تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب الجزء ٣

مؤلف: الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 603
مؤلف: الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 603
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على نبيّنا وآله الطيّبين الطاهرين، ولاسيّما بقيّة الله في الأرضين، واللّعنة الدّائمة على أعدائهم أجمعين.
النسخ التي استفدنا منها في الربع الأوّل من التفسير
١ - نسخة موجودة في جامعة طهران، برقم ١٤، ورمزها (أ).
٢ - نسخة إلى آخر سورة المائدة، كتبت في حياة المؤلّف، بل في نفس سنة تأليف الكتاب.
وكانت هذه النسخة ضمن مخطوطات الأستاذ الشانهچي، ثمّ نقلت إلى مكتبة الروضة الرضويّة المقدّسة في مشهد الإمام الرضاعليهالسلام وهي الأصل.
٣ - نسخة أخرى إلى نهاية سورة المائدة أيضا، نسخت هي الأخرى في نفس سنة التأليف. محفوظة في المكتبة المركزيّة بجامعة طهران، برقم ٧٣٥٣، ورمزها (ر).
ولا بدّ من توضيح مسألة: وهي أنّ متن النسخة ٢ (الأصل)، هو نفسه في النسخة ١ (أ)، مع شيء من الاختلاف في العبارات والمواضع التي حذفت وأبدلت بغيرها في الحاشية.
وقد كانت هذه الحواشي تذيّل بعبارات مثل: منه، منه سلّمه الله، منه دام ظلّه العالي، منه أدام الله بقائه، أو "صح".
ويلاحظ في الحاشية كلمات: «بلغ» و «بلغ قبالا».
وفي الواقع، فإنّ النسخة (٣)، هي عين النسخة (٢) التي توجد التصحيحات
والحواشي في متنها.
أمّا الإختلاف الموجود بين النسخة الأولى (أ)، والنسختين الأخريين، فهو يوضح أنّ نسخة التأليف الأوّل هي نفسها، ولكن، وبعد إنهاء الربع الأوّل من التفسير، أدعى المفسّر النظر فيها وأدخل عليها بعض التصحيحات وأكملها.
كان ذلك بعدما تداولت الأيدي النسخة غير المصحّحة واستنسختها. حيث بقيت على تلك الحال.
وعلى هذا الأساس، جعلت النسخة ٢، التي تمّ تصحيحها من قبل المفسّر، أصلا.
وخلال التحقيق في سائر النسخ الموجودة، التي تحتوي على الربع الأوّل، لوحظ أنّ النسخة المرّقمة (٢٣٤٨) الموجودة في مكتبة آية الله المرعشي - دام ظلّه - ، مطابقة لنسخة جامعة طهران برقم (١٤). وجميع النسخ - مع الأخذ بنظر الاعتبار المتن والحاشية - مطابقة للنسخة الأصل.
ولا بدّ من القول: إننا قد اعتمدنا في حلّ غوامض النسخة الأصل، على نسخة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي، برقم (١٢٠٧٣).
حسين الدّرگاهي
سورة آل عمران
سورة آل عمران(١)
في كتاب ثواب الأعمال(٢) : بإسناده إلى أبي عبد اللهعليهالسلام قال: من قرأ البقرة وجاء(٣) يومالقيامة يضلّانه(٤) على رأسه مثل الغمامتين، أو مثل الغيابتين. [مدنيّة وآيها مائتان].(٥)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( ألم ) (١): قد مرّ بعض إشاراته في أوّل سورة البقرة.
وفي كتاب معاني الأخبار(٦) : بإسناده إلى سفيان بن سعيد الثّوريّ، عن الصادقعليهالسلام ، في حديث طويل يقول فيهعليهالسلام : وأمّا «الم» في أوّل فمعناه أنا الله المجيد.
وفي تفسير العيّاشيّ(٧) خيثمة الجعفيّ، عن أبي لبيد(٨) المخزوميّ قال: قال أبو جعفرعليهالسلام : يا أبا لبيد انّه يملك من ولد عبّاس(٩) اثنا عشر(١٠) ، يقتل بعد الثّامن منهم أربعة ،
__________________
(١) يوجد في أبعد «سورة»: مدنية وآيتها مائتان.
(٢) ثواب الأعمال / ١٣٠، ح ١.
(٣) المصدر: جاءتا.
(٤) المصدر: تضلّانه.
(٥) ليس في أ.
(٦) معاني الأخبار / ٢٢ ضمن ح ١. وفي أ: ثواب الأعمال.
(٧) تفسير العيّاشي ٢ / ٣.
(٨) النسخ: «خيثمة الجعفري حدّثني أبو لبيد» وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(٩) المصدر: ولد العباس.
(١٠) النسخ: «اثنى عشرة.» وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
يصيب(١) أحدهم الذّبحة فتذبحه، هم فئة(٢) قصيرة أعمارهم قليلة مدّتهم خبيثة سيرتهم [منهم](٣) الفويسق الملقّب بالهادي، والنّاطق والغاوي، يا أبا لبيد إنّ في حروف القرآن المقطّعة لعلماً جمّا، إنّ الله - تبارك وتعالى - أنزل( الم ذلِكَ الْكِتابُ ) فقام محمّدصلىاللهعليهوآله حتّى ظهر نوره وثبتت كلمته وولد(٤) يوم ولد وقد مضى من الألف السّابع مائة سنة وثلاث سنين، ثمّ قال: وتبيانه في كتاب الله في الحروف المقطّعة، إذا عدّدتها من غير تكرار، وليس من حروف مقطّعة حرف تنقضي أيّام إلّا وقائم من بني هاشم عند انقضائه، ثمّ قال: الألف واحد، واللّام ثلاثون، والميم أربعون، والصّاد تسعون، فذلك مائة وإحدى وستّون، ثمّ كان بدء(٥) خروج الحسين بن عليّعليهالسلام الم الله، فلمّا بلغت مدّته قام قائم ولد العبّاس عبد «المص» ويقوم قائمنا عند انقضائها «بالر» فافهم ذلك وعه واكتمه.
