تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب12%

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 493

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 187979 / تحميل: 5876
الحجم الحجم الحجم
تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الامور وهي بعينها فضيلة الصبر والاستقامة والتي تحدثنا عنها سابقاً ، وإذا ما اختار الإنسان طريق الباطل وسبيل الانحراف مع عدم المرونة للتغيير بحيث إنّه يعتبر الجميع على خطأ وهو وحده الصحيح ، ولا يتحرّك في سبيل تصحيح الخطأ وجبران الزيغ ، فيكون قد اختار طريق الّلجاج ، وهو من أسوأ الأخلاق.

طريقة العلاج :

بصورة عامّة وكما هو معلوم فإنّ طريق العلاج للإمراض الأخلاقية يتمثل في أمرين :

«الأول» : الطريق العلمي وذلك من خلال تحليل عواقب تلك الرذيلة الأخلاقية ، ومن هذا الطرق يمكن للشخص أن يعرف آثارها السلبية ، ويعلم أنّها ستبعده من الله تعالى والناس وتقف عقبة في طريق تكامله وتمنعه من إدراك الحقائق وتعزله عن الناس ، وتضع الحجب على القلب ، وحينئذٍ يتحرّك هذا الإنسان من موقع الابتعاد عن هذه الرذيلة ويقلع جذورها من نفسه.

اللجاج والمماراة لا ينسجم مع الإيمان كما قال الإمام الصادقعليه‌السلام :«سِتَّةٌ لا تَكُونُ فِي المُؤمُنِ قِيلَ وَما هِي؟ قَالَ العُسرُ وَالنَّكدُ وَاللّجاجَةُ وَالكِذبُ وَالحَسَدُ وَالبَغي» (١) .

و «الطريق الآخر» لمحاربة تلك الرذيلة هو الحلّ العملي والتصدي لها في ميدان الممارسة والعمل ، فعند ما يرى نفسه قد توفّرت على عناصر ومقدمات ظهور الرذيلة في دائرة الحوار والنقاش ، فعليه أن يُسلّم فوراً للحق ويشكر المتحدث ، وإذا ما عاند وشاكس فليعتذر ، ولا يعيد الكلام من لجاجةٍ أبداً ، وإذا ما تكلم سهواً فليسكت ويستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، وبتكرار هذا البرنامج العملي ستنكسر حدة اللجاج في نفسه وتندثر.

ثم عليه أن يبتعد عن الأفراد اللّجوجين ، ولا يترك الجدال والبحث أو المِراء ، وليقرأ عن العظماء كيف كانوا يقبلون الحق ولو من الصغير أو العبيد أو تلامذتهم ، ويجلّوهم ويحترمونهم لأنّهم قالوا الحق.

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٤ ، ص ٣٠١ ، ح ٢٩.

٤١

وبما أنّ من آثارها المباشرة هو الرياء والجهل فكلّما استطاع الإنسان أن يكسِر شوكة هاتين الصفتين في نفسه فستقل لجاجته ، وليتذكر حالات الأقوام السابقة وكفرهم ومقابلتهم للأنبياء واختيارهم الكفر على الإيمان واستحقاقهم العذاب الإلهي لا لشيء إلّا لأنّهم لجّوا في باطلهم وأصروا على زيفهم ، ولئلا يصاب بما أصاب اولئك القوم من قبل ، وكيف أن بني اسرائيل باعوا كل ما لديهم ليشتروا تلك البقرة بحيث أفضى بهم إلى الاستجداء وذهبوا لموسىعليه‌السلام ليساعدهم في التخلص من هذه الورطة ، فعلمهم دعاء يعينهم على دنياهم(١) ، وكل ذلك كان بسبب لجّتهم وعنادهم.

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ١٣ ، ص ٢٧٢.

٤٢

٣

الشكر وكفران النعمة

تنويه :

«شكر النعمة» يمكن أن يكون باللسان أو بالعمل ، وعليه فإنّ «الكفران» هو عدم الاعتناء بالنعم وتحقيرها وتضييعها ، وهو أيضاً من الرذائل الأخلاقية ذات العواقب الوخيمة ، سواء كانت على الصعيد الفردي أو الاجتماعي ، والواقع أنّ الشكر يقرّب القلوب ويحكّم المحبّة في المجتمع ، والكفران يقطع أواصر المحبّة والوئام ويجعل من المجتمع جهنّماً لا يطاق يعيش فيه الانسان حالات من العداوة والبغض والحقد!

كفران النعمة مانع كبير أمام تكامل الروح الإنسانية وتهذيبها والسير إلى الله تعالى ، حيث يتسبب في ذبول عناصر الخير في الضمير ويطفيء النور الباطني الممتد في أعماق الوجدان ويلّوث الروح.

و «شكر النعمة» هو قضية فطرية ، اودعت في الإنسان لتفتح له آفاق التوحيد ومعرفة الله تعالى ، ولهذا نجد أنّ كثيراً من علماء العقائد يفتتحون بحوثهم بمسألة «ضرورة معرفة المنعم» ، وسيأتي شرحها في المستقبل إن شاء الله تعالى.

بهذه الإشارة نعود للقرآن الكريم لنستعرض فيه الآيات التي تذم حالة الكفران ، وتمدح حالة الشكر للنعمة :

٤٣

١ ـ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) (١) .

٢ ـ( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (٢) .

٣ ـ( وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (٣) .

٤ ـ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) (٤) .

٥ ـ( وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ) (٥) .

٦ ـ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ ) (٦) .

٧ ـ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) (٧) .

٨ ـ( لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) (٨) .

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» تستعرض كلام النبي موسىعليه‌السلام مع بني اسرائيل ، حيث يذكرهم بأمر

__________________

١ ـ سورة ابراهيم ، الآية ٧.

٢ ـ سورة النمل ، الآية ٤٠.

٣ ـ سورة لقمان ، الآية ١٢.

٤ ـ سورة هود ، الآية ٩ و ١٠.

٥ ـ سورة الاسراء ، الآية ٦٧.

٦ ـ سورة ابراهيم ، الآية ٢٨ و ٢٩.

٧ ـ سورة النحل ، الآية ١١٢.

٨ ـ سورة السبأ ، الآية ١٥ ـ ١٧.

٤٤

إلهي مهم :( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) ، فذكّرهم النبيعليه‌السلام بقضية الشكر ومعطياته والكفران وآثاره السلبية وذلك بعد ما انتصروا على فرعون ونالوا الاستقلال وذاقوا طعم الحرية والعظمة وظهرت منهم بوادر كفران النعمة.

جملة( لَأَزِيدَنَّكُمْ ) فيها أنواع من التأكيدات ، فهي وعد إلهي قطعي للشاكرين ، بأنّه سيزيدهم من فضله ، واللطيف في الأمر أنّ الله تعالى لم يخاطب كفّار النعمة بالقول : «لُاعذّبنكم» بل قال :( إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) وهو نهاية اللطف والرحمة في دائرة التعامل المولوي تجاه المخلوقين ، وفي نفس الوقت تهديد شديد ووعيد مخيف لكفّار النعم بأنّ عليهم أخذ العبرة من قصة بني اسرائيل عند ما كفروا أنعُم الله «فتاهوا» في الصحراء أربعين سنة.

في«الآية الثانية» يدور الحديث عن النبي سليمانعليه‌السلام وقومه ، عند ما اقترح عليهم أن يأتوه بعرش ملكة «سبأ» ، فقال له أحد حواريه وكان عنده علم من الكتاب :( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ، فشعر سليمانعليه‌السلام بالفرح يغمر نفسه لوجود مثل هذه الشخصيات في بلاطه ولديهم الروحيات والمعنويات القوية ، فقرر أن يشكر الخالق تعالى ، فقال :

( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) .

والجدير بالذكر أنّ ثواب الشاكر ذكر في هذه الآية بوضوح ، ولكن عقاب من يكفر بالنعمة ذكر بصورة غير مباشرة( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) حيث ركزت الآية على كرم الله تعالى ، وهو نهاية رحمة الله ولطفه في دائرة التخاطب مع الإنسان.

ويمكن استفادة نقطة مهمّة اخرى من الجملة الانفة الذكر ، وهي أنّ الله تبارك وتعالى يحذّر عباده من الكفر ويدعوهم للشكر لا لحاجة منه إليهم ، وحتى على فرض كفران النعمة فإنّه يفيض من كرمه ولطفه على الناس لعلّهم يرجعون عن غيّهم ولا يحرمون أنفسهم من أنعُم الله تعالى.

٤٥

وأساساً فإنّ الكتب الإلهية تعود بالنفع على العباد أنفسهم ، فهي بمثابة دروس لهم ، لتربية أنفسهم ، فالباري تعالى غنيٌّ بذاته ولا يحتاج إلى أحد ، لا لطاعة العباد ولا عصيانهم ولا يضرونه بالعصيان شيئاً.

«الآية الثالثة» تحمل مضمون الآية السابقة حيث تستعرض لنا قصة «لقمان الحكيم» :( وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) .

الحكمة التي أتاها الله تعالى للقمان تشمل معرفة أسرار الكون والعلم بطرق الهداية والصلاح ، والطريقة المثلى للحياة الفردية والاجتماعية ، التي جاءت بصورة نصائح لقمان لابنه في سورة لقمان ، وهي موهبة إلهية ونعمة روحية أكّد الله تعالى على أهميّتها ، كما ذكر في الآية التي قبلها على أحدى النعم المعنوية ، حتى لا يغرق الناس في منزلقات النعم المادية ويتصورون أنّ النعم والمواهب الإلهية تنحصر في الماديّات فقط.

ويجدر هنا الإشارة إلى نقطتين :

«الأولى» إنّ الشكر أتى بصورة الفعل المضارع ، والكفران بصيغة الماضي ، وهي إشارة إلى أنّ مسير التكامل والرقيّ والقرب إلى الله تعالى يحتاج إلى المداومة على الشكر في حين أنّ لحظة من كفران بإمكانها أن تفضي إلى نتائج وخيمة وعواقب مؤلمة.

و «الثاني» إنّ الآية ركّزت على صفتي (الغني الحميد) ، بينما كان التركيز في آية النبي سليمانعليه‌السلام على صفتي (الغني والكريم) وهذا الفرق يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الله تعالى غنيٌّ عن شكر المخلوقين ، فالملائكة تسبح بحمده وتقدسه على الدوام ، وإن كان غنيّاً عنهم أيضاً ، ولكن العباد بشكرهم يستوجبون المزيد من النعم عليهم.

«الآية الرابعة» انطلقت للحديث عن الأشخاص الذين يعيشون ضيق الافق وعدم الإيمان والتقوى ، فهم يعيشون الكفران للنعمة بكل وجودهم :

( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ

٤٦

بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) .

نحن نعلم أنّ القرآن الكريم عند ما يتحدث عن الإنسان في واقعه السيء ويصفه بصفات ذميمة بصورة مطلقة ، إنّما يقصد الإنسان المنفصل عن الله في حركة الحياة ومن يعيش عدم الإيمان أو ضعف الإيمان ، ولهذا ورد في الآية التي جاءت بعد الآيات مورد بحثنا :( إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ) .

