تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب12%

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 493

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 187867 / تحميل: 5865
الحجم الحجم الحجم
تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

أقول:

فهذا هو الحديث، وهؤلاء المخرجون له

فمن المناسب الآن أنْ نعرف معنى أولوية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالناس في القرآن الكريم والسنّة النبويّة، على ضوء كلمات كبار المحدّثين والمفسّرين الذين عليهم المعوَّل عندهم في فهم معاني الآيات والروايات، ليظهر معنى كون عليعليه‌السلام أولى الناس بعده صلّى الله عليه وسلّم، فلا يبقى مجال لمكابرة معاند أو تشكيك مشكّك.

فاستمع لما يلي:

٣٢١

معنى أولويّة النبيّ بالمؤمنين

كتاباً وسنّةً

إنّ قولهعليه‌السلام : « أولى الناس بكم بعدي » معناه: الأولى بالتصرّف في أُموركم، قطعاً، لأنّ الكلمة هذه مقتبسة من قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (١) ، ومن المقطوع به أن المراد من هذه الآية المباركة أولويّة النبيّ بالتصرّف في أُمور المسلمين وهذا ما يصرّح به وينص عليه أئمة التفسير:

كلمات المفسّرين في معنى( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ )

* قال الواحدي: « قوله:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أي: إذا حكم عليهم بشيء نفذ حكمه ووجبت طاعته عليهم. قال ابن عباس: إذا دعاهم النبيّ إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء، كانت طاعة النبيّ أولى بهم من طاعة أنفسهم »(٢) .

* وقال البغوي: « قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) يعني: من بعضهم ببعض، في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم. وقال ابن عباس وعطاء: يعني: إذا دعاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ودعتهم أنفسهم إلى

__________________

(١). التفسير الوسيط ٣ / ٤٥٩.

٣٢٢

شيء كانت طاعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أولى بهم من طاعتهم أنفسهم. قال ابن زيد:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فيما قضى قضى فيهم، كما أنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه

أخبرنا عبدالواحد المليحي عن أبي هريرة: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ما من مؤمنٍ إلّاوأنا أولى به في الدنيا والآخرة، إقرأوا إنْ شئتم:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فأيّما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه »(١) .

* وقال البيضاوي: «( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) في الاُمور كلّها، فإنّه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلّا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، بخلاف النفس، فلذلك أطلق، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذ عليهم من أمرها، وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها »(٢) .

أقول:

واعلم أنّ هؤلاء الثلاثة - الواحدي والبغوي والبيضاوي - الذين استندنا إلى كلماتهم في الردّ على هفوات ( الدهلوي )، قد نص والده في كتاب ( إزالة الخفاء ) على أنّهم كبار المفسرين، الذين فسّروا القرآن العظيم، وشرحوا غرائبه، وبيّنوا معانيه، وذكروا أسباب نزول آياته، وأنّ هؤلاء قد حازوا قصب السبق على أقرانهم، وأصبحوا القدوة للمسلمين، وما زالت كلمات الثناء عليهم

__________________

(١). معالم التنزيل ٤ / ٤٣٣.

(٢). تفسير البيضاوي: ٥٥٢.

٣٢٣

متواترة إلى يوم الدين.

فبكلمات هؤلاء الذين وصفهم شاه ولي الله الدهلوي بهذه الألقاب فنّدنا - ولله الحمد - مزاعم ( الدهلوي ) ورددنا أبا طيلة.

* الزمخشري:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ ) في كلّ شيء من اُمور الدين والدنيا و( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) ولهذا أطلق ولم يقيد، فيجب عليهم أنْ يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقّه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأنْ يبذلوها دونه ويجعلونها فداءه إذا أعضل خطب ووقاءه إذا لفحت حرب، وأن لا يتّبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم، ولا ما تصرفهم عنه، ويتّبعوا كلّما دعاهم إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصرفهم عنه »(١) .

* وقال أبو العبّاس الخويي(٢) ما حاصله: إن قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) يفيد أولوية النبي بالتصرف، فلو تعلّقت إرادته حرمة شيء على الامة ومنعها منه نفذت إرادته وكانت الحكمة على طبقها وهذا عين الأولويّة بالتصرّف(٣) .

* وقال النسفي:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أي: أحق بهم في كلّ شيء من اُمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، فعليهم أن يبذلوا نفسه دونه ويجعلوها فدائه. أو: هو أولى بهم، أي: أرأف بهم وأعطف

__________________

(١). الكشاف ٣ / ٢٥١.

(٢). أحمد بن الخليل المتوفى سنة ٦٣٧ أو ٦٩٣، فقيه، اُصولي، مفسّر، متكلّم، أديب. له مصنفات. السبكي ٥ / ٨، مرآة الجنان ٤ / ٢٢٢ وغيرهما.

٣٢٤

عليهم وأنفع لهم »(١) .

* وقال النيسابوري:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) والمعقول فيه أنّه رأس الناس ورئيسهم، فدفع حاجته والاعتناء بشأنه أهم ويعلم من إطلاق الآية أنّه أولى بهم من أنفسهم في كلّ شيء من اُمور الدنيا والدين »(٢) .

* وقال جلال الدين المحلّي:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فيما دعاهم إليه ودعتهم أنفسهم إلى خلافه ».

* وقال الخطيب الشربيني بمثل ما تقدّم، وأورد حديث أبي هريرة الآتي أيضاً، ممّا يظهر منه دلالته على الأولوية وإلّا لَما أورده، ثم إنّه علّل أولويّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالتصرّف بقوله: « وإنّما كان صلّى الله عليه وسلّم أولى بهم من أنفسهم لأنّه لا يدعوهم إلّا إلى العقل والحكمة »(٣) .

أقول:

هذا، وإنّ ما جاء في كلام بعض المفسّرين للآية بعد التفسير للأولويّة بـ « الأولويّة بالتصرّف في الاُمور » من احتمال إرادة أنّه: « أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم » لا يضر، لأنّ المعنى الأول مذكور بصيغة الجزم وهذا بعنوان الإحتمال. ولأنّ جواب السؤال المقدّر في بيان النيسابوري إنّما يتعلّق بالمعنى الأوّل. ولأنّ المعنى الأول معلّل بإطلاق الآية بخلاف الثاني.

__________________

(١). تفسير النسفي - عل ى هامش الخازن ٣ / ٤٥١.

(٢). تفسير النيسابوري - على هامش الطبري ١٢ / ٨٤.

(٣). السراج المنير في تفسير القرآن ٣ / ٢٢١.

٣٢٥

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ أكثرهم لم يذكروا إلّا المعنى الأوّل.

كما أنّ ظاهر كلام السراج المنير - كالنيسابوري والخوئي - أنّ فرض نزول الآية بشأن قصّة التبنّي لا ينافي حملها على الأولويّة بالتصرّف، بل هي على هذا التقدير جواب للسؤال المقدّر، ومناسبتها مع تلك القصّة ظاهرة.

كلمات علماء الحديث

في معنى قوله: « أنا أولى بالمؤمنين » ونحوه

فإنّ نفس المعنى الذي ذكره المفسّرون بشرح قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وهو: « الأولويّة بالتصرّف » قاله علماء الفقه والحديث بشرح الحديث عن أبي هريرة قال صلّى الله عليه وسلّم: « أنا أولى الناس بالمؤمنين في كتاب الله عزّ وجلّ، فأيّكم ما ترك ديناً أو ضيعةً فادعوني فأنا وليّه، وأيّكم ما ترك مالاً فليورث عصبته من كان ».

* فقال أبو زرعة أحمد بن عبدالرحيم العراقي(١) بشرحه باللفظ المذكور:

« فيه فوائد: الأولى: أخرجه مسلم من هذا الوجه، عن محمّد بن رافع عن عبدالرزّاق.

وأخرجه الأئمة الستّة خلا أبا داود من طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، إنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - كان يؤتى بالرجل

__________________

(١). المتوفى سنة ٨٢٦. حافظ، محدّث، فقيه، اُصولي، مفسّر. الضوء اللامع ١ / ٣٣٦، حسن المحاضرة ١ / ٣٦٣، طبقات المفسرين ١ / ٥٠.

٣٢٦

المتوفى، عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فضلاً؟ فإنْ حدث أنّه ترك لدينه وفاءً وإلّا قال للمسلمين: صلّوا على صاحبكم، فلمـّا فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفّي من المؤمنين فترك ديناً فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته. هذا لفظ البخاري وقال الباقون: قضاءً بدل فضلاً، وكذا هو عند بعض رواة البخاري.

وأخرجه الشيخان وأبو داود من رواية أبي حازم، عن أبي هريرة، بلفظ: من ترك مالاً فلورثته ومن ترك كلأً فإلينا، وفي لفظ مسلم: وليته.

وأخرج البخاري ومسلم والنسائي من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة بلفظ: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وترك مالاً فماله لمواليه العصبة، ومن ترك كلأً أو ضياعاً فأنا وليّه

وأخرجه البخاري من رواية عبدالرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة بلفظ: ما من مؤمن إلاّوأنا أولى به في الدنيا والآخرة، إقرأوا ما شئتم( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فأيّما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه.

وأخرجه مسلم من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ: والذي نفس محمّد بيده، إنْ على الأرض من مؤمن إلّا وأنا أولى الناس به، فأيّكم ما ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه، وأيّكم ما ترك مالاً فإلى العصبة من كان.

٣٢٧

الثانية:

قوله: أنا أولى الناس بالمؤمنين.

إنّما قيّد ذلك بالناس، لأنّ الله تعالى أولى بهم منه.

وقوله: في كتاب الله عزّ وجلّ.