وإنّما فتح الميم في المشهورة، وكان حقّها أن يوقف عليها، لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدلّ على أنّها في حكم الثّابت، لأنّها أسقطت للتّخفيف لا للدّرج، فإنّ الميم في حكم الوقف، كقولهم: واحد اثنان، لا لالتقاء السّاكنين، فإنّه غير محذور في باب الوقف، ولذلك لم يحرّك في لام.
وقرئ بكسرها، على توهّم التّحريك لالتقاء السّاكنين. وقرأ أبو بكر بسكونها، والابتداء بما بعدها على الأصل(٦) .
( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (٢):(٧) : قد مرّ تفسيره فلا حاجة إلى تكريره.
( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ) ، أي: القرآن منجما،( بِالْحَقِ ) : بالعدل، أو بالصّدق في أخباره، أو بالحجج المحقّقة أنّه من عند الله. وهو في موضع الحال عن المفعول.
( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) : من الكتب.
__________________
(١) المصدر: فتصيب.
(٢) النسخ: «فتنة». وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(٣) يوجد في المصدر.
(٤) النسخ: «ولده». وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(٥) هكذا في أ. وفي الأصل ورو المصدر: بدو.
(٦) ر. أنوار التنزيل ١ / ١٤٨.
(٧) البقرة ٢٥٥.
( وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ) (٣)(١) جملة على موسى وعيسى.
في أصول الكافي(٢) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ومحمّد بن القاسم، عن محمّد بن سليمان، عن داود، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: [سألته عن قول الله - عزّ وجلّ - :( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) ، وإنّما أنزل في عشرين سنة بين أوّله وآخره.
فقال أبو عبد اللهعليهالسلام :](٣) نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ نزل(٤) في طول عشرين سنة، ثمّ قال: قال النّبيّ - صلّى الله عليه وآله: نزلت(٥) صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التّوراة لستّ مضين من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت(٦) من شهر رمضان، وأنزل الزّبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان، [وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان.
وفي الكافي(٧) : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمّد، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: أنزلت(٨) التّوراة في ستّ مضت من شهر رمضان، ونزل(٩) الإنجيل في اثنا عشر(١٠) ليلة من شهر رمضان، وأنزل(١١) الزّبور في ليلة ثمانية عشرة مضت من شهر رمضان](١٢) وأنزل(١٣) القرآن في ليلة القدر.
قيل(١٤) : التّوراة مشتقّة من الورى، الّذي هو إخراج النار من الزناد، سمّي بها لإخراج نور العلم منه. والإنجيل من النّجل، بمعنى: الولد، سمّي به لأنّه يتولّد منه النّجاة.
ووزنهما تفعلة وإفعيل، وهو تعسّف لأنّهما اسمان أعجميّان، يؤيّد ذلك أنّه قرئ الإنجيل بفتح الهمزة، وهو ليس من أبنية العرب.
__________________
(١) آل عمران، ٣.
(٢) الكافي ٢ / ٦٢٨، ح ٦.
(٣) ما بين المعقوفتين يوجد في المصدر.
(٤) النسخ: «نزلت». وما في المتن موافق المصدر.
(٥) هكذا في المصدر. وفي النسخ: نزل.
(٦) ليس في ر.
(٧) نفس المصدر ٤ / ١٥٧، ح ٥.
(٨) المصدر: نزلت.
(٩) هكذا في النسخ والمصدر. والظاهر: أنزل.
(١٠) هكذا في النسخ والمصدر. والظاهر: اثنتي عشرة.
(١١) المصدر: نزل.
(١٢) ما بين المعقوفتين ليس في أ.
(١٣) المصدر: نزل.
(١٤) أنوار التنزيل ١ / ١٤٨.
( مِنْ قَبْلُ ) : تنزيل القرآن.
( هُدىً لِلنَّاسِ ) ، أي: لكلّ من أنزل عليه( وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ ) :
قيل(١) : يريد به جنس الكتب الإلهيّة، فإنّها فارقة بين الحقّ والباطل، ذكر ذلك بعد [ذكر](٢) الكتب الثّلاثة ليعمّ ما عداها [كأنّه قال: وأنزل سائر ما يفرّق به بين الحقّ والباطل، أو الزّبور](٣) أو القرآن. وكرّر ذكره بما هو نعت له مدحا وتعظيما وإظهارا لفضله، من حيث أنّه يشركهما في كونه وحيا منزّلا، ويتميّز بأنّه معجز، يفرّق به بين المحقّ والمبطل أو المعجزات.
ويحتمل أن يكون المراد به محكمات القرآن، أفردها لزيادة شرفها ونفعها.
وفي أصول الكافي(٤) : علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن سنان أو غيره، عمّن ذكره قال: سألت أبا عبد اللهعليهالسلام عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شيء واحد.
