تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب16%

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 493

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 187699 / تحميل: 5855
الحجم الحجم الحجم
تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بني هاشم رهط النّبيّ فإنّني

بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب

قهدمت داره ، وطرد وشرّد ، لأنّه أوقف لسانه وبيانه على نصرة الأئمّة الأطهار(١) .

ودعبل(٢) صاحب التّائية الذّائعة النّائحة الّتي يقول فيها(٣) :

أفاطم لو خلت الحسين مجدلا

وقد مات عطشانا بشطّ فرات

إذا للطمت الخدّ فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجنات

هذا الشّاعر الثّائر لاقى في حبّ محمّد وعترته أبشع أنواع التّنكيل والتّعذيب. وقال المتوكّل للعالم الكبير ابن السّكّيت : أيّهما أحبّ إليك ، ولداي : المعتز ،

__________________

ـ أمالي السّيّد المرتضى : ١ / ٢٨ ، تأريخ دمشق : ٥ / ٢٣٣ ، سير أعلام النّبلاء : ٥ / ٣٨٨ ، شرح الشّريف الرّضي على الكافية : ٢ / ٢٤١.

(١) انظر ، الهاشميات والعلويات ، قصائد الكميت ، وابن أبي الحديد : ١٦١ ، أنساب الأشراف : ٣ / ٢٣٨.

(٢) أبو عليّ دعبل بن عليّ بن رزين الخزاعي من شعراء القرن الثّاني ، والثّالث الهجريّين ، ولد سنة (١٤٨ ه‍) في الكوفة ، تحدّى دعبل ظلم العبّاسيّين وطغيانهم حتّى أنّه قال : أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين عاما ، لست أجد أحدا من يصلبني عليها. وقد عاصر هذا الشّاعر البارع الإمام الصّادق ، والكاظم ، والرّضا ، والجواد : ، قرأ قصيدته التّائية على الإمام الرّضاعليه‌السلام أثناء ولاية العهد فبكى الإمام لبعض أبياتها ، واستحسنها ودعا له وأكرمه ، توفّي ؛ سنة (٢٤٦ ه‍).

انظر ، ترجمته في سير أعلام النّبلاء : ١١ / ٥١٩ ، الكامل في التّأريخ : ٧ / ٩٤ ، مروج الذّهب : ١ / ١٧٩ ، و : ٢ / ٧٨ ، و : ٣ / ٢٣١ ، وفيّات الأعيان : ٢ / ٢٦٦ ، الأغاني : ١٨ / ٢٩ طبعة بولاق ، فرائد السّمطين للجويني : ٢ / ٣٣٧ ح ٥٩١ ، وهناك شعراء آخرون للإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه‌السلام .

(٣) انظر ، ديوان دعبل : ١٢٤ ، الفصول المهمّة لابن الصّباغ المالكي : ٢ / ٣١٠ وما بعدها ، بتحقّيقنا ، مقصد الرّاغب : ١٦٧ ، الفرج بعد الشّدّة : ٣٢٩ ، كشف الغمّة : ٢ / ٣١٨ ـ ٣٢٧ ، سير أعلام النّبلاء : ٩ / ٣٩١ ، فرائد السّمطين للجويني : ٢ / ٣٣٧ ح ٥٩١ ، ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي : ٤٥٤ ، مطالب السّؤول : ٨٥ ، معجم الادباء : ٤ / ١٩٦ ، تذكرة الخواصّ لسّبط ابن الجوزي : ٢٣٨ ، مقاتل الطّالبيّين لأبي فرج الإصفهاني : ٥٦٥.

١٤١

أم الحسن والحسين؟!.

فقال له : «والله! إنّ قنبرا خادم عليّ بن أبي طالب خير منك ومن ولديك.

فأمر المتوكل جلاوزته بسل لسانه من قفاه فسل ، ومات في ساعته(١) .

والحبر الشّهير بالشّهيد الأوّل محمّد بن مكّي قتل وصلب ورجم ، ثمّ أحرق لا لشيء إلّا لأنّه يتشيّع لآل محمّد ، وهكذا كان مصير العالم العظيم زين الدّين المعروف بالشّهيد الثّاني ، وغير هؤلاء كثر لا يبلغهم الإحصاء تقبلوا القتل والعذاب مغتبطين بمرضاة الله ، ونصرة أوليائه.

لاقى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله من المعاندين كلّ عنت في سبيل الإسلام ، فاستهزأوا به ، وقال له قائلهم : «أما رأى الله غيرك يبعثه رسولا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتّى اجتمع النّاس عليه فجعلوا يرمونه بالحجارة حتّى أدموا رجليه(٢) . وألقوا عليه الأوساخ ، وهو يصلّي لله ، وتآمروا على قتله ،

__________________

(١) انظر ، مقاتل الطّالبيّين : ٥٩٧ ـ ٥٩٩.

وقال ابن خلّكان : لمّا هدم المتوكّل قبر الحسين بن عليّ عليه‌السلام سنة (٢٢٦ ه‍) قال البسّامي :

تالله إن كانت أميّة قد أتت

قتلى ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه مثلها

هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا

في قتله فتتبعوه رميما

(٢) انظر ، فتح الباري : ١٢ / ٢٥٠ ، تأويل مختلف الحديث : ١٥٠ ، تفسير مجمع البيان : ٢ / ٣٨٦ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٧٥ ، الدّر المنثور : ٢ / ٢٩٨ ، تفسير الثّعالبي : ٢ / ١٠٤ ، فتح القدير : ٢ / ٦١ ، تأريخ دمشق : ٦٢ / ٢٤٧ ، تأريخ الطّبريّ : ١ / ١٨٢ ، عصمة الأنبياء للفخر الرّازي : ٧٨ ، عيون الأثر لابن سيّد النّاس : ٢ / ٤٢١ ، الشّفا بتعريف حقوق المصطفى : ١ / ١٠٥ ، المواهب اللّدنيّة بالمنح المحمديّة للقسطلاني : ١ / ٦٥.

١٤٢

وعذّبوا أتباعه ، كصهيب(١) ، وبلال(٢) ، وخبّاب(٣) ، وعمّار ، وأبيه ياسر ، وأمّه سميّة(٤) الّتي طعنها أبو جهل في قلبها فماتت(٥) ، وهي أوّل شهيدة في الإسلام(٦) .

__________________

(١) صهيب بن سنان الرّبعي الّنمري فقد كان أبوه عاملا لكسرى على الابلة. فغارت الرّوم عليهم ، وأسرت صهيبا فنشأ فيهم ، ثمّ باعته إلى كلب فجاءت به إلى مكّة ، فباعته من عبد الله بن جدعان فأعتقه ، وكان من السّابقين إلى الإسلام الّذين عذّبوا في مكّة وكنّاه الرّسول أبا يحيى ، وكان في لسانه لكنّة ، توفّي بالمدينة (٣٨ أو ٣٩ ه‍) ودفن بها. (انظر ، اسد الغابة : ٣ / ٣١ ـ ٣٣).

(٢) هو بلال بن رباح ، وأمّه : حمامة. وكان من مولّدي «مكّة» لرجل من بني جمح فاشتراه «أبو بكر» بخمس أواق وأعتقه ، وكان يعذب في الله ، وشهد بدرا والمشاهد كلّها. وهو أوّل من أذّن لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فما قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أتى «أبا بكر» فاستأذنه إلى الشّام ، فأذن له ، فلم يزل مقيما بها ، ولم يؤذّن بعد النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله . انظر ، ترجمته في المعارف لابن قتيبة : ١٧٦.

(٣) انظر ، المستدرك على الصّحيحين : ٣ / ٢٨٥ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ٣٠٥ ، المصنّف لعبد الرّزاق الصّنعاني : ١١ / ٢٤٢ ح ٢٠٤٣٢ ، المعجم الأوسط : ٣ / ٢٤١ ، المعجم الكبير : ٨ / ٢٩ و : ٢٤ / ٤٣٥ ، تأريخ المدينة : ٢ / ٤٧٩ ، تقريب التّهذيب : ٢ / ٥٨٧ ، الإصابة : ٣ / ٣٦٥ ، أسد الغابة : ٣ / ٣١ ، سير أعلام النّبلاء : ١ / ٣٤٩ و : ٨ / ٥٣٠ ، ميزان الإعتدال : ١ / ٣٣٦ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ٧٥ و : ٧ / ١٦٧ ، تأريخ دمشق : ١٠ / ٤٤٨ و : ٢٤ / ٢٢٠ ، كنز العمّال : ١١ / ٤٠٨ ح ٣١٩٠٩ و ٣٣١٣٣ و ٣٣٦٧٦ ، مسند الشّاميين : ٢ / ١١ ، الجامع الصّغير : ١ / ٤١٣ ح ٢٦٩٥ و : ٢ / ٦٦ ح ٤٧٩٣.

(٤) انظر ، الطّبقات الكبرى : ٣ / ٢٥٣ و ٢٥٩ ، عمدة القاري في شرح صحيح البخاريّ : ٢٤ / ١٩٢ ، مسند أحمد : ٢ / ١٦٤ و ٢٠٦ ، تأريخ الطّبريّ : ٤ / ٢ و ٣ و ٢٨ و ٢٩ ، كنز العمّال : ١٦ / ١٤٣ ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ١٤٨ و ١٥٧ و ١٥٨ ، المرقاة في شرح المشكاة : ٥ / ٤٤٧ ، الإمامة والسّياسة : ١ / ١٢٦ ، تأريخ الخميس : ٢ / ٢٧٧ ، المستدرك على الصّحيحين : ٣ / ٣٧٨ ، نسيم الرّياض في شرح الشّفا : ٣ / ١٦٦ ، العقد الفريد : ٢ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤ ، خصائص النّسائي : ١٣٣ ، الرّوض الأنف : ٤ / ٢٦٤ و ٢٦٥ ، تأريخ مدينة دمشق : ٤٣ / ٤٢٥ ، تفسير ابن العربي : ٢ / ٥١٩ ، تهذيب الكمال : ١٧ / ١١٤.

(٥) انظر ، تفسير ابن كثير : ٢ / ١٣٤ ، القرآن وإعجازه العلمي لمحمّد إسماعيل إبراهيم : ٢١ ، الرّوض الأنف: ١ / ٢٠٣ ، الإصابة ، التّرجمة رقم «٥٨٢».