بهذا الاستثناء يتبيّن أنّ الأفراد الذين يعيشون حالة اليأس من رحمة الله والغافلين والكفورين ، أفراد لم يصلوا في واقعهم النفسي لمرحلة الإيمان بعد.

وعلى العموم يمكن أن نستنتج من الآيات الآنفة الذكر ، أنّ الكفران وعدم الشكر تؤدي بالإنسان إلى التلّوث بصفات سيئة اخرى تحرمه المغفرة والأجر الكبير.

تعبير «لئن أذقنا» تعبير لطيف في الموردين فيقول : إنّ ضعاف النفوس والإيمان إذا سلبت منهم نعمة من النعم ، فسرعان ما يجري على ألسنتهم الكفر ويدب اليأس في قلوبهم ، وإن جاءتهم نعمة إذا بهم يغترّون ويتحركون في أجواء الغفلة والطغيان ، والدنيا هي كلها شيء صغير وحقير ، وما يصل إلى الإنسان منها أصغر وأحقر ، ومع ذلك فإنّهم يتأثرون بسرعة لضعف نفوسهم وضيق آفاق إيمانهم.

ولكن الإيمان بالله تعالى ومعرفة ذاته المقدسة اللّامتناهية في القدرة والعلم ، تمنح الإنسان عناصر القوة والحركة وتعينه على مواجهة أكبر الحوادث السيئة والحسنة دون أن تؤثر في نفسه شيئاً.

وتنطلق«الآية الخامسة» لتشير إلى الأفراد الذين يتوجهون إلى الله تعالى عند وقوع المصيبة ويدعونه ويتوسلون بلطفه بكل وجودهم ، وبمجرّد انقشاع سحائب الأزمة ينسون كل شيء ويكفرون مرّة اخرى :

( وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً )

٤٧

وطالما جرّبنا هذا الأمر في حياتنا الشخصية وشاهدنا ضعيفي الإيمان عند ما يمحصون بالبلاء ، كالمرض والفقر والمصائب الاخرى ، يتوجهون باخلاص للباري تعالى وبمجرّد انكشاف تلك المصائب وعودة المياه إلى مجاريها تراهم يتغيّرون ويسلكون طريق الكفر والحال أنّ الإنسان في هذه الأحوال أيضاً يجب عليه التوجه والالتجاء إلى الذات المقدسة أكثر من ذي قبل.

وفي تكملة الآية الكريمة يعبّر القرآن الكريم بتعبير جميل جدّاً حيث يقول :( أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً ) .

فهنا إشارة إلى أنّه كيف يمكن أن تكفروا وتتغيّروا فأينما تذهبوا فأنتم تحت سلطته ، وبإمكانه أن يعذبكم في أي مكان كنتم فيه سواء في البرّ أو في البحر؟

ويجب التوجه إلى أنّ كلمتي«الخسف» و «الغرق» في هذه الآية لهما مفهوم مترادف فالأولى يراد بها الاختفاء في الأرض ، والثانية الاختفاء في البحر.

«الآية السادسة» من الآيات تتوجه بالخطاب إلى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وتشرح عاقبة كفران النعم :

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ) وبعدها يضيف :( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ ) .

هذه التعبيرات تبيّن أنّ كفران النعم الإلهية ، يمكن أن يؤدي بقوم أو بمجتمع بأكمله إلى قعر جهنّم ولا يستبعد نزول العذاب الدنيوي فيها حيث تبدل دنياهم إلى جحيم لا يطاق.

وقد اختلف المفسّرون في المقصود من النعمة في هذه الآية ، فبعض قال : إنّها بركة وجود الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله فالعرب المشركون قد كفروا بالنعمة بانكارهم لدعوته ورفضهم الاذعان لرسالته فاحلّوا قومهم دار البوار ، وفسّرها البعض الآخر بأهل البيتعليهم‌السلام حيث كفر بهم البعض أمثال بني امية ، ولكن على الظاهر أنّ مفهوم الآية أوسع من هذه الدوائر والاطر

٤٨

في مصاديق الآية ويشمل جميع النعم الإلهية ، وما ذكر آنفاً يعدّ من مصاديقها الواضحة ، على الرغم من تصريح الآيات التي وردت بعدها بالأشخاص الذين تركوا الإسلام والتوحيد واختاروا الشرك وعبادة الأصنام ، ولكن هذه النماذج تعتبر أيضاً من مصاديقها البارزة.

وقال البعض الآخر : مثل الفخر الرازي والمرحوم الطبرسي في مجمع البيان ، إنّ سبب النزول لهذه الآية ناظر لأهل مكّة الذين أعطاهم الله تعالى أنواع النِعم وأهمها بعثة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من بين ظهرانيهم ، ولكنهم لم يقدّروا تلك النعمة وكفروا بها ، فأصبحت عاقبتهم أليمة ، فكفرهم بنعمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو نفس كفرهم بالله والرسالة!

ولكننا نعلم أنّ شأن النزول لا يخصص مفهوم الآية بمورد خاص.

وتأتي«الآية السابعة» لتتحدث عن جماعة أنعم الله تعالى عليهم بنعمة ظاهرة وباطنة ، نعمة الأمان والرزق الكثير والنعم المعنوية والروحية التي نزلت عليهم بواسطة نبيّهم ولكنّهم كفروا تلك النعم فعاقبهم الله تعالى بعقاب الجوع والخوف :

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ )

اختلف المفسّرون بأن هذه الآية هل تشير إلى مكان بالخصوص أم إنّها مثال عام كلي ، فبعض يعتقد أنّها أرض مكّة ، وتعبير( يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ) ، يقوي ذلك الاحتمال ، لأنّه ينطبق بالكامل على أحوال وشرائط مكّة ، إذ هي أرض جافة وصحراء قاحلة غير ذات زرع وماء ولكن الله سبحانه قد باركها وأنزل عليها النعم من كل مكان.

وتعبير( كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ) هو قرينة اخرى على أنّها مكّة ، فأرض الحجاز غالباً ما كانت أرضاً غير آمنة إلّا مكّة وذلك ببركة وجود الكعبة الشريفة.

وعند ما وصلت النعم المادية على أهل مكّة إلى الذروة أتمها الله تعالى ببعثة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّهم كفروا النعم الماديّة والمعنوية ، فابتلاهم الله تعالى بالقحط والخوف ، وهذا هو مصير من كفر بأنعم الله تعالى.

٤٩

ومع ذلك فإنّ مفهوم الآية يمكن أن يكون أعم فيستوعب في مضمونه جميع من يكفر بالنعمة وأرض مكّة هي أحد مصاديق هذه الآية ، حيث ورد في الروايات أن القحط والجوع أخذ منهم مأخذاً كبيراً بحيث كانوا يتغذّون على أجساد الموتى لسدّ جوعهم ، وكذلك في الغزوات الإسلامية ، حيث أضرّت بهم كثيراً.

«الآية الثامنة» من الآيات ، تتطرق إلى قوم من أكفر الناس ، وهم (قوم سبأ) حيث حباهم الله تعالى : بأفضل النعم وأحسنها ، ولكن غرورهم وغفلتهم واتباعهم لأهوائهم ، أعماهم وأضلّهم ، فكفروا ، فأخذهم الله بذنوبهم ومحق تلك النعم من أيديهم ، فقال :

( لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) .

وقد ذكر المفسّرون أنّه على الرغم من أنّ أرض اليمن خصبة ولكن لفقدان الأنهار فيها ، كانت أغلب أراضيها بائرة لا يستفاد منها ، ففكر القوم ببناء سدّ يمنع السيول القادمة من الجبال ، فبنوا عدّة سدود وأهمها (سد مأرب) حيث كان يقف أمام السيول بين جبلي بلق العظيمين ، فتجتمع خلفه مياه كثيرة استطاعوا بواسطتها أن يزرعوا ويسقوا به جنائن وبساتين كثيرة قامت على طرفي السدّ ، ونشأت حولها القرى وأصبحت مركزاً عظيماً للنشاط التجاري وتجمع الناس ، فالقرى كانت متصلة ببعضها بحيث أن ظلال الأشجار كانت متصلة على طول الطريق ووفور تلك النعم كان مقترناً مع الأمان الاجتماعي والرفاه الاقتصادي ، فكانت حياتهم هانئة جدّاً ، اجتمعت فيها كل متطلبات الحياة آنذاك ومثل هذه الأجواء كان من شأنها أن تفضي لإطاعة الله تعالى والتكامل الروحي.

ويستمر القرآن الكريم ، فيقول إنّ النعم أصبحت كثيرة جدّاً ممّا حدى بهم لأنّ تتحرك فيهم عناصر الطغيان فنسوا ذكر الله تعالى وأخذوا يتفاخرون ويقسّمون الناس إلى طبقات ، ولكنهم بالتالي ذاقوا وبال أعمالهم فأرسل الباري تعالى عليهم سيل العرم :( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ

٥٠

وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) .

ومن عجائب هذه القصّة أنّ المفسّرين ذكروا هجوم الجرذان الصحرواية على السدّ فأخذت تنخر فيه من الداخل دون أن يراها الناس المغرورون المشتغلون بالملذّات وكفران النعم ، وفجأة أمطرت السماء مطراً شديداً ، وتحرّك سيل عظيم وتجمعت المياه خلف السدّ ، ولكن جدران السد لم تتحمل كل هذا الضغط ، فانهارت وأخذ السيل طريقه للقرى والأراضي الزراعية ، فلم يُبق لها شيء ، لا مزارع ولا أنعام ، وتبدل كل شيء إلى صحراء قاحلة لا ينمو فيها سوى النباتات البرية ، ففرت الطيور الجميلة وحلّت محلّها الغربان والبوم ، وتفرق الناس إلى الأطراف وأصبحوا من أفقر الناس يأسفون على ماضيهم الجميل ، ولكن هيهات ، حيث لا تفيد ساعة ندم.

نعم فهذه هي حال الأقوام التي تغفل عن ذكر الله وتكفر بأنعمه.

والطريف في الأمر أنّ الأثرياء منهم اعترضوا على قرب المسافات بينهم ، حيث يستطيع أن يسافر كل أحد لقرب المسافة ووفرة الخير في الطريق ، فقالوا : أصبح بإمكان الفقير أن يسافر معنا أيضاً ، فطلبوا من الله تعالى أن يباعد بين أسفارهم حتى لا يستطيع الفقراء السفر معهم أيضاً ، نعم فقد وصلوا إلى أعلى مراتب الطغيان ، فعاقبهم الله تعالى بأشدّ العقاب ، فتفرق جمعهم وأصبحوا مضرباً للأمثال وخصوصاً في الفرقة ، فقالوا فيهم : (تفرقوا أيادي سبأ).

من مجموع الآيات محل البحث تتبين خطورة وبشاعة كفران النعم ، حيث تناولت الآيات هذه المسألة وآثارها السيئة على الفرد والمجتمع وخاصة ما أحلّ الكفران بالأقوام السابقة من نتائج مدمرة وعواقب مشؤومة في حركة الإنسان والحياة.

كفران النعم في الروايات الإسلامية :

تناولت الروايات الإسلامية هذه المسألة بصورة واسعة ومفصلّة وتكلّمت عن آثار حالة الكفران المشؤومة وأضرارها ، وكذلك تناولت بركات الشكر للنعم والمواهب الإلهية ، ومنها :

٥١

١ ـ جاء في حديث عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«أَسرَعُ الذُّنُوبِ عُقُوبَةً كُفرانُ النِّعْمَةِ» (١) .