فقالعليهالسلام : القرآن جملة الكتاب، والفرقان المحكم الواجب العمل به.
[وفي تفسير العيّاشيّ(٥) : عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: سألته(٦) عن قول الله:( الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ ) .
قال: هو كلّ أمر محكم، والكتاب هو جملة القرآن الّذي يصدّق فيه من كان(٧) قبله [من](٨) الأنبياء.
وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٩) : حدّثني أبي، عن النّضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد اللهعليهالسلام وروى مثل ما في تفسير العيّاشيّ.
وفي كتاب علل الشّرائع(١٠) : بإسناده إلى أبي عبد الله [بن يزيد قال: حدّثني يزيد](١١)
__________________
(١) نفس المصدر ١ / ١٤٨.
(٢ و ٣) يوجد في المصدر.
(٤) الكافي ٢ / ٦٣٠، ح ١١.
(٥) تفسير العيّاشي ١ / ١٦٢، ح ١.
(٦) «قال سألته» ليس في المصدر.
(٧) المصدر: «كتاب» بدل «كان».
(٨) يوجد في المصدر.
(٩) تفسير القمّي ١ / ٩٦.
(١٠) علل الشرائع / ٤٧٠، صدر ح ٣٣.
(١١) يوجد في المصدر.
ابن سلام أنّه سأل رسول اللهصلىاللهعليهوآله فقال له: لم سمّي الفرقان فرقانا؟
[قال :](١) لأنّه متفرّق الآيات والسّور أنزلت في غير الألواح، وغيره من الصّحف(٢) والتّوراة والإنجيل والزّبور أنزلت(٣) كلّها جملة في الألواح والورق.
والحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.
وفي الصّحيفة السّجّاديّة في دعائهعليهالسلام عند ختم القرآن(٤) : وفرقانا فرقت به بين حلالك وحرامك، وقرآنا أعربت به عن شرائع أحكامك.
](٥) ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ ) : من كتب منزلة كانت أو غيرها،( لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) : بسبب كفرهم. ولا شك أنّ أمير المؤمنين من أعظم آيات الله، والكافرين به والمنكرين لحقّه لهم عذاب شديد.
( وَاللهُ عَزِيزٌ ) : غالب، لا يمنع من التّعذيب،( ذُو انْتِقامٍ ) (٤): تنكيره للتّعظيم، أي: انتقام لا يقدر مثله أحد ولا يعرف كنهه أحد. والنّقمة، عقوبة المجرم. والفعل منه، نقم - بالفتح والكسر - وهو وعيد جيء به بعد تقرير التّوحيد، وإنزال الكتب والآيات لمن أعرض عنها.
( إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ ) : كلّيّا كان أو جزئيّا، إيمانا أو كفرا،( فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) (٥): خصّصهما، إذ الحسّ لا يتجاوزهما، وقدّم الأرض ترقّيا من الأدنى إلى الأعلى، ولأنّ المقصود ما اقترف فيها.
( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ ) :
وهو ردّ على ما ذهب إليه بعض الحكماء من وجود القوّة المصوّرة.
وقرئ: تصوّركم، أي: صوّركم لنفسه وعبادته(٦) .
( كَيْفَ يَشاءُ ) : من الصّور المختلفة، مشابها لصورة أبيه أولا.
__________________
(١) من المصدر.
(٢) الأصل: «غير الصحف» بدل «غيره من الصحف». وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(٣) المصدر: نزلت.
(٤) الصحيفة السجادية / ٢١١، الدعاء ٤٢.
(٥) ما بين المعقوفتين ليس في أ.
(٦) أنوار التنزيل ١ / ١٤٩.
وفي كتاب علل الشّرائع(١) : بإسناده إلى جعفر بن بشير، عن رجل، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: إنّ الله - تبارك وتعالى - إذا أراد أن يخلق خلقا جمع كلّ صورة بينه وبين أبيه إلى آدم، ثمّ خلقه على صورة أحدهم، فلا يقولنّ أحد: هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئا من آبائي.
وفي الكافي(٢) : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن نوح بن شعيب رفعه، عن عبد الله بن سنان، عن بعض أصحابه، عن أبي جعفرعليهالسلام قال: أتى رجل من الأنصار رسول اللهصلىاللهعليهوآله فقال: هذه ابنة عمّي وامرأتي، لا أعلم منها(٣) إلّا خيرا، وقد أتتني بولد شديد السّواد، منتشر المنخرين، جعد، قطط، أفطس الأنف، لا أعرف شبهه في أخوالي ولا في أجدادي.
فقالصلىاللهعليهوآله لامرأته: ما تقولين؟
قالت: لا والّذي بعثك بالحقّ نبيّا ما أقعدت مقعده منّي(٤) منذ ملكني أحداً غيره.
قال: فنكس رسول اللهصلىاللهعليهوآله [برأسه](٥) مليّا، ثمّ رفع بصره إلى السّماء، ثمّ أقبل على الرجل فقال: يا هذا، إنّه ليس من أحد إلّا بينه وبين آدم تسعة وتسعون(٦) عرقا كلّها تضرب في النّسب، فإذا وقعت النّطفة في الرّحم اضطربت تلك العروق تسأل الشّبه(٧) لها، فهذا من تلك العروق الّتي لم يدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك، خذ إليك ابنك.
فقالت المرأة: فرجت عنّي يا رسول الله.