(٦) انظر ، الإستيعاب بهامش الإصابة : ٤ / ٣٣١ ، الإصابة لابن حجر : ٤ / ٣٣٥ (٥٨٢) ، المعارف لابن ـ

١٤٣

وهكذا لاقى أبناء الرّسول وشيعتهم في سبيل الدّين والإسلام ، بل لاقوا أكثر وأكثر حتّى قال قائلهم(١) :

نحن بني المصطفى ذوو محن

تجرعها في الحياة كاظمنا

عجيبة في الأنام محنتنا

أوّلنا مبتل وآخرنا

يفرح هذا الورى بعيدهم

ونحن أعيادنا مآتمنا

وإذا كانت حياة الأئمّة الأطهار كلّها أحزان ومآتم حتّى أيّام الأعياد ، فحقيق بنا ، نحن الموالين لهم ، أن نجعل هذه المآتم من شعائر الدّين ، فإذا اجتمعنا للعزاء فإنّما نجتمع ، كما نكون في الجامع للصّلاة ، وكما نكون في مكّة المكرّمة للحجّ لا نبغي إلّا مرضاة الله وثوابه ، نجتمع للعزاء أملا أن تنالنا دعوة الإمام الصّادقعليه‌السلام حين سأل ربّه سبحانه بقوله :

«أللهمّ ارحم تلك الأعين الّتي جرت دموعها رحمة لنا» ، «وارحم تلك القلوب الّتي حزنت واحترقت لنا ...» ، «وارحم تلك الصّرخة الّتي كانت لنا ...».

__________________

ـ قتيبة : ١١١ ، وقعة صفّين : ١٩٩ ، سير أعلام النّبلاء : ١ / ٤٠٩ ، تأريخ بغداد : ١ / ١٦١ ، تأريخ دمشق : ٤٣ / ٣٥٩ و ٣٦٠.

(١) الأبيات في يتيمة الدّهر : ١ / ٢٥٤ ، سير أعلام النّبلاء : ١٥ / ١٦٧ ، مع بعض الإختلاف.

١٤٤

الإستهانة بالموت

قال ابن أبي الحديد في شرح النّهج :

«قيل لرجل شهد يوم الطّفّ مع عمر بن سعد : «ويحكم أقتلتم ذرّيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! فقال : عضضّت بالجندل(١) أنّك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ، ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها ، كالأسود الضّارية ، تحطّم الفرسان يمينا وشمالا ، وتلقي أنفسها على الموت ، لا تقبل الأمان ، ولا ترغب في المال ، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنيّة ، أو الإستيلاء على الملك ، فلو كففنا عنها رويدا لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها ، فما كنّا فاعلين لا أمّ لك؟!».

ومن أجل ذلك صاح عمر بن الحجّاج برفاقه المارقين :

«ويلكم يا حمقاء ، مهلا ، أتدرون من تقاتلون؟ إنّما تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين لا برز إليهم منكم أحد(٢) . ومن أجل ذلك

__________________

(١) الجندل : الصّخر العظيم. (منهقدس‌سره ). انظر ، لسان العرب : ١١ / ١٢٨.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبريّ : ٤ / ٣٣١ و : ٥ / ٤٣٥ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ١٠٣ ، بحار الأنوار : ٤٥ / ١٩ ، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ لابن الدّمشقي : ٢ / ٢٨٦.

١٤٥

أيضا نهى ابن سعد أصحابه أن يبرزوا لأصحاب الحسين رجلا رجلا»(١) .

وليس هذا بعجيب ولا بغريب على من لا يبتغي شيئا في هذه الحياة إلّا وجه الله والدّار الآخرة ، ليس هذا غريبا على الحقّ إذا نازل الباطل ، وعلى من سمع بعقله وقلبه صوت الله يناديه إقدم ، ولك أحسن الجزاء. لقد عبّر كل شهيد في الطّفّ بأفعاله قبل أقواله عمّا قاله سيّد الشّهداء : «أما والله لا اجيبهم إلى شيء ممّا يريدون ، حتّى ألقى الله تعالى ، وأنا مخضّب بدمي»(٢) .

لم يكن المال والأمان من أهداف أبطال الطّفّ ، لم يكن لهم إلّا هدف واحد ، يفتدونه بكلّ ما غلا وعز ، ويستعذبون في سبيله كلّ شيء حتّى الموت ، ليس لأصحاب الحسين إلّا هدف واحد لا غير هو التّقرب إلى الله بنصرة العترة الطّاهرة ، ولا وسيلة إلى نصرتهم في هذا الموقف إلّا بذل النّفوس ، والإلتجاء إلى السّيوف ، فرحوا يحطمون الفرسان بسيوفهم يمينا وشمالا ويلقون بأنفسهم على الموت ، لا يحول بينهم وبين المنيّة حائل ، وما زادهم الحصار ، والجوع ، والعطش إلّا بسالة ومضاء.

ولم تكن لأصحاب الحسين هذه الشّجاعة والإستهانة بالموت ، ولا هذه العاطفة السّامية والمعاني النّبيلة لو لا إيمانهم بالله وبالحسين. إنّ الإخلاص للحقّ يبعث في النّفوس البطولة والتّضحية ، والعزم والصّراحة. وهذا ما يجعلنا نشكّك

__________________

(١) انظر ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٢٦٣ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٣١ و : ٥ / ٤٣٥ ، الإرشاد : ٢ / ١٠٣.

(٢) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٥٧ و ١٠٠ ، مثير الأحزان : ٥٨ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٩ ، الحدائق الورديّة (مخلوط) ، ينابيع المودّة : ٣ / ٧٥ ، نسب قريش لمصعب الزّبيري : ٥٨ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٧.

١٤٦

بالّذين يظهرون الإيمان ، ولا يجرأون على التّفوه بكلمة الحقّ طمعا في حطام زائل ، أو خوفا على منصب لا يدوم ، ومن أجله يؤثرون أهواء أهل الدّنيا على إرادة الله والرّسول. قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «أغلب النّاس من غلب هواه بعلمه»(١) . وقال : علامة الإيمان أن تؤثر الصّدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك. لا يؤنسنّك إلّا الحقّ. ولا يوحشنّك إلّا الباطل»(٢) .

وما نقله ابن أبي الحديد عن الرّجل الّذي يشهد يوم الطّفّ يدل دلالة صريحة واضحة على صدق ما روي عن شجاعة أبطال الطّفّ ، وأنّ الواحد منهم كان يقتل جمعا كثيرا من أصحاب ابن سعد قبل أن يقتل ، وأنّهم كانوا على قتلهم لا يحملون على جانب من جيش الكوفة إلّا كشفوه ، فلقد أرسل عروة بن قيس إلى ابن سعد ، وكان قائده على الخيّالة ، أرسل إليه يقول : ألا ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه القلّة اليسيرة؟! فأمده بخمسمئة من الرّماة ، فأقبلوا حتّى دنوا من أصحاب الحسين ، ورشقوهم بالنّبل ، فلم يلبثوا حتّى عقروا خيولهم ، وصاروا رجّاله كلّهم ، وكان الباقون من أصحاب الحسين إثنين وثلاثين رجلا ، فأجمع عليهم عسكر ابن سعد ، وهم ألوف ، واشتبكوا معهم في أشد قتال ، حتّى انتصف النّهار ، وقد قتل أصحاب الحسين من أهل الكوفة المئات.

فقد رماهم أبو الشّعثاء الكندي ، وهو جاث بين يدي الحسين بمئة سهم لم يكد يخيب منها خمسة أسهم(٣) . وكان نافع البجلي يكتب اسمه على نبله ،

__________________

(١) انظر ، غرر الحكم : ٣١٨١ ، عيون الحكم والمواعظ : ١١٦.

(٢) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة «١٢٠».

(٣) انظر ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٢٥ ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٣٣ ، أعيان الشّيعة : ١ / ٦٠٣ ، وقعة الطّفّ : ٢٣٧.

١٤٧

ويرسلها ، فيقتل بها ، ويجرح ، وقلّما تخطيء ، فأحاطوا به من كلّ جانب ، وضربوه وأسمعهم ما يكرهون ، وقال لهم : قتلت منكم إثني عشر رجلا سوى من جرح ، ولو بقيت لي عضد لزدت(١) .

وقتل حبيب بن مظاهر اثنين وستين رجلا ، كان يصول ويجول على شيخوخه وكبر سنّه ، ويستقبل الرّماح بصدره ، والسّيوف بوجهه ، وقد عرضوا عليه الأمان والأموال ، فأبى وقال : «لا والله لا عذر لنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إن قتل الحسين ، وفينا عين تطرف». فاجتمعوا عليه ، وقتلوه(٢) . وكان حبيب صحابيّا أدرك النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشهد مع أمير المؤمنين حرب الجمل ، وصفّين ، والنّهروان ، وكان من خاصّته ، وحملة علومه ، وكان عابدا زاهدا يختم القرآن في ليلة واحدة.

وبعد ما انتهت المعركة رجع ابن سعد إلى الكوفة ، ومعه سبايا الحسين ، فخرج النّساء ، والأطفال ينظرون إلى السّبايا ، وكان مع من خرج القاسم بن حبيب بن مظاهر ، وهو يومئذ غلام قد راهق الحلم ، فرأى رأس أبيه معلقا في عنق فرس(٣) فأقبل الغلام من الفارس لا يفارقه ، فإذا دخل القصر دخل معه ، وإذا

__________________

(١) انظر ، مقاتل الطّالبيّين : ٧٨ ، إقبال الأعمال : ٣ / ٧٨ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٩٨ و ١٣٤ ، الكامل في التّأريخ : ٤ / ٢٩ ، شرح الأخبار : ٣ / ٢٤٧ ، المزار للشّهيد الأوّل : ١٥١ ، المزار للمشهدي : ٤٩٣ ، معجم رجال الحديث : ٢٠ / ١٣٥ رقم «١٣٠٠٢» ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ١٠٣ ، الأخبار الطّوال : ٢٥٥ ، الأعلام : ٨ / ٦ ، مثير الأحزان : ٤٥ ، الكامل في التأريخ : ٤ / ٢٩.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٣٥٢ ، مقتل الحسين : ٢ / ٤ ، و : ٤ / ٣٢٠ ، مقتل الحسين لابي مخنف : ١١٣ ، إعلام الورى : ١ / ٤٥٧ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ٩٥ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٢٥٠ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩٣ ، الأخبار الطّوال : ٢٥٦.

(٣) كان أمير المؤمنين قد أخبر حبيبا بما يحدث له ، وأخبر ميثم التّمار بأنّه يصلب ، وتبقر بطنه ، وبعد ـ

١٤٨

خرج منه خرج معه ، فارتاب به الرّجل ، وقال له : مالك يا بني تتّبعني؟ فقال الغلام : إنّ هذا الرّأس رأس أبي ، اعطني إيّاه حتّى أدفنه. قال : إنّ الأمير لا يرضى أن يدفن ، وأريد أن يثيبني على قتله. فقال له الغلام : ولكن الله لا يثيبك ، وبكى. ثمّ ذهب الغلام ، ولم يكن له من هم إلّا أن يقتل قاتل أبيه ، ولم تمض الأيّام حتّى خرج مصعب بن الزّبير(١) ، وكان القاتل مع جيش مصعب ، فراقبه الغلام يلتمس الفرصة السّانحة ، وفي ذات يوم دخل عسكر مصعب ، فوجد القاتل نائما في فسطاطه ، فضربه بسيفه حتّى برد(٢) .

