكذلك إضافة الإيمان إليهم.

والمخصوص بالذّمّ، محذوف، أي: هذا الأمر، أو ما يعمّه وغيره، من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث، إلزاما(٥) عليهم.

( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٩٣) :

تشكيك في إيمانهم. وقدح في صحّة دعواهم له.

وكرّر رفع الطّور، لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى. وتلك الزّيادة التّنبيه على أنّ طريقهم مع الرّسول، طريقة أسلافهم مع موسى ـ عليه السّلام.

( قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً ) :

والمراد بالدّار الآخرة، الجنّة. وخالصة منصوب على الحال، من الدّار، أي: خاصّة بكم كما قلتم لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا.

( مِنْ دُونِ النَّاسِ ) ، أي: سائر النّاس، أو المسلمين.

__________________

(١) تفسير العياشي ١ / ٥١، ح ٧٣.

(٢) المصدر: فبرّد.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٤) هود / ٨٧.

(٥) أ: التزاما.

٨٦

و «اللّام»، للعهد.

( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (٩٤).

لأنّ من أيقن أنّه من أهل الجنّة، اشتاق إليها، وتمنّى سرعة الوصول إلى النّعيم، والتّخلّص من الدّار ذات النّوائب، كماقال أمير المؤمنين ويعسوب الدّين(١) ، وهو يطوف بين الصّفين في غلالة، فقال ابنه الحسن ـ عليه السّلام: ما هذا بزيّ المحاربين؟ يا بنيّ! إنّ أباك لا يبالي وقع على الموت، أو وقع الموت عليه.

وقال عمّار ـ رضي الله عنه ـ بصفّين(٢) : الآن ألاقي محمّدا وحزبه.

وقال حذيفة، حين احتضر(٣) : جاء حبيب على فاقة. لا أفلح من ندم، أي: التّمنّي.

[وفي كتاب الخصال(٤) : عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام. قال: سمعت أبي يحدّث عن أبيه ـ عليهما السّلام: أنّ رجلا قام إلى أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ فقال: يا أمير المؤمنين! بما عرفت ربّك؟

قال: بفسخ العزائم.

إلى أن قال: فبما ذا أحببت لقاءه؟

قال لـمّا رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه، علمت بأنّ الّذى أكرمني بهذا ليس ينساني، فأحببت لقاءه.

عن جعفر بن محمّد(٥) ، عن أبيه ـ عليهما السّلام. قال: أتى النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ رجل فقال له: مالي لا أحبّ الموت؟

فقال له: ألك مال؟

قال: نعم.

قال: فقدّمته؟

قال: لا.

قال: فمن ثمّ لا تحبّ الموت].(٦)

__________________

(١) الكشاف ١ / ١٦٦+ مجمع البيان ١ / ١٦٤.

(٢) الكشاف ١ / ١٦٧.

(٣) نفس المصدر ١ / ١٦٦.

(٤) الخصال ١ / ٣٣، ح ١.

(٥) نفس المصدر ١ / ١٣، ح ٤٧.

(٦) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٨٧

وأمّا ما روي عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال(١) : «لا يتمنّين أحدكم الموت لضرّ، نزل به. ولكن ليقل: أللّهمّ أحيني ما دامت الحيوة خيرا لي. وتوفّني إذا كانت الوفاة، خيرا لي»، فإنّما نهى عن التّمنّي للضّرّ. لأنّه يدلّ على الجزع. والمأمور به الصّبر وتفويض الأمور إليه.

( وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (٩٥): والمراد( بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) ، ما أسلفوا من موجبات النّار، من الكفر بمحمّد، وما جاء به، وتحريف كتاب الله، وسائر أنواع الكفر والعصيان. ولمّا كانت اليد العاملة، مختصّة بالإنسان، آلة لقدرته. بها عامّة صنائعه(٢) ومنها أكثر منافعه، عبّر بها عن النّفس، تارة، والقدر، أخرى.

وقوله( وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ) من المعجزات. لأنّه إخبار بالغيب.

وروى الكلبيّ(٣) ، عن ابن عبّاس، أنّه قال: كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقول لهم(٤) : إن كنتم صادقين في مقالتكم، فقولوا «اللهمّ أمتنا». فو الّذي نفسي بيده! لا يقولها رجل إلّا غصّ بريقه. فمات مكانه.

وروي عنه ـ عليه السّلام ـ(٥) أيضا ـ أنّه [قال :](٦) لو أنّ اليهود تمنّوا الموت، لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النّار.

( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ ) :

من وجد، بمعنى علم. المتعدّي إلى مفعولين، في قولهم: وجدت زيدا ذا انخفاض.(٧) ومفعولاه، هم أحرص.

وتنكير «حياة»، لأنّه أريد فرد من أفرادها. وهي الحياة المتطاولة. وقرئ باللام.

( وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) :

محمول على المعنى. فكأنّه قال: أحرص من النّاس ومن الّذين أشركوا

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ١٦٤.

(٢) ر: على صنايعه.

(٣) مجمع البيان ١ / ١٦٤.

(٤) ر: لكم.

(٥) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٦) يوجد في المصدر.

(٧) أ: انخفظاظ. الأصل ور: انخفاظ.

٨٨

وإفرادهم بالذّكر، للمبالغة. فإنّ حرصهم شديد إذ لم يعرفوا إلّا الحياة العاجلة، والزّيادة في التّوبيخ والتّقريع. فإنّه لـمّا زاد حرصهم وهو مقرون بالجزاء على حرص المنكرين، دلّ ذلك على علمهم بأنّهم صائرون إلى النّار.

ويجوز أن يراد: وأحرص من الّذين أشركوا. فحذف، لدلالة الأوّل عليه. وأن يكون خبر مبتدأ محذوف صفته.

( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ) على أنّه أريد بالّذين أشركوا اليهود. لأنّهم قالوا: عزير بن الله، أي: ومنهم ناس يودّ أحدهم. وهو على الأوّلين، بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف.

( لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ) :

حكاية لودادتهم.

و «لو» بمعنى ليت. وكأنّ أصله «لو عمّر». فأجرى على الغيبة، لقوله تعالى «يود»، كقولك: حلف بالله، ليفعلنّ.

( وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ) :

الضّمير لأحدهم.

و «أن يعمّر»، فاعل «مزحزحه»، وما أحدهم ممّن يزحزحه من النّار تعميره، أو لما دلّ عليه يعمّر. و «أن يعمّر» بدل، أو مبهم. و «أن يعمّر»، موضّحه.

وأصل «سنة» سنوة. لقولهم: سنوات. وقيل: سنهة، كجبهة. لقولهم: سانهة وتسنّهت النّحل، إذا أتت عليها السّنوات.

و «الزّحزحة»: التّبعيد.

( وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) (٩٦)، فيجازيهم.

وفي هذه الآية، دلالة على أنّ الحرص على طول البقاء، لطلب الدّنيا ونحوه، مذموم. وإنّما المحمود، طلب البقاء للازدياد في الطّاعة، وتلافي الفائت بالتّوبة والإنابة، ودرك السّعادة بالإخلاص في العبادة. وإلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ(١) في قوله: بقيّة عمر المؤمن، لا قيمة له. يدرك بها ما فات. ويحيي بها ما أمات.

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ١٦٦.

٨٩

( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ) :

قال ابن عبّاس(١) : سبب نزول هذه الآية، ما روى أنّ ابن صوريا وجماعة من اليهود أهل فدك، لـمّا قدم النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ المدينة، سألوه. فقالوا: يا محمّد! كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النّبيّ الّذي يأتي في آخر الزّمان.

فقال: تنام عيناي. وقلبي يقظان.

قالوا: صدقت، يا محمّد! فأخبرنا عن الولد يكون من الرّجل والمرأة.

فقال ـ صلّى الله عليه وآله: أمّا العظام والعصب والعروق، فمن الرّجل. وأمّا اللّحم والدّم والشّعر والظّفر، فمن المرأة.

قالوا: صدقت، يا محمّد! فما بال الولد يشبه أعمامه وليس فيه من شبه أخواله شيء؟ أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شيء؟

فقال: أيّهما علا ماؤه، كان الشّبه له.

قالوا: صدقت، يا محمّد! قالوا: أخبرنا عن ربّك، ما هو؟

فأنزل الله سبحانه( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) (إلى آخره.) فقال له ابن صوريا: خصلة واحدة، إن قلتها آمنت بك واتّبعتك. أيّ ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟

فقال: جبرئيل.

قال: ذاك عدوّنا. ينزل بالقتال والشّدّة والحرب. وميكائيل ينزل باليسر والرخاء. فلو كان ميكائيل هو الّذي يأتيك، لآمنّا بك.

[وفي كتاب الاحتجاج، للطّبرسيّ ـ رحمه الله(٢) : وقال أبو محمّد ـ عليه السّلام ـ قال جابر بن عبد الله: سأل رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ عبد الله بن صوريا، غلام أعور يهوديّ ـ تزعم اليهود أنّه أعلم يهوديّ بكتاب الله وعلوم أنبيائه ـ عن مسائل كثيره.

تعنّت فيها فأجابه عنها رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بما لم يجد إلى إنكار شيء منها سبيلا.

فقال له: يا محمّد! من يأتيك بهذه الأخبار عن الله تعالى؟

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ١٦٧.

(٢) الاحتجاج ١ / ٤٦.

٩٠

قال: جبرئيل.

قال: لو كان غيره يأتيك بها، لآمنت بك. ولكن جبرئيل عدوّنا من بين الملائكة. فلو كان ميكائيل، أو غيره سوى جبرئيل يأتيك بها، لآمنت بك.

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: ولم اتّخذتم جبرئيل عدوّا؟

قال: لأنّه ينزل بالبلاء والشّدّة على بني إسرائيل. ودفع دانيال عن قتل بخت نصر، حتّى قوى أمره وأهلك بني إسرائيل. وكذلك كلّ بأس وشدّة لا ينزلها إلّا جبرئيل وميكائيل يأتينا بالرّحمة.

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: ويحك! أجهلت أمر الله؟ وما ذنب جبرئيل إن أطاع الله، فيما يريده الله بكم. أرأيتم ملك الموت أهو عدوّكم؟ وقد وكّله الله تعالى بقبض أرواح الخلق. أرأيتم الآباء والأمّهات إذا وجروا الأولاد الدّواء الكريه لمصالحهم، يجب أن يتّخذهم أولادهم أعداء من أجل ذلك؟ لا! ولكنّكم بالله جاهلون.