محمّد بن يحيى وغيره(٨) ، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن إسماعيل بن عمرو، عن شعيب العقرقوفي، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: إنّ للرحم أربعة(٩) سبل، في أيّ سبيل سلك فيه الماء كان منه الولد واحد واثنان وثلاثة وأربعة،(١٠)
__________________
(١) علل الشرائع / ١٠٣، ح ١.
(٢) الكافي ٥ / ٥٦١، ح ٢٣.
(٣) ليس في المصدر.
(٤) أ: مقعدته أعنى.
(٥) يوجد في المصدر.
(٦) النسخ: تسعة وتسعين. وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(٧) المصدر: تسأل الله الشبهة.
(٨) الكافي ٦ / ١٧، ح ٢.
(٩) النسخ: أربع. وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(١٠) النسخ: ثلث أربع. وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
ولا يكون إلى سبيل أكثر من واحد.
عليّ بن محمّد رفعه(١) ، عن محمّد بن حمران، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: إنّ الله - عزّ وجلّ - خلق للرّحم أربعة أوعية، فما كان في الأوّل فللأب، وما كان في الثّاني فللأم، وما كان في الثّالث(٢) فللعمومة، وما كان في الرّابع(٣) فللخئولة. وذلك التّصوير بعد مكث النّطفة في الرّحم أربعين يوما.
يدلّ عليه ما رواه في كتاب علل الشّرائع(٤) : بإسناده إلى محمّد بن عبد الله بن زرارة، عن عليّ بن عبد الله، عن أبيه، عن جدّه، عن أمير المؤمنينعليهالسلام قال: تعتلج النطفتان في الرّحم فأيّتهما كانت أكثر جاءت تشبهها، فإن كانت نطفة المرأة أكثر جاءت يشبه(٥) أخواله، وإنْ كانت نطفة الرّجل أكثر جاءت يشبه(٦) أعمامه.
وقال: تحول النّطفة في الرّحم أربعين يوما، فمن أراد أن يدعو الله - عزّ وجلّ - ففي تلك الأربعين قبل أن يخلق(٧) ، ثمّ يبعث الله - عزّ وجلّ - ملك الأرحام، فيأخذها فيصعد بها إلى الله - عزّ وجلّ - فيقف منه ما شاء(٨) الله، فيقول: يا إلهي أذكر أم أنثى؟ فيوحي الله - عزّ وجلّ - ما يشاء.
والحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.
( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) : إذ لا يعلم ولا يفعل جملة ما يعلمه، ولا يقدر أن يفعل مثل ما يفعله غيره.
( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (٦): إشارة إلى كمال قدرته، وتناهي حكمته.
قال البيضاويّ(٩) : قيل: هذا حجاج(١٠) على من زعم أنّ عيسى كان ربّا، فإنّ وفد نجران لـمّا حاجّوا فيه رسول اللهصلىاللهعليهوآله نزلت السّورة من أوّلها إلى نيف وثمانين آية، تقريرا لما احتجّ به عليهم وأجاب عن شبههم.
( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ) : أُحكمت عبارتها، بأن
__________________
(١) نفس المصدر ٦ / ١٧، ح ٢.
(٢) النسخ: للثالث. وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(٣) النسخ: للرابع. وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(٤) علل الشرائع / ٩٥، ح ٤.
(٥ و ٦) المصدر: تشبه.
(٧) المصدر: تخلق.
(٨) المصدر: «حيث يشاء» بدل «ما شاء».
(٩) أنوار التنزيل ١ / ١٤٩.
(١٠) النسخ: احتجاج. وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
حفظت من الإجمال والاشتباه.
( هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ) : أصله، يردّ إليها غيرها. والقياس أمّهات، فأفرد على تأويل واحدة، أو على أنّ الكلّ بمنزلة آية واحدة.
( وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) : محتملات، لا يتّضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر.
والعلّة في ذلك ما رواه في كتاب الاحتجاج(١) : عن أمير المؤمنينعليهالسلام في حديث طويل وفيه يقول: ثمّ إنّ الله - جلّ ذكره - لسبقة(٢) رحمته ورأفته بخلقه، وعلمه بما يحدثه المبدّلون من تغيير كلامه، قسّم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسما منه يعرفه(٣) العالم والجاهل، وقسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تميّزه ممّن شرح الله صدره للإسلام، وقسما لا يعرفه إلّا الله وأنبياؤه(٤) والرّاسخون في العلم. وإنّما فعل ذلك، لئلّا يدّعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول اللهصلىاللهعليهوآله من علم الكتاب ما لم يجعله(٥) الله(٦) لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الائتمار لمن(٧) ولاه أمرهم، فاستكبروا عن طاعته تعزّزا(٨) وافتراء على الله، واغترارا بكثرة من ظاهرهم وعاونهم وعاند(٩) الله - جل اسمه - ورسولهصلىاللهعليهوآله
واعلم أنّ قسمين ممّا ذكر في الخبر داخل في المحكم المذكور في الآية. وأمّا قوله:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ) ، فمعناه: أنّها حفظت من فساد المعنى، وركاكة اللّفظ. وقوله:( كِتاباً مُتَشابِهاً ) . فمعناه: يشبه بعضه بعضا في صحّة المعنى، وجزالة اللّفظ. «وأخر» جمع أخرى، ولم ينصرف لأنّه وصف معدول من «الآخر» ولا يلزم معرفته، لأنّ معناه أنّ القياس أن يعرّف، ولم يعرّف لأنّه(١٠) معرّف في المعنى(١١) أو من آخر من بهذا المعنى(١٢) .