__________________

ـ وفاة الإمام عليّعليه‌السلام التقى ميثم بحبيب ، وكان كلّ منهما يركب فرسا ، فقال حبيب يطايب ميثما : كأنّي بشيخ أصلع قد صلب في حبّ أهل البيت ، وتبقر بطنه فقال ميثم : أنّي لأعرف رجلا ثمّ افترقا ، فقال قوم كانوا جالسين يسمعون كلامهما ، ما رأينا أحدا أكذب من هذين. وقبل أن يفترق أهل المجلس أقبل رشيد الهجري ، فسأل أهل المجلس عنهما ، فقالوا : مرّا من هنا ، وقالا كذا وكذا. فقال رشيد ، نسي ميثم أن يقول : أنّه يزاد في عطاء من يأتي برأس حبيب مئة درهم. ثمّ أدبر ، فقال أهل المجلس : هذا ، والله أكذبهم. ولكن لم تمض الأيّام حتّى شاهد هؤلاء ميثما مصلوبا ، ورأس حبيب يطاف به ، وتحقّق كل ما سمعوه. (منه قدس‌سره). انظر ، أبصار العين في أنصار الحسين : ١٠١ ، رجال الكشي : ٧٨ رقم «١٣٣» ، منتهى المقال في أحوال الرّجال : ٢ / ٣٢٨.

(١) انظر ، الأخبار الطّوال : ٣١٨ ، تأريخ الطّبري : ٧ / ١٨١.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٣٢٧ و : ٦ / ٦٥٢ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٨٢ ، الكامل في التّأريخ : ٤ / ٧١.

١٤٩
١٥٠

أنتم مؤمنون

أين المؤمنون؟ أين المسلمون حقّا؟ أين الأسوة والعزاء بالأنبياء والأولياء؟ وبالتالي أين الموالون للنّبي وأهل بيته الّذين أحبّوا ما أحبّ الله ، ومحمّد ، وعليّ ، والحسن ، والحسين؟! قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «ولو لم يكن فينا إلّا حبّنا ما أبغض الله ، ورسوله ، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله لكفى به شقاقا لله ومحادّة عن أمر الله»(١) .

نحن ننكر على عثمان بن عفّان ، لأنّه آثر الأقارب والأرحام ، وآوى عمّه الحكم طريد رسول الله ولعينه(٢) . وننكر على معاوية مبايعته لولده يزيد الّذي أهلك الحرث والنّسل ، وننكر على ابن العاصّ ، لأنّه باع دينه إلى معاوية بولاية مصر ، وننكر على ابن سعد ، لأنّه قتل الحسين أملا بملك الرّي ، أجل ، أنّنا ننكر

__________________

(١) انظر ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٩ / ٢٣٢ ، شرح نهج البلاغة لمحمّد عبده : ٢ / ٥٩.

(٢) الحكم هذا هو أخو عفّان أبي عثمان ، وكان يؤدي رسول الله ، وينبيء المشركين بأخباره. ذات يوم بينما يمشي رسول الله مشى الحكم خلفه يتفكك ، ويتمايل يختلج بفمه وأنفه مستهزءا بالرّسول فالتفت إليه ، وقال له كن كذلك. فما زال بقيّة عمره كذلك. ثمّ أسلم خوفا من القتل ، فطرده الرّسول من المدينة ، ولم يزل خارجها بقيّة حياة الرّسول وخلافة أبي بكر وعمر حتّى تولى عثمان فردّه إليها وقرّبه ، وقالت عائشة لابنه مروان «أشهد أنّ الله لعن أباك وأنت في صلبه». (منهقدس‌سره ). انظر ، تفسير القرطبي : ١٠ / ٢٨٦ ، ترجمة الإمام الحسن من طبقات ابن سعد : ٣٦.

١٥١

على هؤلاء وأمثالهم لا لشيء إلّا لأنّهم آثروا العاجلة على الآجلة ، واستجابوا لأهواء الأولاد والأرقاب ، واستبدّت بهم الشّهوات والمنافع ، ولم يرعوا أمر الله وحرمة الدّين.

ونحن نكرّم أهل البيت ، ونقيم لهم الحفلات ، ونحي الذّكريات لأنّهم جاهدوا وضحّوا في سبيل الله ، وجابهوا الباطل ، وقاوموا العدوّان ولم يثنهم الخوف على منصب أو ولد ، ولكنّا في نفس الوقت نستجيب لأهواء الأولاد والأرقاب ، وتستبد بنا الشّهوات ، ولم نراع لله أمرا ولا نهيا ، تماما كما فعل أعداء أهل البيت ، نحن في أقوالنا ومظاهرنا مع الرّسول وعترته ، وفي أفعالنا وواقعنا مع الّذين حاربوا الله ورسوله ، وعاندوا الحقّ وأهله.

نحن لا نطلب من المسلم أن يكون حسينا ، ولا كأصحاب الحسين ، ولكن نطلب منه أن لا يكون كابن سعد ، وأصحاب ابن سعد نطلب أن لا يسمّي الظّلم عدلا ، والباطل حقّا تملقا لأبناء الدّنيا ورغبة في ما بأيديهم ، نريده أن يقول للظّالم يا ظالم ، ولا يسكت عن الحقّ. أنّ السّكوت عن الحقّ ومدراة الطّغاة وأصحاب المال ، والجاه لا تجتمع مع موالاة أهل البيت الّذين كانوا حربّا على كلّ طاغ وباغ ؛ قال الإمام الباقرعليه‌السلام لجابر الجعفي :

«اعلم بأنّك لا تكون لنا وليّا إلّا إذا اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا : إنّك رجل سوء لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنّك رجل صالح لم يسرّك ذلك ولكن اعرض نفسك على كتاب الله ، فإن كنت سالكا سبيله ، زاهدا في تزهيده ، راغبا في ترغيبه ، خائفا من تخويفه فأثبت وأبشر ، فإنّه لا يضرّك ما قيل فيك. وإن كنت مباينا للقرآن فماذا الّذي يغرّك من نفسك؟!. إنّ المؤمن معني بمجاهدة

١٥٢

نفسه ليغلبها على هواها»(١) .

فالمقياس هو القرآن. وما اهتمّ القرآن في شيء أكثر من اهتمامه بالمعروف والنّهي عن المنكر ، قال الله تعالى :( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) (٢) .

وقال الفقهاء : المعروف قسمان واجب وندب ، والأمر بالواجب واجب ، والأمر بالنّدب ندب ، أمّا المنكر فكلّه حرام ، فالنّهي عنه واجب(٣) .

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : «يكون في آخر الزّمان قوم سفهاء ، لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر إلّا إذا أمنوا الضّرر ، يطلبون لأنفسهم الرّخص والمعاذير ، يتّبعون زلّات العلماء وفساد علمهم ، يقبلون على الصّلاة والصّيام ، وما لا يكلّفهم في نفس ولا مال ، ولو أضرّت الصّلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أتم الفرائض وأشرفها»(٤) .

أراد الإمام من أتم الفرائض وأشرفها الأمر المعروف والنّهي عن المنكر ، أمّا قوم آخر الزّمان فهم نحن ، حيث نفعل المنكر غير مكترثين ، أو نرضى به ، أو نغض الطّرف عن فاعله متذرعين بخوف الضّرر ، كما قال الإمام ، متجاهلين الصّبر على المكروه في جنب الله ، وخدمة الدّين؟ وأيّة فضيلة للمرشد إذا لم يعان

__________________

(١) انظر ، تحف العقول : ٢٨٤.

(٢) المائدة : ٧٩.

(٣) انظر ، تذكرة الفقهاء : ١ / ٤٥٨.

(٤) انظر ، مختلف الشّيعة : ٤ / ٤٦١ ، تذكرة الفقهاء : ١ / ٤٥٨ و : ٩ / ٤٤٠ ، الوافي : ٩ / ٢٩ ، تهذيب الأحكام : ٦ / ١٨٠.

١٥٣

المشقّة والصّعاب في سبيل الحقّ ، وإعلاء كلمته.

فإيّاك أن تغتر بقول من قال : لا يجب التّذكر إلّا مع أمن الضّرر واحتمال النّفع(١) ولو صحّ قولهم هذا لما وجب التّذكير في وقت من الأوقات ، لأنّه لا يخلو زمان من معاندين ، ولا يسلم محق من جاحدين ، أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب ، وإلقاء الحجّة لا بدّ منه. وإليكم المثل والدّليل :

قبل أن يعلم الحسين بخبر ابن عمّه مسلم كتب إلى جماعة من أهل الكوفة :

«بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن عليّ إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله الّذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جائني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، وإجتماع ملئكم على نصرنا ، والطّلب بحقنا ، فسألت الله أن يحسن لنا الصّنع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثّلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التّروية ، فإذا قدم عليكم رسولي فامكثوا في أمركم وجدّوا ، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه ، إن شاء الله ، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته»(٢) .

وأرسل الكتاب مع قيس بن مسهر الصّيداوي(٣) ، ولمّا قارب قيس الكوفة

__________________

(١) أمّا قوله تعالى :( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ) الأعلى : ٩ ؛ فليس النّفع شرطا حقيقيّا للتّذكير ، وإنّما هو أشبه بقول القائل : سله إن نفع السّؤال ؛ لأنّ الأنبياء بعثوا للأعذار والإنذار ، فعليهم التّذكير على كلّ حال نفع أو لم ينفع. (منهقدس‌سره ).

(٢) انظر ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٨١ ، الإرشاد : ٢ / ٧٠ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٧٢ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٢٩٧ ، الأخبار الطّوال : ٢٤٥ ، مثير الأحزان : ٣٠ ، ينابيع المودّة : ٣ / ٦١.

(٣) انظر ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ٩٢ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٢٢٩ و ٢٣٥ ، و ٢٤٨ طبعة آخر ، بحار الأنوار : ٤٤ / ٣٧٤ ، عوالم العلوم : ١٧ / ٢٢٤ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٣٢ ، الملهوف : ٦٤ ، كشف الغمّة : ٢ / ٢٠٢ ، أعيان الشّيعة : ١ / ٥٩٥ ، وقعة الطّفّ : ١٦٦ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٧٨.