٢ ـ ونقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال :«سَبَبُ زَوالِ النِّعَمِ الكُفرانُ» (٢) .

٣ ـ وعنه أيضاًعليه‌السلام :«كُفرُ النِّعْمَةِ مُزيلُها وَشُكرُها مُستَدِيمُها» (٣) .

٤ ـ في حديث آخر عنهعليه‌السلام :«كُفرانُ النِّعَمِ يُزِلُّ القَدَمَ وَيَسلُبُ النِّعَمَ» (٤)

٥ ـ وأيضاً عنهعليه‌السلام :«آفَةُ النِّعَمِ الكُفرانِ» (٥) .

٦ ـ وعنهعليه‌السلام أيضاً :«كافِرُ النِّعْمَةِ كافِرُ فَضلِ اللهِ» (٦) .

٧ ـ والاستدراج هو أحد عقوبات الباري تعالى ويعني أنّ الله تعالى يغدق على عبده الكافر نعمه ثم يسلبها منه حتى يحس بالألم والعناء الشديدين ، وقد جاء في حديث عن الإمام الحسينعليه‌السلام :«الإِستِدراجُ مِنَ اللهِ سُبحانَهُ لِعَبدِهِ أَنْ يُسْبِغَ عَلَيهِ النِّعَمَ وَيَسلُبَهُ الشُّكرَ» (٧) .

٨ ـ عن الإمام السجاد علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال :«الذُّنُوبُ الَّتِي تُغَيُّرُ النِّعَمَ البَغيُ عَلَى النّاسِ والزَّوالُ عَنِ العادَةِ فِي الخَيرِ واصطِناعُ المَعرُوفِ ، وَكُفرانُ النِّعَمِ وَتَركِ الشُّكْرِ» (٨) .

٩ ـ وفي حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال :«كُفرُ النِّعْمَةِ لُؤمٌ وَصُحْبَةُ الأحمَقِ شُؤمٌ» (٩) .

١٠ ـ وختاماً نختم بحثنا بهذا الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في معرض حديثه عن جنود العقل وجنود الجهل ، حيث أمر أصحابه بأن يتعرفوا على جنود العقل وجنود الجهل ، وعند ما سأله بعض أصحابه عنه قال :«إنّ اللهَ جَعَلَ للِعَقلِ خَمساً وَسَبعينَ جُندِياً وَضِدَّهُ

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٦ ، ص ٧٠.

٢ ـ غرر الحكم ، ج ٤ ، ص ١٢١.

٣ ـ المصدر السابق ، ٦٢٧.

٤ ـ المصدر السابق ، ص ٦٣٠.

٥ ـ بحار الانوار ، ج ٣ ، ٢٩٨.

٦ ـ المصدر السابق ، ج ٤ ، ص ٦٣٤.

٧ ـ المصدر السابق ، ج ٧٥ ، ص ١١٧.

٨ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٣٧٥.

٩ ـ غرر الحكم ، ج ٤ ، ص ٦٣٠.

٥٢

الجَهلُ إلى أن قال ـ والشُّكرُ وضِده الكُفرانُ» (١) .

ما ذكر في الروايات العشر السابقة ، يبيّن مدى خطورة هذه الرذيلة وآثارها السيئة على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية وكيف أنّ الإنسان ينحدر من أوج الكرامة وذروة النعمة إلى قعر الذلّة والمسكنة ، وتسلب منه التوفيقات الإلهية ويبتعد عن الله تعالى ويقترب من الشيطان.

وهنا يجدر الإشارة إلى عدّة نقاط :

١ ـ معنى كفران النعمة

الكفر يعني في الأصل الإخفاء ، وبما أنّ الكافر يسعى في إخفاء وتغطية النعمة ، وقيمتها فسمّي عمله بالكفران.

ومن البديهي أنّ الكفران مرّة يكون بالقلب واخرى باللسان واخرى بالعمل.

ففي قلبه لا يستشعر الإنسان أهمية تلك النعمة ، ويصرّح بلسانه بقلّة النعمة وعدم أهميتها ، وفي العمل لا يتحرك من موقع الاهتمام بمواهب الله عليه ، وبدلاً من أن يستعملها بالخير ، يستعملها بالشر ولذلك قال كبار علماء الأخلاق :

«الشُّكْرُ صَرفُ العَبدُ جَمِيعَ ما أَنْعَمَهُ اللهُ تَعالى فِي ما خُلِقَ لأجلِهِ».

لذلك فالكفران هو استعمال النعم في غير محلها ، فالعين التي وهبها الله تعالى للإنسان ليرى بها طريق الحق والآيات الإلهية ويشخص بها الطريق السوي من البئر لئلا يقع فيه ، فإذا به يستعملها في موارد الحرام ، وكذلك اليد والاذن وغيرها من الجوارح أو المال والثروة.

وكأنّ هذا الكلام مقتبس من كلام الإمام الصادقعليه‌السلام ، حيث يقول :«شُكرُ النِّعمَةِ إجتِنابُ المَحارمِ» (٢) .

وبهذا يتبيّن لنا معنى الشكر وعدم الشكر.

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ١ ، ص ١١٠ مع التلخيص.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٥ ، ح ١٠ ؛ نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٥٢٩.

٥٣

٢ ـ عواقب الكفران

الكفران بالنعمة يفضي إلى نتائج سيئة كثيرة في دائرة الماديات والمعنويات في حياة الإنسان فمن ذلك أنّه يتسبب في زوال النعم ، لأنّ الباري تعالى حكيم ، لا يعطي شخصاً شيئاً بدون حساب ولا يسلب أحداً شيئاً بلا مبرر ، فالذين يكفرون بالمنعم فلسان حالهم يقول :

بأننا لا نليق ولا نستحق هذه النعم ، فتوجب الحكمة الإلهية سلب تلك النعم منهم ، والذين يشكرون النعم فلسان حالهم يقول : إننا نستحق تلك النعم الإلهية وزد علينا يا ربّ ، مثلاً عند ما يرى الفلاح أنّ في بستانه أشجاراً مورقة أكثر من غيرها فسوف يعتني بها أكثر من غيرها حتى تنمو وتكبر بسرعة وتثمر ، وإذا شاهد أشجاراً لا تثمر ولا تورق ولا ظلّ لها مهما أهتم بها وبذل لها العناية في مجال السقي والتهذيب ، فكفران الأشجار للنعمة يدعو الفلاح لعدم الاعتناء بها وتركها لحالها.

وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال :

«مَنْ شَكَرَ النِّعَمَ بِجِنانِهِ استَحَقَّ المَزيدَ قَبْلَ أَن يَظهَرَ عَلَى لِسانِهِ» (١) .

وجاء في روايات اخرى نقلت عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه وبمجرّد الحمد والثناء يصدر الباري تعالى أمره بزيادة النعم على ذلك العبد ، فقال :«ما أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبدٍ مِنْ نِعمَةٍ فَعَرَفَها بِقَلبِهِ وَحَمِدَ اللهَ ظاهِراً بِلِسانِهِ فَتَمَّ كَلامُهُ حَتّى يُؤمَرَ لَهُ بِالمَزيدِ» (٢) .

وبديهي أنّ الكفران يفضي إلى نتائج معاكسة كذلك ، ويمكن أن يلطف به الله تعالى ويؤخر عنه سلب النعمة ولكن وعلى أية حال إذا لم يتنبه الإنسان وبقي على ما هو عليه في دائرة الغفلة والجحود للنعمة ، فستسلب منه بالتأكيد ، لأنّ ذلك من لوازم الحكمة الإلهية.

ومن جهة اخرى فإنّ الكفران يسبب البعد من الله تعالى وهو الخسران الأكبر ، فعظماء علماء الكلام في أول أبحاثهم ذهبوا إلى أن شكر المنعم هو من أول الدوافع لمعرفة الباري تعالى وأنّ شكر المنعم أمر وجداني ، فعند ما يرى الإنسان نفسه غارقاً بالنعم الظاهرة

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل ، ج ٢ ، ص ٣٩٩.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٥ ، ح ٩.

٥٤

والباطنة ، وأنّها ليست منه فسيسعى لشكر المنعم من خلال البحث عن مصدر النعمة ، وهذا هو الذي يُمهد الطريق لمعرفة الله تعالى ، ولكنّ الناكرين لأنعم الله والذين لا يقدّرون المنعم فسيحرمون من معرفة الله تعالى ، بالإضافة إلى ذلك فإنّ عدم شكر الخالق يفضي بدوره إلى عدم شكر المخلوق ، فلا يقيم وزناً لجميل الآخرين ومعروفهم ، وكأنّه هو الذي له الحق عليهم ، ممّا يسبّب نفور الناس منه وكراهيتهم له ، وبالتالي سيؤدي إلى العزلة والانزواء في حركة الواقع الاجتماعي وقلّة الصديق والناصر في مقابل المشكلات وتحديات الواقع الصعبة.

أسباب ودوافع الكفران وطرق علاجه :

التقصير في الشكر ينشأ من عدم معرفة الإنسان بالمنعم بصورة كاملة ، وأساساً فانّه لا يتحرك في طريق التدبّر في النعم الإلهية ، فمثلاً عند ما ننظر إلى بدننا وما فيه من عجائب ودقائق وتفاصيل على مستوى الخلقة فسنتوجه إلى أهمية تلك النعم ويتحرك فينا حسّ الشكر لله تعالى.

وعلى سبيل المثال إذا استطاع البشر أن يصنع مثل الأجهزة الموجودة في الإنسان (مثل القلب والكبد والكلية والرئتين) فستكون قطعاً أقل كيفية من صنع خالقها ، وستكلفه الكثير جدّاً ، وعلى هذا فإذا أردنا حساب قيمة ما يوجد لدينا من أعضاء وجوارح بدنية فسيتبين أنّ لدينا وبحوزتنا ثروة كبيرة جدّاً.

أمّا النعم الخارجية ، فيمكن أن تكون جرعة ماء تساوي الدنيا بما فيها ، وقد نقل عن بعض العلماء أنّه دخل على أحد الملوك وكان بيد الملك قدح ماء فأراد أن يشرب فتوجه للعالم الكبير وقال له عِظني ، فقال له العالم : إذا كنت في يوم من الأيّام عطشاناً لدرجة الموت وجاءوك بالماء بشرط أن تتنازل عن الملك ، فهل ستتنازل؟ فقال نعم ، فلا حيلة في ذلك.

فقال له : كيف تتعلق بُملك وحكومة تساوي شربة ماء؟

٥٥

ويرى الإنسان حيناً آخر مريضاً يصرخ من شدّة الألم بحيث يتمنى الموت على هذا الألم ، فلو اعطيت للإنسان الدنيا بأسرها وهو على ذلك المرض ، فلن يقبل بذلك ، بل يرضى أن يأخذوا منه كلّ شيء إلّا العافية.