في أصول الكافي(١٣) : الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن محمّد بن أورمة، عن عليّ بن حسّان، عن عبد الرّحمن بن كثير، عن أبي عبد اللهعليهالسلام في قوله
__________________
(١) الاحتجاج ١ / ٣٧٦.
(٢) المصدر: لسعة.
(٣) أ: معرفة.
(٤) المصدر: أمناؤه.
(٥) المصدر: يجعل.
(٦) ليس في أ.
(٧) النسخ: بمن وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(٨) النسخ: تفررا. وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(٩) الأصل: عاندا. وما أثبتناه في المتن موافق أ.
(١٠) الأصل: لا أنّه. وما أثبتناه في المتن موافق ر.
(١١ و ١٢) أ: الحق.
(١٣) الكافي ١ / ٤١٤، ح ١٤.
تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ) ، قال: أمير المؤمنينعليهالسلام والائمّة - عليهم السّلام -( وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) ، قال: فلان وفلان.
وللحديث تتمّة، أخذت منه موضع الحاجة.
( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) : ميل عن الحقّ وعدول.
( فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ) : بظاهره، أو بتأويل غير منقول عن النّبيّصلىاللهعليهوآله والأئمّة - عليهم السّلام - أو فلان وفلان.
( ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ ) طلب أن يفتنوا أنفسهم والناس عن دينهم.
وفي مجمع البيان(١) : قيل: المراد بالفتنة هنا الكفر، وهو المرويّ عن أبي عبد اللهعليهالسلام
( وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) : طلب أن يأوّلوه(٢) على ما يشتهونه.
قيل(٣) : يحتمل أن يكون الدّاعي إلى الاتّباع مجموع الطّلبتين، أو كل(٤) واحدة منهما على التّعاقب، والأوّل يناسب المعاند والثّاني يلائم الجاهل.
[وفي تفسير عليّ بن إبراهيم(٥) : حدّثنا محمّد بن أحمد بن ثابت قال: حدّثنا الحسن بن محمّد بن سماعة(٦) ، عن وهيب بن حفص(٧) ،](٨) عن أبي بصير، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: سمعته يقول: إنّ القرآن زاجر وآمر يأمر بالجنّة(٩) ويزجر عن النّار.
وفيه محكم ومتشابه. فأمّا المحكم فيؤمن به ويعمل به. وأمّا المتشابه فيؤمن به ولا يعمل به وهو قول الله:( فَأَمَّا الَّذِينَ ) - وقرأ إلى -( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) ، وقال(١٠) : آل محمّد الرّاسخون في العلم.
( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ) ، أي: الّذي يجب أن يحمل عليه.
__________________
(١) مجمع البيان ١ / ٤١٠.
(٢) الأصل: يألوه. وما أثبتناه في المتن موافق أ.
(٣) أنوار التنزيل ١ / ١٤٩.
(٤) ر: لكل. (ظ)
(٥) تفسير القمي ٢ / ٤٥١.
(٦) الأصل: الحسن بن أحمد بن سماعة. وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(٧) الأصل: وهب بن حفص. وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
(٨) ما بين المعقوفتين ليس في أ.
(٩) أ: بالخير.
(١٠) ليس في المصدر.
( إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، أي: الّذين ثبتوا وتمكّنوا فيه.
وفي تتّمة الحديث السّابق، أنّ الرّاسخين في العلم أمير المؤمنين والأئمّة - عليهم السّلام(١) -
وفي كتاب معاني الأخبار(٢) : بإسناده إلى محمّد بن قيس قال: سمعت أبا جعفرعليهالسلام يحدّث: أنّ حييّا وأبا ياسر أبني أخطب ونفرا من يهود اهل نجران أتوا رسول اللهصلىاللهعليهوآله فقالوا(٣) له: أليس فيما تذكر فيما أنزل الله عليك الم؟
قال: بلى.
قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند الله؟
قال: نعم.
قالوا: لقد بعثت أنبياء قبلك وما نعلم نبيّا منهم أخبر ما(٤) مدّة ملكه وما أجل أمّته غيرك.
قال: فأقبل حييّ بن أخطب(٥) على أصحابه فقال لهم: الألف واحد، واللّام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، فعجب ممّن يدخل في دين مدّة ملكه وأجل أمّته إحدى وسبعون سنة.
قال: ثمّ أقبل على رسول اللهصلىاللهعليهوآله فقال له: يا محمّد هل مع هذا غيره؟
قال: نعم.
قال: فهاته(٦) .
قال: المص.
قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحد، واللّام ثلاثون(٧) ، والميم أربعون، والصّاد تسعون، فهذه مائة وواحد وستّون سنة(٨) .
__________________
(١) لا يوجد هكذا تتمة في الحديث السابق، كما أنّ الحديث السابق قد نقل هنا بتمامه ولم تبق له تتّمة لم تنقل.
(٢) معاني الأخبار / ٢٣ - ٢٤، ح ٣.
(٣) كذا في المصدر وفي النسخ: فقال.
(٤) المصدر: أخبرنا.
(٥) أ: حيّ بن أخطب.
(٦) المصدر: هاته.
(٧) يوجد في أبعد هذه العبارة: «والراء مائتان.» ووجودها خطأ أو زائدة.
(٨) النسخ: «فهذه مائة وواحد وأربعون». وما أثبتناه في المتن موافق المصدر.
ثمّ قال لرسول اللهصلىاللهعليهوآله : فهل مع هذا غيره؟
قال: نعم.