إشارة إلى قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وقد صرّح بذلك في رواية البخاري، من طريق عبدالرحمن بن أبي عمرة، كما تقدم.

فإن قلت: الذي في الآية الكريمة أنه أولى بهم من أنفسهم، ودلّ الحديث على أنّه أولى بهم من سائر الناس، ففيه زيادة.

قلت: إذا كان أولى به من أنفسهم، فهو أولى بهم من بقيّة الناس من طريق الأولى، لأنّ الإنسان أولى بنفسه من غيره، فاذا تقدّم النبي صلّى الله عليه وسلّم على النفس، فتقدّمه في ذلك على الغير من طريق الأولى.

وحكى ابن عطيّة في تفسيره عن بعض العلماء العارفين أنه قال: هو أولى بهم من أنفسهم، لأنّ أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ابن عطيّة: ويؤيّد هذا قوله عليه الصّلاة والسلام: أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها تقحّم الفراش.

الثالثة:

يترتب على كونه عليه الصلاة والسلام أولى بهم من أنفسهم: أنه يجب عليهم إيثار طاعته على شهوات أنفسهم وإن شق ذلك عليهم، وأنْ يحبّوه أكثر من محبّتهم لأنفسهم، ومن هنا قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لا يؤمن أحدكم

٣٢٨

حتّى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. وفي روايةٍ اُخرى: من أهله وماله والناس أجمعين، وهو في الصحيحين من حديث أنس.

ولـمّا قال له عمر -رضي‌الله‌عنه - لأنت أحب إليّ من كلّ شيء إلّا نفسي.

قال له: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك.

فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: الآن يا عمر.

رواه البخاري في صحيحه.

قال الخطّابي: لم يرد به حبّ الطبع، بل أراد حبّ الإختيار، لأنّ حبّ الإنسان نفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه. قال: فمعناه: لا تصدق في حبّي حتى تفني في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك وإنْ كان فيه هلاكك.

الرابعة:

إستنبط أصحابنا الشافعيّة من هذه الآية الكريمة: أن له عليه الصلاة والسلام أنْ يأخذ الطّعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج عليه الصلاة والسلام إليهما، وعلى صاحبهما البذل، ويفدي مهجته بمهجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنّه لو قصده عليه الصلاة والسلام ظالم لزم من حضره أنْ يبذل نفسه دونه. وهو استنباط واضح.

ولم يذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم عند نزول هذه الآية ماله في ذلك من الحظ، وإنّما ذكر ما هو عليه فقال: وأيّكم ما ترك ديناً أو ضياعاً فادعوني فأنا

٣٢٩

وليّه، وترك حظّه فقال: وأيّكم ما ترك مالاً فليورّث عصبته من كان »(١) .

* وقال البدر العيني(٢) بشرح قوله: « وأنا أولى به في الدنيا والآخرة »:

يعني: أحق وأولى بالمؤمنين في كلّ شيء من اُمور الدنيا والآخرة من أنفسهم، ولهذا أطلق ولم يعيّن، فيجب عليهم امتثال أوامره واجتناب نواهيه »(٣) .

فمن هذا الكلام يظهر أن الآية المباركة( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ ) دالة على أولويّته صلّى الله عليه وسلّم بالمؤمنين من أنفسهم في جميع شؤونهم، وأنّ عليهم الإمتثال المطلق فما زعمه ( الدهلوي ) من عدم العلاقة بين الآية والأولوية بالتصرف بمثابة الردّ الصريح على الله والرسول.

* وقال الشهاب القسطلاني(٤) بتفسير الآية المباركة من كتاب التفسير:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ ) في الاُمور كلّها( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) من بعضٍ ببعض، في نفوذ حكمه ووجوب طاعته عليهم.

وقال ابن عباس وعطاء: يعني إذا دعاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بهم من طاعة أنفسهم.

__________________

(١). شرح الأحكام، كتاب الفرائض، الحديث: ١.

(٢). محمود بن أحمد المتوفى سنة ٨٥٥، فقيه، محدّث، مؤرّخ، أديب. الضوء اللامع ١٠ / ١٣١، حسن المحاضرة ١ / ٢٧٠، شذرات الذهب ٧ / ٢٨٧.

(٣). عمدة القاري - شرح صحيح البخاري ١٢ / ٢٣٥.

(٤). أحمد بن محمّد المصري، المتوفى سنة ٩٢٣، فقيه، محدّث، مجوّد، مؤرّخ. الضوء اللامع ٢ / ١٠٣، البدر الطالع ١ / ١٠٢، شذرات الذهب ٨ / ١٢١.

٣٣٠

وإنّما كان ذلك لأنّه لا يأمرهم ولا يرضى إلّابما فيه صلاحهم ونجاحهم، بخلاف النفس.

وقوله:( النَّبِيُّ ) ثابت في رواية أبي ذر فقط، وبه قال: حدّثني - بالإفراد - إبراهيم بن المنذر القرشي الحزامي قال: حدّثنا محمّد بن فليح - بضم الفاء وفتح اللام آخره حاء مهملة مصغراً - قال: حدّثنا أبي فليح بن سليمان الخزاعي، عن هلال بن علي العامري المدني - وقد ينسب إلى جدّه اُسامة - عن عبدالرحمن بن أبي عمرة - بفتح العين وسكون الميم - الأنصاري النجاري - بالجيم، قيل: ولد في عهده صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن أبي حاتم: ليس له صحبة - عن أبي هريرة -رضي‌الله‌عنه - عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:

ما من مؤمن إلّا وأنا أولى الناس به، أي: أحقّهم به في كلّ شيء من اُمور الدنيا والآخرة - وسقط لأبي ذر لفظ الناس - اقرأوا إن شئتم قوله عزّ وجلّ:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) .

اُستنبط من الآية أنه: لو قصدهعليه‌السلام ظالم وجب على الحاضر من المؤمنين أنْ يبذل نفسه دونه»(١) .

أقول:

وهذه العبارة ظاهرة في صحّة تفسير الآية بالأولوية بالتصرف مطلقاً من وجوه:

منها: قوله بتفسير الآية: « في الاُمور كلّها »، حيث أتى بالجمع المحلّى

__________________

(١). إرشاد السّاري في شرح صحيح البخاري ٧ / ٢٩٢.

٣٣١

باللام الدال على العموم ثم أكّده بكلمة « كلّها ».

ومنها: قوله: « في نفوذ حكه ووجوب طاعته » فإنّه ظاهر في الإطلاق ودال على الأولويّة التامّة.

ومنها: ما نقله عن ابن عباس وعطا، فإنّه صريح في دلالة الآية على ما ذكرنا، والمنكر مكابر.

ومنها: قول القسطلاني بعد ذلك معلّلاً كلام ابن عباس وعطا

ومنها: تفسيره الحديث بقوله: أيْ أحقّهم في كلّ شيء من اُمور الدنيا والآخرة.

* وقال القسطلاني بشرح الحديث في كتاب الإستقراض:

« عن أبي هريرة -رضي‌الله‌عنه -: إنّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ما من مؤمن إلّا وأنا - بالواو، ولأبي الوقت: إلّا أنا - أولى - أحق - الناس به - في كلّ شيء من اُمور الدنيا والآخرة - إقرأوا إنْ شئتم قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) .

قال بعض الكبراء: إنّما كان عليه الصّلاة والسّلام أولى بهم من أنفسهم، لأنّ أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ابن عطيّة: ويؤيّده قوله عليه الصلاة والسلام: أنا آخذكم بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها.

ويترتب على كونه أولى بهم من أنفسهم: أنه يجب عليهم إيثار طاعته على شهوات أنفسهم وإنْ شقّ ذلك عليهم، وأن يحبّوه أكثر من محبّتهم لأنفسهم، ومن ثمّ قال عليه الصّلاة والسلام: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وولده. الحديث.

٣٣٢

واستنبط بعضهم من الآية: أن له عليه الصلاة والسلام أن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج عليه الصّلاة والسلام إليهما، وعلى صاحبهما البذل، ويفدي بمهجته نبيّه صلوات الله وسلامه عليه، وأنه لو قصده عليه الصلاة والسلام ظالم وجب على من حضره أنْ يبذل نفسه دونه.

ولم يذكر عليه الصّلاة والسّلام - عند نزول هذه الآية - ماله في ذلك من الحظ، وإنّما ذكر ما هو عليه فقال: فأيّما مؤمنٍ مات وترك مالاً - أي حقّاً، وذكر المال خرج مخرج الغالب، فإنّ الحقوق تورث كالمال - فليرثه عصبته من كانوا - عبّر بمن الموصولة ليعمّ أنواع العصبة. والذي عليه أكثر الفرضيّين أنهم ثلاثة أقسام: عصبة بنفسه، وهو ممن له ولاء، وكلّ ذكر نسيب يدلي إلى الميت بلا واسطة أو بتوسط محض الذكور، وعصبة بغيره، وهو كلّ ذات نصف معها ذكر يعصبها، وعصبة مع غيره، وهو اُختٌ فأكثر لغير اُم معها بنت أو بنت ابن فأكثر - ومن ترك ديناً أو ضياعاً - بفتح الضاد المعجمة، مصدر اُطلق على الاسم الفاعل للمبالغة، كالعدل والصوم، وجوّز ابن الأثير الكسر على أنها جمع ضائع كجياع في جمع جائع، وأنكره الخطّابي، أي: من ترك عيالاً محتاجين - فليأتني فأنا مولاه - أي: وليّه، أتولّى اُموره، فإن ترك ديناً وفيته عنه، أو عيالاً فأنا كافلهم، وإليَّ ملجؤهم ومأواهم »(١) .