١٥٤

اعترضه الحصين بن نمير(١) فأخرج قيس الكتاب وخرّقه ، فحمله الحصين إلى ابن زياد ، فلمّا مثل بين يديه ، قال له : من أنت؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وابنهعليهما‌السلام ، قال : لماذا خرّقت الكتاب؟. قال : لئلّا تعلم ما فيه ، قال : وممّن وإلى من؟ قال : من الحسين بن عليّ إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم ، فغضب ابن زياد ، وقال : والله لا تفارقني حتّى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر وتلعن الحسين بن عليّعليهما‌السلام وأباه وأخاه ، وإلّا قطّعتك إربا إربا.

فاغتنم قيس هذا الفرصة لصعود المنبر ، وقال : أمّا القوم فلا أخبرك بأسمائهم ، وأمّا اللّعن فأفعل ، قال له : اصعد والعن ، فصعد قيس ، وحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النّبيّ ، وأكثر من التّرحم على عليّ ، والحسين ، والحسن ، ولعن عبيد الله بن زياد وأباه ، ولعن عتاة بني أميّة عن آخرهم ، ثمّ قال : أيّها النّاس أنا رسول الحسين إليكم ، قد تركته في مكان كذا ، فأجيبوه ، فأمر ابن زياد بالقائه من أعلى القصر ، فتكسّرت عظامه ، وبقي به رمق ، فأتاه رجل يقال له عبد الملك ابن عمير اللّخمي فذبحه ، فقيل له في ذلك وعيب عليه ، فقال : أردت أن اريحه(٢) .

__________________

(١) كان الحصين على شرطة ابن زياد ، وهو الّذي رمى الكعبة بالمنجنيق لمّا تحصّن فيها ابن الزّبير ، وقتل الحصين في ثورة التّوابين ، قال ابن أبي الحديد : أنّ أبا الحصين هو الّذي سأل أمير المؤمنين عن عدد شعر رأسه حين قال: سلوني قبل أن تفقدوني ، فقال له : وما علاقه الصّدق لو أخبرتك؟ كيف تعد الشّعر ، ولكن اخبرك أنّ تحت كلّ شعرة في رأسك شيطانا يلعنك ، وعلامة ذلك أنّ ولدك سيحمل الرّاية ويخرج لقتال ولدي الحسين ، ولم تمض الأيّام حتّى تحقّق ما قال الإمام. (منهقدس‌سره ).

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٣٩٥ ، إقبال الأعمال : ٣ / ٣٤٥ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٦ و ٧١ ، ـ

١٥٥

هؤلاء أصحاب يزيد ، وابن زياد كلّهم عبد الملك ينبشون الأموات ، ويمثلون بالأبرار ؛ أمّا أصحاب الحسين فكلّهم قيس بن مسهر. أقدم قيس رضوان الله عليه وهو على يقين من قتله والتّمثيل به ، ولكن استخف بالموت ما دام الغرض الأسمى الّذي قصد إليه قد تحقّق ، وهو تبليغ رسالة سيّده الحسين ، وإلقاء الحجّة على أعداء الله.

والسّر الأعظم في أصحاب الحسين أنّهم يطلبون الموت بلهفة المشتاق ، ويودون لو تكرّر قتلهم مرّات ومرّات في سبيل الحسين. وهكذا المؤمنون المنزّهون عن الأغراض ، والمطامع لا يخافون على أنفسهم من القتل ، ولا على أولادهم من اليتم والضّياع ، وإنّما يخشون الله وحده على دينهم وإيمانهم.

__________________

ـ تأريخ الطّبري : ٤ / ٢٦٢ و ٣٠٦ و : ٥ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٢٤١ و ٢٤٥ ، بحار الأنوار : ٤٥ / ٣٣٣ ، و : ٩٨ / ٢٧٣ و ٣٤٠ ، العوالم : ١٨٣ ، شرح الأخبار : ٣ / ٢٤٥ ، المزار للشّهيد الأوّل : ١٥٢ ، المزار للمشهدي : ٤٩٣ ، معجم رجال الحديث : ١٥ / ١٠٣ رقم «٩٦٩٨» ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٤٦ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ٣٧ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٨١ ، الأخبار الطّوال : ٢٢٩.

١٥٦

أولوا العزم

قال الله جلّ وعلا :

( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) (١) .

نصّت هذه الآية على أنّ أولي العزم من الأنبياء خمسة : وهم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد(٢) ، ومعنى أنّهم من أولي العزم أنّ لكلّ منهم شريعة خاصّة ، دعا إليها ، وحثّ على العمل بها ، ولاقى في سبيل ذلك الكثير من المصاعب ، والمتاعب ، ولكنّه صبر وثابر ، بخاصّة محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الّذي قال : «ما أوذي نبّي بمثل ما أوذيت»(٣) ، وأوصاه الله سبحانه بالصّبر كما صبر من كان قبله من أولي العزم ، حيث قال عزّ من قائل :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ

__________________

(١) الأحزاب : ٧.

(٢) انظر ، شرح اصول الكافي : ٧ / ٣٧٥ ، مناقب آل أبي طالب : ١ / ٢٦٠ ، تفسير الميزان : ١٨ / ٢٢١.

(٣) انظر ، صحيح ابن حبّان : ٤ / ٥١٥ ح ٦٥٦٠ ، الأحاديث المختارة : ٥ / ٣٠ ح ١٦٣٣ ، موارد الظّمآن : ١ / ٦٢٦ ح ٢٥٢٨ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٦٤٥ ح ٢٤٧٢ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٥٤ ح ١٥١ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٦ / ٣١٣ ح ٣١٧٠٤ ، مسند البزّار : ٨ / ١٧٦ ح ٣٢٠٥ ، مسند أحمد : ٣ / ١٢٠ ح ١٢٣٣ ، مسند أبي يعلى : ٦ / ١٤٥ ح ٣٤٢٣ ، صفوة الصّفوة : ١ / ٤٣٨ ، سير أعلام النّبلاء : ٢١ / ١٨٩.

١٥٧

مِنَ الرُّسُلِ ) (١) .

أجل ، ما أوذي نبي بمثل ما أوذي به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ولده الحسينعليه‌السلام قد أصابه في سبيل الإسلام يوم كربلاء أشدّ وأعظم ممّا أصاب جدّه الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصبر صبر الأنبياء والرّسل ، أمر أهله وأصحابه بالصّبر ، فمن أقواله يوم الطّفّ :

«صبرا بني الكرام ، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس ، والضّرّاء إلى الجنان الواسعة ، والنّعيم الدّائم ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ، وما هو لأعدائكم إلّا كما ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، أنّ أبي حدّثني عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الدّنيا سجن المؤمن ، وجنّة الكافر»(٢) ، والموت جسر هؤلاء إلى جنّاتهم ، وجسر هؤلاء إلى جهنّمهم ، ما كذبت ولا كذّبت»(٣) .

وقال وهو يودّع عياله :

«استعدوا للبلاء ، واعلموا أنّ الله حاميكم وحافظكم ، وسينجيكم من شرّ الأعداء ، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذّب عدوّكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النّعم والكرامه ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم»(٤) .

لقد تحمّل من ارزائها محنا

لم يحتملها نبيّ أو وصيّ نبيّ

__________________

(١) الأحقاف : ٣٥.

(٢) انظر ، صحيح مسلم : ٨ / ٢١٠ ، مسند أحمد : ٢ / ٣٢٣ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٣٨٥ ح ٢٤٢٦ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٤٦٢ ح ٦٨٧.

(٣) انظر ، تحف العقول : ٥٣ ، معاني الأخبار : ٢٨٩ ح ٣.

(٤) انظر ، جلاء العيون ، للمجلسي : ١٥٦.

١٥٨

وأنّ أعظم ما لاقاه محتسبا

عند الإله فسامى كلّ محتسب

حمل الفواطم أسرى للشّام على

عجف النّياق تقاسي نهشة القتب

وما رأت أنبياء الله من محن

وأوصياؤهم في سالف للحقب

كمحنة السّيّد السّجّاد حين أتت

يزيد نسوته أسرى على النّجب

أمامها رفعت فوق الأسنّة من

حماتها أرؤس فاقت سنى الشّهب

١٥٩
١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الأولى؟

فقال: لما قال ـ عزّ وجلّ:( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ) وهي بيت المقدّس،( إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) ، إلّا لنعلم ذلك منه وجودا، بعد أن علّمناه، سيوجد ذلك إنّ هوى أهل مكّة كان في الكعبة. فأراد الله أن يبيّن متّبع محمّد، فمن خالفه باتّباع القبلة الّتي كرهها. ومحمّد يأمر بها. ولمّا كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس، أمره بمخالفتها والتّوجّه إلى الكعبة، ليبيّن من يوافق محمّد فيما يكرهه فهو يصدّقه ويوافقه. ثمّ قال:( وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) إنّما كان التّوجّه إلى بيت المقدس في ذلك الوقت، كبيرة إلّا على من يهدي الله. نعرف أنّ الله يتعبّد بخلاف ما يريده المرء، ليبتلي طاعته في مخالفة هواه.

والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة].(١) ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) ، أي: صلاتكم.

روى العيّاشيّ(٢) ، عن الصّادق ـ عليه السّلام ـ أنّه سئل عن الإيمان، أقول هو وعمل؟ أم قول بلا عمل؟

فقال: الإيمان عمل كلّه، والقول بعض ذلك العمل المفترض من الله، مبيّن في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجّته، يشهد لها الكتاب. ويدعو إليه. ولمّا أن صرف نبيّه إلى الكعبة، عن بيت المقدس، قال المسلمون للنبيّ ـ صلّى الله عليه وآله: أرأيت صلاتنا الّتي كنّا نصلّي إلى بيت المقدس، ما حالنا فيها وحال من مضى من أمواتنا؟ وهم يصلّون إلى بيت المقدس.

فأنزل الله:( وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) . فسمّى الصّلاة إيمانا. فمن لقى الله حافظا لجوارحه، موقنا(٣) كلّ جارحة من جوارحه ما فرض الله عليه لقى الله مستكملا لإيمانه. وهو(٤) من أهل الجنّة. ومن خان في شيء منها وتعدّى ما أمر الله فيها، لقى الله ناقص الإيمان.

وقرئ ليضيّع (بالتّشديد).

( إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ ) : لا يضيع أجورهم.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٢) تفسير العياشي ١ / ٦٣.

(٣) المصدر: موفيا. وهو الظاهر.

(٤) ليس في المصدر.

١٨١

( رَحِيمٌ ) (١٤٣): لا يترك ما يصلحهم.