وعن حكمته غافلون. وأشهد أنّ جبرئيل وميكائيل بأمر الله عاملان. وله مطيعان. وأنّه لا يعادي أحدهما إلّا من عادى الآخر. وأنّه من زعم أنّه يحبّ أحدهما ويبغض الآخر، فقد كذب. وكذلك محمّد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وعليّ، أخوان، كما أنّ جبرئيل وميكائيل، أخوان. فمن أحبّهما، فهو من أولياء الله. ومن أبغضهما، فهو من أعداء الله. ومن أبغض أحدهما وزعم أنّه يحبّ الآخر، فقد كذب وهما منه بريئان. والله تعالى وملائكته وخيار خلقه منه براء.

وقال أبو محمّد ـ عليه السّلام: كان سبب نزول قوله تعالى( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ) (الآيتين)، ما كان من اليهود أعداء الله من قوله من قول السيّئ، في جبرئيل وميكائيل، ومن كان من أعداء الله النّصّاب، من قول أسوء منه، في الله وفي جبرئيل وميكائيل وسائر ملائكة الله. أمّا ما كان من النّصّاب، فهو أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لـمّا كان لا يزال يقول في عليّ ـ عليه السّلام ـ الفضائل الّتى خصّه الله ـ عزّ وجلّ ـ بها والشّرف الّذي أهّله الله تعالى له. وكان في كلّ ذلك يقول: أخبرني به جبرئيل، عن الله. ويقول في بعض ذلك، جبرئيل عن يمينه، وميكائيل، عن يساره. يفتخر جبرئيل على ميكائيل، في أنّه عن يمين عليّ ـ عليه السّلام ـ الّذي هو أفضل من اليسار، كما يفتخر نديم ملك عظيم في الدّنيا يجلسه الملك عن يمينه، على النّديم الآخر الّذي يجلسه عن يساره. ويفتخران على إسرافيل الّذي خلفه بالخدمة، وملك الموت الّذي أمامه بالخدمة.

٩١

وأنّ اليمين والشّمال، أشرف من ذلك، كافتخار حاشية الملك، على زيادة قرب محلّهم من ملكهم.

وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقول في بعض أحاديثه: إنّ الملائكة أشرفها عند الله، أشدّها لعليّ بن أبي طالب حبّا. وإنّه قسم(١) الملائكة فيما بينهما، والّذي يشرّف(٢) عليّا على جميع الورى بعد محمّد المصطفى.

ويقول مرّة: إنّ ملائكة السّماوات والحجب ليشتاقون إلى رؤية عليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام ـ كما تشتاق الوالدة الشّفيقة إلى ولدها البارّ الشّفيق، آخر من بقي عليها بعد عشرة دفنتهم.

فكان هؤلاء النّصّاب يقولون: إلى متى يقول محمّد: جبرئيل وميكائيل والملائكة؟

وكلّ ذلك تفخيم لعليّ، وتعظيم لشأنه. ويقول الله تعالى لعليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام ـ خاصّ من سائر الخلق. برئنا من ربّ ومن ملائكة ومن جبرئيل وميكائيل هم لعلىّ بعد محمّد، مفضّلون. وبرئنا من رسل الله الّذين هم لعليّ بعد محمّد، مفضّلون.

وأمّا ما قاله اليهود. فهو أنّ اليهود، أعداء الله. لـمّا قدم النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ المدينة، أتوا بعبد الله بن صوريا. فسأله عن أشياء. فأجابه إلى أن قال: بقيت خصلة، إن قلتها، آمنت بك واتّبعتك. أيّ ملك يأتيك بما تقوله عن الله؟

قال: جبرئيل.

قال ابن صوريا: ذلك عدوّنا من بين الملائكة. ينزل بالقتل والشّدّة والحرب.

ورسولنا ميكائيل. يأتي بالسّرور والرّخاء. فلو كان ميكائيل هو الّذي يأتيك، آمنا بك. لأنّ ميكائيل كان يشدّ ملكنا. وجبرئيل كان يهلك ملكنا. فهو عدوّنا لذلك.

فقال سلمان الفارسيّ ـ رضى الله عنه: فما بدوّ عداوته لكم؟

قال: نعم، يا سلمان! عادانا مرارا كثيرة. وكان من أشدّ ذلك علينا، أنّ الله أنزل على أنبيائه أنّ بيت المقدس يخرّب على يد رجل، يقال له «بخت نصر» وفي زمانه. وأخبرنا بالحين الّذي يخرّب فيه. والله يحدث الأمر بعد الأمر. فيمحو ما يشاء. ويثبت. فلمّا بلغنا ذلك الحين الّذى يكون فيه هلاك بيت المقدس، بعث أوائلنا رجلا من أقرباء بني إسرائيل وأفاضلهم، نبيّا كان يعدّ من أنبيائهم، يقال له «دانيال»، في طلب بخت نصر، ليقتله.

__________________

(١) ر: قسيم.

(٢) ر: شرّف.

٩٢

فحمل معه وقر مال لينفقه في ذلك. فلمّا انطلق في طلبه، لقيه ببابل غلاما ضعيفا مسكينا ليس له قوّة ولا منعة. فأخذه صاحبنا ليقتله. فدفع عنه جبرئيل. وقال لصاحبنا: إن كان ربّكم هو الّذي أمر بهلاككم، فإنّه لا يسلّطك عليه. وإن لم يكن هذا، فعلى أيّ شيء تقتله؟

فصدّقه صاحبنا. وتركه. ورجع إلينا. وأخبرنا بذلك. وقوى بخت نصر. وملك قرانا. وخرّب بيت المقدس. فلهذا نتّخذه عدوّا. وميكائيل عدوّ لجبرئيل.

فقال سلمان: يا بن صوريا! بهذا العقل المسلوك به غير سبيله ضللتم. أرأيتم أوائلكم كيف بعثوا من يقتل بخت نصر؟ وقد أخبر الله تعالى، في كتبه، على ألسنة رسله، أنّه يملك ويخرّب بيت المقدس. أرادوا بذلك تكذيب أنبياء الله في أخبارهم؟ أو اتّهموهم في إخبارهم؟ وصدّقوهم في الخبر عن الله؟ ومع ذلك أرادوا مغالبة الله؟ هل كان هؤلاء ومن وجوه، إلا كفّار بالله؟ وأيّ عداوة يجوز أن تعتقد لجبرئيل وهو يصدّ به عن مغالبة الله ـ عزّ وجلّ ـ وينهى عن تكذيب خبر الله تعالى؟

فقال ابن صوريا: قد كان الله أخبر بذلك على ألسن أنبيائه. ولكنّه يمحو ما يشاء ويثبت.

قال سلمان: فإذا لا يتّقنوا بشيء ممّا في التّوراة، من الأخبار عمّا مضى وما يستأنف، فإنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت. وإذا لعلّ الله قد كان عزل موسى وهارون عن النّبوّة. وأبطلا في دعواهما؟ لأنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت. ولعلّ كلّما أخبراكم أنّه يكون، لا يكون. وما أخبراكم أنّه لا يكون، يكون. وكذلك ما أخبراكم عمّا كان، لعلّه لم يكن.

وما أخبراكم أنّه لم يكن، لعلّه كان. ولعلّ ما وعده من الثّواب، يمحوه. ولعلّ ما توعّد به من العقاب، يمحوه. فإنّه يمحو ما يشاء ويثبت. إنّكم جهلتم معنى( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) فلذلك أنتم بالله كافرون. ولإخباره عن الغيوب مكذّبون وعن دين الله منسلخون.

ثم قال سلمان: إنّي أشهد أنّ من كان عدوّا لجبرئيل، فإنّه عدوّ لميكائيل. وإنّهما جميعا عدوّان لمن عادهما. سلمان لمن سالمهما.

فأنزل الله تعالى عند ذلك موافقا لقول سلمان:( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ) » في مظاهرته لأولياء الله على أعداء الله، ونزوله بفضائل عليّ وليّ الله من عند الله،( فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ ) ، فإن جبرئيل نزّل هذا القرآن( عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ) ، بأمره،( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) من سائر كتب الله، «وهدى» من الضلالة،( وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ) بنبوّة محمّد وولاية عليّ و

٩٣

من بعدهما من الأئمّة، بأنّهم أولياء الله حقّا، إذا ماتوا على موالاتهم لمحمّد وعليّ وآلهما الطّيّبين.

والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

وفي كتاب علل الشّرائع(١) ، بإسناده إلى أنس بن مالك، عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ حديث طويل، قال فيه ـ صلّى الله عليه وآله ـ لعبد الله بن سلام، وقد سأله عن مسائل: أخبرني بهنّ جبرئيل ـ عليه السّلام ـ آنفا.

قال: هل خبّرك جبرئيل.

قال: نعم.

قال: ذلك عدوّ اليهود من الملائكة.

قال: ثمّ قرأ هذه الآية:( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ) ](٢)

وفي «جبرئيل»، ثمان لغات: قرئ بهنّ أربع في المشهورات: جبرئيل، كسلسبيل، قراءة حمزة والكسّائيّ. وجبرئيل (بكسر الرّاء وحذف الهمزة)، قراءة ابن كثير. وجبرئيل، كحجمرش، قراءة عاصم برواية أبي بكر. وجبرئيل، كقنديل، قراءة الباقين.

وأربع في الشّواذّ. جبرائيل وجبرائيل، جبرال وجبرين.

ومنع صرفه للعجمة والتّعريف. ومعناه عبد الله.

( فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ ) ، أي: جبرئيل نزّل القرآن.

والإرجاع إلى غير المذكور، يدلّ على فخامة شأنه. كأنّه لتعيّنه وفرط شهرته، لم يحتجّ إلى سبق ذكره.

( عَلى قَلْبِكَ ) :

فإنّه القابل الأوّل للوحي. ومحلّ الفهم والحفظ. وكان حقّه على قلبي. لكنّه جاء على حكاية كلام الله تعالى. كأنّه قال: قل ما تكلّمت به من قولي.( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ) .

( بِإِذْنِ اللهِ ) : بأمره.

__________________

(١) علل الشرائع ٩٤ ـ ٩٥، ح ٣.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

٩٤

حال من فاعل «نزّل».

( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (٩٧) :

أحوال من مفعوله. وجواب الشّرط.