* وقال القسطلاني بشرح الحديث في كتاب الفرائض:

« حدّثنا عبدان - هو: عبدالله بن عثمان بن جبلّة المروزي - قال: أخبرنا عن أبي هريرة -رضي‌الله‌عنه - عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم - إنّه

__________________

(١). إرشاد السّاري في شرح صحيح البخاري ٤ / ٢٢١.

٣٣٣

قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. أي: أحق بهم في كلّ شيء من امور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها »(١) .

* وقال المنّاوي: « أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم - في كلّ شيء، لأنّي الخليفة الأكبر الممّد لكلّ موجود، فحكمي عليهم أنفذ من حكمهم على أنفسهم. وذا قاله لـمّا نزلت الآية - فمن توفّي - بالبناء للمجهول أو مات - من المؤمنين فترك عَليه - ديناً - بفتح الدال - فعليّ - قضاؤه ممّا يفي الله به من غنيمةٍ وصدقة، وذا ناسخ لتركه الصلاة على من مات وعليه دين - ومن ترك مالاً - يعني حقّاً فذكر المال غالبي - فهو لورثته. وفي رواية البخاري: فليرثه عصبته من كانوا. فردّ على الورثة المنافع وتحمل المضار والتبعات. حم ق ن ة. عن أبي هريرة »(٢) .

* وقال العزيزي: « أنا أولى بكلّ مؤمنٍ من نفسه - كما قال الله تعالى( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) . قال البيضاوي: أي في الاُمور كلّها، فإنّه لا يأمرهم ولا يرضى عنهم إلّا بما فيه صلاحهم، بخلاف النفس، فيجب أنْ يكون أحبّ إليهم من أنفسهم. فمن خصائصه صلّى الله عليه وسلّم: أنّه كان إذا احتاج إلى طعامٍ أو غيره وجب على صاحبه المحتاج إليه بذله له صلّى الله عليه وسلّم، وجاز له صلّى الله عليه وسلّم أخذه، وهذا وإنْ كان جائزاً، لم يقع - من ترك مالاً فلأهله - أي: لورثته - ومن ترك ديناً أو ضياعاً - بفتح الضاد المعجمة، أي: عيالاً وأطفالاً ذوي ضياع، فأوقع المصدر موقع الاسم - فإليّ و عليّ- أي -

__________________

(١). إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ٩ / ٤٢٦.

(٢). التيسير في شرح الجامع الصغير ١ / ١٨٤.

٣٣٤

فأمر كفاية عياله إليَّ، وفاء دينه عليّ. وقد كان صلّى الله عليه وسلّم لا يصلّي على من مات وعليه دين ولم يخلّف له وفاءً، لئلّا يتساهل الناس في الاستدانة ويهملوا الوفاء، فزجرهم عن ذلك بترك الصلاة عليهم، ثم نسخ بما ذكر وصار واجباً عليه، صلّى الله عليه وسلّم.

واختلف أصحابنا هل هو من الخصائص أم لا؟ فقال بعضهم: كان من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم، ولا يلزم الإمام أنْ يقضيه من بيت المال. وقال بعضهم: ليس من خصائصه، بل يلزم كلّ إمام أنْ يقضي من بيت المال دين من مات وعليه دين إذا لم يخلّف وفاءً وكان في بيت المال سعة ولم يكن هناك أهم منه. واعتمد الرملي الأوّل وفاقاً لابن الحري.

وأنا ولي المؤمنين. أي: متولّي اَمورهم. فكان صلّى الله عليه وسلّم يباح له أنْ يزوّج ما شاء من النساء ممّن يشاء من غيره ومن نفسه، وإنْ لم يأذن كلّ من الولي والمرأة، وأنْ يتولّى الطرفين بلا إذن.

حم ق ن ة »(١) .

* وأورد السيوطي الأحاديث الدالّة على أولويته بالتصرف بذيل الآية المباركة قال: « قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) :

أخرج البخاري، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه: عن أبي هريرة -رضي‌الله‌عنه - عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ما من مؤمنٍ إلّا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، إقرؤا إنْ شئتم( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) . فأيّما مؤمنٍ ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، فإنْ ترك ديناً أو

__________________

(١). السراج المنير في شرح الجامع الصغير ١ / ٢١٤.

٣٣٥

ضياعاً فليأتني فأنا مولاه.

وأخرج الطيالسي، وابن مردويه: عن أبي هريرة قال: كان المؤمن إذا توفّي في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاُتي به النبي سأل: هل عليه دين؟ فإنْ قالوا: نعم، قال: هل ترك وفاءً لدينه؟ فإنْ قالوا: نعم، صلّى عليه، وإنْ قالوا: لا قال: صلّوا على صاحبكم. فلمـّا فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن ترك ديناً فإليَّ ومن ترك مالاً فللوارث.

وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن مردويه: عن جابر -رضي‌الله‌عنه - عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان يقول: أنا أولى بكلّ مؤمنٍ من نفسه، فأيّما رجل مات وترك ديناً فإليَّ، ومن ترك مالاً فهو لورثته.

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والنسائي: عن بريدة -رضي‌الله‌عنه - قال: غزوت مع علي اليمن، فرأيت منه جفوة، فلمـّا قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت علياً فتنقّصته، فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تغيّر وقال: يا بريدة، ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: من كنت مولاه فعلي مولاه »(١) .

ومن هنا يظهر لك: إنّ جملة « ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم » في حديث: « من كنت مولاه فعلي مولاه » هي بالمعنى المراد من قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وإلّا لما أورد السيوطي هذا الحديث في هذا المقام.

وعلى الجملة، فإنّ الآية المباركة بمعنى « الأولوية بالتصرف » في كتب

__________________

(١). الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٦ / ٥٦٦ - ٥٦٧.

٣٣٦

الفقه والحديث والتفسير، فكيف ينفي ( الدهلوي ) ذلك ويقول أنْ لا مناسبة بين هذا المعنى والآية المباركة؟!

وليت ( الدهلوي ) تبع في المقام شيخه الكابلي، الذي لم يمنع من حمل « ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم » على: الأولوية بالتصرف:

* قال الكابلي في ( الصواقع ) في الجواب عن حديث الغدير:

إنّ المراد بالمولى: المحبّ والصديق. وأما فاتحته فلا تدل على أنَّ المراد به الإمام، لأنّه إنّما صدّره بها ليكون ما يلقى إلى السامعين أثبت في قلوبهم »(١) .

بل تظهر غرابة إنكار ( الدهلوي ) ذلك من كلام ابن تيمية الشهير بشدّة التعصّب ضد أهل البيت:

* قال ابن تيمية: « والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقل: من كنت وإليه فعلي وإليه وإنّما اللفظ: من كنت مولاه فعلي مولاه. وأما كون المولى بمعنى الوالي فهذا باطل، فإنّ الولاية تثبت من الطرفين، فإنّ المؤمنين أولياء الله وهو مولاهم، وأمّا كونه أولى بهم من أنفسهم فلا يثبت إلاّمن طرفه صلّى الله عليه وسلّم، وكونه أولى بكلّ مؤمنٍ من نفسه من خصائص نبوّته. ولو قدّر أنّه نصّ على خليفةٍ بعده لم يكن ذلك موجباً أنْ يكون أولى بكلّ مؤمنٍ من نفسه، كما أنّه لا تكون أزواجه امّهاتهم، ولو اريد هذا المعنى لقال: من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه، وهذا لم يقله ولم ينقله أحد، ومعناه باطل »(٢) .

فإنّ هذا الكلام واضح الدلالة على كون أولويته صلّى الله عليه وسلّم

__________________

(١). الصواقع الموبقة - مخطوط.

(٢). منهاج السنّة ٧ / ٣٢٤ الطبعة الحديثة.

٣٣٧

- المستفادة من الآية الكريمة - من الخصائص النبويّة، إذ لو كان المراد من « الأولويّة » هو « الأحبيّة » لَما كانت من الخصائص، لأنّهم يثبتون « الأحبيّة » للخلفاء فمن دونهم ولو بالترتيب.

إذن، ليست « الأولويّة » بمعنى « الأحبيّة » بل هي عند ابن تيمية مقام عظيم ومنزلة رفيعة يختصّ بها النبيّ الكريم، والسّبب في ذلك ظاهرٌ للمتأمّل، إذْ الأولويّة بالمؤمنين من أنفسهم تقتضي العصمة، فلا تنال غير المعصوم، فلهذا كانت مختصة بالنبي عند ابن تيميّة.

إلّا أنّ العصمة لـمّا ثبتت للأئمّة الأطهار بالأدلّة من الكتاب والسنّة - كما فصّل في كتب أصحابنا - فهذه المرتبة ثابتة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل إنّ كلام ابن تيميّة - في الحقيقة - دليل عصمة الإمامعليه‌السلام ، لِما تقدّم ويأتي من الوجوه الدالّة على أولويّته من كلّ مؤمنٍ بنفسه، فتثبت عصمته كذلك بلا ريب.

* وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي(١) في ( اللمعات في شرح المشكاة ):

« قوله: فقال بعد أنْ جمع الصحابة: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ وفي بعض الروايات: كرّره للمسلمين، وهم يجيبون بالتصديق والاعتراف، يريد به قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أي: في الاُمور كلّها، فإنّه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلّا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، بخلاف النفس، فلذلك أطلق، فيجب عليهم أنْ يكون أحبّ إليهم من أنفسهم،

__________________

(١). المتوفى سنة ١٠٥٢، محدّث الهند الكبير، صاحب المؤلّفات النافعة كالشرح على مشكاة المصابيح، ترجمته في: أبجد العلوم، سبحة المرجان، نزهة الخواطر، وغيرها.