هناك نعمٌ ظاهرها غير مهم لكنّها إن فقدت فستتعرض حياة الإنسان للخطر ، مثل غدد اللّعاب التي ترطب الشفاه والفم وتلين الأكل وتسهل عملية البلع ، فإذا توقفت هذه الغدد في يوم ما فسيجف الفم ويعسر عليه الأكل ويتوقف عن الكلام وتصبح الحياة مستحيلة ، فذلك الجزء الصغير من بدن الإنسان أهم بكثير من ثروات الدنيا أجمع.

وكذلك في نعمة الشمس والهواء والنباتات والمواهب الاخرى العظيمة وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم :( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ) (١) .

ويجب التنبه أنّ كثيراً من النعم الإلهية لا يتسنى للإنسان معرفتها ، لأنّها لن تُسلب منه ، فبعض النعم والمواهب تعيش مع الإنسان فاذا سلبت منه عرفها وأقرّ بعظمتها ، وبعضها سيبقى في الكتمان وهي كثيرة جدّاً.

مثلاً مسألة الجاذبية فلم يكن أحد يعرف قبل السفر إلى الفضاء وفقدان الجاذبية هناك ، كم هي مهمّة هنا على الأرض ، إذ لولاها لما استطاع الإنسان أن يفعل شيئاً لا زراعة ولا صناعة ولا حركة ، فأقل حركة من الإنسان سيرتطم بالسقف والجدار وستتناثر الأطمعة والأشربة من المائدة ولن يستطيع الإنسان أن يأكل أو يشرب شيئاً ، فحركة الأرض تؤدي إلى قدف كل شيء في الفضاء لو لا الجاذبية وستتحول الأرض إلى صحراء قاحلة محرقة ، فتفكروا إننا لو قضينا العمر في شكر هذه النعمة فهل سنؤدّي شكرها؟

وإذا أضفنا إليها النعم المعنوية وهداية الأنبياء وكلام المعصومينعليهم‌السلام ونزول الكتب الإلهية ، والتي هي أعلى وأهم من النعم الماديّة ، فسنعرف مدى عظمة وقيمة مواهب الرحمن وسنعرف قدرتنا على الشكر كم هي ضعيفة وضئيلة.

فالتوجه لهذه الامور تقلع جذور الكفران وتحيي فيه روح الشكر.

__________________

١ ـ سورة النحل ، الآية ١٨.

٥٦

ومنها نعرف طريقة العلاج ، ولذلك قالوا : إنّ أول طريق للشكر هو المعرفة والتفكير بالمواهب والصنائع الإلهية وأنواع نعمه الظاهرة والباطنة(١) .

الطريقة الاخرى : هي النظر في دائرة النعم والمواهب المادية إلى المستويات الدنيا للناس ، فكلما فكّر الإنسان فيها فستبعث فيه روح الشكر ، ولكن إذا نظر إلى من هو أعلى منه من حيث الثروة والنعمة فسوف تستولي عليه الوساوس الشيطانية وتؤذيه.

ومن جهة ثالثة إذا ابتلي بمصائب الدنيا ، فليعلم أنّه يوجد مصائب أكبر من التي اصابته وليشكر الله أنّه لم يتورط بالأكبر والأشد منها.

وقد نقل عن شخص أنّه اشتكى عند أحد العظماء أنّ السارق قد أتى وسرق كل شيء ، فقال له : اذهب واشكر الله تعالى إذ لم يأت الشيطان الى بيتك بدلاً من السارق ، فلو أخذ منك إيمانك فما كنت تفعل؟(٢)

وقد ذكر الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب «التوحيد» المعروف بتوحيد المفضل حقائق توحيدية هامة من موقع تحليل ماهية النعم الإلهية في تفاصيلها الدقيقة ومن خلالها ينفتح الإنسان على المنعم الحقيقي.

ومن جملتها نعمة الكلام والكتابة وقد اعتبرها الإمام الصادقعليه‌السلام عمود الحضارة الإنسانية : وبعد شرح طويل لها قال :

«فَإنّه لَو لَم يَكُن لَهُ لِسان مُهيأ للكَلامِ وَذِهن يَهتَدِي بِهِ للُامورِ لَم يَكُن لِيتَكَلَّمَ أَبَداً ، وَلَو لَم يَكُن لَهُ مُهيأةً وَأَصابِعَ للِكِتابَةِ لِيَكتُبَ أَبداً ، واعتَبر ذَلِكَ مِنَ البَهائِمِ الّتي لا كَلامَ لَها ولا كِتابَةَ ، فَأصلِ ذَلِكَ فَطرَةِ الباري عَزَّ وجَلَّ وما تَفضل بِهِ عَلَى خَلقِهِ ، فَمن شَكَرَ اثِيبَ ، وَمَنْ كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ العالَمِينَ» (٣) .

__________________

١ ـ معراج السعادة ، ص ٨١٠.

٢ ـ المحجة البيضاء ، ج ٧ ، ص ٢٧٧.

٣ ـ بحار الانوار ، ج ٣ ، ص ٨٢.

٥٧

الشكر قناة موصلة للنعم الإلهية :

النقطة المقابلة للكفران ، هي شكر الإله ، ومفهومها تقدير النعم بالقلب واللسان والعمل ، أمّا التي بالقلب فهي معرفة الخالق والتسليم إليه والرضا بعطائه وذكر الامور التي تبيّن تقدير وشكر الخالق من قبل المخلوق في مقابل نعمه تبارك وتعالى ، أمّا من الناحية العملية فهو وضع النعم والمواهب الإلهية في المكان اللائق والذي خلقها الله تعالى لأجله.

يقول الراغب في المفردات : الشكر هو بمعنى التصور للنعمة واظهارها ، وقال البعض أن الكلمة في الأصل كانت «كشر» بمعنى الإظهار والابراز (والدابة الشكورة) تطلق على الحيوان الذي يواظب ويهتم بالزرع والماء وتسمن يوماً بعد يوم ، و «العين الشكراء» بمعنى العين المليئة بالماء ولذلك فإنّ الشكر بمعنى امتلاء وجود الإنسان من ذكر المنعم للنعم.

والشكر على نوعين : شكر تكويني وشكر تشريعي ، الشكر التكويني هو شكر المخلوق للمواهب والنعم التي بحوزته وتحت تسلطه ، لتنمو كالشجر والورد والثمرة تكون تحت إشراف الفلّاح الخبير الذي يعرف كيف تثمر الثمار الجيدة ، والكفران هو عدم ظهور أثر للمحافظة والمراقبة فيها من قبل الفلّاح.

لذلك فإنّ الذي يستعمل النعم الإلهية في طريق العصيان فقد كفرها تكوينيّاً.

الشكر التشريعي هو أن يقوم الإنسان بشكر الخالق بالقلب واللسان.

وذكرنا سابقاً أنّ الإنسان لا يستطيع أن يؤدّي شكر الخالق ونعمه ، لأنّ نفس هذا التوفيق للشكر هو نعمة منه تعالى وهو نفسه يحتاج لشكر آخر ، ولذلك جاء في رواياتنا الإسلامية أنّ أفضل شكر الإنسان هو أظهار العجز عن شكر الله في مقابل نعمه والمعذرة عن ذلك التقصير ، لأنّه لا يستطيع أحد أن يؤدّي ما يستحقه الباري تعالى.

وذكرنا سابقاً الكثير من مطالب الشكر وما يقابلها من الكفران ، ولتكميل هذا البحث نذكر بعض من الآيات والروايات عن المعصومينعليهم‌السلام ، ونكتفي بهذا القدر منها :

( وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ* إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (١) .

__________________

١ ـ سورة الشورى ، الآية ٣٢ و ٣٣.

٥٨

وشبيه لهذا التعبير جاء في آيات اخرى.

ومرّة يشير إلى العين والسمع والعقل فإنّها أهمّ وسيلة للمعرفة الإنسانية فيقول :

وأمّا القرآن الكريم فقد جعل الصبر والشكر أحدهما قرين للآخر وهما وسيلتان لتفتح العلم والإيمان في قلب الإنسان فقال :

( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (١) .

فالقرآن الكريم أشار في موارد عديدة لوجود هذه الفضيلة (فضيلة الشكر عند الأنبياء العظام) ، وأمرهم بالشكر(٢) ومرّة يخاطب آل داود :

( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) (٣) .

ويقول في مكان آخر أنّ شرط رضا الباري تعالى هو الشكر :( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (٤) .

الآيات حول الشكر في القرآن الكريم كثيرة وتصل إلى حوالي ال ٧٠ آية ، والجدير بالذكر أنّ صفة الشكور نسبت لله تعالى في سورة النساء الآية ١٤٧ :

( ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً ) .

مفهوم الآية يبيّن أنّ الشكر إذا صدر بصورة ومعنى حقيقي فإنّ العذاب الإلهي سيرتفع بالكامل ، علاوة على أنّ صفة الشكور نسبت لله تعالى ، فإنّ الشكر هو من الصفات المشتركة مع الباري تعالى ، والفرق أن الإنسان بوضع النعمة في موضعها السليم يكون قد أدّى شكرها ، وفي المقابل يكون شكر الباري تعالى بزيادة المواهب لعباده.

وجاء في بعض الآيات القرآنية أن التوجه والانتباه للنعم الإلهية هو السبب في حثّ الإنسان على الشكر ويكون هو الرادع عن الذنوب ، ونقرأ في سورة الأعراف في خطابه للاقوام السابقة ، الآية ٧٤ :( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .

__________________

١ ـ سورة النحل ، الآية ٧٨.

٢ ـ راجع الآيات ، النحل ، ٢١٢ ؛ الاسراء ، ٣ ؛ لقمان ، ١٢ ؛ سبأ ، ١٣.

٣ ـ سورة سبأ ، الآية ١٣.

٤ ـ سورة الزمر ، الآية ٧.

٥٩

وفي الآية ٦٩ من نفس السورة يقول :( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

وهذا التعبير صريح بأن الشكر يكون سبباً للفلاح.

خلاصة القول ، أنّ أساس كل سعادة وبركة إلهية هو الشكر ، لأنّه يقرّب الإنسان يوماً بعد يوم من الله تعالى ، ويحكم أواصر المحبّة بين العباد وخالقهم ، وهو طريق التقوى والفلاح.

فلسفة الشكر :

الإنسان المنعم قد يتوقع الشكر من الطرف الآخر ، أو ربّما يحتاجه في بعض الأحيان ، سواء كان احتياجاً مادياً أو معنوياً ، أو لأجل موقعه ومركزه الإجتماعي.

ولكن الباري تعالى ، هو الغني عن العالمين ، حتى ولو كفر الناس جميعاً ، فهو لا يحتاج لشكرهم ، ومع ذلك فقد أكد على الشكر ، فمثله كمثل باقي العبادات ، ونتيجته تعود على نفس الإنسان ، وإذا ما دققنا النظر قليلاً فستتوضح فلسفته.

إذا قدّر الشخص النعم الإلهية سواء كان بالقلب أو اللسان أو بالعمل ، فهو يستحق تلك النعمة ، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم لا يسلب النعمة من أحد من دون دليل ولا يعطي لأحد من دون دليل ، فعند ما يشكر الإنسان النعم فلسان حاله يقول إنني مستحق للنعم ، وحكمة الباري لا توجب له النعمة فقط بل تزيده أيضاً.