فإنّه نزّله على وجهين :

أحدهما: أنّ من عادى منهم جبرئيل، فلا وجه له. فإنّه نزّل(١) كتابا مصدّقا لما بين يديه من الكتب. فلو أنصفوا، لأحبّوه، وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحّح المنزل عليهم.

والثّاني: أنّ من عاداه، فالسّبب في عداوته أنّه نزل عليك بالوحي، وهم كارهون له.

وقيل(٢) : جواب الشّرط محذوف، مثل: فليمت غيظا، أو فهو عدوّ لي. وأنا عدو له، كما قال:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ) (٩٨)، أي: من كان معاديا لله، أي: يفعل فعل المعادي، من المخالفة والعصيان، فإنّ حقيقة العداوة، طلب الإضرار به، وهذا يستحيل على الله تعالى.

وقيل:(٣) المراد به معاداة أوليائه.

صدر الكلام بذكره، تفخيما لشأنهم. وإفراد الملكين بالذّكر، لفضلهما. كأنّهما من جنس آخر.

ووضع الظّاهر، موضع الضّمير، للدّلالة على أنّه تعالى عاداهم لكفرهم. وأنّ عداوة الملائكة والرّسل، كفر. فكيف بعداوة أمير المؤمنين ويعسوب الدّين وإمام المتّقين؟

قرأ نافع، ميكائيل، كميكاعل. وأبو عمرو ويعقوب وعاصم برواية حفص، ميكال، كميعاد. وقرئ ميكئيل وميكائيل وميكال.

( وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ ) (٩٩)، أي: المتمرّدون من الكفرة.

و «الفسق» إذا استعمل في نوع من المعاصي، دلّ على أعظمه. كأنّه متجاوز عن

__________________

(١) أ: نزّله.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٧٢.

(٣) مجمع البيان ١ / ١٦٧.

٩٥

حدّه.

قال ابن عبّاس(١) : إنّ ابن صوريا قال لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: يا محمّد! ما جئتنا بشيء نعرفه. وما أنزل عليك بآية بيّنة فنتّبعك لها. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

( أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً ) :

الهمزة حرف استفهام للإنكار. ويحتمل أن تكون للتّقرير.

وقال بعضهم(٢) : يحتمل أن تكون زائدة، كزيادة الفاء، في قولك: أفالله لتفعلنّ.

والأوّل أصحّ.

والواو للعطف، على محذوف تقديره «أكفروا بالآيات وكلّما عاهدوا.» وقرئ بسكون الواو، على أنّ التّقدير «إلّا الّذين فسقوا»، أو «كلّما عاهدوا» وقرئ عوهدوا وعهدوا(٣) .

( نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) : نقضه.

وأصل النّبذ: الطّرح. لكنّه يغلب فيما ينسى.

وإنّما قال «فريق»، لإنّ بعضهم لم ينقض.

وقرئ نقضه.

[وفي روضة الكافي(٤) ، في رسالة أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ إلى سعد الخير: وكلّ أمّة قد رفع الله عنهم علم الكتاب، حين نبذوه. وولّاهم عدوّهم، حين تولّوه. وكان من نبذهم الكتاب، أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده. فهم يروونه ولا يرعونه. والجّهال يعجبهم للرّواية. والعلماء يحزنهم تركهم للرّعاية. وكان من نبذهم الكتاب، أن ولّوه الّذين لا يعلمون. فأوردوهم الهوى. وأصدروهم إلى الرّدى. وغيّروا عرى الدّين ـ إلى إن قال ـ عليه السّلام: ثمّ اعرف أشباههم، من هذه الأمّة الّذين أقاموا حروف الكتاب وحرّفوا حدوده. فهم مع السّادة والكبرة. فإذا تفرّقت قادة الأهواء، كانوا مع أكثرهم دنيا. وذلك مبلغهم من العلم. لا يزالون كذلك في طمع وطبع. لا يزال يسمع صوت إبليس، على ألسنتهم، بأباطل كثيرة(٥) .

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ١٦٨.

(٢) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٣) ر. أنوار التنزيل ١ / ٧٢.

(٤) الكافي ٨ / ٥٢ ـ ٥٤، مقاطع من ح ١٦.

(٥) المصدر: بباطل كثير.

٩٦

والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة](١)

( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (١٠٠) :

ردّ لما يتوهّم أنّ الفريق هم الأقلّون، أو أنّ من لم ينبذ جهارا، فهم يؤمنون به خفاء.

( وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) : كعيسى ومحمّد ـ صلّى الله عليه وآله.

( مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ ) من التوراة،( نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ ) ، أي: التوراة. لأنّ كفرهم بالرّسول المصدّق لها، كفر بها فيما تصدّقه.

وقيل(٢) : المراد بكتاب الله، القرآن.

( وَراءَ ظُهُورِهِمْ ) :

مثل لإعراضهم عنه، بالإعراض عمّا يرمى به وراء الظّهر، لعدم الالتفات إليه.

( كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١٠١) أنّه كتاب الله، يعني: أنّ علمهم به رصين(٣) . ولكن يتجاهلون عنادا.

قال الشّعبيّ:(٤) هو بين أيديهم يقرءونه. ولكن نبذوا العمل به.

قال سفيان بن عيينة:(٥) أدرجوه في الحرير والدّيباج وحلّوه بالذّهب والفضّة.

ولم يحلّوا حلاله. ولم يحرّموا حرامه. فذلك النّبذ. هذا إذا حمل الكتاب على التوراة. وأمّا إذا حمل على القرآن، فإنّه لما جاءهم الرّسول بهذا الكتاب، فلم يقبلوه، صاروا نابذين له.

واعلم: أنّه تعالى دلّ بالآيتين، على أنّ جلّ اليهود، أربع فرق: فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها، كمؤمني أهل الكتاب. وهم الأقلّون المدلول عليهم بقوله:( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وفرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطّي حدودها، تمرّدا وفسوقا. وهم المعنيّون بقوله: نبذ فريق منهم.

وفرقة لم يجاهروا بنبذها، لكن نبذوا لجهلهم بها. وهم الأكثرون.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٢) مجمع البيان ١ / ١٦٩+ أنوار التنزيل ١ / ٧٢.

(٣) أ: رزين. وهو الظاهر. وما في المتن، موافق أنوار التنزيل.

(٤ و ٥) مجمع البيان ١٦٩ / ١.

٩٧

وفرقة تمسّكوا بها ظاهرا، ونبذوها خفية، عالمين بالحال، بغيا وعنادا. وهم المتجاهلون.

( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ ) : معطوف على «نبذ»، أي: نبذوا كتاب الله. واتّبعوا كتب السّحر الّتي تقرؤها، او تتبعها الشّياطين من الجنّ، أو الإنس، أو منها.

( عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ) ، أي: على عهد سليمان.

قيل(١) : كانوا يسترقون السّمع، ويضمّون إلى ما سمعوا أكاذيب، ويلقونها إلى الكهنة، وهم يدوّنونها، ويعلّمون النّاس. وفشى ذلك في عهد سليمان، حتّى قيل: إنّ الجنّ يعلم الغيب. وإن ملك سليمان تمّ بهذا العلم. وإنّه تسخّر به الإنس والجنّ والرّيح له.

وروى العيّاشيّ،(٢) بإسناده، عن أبي بصير، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام. قال: لـمّا هلك سليمان، وضع إبليس السّحر. ثمّ كتبه في كتاب. وطواه. وكتب على ظهره: «هذا ما وضع آصف بن برخيا، من ملك سليمان بن داود، من ذخائر كنوز العلم. من أراد كذا وكذا فليقل كذا وكذا.» ثمّ دفنه تحت السّرير. ثمّ استأثره لهم. فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلّا بهذا. وقال المؤمنون: هو عبد الله ونبيّه. فقال الله في كتابه:( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا ) . (إلى آخره.)

( وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ) : تكذيب لمن زعم ذلك.

وعبّر عن السّحر، بالكفر، ليدلّ على أنّه كفر. وأنّ من كان نبيّا، كان معصوما عنه.

( وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ) باستعماله.

وقيل(٣) : بما نسبوا إلى سليمان من السّحر.

وقيل(٤) : عبّر عن السّحر، بالكفر.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي(٥) : ولكن (بالتّخفيف)، ورفع الشّياطين.

( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) إغواء وإضلالا.

والجملة حال عن الضّمير في «كفروا.»

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٧٣.

(٢) تفسير العياشي ١ / ٥٢، ح ٧٤.

(٣ و ٤) مجمع البيان ١ / ١٧٤.

(٥) نفس المصدر ١ / ١٧٠.

٩٨

والمراد بالسّحر، ما يستعان في تحصيله بالتّقرّب إلى الشّيطان، ممّا لا يستقلّ به الإنسان. وذلك لا يستتبّ إلّا لمن يناسبه في الشّرارة وخبث النّفس. فإنّ التّناسب شرط في التّضامّ والتّعاون. وبهذا يتبيّن(١) السّاحر عن النّبيّ.

وأمّا ما يتعجّب منه كما يفعله أصحاب الحيل، بمعونة الآلات والأدوية، أو يريك صاحب خفّة اليه، فليس بسحر. وتسميته سحرا، على التّجوّز، أو لما فيه من الدّقّة. لأنّه في الأصل لما خفي سببه.

( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) :

عطف على السّحر. والمراد بها واحد. والعطف لتغاير الاعتبار. أو لأنّه أقوى منه.

أو على ما تتلوا.

قيل(٢) : هما ملكان أنزلا لتعليم السّحر، ابتلاء من الله تعالى للنّاس، وتمييزا بينه وبين المعجزة.

وقيل(٣) : رجلان سمّيا ملكين، باعتبار صلاحهما. ويؤيّده قراءة الملكين.

(بالكسر) وما روي(٤) أنّهما مثّلا بشرين. وركّب فيهما الشّهوة. فتعرّضا لامرأة يقال لها زهرة. فحملتهما على المعاصي والشرك. ثمّ صعدت إلى السّماء بما تعلّمت منهما. فمحكيّ عن اليهود.

وقيل(٥) : «ما أنزل» نفي معطوف على «ما كفر [سليمان](٦) »، تكذيب لليهود في هذه القصّة.

( بِبابِلَ ) : ظرف، أو حال من الملكين، أو من الضّمير في أنزل. والمشهور أنّه بلد من سواد كوفة.

( هارُوتَ وَمارُوتَ ) : عطف بيان للملكين. وضع صرفهما، للعجمة والعلمية.

ولو كانا من الهرت والمرت وهو الكسر ـ كما زعم بعضهم ـ لانصرفا.