قال: هاته.
قال: الر.
قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحد، واللّام ثلاثون(١) ، والرّاء مائتان.
[ثمّ قال لرسول اللهصلىاللهعليهوآله :](٢) فهل مع هذا غيره؟
قال: نعم.
قال: هاته.
قال: المر.
قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحد، واللام ثلاثون والميم أربعون والرّاء مائتان.
ثمّ قال له: هل مع هذا غيره؟
قال: نعم.
قال: قد التبس علينا أمرك فما ندري ما أعطيت. ثمّ قاموا عنه، ثمّ قال أبو ياسر لحييّ(٣) أخيه: ما يدريك، لعل محمّدا قد جمع له هذا كلّه وأكثر منه.
قال: فذكر أبو جعفرعليهالسلام أنّ هذه الآيات أنزلت فيهم: منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات.
قال: وهي تجري في وجه آخر [على](٤) غير تأويل حييّ وأبي ياسر وأصحابهما.
أقول: وهذا الوجه هو ما مرّ، من أنّ المراد بالمحكمات والمتشابهات الأئمّة وأعداؤهم، وبعضهم وقفوا على الله وفسّروا المتشابه بما استأثره بعلمه.
( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ) : استئناف موضح. لحال الرّاسخين، أو حال منهم، أو خبر إن جعلته مبتدأ.
( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) ، أي: كلّ من المحكم والمتشابه من عنده، وعلى كون المراد بالمتشابه فلان وفلان كونه من عنده، بمعنى: خلقه له وعدم جبره على الاهتداء، كما هو
__________________
(١) يوجد في أبعد هذه العبارة: «والميم أربعون والصاد تسعون هذه». وهي زائدة.
(٢) يوجد في المصدر.
(٣) أ: لحيّ. المصدر: للحيي.
(٤) يوجد في المصدر.
طريقة الابتلاء والتّكليف.
( وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) (٧): مدح للرّاسخين، أو لمن يتذكّر أنّ العالم بالمتشابه لا يكون غير الرّاسخين، الّذين هم الأئمّة - عليهم السّلام -
[وفي شرح الآيات الباهرة(١)] (٢) روى محمّد بن يعقوب(٣) ، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن النّضر بن سويد، عن أيّوب(٤) بن الحرّ [وعمران بن عليّ، عن أبي بصير](٥) عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: نحن الرّاسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله.
ويؤيّده ما رواه أيضا، عن عليّ بن محمّد(٦) ، عن عبد الله بن عليّ، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد الله بن حمّاد، عن بريد بن معاوية، عن أحدهما - عليهما السّلام - في قول الله عزّ وجلّ:( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) .
قال: فرسول اللهصلىاللهعليهوآله أفضل الرّاسخين في العلم، قد علّمه الله - عزّ وجلّ - علم جميع ما أنزل [الله](٧) عليه من التّنزيل والتّأويل، وما كان [الله](٨) لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه [وكيف لا يعلمونه؟! ومنهم مبدأ العلم، وإليهم منتهاه، وهم معدنه وقراره ومأواه.
](٩) وبيان ذلك ما رواه الشّيخ محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم(١٠) ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن عبد الله بن سليمان، عن حمران بن أعين [عن أبي عبد اللهعليهالسلام ](١١) قال: إنّ جبرئيلعليهالسلام أتى رسول اللهصلىاللهعليهوآله برمّانتين، فأكل رسول اللهصلىاللهعليهوآله إحداهما وكسر الأخرى بنصفين،
__________________
(١) تأويل الآيات الباهرة / ٣٥ - ٣٧.
(٢) ليس في أ.
(٣) الكافي ١ / ٢١٣، ح ١.
(٤) أ: أبو أيوب.
(٥) ليس في النسخ.
(٦) نفس المصدر والموضع، ح ٢.
(٧ و ٨) يوجد في الكافي.
(٩) يوجد في الكافي بدل ما بين المعقوفتين: والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم فأجابهم الله بقوله:( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) والقرآن خاصّ وعامّ ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ. فالراسخون في العلم يعلمونه.
(١٠) الكافي ١ / ٢٦٣، ح ١.
(١١) يوجد في الكافي.
فأكل نصفا وأطعم عليّا نصفا.
ثمّ قال رسول اللهصلىاللهعليهوآله : يا أخي هل تدري ما هاتان الرّمّانتان؟
قال: لا.
قال: أمّا الأولى فالنّبوّة ليس لك فيها نصيب، وأمّا الأخرى فالعلم أنت شريكي فيه.
فقلت: أصلحك الله كيف يكون(١) شريكه فيه؟
قال: لم يعلّم الله محمّداصلىاللهعليهوآله [علما](٢) إلّا وأمره أن يعلّمه عليّاعليهالسلام
ويؤيّده ما رواه أيضا، عن محمّد بن يحيى(٣) ، عن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن عبد الحميد، عن منصور بن يونس، عن ابن أذينة، عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفرعليهالسلام يقول: نزل جبرئيلعليهالسلام على محمّدصلىاللهعليهوآله برمّانتين من الجنّة، فلقيه عليّعليهالسلام فقال له: ما هاتان الرّمّانتان الّتي في يدك؟
فقال: أمّا هذه فالنّبوّة ليس لك فيها نصيب، وأمّا هذه فالعلم. ثمّ فلقها رسول اللهصلىاللهعليهوآله نصفين(٤) فأعطاه نصفها وأخذ رسول اللهصلىاللهعليهوآله نصفها، ثمّ قال: أنت شريكي فيه وأنا شريكك فيه.