٣٣٨

وأمره أنفذ عليهم من أمرها، وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها. روي: أنّه صلّى الله عليه وسلّم أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج، فقال ناس: نستأذن آباءنا واُمّهاتنا. فنزلت. وقرئ: وهو أب لهم، أي: في الدين، فإنّ كلّ نبي أبٌ لُامّته من حيث أنه أصل فيما به الحياة الأبديّة، ولذلك صار المؤمنون إخوة. كذا في تفسير البيضاوي.

وقوله: إني أولى بكلّ مؤمنٍ من نفسه، تأكيد وتقرير، يفيد كونه أولى بكل واحدٍ من المؤمنين، كما أنّ الأوّل يفيد بالنسبة إليهم جميعاً ».

أقول:

وتلخص على ضوء الكلمات المذكورة بشرح الكتاب والسنّة: أنّ المراد من الحديث: « هو أولى الناس بكم بعدي » أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم في جميع اُمور الدنيا والدين بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنّه يجب عليهم أنْ يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذ عليهم من أمرها، كما هو الحال بالنسبة إلى أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم ونواهيه، فهذا هو مقتضى التأمّل في الآية المباركة والحديث الصحيح من طرقهم، ثم التأمّل في لفظ حديث الولاية.

ثمّ إنّ الوجه في الأولويّة هو أنّ النبي أو الوصي، لا يأمر الناس ولا يرضى منهم إلاّبما فيه صلاحهم ونجاحهم، بخلاف أنفسهم

٣٣٩

(٢٤)

فهم بريدة الإمامة من كلام النبي فلذا تخلَّف عن بيعة أبي بكر

ولقد فهم بريدة من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: « لا تقع في رجلٍ إنه لأولى الناس بكم بعدي » أن الإمام من بعده هو عليعليه‌السلام ، فلذا كان بريدة من المتخلّفين عن بيعة أبي بكر:

قال في ( روضة الصّفا ) ما حاصله معرّباً: « وذكر صاحب الغنية عن بعضهم أنه كان بيد بريدة بن الحصيب الأسلمي راية، فدخل المدينة ونصبها على باب علي، فلمـّا علم عمر بن الخطاب بذلك خاطبه بقوله: قد بايع الناس كلّهم أبا بكر فلم تخالف؟ فقال بريدة: إنّا لا نبايع إلّا صاحب هذا البيت، فاجتمع الأصحاب عنده وسألوه عمّا يدعوه إلى أنْ يقول مثل هذه الأقوال، فذكر لهم قصّة ارسال النبي إيّاه وخالد بن الوليد مع علي بن أبي طالب في سرية إلى اليمن، قال: فوالله لم يكن شيء في هذا السفر أبغض إليّ من قرب علي، ولا شيء أحبّ إليَّ من فراقه، فلمـّا قدمنا على رسول الله قال: كيف وجدتم صاحبكم؟ فشكوته لما كنت أجده عليه في قلبي، فتغيّر وجه رسول الله وقال: يا بريدة لا تقع في رجلٍ إنّه لأولى الناس بكم بعدي ».

وقد عرفت في قسم السّند صدور حديث الولاية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جواب بريدة لمـّا شكى عليّاًعليه‌السلام .

فهذا الحديث دليل قطعي - عند بريدة أيضاً - على إمامة عليعليه‌السلام .

٣٤٠

في الكافي(١) : عنه، عن صفوان، عن موسى بن بكر، عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر ـ عليه السّلام: إنّي سمعت ربيعة الرأي يقول: «إذا رأت الدّم من الحيضة الثّالثة، بانت منه. وإنّما القرء ما بين الحيضتين.» وزعم أنّه انما أخذ ذلك برأيه.

فقال أبو جعفر ـ عليه السّلام: كذب، لعمري! ما قال ذلك برأيه. ولكنّه أخذه عن عليّ ـ عليه السّلام.

قال: قلت له: وما قال فيها عليّ ـ عليه السّلام؟

قال: كان يقول: إذا رأت الدّم من الحيضة الثّالثة، فقد انقضت عدّتها. ولا سبيل له عليها. وإنّما القرء ما بين الحيضتين. وليس لها أن تتزوّج حتّى تغتسل من الحيضة الثّالثة.

عليّ بن إبراهيم(٢) [عن أبيه ،](٣) عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة قال: سمعت ربيعة الرّاي(٤) يقول: من رأيي(٥) أنّ الأقراء الّتي سمّى الله ـ عزّ وجلّ ـ في القرآن إنّما هو الطهر فيما بين الحيضتين.

فقال: كذب لم يقله برأيه. ولكنّه إنّما بلغه عن عليّ ـ عليه السّلام.

فقلت له(٦) : أصلحك الله! أكان عليّ ـ عليه السّلام ـ يقول ذلك؟

قال(٧) : نعم إنما القرء الطّهر. يقري فيه الدّم. فيجمعه. فإذا جاء المحيض دفعه(٨) .

عليّ بن إبراهيم(٩) ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، وعدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نصر، جميعا، عن جميل بن درّاج، عن زرارة، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال: القرء ما بين(١٠) الحيضتين.

عليّ عن أبيه(١١) ، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال: القرء ما بين(١٢) الحيضتين.

__________________

(١) نفس المصدر ٦ / ٨٨، ح ٩.

(٢) نفس المصدر ٦ / ٨٩، ح ١.

(٣) يوجد في المصدر.

(٤) المصدر: الرأي. (ظ)

(٥) النسخ: رأى. وما في المتن موافق المصدر.

(٦) ليس في المصدر.

(٧) المصدر: فقال.

(٨) المصدر: دفعة.

(٩) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ٢.

(١٠) المصدر: هو ما بين.

(١١) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ٣.

(١٢) المصدر: هو ما بين.

٣٤١

محمّد بن يحيى(١) ، عن أحمد بن محمّد، عن الحجّال، عن ثعلبة، عن زرارة، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال: الأقراء هي الأطهار.

سهل(٢) ، عن أحمد، عن عبد الكريم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: عدّة الّتي لم تحض والمستحاضة الّتي لا تطهر، ثلاثة أشهر. وعدّة الّتي تحيض ويستقيم حيضها، ثلاثة قروء والقرء(٣) جمع الدّم بين الحيضتين.

وأمّا ما رواه في كتاب الخصال(٤) .

قال: حدّثنا أبي ـ رضى الله عنه ـ قال: حدّثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثني أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، عن جميل، عن زرارة، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال: أمران أيّهما سبق(٥) إليها(٦) ، بانت به المطلّقة: المسترابة الّتي تستريب الحيض، إن مرّت بها ثلاثة أشهر بيض، ليس بها دم بانت بها. وإن مرّت بها ثلاث حيض، ليس بين الحيضتين ثلاثة أشهر بانت بالحيض.

وأمّا ما رواه في كتاب علل الشّرايع(٧) بإسناده إلى أبي خالد الهيثم: قال: سألت أبا الحسن الثاني(٨) ـ عليه السّلام: كيف صار عدّة المطلّقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر وعدّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيّام(٩) ؟

قال: أمّا عدّة المطلّقة ثلاث حيض، أو ثلاثة أشهر، فلاستبراء الرّحم من الولد والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

فيمكن أن يحمل على التّقيّة. لأنّه موافق لمذهب أكثر العامّة.

( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ ) من الولد والحيض، استعجالا في العدّة، وإبطالا لحقّ الرّجعة. وفيه دليل على أنّ قولها مقبول في ذلك.

( إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) : ليس المراد منه تقييد نفي الحلّ بإيمانهم. بل تنبيه على أنّه ينافي الإيمان. وأنّ المؤمن لا يجترئ عليه. ولا ينبغي له أن يفعل.

__________________

(١) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ٤.

(٢) نفس المصدر ٦ / ٩٩، ح ٣. وفيه: سهل بن زياد.

(٣) المصدر: القروء.

(٤) الخصال ١ / ٤٧ ـ ٤٨، ح ٥١.

(٥) أور: أسبق.

(٦) ليس في ر.

(٧) علل الشرائع ٢ / ٥٠٧، ح ١.

(٨) أ: الثالث.

(٩) ليس في المصدر.

٣٤٢

وفي تفسير العيّاشي(١) : عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قوله:( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ ) ، يعني: لا يحلّ(٢) لها أن تكتم الحمل إذا طلّقت. وهي حبلى. والزّوج لا يعلم بالحمل. فلا يحلّ لها أن تكتم حملها. وهو أحقّ بها في ذلك الحمل، ما لم تصنع.

( وَبُعُولَتُهُنَ ) ، أي: أزواج المطلّقات جمع بعل. و «التّاء» لتأنيث الجمع، كالعمومة والخؤولة. او مصدر من قولك: بعل حسن البعولة نعت به. وأقيم مقام المضاف المحذوف، أي: وأهل بعولتهنّ.

( أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ ) إلى النّكاح والرّجعة إليهنّ. وأفعل بمعنى الفاعل.

( فِي ذلِكَ ) ، أي: في زمان التّربّص.

( إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً ) بالرّجعة، لا ضرر المرأة. والمراد فيه، التّحريض عليه، والمنع من قصد الإضرار لا شريطة قصد الإصلاح للرّجعة.

( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) ، أي: لهن حقوق على الرّجال، مثل حقوقهم عليهنّ في الوجوب واستحقاق المطالبة.

( وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) : زيادة في الحقّ وفضل.

( وَاللهُ عَزِيزٌ ) : يقدر على الانتقام، ممّن خالف الأحكام.