ومن جعل «ما» نافية، أبدلهما من «الشّياطين»، بدله البعض. وما بينهما اعتراض. وقرئ بالرّفع، على تقدير «هما هاروت وماروت».

__________________

(١) أ: تبيّن.

(٢ و ٣) أنوار التنزيل ١ / ٧٣.

(٤) عيون أخبار الرضا ١ / ٢١١، ح ٢+ تفسير نور الثقلين ١ / ١٩٠+ أنوار التنزيل ١ / ٧٣.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٧٣.

(٦) يوجد في المصدر.

٩٩

( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ. فَلا تَكْفُرْ ) :

فمعناه على الأوّل: ما يعلّمان أحدا حتّى ينهياه ويقولا له: إنّما نحن ابتلاء من الله.

فمن تعلّم منّا وعمل به كفر. ومن تعلّم وتوقّى عمله ثبت على الإيمان. فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به.

وعلى الثّاني: ما يعلّمانه حتّى يقولا إنّا مفتونان. فلا تكن مثلنا.

( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) ، أي: من السّحر، ما يكون سبب تفريقهما.

( وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) :

لأنّ الأسباب كلّها مؤثّرة بأمره تعالى.

( وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا ) :

قيل(١) أي: اليهود.

( لَمَنِ اشْتَراهُ ) ، أي: استبدله بكتاب الله،( ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) : نصيب.

( وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ) باعوا أو اشتروا، على ما مرّ.

( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) (١٠٢) قبحه(٢) على اليقين(٣) .

والمثبت لهم، أوّلا على التّوكيد القسميّ العقل الغريزيّ، أو العلم الإجماليّ بقبح الفعل، أو ترتّب لعقاب من غير تحقيق. فلا منافاة بين ما سبق وبين هذا.

[وفي عيون الأخبار(٤) : حدّثنا محمّد بن القسم المفسّر المعروف بأبي الحسن الجرجاني ـ رضى الله عنه. قال: حدّثنا يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار، عن أبويهما، عن الحسن بن عليّ، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن موسى الرّضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه الصّادق جعفر بن محمّد ـ عليهم السّلام ـ في قول الله تعالى( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ) ، قال: «( اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا ) كفرة «الشّياطين» من السّحر والنّيرنجات( عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ) الّذين يزعمون أنّ سليمان به ملك ونحن ـ أيضا ـ به نظهر(٥) العجائب، حتّى ينقاد لنا النّاس. وقالوا: كان

__________________

(١) ليس في المصدر: والقول يوجد في أنوار التنزيل ١ / ٧٤.

(٢) ليس في ر.

(٣) أ: التعيين.

(٤) عيون الأخبار ١ / ٢٦٦ ـ ٢٧١، ح ١.

(٥) المصدر: فظهر.

١٠٠

سليمان كافرا ساحرا ماهرا. بسحره ملك ما ملك، وقدر على(١) ما قدر. فرد الله ـ عزّ وجلّ ـ عليهم. فقال:( وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ) . ولا استعمل السّحر [، كما قال هؤلاء الكافرون.( وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ](٢) الذي نسبوه إلى سليمان وإلى ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.

وكان بعد نوح ـ عليه السّلام ـ قد كثر السّحرة المموّهون(٣) . فبعث الله تعالى ملكين إلى نبيّ ذلك الزّمان، يذكر ما يسحر به السحرة. وذكر ما يبطل به سحرهم، ويردّ به كيدهم. فتلقّاه النّبيّ، عن الملكين. وأدّاه إلى عباد الله، بأمر الله ـ عزّ وجلّ ـ وأمرهم(٤) أن يقفوا به على السّحرة. وان يبطلوه. ونهاهم أن يسحروا به النّاس. وهذا كما يدلّ على السّمّ ما هو، وعلى ما يدفع به غائلة السّمّ.

ثمّ قال ـ عزّ وجلّ:( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ، حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ. فَلا تَكْفُرْ ) ، يعني: أنّ ذلك النّبيّ ـ عليه السّلام ـ أمر الملكين، أن يظهرا للنّاس بصورة بشرين، ويعلّماهم ما علّمهما(٥) الله من ذلك. فقال الله ـ عزّ وجلّ:( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ ) ذلك السّحر وإبطاله،( حَتَّى يَقُولا ) للمتعلّم:( إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ) وامتحان للبلاء(٦) ، ليطيعوا الله فيما يتعلّمون من هذا، ويبطلوا به كيد السّحرة. ولا يسحروهم. «فلا تكفر» باستعمال هذا السّحر وطلب الإضرار به ودعاء النّاس إلى أن يعتقدوا أنّك به تحيي وتميت وتفعل ما لا يقدر عليه إلّا الله ـ عزّ وجلّ. فأنّ ذلك كفر. قال الله تعالى: «فيتعلّمون»، يعني: طالبي السّحر، «منهما»، يعني: ممّا كتبت الشّياطين على ملك سليمان، من النّيرنجات وما(٧) أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، «يتعلّمون من» هذين الصّنفين،( ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) . هذا من يتعلّم للإضرار(٨) بالناس. يتعلّمون التضريب بضروب الحيل والتمائم والإيهام، وأنّه قد دفن في موضع كذا، وعمل كذا لتحبّب المرأة إلى

__________________

(١) ليس في المصدر.

(٢) ليس في المصدر.

(٣) المصدر: والمموّهون.

(٤) المصدر: فأمرهم.

(٥) الأصل ور: علّمهم.

(٦) المصدر: للعباد. وهو الظاهر.

(٧) المصدر: مما.

(٨) المصدر: من يتعلّم الإضرار.

وأشار في الهامش إلى أنّه في بعض النسخ كما موجود في المتن هنا.

١٠١

الرّجل والرّجل إلى المرأة، أو(١) يؤدي إلى الفراق بينهما.

ثمّ قال ـ عزّ وجلّ:( وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) ، أي: ما المتعلّمون لذلك(٢) بضارّين به من أحد، إلّا بإذن الله، يعني: بتخلية الله وعلمه. وإنّه لو شاء، لمنعهم بالجبر والقهر.

ثمّ قال:( وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ) . إذا تعلّموا ذلك السّحر، ليسحروا به، ويضرّوا، قد تعلّموا ما يضرّهم في دينهم ولا ينفعهم فيه. بل ينسلخون عن دين الله بذلك. ولقد علّم هؤلاء المتعلّمون لمن اشتراه بدينه الّذي ينسلخ عنه بتعلّمه،( ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) ، أي: من نصيب في ثواب الجنّة.

ثمّ قال تعالى:( وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ) . ورهنوا(٣) بالعذاب،( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) أنّهم قد باعوا الآخرة، وتركوا نصيبهم من الجنّة. لأنّ المتعلّمين لهذا السّحر الّذين يعتقدون أنّ لا رسول ولا إله ولا بعث ولا نشور. فقال:( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) . لأنّهم يعتقدون(٤) أنّها إذا لم تكن آخرة، فلا خلاق لهم في دار بعد الدّنيا. وإن كان بعد الدّنيا، آخرة. فهم مع كفرهم بها، لا خلاق لهم فيها.

ثمّ قال:( وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ) (٥) » إذ باعوا الآخرة بالدّنيا ورهنوا بالعذاب الدّائم أنفسهم،( لَوْ [كانُوا ]) (٦) ( يَعْلَمُونَ ) أنّهم قد باعوا أنفسهم بالعذاب. ولكن لا يعلمون ذلك، لكفرهم به، فلمّا تركوا النّظر في حجج الله، حتّى يعلموا أنّهم عذّبهم على اعتقادهم الباطل وجحدهم الحقّ.

قال يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار، عن أبويهما: إنّهما قالا: فقلنا للحسن، أبي القائم ـ عليه السّلام(٧) : فإنّ قوما عندنا، يزعمون أنّ هاروت وماروت ملكان اختارتهما(٨) الملائكة لـمّا كثر عصيان بني آدم، وأنزلهما مع ثالث لهما، إلى الدّنيا(٩) ، وإنّهما قد افتتنا بالزّهرة، وأرادا الزّنا بها، وشربا الخمر، وقتلا النّفس المحرّمة، وإنّ الله ـ عزّ

__________________

(١) المصدر: و.

(٢) المصدر: بذلك. وهو الظاهر.

(٣) المصدر: رهنوها. وهو الظاهر.

(٤) المصدر: لأنّهم يعتقدون أنّ لا آخرة فهم يعتقدون.

(٥) المصدر: أنفسهم بالعذاب.

(٦) يوجد في المصدر.

(٧) المصدر: للحسن بن عليّ.

(٨) المصدر: اختارهما الله.

(٩) المصدر: دار الدنيا.

١٠٢

وجلّ ـ يعذّبهما ببابل، وإنّ السّحرة منهما يتعلّمون السّحر، وإنّ الله تعالى مسخ تلك المرأة هذا الكوكب الّذي هو الزّهرة.

فقال الإمام ـ عليه السّلام: معاذ الله من ذلك. إن (الملائكة)(١) معصومون محفوظون من الكفر والقبائح، بألطاف الله تعالى. قال الله تعالى فيهم(٢) : «( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ. وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) . وقال ـ عزّ وجلّ(٣) :( وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَمَنْ عِنْدَهُ ) ، يعني: الملائكة، «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ. وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ . وقال الله تعالى(٤) في الملائكة ـ أيضا:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ. وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى. وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) .

ثمّ قال ـ عليه السّلام: لو كان كما يقولون، كان الله قد جعل هؤلاء الملائكة خلفاءه على(٥) الأرض. وكانوا كالأنبياء في الدنيا و(٦) كالأئمّة. فيكون من الأنبياء والأئمّة ـ عليهم السّلام ـ قتل النّفس والزّنا.

ثمّ قال ـ عليه السّلام: أو لست تعلم أنّ الله تعالى لم يخل الدّنيا قطّ من نبيّ(٧) أو إمام من البشر؟ أو ليس الله يقول(٨) :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ) (٩) ، يعنى: إلى الخلق،( إِلَّا رِجالاً (نُوحِي ) (١٠) ( إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) ؟ فأخبر أنّه لم يبعث الملائكة إلى الأرض، ليكونوا أئمّة وحكّاما. وإنّما(١١) أرسلوا إلى أنبياء الله.

قالا: فقلنا: فعلى هذا(١٢) ، لم يكن إبليس ـ أيضا ـ ملكا؟

فقال: لا! بل كان من الجنّ. أما تسمعان الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول(١٣) :

__________________

(١) المصدر: ملائكة الله.