ولكن لسان حال الكافر يقول : إننّي غير مستحق للنعمة وحكمة الباري تعالى توجب سلب تلك النعمة منه ، وإذا شكر يوماً وكفر يوماً ، فسيتعامل معه كالتالي :

( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

وعند ما نقول أنّ الشكر سبب في دوام النعمة فدليله هذا بعينه ، وفي حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :«بِالشُّكرِ تَدُومُ النِّعَمِ» (٢) .

__________________

١ ـ سورة الانفال ، الآية ٥٣.

٢ ـ غرر الحكم.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

وفي أصول الكافي(١) : عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن داود قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: إذا زنى الرّجل فارقه روح الإيمان.

قال: فقال: هذا مثل قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) . ثمّ قال غير هذا، أبين منه. ذلك قول الله ـ عزّ وجلّ(٢) :( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) . هو الّذي فارقه.

( وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ) ، أي: وحالكم أنّكم لا تأخذونه في حقوقكم.

( إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) : إلّا أن تتسامحوا فيه. مجاز من أغمض بصره، إذا غضّه(٣) .

وقرئ من باب التّفعيل، أي: تحملوا على الإغماض، أو توجدوا مغمضين.

وفي الكافي(٤) : الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الحسن بن عليّ الوشّاء، عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) ، قال: كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إذا أمر بالنّخل أن يزكّى، يجيء قوم بألوان من التّمر. وهو من أردأ التّمر يؤدّونه من زكاتهم تمرا. يقال له «الجعرور» و «المعافارة» قليلة اللّحا، عظيمة النّوى. وكان بعضهم يجيء بها عن التّمر الجيّد. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: لا تخرصوا هاتين التّمرتين. ولا تجيئوا منهما بشيء.

وفي ذلك نزل:( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا ) .

والإغماض أن يأخذ هاتين التّمرتين.

( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ ) عن إنفاقكم. وإنّما يأمركم به لانتفاعكم.

( حَمِيدٌ ) (٢٦٧) بقبوله وإثابته.

( الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ) في الإنفاق. والوعد في الأصل شائع في الخير والشّرّ.

وقرئ الفقر، بالضّمّ والسّكون وبضمّتين وفتحتين.

( وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ) : ويغريكم على البخل. والعرف يسمّي البخيل فاحشا.

وقيل(٥) : المعاصي.

__________________

(١) الكافي ٢ / ٢٨٤، ح ١٧.

(٢) المجادلة / ٢٢.

(٣) أ: إذ لفضه.

(٤) الكافي ٤ / ٤٨، ح ٩.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ١٤٠.

٤٤١

( وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ ) ، أي: في الإنفاق.

( وَفَضْلاً ) : خلفا أفضل ممّا أنفقتم.

( وَاللهُ واسِعٌ ) : الفضل لمن أنفق وغيره.

( عَلِيمٌ ) (٢٦٨) بالإنفاق وغيره.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(١) : قوله:( الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ) ، قال: الشّيطان يقول: «لا تنفق مالك. فإنّك تفتقر.» والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، أي: يغفر لكم إن أنفقتم لله. و «فضلا»، قال: يخلف عليكم.

وفي كتاب علل الشّرائع(٢) : أبي ـ رضي الله عنه ـ قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار، قال: حدّثنا محمّد بن أحمد بن يحيى، قال: حدّثنا الحسن بن عليّ، عن [ابن](٣) عبّاس، عن أسباط، عن عبد الرّحمن قال: قلت لأبي عبد الله ـ عليه السّلام: إنّي ربّما حزنت. فلا أعرف في حال ولا مال ولا ولد. وربّما فرحت. فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد.

فقال: إنّه ليس من أحد إلّا ومعه ملك وشيطان. فإذا كان فرحه، كان دنّو الملك منه. فإذا كان حزنه، كان دنوّ الشّيطان منه. وذلك قول الله ـ تبارك وتعالى:( الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ. وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً. وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .

( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ ) :

[مفعول أوّل آخر للاهتمام بالمفعول الثّاني.

( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ) :

بناءه للمفعول. لأنّه المقصود. وقرأ يعقوب بالكسر، أي: ومن يؤته الله.

( فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) :

والمراد بالحكمة، طاعة الله، ومعرفة الإسلام، ومعرفة الإمام الّتي هي العمدة في كلتا المعرفتين الأوّلتين.

وفي محاسن البرقيّ(٤) : عنه، عن أبيه، عن النّضر بن سويد، عن الحلبيّ، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله تبارك وتعالى :

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٩٢.

(٢) علل الشرائع ١ / ٩٣، ح ١.

(٣) يوجد في المصدر.

(٤) المحاسن / ١٤٨، ح ٦٠.

٤٤٢

( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) قال: هي طاعة الله ومعرفة الإسلام(١) .

وفي مجمع البيان(٢) : ويروى عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال: إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أتاني القرآن، وأتاني من الحكمة مثل القرآن. وما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة إلّا كان خرابا. ألا فتفقّهوا، وتعلّموا، ولا تموتوا(٣) جهّالا.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٤) : قوله:( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) قال: الخير الكثير: معرفة أمير المؤمنين والأئمّة ـ عليهم السّلام. وفيه(٥) ، خطبة له ـ صلّى الله عليه وآله ـ وفيها: رأس الحكمة، مخافة الله.

وفي تفسير العيّاشيّ(٦) : عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله تعالى:( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) فقال: إنّ الحكمة المعرفة والتّفقّة في الدّين. فمن فقّه منكم، فهو حكيم. وما [من](٧) أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس، من فقيه.

وفي كتاب الخصال(٨) ، عن الزّهريّ عن عليّ بن الحسين ـ عليهما السّلام ـ قال: كان آخر ما أوصى به الخضر، موسى بن عمران ـ عليهما السّلام ـ أن قال [له]:(٩) لا تعيرنّ أحدا ـ إلى قوله ـ ورأس الحكمة مخافة الله ـ تبارك وتعالى.

عن محمّد بن أحمد بن محمّد(١٠) بن أبي نصر(١١) قال أبو الحسن ـ عليه السّلام: من علامات الفقه: الحلم، والعلم، والصّمت. إنّ الصّمت باب من أبواب الحكمة. وإنّ الصّمت يكسب المحبّة. وإنّه دليل على كلّ خير.

عن أبي جعفر ـ عليه السّلام(١٢) ـ قال بينما(١٣) رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ذات

__________________

(١) المصدر: الإمام.

(٢) مجمع البيان ١ / ٣٨٢.

(٣) المصدر: فلا تموتوا.

(٤) تفسير القمي ١ / ٩٢.

(٥) نفس المصدر ١ / ٢٩١.

(٦) تفسير العياشي ١ / ١٥١، ح ٤٩٨.

(٧) يوجد في المصدر.

(٨) الخصال / ١١١، ح ٨٣.

(٩) يوجد في المصدر.

(١٠) نفس المصدر / ١٥٨، ح ٢٠٢. وفيه: عن أحمد بن محمّد.

(١١) المصدر: محمد بن أبي نصر البزنطي.

(١٢) نفس المصدر / ١٤٦، ح ١٧٥.

(١٣) المصدر: بينا. (ظ)

٤٤٣

يوم، في بعض أسفاره، إذ لقيه ركب. فقالوا: السّلام عليك، يا رسول الله! فالتفت إليهم. وقال(١) : ما أنتم؟ فقالوا(٢) : مؤمنون.

قال: فما حقيقة إيمانكم؟

قالوا: الرّضا بقضاء الله، والتّسليم لأمر الله، والتّفويض إلى الله.

فقال رسول الله: علماء حكماء وكادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء. فإن كنتم صادقين، فلا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، واتّقوا الله الّذي إليه ترجعون.

وفي أصول الكافي(٣) عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن أيّوب ابن الحرّ، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) فقال: طاعة الله، ومعرفة الإمام.

يونس(٤) ، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: سمعته يقول:( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) قال: معرفة الإمام، واجتناب الكبائر الّتي أوجب الله عليها النّار.

عليّ بن إبراهيم(٥) ، عن أبيه، عن النّوفليّ، عن السّكونيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن آبائه ـ عليهم السّلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وقد ذكر القرآن: لا تحصى عجائبه. ولا تبلى غرائبه. مصابيح الهدى(٦) . ومنار الحكمة.

وفي مصباح الشّريعة(٧) : قال الصّادق ـ عليه السّلام: الحكمة ضياء المعرفة، و (ميزان)(٨) التّقوى، وثمرة الصّدق.

ولو قلت: ما أنعم الله على عباده(٩) بنعمة أنعم وأعظم(١٠) وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة، لقلت: [صادقا](١١) قال الله ـ عزّ وجلّ:( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) ، أي: لا يعلم ما أودعت وهيّأت في

__________________

(١) المصدر: فقال.

(٢) المصدر: قالوا.

(٣) الكافي ١ / ١٨٥، ح ١١.

(٤) نفس المصدر ٢ / ٢٨٤، ح ٢٠.

(٥) نفس المصدر ٢ / ٥٩٨ ـ ٥٩٩، ضمن ح ٢.

(٦) المصدر: فيه مصابيح الهدى.

(٧) شرح فارسى لمصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة / ٥٣٣ ـ ٥٣٥.

(٨) المصدر وهامش الأصل (خ ل): ميراث.

(٩) المصدر: على عبد من عباده.

(١٠) المصدر: أعظم وأنعم.

(١١) يوجد في المصدر.

٤٤٤

الحكمة إلّا من استخلصته لنفسي وخصصته بها.

والحكمة هي النجاة. وصفة الحكيم، الثّبات عند أوائل الأمور، والوقوف عند عواقبها، وهو هادي خلق الله إلى الله.

( وَما يَذَّكَّرُ ) : وما يتّعض بما قصّ من الآيات، أو ما يتفكّرون. فإنّ المتفكّر كالمتذكّر لما أودع الله في قلبه من العلوم، بالقوّة.

( إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) (٢٦٩): ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم، والرّكون إلى متابعة الهوى.

وفي أصول الكافي(١) : بعض أصحابنا(٢) ـ رفعه ـ عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر ـ عليه السّلام: يا هشام: إنّ الله(٣) ذكر أولي الألباب بأحسن الذّكر، وحلاهم بأحسن الحلية. فقال:( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

( وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ) : قليلة أو كثيرة، سرّا أو علانية، في حقّ أو باطل،( أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ ) : في طاعة، أو معصية.

( فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ ) . فيجازيكم عليه.

ودخول «الفاء»، إمّا في خبر المبتدأ، لتضمّنه معنى الشّرط، أو في الشّرط لكون كلمة، ما من أداة الشّرط.

( وَما لِلظَّالِمِينَ ) الّذين يضعون الشيء في غير موضعه، فينفقون في المعاصي، وينذرون فيها، أو يمنعون الصّدقات، ولا يوفون بالنّذور.

( مِنْ أَنْصارٍ ) (٢٧٠) ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه. جمع ناصر، كأصحاب: جمع صاحب.

( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) : فنعم شيئا أبداها.

كلمة «ما» تمييز. والمضاف محذوف.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ، بفتح النّون وكسر العين، على الأصل. وقرأ أبو بكر وقالون بكسر النّون وسكون العين. وروي بكسر النّون وإخفاء حركة العين.