( حَكِيمٌ ) (٢٢٨): يشرعها لمصالح وحكم.

في من لا يحضره الفقيه(٣) : وسأل إسحاق بن عمّار، أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن حقّ المرأة على زوجها.

قال: يشبع بطنها. ويكسو جثتها. وإن جهلت غفر لها.

وروى الحسن بن محبوب(٤) ، عن مالك بن عطيّة، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقالت: يا رسول الله! ما حقّ الزّوج على المرأة؟

فقال لها: تطيعه. ولا تعصيه. ولا تتصدق(٥) من بيتها بشيء إلّا بإذنه. ولا تصوم

__________________

(١) تفسير العياشي ١ / ١١٥، ح ٣٥٦.

(٢) ليس في ر.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٢٧٩، ح ١٣٢٧.

(٤) نفس المصدر ٣ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧، ح ١٣١٤.

(٥) المصدر: تصدّق.

٣٤٣

تطوعا الا باذنه. ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب. ولا تخرج من بيتها إلّا بإذنه.

فإن خرجت بغير إذنه، لعنتها ملائكة السّماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرّحمة، حتّى ترجع إلى بيتها.

فقالت: يا رسول الله! من أعظم النّاس حقّا على الرّجل؟

قال: والداه.

قالت: فمن أعظم النّاس حقّا على المرأة؟

قال: زوجها.

قالت: فما لي من الحقّ عليه بمثل(١) ما له عليّ؟

قال: لا. ولا من كلّ مائة واحدة.

فقالت: والّذي بعثك بالحقّ نبيّا! لا يملك رقبتي رجل(٢) أبدا.

( الطَّلاقُ ) ، أي: الطّلاق الّذي عهد سابقا وهو ما يجوز معه الرّجوع في مدّة التّربّص.

( مَرَّتانِ ) بأن طلّق أوّلا، ثمّ رجع، ثمّ طلّق ثانيا. فإن رجع،( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ) : بحسن المعاشرة،( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) بالطّلقة الثّالثة. ولا يجوز له الرّجوع، أصلا، حتّى تنكح زوجا غيره.

في عيون الأخبار(٣) ، بإسناده إلى الرّضا ـ عليه السّلام ـ في حديث طويل: إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ إنّما أذن في الطّلاق مرّتين. فقال ـ عزّ وجلّ:( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) ، يعنى: في التّطليقة الثّالثة.

وفي الكافي(٤) : أبو عليّ الأشعريّ، عن محمّد بن عبد الجبّار، ومحمّد بن جعفر أبو العبّاس الرّزّاز، عن أيّوب بن نوح، وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال: طلاق السّنّة يطلّقها تطليقة، يعني: على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين. ثمّ يدعها حتّى تمضي أقراؤها. فإذا مضت أقراؤها، فقد بانت منه. وهو خاطب من الخطّاب، إن شاء [ت] نكحته. وإن شاءت فلا. وإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها قبل أن تمضي أقراؤها ،

__________________

(١) المصدر: مثل.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ: رجلا.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ٨٥.

(٤) الكافي ٦ / ٦٤، ح ١.

٣٤٤

فتكون عنده على التّطليقة الماضية.

قال: وقال أبو بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام: هو قول الله ـ عزّ وجلّ:( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) .

( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ) من الصّداق والهبة.

في تهذيب الأحكام(١) : أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن زرارة، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ أنّه قال: ولا يرجع الرّجل فيما يهب لامرأته. ولا المرأة فيما (تهب)(٢) لزوجها (حيز أو لم يحز). أليس الله تعالى يقول: ولا تأخذوا( مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ) ؟ وقال:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) ؟ وهذا يدخل في الصّداق والهبة.

وفي الكافي(٣) ، مثله سواء.

وهذا الحكم بعمومه، يشمل صور الطّلاق، أي: لا يحلّ لكم إذا طلّقتم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا. والخطاب للحكّام. لأنّهم الآمرون، أو للأزواج.

( إِلَّا أَنْ يَخافا ) ، أي: الزّوجان.

وقرئ: يظنّا.

( أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ ) : وقرأ حمزة ويعقوب، على البناء للمفعول وإبدال «أن» بصلته عن الضّمير بدل الاشتمال.

وقرئ: تخافا وتقيما (بتاء الخطاب.)( فَإِنْ خِفْتُمْ ) أيّها الحكّام،( أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) : على الرّجل في أخذ ما افتدت به نفسها. وعلى المرأة في إعطائه، حتّى يخالعها.

في مجمع البيان(٤) : «فيما افتدت به» قيل: إنّه يجوز الزّيادة على المهر. وقيل: المهر فقط. ورووه عن عليّ ـ عليه السّلام.

وفي تفسير العيّاشيّ(٥) : عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: سألته

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ / ١٥٢ ـ ١٥٣، ذيل ح ٦٢٤.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ: وهب.

(٣) الكافي ٧ / ٣٠، ذيل ح ٣.

(٤) مجمع البيان ١ / ٣٢٩، بتفاوت.

(٥) تفسير العياشي ١ / ١١٧، ح ٣٦٧.

٣٤٥

عن المختلعة، كيف يكون خلعها؟

فقال: لا يحلّ خلعها حتّى تقول: «والله! أبرّ لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولأواطئنّ فراشك، ولأدخلنّ عليك بغير إذنك.» فإذا قالت هي(١) ذلك، حلّ خلعها.

وحل له ما أخذ منها من مهرها وما زاد. وهو قول الله ـ عزّ وجلّ:( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) . وإذا فعلت(٢) ذلك، فقد بانت منه بتطليقه. وهي أملك بنفسها، إن شاءت نكحته. وإلّا فلا. فإن نكحته فهي عنده بثنتين.

( تِلْكَ ) : إشارة إلى الأحكام الّتي حدّت.

( حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها ) بالمخالفة.

( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢٢٩) :

عقب النّهى بالوعيد، مبالغة في التّهديد.

واعلم أنّ كلّ ما حدّ الله تعالى الإفراط فيه والتّفريط، كلاهما تعدّ. وكذلك كلّ ما يفعله أهل الوسوسة فما ليس له في الشّرع مآخذ ويسمّونه احتياطا وتقوى، تعدّ عن حدود الله. ومن يفعله ظالم. يدلّ على ذلك ما رواه العيّاشيّ في تفسيره(٣) ، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قوله الله ـ تبارك وتعالى:( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

فقال: إنّ الله غضب على الزّاني. فجعل له جلد(٤) مائة. فمن غضب عليه فزاد. فأنا إلى الله منه بريء. فذلك قوله:( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها ) .

( فَإِنْ طَلَّقَها ) :

متعلّق بقوله:( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) . تفسير لقوله:( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) . اعترض بينهما ذكر الخلع، دلالة على أنّ الطّلاق يقع مجّانا تارة، وبعوض أخرى.

والمعنى: فإن طلّقها بعد الثّنتين.

( فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ) ذلك الطّلاق،( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) : حتّى تزوّج غيره بالعقد الدّائم، ويدخل بها. والنّكاح يسند إلى كلّ منهما.

__________________

(١) المصدر: فإذا هي قالت.

(٢) المصدر: فعل. (ظ)

(٣) تفسير العياشي ١ / ١١٧، ح ٣٦٨.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ: جلدة.

٣٤٦

في عيون الأخبار(١) : حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطّالقاني ـ ره ـ قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن سعيد الهمدانيّ، عن عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضال، عن أبيه قال: سألت الرّضا ـ عليه السّلام ـ عن العلّة الّتي من أجلها لا تحلّ المطلّقة للعدّة لزوجها حتّى تنكح زوجا غيره.

فقال: إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ إنّما أذن في الطّلاق مرّتين. فقال ـ عزّ وجلّ:( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) ، يعني: في التّطليقة الثّالثة. ولدخوله فيما كره الله ـ عزّ وجلّ ـ [من الطّلاق الثّالث ،](٢) حرّمها عليه. فلا تحلّ من بعد حتّى تنكح زوجا غيره، لئلا يوقع النّاس الاستخفاف بالطلاق [ولا يضارّوا النّساء].(٣)

وفي الكافي(٤) : سهل (بن زياد)، عن احمد بن محمّد، عن مثنّى، عن أبي حاتم، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: سألته عن الرّجل يطلّق امرأته الطّلاق الّذي لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره، ثمّ تزوّج رجلا(٥) ، ولم يدخل بها.

قال: لا. حتّى يذوق عسيلتها.

وفي عيون الأخبار(٦) ، في باب ذكر ما كتب به الرّضا ـ عليه السّلام ـ إلى محمّد بن سنان في جواب مسائله في العلل وعلّة الطّلاق ثلاث، لما فيه من المهلة فيما بين الواحدة إلى الثلاث، لرغبة تحدث، أو سكون غضبه إن كان. وليكون ذلك تخويفا وتأديبا للنّساء وزجرا لهنّ عن معصية أزواجهنّ.

وفي الكافي(٧) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: سألته عن رجل طلّق امرأته تطليقة واحدة، ثمّ تركها حتّى انقضت عدّتها، ثمّ تزوّجها رجل غيره، ثمّ إنّ الرّجل مات أو طلّقها، فراجعها الأوّل.

قال: هي عنده على تطليقتين تامتين(٨) .

محمّد بن يحيى(٩) ، عن أحمد بن محمّد، عن ابن مهزيار قال: كتب عبد الله بن محمّد

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ٨٣، ح ٢٧.

(٢ و ٣) ليس في أ.

(٤) الكافي ٥ / ٤٢٥، ح ٤.

(٥) المصدر: رجل آخر.