(٢) التحريم / ٦.

(٣) الأنبياء / ١٩.

(٤) الأنبياء / ٢٨ ـ ٢٦.

(٥) المصدر: في.

(٦) المصدر: أو.

(٧) المصدر: من بني قط.

(٨) النحل ٤٣ ويوسف / ١٠٩ والأنبياء / ٢٥ والحج / ٥٢.

(٩) المصدر: قبلك من رسول.

(١٠) المصدر: يوحي.

(١١) المصدر: إنما كانوا.

(١٢) المصدر: هذا أيضا.

(١٣) الكهف / ٥٠.

١٠٣

( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ، كانَ مِنَ الْجِنِ ) ؟ فأخبر ـ عزّ وجلّ ـ أنّه كان من الجنّ. وهو الّذي قال الله تعالى(١) :( وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ ) .

قال الإمام الحسن بن عليّ ـ عليه السّلام: حدّثني أبي، عن جدّي، عن الرّضا، عن آبائه، عن عليّ ـ عليه السّلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ اختارنا معاشر آل محمد واختار النّبيّين واختار الملائكة المقرّبين. وما اختارهم إلّا على علم منه بهم، أنّهم لا يواقعون ما يخرجون به عن ولايته، وينقطعون به عن عصمته، وينتهون به إلى المستخفّين بعذابه(٢) ونقمته.

قالا: فقلنا له: فقد روى(٣) أنّ عليّا ـ عليه السّلام ـ لـمّا نصّ عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بالإمامة، عرض الله تعالى ولايته في السّماوات على فئام من النّاس وفئام من الملائكة، فأبوها. فمسخهم الله ضفادع.

فقال ـ عليه السّلام: معاذ الله! هؤلاء المكذّبون لنا المفترون علينا الملائكة هم رسل الله. فهم كسائر أنبيائه(٤) ورسله، إلى الخلق. أفيكون منهم الكفر بالله؟

قلنا(٥) : لا قال: فكذلك الملائكة. إنّ شأن الملائكة لعظيم وإنّ خطبهم لجليل.

حدّثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشيّ ـ رضي الله عنه(٦) ـ قال: حدّثنا أبي، عن أحمد بن عليّ الأنصاريّ، عن عليّ بن محمّد بن الجهم. قال: سمعت المأمون يسأل الرّضا ـ عليه السّلام ـ عمّا يرويه النّاس من أمر الزّهرة، وإنّها امرأة، فتن بها هاروت وماروت.

وما يروونه من أمر سهيل. وإنّه كان عشّارا باليمن.

فقال الرّضا ـ عليه السّلام: كذبوا في قولهم إنّهما كوكبان، وإنّما كانتا دابّتين من دوابّ البحر. فغلط النّاس. وظنّوا أنّهما كوكبان. وما كان الله تعالى ليمسخ أعداءه أنوار مضيئة، ثمّ يبقيها ما بقيت السّماوات والأرض. وإنّ المسوخ لم يبق أكثر من ثلاثة أيام، حتّى ماتت. وما يتناسل منها شيء. وما على وجه الأرض مسخ اليوم. وانّ التي وقع عليها اسم المسوخة(٧) مثل القرد والخنزير والدّبّ وأشباهها، إنّما هي مثل ما مسخ الله تعالى على

__________________

(١) الحجر / ٢٧.

(٢) المصدر: لعذابه.

(٣) المصدر: روي لنا.

(٤) المصدر: أنبياء الله.

(٥) كذا في المصدر. وفي الأصل ور: قلت.

(٦) نفس المصدر ١ / ٢٧١، ح ٢.

(٧) المصدر: المسوخيّة.

١٠٤

صورها قوما غضب الله عليهم ولعنهم بإنكارهم توحيد الله وتكذيبهم (رسل الله). وأمّا هاروت وماروت، فكانا ملكين علّما النّاس [السحر](١) ليحترزوا به من سحر السّحرة ويبطلوا به كيدهم. وما علّما أحدا من ذلك شيئا إلّا قالا له( إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ. فَلا تَكْفُرْ ) فكفر قوم باستعمالهم لـمّا أمروا بالاحتراز منه. وجعلوا يفرّقون بما يعملون(٢) بين المرء وزوجه. قال الله تعالى:( وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) ، يعني: بعلمه.

عن الرّضا ـ عليه السّلام ـ حديث طويل. في تعداد الكبائر وبيانها، من كتاب الله. وفيه(٣) : يقول الصّادق ـ عليه السّلام: والسّحر، لأنّه تعالى يقول:( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) .

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٤) : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام. قال: إنّ سليمان بن داود ـ عليهما السّلام ـ أمر الجنّ(٥) . فبنوا له بيتا من قوارير. فبينما هو (متّك)(٦) على عصاه ينظر إلى الشّياطين كيف يعملون وينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة، فإذا هو برجل معه في القبّة. ففزع منه. وقال: من أنت؟

فقال: أنا الّذي لا أقبل الرّشا. ولا أهاب الملوك. أنا ملك الموت. فقبضه وهو متك(٧) على عصاه. فمكثوا سنة يبنون وينظرون إليه. ويد أبون(٨) له، ويعملون، حتّى بعث الله الإرضة. فأكلت منسأته. وهي العصا. فلمّا خرّ تبيّنت الإنس، أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب، ما لبثوا سنة في العذاب المهين. فالجنّ تشكر الإرضة بما عملت بعصا سليمان.

قال: فلا تكاد تراها في مكان إلّا وجد عندها ماء وطين. فلمّا هلك سليمان، وضع إبليس السّحر. وكتبه في كتاب. ثمّ طواه. وكتب على ظهره: «هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود، من ذخائر كنوز العلم. من أراد كذا وكذا، فليفعل كذا وكذا.» ثمّ دفنه تحت سريره. ثمّ استأثره لهم. فقرأه. فقال الكافرون: ما كان

__________________

(١) يوجد في المصدر.

(٢) المصدر: تعلّموه.

(٣) نفس المصدر ١ / ٢٨٦، مقطع من ح ٣٣.

(٤) تفسير القمي ١ / ٥٤ ـ ٥٥.

(٥) المصدر: الجنّ والانس.

(٦) المصدر: متكئ. وهو الظاهر.

(٧) المصدر: متكئ.

(٨) المصدر: يدانون.

١٠٥

سليمان يغلبنا إلّا بهذا. وقال المؤمنون: بل هو عبد الله ونبيّه. فقال الله ـ جلّ ذكره:( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ. وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ) .

وما روى في كتاب الخصال(١) ، عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن جدّه ـ عليهم السّلام. قال: إنّ المسوخ من بني آدم، ثلاثة عشر ـ إلى أن قال ـ وأمّا الزهرة، فكانت امرأة فتنت هاروت وماروت. فمسخها [الله](٢) كوكبا(٣) .

وعن جعفر بن محمّد(٤) ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام. قال: سألت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ عن المسوخ. فقال: هي(٥) ثلاثة عشر ـ إلى أن قال عليه السّلام ـ وأمّا الزّهرة، فكانت امرأة نصرانيّة. وكانت لبعض ملوك بني إسرائيل. وهي الّتي فتن بها هاروت وماروت. وكان اسمها ناهيد(٦) .

وفي كتاب علل الشّرائع(٧) ، بإسناده إلى محمّد بن الحسن بن علان، عن أبي الحسن ـ عليه السّلام. حديث طويل. يقول فيه: ومسخت الزّهرة. لأنّها كانت امرأة، فتن بها هاروت وماروت.

بإسناده(٨) إلى عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمّد ـ عليهم السّلام. حديث طويل. يقول فيه ـ عليه السّلام: وأمّا الزّهرة. فإنها كانت امرأة تسمّى ناهيد. وهي الّتي تقول النّاس إنّه افتتن بها هاروت وماروت.

وبإسناده(٩) إلى عليّ بن جعفر، عن مغيرة، عن أبي عبد الله ـ عن أبيه، عن جدّه ـ عليهم السّلام. حديث طويل يقول فيه ـ عليه السّلام: وأمّا الزّهرة، فكانت امرأة فتنت(١٠) هاروت وماروت. فمسخها الله ـ عزّ وجلّ ـ زهرة(١١) .

وفي تفسير عليّ بن ابراهيم(١٢) ، حدّثنى أبي، عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن

__________________

(١) الخصال / ٤٩٣.

(٢) يوجد في ر والمصدر.

(٣) ليس في المصدر.

(٤) نفس المصدر / ٤٩٤.

(٥) المصدر: هم.

(٦) المصدر: وكان اسمها ناهيل والناس يقولون ناهيد.

(٧) علل الشرائع: ٤٨٥ ـ ٤٨٦، مقطع من ح ١.

(٨) نفس المصدر / ٤٨٦، ذيل ح ٢.

(٩) نفس المصدر / ٤٨٨ ـ ٤٧٧.

(١٠) المصدر: فتن بها.

(١١) متقدم على حديث تفسير على بن إبراهيم السابق.

(١٢) تفسير القمي / ٥٤ ـ ٥٨.

١٠٦

رئاب، عن محمّد بن قيس، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام. قال: سأله عطاء ونحن بمكة، عن هاروت وماروت. فقال أبو جعفر ـ عليه السّلام: إنّ الملائكة كانوا ينزلون من السّماء إلى الأرض، في كلّ يوم وليلة، يحفظون أعمال(١) أوساط أهل الأرض، من ولد آدم والجن، فيكتبون(٢) أعمالهم. [و] يعرجون بها إلى السّماء.

قال: فضجّ أهل السماء، من معاصي أهل الأرض.(٣) فتؤامروا(٤) فيما بينهم ممّا يسمعون ويرون من افترائهم الكذب على الله ـ تبارك وتعالى ـ وجرأتهم عليه. ونزّهوا الله ممّا يقول فيه خلقه ويصفون. فقال طائفة من الملائكة: يا ربّنا! أمّا(٥) تغضب ممّا يعمل خلقك في أرضك وممّا يصفون فيك الكذب ويقولون الزّور ويرتكبون المعاصي؟ وقد نهيتهم عنها. ثمّ أنت تحلم عنهم وهم في قبضتك وقدرتك وخلال عافيتك.

قال أبو جعفر ـ عليه السّلام: فأحبّ الله أن يري الملائكة القدرة، ونفاد أمره في جمع خلقه، ويعرّف الملائكة ما منّ به عليهم ممّا(٦) عدله عنهم من صنع خلقه، وما طبعهم عليه من الطّاعة، وعصمهم من الذّنوب.