[وفي تهذيب الأحكام(١) : عنه عن وهب(٢) ، عن أبي بصير، عن أحدهما ـ عليهما السّلام ـ في قوله( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ، مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) . فقلت له: الله أمره أن يصلّي إلى بيت المقدس؟

قال: نعم ألا ترى أن الله يقول:( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) ؟

قال: إنّ بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصّلاة وقد صلّوا ركعتين إلى بيت المقدس. فقيل لهم: «إنّ نبيّكم قد صرف إلى الكعبة.» فتحوّل النّساء مكان الرّجال والرّجال مكان النّساء. وصلّوا الرّكعتين الباقيتين إلى الكعبة. فصلّوا صلاة واحدة إلى قبلتين. فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين.

وفي أصول الكافي(٣) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح عن القسم بن يزيد. قال: حدّثنا أبو عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام. وذكر حديثا طويلا يقول فيه ـ عليه السّلام ـ بعد أن قال: إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ فرض الإيمان على جوارح ابن آدم. وقسّمه عليها. وفرّقه فيها. وقال فيما فرض على الجوارح من الطّهور والصّلاة بها. وذلك أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ لـمّا صرف نبيّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ إلى الكعبة عن بيت المقدس، فأنزل الله ـ عزّ وجلّ:( وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ. إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) . فسمّى الصّلاة، إيمانا](٤)

( قَدْ نَرى ) : ربّما وأصل الرّؤية، إدراك الشيء بالبصر. ويستعمل بمعنى العلم.

( تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) : تردّده تطلّعا على الوحي، في موضعي مفعولي نرى، أو مفعولاه أو هو ممّا لمفعول واحد.

وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقع في روعه ويتوقّع من ربّه أن يحوّله

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ / ٤٣، ح ١٣٨.

(٢) المصدر: وهيب.

(٣) الكافي ٢ / ٣٤ ـ ٣٧، ح ١.

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

١٨٢

إلى الكعبة، قبلة إبراهيم ـ عليه السّلام ـ وأقدم القبلتين. وأدعى للعرب إلى الإيمان ولمخالفته اليهود. وذلك يدلّ على كمال أدبه، حيث انتظر ولم يسأل.

( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً ) : فلنمكّننّك من استقبالها، من قولك: ولّيته كذا، إذا صيّرته واليا له، أو فلنحوّلنّك تلى(١) جهتها.

( تَرْضاها ) : تحبّها. وتتشوّق إليها، لمقاصد دينيّه، وافقت مشيئة الله تعالى وحكمه.

والرّضا والمحبّة، نظيران. ويظهر الفرق بأنّ ضدّ المحبّة، البغض. وضدّ الرّضا، السّخط.

( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) ، أي: نحوه.

قال الشّاعر(٢) :

وقد أظلّكم من شطر ثغركم

هول له ظلم يغشاكم قطعا

أي: من نحو ثغركم وتلقاءه.

وقيل(٣) . جانبه. لأنّ الشّطر في الأصل، لما انفصل عن الشيء من شطر، إذا انفصل. ودار شطوره(٤) : أي: منفصلة عن الدّور. ثمّ استعمل جانبه وإن لم ينفصل كالقطر.

وقيل(٥) : شطر الشيء(٦) ، نصفه من شطرت الشيء، جعلته نصفين.

والحرام: المحرّم، كالكتاب، بمعنى المكتوب والحساب، بمعنى المحسوب، أي: محرّم فيه القتال، أو ممنوع من الظّلم أن يتعرّضوه.

وذكر المسجد دون الكعبة، لأنّ البعيد يكفيه مراعاة الجهة، بخلاف القريب.

والنّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ كان حينئذ في المدينة، بعد أن صلّى إلى بيت المقدس ستّة عشر شهرا. ثمّ وجّه إلى الكعبة، في رجب، بعد الزّوال، قبل قتال بدر، بشهرين، وقد صلّى بأصحابه في مسجد بني سلمة، ركعتين من الظّهر. فتحول في الصّلاة. واستقبل الميزاب. وتبادل الرّجال والنّساء صفوفهم. فسمى المسجد، مسجد القبلتين.

( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ ) في الأرض، في بر، أو بحر، أو سهل، أو جبل، في بيت المقدس ،

__________________

(١) أ: إلى. ر: يلي.

(٢) مجمع البيان ١ / ٢٢٦.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٨٨.

(٤) المصدر: شطور.

(٥) مجمع البيان ١ / ٢٢٦.

(٦) المصدر: شطر كلّ شيء.

١٨٣

وفي غيره.

( فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) :

تخصيص الخطاب بالنّبيّ، أوّلا، وتعميمه، ثانيا، لتعظيمه ـ عليه السّلام ـ والتّصريح بعموم الحكم.

وفيه تأكيد لأمر القبلة، وتخصيص للامة على المتابعة، وسلوك طريق الاستدراج، رفق بالمأمورين.

[وفي الكافي(١) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (ع) قال: إذا استقبلت القبلة بوجهك، فلا تقلّب وجهك عن القبلة، فتفسد صلاتك. فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ قال لنبيّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ في الفريضة:( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) .

وفي من لا يحضره الفقيه(٢) : وصلّى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إلى البيت المقدّس، بعد النّبوّة، ثلاث عشرة سنة بمكّة وتسعة عشر شهرا بالمدينة. ثمّ عيّرته اليهود.

فقالوا له: إنّك مانع لقبلتنا.

فاغتم لذلك غمّا شديدا. فلمّا كان في بعض اللّيل، يخرج ـ عليه السّلام ـ يقلّب وجهه في آفاق السّماء. فلمّا أصبح صلّى الغداة. فلمّا صلّى من الظّهر، ركعتين، جاء جبرئيل ـ عليه السّلام ـ فقال له:( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) . (الآية) ثمّ أخذ بيد النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فحوّل وجهه إلى الكعبة. وحوّل من خلفه وجوههم، حتّى قام الرّجال مقام النّساء والنّساء مقام الرّجال. فكان آخر صلاته إلى بيت المقدس(٣) . وبلغ الخبر مسجدا بالمدينة، وقد صلّى أهله من العصر، ركعتين. فحوّلوا نحو القبلة. فكانت آخر صلاتهم إلى بيت المقدس وأوّلها إلى الكعبة(٤) . فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين.

فقال المسلمون: صلاتنا إلى بيت المقدس تضيع، يا رسول الله؟

فأنزل الله ـ عزّ وجلّ:( وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) ، يعني: صلاتكم إلى

__________________

(١) الكافي ٣ / ٣٠٠، ح ٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٧٨، ح ٨٤٣.

(٣) المصدر: فكان أول صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة.

(٤) المصدر: فكانت أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة.

١٨٤

بيت المقدس ـ وقد أخرجت الخبر في ذلك على وجهه، في كتاب النّبوّة.

وروى زرارة(١) ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ أنّه قال: لا صلاة إلّا إلى القبلة.

قال: قلت: أين حدّ القبلة؟

قال: ما بين المشرق والمغرب، قبلة كلّه.

قال: قلت: فمن صلّى لغير القبلة، أو في يوم غيم في غير الوقت؟

قال: يعيد.

قال: في حديث آخر ذكره له(٢) : ثمّ استقبل بوجهك إلى القبلة. ولا تقلّب وجهك عن القبلة. وذكر كما نقلنا عن الكافي](٣)

( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) : علماء اليهود. وقيل: هم والنصارى.(٤) ( لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ) ، أي: التّحويل، أو التّوجيه،( الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) . لأنّه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبيّ في صفاته كذا وكذا وكان في صفاته، أنّه يصلي إلى القبلتين.

( وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) (١٤٤): وعد للمطيعين ووعيد لغيرهم.

وقرئ بالتاء.

قال ابن عبّاس(٥) : أوّل ما نسخ من القرآن، فيما ذكر لنا، من شأن القبلة.

وقال قتادة(٦) : نسخت هذه الآية ما قبلها.

والأقوى أنّه ممّا نسخ السّنّة بالقرآن. كما قاله جعفر بن مبشر(٧) . لأنّه ليس في القرآن ما يدلّ على التّعبّد بالتّوجّه إلى بيت المقدس.

ومن قال(٨) : إنّها نسخت قوله( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ففيه أنّ هذه الآية عندنا مخصوصة بالنّوافل في حال السّفر. روى ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما السّلام(٩) .

وليست منسوخة.

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٤) ر. مجمع البيان ١ / ٢٢٧.

(٥) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٦) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٧) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٨) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٩) ر: تفسير العياشي ١ / ٥٦ ـ ٥٧، ح ٨٠ ـ ٨٢.

١٨٥

واختلف في صلاة النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ إلى بيت المقدس: فقال قوم: كانت صلاته ـ عليه السّلام ـ بمكّة إلى الكعبة. فلمّا هاجر إلى المدينة، أمر بالصّلاة إليه. ثمّ حوّل إلى الكعبة ـ أيضا.

وقال آخرون: كانت صلاته بمكّة ـ أيضا ـ إلى بيت المقدس. إلّا أنّه يجعل الكعبة بينه وبينها. ولا يصلّي في مكان لا يمكن هذا فيه.

وقال آخرون: كان يصلّي بمكّة وبعد قدومه المدينة، إلى بيت المقدس. ولم يكن عليه أن يجعل الكعبة بينه وبينهما، ثمّ أمر بالتّوجّه إلى الكعبة(١) ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ ) : الّلام موطّئة للقسم، أي: والله.

( الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) من علماء اليهود والنّصارى. وقيل(٢) : جميع أهل الكتاب.

( بِكُلِّ آيَةٍ ) برهان وحجّة على أنّ الكعبة قبلة،( ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) : جواب القسم المضمر. سادّ مسدّ الشّرط. سواء قدّر القسم مقدّما على الشّرط، فتعيّن كون الجواب له. ولا يصحّ جعله جزاء للشّرط أو مؤخّرا عنه فيسوغ الأمران بقرينة ترك الفاء. وهو لازم في الماضي المنفيّ. وفيه من القطع بعدم المتابعة، ما ليس في جعله جزاء للشرط وإن أكّد بالقسم.

والمعنى: ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها(٣) بحجّة. وإنّما خالفوك عنادا.

( وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ) : قطع لطمّعهم. فإنّهم قالوا: لو ثبت على قبلتنا، لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره تغريرا له وطمعا في رجوعه وقبلتهم وإن تعدّدت، لكنّها تتّحد بالاتصاف بالبطلان ومخالفة الحقّ، أو(٤) الافراد للاشعار بأنّ الرّسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ لو تبع، لا يمكن له المتابعة إلّا لواحد.

( وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) :

فانّ اليهود يستقبل بيت المقدس والنّصارى مطلع الشّمس. لا يرجى توافقهم، لتصلّب كلّ حزب فيما هو. وفيه تسلية للرّسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ بأنّ عنادهم لا يخصّه، وردّ لاعتلالهم، لأنّه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب فيما ورثوه عن أنبياء الله، وأنّ

__________________

(١) ر: الكشاف ١ / ٢٢٠+ مجمع البيان ١ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٢) مجمع البيان ١ / ٢٢٨.

(٣) أ: لشبهته تنزيلها.

(٤) ر: و.

١٨٦

بيت المقدس لم يزل كان قبلة الأنبياء، فهو أولى بأن يكون قبلة، أي: فكما جاز أن يخالف بين جهتيهم للاستصلاح، [جاز أن يخالف بجهة ثالثة في زمان آخر للاستصلاح].(١) ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ) على سبيل الفرض والتّقدير.

( إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) (١٤٥): أكّد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه، تعظيما للحقّ المعلوم، وتحريضا على اقتفائه، وتحذيرا عن متابعة الهوى، وتأكيدا للاجتناب عنه.

( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ) ، يعني: علماءهم.

( يَعْرِفُونَهُ ) :

قيل(٢) : الضّمير لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ، أو للعلم، أو القرآن، أو التّحويل.

( كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) ، أي: يعرفون بأوصافه، كمعرفة أبنائهم. لا يلتبسون عليهم بغيرهم.

وفي أصول الكافي(٣) : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه رفعه، عن محمّد بن داود الغنويّ، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ في حديث طويل. فيه يقول ـ عليه السّلام: فأمّا أصحاب المشئمة، فهم اليهود والنّصارى.

يقول الله ـ عزّ وجلّ:( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) . يعرفون محمّدا والولاية في التوراة والإنجيل، كما يعرفونه أبناءهم في منازلهم.( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) أنّك الرّسول إليهم.( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) .

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٤) : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن حريز، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام. قال: نزلت هذه الآية في اليهود والنّصارى يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ ) ، يعني: رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ( كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) . لأنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ [قد](٥) أنزل عليهم في التوراة

__________________

(١) ليس في ر.

(٢) ر. أنوار التنزيل ١ / ٨٩.

(٣) الكافي ٢ / ٢٨٣، ح ١٦.

(٤) تفسير القمي ١ / ٣٢ ـ ٣٣.

(٥) يوجد في المصدر.

١٨٧

والإنجيل والزّبور، صفة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ وصفة أصحابه ومبعثه ومهاجرته(١) .

وهو قوله تعالى(٢) :( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) . تراهم ركعا سجّدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا. سيماهم في وجوههم من أثر السّجود. ذلك مثلهم في التّوراة ومثلهم في الإنجيل» فهذه صفة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في التوراة والإنجيل وصفة أصحابه، فلمّا بعثه الله ـ عزّ وجلّ ـ عرفه أهل الكتاب، كما قال ـ جلّ جلاله(٣) :( فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا، كَفَرُوا بِهِ ) .

( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (١٤٦): تخصيص لمن عاند.

واستثناء لمن آمن.

( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) : كلام مستأنف.

و «الحقّ» إمّا مبتدأ، خبره «من ربّك»، والّلام للعهد، والإشارة إلى ما عليه الرّسول ـ صلّى الله عليه وآله.

أو «الحقّ» الّذي يكتمونه، أو للجنس، والمعنى: أنّ الحقّ ما ثبت أنّه من الله تعالى، كالّذي أنت عليه، لا ما لم يثبت، كالّذي عليه أهل الكتاب.

وإمّا خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق ومن ربّك، حال، أو خبر بعد خبر.

وقرئ بالنّصب، على أنّه بدل من الأوّل، أو مفعول يعلمون.

( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) (١٤٧)، أي: الشّاكّين في أنّه من ربّك، أو في كتمانهم الحقّ عالمين به.

والمراد إمّا تحقيق الأمر، وأنّه بحيث لا يشك فيه ناظر، أوامر الأمّة باكتساب المعارف المزيحة للشّكّ على الوجه الأبلغ. وإلّا فالشّكّ غير متوقّع من الرّسول ـ صلّى الله عليه وآله. ولا يكون بقصد واختيار في غيره.

( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ ) ، أي: ولكلّ أمّة قبلة، أو لكلّ قوم جهة وجانب من الكعبة.

والتّنوين بدل الإضافة.

( هُوَ مُوَلِّيها ) : أحد المعفولين محذوف، أي: هو مولّيها وجهه، أو الله تعالى مولّيها وجهه.

__________________

(١) المصدر: هجرته.

(٢) الفتح / ٢٩.

(٣) البقرة / ٨٩.

١٨٨

وقرئ «لكلّ وجهة» (بالإضافة).

والمعنى: وكلّ وجهة الله تعالى مولّيها أهلها.

والّلام مزيدة للتّأكيد، جبر الضّعف العامل.

وقرأ ابن عامر «مولّا»، هو مولّا تلك الجهة قد وليها.

( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) من أمر القبلة وغيره، ممّا يوجب السّعادة. وأعظمها الولاية.

بل ينحصر فيها. كما يأتي في الخبر.

( أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ) ، أي: يجمعكم للحساب، أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلة، يجعل صلاتكم كأنّها إلى جهة واحدة، أو الخطاب لأصحاب القائم ـ عليه السّلام ـ على ما رواه أبو جعفر محمّد بن بابويه ـ رحمه الله ـ في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة(١) ، بإسناده إلى سهل بن زياد، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنيّ.

قال: قلت لمحمّد بن عليّ بن موسى ـ عليهم السّلام. إنّي لأرجو أن تكون(٢) القائم من أهل بيت محمّد الّذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما(٣) فقال ـ عليه السّلام ـ يا أبا القاسم ما منّا الا وهو قائم بأمر الله عزّ وجلّ وهاد إلى دين الله. ولكن القائم الذي يطهّر الله ـ عزّ وجلّ ـ به الأرض من اهل الكفر والجحود ويملؤها عدلا وقسطا، هو الّذي تخفى على النّاس ولادته ويغيب عنهم شخصه ويحرم عليهم تسميته. وهو سمي رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وكنيّه. وهو الّذي تطوى له الأرض ويذلّ به كلّ صعب.

يجتمع إليه أصحابه(٤) عدّة أهل بدر، ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من أقاصي الأرض. ذلك(٥) قول الله ـ عزّ وجلّ:( أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً. إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره.

فإن أكمل له العقد وهو عشرة آلاف رجل، خرج بإذن الله ـ عزّ وجلّ. فلا يزال يقتل أعداء الله، حتّى يرضى الله تعالى.

قال عبد العظيم: فقلت له: يا سيّدي! كيف يعلم أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ قد رضى؟

قال: يلقي في قلبه الرّحمة. فإذا دخل المدينة، أخرج الّلات والعزّى. فأحرقهما.

__________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة ٢ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨، ح ٢.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ: يكون.

(٣) ر: ظلما وجورا.

(٤) المصدر: ويجتمع إليه من أصحابه. (٥) المصدر: وذلك.

١٨٩

وبإسناده(١) إلى أبي خالد الكابليّ، عن سيّد العابدين، عليّ بن الحسين ـ عليهما السّلام. قال: المفقودون عن فرشهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، عدّة أهل بدر.

فيصبحون بمكّة. وهو قول الله ـ عزّ وجلّ:( أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ) . وهم أصحاب القائم ـ عليه السّلام.

وبإسناده(٢) إلى محمّد بن سنان، عن المفضّل بن عمر. قال: قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام: لقد نزلت هذه الآية، في المفتقدين من أصحاب القائم ـ عليه السّلام ـ قوله ـ عزّ وجلّ:( أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ) . إنّهم ليفتقدون من(٣) فرشهم(٤) ليلا.

فيصبحون بمكّة. وبعضهم يسير في السّحاب. يعرف اسمه(٥) واسم أبيه وحليته ونسبه.

قال: فقلت: جعلت فداك! أيّهم أعظم إيمانا؟

قال: الّذي يسير في السّحاب نهارا.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٦) : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس(٧) ، عن أبي خالد الكابليّ. قال: قال أبو جعفر ـ عليه السّلام. والله لكأنّي أنظر إلى القائم وقد أسند ظهره إلى الحجر، ثمّ ينشد(٨) حقّه.

(إلى أن قال) هو والله المضطرّ في كتاب الله، في قوله:( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ) . فيكون أوّل من يبايعه جبرئيل، ثمّ الثلاثمائة والثلاثة عشر رجلا. فمن كان ابتلي بالمسير [وافى. ومن لم يبتل بالمسير](٩) فقد عن فراشه. وهو قول أمير المؤمنين ـ عليه السّلام: «هم المفقودون عن فرشهم.» وذلك قول الله ـ عزّ وجلّ:( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ) قال: الخيرات: الولاية.

[وفي روضة الكافي(١٠) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن إسماعيل بن جابر عن أبي خالد، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قول

__________________

(١) نفس المصدر ٢ / ٦٥٤، ح ٢١.

(٢) نفس المصدر ٢ / ٦٧٢، ح ٢٤.

(٣) المصدر: عن. وهو الظاهر.

(٤) أ: المفتقدون عن عرشهم.

(٥) المصدر: باسمه. وهو الظاهر.

(٦) تفسير القمي ٢ / ٢٠٥.

(٧) ر: يونس بن مالك.

(٨) المصدر: ينشد الله.

(٩) ليس في ر. (١٠) الكافي ٨ / ٣١٣، ح ٤٨٧.

١٩٠

الله ـ عزّ وجلّ ـ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ) قال: الخيرات: الولاية. وقوله ـ تبارك وتعالى ـ( أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ) ، يعني: أصحاب القائم، الثّلاثمائة والبضعة عشر رجلا.

قال: وهم، والله! الأمة المعدودة.

قال: يجتمعون، والله! في ساعة واحدة. قزع كقزع الخريف.

وفي مجمع البيان(١) : قال الرّضا ـ عليه السّلام: وذلك، والله! أن لو قام قائمنا، يجمع الله إليه جميع شيعتنا، من جميع البلدان.

وفي شرح الآيات الباهرة :](٢) وذكر الشّيخ المفيد، في كتاب الغيبة(٣) ، بإسناده، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام. أنّه قال: المعنى بهذا الخطاب، أصحاب القائم ـ عليه السّلام.

قال بعد ذكر علامات ظهوره: ثمّ يجمع الله له(٤) أصحابه وهم ثلاثمائة وثلاثة رجلا، عدّة أهل بدر. يجمعهم الله له على غير ميعاد. قزعا كقزع الخريف. وهي، يا جابر! الآية الّتي ذكرها الله في كتابه:( أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ) . [إن الله على كلّ شيء قدير](٥) ».

( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١٤٨): فيقدر على الإماتة والإحياء والجمع.

( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ) للسّفر.

( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) إذا صلّيت.

( وَإِنَّهُ ) ، اي: هذا الامر،( لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (١٤٩): وقرأ أبو عمرو بالياء.

( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) :

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٢٣١.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٣) بل غيبة النعماني / ٢٨٢ وكذلك عنه في البحار ٥٢ / ٢٣٩، ضمن ح ١٠٥+ تفسير البرهان ١ / ١٦٢، ح ٤. ولم نجده في غيبة المفيد. وقد ورد في البحار ٥١ / ١٣٩، ح ١٣، هكذا: غيبة النعماني: روى الشيخ المفيد في كتاب الغيبة عن

(٤) المصدر: فيجمع الله عليه.

(٥) يوجد في المصدر.

١٩١

تكرير هذا الحكم، لتعدّد علله. فإنّه ذكر للتّحويل، ثلاث علل: تعظيم الرّسول بابتغاء مرضاته، وجري العادة الإلهيّة على أن يولّي كلّ صاحب دعوة جهة يستقبلها، ودفع حجج المخالفين. وقرن بكلّ علّة معلولها. كما يقرن المدلول بكلّ واحد من دلائله، تقريرا وللتّأكيد. لأنّ القبلة لها شأن. والنسخ من مظانّ الفتنة.

( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ) : علّة لولّوا.

والمعنى: أنّ التّولية عن الصّخرة إلى الكعبة، تدفع احتجاج اليهود بأنّ المنعوت في التوراة، قبلة الكعبة والمشركين بأنّه يدّعي ملّة إبراهيم ويخالف قبلته.

( إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا ) : استثناء من «النّاس»، أي: لا يكون لأحد حجّة إلّا للمعاندين.

( مِنْهُمْ ) : فإنّهم يقولون: ما تحوّل إلى الكعبة إلّا ميلا إلى دين قومه وحبّا لبلده.

وبدا له. فرجع إلى قبلة آبائه. ويوشك إلى دينهم أن يرجع. وسمّى هذه حجّة. لأنّهم يسوقونها مساقها. كقوله تعالى(١) :( حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ ) .

قيل(٢) : الحجّة بمعنى الاحتجاج.

وقيل(٣) : الاستثناء للمبالغة في نفي الحجّة، رأسا، كقوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفيهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

للعلم بأنّ الظالم لا حجّة له. وقرئ(٤) : «ألا الّذين ظلموا منهم»، على أنّه استيناف بحرف التّنبيه.

( فَلا تَخْشَوْهُمْ ) فإنّ مطاعنهم لا تضرّكم.

( وَاخْشَوْنِي ) : ولا تخالفوني في ما أمرتكم به.

( وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (١٥٠) :

إمّا علّة لمحذوف، أي: أمرتكم لإتمام نعمتي عليكم وإرادتي اهتداءكم، أو معطوف على علّة مقدّرة، أي: اخشوني لأحفظكم عنهم ولأتمّ نعمتي عليكم، أو على لئلّا يكون.

( كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ )

__________________

(١) الشورى / ١٦.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٩٠.

(٣) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٤) نفس المصدر ونفس الموضع.

١٩٢

إمّا متّصل بما قبله، أي: ولأتمّ نعمتي عليكم في أمر القبلة، أو في الآخرة، كما أتممّها بإرسال الرّسل، أو بما بعده، أي: كما ذكرتكم بالإرسال. فاذكروني.

( يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ ) : يحملكم على ما به تصيرون أزكياء.

( وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (١٥١) بالفكر والنّظر. ولا طريق له سوى الوحي.

وتكرير الفعل للدّلالة على أنّه جنس آخر.

( فَاذْكُرُونِي ) بالطّاعة.

( أَذْكُرْكُمْ ) بالثّواب.

( وَاشْكُرُوا لِي ) ما أنعمت به عليكم.

( وَلا تَكْفُرُونِ ) (١٥٢) بجحد النّعم وعصيان الأمر.

وفي كتاب معاني الأخبار(١) ، بإسناده إلى أبي الصّباح بن نعيم العابديّ(٢) ، عن محمّد بن مسلم. قال ـ في حديث طويل يقول في آخره: تسبيح فاطمة الزّهراء، من ذكر الله الكثير الّذي قال الله ـ عزّ وجلّ ـ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) .

وفي أصول الكافي(٣) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القسم(٤) بن يزيد، عن أبي عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام. قال ـ في حديث طويل :

الوجه الثّالث من الكفر، كفر النّعم. قال:( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ. وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) .

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٥) : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قوله(٦) ( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) يقول: ذكر الله لأهل الصّلاة، أكبر من ذكرهم إيّاه. ألا ترى أنّه يقول( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) ؟

وفي روضة الكافي(٧) ، بإسناده إلى أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ حديث طويل.

__________________

(١) معاني الأخبار / ١٩٤، ذيل ح ٥.

(٢) المصدر: العائذيّ.

(٣) الكافي ٢ / ٣٩١، ح ١.

(٤) أور: القاسم.

(٥) تفسير القمي ٢ / ١٥٠.

(٦) العنكبوت / ٤٥.

(٧) الكافي ٨ / ٧، ح ١.

١٩٣

يقول فيه ـ عليه السّلام: والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين. واعلموا أنّ الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين، إلّا ذكره بخير. فأعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته.

وفي مجمع البيان(١) : وروي عن أبي جعفر الباقر ـ عليه السّلام. قال: قال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله: إنّ الملك ينزل الصّحيفة من أوّل النّهار وأوّل اللّيل. يكتب فيها عمل ابن آدم. فاملوا في أوّلها خيرا وفي آخرها. فإنّ الله يغفر لكم ما بين ذلك ـ إن شاء الله. فإنّه يقول:( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) .

وفي كتاب الخصال(٢) ، فيما أوصى به النّبيّ، عليا ـ عليه السّلام: ثلاث لا تطيقها هذه الأمّة: المواساة للأخ في ماله، وانصاف النّاس من نفسه، وذكره الله على كلّ حال. وليس هو «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر.» ولكن إذا ورد على ما يحرّم الله عليه، خاف الله عنده وتركه.

وعن أبي حمزة الثّماليّ(٣) . قال: سمعت أبا جعفر ـ عليه السّلام ـ يقول: بلاء وقضاء ونعمة. فعليه في البلاء من الله الصّبر، فريضة. وعليه في القضاء من الله التّسليم، فريضة. وعليه في النّعمة من الله الشّكر، فريضة.

وعن أبي حمزة الثّماليّ،(٤) عن عليّ بن الحسين ـ عليهما السّلام: ومن قال الحمد لله، فقد أدّى شكر كلّ نعم الله تعالى.

وفيما علّم أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ أصحابه(٥) : اذكروا الله في كلّ مكان. فإنّه معكم.

وعن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ في حديث(٦) : وشكر كلّ نعمة، الورع عمّا حرّم الله تعالى.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ) عن المعاصي وحظوظ النّفس.

( وَالصَّلاةِ ) الّتي هي عماد الدّين.

( إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (١٥٣) بالنّصرة وإجابة الدّعوة.

وفي مصباح الشّريعة(٧) : قال الصّادق ـ عليه السّلام ـ في كلام طويل: ومن

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٢٣٤.

(٢) الخصال ١ / ١٢٥.

(٣) نفس المصدر ١ / ٨٦، ح ١٧.

(٤) الخصال ١ / ٢٩٩، ح ٧٢.

(٥) نفس المصدر ٢ / ٦١٣، ضمن ح أربعمائة.

(٦) نفس المصدر ١ / ١٤، ح ٥٠.

(٧) شرح فارسى لمصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة / ٥٠٢ ـ ٥٠٣.

١٩٤

استقبل البلايا(١) بالرّحب، وصبر على سكينة ووقار، فهو من الخاصّ. ونصيبه ما قال الله ـ عزّ وجلّ:( إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .

وفي تفسير العيّاشيّ(٢) : عن الفضيل، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام. قال: قال: يا فضيل! بلّغ من لقيت من موالينا عنّا السّلام. وقل لهم: إنّي أقول إنّي لا أغني عنكم من الله شيئا إلّا بورع. فاحفظوا ألسنتكم. وكفّوا أيديكم. وعليكم بالصّبر والصّلاة.( إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .

( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ ) ، أي: هم أموات.

( بَلْ أَحْياءٌ ) ، أي: بل هم أحياء.

( وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) (١٥٤) ما حالهم.

والآية نزلت في شهداء بدر، كانوا أربعة عشر.

وفي مجمع البيان(٣) : بل أحياء. قيل فيه أقوال: الرّابع ـ أنّ المراد، أحياء لما نالوا من جميل الذّكر والثّناء، كما روي عن أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ من قوله: هلك خزّان الأموال. والعلماء باقون ما بقي الدّهر.

أعيانهم مفقودة. وآثارهم في القلوب موجودة.

وفيه(٤) : روى الشّيخ أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام، مستندا إلى عليّ بن مهزيار، عن القاسم بن محمّد، عن الحسين بن أحمد، عن يونس بن ظبيان. قال: كنت عند أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ جالسا. فقال: ما يقول النّاس في أرواح المؤمنين؟

قلت: يقولون تكون في حواصل طيور خضر، في قناديل تحت العرش.

فقال أبو عبد الله ـ عليه السّلام: سبحان الله! المؤمن أكرم على الله من(٥) أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر. يا يونس! المؤمن إذا قبضه الله تعالى، صيّر روحه في قالب

__________________

(١) المصدر: البلاء.

(٢) تفسير العياشي ١ / ٦٨، ح ١٢٣.

(٣) مجمع البيان ١ / ٢٣٦.

(٤) نفس المصدر ١ / ٢٣٦+ تهذيب الأحكام ١ / ٤٦٦، ح ١٧١.

(٥) المصدر: من ذلك.

١٩٥

كقالبه في الدّنيا. فيأكلون ويشربون. فإذا قدم عليهم القادم، عرفوه بتلك الصّورة الّتي كانت في الدّنيا.

وعنه(١) ، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن أبي بصير. قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن أرواح المؤمنين. فقال: في الجنّة على صور أبدانهم. لو رأيته لقلت فلان.

وفي حديث(٢) : أنّه يفسح له مدّ بصره. ويقال له: نم، نومة العروس.

( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ) ، أي: ولنصيبنكم إصابة من يختبر لأحوالكم، هل تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء؟

( بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ) ، أي: بقليل من ذلك بالقياس إلى ما وقاهم عنه، أو بالنّسبة إلى ما يصيب معانديهم في الآخرة والإخبار به قبل الوقوع للتّوطين.

( وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ ) :

عطف على «شيء» أو «الخوف»

وفي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة(٣) ، بإسناده إلى محمّد بن مسلم. قال: سمعت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ يقول: إنّ لقيام(٤) القائم ـ عليه السّلام ـ علامات تكون من الله ـ عزّ وجلّ ـ للمؤمنين.

قلت: فما هي؟ جعلني الله فداك.

قال: ذلك قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ) ، يعني: المؤمنين قبل خروج القائم ـ عليه السّلام ـ( بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) .

قال:( لَنَبْلُوَنَّكُمْ ) (٥) ( بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ) من ملوك بني فلان، في آخر سلطانهم.

«والجوع» بغلاء أسعارهم.( وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ ) قال: كساد(٦) التّجارات وقلّة الفضل.

ونقص من الأنفس قال: موت ذريع. ونقص من الثمرات لقلّة(٧) ريع ما يزرع.

__________________

(١) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٢) مجمع البيان ١ / ٢٣٦.

(٣) كمال الدين وتمام النعمة ٢ / ٦٤٩ ـ ٦٥٠، ح ٠٣

(٤) المصدر: قدّام.

(٥) المصدر: يبلوهم.

(٦) أ: فساد.

(٧) المصدر: قال قلة. (ظ.)

١٩٦

( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) عند ذلك بتعجيل خروج القائم ـ عليه السّلام.

[ثمّ](١) قال لي: يا محمّد! هذا تأويله. إنّ الله ـ عزّ وجلّ. ـ يقول(٢) :( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) .

وفي تفسير العيّاشيّ(٣) : عن الثّماليّ، قال: سألت أبا جعفر ـ عليه السّلام ـ عن قول الله ـ عزّ وجلّ ـ( لَنَبْلُوَنَّكُمْ ) (٤) ( بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ) قال: ذلك جوع خاصّ وجوع عامّ. فأمّا بالشّام، فإنّه عامّ. وأمّا الخاصّ، بالكوفة. يخصّ. ولا يعمّ. ولكنّه يخصّ بالكوفة، أعداء آل محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فيهلكهم الله بالجوع. وأمّا الخوف فإنّه عامّ بالشّام. وذلك الخوف إذا قام القائم ـ عليه السّلام. وأمّا الجوع فقبل قيام القائم ـ عليه السّلام. وذلك قوله:( لَنَبْلُوَنَّكُمْ ) (٥) ( بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ) وفي كتاب علل الشرائع، بإسناده إلى سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام. قال: إنّ في كتاب عليّ ـ عليه السّلام ـ إنّ أشدّ النّاس بلاء النّبيّون، ثمّ الوصيّون، ثمّ الأمثل فالأمثل. وإنّما ابتلي(٦) المؤمن على قدر أعماله الحسنة. فمن صحّ دينه وصحّ عمله، اشتدّ بلاؤه. وذلك أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ لم يجعل الدّنيا ثواب المؤمن(٧) ، ولا عقوبة الكافر. ومن سخف دينه وضعف عمله، فقد قلّ بلاؤه. والبلاء أسرع إلى المؤمن المتّقي، من المطر إلى قرار الأرض.

وفي نهج البلاغة(٨) . إنّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السّيّئة، بنقص الثّمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكّر متذكّر ويزدجر مزدجر.

( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) (١٥٥)( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) (١٥٦): الخطاب للرّسول، أو لمن يتأتّى منه البشارة.

و «المصيبة» تعمّ ما يصيب الإنسان من مكروه.

__________________

(١) يوجد في المصدر.

(٢) آل عمران / ٧.

(٣) تفسير العياشي ١ / ٦٨، ح ١٢٥.

(٤ و ٥) كذا في المصدر. وفي النسخ: ليبلونّكم الله.

(٦) المصدر: يبتلى. (ظ)

(٧) المصدر: توابا لمولمن.

(٨) نهج البلاغة / ١٩٩.

١٩٧

( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) : «الصّلاة» في الأصل، الدّعاء، ومن الله التّزكية والمغفرة. وجمعها للتّنبيه على كثرتها وتنّوعها.

والمراد بالرّحمة، اللّطف والإحسان.

[( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١٥٧) للحقّ والصّواب، حيث استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى](١)

وفي كتاب الخصال(٢) ، عن عبد الله بن سنان. قال: سمعت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ يقول: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: قال الله تعالى: «إنّي أعطيت الدّنيا بين عبادي فيضا فمن أقرضني قرضا، أعطيته بكلّ واحدة منها عشرة إلى سبعمائة ضعف وما شئت من ذلك. ومن لم يقرضني منها قرضا، فأخذت(٣) منه قسرا أعطيته.

ثلاث خصال لو أعطيت(٤) واحدة منهنّ ملائكتي، لرضوا: الصّلاة، والهداية، والرّحمة.» إنّ الله تعالى يقول:( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) . واحدة من الثلاث ورحمة اثنتين( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) ثلاث.

ثمّ قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام: هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا.

وعن أبي عبد الله(٥) ، عن أبيه ـ عليهما السّلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: أربع خصال من كنّ فيه كان في نور الله الأعظم: من كانت عصمة أمره شهادة أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ )

(الحديث)

وفي أصول الكافي(٦) : عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن أبي المفضّل الشيباني(٧) ، عن هارون بن فضل. قال: رأيت أبا الحسن عليّ بن محمّد، في اليوم الّذي توفّى فيه أبو جعفر ـ عليه السّلام. فقال:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) . مضى أبو جعفر ـ عليه السّلام.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٢) الخصال ١ / ١٣٠، ح ١٣٥.

(٣) أ: قد أخذت.

(٤) ر: لو أعطيت منها.

(٥) نفس المصدر: ١ / ٢٢٢، ح ٤٩.

(٦) الكافي ١ / ٣٨١، ح ٥.

(٧) أ: المنشائيّ. المصدر: الشهبانيّ.

١٩٨

فقيل له: وكيف عرفت؟

قال: لأنّه قد دخلني ذلّة(١) لم أكن اعرفها.

وفي الكافي(٢) : عليّ بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن معروف بن خربوذ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام. قال: ما من عبد يصاب بمصيبة، فيسترجع عند ذكر المصيبة ويصبر حين تفاجئه إلا غفر الله له ما تقدّم من ذنبه. وكلّما ذكر مصيبة فاسترجع عند ذكر المصيبة، غفر الله له كلّ ذنب فيما بينهما.

عليّ(٣) ، عن أبيه(٤) ، عن ابن أبي عمير، عن داود بن رزين، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام. قال: من ذكر مصيبة ولو بعد حين، فقال:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) .

والحمد لله ربّ العالمين. أللّهمّ أجرني على مصيبتي. وأخلف عليّ أفضل منها» كان له من الأجر، مثل ما كان عند أوّل صدمته.

عليّ بن محمّد عن صالح(٥) بن أبي حمّاد، رفعه. قال: جاء أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ إلى الأشعث بن قيس، يعزّيه بأخ له. فقال له(٦) : إن جزعت فحقّ الرّحم أتيت، وإن صبرت فحقّ الله أديت، على أنّك إن صبرت جرى عليك القضاء، وأنت محمود، وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مذموم.

فقال له الأشعث:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) .

فقال أمير المؤمنين ـ عليه السّلام: أتدري ما تأويلها؟

فقال الأشعث: لا. أنت غاية العلم ومنتهاه.

فقال له: أمّا قولك( إِنَّا لِلَّهِ ) فإقرار منك بالملك. وأمّا قولك( وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) فإقرار منك بالهلاك.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٧) : وسئل أبو عبد الله ـ عليه السّلام: ما بلغ من حزن يعقوب؟

__________________

(١) المصدر: لأنّه تداخلني ذلة لله.

(٢) الكافي ٣ / ٢٢٤، ح ٥.

(٣) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ٦.

(٤) ليس في أور.

(٥) نفس المصدر ٣ / ٢٦١، ح ٤٠.

(٦) المصدر: يعزّيه بأخ له يقال له عبد الرحمن. فقال له أمير المؤمنين.

(٧) تفسير القمي ١ / ٣٥٠.

١٩٩

قال: حزن سبعين ثكلى على أولادها.

وقال: إنّ يعقوب لم يعرف الاسترجاع. فمنها قال وا أسفا على يوسف.

وفي نهج البلاغة(١) : وقال ـ عليه السّلام ـ وقد سمع رجلا يقول:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) ـ فقال: انّ قولنا( إِنَّا لِلَّهِ ) ، إقرار على أنفسنا بالملك. وقولنا( وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) ، إقرار على أنفسنا بالهلاك.

وفي مجمع البيان(٢) : وفي الحديث: من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه.

وقال ـ عليه السّلام(٣) : من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا وإن تقادم(٤) عهدها، كتب الله له من الأجر مثل يوم أصيب.

[وفي شرح الآيات الباهرة(٥) :](٦) وذكر الشّيخ جمال الدّين ـ قدّس الله روحه ـ في كتاب نهج الحقّ(٧) ، عن ابن مردويه، من طريق العامّة، بإسناده إلى ابن عبّاس. قال: إنّ أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ لـمّا وصل إليه ذكر قتل عمّه حمزة قال:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) . فنزلت هذه الآية:( بَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) . (الآية) وهو القائل عند تلاوتها:( إِنَّا لِلَّهِ ) إقرار بالملك.( وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) إقرار بالهلاك.

( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ ) : علما جبلين بمكّة.

وفي كتاب علل الشّرائع(٨) ، بإسناده إلى عبد الحميد بن أبي الدّيلم، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام. قال: سمّي الصّفا صفا، لان المصطفى آدم، هبط عليه. فقطع للجبل اسم

__________________

(١) نهج البلاغة / ٤٨٥، ح ٩٩.

(٢) مجمع البيان ١ / ٢٣٨.

(٣) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٤) ر: تقدّم.

(٥) تأويل الآيات الباهرة، مخطوط / ٢٨.

(٦) ليس في أ.

(٧) هو أبو منصور جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهر الحلي ـ قدس الله روحه ـ الملقب بالعلامة، الذي جمع من العلوم ما تفرق في جميع الناس، وأحاط من الفنون بما لا يحاط بقياس، مروج المذهب والشريعة في المائة السابعة ورئيس العلماء الشيعة من غير مدافعة. صنف في كلّ علم كتبا ومنها «نهج الحق وكشف الصدق.» مرتبا على مسائل في التوحيد والعدل والنبوة والامامة.

(٨) علل الشرائع ١ / ٤٣١ ـ ٤٣٢، ح ١.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493