__________________

(١) الكافي ١ / ١٥، ضمن ح ١٢.

(٢) المصدر: أبو عبد الله الأشعري عن بعض أصحابنا.

(٣) المصدر: «ثم» بدل «إن الله».

٤٤٥

( وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) :

والمراد بالصّدقات، سوى الزّكاة. وصلة قرابتك الواجبة، من الصّدقات النّافلة.

فإنّ الإعلان بالزّكاة والأمور المفروضة، أفضل.

روي في الكافي(١) ، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن أبي المغرا، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: قلت: قوله:( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ. وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) .

قال: ليس من الزّكاة وصلتك قرابتك. ليس من الزّكاة.

والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

عليّ بن إبراهيم(٢) ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ ]) (٣) ( فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (٤) قال: هي سوى الزّكاة. إنّ الزّكاة علانية غير سرّ.

عليّ بن إبراهيم(٥) ، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن خالد، عن عبد الله بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: كلّ(٦) ما فرض الله عليك، فإعلانه أفضل من إسراره. وكلّما كان تطوّعا، فإسراره أفضل من إعلانه. ولو أنّ رجلا حمل(٧) زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية، كان ذلك حسنا جميلا.

عليّ بن إبراهيم(٨) ، عن أبيه، عن ابن فضّال، عن ابن بكير، عن رجل، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قوله ـ عزّ وجلّ:( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) قال: يعني الزّكاة المفروضة.

قلت(٩) :( وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ ) .

قال: يعني النّافلة. إنّهم كانوا يستحبّون إظهار الفرائض وكتمان النّوافل.

الحسين بن محمّد(١٠) ، عن معلّى بن محمّد، عن عليّ بن مرداس، عن صفوان بن

__________________

(١) الكافي ٣ / ٤٩٩، ذيل ح ٩.

(٢) نفس المصدر ٣ / ٥٠٢، ح ١٧.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٤) المصدر: فقال. وفي أ: قال: ليس من الزكاة لا.

(٥) نفس المصدر ٣ / ٥٠١، ح ١٦، وللحديث صدر.

(٦) المصدر: فكلّ.

(٧) المصدر: يحمل.

(٨) نفس المصدر ٤ / ٦٠، ح ١.

(٩) المصدر: قال: قلت.

(١٠) نفس المصدر ٤ / ٨، ح ٢.

٤٤٦

يحيى، والحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمّار السّاباطيّ قال: قال لي أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ: يا عمّار! الصّدقة، والله! في السّرّ، أفضل من الصّدقة في العلانية.

وكذلك والله العبادة في السّرّ، أفضل منها في العلانية.

وفي تفسير العيّاشيّ(١) : عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: سألته عن قول الله ـ عزّ وجلّ:( وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) .

قال: ليس تلك الزّكاة. ولكنّه الرّجل يتصدّق لنفسه الزّكاة(٢) ، علانية، ليس بسرّ.

واعلم! أنّ بعض تلك الأحاديث، يدلّ على أنّ في الآية استخداما، والمراد بالصّدقات، الصّدقات الواجبة، وبضميرها المندوبة. ويمكن حمل البعض الآخر عليه ـ أيضا ـ إلّا الخبر الأوّل. ويمكن أن يقال أيضا إنّه تفسير لقوله: «وإن تخفوها» ـ إلى آخره.

( وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ ) :

قرأ ابن عامر وعاصم، في رواية حفص، بالياء، أي: والله يكفّر أو الإخفاء.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم، في رواية ابن عيّاش ويعقوب، بالنّون، مرفوعا على أنّه جملة فعليّة، مبتدأة، أو اسميّة، معطوفة على ما بعد الفاء، أي: ونحن نكفّر.

وقرأ نافع وحمزة والكسائيّ به، مجزوما على محلّ الفاء وما بعده.

وقرئ مرفوعا ومجزوما.

والفعل للصّدقات.

( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (٢٧١): ترغيب في الإسرار.

( لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ) : ليس عليك أن تجعل كلّ النّاس مهديّين، بمعنى الإلزام على الحقّ. لأنّك لا تتمكّن منه. وإنّما عليك إراءة الحقّ، والحثّ عليه.

( وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) . لأنّه يقدر عليه.

( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ) ، من نفقة معروفة،( فَلِأَنْفُسِكُمْ ) : فهو لأنفسكم. لا ينتفع به غيركم. فلا تمنّوا عليه. ولا تنفقوا الخبيث.

( وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) ، أي: حال كونكم غير متقين إلّا لابتغاء وجهه.

__________________

(١) تفسير العياشي ١ / ١٥١، ح ٤٩٩.

(٢) المصدر: والزكاة.

٤٤٧

وقيل(١) : نفي في معنى النّهي.

( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) ثوابه، أضعافا مضاعفة. فهو تأكيد للشّرطيّة السّابقة، أو ما يخلف المنفق استجابة، لقوله ـ عليه السّلام(٢) : أللّهمّ اجعل لمنفق خلفا، ولممسك تلفا.

( وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (٢٧٢): بتنقيص ثواب نفقتكم، أو إذهاب ثوابها.

( لِلْفُقَراءِ ) : متعلق بمحذوف، أي: اعمدوا للفقراء، أو اجعلوا ما تنفقونه لهم، أو صدقاتكم للفقراء.

( الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، أي: أحصرهم الاشتغال بالعبادة،( لا يَسْتَطِيعُونَ ) لاشتغالهم،( ضَرْباً فِي الْأَرْضِ ) : ذهابا فيها للكسب.

في مجمع البيان(٣) : قال أبو جعفر ـ عليه السّلام: نزلت الآية في أصحاب الصّفّة.

( يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ ) بحالهم.

وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة، بفتح السّين.

( أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) : من أجل تعفّفهم عن السّؤال.

في تفسير عليّ بن إبراهيم(٤) : قال العالم ـ عليه السّلام: الفقراء هم الّذين لا يسألون(٥) لقول الله تعالى في سورة البقرة:( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ ) ـ إلى قوله ـ( إِلْحافاً ) .

( تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ) من الضّعف، ورثاثة الحال. والخطاب للرّسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ أو لكلّ أحد.

( لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ) : إلحاحا. وهو أن يلازم المسئول حتّى يعطيه شيئا، من قولهم: لحفني من فضل لحافه، أي: أعطاني من فضل ما عنده.

قيل(٦) : «المعنى: أنّهم لا يسألون. وإن سألوا عن ضرورة، لم يلحّوا.» والخبر الذي

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ١٤١.

(٢) نفس المصدر والموضع.

(٣) مجمع البيان ١ / ٣٨٧.

(٤) تفسير القمي ١ / ٢٩٨.

(٥) يوجد في المصدر، بعد هذه الفقرة: وعليهم مؤنات من عيالهم. والدليل على أنّهم هم الذين لا يسألون قول الله تعالى

(٦) أنوار التنزيل ١ / ١٤١.

٤٤٨

رواه عليّ بن إبراهيم عن العالم ـ عليه السّلام ـ يردّه: بل هو نفي للأمرين، كقوله على لاحب: لا يهتدي بمناره.

ونصبه على المصدر. فإنّه نوع من السّؤال، أو على الحال.

وفي مجمع البيان(١) : وفي الحديث: إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده، ويكره البؤس والتبوّس، ويحب الحليم المتعفّف من عباده، ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف.

وعنه ـ عليه السّلام(٢) ـ قال: إنّ الله كرّه لكم ثلاثا.

قيل: وما هنّ(٣) ؟ قال: كثرة السّؤال، وإضاعة المال، ونهى عن عقوق الأمّهات ووأد البنات(٤) .

وقال ـ عليه السّلام(٥) : الأيدي ثلاث: فيد الله العليا، ويد المعطي الّتي تليها(٦) ، ويد السائل السّفلى إلى يوم القيامة. ومن سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة كدوحا، أو خموشا، أو خدوشا في وجهه.

قيل: وما غناه؟

قال: خمسون درهما أو عدلها من الذّهب.

( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (٢٧٣): ترغيب في الإنفاق، وخصوصا على هؤلاء.

( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) ، أي: يعمّون الأوقات والأحوال بالخير.

وفي تفسير العيّاشيّ(٧) : عن أبي إسحاق قال: كان لعليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام ـ أربعة دراهم. لم يملك غيرها. فتصدّق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرّا، وبدرهم علانية. فبلغ ذلك النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله. فقال: يا عليّ! ما حملك على ما صنعت؟

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٣٨٧.

(٢) نفس المصدر والموضع.

(٣) «وما هنّ» ليس في المصدر.

(٤) المصدر: ووأد البنات ومنع وهات.

(٥) نفس المصدر والموضع.

(٦) المصدر: تليه.

(٧) تفسير العياشي ١ / ١٥١، ح ٥٠٢.

٤٤٩

قال: إنجاز موعود الله.

فأنزل الله:( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) (إلى آخر(١) الآية)

وفي الكافي(٢) عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن أبي المغرا عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: قلت له(٣) : قوله ـ عزّ وجلّ:( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) .

قال: ليس من الزّكاة.

والحديث طويل. أخذنا منه موضع الحاجة.

عدّة من أصحابنا(٤) ، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن الوليد الوصافيّ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: صدقة السّرّ، تطفئ غضب الرّبّ ـ تبارك وتعالى.

وفي من لا يحضره الفقيه(٥) : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في قول الله تعالى:( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) قال: نزلت في النّفقة على الخيل.

قال مصنّف هذا الكتاب(٦) : روي(٧) أنّها نزلت في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام. وكان سبب نزولها أنّه كان معه أربعة دراهم فتصدّق بدرهم منها باللّيل، وبدرهم بالنّهار، وبدرهم في السّرّ، وبدرهم في العلانيّة. فنزلت هذه الآية. والآية إذا نزلت في شيء، فهي منزلة في كلّ ما يجري فيه. فالاعتقاد في تفسيرها أنّها نزلت في أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ وجرت في النّفقة على الخيل وأشباه ذلك. (انتهى).

وفي مجمع البيان(٨) : قال ابن عبّاس نزلت (هذه) الآية في عليّ ـ عليه السّلام.

كانت معه أربعة دراهم فتصدّق بواحد ليلا، وبواحد نهارا، وبواحد سرّا، وبواحد علانيّة.

وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما السّلام.

( فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢٧٤): خبر الّذين

__________________

(١) «إلى آخر» ليس في المصدر.

(٢) الكافي ٣ / ٤٩٩، ح ٩. وللحديث صدر وذيل.

(٣) المصدر: «قلت»، بدل: «قال قلت له.»

(٤) نفس المصدر ٤ / ٨، ح ٣.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٢ / ١٨٨، ح ٨٥٢.

(٦) نفس المصدر والموضع.

(٧) المصدر: هذه الآية روى. (٨) مجمع البيان ١ / ٣٨٨.

٤٥٠

ينفقون.

والفاء للسّببيّة. وقيل(١) : للعطف.