قال: فأوحى الله إلى الملائكة، ان انتدبوا(٧) منكم ملكين، حتّى أهبطهما إلى الأرض. ثمّ أجعل فيهما من طبائع المطعم والمشرب والشّهوة والحرص والأمل، مثل ما جعلته في ولد آدم. ثمّ أختبرهما في الطّاعة لي.

قال(٨) : فندبوا لذلك هاروت وماروت. وكانا أشدّ(٩) الملائكة قولا في الغيب لولد آدم واستئثار غضب الله عليهم.

[قال :](١٠) فأوحى الله إليهما، أن «اهبطا إلى الأرض. فقد جعلت فيكما من طبائع

__________________

(١) ليس في المصدر.

(٢) المصدر: ويكتبون.

(٣) كذا في المصدر. وفي الأصل ور: أهل أوساط الأرض. وكذا في تفسير العياشي ١ / ٥٢ وتفسير الصافي ١ / ١٢٧.

(٤) كذا والظاهر: فتآمروا.

(٥) المصدر وتفسير العياشي: ما.

(٦) المصدر: وممّا.

(٧) المصدر: انتحبوا. تفسير العياشي: اندبوا. وقيل في هامشه: وفي بعض النسخ «انتدابوا» وهو بمعناه. واستظهره المجلسي ـ ره ـ في البحار.

(٨) ليس في المصدر ويوجد في العياشي.

(٩) المصدر والعياشي: من أشدّ.

(١٠) يوجد في المصدر وفي العياشي ـ أيضا.

١٠٧

المطعم والمشرب(١) والشّهوة والحرص والأمل، مثل ما جعلت في ولد آدم(٢) .» قال: ثمّ أوحى الله إليهما: «انظرا أن لا تشركا بي شيئا. ولا تقتلا النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحق(٣) . ولا تزنيا. ولا تشربا الخمر.» قال: ثمّ كشط عن السّماوات السّبع، ليريهما قدرته. ثمّ أهبطهما إلى الأرض، في صورة البشر ولباسهم. فهبطا ناحية بابل. فرفع(٤) لهما بناء مشرف(٥) . فأقبلا نحوه. فإذا بحضرته امرأة جميلة حسناء متزيّنة عطرة مسفرة مقبلة(٦) نحوهما.

قال: فلمّا نظرا إليها وناطقاها وتأمّلاها(٧) ، وقعت في قلوبهما موقعا شديدا، لموضع الشّهوة الّتي جعلت فيهما. فرجعا إليها، رجوع فتنة وخذلان. وراوداها عن نفسها.

فقالت لهما: إنّ لي دينا أدين به. وليس أقدر في ديني على أن أجيبكما، إلى ما تريدان، إلّا أن تدخلا في ديني الّذي أدين به.

فقالا لها: وما دينك؟

قالت: لي إله من عبده وسجد له، كان علىّ(٨) السّبيل، إلى أن أجيبه، إلى كلّ ما سألني.

فقالا لها: وما إلهك؟

قالت: إلهي هذا الصّنم.

قال: فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقال: «هاتان خصلتان ممّا نهينا عنه(٩) ، الشّرك والزّنا. لأنّا إن سجدنا لهذا الصّنم وعبدناه، أشركنا بالله. وإنّما نشرك بالله لنصل إلى الزّنا.

وهو ذا نحن نطلب الزّنا. فليس نخطأ إلّا بالشّرك.» فائتمرا بينهما. فغلبتهما الشّهوة الّتي جعلت فيهما.

فقالا لها: فإنّا نجيبك إلى ما سألت.

__________________

(١) المصدر: الطعام والشراب.

(٢) الفقرة الأخيرة، ليس في العياشي.

(٣) «إلّا بالحق»، ليس في المصدر.

(٤) كذا في الأصل ور والعياشي. وفي المصدر: فوقع.

(٥) كذا في الأصل ورو العياشي. وفي المصدر: مشرق

(٦) كذا في الأصل ورو العياشي. وفي المصدر: مقبلة مسفرة.

(٧) ر: فلمّا نظر إليهما وناطقاهما وتأمّلاهما.

(٨) المصدر: لي.

(٩) المصدر: نهانا عنهما.

١٠٨

فقالت: فدونكما. فاشربا هذا الخمر. فإنّه قربان لكما عنه(١) وبه تصلون إلى ما تريدان.

فائتمرا بينهما. فقالا: هذه ثلاث خصال ممّا نهانا عنها ربّنا، الشرك والزّنا وشرب الخمر. وإنّما ندخل في شرب الخمر والشّرك، حتّى نصل إلى الزّنا.

فائتمرا بينهما. فقالا: ما أعظم بليتنا(٢) بك. وقد أجبناك إلى ما سألت.

قالت: فدونكما. فاشربا من هذا الخمر. واعبدا هذا الصّنم. واسجدا له.

فشربا الخمر. وعبدا الصّنم. ثمّ راوداها عن نفسها. فلمّا تهيّأت لهما، وتهيّئا لها، دخل عليهما سائل يسأل. فلمّا أن رآهما ورأياه، ذعرا منه.

فقال لهما: إنّكما لمريبان(٣) ذعران. فقد خلوتما(٤) بهذه المرأة العطرة الحسناء. إنّكما لرجلا سوء.

وخرج عنهما. فقالت لهما: لا وإلهي! ما تصلان الآن إليّ. وقد اطّلع هذا الرّجل على حالكما. وعرف مكانكما. ويخرج الآن ويخبر بخبركما. ولكن بادرا إلى هذا الرّجل.

فاقتلاه قبل أن يفضحكما ويفضحني. ثمّ دونكما فاقضيا حاجتكما. وأنتم مطمئنّان آمنان.

قال: فقاما إلى الرّجل. فأدركاه. فقتلاه. ثمّ رجعا إليها. فلم برياها. وبدت لهما سوآتهما. ونزع عنهما رياشهما. وأسقط في أيديهما.

قال: فأوحى الله إليهما: إنّما أهبطتكما إلى الأرض، مع خلقي ساعة من النّهار.

فعصيتماني بأربع من معاصي كلّها قد نهيتكما عنها. [وتقدّمت إليكما فيها].(٥) فلم تراقباني.

ولم تستحيا منّي. وقد كنتما أشدّ من نقم على أهل الأرض بالمعاصي. واستجرّ(٦) غضبي وأسفي عليهم. ولمّا جعلت فيكما من طبع خلقي وعصمتي إيّاكما من المعاصي، فكيف رأيتما موضع خذلاني فيكما اختارا عذاب الدّنيا أو عذاب الآخرة؟

فقال أحدهما لصاحبه: نتمتّع من شهواتنا(٧) في الدّنيا، إذ صرنا إليها إلى نصير، إلى عذاب الآخرة.

__________________

(١) المصدر: عنده.

(٢) المصدر: البلية.

(٣) المصدر: لامرآن.

(٤) المصدر: فدخلتما.

(٥) ليس في المصدر.

(٦) المصدر: للمعاصي. واستنجر.

(٧) المصدر: شهواتها.

١٠٩

فقال الآخر: إنّ عذاب الدّنيا، له مدّة وانقطاع. وعذاب الآخرة، قائم لا انقضاء له. فلسنا نختار عذاب الآخرة الدّائم الشّديد، على عذاب الدّنيا المنقطع الفاني.

قال: فاختارا عذاب الدّنيا. وكانا يعلّمان النّاس السّحر، في أرض بابل. ثمّ لـمّا علّما النّاس السّحر، رفعا من الأرض إلى الهواء. فهما معذّبان منكّسان معلّقان في الهواء، إلى يوم القيامة.

فهو موافق لمذهب العامّة.

وفي روضة الكافي(١) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ بن أسباط، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام:( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ ) بولاية الشّياطين،( عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ) .

وفي كتاب الاحتجاج، للطّبرسيّ ـ رحمه الله(٢) ـ عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ حديث طويل. وفيه قال السّائل له ـ عليه السّلام: فمن أين علم الشّياطين السّحر؟

قال: من حيث عرف الأطباء الطّب، بعضه تجربة وبعضه علاج.

قال: فما تقول في الملكين هاروت وماروت؟ وما يقول النّاس بأنهما يعلّمان النّاس السّحر؟

قال: إنّهما موضع ابتلاء وموقف فتنة بتسبيحهما اليوم، لو فعل الإنسان كذا وكذا، لكان كذا وكذا. ولو يعالج بكذا وكذا، لصار كذا أصناف السّحر فيتعلّمون منهما ما يخرج عنهما. فيقولان لهم:( إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ) . فلا تأخذوا عنها ما يضرّكم ولا ينفعكم.

قال: أفيقدر السّاحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب والحمار، أو غير ذلك؟

قال: هو أعجز من ذلك. وأضعف من أن يغيّر خلق الله. إنّ من أبطل ما ركّبه الله وصوّره وغيّره، فهو شريك الله في خلقه. تعالى عن ذلك علوّا كبيرا].(٣)

( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا ) بالرّسول وما جاء به،( وَاتَّقَوْا ) بترك المخالفة،( لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) (١٠٣) جهلهم، لترك التّدبّر، أو(٤) العمل

__________________

(١) الكافي ٨ / ٢٩٠، ح ٤٤٠.

(٢) الاحتجاج ٢ / ٨٢، مع اختلاف قليل.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٤) ر: و.

١١٠

بالعلم.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) :

[في أصول الكافي(١) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه الطّيّار(٢) ، عن ابن أبي عمير، عن جميل. قال: كان الطّيّار يقول لي: إبليس ليس من الملائكة. وإنّما أمرت الملائكة بالسّجود لآدم.

فقال: إبليس لا اسجد فما لإبليس يعصي حين لم يسجد، وليس هو من الملائكة؟

قال: فدخلت أنا وهو، على أبي عبد الله ـ عليه السّلام: قال: فأحسن والله في المسألة.

فقال: جعلت فداك! أرأيت ما ندب الله ـ عزّ وجلّ ـ إليه المؤمنين من قوله( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، أدخل في ذلك المنافقون معهم؟

قال: نعم. والضّلّال وكلّ من أقرّ بالدّعوة الظّاهرة. وكان إبليس ممّن أقرّ بالدّعوة الظّاهرة، معهم.