(٦) عيون أخبار الرضا ٢ / ٩٣، ح ١.

(٧) الكافي ٥ / ٤٢٦، ح ٥.

(٨) المصدر: باقيتين.

(٩) نفس المصدر ٥ / ٤٢٦، ح ٦.

٣٤٧

إلى أبي الحسن ـ عليه السّلام: روى بعض أصحابنا عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في الرّجل يطلّق امرأته على الكتاب والسّنّة، فتبين منه (واحدة)(١) ، فتزوج زوجا غيره، فيموت عنها، أو يطلّقها فترجع الى زوجها الأوّل، أنّها تكون عنده على تطليقتين (تامّتين(٢) .

وواحدة قد مضت.

فوقّع ـ عليه السّلام ـ بخطّه: صدقوا.

وروى بعضهم أنّها تكون عنده على ثلاث مستقبلات. وأنّ تلك الّتي طلّقت(٣) ليس بشيء. لأنها قد تزوّجت زوجا غيره.

فوقّع ـ عليه السّلام ـ بخطّه: لا.

سهل(٤) ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن المثنى، عن (إسحاق) بن عمار قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن رجل طلّق امرأته(٥) لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره، فتزوّجها عبد، ثمّ طلّقها، هل يهدم الطّلاق؟

قال: نعم، لقول الله ـ عزّ وجلّ ـ في كتابه:( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) . وقال: هو أحد الأزواج.

( فَإِنْ طَلَّقَها ) الزّوج الثّاني،( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا ) ، أي: يرجع كلّ منهما إلى الآخر بالزّواج،( إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ ) ، أي: ما حدّده الله.

( وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (٢٣٠): يفهمون.

في تفسير العيّاشيّ(٦) . عن الحسن بن زياد قال: سألته عن رجل طلق امرأته.

فتزوّجت بالمتعة. أتحلّ لزوجها الأوّل؟

[قال: لا].(٧) لا تحلّ له حتّى تدخل(٨) في مثل الّذي خرجت من عنده. وذلك قوله:( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ ) .

__________________

(١) المصدر: بواحدة. (ظ)

(٢) ليس في المصدر.

(٣) المصدر: طلقها.

(٤) نفس المصدر ٥ / ٤٢٥، ح ٣. وفيه: سهل بن زياد.

(٥) المصدر: امرأته طلاقا.

(٦) تفسير العياشي ١ / ١١٨، ح ٣٧١.

(٧) ليس في المصدر.

(٨) كذا في المصدر. وفي النسخ: يدخل.

٣٤٨

والمتعة ليس فيها طلاق.

وفي الكافي(١) : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن عبد الكريم، عن الحسن الصّيقل قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن رجل طلّق امرأته طلاقا، لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره؟ و (تزوّجها(٢) ) رجل متعة. أيحل له أن ينكحها؟

قال: لا حتّى تدخل في مثل ما خرجت منه.

عليّ بن إبراهيم(٣) ، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما ـ عليهما السّلام ـ قال: سألته عن رجل طلّق امرأته (ثلاثا). ثمّ تمتع فيها رجل آخر. هل تحلّ للأوّل؟

قال: لا.

( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ ) :

«الأجل» يطلق للمدّة ولمنتهاها.

و «البلوغ» هو الوصول إلى الشيء. وقد يقال للدنوّ منه على الاتّساع. فإن حمل الأجل على المعنى الأوّل، فالبلوغ على أصله. وإن حمل على الثّاني، فالبلوغ على الاتّساع، ليترتّب عليه.

( فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) :

وهو إعادة الحكم في بعض صوره، للاهتمام به.

( وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً ) : نصب على العلّة، أو الحال، أي: لا تراجعوهنّ إرادة الإضرار، أو مضارّين. كان المطلّق يترك المعتدّة، حتّى يشارف الأجل، ثمّ يراجع ليطوّل العدّة عليها. فنهى عنه بعد الأمر بضدّه، مبالغة.

( لِتَعْتَدُوا ) : لتظلموهنّ بالتّطويل والإلجاء إلى الافتداء.

و «اللّام» متعلّقة بالضّرار، إذ المراد تقييده.

في من لا يحضره الفقيه(٤) روى المفضل بن صالح، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: سألته عن قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا ) .

__________________

(١) الكافي ٥ / ٤٢٥، ح ٢.

(٢) المصدر: يزوّجها.

(٣) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ١.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٣٢٣، ح ١٥٦٧.

٣٤٩

قال: الرّجل يطلّق حتّى إذا كادت(١) أن يخلو أجلها راجعها(٢) ، ثمّ طلّقها، يفعل ذلك ثلاث مرّات. فنهى الله ـ عزّ وجلّ ـ عن ذلك.

وروى البزنطيّ(٣) ، عن عبد الكريم بن (عمرو)، عن الحسن بن زياد، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: لا ينبغي للرّجل أن يطلّق امرأته، ثمّ يراجعها، وليس له فيها حاجة. ثمّ يطلّقها. فهذا الضّرار الّذي نهى الله عنه. إلّا أن يطلّق ثمّ (يراجعها(٤) . وهو ينوي الإمساك.

( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) بتعريضها للعقاب.

( وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً ) بالإعراض عنها، والتّهاون في العمل بما فيها.

وفي نهج البلاغة:(٥) قال ـ عليه السّلام: من قرأ القرآن، فمات، فدخل النّار، فهو ممن كان يتّخذ آيات الله هزوا.

( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) الّتي من جملتها نبوّة محمّد وولاية عليّ والأئمّة من بعده، بالشّكر والقيام بحقوقها.

( وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ ) : القرآن والسّنّة. أفردهما بالذّكر، إظهارا لشرفهما.

( يَعِظُكُمْ بِهِ ) : بما أنزل عليكم.

( وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٢٣١): تأكيد وتهديد.

( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ ) : انقضت عدّتهنّ،( فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ ) : «العضل»: الحبس والتّضييق.

( إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ ) :

ظرف لأن ينكحن، أو لا تعضلوهنّ.

( بِالْمَعْرُوفِ ) : بما يعرفه الشّرع. حال من الضّمير المرفوع، أو صفة مصدر محذوف ،

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ: كانت.

(٢) يوجد في أبعد هذه الكلمة: وليس له فيها حاجة ثمّ يطلّقها فهذا الضرار لاملا.

(٣) نفس المصدر ٣ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤، ح ١٥٦٨.

(٤) المصدر: يراجع.

(٥) نهج البلاغة / ٥٠٨، مقطع من حكمة ٢٢٨.

٣٥٠

أي: تراضيا كائنا بالمعروف.

( ذلِكَ ) : إشارة إلى ما مضى ذكره. والخطاب للجمع، على تأويل القبيل، أو كلّ واحد، أو للنّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله.

( يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) . لأنّه المنتفع به.

( ذلِكُمْ ) ، أي: العمل بمقتضى ما ذكر،( أَزْكى لَكُمْ ) : أنفع،( وَأَطْهَرُ ) من دنس الآثام.

( وَاللهُ يَعْلَمُ ) : ما فيه من النّفع،( وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٢٣٢) ما فيه، أو لستم من أهل العلم.

( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ ) :

قال البيضاويّ(١) : أمر عبّر عنه بالخير، للمبالغة. ومعناه النّدب، أو الوجوب.

فيختصّ بما إذا لم يرتضع الصّبيّ إلّا من أمّه، أو لم يوجد له ظئر، أو عجز الوالد عن الاستئجار.

و «الوالدات» (تعمّ) المطلّقات وغيرهنّ.

[والوجه أنّه خبر معنى، أيضا، والوالدات المطلقات. والمقصود بيان أنّ الوالدات أحقّ برضاع الأولاد، من غيرهنّ].(٢) وليس للوالد أن يأخذهم منهم ويجعل غيرهنّ مرضعة، إذا تبرّعن، أو رضين بما رضى به غيرهنّ.

( حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) :

أكّده بصفة الكمال. لأنّه ممّا يتسامح فيه.

( لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) : بيان للمتوجّه إليه الحكم، أي: ذلك لمن أراد إتمام الرّضاعة، أو متعلّق بيرضعن. فإنّ الأب يجب عليه الإرضاع والأمّ ترضع. وفيه دلالة على أنّ مدّة الإرضاع حولان ولا عبرة(٣) بعدهما. وأنّه يجوز أن ينقص عنه.

( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ) ، أي: الوالد. فإنّ الولد يولد له.

وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضى للإرضاع ومؤن المرضعة.

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ١٢٣.

(٢) ليس في أ.

(٣) أ: لا عبرة به.

٣٥١

( رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ ) : أجرة لهنّ.

( بِالْمَعْرُوفِ ) : حسب ما يراه أهل الشّرع.

( لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها ) : تعليل لإيجاب المؤن.

( لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) ، أي: لا يضارّ كلّ واحد منهما الآخر، بسبب الولد، بأن يكلّفه ما ليس في وسعه، أو يترك مجامعته بسبب الولد.

في الكافي(١) : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن إسماعيل، والحسين بن سعيد، جميعا، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الصّباح الكنانيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: سألته عن قول الله ـ عزّ وجلّ:( لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) .

فقال: كانت المراضع ممّا يدفع إحداهن الرّجل، إذا أراد الجماع. تقول(٢) : «لا أدعك. إنّي أخاف أن أحبل، فأقتل ولدي.» هذا الّذي أرضعه. وكان الرّجل تدعوه(٣) المرأة. فيقول: «أخاف أن أجامعك، فأقتل ولدي.» فيدعها. فلا(٤) يجامعها. فنهى الله ـ عزّ وجلّ ـ عن ذلك، بأن يضارّ الرّجل المرأة والمرأة الرّجل.