والخبر محذوف، أي: ومنهم الّذين ينفقون. ولذلك جوّز الوقف على «وعلانية.»( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا ) ، أي: الآخذون للرّبا. وإنّما ذكر الأكل، لأنّه معظم منافع المال. وهو بيع جنس بما يجانسه، مع الزّيادة، بشرط كونه مكيلا، أو موزونا، والقرض مع اشتراط النّفع.

وإنّما كتب بالواو، كالصّلوة، للتّفخيم على لغة من يفخّم. وزيدت الألف بعدها، تشبيها بألف الجمع.

( لا يَقُومُونَ ) إذا بُعثوا من قبورهم، أو في المحشر، أو في الدّنيا، يؤول عاقبة أمرهم إلى ذلك.

في تفسير العيّاشيّ(٢) : عن شهاب بن عبد ربّه قال: سمعت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ يقول: آكل الرّبا لا يخرج من الدّنيا حتّى يتخبّطه الشّيطان.

وفي الأخبار ما يدلّ على الأوّلين. ويمكن الجمع بأنّ ابتداء حصول هذه الحالة في الدّنيا.

( إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ ) : قياما كقيام المصروع، بناء على ما يزعم النّاس أنّ الشّيطان يمسّ الإنسان، فيصرع.

و «الخبط»: صرع على غير اتّساق، كالعشواء، أو الإفساد.

( مِنَ الْمَسِ ) : متعلّق بلا يقومون، أي: «لا يقومون من المسّ الّذي بهم، بسبب أكل الربا»، أو بيقوم، أو بيتخبطه. فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين، لا لاختلال عقلهم. ولكن لأنّ الله أربى ما في بطونهم ما أكلوه من الربا، فأثقلهم.

في تفسير عليّ بن إبراهيم(٣) : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: لـمّا أسري بي إلى السّماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم، فلا يقدر أن يقوم، من عظم بطنه.

فقلت: من هؤلاء؟ يا جبرئيل!

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ١٤٢.

(٢) تفسير العيّاشي ١ / ١٥٢ ح ٥٠٣.

(٣) تفسير القمي ١ / ٩٣.

٤٥١

قال: هؤلاء( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ) .

( ذلِكَ ) العقاب،( بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ) : بسبب أنّهم نظّموا البيع والربا في سلك واحد، لافضائهما إلى الرّبح. فاستحلّوه استحلاله. وهو من باب القلب. والأصل إنّما الربا مثل البيع. عكس للمبالغة. كأنّهم جعلوا الربا أصلا، وقاسوا البيع به.

( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) : في موضع الحال.

في عيون الأخبار(١) ، في باب ما كتب الرّضا ـ عليه السّلام ـ إلى محمّد بن سنان، في جواب مسائله في العلل وعلّة تحريم الربا: إنّما نهى الله لما فيه من فساد الأموال. لأنّ الإنسان إذا اشترى الدّرهم بالدّرهمين، كان ثمن الدّرهم درهما، وثمن الآخر باطلا، فيقع(٢) الربا، واشتراءه(٣) وكسا(٤) على كلّ حال على المشتري وعلى البائع. فحظر(٥) الله تعالى الربا لعلّة فساد الأموال، كما حظر على السّفيه أن يدفع إليه ماله، لـمّا يتخوّف عليه من إفساده، حتّى يؤنس منه رشد(٦) . فلهذه العلّة حرّم الله تعالى الرّبا، وبيع الدّرهم بالدّرهمين، يدا بيد. وعلّة تحريم الربا بعد البيّنة، لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرّم. وهي كبيرة بعد البيان وتحريم الله لها. ولم يكن ذلك منه إلّا استخفافا بالمحرّم الحرم(٧) . والاستخفاف بذلك دخول في الكفر.

وعلّة تحريم الربا بالنسيئة، لعلّة ذهاب المعروف، وتلف الأموال، ورغبة النّاس في الرّبح، وتركهم الفرض، وصنائع المعروف، وما في(٨) ذلك من الفساد والظّلم وفناء الأموال.

وفي الكافي(٩) عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) المصدر: فبيع.

(٣) ليس في المصدر.

(٤) المصدر: «وكس» والفقرة الأخيرة في المصدر هكذا: فبيع الربا وكس.

(٥) المصدر: فحرّم.

(٦) المصدر: رشده.

(٧) المصدر: إلّا استخفاف بالتحريم للحرام.

(٨) المصدر: لما.

(٩) الكافي ٥ / ١٤٦، ح ٧.

٤٥٢

عن سماعة قال: قلت لأبي عبد الله ـ عليه السّلام: إنّي رأيت الله تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرّره.

فقال: أوتدري لم ذاك؟

قلت: لا. قال: لئلّا يمتنع النّاس من اصطناع المعروف.

عليّ بن إبراهيم(١) ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: إنّما حرّم الله ـ عزّ وجلّ الرّبا لئلّا(٢) يمتنع النّاس من اصطناع المعروف.

روى عليّ بن إبراهيم(٣) ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: درهم ربا(٤) ، أعظم عند الله، من سبعين زنية بذات محرم، في بيت الله الحرام.

وقال: الربا سبعون(٥) جزءا، أيسره أن ينكح الرّجل أمّه في بيت الله الحرام.

( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ ) ، أي: وعظ وتوبة.

في تفسير العيّاشيّ(٦) : عن محمّد بن مسلم: أنّ رجلا سأل أبا جعفر ـ عليه السّلام ـ وقد عمل بالربا حتّى كثر ماله، بعد أن سأل غيره من الفقهاء، فقالوا: ليس يقبل(٧) منك شيء، إلّا أن تردّه إلى أصحابه.

فلمّا قصّ على أبي جعفر(٨) ـ عليه السّلام ـ قال له أبو جعفر ـ عليه السّلام: مخرجك في كتاب الله، قوله:( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ. وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ) .

والموعظة التّوبة.

وفي أصول الكافي(٩) : عليّ بن إبراهيم [عن أبيه](١٠) ، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما ـ عليهما السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ :

__________________

(١) نفس المصدر والموضع، ح ٨.

(٢) المصدر: لكيلا.

(٣) تفسير القمي ١ / ٩٣ ـ ٩٤.

(٤) المصدر: من ربا.

(٥) المصدر: قال: إن للربا سبعين.

(٦) تفسير العياشي ١ / ١٥٢، ح ٥٠٦.

(٧) المصدر: يقبل.

(٨) هكذا في المصدر. وفي النسخ: فلمّا قصّ أبا جعفر ـ عليه السّلام.

(٩) الكافي ٢ / ٤٣١، ح ٢.

(١٠) يوجد في المصدر.

٤٥٣

( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) قال: الموعظة التّوبة.

( مِنْ رَبِّهِ ) ، أي: بلغه النّهي عن الربا من ربّه.

( فَانْتَهى ) عن أخذه. وتاب عنه.

( فَلَهُ ما سَلَفَ ) : ما تقدّم من أخذه. ولا يستردّ منه.

و «ما» في موضع الرّفع بالظّرف إن جعلت «من» موصولة، وبالابتداء إن جعلت شرطيّة على رأي سيبويه.

«إذا» الظّرف معتمد على ما قبله.

( وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ) ، أي: يجازيه على انتهائه، أو يحكم في شأنه. ولا اعتراض لكم عليه.

في الكافي(١) : أحمد بن محمّد، عن الوشّاء، عن أبي المغرا [، عن الحلبيّ](٢) قال: قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام: كلّ ربا أكله النّاس بجهالة، ثمّ تابوا عنه، فإنّه يقبل منهم، إذا عرف منهم التّوبة. وأيّما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه من الرّبا، فجهل ذلك، ثمّ عرفه بعد، فأراد أن ينزعه، فما مضى فله، ويدعه فيما يستأنف.

عليّ بن إبراهيم(٣) ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في حديث طويل يقول فيه: إنّ(٤) رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد وضع ما مضى من الرّبا. وحرّم عليهم ما بقي. فمن جهله، وسع له جهله، حتّى يعرفه. فإذا عرف تحريمه، حرّم عليه، ووجب عليه فيه العقوبة، إذا ركنه(٥) ، كما يجب على من يأكل الرّبا.

عدّة من أصحابنا(٦) ، عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمّد، جميعا، عن ابن محبوب، عن خالد بن جرير، عن أبي الرّبيع الشّاميّ قال: سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن رجل أربى بجهالة، ثمّ أراد أن يتركه.

قال: قال: أمّا ما مضى فله. وليتركه فيما يستقبل.

__________________

(١) الكافي ٥ / ١٤٥، ح ٥. وللحديث صدر.

(٢) يوجد في المصدر.

(٣) نفس المصدر والموضع، ح ٤. وقد أسقط قطعة من وسط الحديث.

(٤) المصدر: فانّ.

(٥) المصدر: ركبه. (ظ)

(٦) نفس المصدر ٥ / ١٤٦، ح ٩. وللحديث تتمة طويلة.

٤٥٤

( وَمَنْ عادَ ) إلى تحليل الربا إذا الكلام فيه،( فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) (٢٧٥) لأنّهم كفروا به، كما مرّ في حديث العيون.

وفي الكافي(١) : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن عيسى، عن منصور، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: سألته عن الرّجل يأكل الربا، وهو يرى أنّه له حلال.

قال: لا يضرّه حتّى يصيبه متعمّدا. فإذا أصابه متعمّدا، فهو بالمنزل(٢) الّذي قال الله ـ عزّ وجلّ.

( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا ) : يذهب بركته. ويهلك المال الّذي فيه.

في من لا يحضره الفقيه(٣) : وسأل رجل الصّادق ـ عليه السّلام ـ عن قول الله ـ عزّ وجلّ:( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) . وقد أرى من يأكل الربا، يربو ماله.

قال: فأيّ محق أمحق من درهم ربا يمحق الدّين وإن تاب منه، ذهب ماله وافتقر.

( وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) : يضاعف ثوابها. ويبارك فيما أخرجت منه.

في تفسير العيّاشيّ(٤) : عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: إنّ الله يقول: ليس من شيء إلّا وكلت به من يقبضه غيري إلّا الصّدقة. فإنّي أتلقّفها بيدي تلقّفا، حتّى أنّ الرّجل والمرأة يتصدّق(٥) بالتّمرة وبشقّ تمرة فأربيها(٦) ، كما يربي الرّجل فلوه وفصيله، فيلقى في يوم القيامة(٧) وهو مثل أحد وأعظم من أحد.

وعن أبي حمزة(٨) عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال: قال الله ـ تبارك وتعالى: أنا خالق كلّ شيء. وكلت بالأشياء غيري إلّا الصّدقة ـ وذكر نحو ما سبق.

وعن عليّ بن جعفر(٩) ، عن أخيه موسى ـ عليه السّلام ـ عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: أنه ليس شيء إلّا وقد وكل به

__________________

(١) الكافي ٥ / ١٤٤، ح ٢.

(٢) المصدر: بالمنزلة.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ / ١٧٦، ح ٧٩٥.

(٤) تفسير العياشي ١ / ١٥٢، ح ٥٠٧.

(٥) هكذا في المصدر. وفي النسخ: تصدّق.

(٦) المصدر: فأربيها له.

(٧) المصدر: فيلقاني يوم القيامة.

(٨) نفس المصدر ١ / ١٥٣، ح ٥٠٩.