قال: فلم يعلّم رسول اللهصلىاللهعليهوآله حرفا ممّا علّمه الله - عزّ وجلّ - إلّا وقد علّمه عليّا، ثمّ انتهى العلم إلينا، ثمّ وضع يده على صدره.
وأوضح من هذا بيانا ما رواه أيضا، عن أحمد بن محمّد(٥) ، عن عبد الله [بن](٦) الحجّال، عن أحمد بن عمر الحلبيّ(٧) ، عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد اللهعليهالسلام فقلت: جعلت فداك إنّي أسألك عن مسألة، فههنا(٨) أحد يسمع كلامي؟
__________________
(١) الكافي: كان يكون.
(٢) يوجد في الكافي.
(٣) نفس المصدر والموضع، ح ٣.
(٤) الكافي: بنصفين.
(٥) نفس المصدر ١ / ٢٣٨ - ٢٣٩، ح ١.
(٦) يوجد في الكافي.
(٧) كذا في الكافي. وفي النسخ وشرح الآيات: أحمد بن محمد الحلبي
(٨) الكافي: هاهنا.
قال: فرفع أبو عبد اللهعليهالسلام سترا بينه وبين بيت آخر فاطّلع فيه. ثمّ قال: يا أبا محمّد سل عمّا بدا لك.
قال: قلت: جعلت فداك إنّ شيعتك يتحدّثون أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآله علّم عليّا بابا، يفتح [له](١) منه ألف باب.
قال: فقال: يا أبا محمّد، علّم رسول اللهصلىاللهعليهوآله عليّاعليهالسلام ألف باب، يفتح [الله](٢) كلّ باب ألف باب.
قال: قلت: هذا - والله - العلم.
قال: فنكت(٣) ساعة في الأرض، ثمّ قال: إنّه لعلم وما هو بذاك.
قال: ثمّ قال: يا أبا محمّد إنّ عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة.
قال: قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟
قال: صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله، و(٤) إملائه من ملء(٥) فيه، وخطّ عليّ بيمينه، فيها كلّ حلال وحرام، وكلّ شيء يحتاج إليه النّاس حتّى الأرش في الخدش، وضرب بيده إليّ فقال لي: أتأذن(٦) لي يا أبا محمّد.
قال: قلت: جعلت فداك إنّما أنا لك، فاصنع ما شئت.
قال: فغمزني بيده، قال: حتّى أرش هذا - كأنّه مغضب -
قال: قلت: هذا - والله - العلم.
قال: إنّه لعلم وليس(٧) بذاك. ثمّ سكت ساعة. ثمّ قال: إنّ(٨) عندنا الجفر.
وما يدريهم ما الجفر.
[قال :](٩) قلت: وما الجفر؟
قال: وعاء من أدم، فيه علم النّبيّين والوصيّين وعلم العلماء(١٠) الّذين مضوا من بني
__________________
(١) يوجد في الكافي.
(٢) يوجد في شرح الآيات. وفي الكافي: «من» بدل «الله».
(٣) أو شرح الآيات: فسكت.
(٤) النسخ: من.
(٥) الكافي: فلق.
(٦) الكافي: تأذن.
(٧) هكذا في أو الكافي. وفي الأصل ور: فليس.
(٨) ليس في الأصل ور.
(٩) يوجد في الكافي.
(١٠) النسخ: علماء
إسرائيل.
قال: قلت: إنّ هذا هو العلم.
قال: إنّه لعلم(١) وليس بذاك. ثمّ سكت ساعة، ثمّ قال: وإنّ عندنا لمصحف فاطمة - عليها السّلام - وما يدريهم ما مصحف فاطمة.
قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟
قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا - ثلاث مرّات - والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد.
قال: قلت: هذا - والله - هو العلم.
قال: إنّه العلم(٢) وليس بذاك. ثمّ سكت ساعة. ثمّ قال: وإنّ عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم السّاعة.
قال: قلت: جعلت فداك هذا - والله - هو العلم.
قال: إنّه لعلم وليس بذاك.
قال: قلت: جعلت فداك فأيّ شيء العلم؟
قال: ما يحدث باللّيل والنّهار، والأمر بعد الأمر، والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة.
وممّا ورد في غزارة علمهم - صلوات الله عليهم -
ما رواه أيضا - رحمه الله - قال(٣) : روى عدّة من أصحابنا [عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن سنان، عن يونس بن يعقوب، عن الحارث بن مغيرة وعدّة من أصحابنا](٤) منهم: عبد الأعلى [وأبو عبيدة](٥) وعبد الله بن بشير الخثعميّ(٦) ، أنّهم سمعوا أبا عبد اللهعليهالسلام يقول: إنّي لأعلم ما في السّموات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنّة، وأعلم ما في النّار، وأعلم ما كان وما يكون، ثمّ سكت هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه. فقال: علمت ذلك من كتاب الله - عزّ وجلّ - [إنّه - عزّ وجلّ - ](٧) يقول: فيه(٨) فيه تبيان كلّ شيء.
__________________
(١ و ٢) النسخ: العلم. وما أثبتناه في المتن موافق «الكافي».
(٣) الكافي ١ / ٢٦١، ح ٢.
(٤) ما بين المعقوفتين ليس في ر.
(٥) يوجد في الكافي.