عليّ بن إبراهيم(٥) ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ نحوه.

وفي مجمع البيان(٦) :( لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) قيل: معناه لا تضار والدة الزّوج بولدها. ولو قيل «في ولدها» لجاز في المعنى.

وروى عن السّيّدين الباقر والصّادق ـ عليهما السّلام: لا تضارّ والدة بأن يترك جماعها خوف الحمل، لأجل ولدها المرتضع. ولا مولود له بولده، أي لا تمنع نفسها من الأب، خوف الحمل. فيضرّ ذلك بالأب.

وفي الكافي(٧) : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن إسماعيل، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الصّباح الكنانيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال :

__________________

(١) الكافي ٦ / ٤١، ح ٦.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ: يقول.

(٣) كذا في المصدر وأ. في الأصل ور: يدعوه.

(٤) المصدر وأ: ولا.

(٥) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٦) مجمع البيان ١ / ٣٣٥.

(٧) الكافي ٦ / ١٠٣، ح ٢.

٣٥٢

إذا طلّق الرّجل المرأة وهي حبلى، أنفق عليها حتّى تضع حملها. وإذا(١) وضعته أعطاها أجرها. ولا يضارّها إلّا أن يجد من هو أرخص أجرا منها. فإن هي رضيت بذلك الأجر فهي أحقّ بابنها حتّى تفطمه.

عليّ، عن أبيه(٢) ، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: الحبلى المطلقة ينفق عليها، حتّى تضع حملها. وهي أحقّ بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة أخرى. إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول:( لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ) .

قال: كانت المرأة منّا ترفع(٣) يدها إلى زوجها إذا أراد مجامعتها، فتقول(٤) : «لا أدعك. إنّي أخاف أن أحمل على ولدي»، أو يقول الرّجل: «لا أجامعك. أنّي أخاف أن تعلقي، فأقتل ولدي.» فنهى الله ـ عزّ وجلّ ـ أن تضارّ المرأة الرجل،(٥) أو يضارّ الرّجل المرأة وأمّا قوله:( وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ) . فإنّه نهى أن يضارّ بالصّبيّ، أو (تضار(٦) ) أمّه في رضاعه. وليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين. وإن أرادا فصالا عن تراض منهما قبل ذلك كان حسنا. والفصال هو الفطام.

( وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ) :

عطف على قوله:( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ) . وما بينهما معترض. والمراد بالوارث الباقي من أبويه.

قال في مجمع البيان(٧) : وهو الصّحيح عندنا. وقد روى، أيضا، في أخبارنا على الوارث كائنا من كان النّفقة.

وهذا يوافق الظّاهر.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٨) : قوله:( وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ) قال: لا تضارّ المرأة الّتي لها ولد وقد توفّى زوجها. فلا يحلّ للوارث أن يضارّ أمّ الولد في النّفقة. فيضيّق عليها.

وفي تفسير العيّاشيّ(٩) : عن العلا، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما

__________________

(١) المصدر: فإذا. (ظ)

(٢) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ٣.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ: «يرتفع» أو «ترتفع».

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ: فيقول.

(٥) المصدر: وأن.

(٦) المصدر: يضارّ.

(٧) مجمع البيان ١ / ٣٣٥.

(٨) تفسير القمي ١ / ٧٧.

(٩) تفسير العياشي ١ / ١٢١، ح ٣٨٣.

٣٥٣

ـ عليهما السّلام ـ قال: سألته عن قوله:( وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ) .

قال: هو في النّفقة على الوارث، مثل ما على الوالد.

وقيل(١) : المراد بالوارث، وارث الأب. وهو الصّبيّ، أي: مؤن المرضعة من ماله إذا مات الأب.

والأحسن أن يقال: المراد بالوارث، الباقي من أبويه. وعليه مثل ذلك، أي: عدم المضارّة بأنّه إن كان للمولود له مال عنده، لا يقتّر عليه ولا يمنع الولد من أن يأتي أمّه(٢) . وإن لم يكن له مال وكان ممّن يجب نفقته عليه، أنفق عليه، وغير ذلك.

والأخبار الّتي استدلّ بها الشّيخ الطّبرسيّ، كلّها تحمل على ذلك. يدلّ على هذا الحمل

، ما رواه أبو الصّباح(٣) : قال: سئل أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ) .

قال: ليس(٤) للوارث أن يضارّ المرأة. فيقول: لا. أدع ولدها يأتيها، ويضارّ ولدها إن كان لهم عنده شيء. ولا ينبغي أن يقترّ عليهم.

وفي من لا يحضره الفقيه(٥) : وقضى أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ في رجل توفّي، وترك صبيّا، واسترضع له، أنّ أجر رضاع الصّبيّ ممّا يرث من أبيه وأمّه.

( فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ ) ، أي: فصالا صادرا عن التّراضي منهما والتّشاور قبل الحولين.

والتّشاور والمشاورة والمشورة والمشورة، استخراج الرّأي من شرت العسل إذا استخرجته.

( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) في ذلك واعتبار التّراضي، لمصلحة الطّفل.

( وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ ) ، أي: تسترضعوا المراضع أولادكم، من استرضعتها إياه. فحذف المفعول الأوّل، للقرينة.

( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ) : فيه وفي نفي الجناح، إشعار بأنّ لبن أمّه أولى.

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ١٢٣.

(٢) النسخ: أمّها.

(٣) تفسير العياشي ١ / ١٢١، ح ٣٨٤.

(٤) المصدر: لا.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٣٠٩، ح ١٤٨٧.

٣٥٤

وفي كتاب عيون الأخبار(١) ، بإسناده، قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: ليس للصّبيّ لبن خير من لبن امه.

( إِذا سَلَّمْتُمْ ) إلى المراضع.

( ما آتَيْتُمْ ) ، أي: أردتم إيتاءه، كقوله تعالى(٢) :( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) .

وقرء ابن كثير: «ما أتيتم» من أتى عليه إليه إحسانا إذا فعله.

وقرئ: أوتيتم، أي: ما أتاكم الله.

( بِالْمَعْرُوفِ ) : صلة «سلّمتهم»، أي: بالوجه المتعارف المستحسن شرعا.

وجواب الشّرط محذوف. دلّ عليه ما قبله، أي: فلا جناح عليه، أو الشّرط في موضع الحال. فلا يحتاج إلى الجواب.

( وَاتَّقُوا اللهَ ) :

مبالغة في أمر الأطفال والمراضع. ومن جملة التّقوى في أمر الأطفال، اختيار المراضع الخيار لاولادكم. فإنّ اللّبن يعدى.

وفي كتاب عيون الأخبار(٣) ، بإسناده إلى الرّضا ـ عليه السّلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء. فإنّ اللّبن يعدى.

وفي كتاب الخصال(٤) ، فيما علّم أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ أصحابه: وتوقّوا أولادكم من لبن البغيّ من النّساء والمجنون. فإنّ اللّبن يعدى.

( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٢٣٣) :

حثّ وتهديد وفي إيراد البصير، مكان العليم، زيادة مبالغة.

( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) ، أي: أزواج الّذين، أو يتربّصن بعدهم الأزواج المتروكة.

وقرئ: يتوفّون (بفتح الياء)، أي: يستوفون آجالهم.

وتأنيث العشر، باعتبار اللّيالي لأنّها غرر الشّهور والأيّام.

قيل(٥) : ولعلّ المقتضى لهذا التّقدير، أنّ الجنين في غالب الأمر يتحرّك لثلاثة أشهر إن

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ٣٤، ح ٦٩.

(٢) المائدة / ٦.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ٣٤، ح ٦٧.

(٤) الخصال ٢ / ٦١٥، ح ١٠.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ١٢٤.

٣٥٥

كان ذكرا، ولأربعة، إن كان أنثى. فاعتبر أقصى الأجلين، وزيد عليه العشر، استظهارا إذ ربّما تضعف حركته في المبادي فلا يحسن بها.

وفي تفسير العيّاشيّ(١) : عن أبي بكر الحضرميّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: لـمّا نزلت هذه الآية:( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) جئن النّساء اتجاه(٢) رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله. وقلن: لا نصير.

فقال لهنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: كانت إحداكن إذا مات زوجها أخذت بعرة. فألقتها خلفها في دويرها في خدرها. ثمّ قعدت. فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول، أخذتها، ففتّتها، ثمّ اكتحلت منها، ثمّ تزوّجت. فوضع الله عنكنّ ثمانية أشهر.

وفي الكافي(٣) : حميد عن [ابن](٤) سماعة، عن محمّد بن أبي حمزة، عن أبي أيّوب، عن محمّد بن مسلم قال: جاءت امرأة إلى أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ تستفتيه في المبيت في غير بيتها. وقد مات زوجها.

فقال: إنّ أهل الجاهليّة كان إذا مات زوج المرأة، أحدّت عليه امرأته اثني عشر شهرا.

فلمّا بعث الله محمّدا ـ صلّى الله عليه وآله ـ رحم ضعفهنّ. فجعل عدّتهنّ أربعة أشهر وعشرا.

وأنتنّ لا تصبرن(٥) .

وعموم اللّفظ يقتضي تساوى الحرّة والأمة، زوجة كانت أو ملك يمين، والمسلمة والكتابيّة، والدّائمة والمتعة، والحائل والحامل، إن وضع الحمل قبل تلك المدة.

وفي تهذيب الأحكام(٦) : (احمد بن محمّد بن عيسى(٧) )، عن محمّد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر ـ عليه السّلام: ما عدّة المتعة إذا مات عنها الّذي (يتمتّع)(٨) بها؟

قال: أربعة أشهر وعشرا.