(٩) نفس المصدر والموضع، ح ٥١٠.

٤٥٥

ملك غير الصّدقة. فإنّ الله يأخذه(١) بيده، ويربيه كما يربي أحدكم ولده، حتّى تلقاه(٢) يوم القيامة وهي مثل أحد.

وفي مجمع البيان(٣) : روى عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ انه قال: [إنّ الله تعالى](٤) يقبل الصّدقات. ولا يقبل منها إلّا الطّيّب. ويربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم مهره أو فصيله، حتّى أنّ اللّقمة لتصير مثل أحد.

وفي أمالي الصّدوق(٥) ـ ره ـ بإسناده إلى الصّادق ـ عليه السّلام ـ أنّه قال: من تصدّق بصدقة في شعبان، ربّاها ـ جلّ وعزّ(٦) ـ كما يربّي أحدكم فصيله، حتّى يوافي يوم القيامة وقد صارت(٧) مثل أحد.

( وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ ) : لا يرضاه.

( أَثِيمٍ ) (٢٧٦): منهمك في الإثم.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله ورسله وأوصياء رسله،( وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) : عطف على «آمنوا» ولا يدلّ على خروج العمل عن الإيمان، كما لا يدلّ عطف.

( وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ ) عليه، على خروجه عنه.

( لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) على آت.

( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢٧٧) على فائت.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ) : واتركوا بقايا ما شرطتم على النّاس من الرّبا.

( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٢٧٨) بقلوبكم. فإنّ دليله امتثال ما أمرتم به.

في تفسير عليّ بن إبراهيم(٨) : أنّ سبب(٩) نزولها أنّه لـمّا أنزل الله:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ ) فقام خالد بن الوليد إلى

__________________

(١) المصدر: يأخذ.

(٢) المصدر: يلقاه.

(٣) مجمع البيان ١ / ٣٩٠.

(٤) يوجد في المصدر.

(٥) أمالي الصدوق / ٥٠١، ح ٧.

(٦) المصدر: ربّاها ـ جلّ وعزّ ـ له.

(٧) المصدر: صارت له.

(٨) تفسير القمي ١ / ٩٣.

(٩) المصدر: فانّه كان سبب.

٤٥٦

رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال: يا رسول الله! ربا أبي في ثقيف. وقد أوصاني عند موته بأخذه.

فأنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ الآية(١) .

قال: من أخذ الرّبا وجب عليه القتل [وكلّ من اربى وجب عليه القتل](٢) .

( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا ) : فاعلموا. من أذن بالشيء، إذا علم به.

وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عبّاس: فآذنوا، أي: فأعلموا بها غيركم، من الإذن وهو الاستماع. فإنّه من طرق العلم.

( بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) ، أى: فاعلموا بها.

وتنكير «حرب»، للتّعظيم، أي: حرب عظيم. وذلك يقتضي أن يقاتل المربي(٣) بعد الاستتابة، حتّى يفيء إلى أمر الله. وذلك يقتضي كفره.

( وَإِنْ تُبْتُمْ ) : رجعتم من الإيتاء واعتقاد حلّه،( فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ) : فيه دلالة على أنّ المربي لو لم يتب لم يكن له رأس ماله. وهو كذلك. لأنّ المصرّ على التّحليل مرتدّ وماله فيء.

( لا تَظْلِمُونَ ) بأخذ الزّيادة.

( وَلا تُظْلَمُونَ ) (٢٧٩) بالمطل والنّقصان من رأس المال.

وفي تفسير العيّاشيّ(٤) : عن أبي عمرو الزّبيرىّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: إنّ التّوبة مطهّرة من دنس الخطيئة. قال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ـ إلى قوله ـ( لا تَظْلِمُونَ ) . فهذا ما دعى الله إليه [عباده](٥) من التّوبة، ووعدهم(٦) عليها من ثوابه. فمن خالف ما أمره الله به من التّوبة، سخط الله عليه، وكانت النّار أولى به وأحقّ.

وفي الكافي(٧) : أحمد بن محمّد، عن الوشّاء، عن أبي المغرا، عن الحلبيّ قال: قال

__________________

(١) يوجد في المصدر بدل «الآية» متن الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) .

(٢) ليس في أ.

(٣) أ: الحربي.

(٤) تفسير العياشي ١ / ١٥٣، ح ٥١٢.

(٥) يوجد في المصدر.

(٦) المصدر: وعد.

(٧) الكافي ٥ / ١٤٥، ح ٤. وللحديث صدر وذيل.

٤٥٧

أبو عبد الله ـ عليه السّلام: لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف أنّ في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التّجارة (بغير) حلال كان حلالا طيّبا. فليأكله. وإن عرف منه شيئا أنّه ربا. فليأخذ رأس ماله. وليردّ الربا.

[عليّ بن إبراهيم(١) ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: سئل عن الرّجل يكون له دين إلى أجل مسمّى. فيأتيه غريمه. يقول: أنقدني كذا وكذا. وأضع عنك بقيّته. أو يقول: أنقدني بعضه. وأمدّ لك في الأجل فيما بقي عليك.

قال: لا أرى به بأسا. إنّه لم يزدد على رأس ماله. قال الله ـ عزّ وجلّ:( فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ. لا تَظْلِمُونَ. وَلا تُظْلَمُونَ ) .

عليّ بن إبراهيم(٢) ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: أتى رجل أبي. فقال: إنّي ورثت مالا. وقد علمت أنّ صاحبه الّذي ورثته منه قد كان يربي(٣) . وقد أعرف أنّ فيه ربا. وأستيقن ذلك. وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه. وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز. فقالوا: لا يحلّ أكله.

فقال أبو جعفر ـ عليه السّلام: إن كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفا ربا، وتعرف أهله، فخذ رأس مالك، وردّ ما سوى ذلك. وإن كان مختلطا، فكله هنيئا [مريئا].(٤) فإنّ المال مالك. واجتنب ما كان يصنع صاحبه].(٥)

( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ ) ، أي: إن وقع غريم ذو عسر.

وقرئ: ذا عسرة.

و «المعسر»: من لم يقدر على ما يفضل عن قوته وقوت عياله على الاقتصاد.

قال في مجمع البيان(٦) روي ذلك عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام.

والظّاهر أنّ المراد، ما فضل عن قوت اليوم واللّيلة.

( فَنَظِرَةٌ ) ، أي: فالحكم نظرة، أو فعليكم نظرة، أو فليكن نظرة. وهي الإنظار.

__________________

(١) نفس المصدر ٥ / ٢٥٩، ح ٤.

(٢) نفس المصدر ٥ / ١٤٥، ح ٥.

(٣) المصدر: يربو.

(٤) يوجد في المصدر.

(٥) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٦) ر. مجمع البيان ١ / ٣٩٣.

٤٥٨

وقرئ: فناظره، على لفظ الخبر، على معنى فالمستحقّ ناظره، أي: منتظره، أو صاحب نظريّة على طريق النّسب، أو على لفظ الأمر، أي: فسامحه بالنّظرة.

وعلى كلّ تقدير، فإنظار المعسر واجب في كلّ دين. قال في مجمع البيان(١) : وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما السّلام.

( إِلى مَيْسَرَةٍ ) : يسار.

وقرأ نافع وحمزة بضمّ السّين. وهما لغتان، كمشرقة ومشرفة.

وقرئ بهما مضافين، بحذف التّاء عند الإضافة، كقوله: وأخلفوك عند الأمر الّذي وعدوا.

وفي الكافي(٢) : محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن سليمان، عن رجل من أهل الجزيرة يكنّى أبا محمّد قال: سأل الرّضا ـ عليه السّلام ـ رجل وأنا أسمع، فقال له: جعلت فداك! إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول:( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) ، أخبرني عن هذه النّظرة الّتي ذكرها الله ـ عزّ وجلّ ـ في كتابه. لها حدّ يعرف إذا صار هذا المعسر(٣) ، لا بدّ له من أن ينظر، وقد أخذ مال هذا الرّجل، وأنفقه على عياله، وليس له غلّة ينتظر إدراكها، ولا دين ينتظر محلّه، ولا مال غائب ينتظر قدومه؟

قال: نعم. ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام. فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين، إذا كان أنفقه في طاعة الله. فإن كان أنفقه في معصية الله، فلا شيء له على الإمام.

قلت: فما لهذا الرّجل(٤) ائتمنه وهو لا يعلم فيما أنفقه: في طاعة الله أم في (معصية الله)؟

قال: يسعى له في ماله، فيردّه(٥) ، وهو صاغرا.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٦) : حدّثني أبي، عن السّكونيّ، عن مالك بن مغيرة، عن حمّاد بن سلمة، عن جدعان، عن سعيد بن المسيّب، عن عائشة أنّها قالت: سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقول: ما من غريم ذهب بغريمه إلى وال من ولاة

__________________

(١) نفس المصدر والموضع.

(٢) الكافي ٥ / ٩٣، ح ٥.

(٣) المصدر: المعسر إليه.

(٤) المصدر: الرجل الّذى.

(٥) المصدر: فيردّه عليه.

(٦) تفسير القمي ١ / ٩٤.

٤٥٩

المسلمين [واستبان للوالي عسرته إلّا برئ هذا المعسر من دينه، وصار دينه على والي المسلمين](١) فيما في يديه من أموال المسلمين.

قال: ومن كان له على رجل مال أخذه ولم ينفقه في إسراف أو معصية فعسر عليه أن يقضيه فعلى من له المال أن ينظره حتّى يرزقه الله فيقضيه. وإذا(٢) كان الإمام العادل قائما، فعليه أن يقضى عنه دينه، لقول رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله: من ترك مالا فلورثته. ومن ترك دينا أو ضياعا فعلى والي المسلمين وعلى(٣) الإمام ما ضمّنه الرّسول.

( وَأَنْ تَصَدَّقُوا ) : بالإبراء.

وقرأ عاصم بتخفيف الصّاد.

( خَيْرٌ لَكُمْ ) : أكثر ثوابا من الإنظار،( إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٢٨٠) أنّه معسر.

في الكافي(٤) : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: صعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ المنبر ذات يوم. فحمد الله. وأثنى عليه. وصلّى على أنبيائه ـ صلّى الله عليهم. ثمّ قال: أيّها النّاس! ليبلغ الشّاهد منكم الغائب: ألا ومن أنظر معسرا، كان له على الله في كلّ يوم صدقة بمثل ماله، حتّى يستوفيه.

ثمّ قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام:( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أنّه معسر. فتصدّقوا عليه بما لكم (عليه). فهو خير لكم.

محمّد بن يحيى(٥) ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال: من أراد أن يظلّه الله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه؟

قالها ثلاثا. فهابه النّاس أن يسألوه.

فقال: فلينظر معسرا(٦) ، أو ليدع له من حقّه.

محمّد بن(٧) يحيى، عن عبد الله بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن أبان بن عثمان ،

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في أ.

(٢) المصدر: وإن.

(٣) «والي المسلمين وعلى» ليس في المصدر.

(٤) الكافي ٤ / ٣٥، ح ٤.

(٥) نفس المصدر والموضع، ح ١.

(٦) أ: و.

(٧) نفس المصدر والموضع، ح ٢.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493