وفي روضة الكافي(٣) : أبو عليّ الأشعريّ، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن عليّ بن حديد، عن جميل بن درّاج. قال سأل الطّيّار أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ وأنا عنده. فقال له: جعلت فداك! أرأيت(٤) قوله ـ عزّ وجلّ ـ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) في غير مكان من مخاطبة المؤمنين؟ أيدخل في هذا المنافقون؟

قال: نعم. يدخل في هذا المنافقون والضّلّال وكل من أقرّ بالدّعوة الظّاهرة.

وقد تقدّم هذان الحديثان](٥)

( لا تَقُولُوا راعِنا. وَقُولُوا انْظُرْنا ) :

كان المسلمون يقولون لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إذا ألقى عليهم شيئا من العلم: راعنا(٦) ، يا رسول الله!، أي: راقبنا. وتأنّ بنا حتّى نفهمه ونحفظه. وكانت لليهود كلمة(٧) يتسابّون بها عبرانيّة، كما قال الباقر ـ عليه السّلام(٨) ـ وهي راعينا. فلمّا سمعوا

__________________

(١) الكافي ٢ / ٤١٢، ح ١.

(٢) ليس في المصدر.

(٣) الكافي ٨ / ٢٧٤، ح ٤١٣. مع تلخيص في أوائل الحديث.

(٤) المصدر: رأيت.

(٥) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٦) أ: راعنا، افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون.

(٧) ر. مجمع البيان ١ / ١٧٨.

(٨) ليس في ر.

١١١

بقول(١) المؤمنين راعنا افترصوه وخاطبوا به الرّسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ وهم يعنون به تلك المسبّة، فنهي المؤمنون عنها. وأمروا بما هو في معناها. وهو انظرنا بمعنى انظر إلينا، وانتظرنا من نظره إذا انتظره.

وقرئ «أنظرنا»، من الإنظار، بمعنى الإمهال، و «راعونا» على لفظ الجمع، للتّوقير، و «راعنا» (بالتّنوين)، أي: قولا ذا رعن، نسبة إلى الرّعن. وهو الهوج(٢) ، لمشابهة قولهم راعينا.

( وَاسْمَعُوا ) ، أي: أحسنوا الاستماع لما يكلّمكم به رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ويلقي عليكم من المسائل بآذان(٣) واعية وأذهان حاضرة، حتّى لا تحتاجوا إلى الاستعارة وطلب المراعاة.

أو: واسمعوا، سماع(٤) قبول وطاعة. لا يكن مثل سماع اليهود، حيث قالوا: سمعنا وعصينا.

او: واسمعوا ما أمرتم به بجدّ، حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه.

( وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (١٠٤)، يعني: للّذين تهاونوا بالرّسول، عذاب موجع مؤلم.

( ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ) :

نزلت تكذيبا لجمع من الكافرين يظهرون مودّة المؤمنين ويزعمون أنّهم يودّون لهم الخير.

والمودة: محبّة الشيء، مع تمنّيه. ولذلك يستعمل في كلّ منهما.

و «من»، للتّبيين. لأنّ( الَّذِينَ كَفَرُوا ) جنس، تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون.

( أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) :

مفعول «يودّ».

و «من» الأولى، مزيدة للاستغراق، والثّانية، للابتداء.

والمراد بالخير، ما يعمّ الوحي والعلم والنّصرة.

__________________

(١) ليس في ر. وأ: يقول.

(٢) أ: الهرج.

(٣) ر: بإذن.

(٤) ر: إسماع.

١١٢

( وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ ) :

روي عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ وعن أبي جعفر الباقر ـ عليه السّلام(١) : أنّ المراد برحمته هاهنا، النّبوّة.

وفي شرح الآيات الباهرة(٢) : روى الحسن بن أبي الحسن الدّيلميّ ـ رحمه الله ـ عمّن رواه، بإسناده عن أبيّ بن صالح، عن حمّاد بن عثمان، عن أبي الحسن الرّضا، عن أبيه موسى، ان أبيه جعفر ـ صلوات الله عليهم ـ في قوله تعالى( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ ) ، قال: المختصّون(٣) بالرّحمة، نبيّ الله ووصيّه وعترتهما. إنّ الله تعالى خلق مائة رحمة: فتسع وتسعون رحمة عنده مذخورة لمحمّد وعليّ وعترتهما. ورحمة واحدة، مبسوطة على سائر الموجودين].(٤)

( وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (١٠٥) :

فيه إشعار بأنّ النّبوّة من فضله، وأنّ كلّ خير نال عباده في دينهم أو دنياهم، فإنّه من عنده، ابتداء منه، إليهم، وتفضّلا عليهم، من غير استحقاق منهم لذلك عليه. فهو عظيم الفضل ذو المنّ والطّول.

( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) :

نزلت لـمّا قال المشركون، أو اليهود: ألا ترون إلى محمّد يأمر أصحابه بأمر، ثمّ ينهاهم عنه. ويأمرهم بخلافه؟

والنّسخ»، في اللّغة، إزالة الصّورة عن الشيء وإثباتها في غيره، كنسخ الظّلّ للشّمس. ومنه التّناسخ. ثمّ استعمل في كلّ منهما، كقولك: نسخت الرّيح الأثر. ونسخت الكتاب.

ونسخ الآية، بيان انتهاء التّعبّد بها :

إمّا بقراءتها فقط، كآية الرّجم. فقد قيل: إنّها كانت منزلة فرفع لفظها(٥) . فقط، دون حكمها.

أو بالعكس، كقوله(٦) :( إِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ١٧٩.

(٢) تأويل الآيات الباهرة / ٢٥ ـ ٢٦.

(٣) المصدر: المختصّ.

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٥) مجمع البيان ١ / ١٨٠.

(٦) الممتحنة / ١١.

١١٣

(الاية) فهذه الاية ثابتة في الخطّ، مرتفعة الحكم.

أو بهما، كما روي عن أبي بكر، قال: كنّا نقرأ: «لا ترغبوا عن آبائكم. فإنّه كفر بكم.» فرفع وإنساؤها إذهابها، عن القلوب.

و «ما»، شرطيّة جازمة، لننسخ. منتصبة به على المفعوليّة.

( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) ، أي: بما هو خير للعباد في النّفع والثّواب، أو مثلها في الثّواب.

[وقرأ ابو عمرو(١) بقلب الهمزة ألفا].(٢)

[وفي أصول الكافي(٣) : عليّ بن محمّد، عن إسحاق بن محمّد، عن شاهويه بن عبد الله الجلاب. قال: كتب إليّ أبو الحسن في كتاب: أردت أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر. وقلقت لذلك. فلا تغتمّ. فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. وصاحبك بعدك أبو محمّد ابني. وعنده ما تحتاجون إليه. يقدّم ما يشاء الله ويؤخّر ما يشاء.(٤) ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) وقد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل يقظان.

وفي تفسير العيّاشيّ(٥) : عن عمر بن يزيد. قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله ـ عزّ وجلّ ـ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) ».

فقال: كذبوا. ما هكذا هي إذا كان ينسخها. نأت بمثلها ينسخها(٦) .

قلت: هكذا قال الله؟

قال: ليس هكذا قال الله ـ تبارك وتعالى.

قلت: فكيف قال؟

قال: ليس فيها ألف ولا واو. قال:( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) . يقول: ما نميت من إمام، أو ننسه ذكره، نأت بخير منه من صلبه مثله.

وفيه(٧) : عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قوله تعالى

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٧٥.

(٢) ليس في أ.

(٣) الكافي ١ / ٣٢٨، ح ١٢.

(٤) المصدر: ما يشاء الله.

(٥) تفسير العياشي ١ / ٥٦، ح ٧٨.

(٦) المصدر: «فعال: كذبوا ما هي إذا كان ينسى وينسخها أو يأت بمثلها لم ينسخها.» وهو الظاهر.

(٧) نفس المصدر ١ / ٥٥، ح ٧٧.

١١٤

( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) قال: النّاسخ ما حوّل. وما ينسيها، مثل الغيب الّذي لم يكن بعد، كقوله(١) : يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب.

قال: فيفعل الله ما يشاء. وما يحوّل ما يشاء، مثل قوم يونس إذ بدا له. فرحمهم.

ومثل قوله(٢) : فتولّ عنهم فما أنت بملوم.

قال: أدركتهم رحمته].(٣)

( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١٠٦). فهو يقدر على النّسخ والإتيان، بمثل المنسوخ، وبما هو خير منه؟

( أَلَمْ تَعْلَمْ ) :

الخطاب للنّبيّ. والمراد هو وأمّته، لقوله:( أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) : يملك أموركم. ويدبّرها على حسب ما يصلحكم. وهو أعلم بما يتعبّدكم به من ناسخ أو منسوخ؟

( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (١٠٧) الفرق بين «الوليّ» و «النّصير»، أنّ «الوليّ» قد يضعف عن النصرة.

و «النّصير» قد يكون أجنبيّا عن المنصور.

( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟ ) :

لمّا بيّن لهم أنّه مالك أمورهم، ومدبّرها على حسب مصالحهم، من نسخ الآيات وغيره، وقرّدهم على ذلك بقوله «ألم تعلم»، أراد أن يوصيهم بالثّقة به فيما هو أصلح لهم، ممّا يتعبّدهم به وينزل عليهم، وأن لا يقترحوا على رسولهم ما اقترحته آباء اليهود على موسى، من الأشياء الّتي كانت عاقبتها وبالا عليهم.

قيل(٤) : نزلت في أهل الكتاب، حين سألوا أن ينزّل [الله](٥) عليهم كتابا من السّماء. وقيل: في المشركين، لـمّا قالوا لن نؤمن لرقيّك حتّى تنزّل علينا كتابا نقرؤه.

( وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ ) ومن ترك الثّقة بالآيات المنزلة وشكّ فيها واقترح غيرها.

__________________

(١) الرعد / ٣٩.

(٢) الذاريات / ٥٤.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٤) أنوار التنزيل ١ / ٧٦.

(٥) يوجد في المصدر.

١١٥

( فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ) (١٠٨)، أي: الطّريق المستقيم حتّى وقع في الكفر، بعد الإيمان.

( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ) :

روى(١) أنّ فنحاص بن عازورا وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر، بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم؟ ولو كنتم على حقّ ما هزمتم. فارجعوا إلى ديننا. فهو خير لكم، وأفضل. ونحن أهدى منكم سبيلا.

فقال عمّار: كيف نقض العهد فيكم؟

قالوا: شديد.