(قال): ثمّ قال: يا زرارة! كلّ النّكاح إذا مات الزّوج فعلى المرأة حرّة كانت، أو أمة، أو على أي وجه كان النّكاح منه، متعة، أو تزويجا، أو ملك يمين، فالعدّة أربعة أشهر وعشرا.

__________________

(١) تفسير العياشي ١ / ١٢١، ح ٣٨٦.

(٢) المصدر: يخاصمن. (ظ)

(٣) الكافي ٦ / ١١٧، ح ١٠.

(٤) يوجد في المصدر.

(٥) المصدر: لا تصبرن على هذا. (٦) تهذيب الأحكام ٨ / ١٥٧، ح ٥٤٥، وله تتمة.

(٧) المصدر: محمد بن أحمد بن يحيى. (٨) المصدر: تمتع.

٣٥٦

( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ ) : انقضت عدّتهنّ.

( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ) : أيّها الائمة والمسلمون!( فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ ) من التّعرّض للخطّاب(١) وسائر ما حرّم عليهنّ للعدّة،( بِالْمَعْرُوفِ ) : بالوجه الّذي يعرفه الشّرع. وإن فعلن ما ينكره الشّرع. فعليهم أن يكفوهنّ.

( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) . (٢٣٤) فيجازيكم عليه إن خيرا فخير. وإن شرّا فشرّ.

( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ ) :

التّعريض إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجاز، كقول السّائل: جئتك لأسلّم عليك.

و «الخطبة» بالكسر والضّم، اسم. غير أنّ المضمومة خصّت بالموعظة، والمكسورة بطلب المرأة.

والمراد «بالنّساء»: المعتدّات للوفاة.

وتعريض خطبتها، أن يقول لها: إنّك جميلة، أو نافقة، أو لا تحدثي حدثا، أو نحو ذلك.

( أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ) ، أي: أضمرتم في أنفسكم. ولم تذكروه تصريحا وتعريضا.

( عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ ) : ولا تصبرون على السّكوت.

( وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا ) :

استدراك عن محذوف، أي: فاذكروهنّ. ولكن لا تواعدوهنّ سرّا، أي: نكاحا، أو جماعا. عبّر بالسّر، عن الوطء. لأنّه يسرّ. ثمّ عن العقد. لأنّه سبب فيه.

وقيل(٢) : معناه لا تواعدوهنّ في السّرّ بما يستهجن.

( إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً ) : وهو التّعريض بالخطبة. والمستثنى منه محذوف، أي: لا تواعدوهنّ مواعدة إلّا مواعدة معروفة، بقول معروف.

وقيل(٣) : إنّه استثناء منقطع من «سرّا». وفيه أنه يؤدى إلى قولك: «لا تواعدوهنّ إلّا التّعريض.» وهو غير موعود. وفي الآية دلالة على حرمة تصريح خطبة المعتدّة، وجواز تعريضها، إن كانت معتدّة وفاة.

__________________

(١) ر: في الخطّاب.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ١٢٥.

(٣) نفس المصدر ونفس الموضع.

٣٥٧

( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ ) :

قيل(١) : ذكر العزم، مبالغة في النّهي عن العقد.

وقيل: معناه: لا تقطعوا عقدة النّكاح. فإنّ أصل العزم القطع.

ويحتمل أن يكون المراد: لا تقصدوا عقد النّكاح قبل انقضاء العدّة. فإنّ قصد الحرام، حرام. ويكون قوله:( حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ ) : متعلّقا بالنّكاح، لا بالعزم، يعنى: حتّى ينتهي ما كتب من العدّة.

( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ ) من العزم على ما لا يجوز وما يجوز.

( فَاحْذَرُوهُ ) ولا تعزموا على ما لا يجوز.

( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ ) لمن تاب،( حَلِيمٌ ) (٢٣٥): لا يعاجلكم بالعقوبة، لعلكم تتوبون.

وفي الكافي(٢) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: سألته عن قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

قال: هو الرّجل يقول للمرأة، قبل أن تنقضي عدّتها: «أواعدك بيت آل فلان» ليعرّض لها بالخطبة. ويعنى. بقوله( إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً ) ، التعريض بالخطبة عقدة النّكاح حتّى يبلغ الكتاب اجله.

عدّة من أصحابنا(٣) ، عن سهل بن زياد، ومحمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن أبي(٤) نصر، عن عبد الله بن سنان قال: سالت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ ) .

فقال: السّرّ أن يقول الرّجل: «موعدك بيت آل فلان.» ثمّ يطلب إليها أن لا تسبقه بنفسه(٥) إذا انقضت عدّتها.

__________________

(١) نفس المصدر ونفس الموضع.

(٢) الكافي ٥ / ٤٣٤، ح ١.

(٣) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ٢.

(٤) المصدر: «أحمد بن محمد.» وهو أحمد بن محمد بن أبي نصر. (معجم الرجال ٢ / ٣٦)

(٥) المصدر: بنفسها. (ظ)

٣٥٨

قلت: (قوله)(١) :( إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

قال: هو طلب الحلال في غير أن يعزم عقدة النّكاح، حتّى يبلغ الكتاب اجله.

محمّد بن يحيى(٢) ، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن عليّ بن أبي حمزة قال: سألت أبا الحسن ـ عليه السّلام ـ عن قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا ) .

فقال: يقول الرّجل: «أو أعدك بيت آل فلان.» يعرّض لها بالرّفث. ويرفث.

يقول الله ـ عزّ وجلّ:( إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً ) . والقول المعروف، التّعريض بالخطبة(٣) ، وحلّها.( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ ) .

حميد بن زياد(٤) ، عن الحسن بن محمّد، عن غير واحد، عن أبان، عن عبد الرّحمن(٥) عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ:( إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً ) قال: يلقاها، فيقول: «إنّي فيك لراغب. وإنّي للنّساء لمكرم. فلا تسبقيني بنفسك.» و «السّرّ»: لا يخلو معها حيث وجدها(٦) .

وفي تفسير العيّاشيّ(٧) : عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَ (لكِنْ) لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً ) . قال: المراة في عدتها تقول لها قولا جميلا، ترغّبها في نفسك. ولا تقول: «إنّى أصنع كذا. وأصنع القبيح من الأمر في البضع. وكلّ أمر قبيح.»

عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قول الله:( إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً ) قال: يقول الرّجل للمرأة، وهي في عدّتها: «يا هذه ما أحبّ(٨) إلّا ما أسرّك(٩) . ولو قد مضى عدّتك لا تفوتني إن شاء الله. فلا تسبقيني بنفسك.» وهذا كلّه من غير أن يعزموا عقدة(١٠) النّكاح.

( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ ) : لا تبعة من مهر ووزر ،

__________________

(١) المصدر: فقوله.

(٢) نفس المصدر ٥ / ٤٣٥، ح ٣.

(٣) المصدر: بالخطبة على وجها.

(٤) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ٤.

(٥) المصدر: عبد الرحمن بن أبي عبد الله.

(٦) المصدر: وعدها.

(٧) تفسير العياشي ١ / ١٢٣، ح ٣٩٤.

(٨) أ: أجب.

(٩) أ: أمرك.

(١٠) ر: من عقدة.

٣٥٩

( إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ ) ، أى: تجامعوهنّ،( أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) ، أى: قبل تحقّق أحد الأمرين: المجامعة(١) ، وتعيين الفريضة، أي: المهر. وهي فعيلة بمعنى المفعول.

و «الفرض»: التّقدير. نصب على المفعول. فإنّه على تقدير تحقّق الأوّل، إمّا يجب المسمّى، أو مهر المثل. وعلى تقدير تحقق الثّاني، يجب المسمّى، أو نصفه. فعدم شيء، إنّما هو على تقدير عدم تحقّق أحدهما.

( وَمَتِّعُوهُنَ ) : عطف على مقدّر، أي: فطلّقوهنّ. ومتّعوهنّ.

والحكمة في إيجاب المتعة جبرا، إيحاش الطّلاق.

( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) ، أى: على كلّ من الّذي له سعة.

و «المقتر»: الضيّق الحال ما يطيقه ويليق به.

[في تفسير العيّاشيّ:(٢) ](٣) عن ابن بكير قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قوله:( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) ، وما قدر الموسع والمقتر؟

قال: كان عليّ بن الحسين ـ عليه السّلام ـ يمتّع براحلته، يعني: حملها الّذي عليها.

[عن محمّد بن مسلم(٤) قال: سألته عن الرّجل يريد أن يطلّق امرأته.

قال: يمتّعها قبل أن يطلّقها. قال الله في كتابه:( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) .

وفي الكافي(٥) : أحمد بن محمّد بن عليّ(٦) ، عن](٧) محمّد بن سنان، عن أبي الحسن ـ عليه السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) قال: «القوام» هو المعروف: على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره على قدر عياله، ومؤنتهم الّتي هي صلاح له ولهم. و( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ) (٨)

وفي من لا يحضره الفقيه(٩) : روى محمّد بن الفضيل، عن أبي الصّباح الكنانيّ، عن

__________________

(١) ر: الجامعة.

(٢) تفسير العياشي ١ / ١٢٤، ح ٤٠٠.

(٣) ليس في أ.

(٤) نفس المصدر ونفس الموضع، ح ٤٠١.

(٥) الكافي ٤ / ٥٦، ح ٨، مقطع منه.

(٦) المصدر: أحمد بن محمد عن محمد بن على.

(٧) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٨) الطلاق / ٧. (٩) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٣٢٦، ح ١٥٧٩.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493