قال: فإنّي عاهدت أن لا أكفر بمحمّد ما عشت.

فقالت اليهود: أمّا هذا فقد صبا.

قال حذيفة: وأمّا أنا فقد رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيّا، وبالقرآن اماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا.

ثمّ أتيا رسول الله. وأخبراه. فقال: أصبتما خيرا. وأفلحتما، فنزلت.

وعن ابن عبّاس(٢) : أنّها نزلت في حيّ بن أخطب وأخيه أبي ياسر بن أخطب.

وقد دخلا على النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ حين قدم المدينة. فلمّا خرجا قيل لحيّ: هو نبيّ.

قال: هو هو.

فقيل: فما له عندك؟

قال: العداوة إلى الموت.

وهو الّذي نقض العهد. وأثار الحرب يوم الأحزاب.

وقيل(٣) : نزلت في كعب بن الأشرف.

( حَسَداً ) : علّة ود(٤) .

( مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) :

امّا متعلّق بودّ، أي: تمنّوا ذلك من عند أنفسهم، وتشبيههم لا من قبل التّديّن والميل مع الحقّ، أو بحسدا، أي: حسدا منبعثا من أصل نفوسهم.

__________________

(١) الكشاف ١ / ١٧٦.

(٢) مجمع البيان ١ / ١٨٤.

(٣) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٤) ليس في أ.

١١٦

( مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ ) بالمعجزات والنّعوت المذكورة في التوراة.

( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا ) :

«العفو»: ترك عقوبة المذنب. و «الصّفح»: ترك تثريبه.

( حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) الّذي هو الإذن في قتالهم، وضرب الجزية عليهم، أو قتل قريظة، وإجلاء بني النضير.

قيل(١) : إنّ هذه الآية، منسوخة. فقال بعضهم: بقوله(٢) :( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، وبعضهم: بآية السّيف. وهو قوله(٣) :( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ».

والمرويّ عن الباقر ـ عليه السّلام، أنّه قال(٤) : لم يؤمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ بقتال، ولا أذن له فيه، حتّى نزل جبرئيل بهذه الآية(٥) :( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) وقلّده سيفا.

( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١٠٩)، فيقدر على الانتقام منهم.

( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) : عطف على «فاعفوا». كأنّه أمرهم بالصّبر والالتجاء إلى الله، بالعبادة والبرّ.

( وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ ) ، كصلاة، أو صدقة. وقرئ(٦) [تقدموا](٧) من أقدم،( تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ ) ، أي: ثوابه.

( إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (١١٠): لا يضيع عنده عمل عامل.

وقرئ(٨) بالياء. فيكون وعيدا. «وَقالوا» عطف على «ودّ» والضّمير لأهل الكتاب.

( وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً ) : جمع هائد، كعوذ وعائذ وباذل وهو جمع للمذكّر والمؤنّث، على لفظ واحد.

والهائد: التّائب الرّاجع إلى الحقّ.

__________________

(١) ر. أنوار التنزيل ١ / ٧٦.

(٢) التوبة / ٢٩.

(٣) التوبة / ٥.

(٤) مجمع البيان ١ / ١٨٥.

(٥) الحج / ٣٩.

(٦) أنوار التنزيل ١ / ٧٦.

(٧) يوجد في المصدر.

(٨) نفس المصدر ونفس الموضع.

١١٧

وقيل(١) : مصدر. يصلح للواحد والجمع، كما يقال: رجل صوم وقوم صوم.

وقيل(٢) : أصله يهود: فحذفت الياء الزّائدة.

وعلى ما قلنا، فتوحيد الاسم المضمر وجمع الخبر، لاعتبار اللّفظ والمعنى.

( أَوْ نَصارى ) : سبق تحقيقه. والكلام على اللّفّ بين قولي الفريقين. والتّقدير: وقالت اليهود: لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا. والنّصارى لن يدخل الجنّة، إلّا من كان نصارى، ثقة بأن السامع يرد إلى كلّ فريق قوله، وأمنا من الالتباس، لما علم من التّعادي بين الفريقين وتضليل كلّ واحد منهما، صاحبه.

( تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ ) :

إشارة إلى الأمانيّ المذكورة. وهي أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربّهم وأن يردّوهم كفّارا. وأن لا يدخل الجنّة غيرهم.

أو إلى ما في الآية على حذف مضاف، أي: أمثال تلك الأمنيّة المذكورة في الآية، أمانيّهم.

والجملة اعتراض.

والأمنيّة: أفعولة من التّمنّي، كالأضحوكة والأعجوبة والجمع الأضاحيك والأعاجيب.

( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) على اختصاصكم بدخول الجنّة.

والبرهان والحجّة والدّلالة والبيان، بمعنى واحد. وقد فرّق عليّ بن عيسى، بين الدّلالة والبرهان، بأن قال: «الدّلالة» قد ينبئ عن معنى فقط. لا يشهد لمعنى آخر. و «البرهان» ليس كذلك. لأنّه بيان عن معنى ينبئ عن معنى آخر. وقد نوزع في هذا الفرق. وقيل: «إنّه محض الدّعوى(٣) ».

( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١١١) في دعواكم. فإنّ كلّ قول لا دليل عليه غير ثابت.

وفي هذه الآية، دلالة على فساد التّقليد في الأصول. الا ترى أنّه لو جاز التقليد لما أمروا بأن يأتوا فيما قالوا ببرهان؟

وفيها ـ أيضا ـ دلالة على جواز المحاجّة في الدّين.

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ١٨٦.

(٢) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٣) مجمع البيان ١ / ١٨٦.

١١٨

وفيها ـ أيضا ـ دلالة على أنّه لا حجّة في إجماع يخلو عن معصوم. وإلّا لجاز لهم أن يقولوا البرهان. إنّا أجمعنا على ما قلنا. فالمتمسّكون بالإجماع المذكور، أضلّون من محرّفي أهل الكتاب.

( بَلى ) : اثبات لما نفوه، من دخول غيرهم الجنّة.

( مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) :

من(١) أخلص نفسه له، لا يشرك به غيره، أو قصده وتوجّهه له،( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) في عمله،( فَلَهُ أَجْرُهُ ) الّذي يستوجبه ثابتا،( عِنْدَ رَبِّهِ ) : لا يضيع ولا ينقص.

والجملة جواب «من»، إن كانت شرطيّة، وخبرها، إن كانت موصولة.

و «الفاء» لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط. فيكون الرّدّ بقوله «بلى» وحده، أو يكون «من أسلم»، فاعلا لفعل محذوف، أي: بلى يدخلها من أسلم.

ويكون قوله «فله أجره»، كلاما معطوفا على يدخلها «من أسلم».

( وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١١٢) في الآخرة.

وهذا ظاهر على قول من يقول: أنّه لا يكون على أهل الجنّة خوف ولا حزن في الآخرة. وأمّا على قول من قال: بعضهم يخاف ثمّ يأمن، فمعناه أنّهم لا يخافون فوت جزاء أعمالهم. لأنّهم يكونون على ثقة، بأنّ ذلك لا يفوتهم.

[وفي كتاب الاحتجاج(٢) ، للطّبرسيّ ـ رحمه الله ـ حديث طويل، عن النّبي ـ صلّى الله عليه وآله. وفيه: فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لأصحابه: قولوا( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) أي: نعبد واحدا. لا نقول كما قال الدّهريّة: «إنّ الأشياء لا بدو لها وهي دائمة.» ولا كما قال الثّنويّة الّذين قالوا: «إنّ النّور والظّلمة هما المدبّران.» ولا كما قال مشركوا العرب: «إنّ أوثاننا آلهة.» فلا نشرك بك شيئا. ولا ندعو من دونك إلها، يقول هؤلاء الكفّار. ولا نقول كما تقول النّصارى واليهود: «إنّ لك ولدا.» تعاليت عن ذلك علوّا كبيرا.

قال: فذلك قوله.:( وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ) .

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) الاحتجاج ١ / ٢٥.

١١٩

وقالت طائفة غيرهم من هؤلاء الكفّار: ما قالوا؟

قال الله: يا محمّد!( تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ ) الّتي يمنّونها بلا حجّة.( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) وحجّتكم على دعواكم،( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) كما أتى محمّد ببراهينه الّتي سمعتموها.

ثمّ قال:( بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) ، يعني: كما فعل هؤلاء الّذين آمنوا برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لـمّا سمعوا براهينه وحجّته( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) في عمله لله،( فَلَهُ أَجْرُهُ ) ، ثوابه( عِنْدَ رَبِّهِ ) ، يوم فصل القضاء،( وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) حين يخاف الكافرون بما يشاهدونه من العقاب،( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) عند الموت. لأنّ البشارة بالجنان، تأتيهم.

وفيه(١) ، عن الصّادق ـ عليه السّلام ـ حديث طويل. وفيه: فالجدال بالّتي هي أحسن: قد قرنه العلماء بالدّين والجدال بغير الّتي هي أحسن، محرّم وحرّمه الله على شيعتنا.

وكيف يحرّم(٢) الجدال جملة وهو يقول:( وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ) .، قال الله تعالى:( تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ؟» فجعل(٣) علم الصّدق والإيمان بالبرهان وهل يؤتى بالبرهان إلا في الجدال بالّتي هي أحسن والّتي ليست بأحسن؟

وفي كتاب الخصال(٤) ، في احتجاج عليّ ـ عليه السّلام ـ على النّاس، يوم الشورى. قال: نشدتكم بالله! هل فيكم أحد قال له رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ مثل ما قال لي؟: أهل ولايتك يخرجون يوم القيامة من قبورهم، على نوق بيض شراك نعالهم نور يتلألأ. قد سهلت عليهم الموارد. وفرجت عليهم(٥) الشّدائد. واعطوا الأمان.

وانقطعت عنهم الأحزان، حتّى ينطلق بهم إلى ظلّ عرش الرّحمن. فوضع(٦) بين أيديهم مائدة. يأكلون منها حتّى يفرغ من الحساب يخاف النّاس ولا يخافون ويحزن النّاس ولا يحزنون غيري.» قالوا: أللّهمّ لا!](٧)

( وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ ) ، أي: أمر يصحّ ويعتدّ به. وهذه

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ١٤.

(٢) المصدر: يحرّم الله.

(٣) المصدر: فجعل الله.

(٤) الخصال / ٥٥٨ ـ ٥٥٩.

(٥) المصدر ور: عنهم.

(٦) المصدر: توضع.

(٧) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493