(٦) الكافي: «عبد الله بن بشر الخثعمي». والظاهر هي خطأ. ر. تنقيح المقال ٢ / ١٧٠. وما أثبتناه في المتن موافق الأصل.
(٧) يوجد في المصدر.
(٨) النحل / ٨٩. وفيها:( تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) . وهنا إمّا نقل بالمعنى، او كان في قراءتهم - عليهم السّلام - كما تذكّر بهذين في هامش المصدر.
وممّا ورد في غزارة علمهم - صلوات الله عليهم -
ما رواه أيضا، عن أحمد بن محمّد ومحمّد بن يحيى،(١) عن محمّد بن الحسين، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر، عن عبد الله بن حمّاد، عن سيف التّمّار قال: كنّا مع أبي عبد اللهعليهالسلام و(٢) جماعة من الشّيعة في الحجر، فقال: علينا عين، فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحدا.
فقلنا ليس علينا عين.
فقال: وربّ الكعبة وربّ البيّنة - ثلاث مرّات - لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أنّي أعلم منهما، ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما، لأنّ موسى والخضر - عليهما السّلام - أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتّى تقوم السّاعة، وقد ورثناه من رسول اللهصلىاللهعليهوآله وراثة.
ويؤيّد هذا ويطابقه، ما رواه أصحابنا من رواة الحديث، من كتاب الأربعين، رواية أسعد الأربلىّ(٣) ، عن عمّار بن خالد، عن إسحاق الأزرق(٤) ، عن عبد الملك بن
__________________
(١) الكافي ١ / ٢٦٠ - ٢٦١، ح ١.
(٢) «واو» ليس في الكافي.
(٣) هو أسعد بن إبراهيم بن الحسن بن علي الأربلي وله كتاب الأربعين في الفضائل والمناقب يرويها عن مشايخه من العامّة في مجلس واحد سنة ٦١٠، ألّفه في بغداد. توجد من الأربعين هذا نسخ في المكتبة المركزية لجامعة طهران، رقم ١ / ٢١٣٠، ٢ / ٢١٤٠. وأمّا ما ذكره في فهرس هذه المكتبة أنّه يوجد من الأربعين هذا في مجموعة رقم ٣ / ٢١١٧ وهم. بل هو أربعين حافظ أبو نعيم الاصبهاني الّذي نقله ابو الحسن على بن عيسى الاربلي في كتابه كشف الغمة في معرفة الائمة، عند ذكر صاحب الأمر - صلوات الله عليه - فراجع.
والحديث الذي نقل في المتن، الحديث الثاني من هذا الأربعين. وأورده العلامة المجلسي - رحمه الله - في البحار ١٣ / ٣١٢ - ٣١٣، ح ٥٢، نقلا عن رياض الجنان بعين السند المذكور في «الأربعين». ولكن بين البحار ونسخ الأربعين وتفسير تأويل الآيات (مصدر المتن) إختلاف كثير في الألفاظ والعبارات. وقال - رحمه الله - في نفس المصدر والموضع، بعد نقل الحديث: «كنز: ذكر بعض أصحابنا من رواة الحديث في كتاب الأربعين رواية أسعد الاربليّ عن عمّار بن خالد مثله.» و «كنز» المذكور في البحار رمز لكنز جامع الفوائد وتأويل الآيات الظاهرة معا (على ما قيل في «رموز الكتاب».) وأيضا أورده العلامة - رحمه الله - في نفس المصدر ٤٠ / ١٨٦، ح ٧١، نقلا عن البرسيّ في مشارق الأنوار، بسند آخر مع تفاوت في المتن.
وفي تصحيح الرواية اختصرنا بالنسخ التفسير، إلّا في موارد ما.
(٤) الأصل: الأورق. أ: الأورق. وما أثبتناه في المتن موافق ر، المصدر، الأربعين والبحار (١٣ / ٣١٢)
وهذه القصيدة الرائعة هي من أفضل قصائد كعب وقد اعتنى المسلمون بحفظها ونشرها منذ أن أنشدها الشاعر المذكور بين يدي رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في المسجد ، وقد شرحها علماء الإسلام كثيرا ، وعدد ابيات هذه اللامية ( أي التي تنتهي قوافيها باللام المضمومة ) ٥٨ بيتا ومطلعها :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول |
متيّم إثرها لم يغد مكبول |
لقد بدأ كعب قصيدته هذه ـ على عادة شعراء العهد الجاهلي ( الذين كانوا يبدءون قصائدهم بمخاطبة محبوبتهم او مخاطبة الاطلال ) ـ بذكر سعاد زوجته وابنة عمه ، ولقد خصّها بالذكر لطول غيبته عنها ، لهروبه من النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم فيقول : فارقتني سعاد فراقا بعيدا فقلبي اليوم أسقمه الحبّ ، وأضناه ، فهو ذليل لغيبتها لم يخلص من الأسر والقيد.
ثم يمضي في هذه النمط من الكلام حتى يصل إلى أن يعتذر من صنيعه السيّئ فقال :
نبّئت أنّ رسول الله أوعدني |
والعفو عند رسول الله مأمول |
|
مهلا هداك الذي أعطاك ناف |
لة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل |
|
لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم |
اذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل |
إلى أن قال :
إن الرسول لنور يستضاء به |
مهنّد من سيوف الله مسلول(١) (٢) |
__________________
(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٠١ ـ ٥١٤.
(٢) يقال : إن كعبا عند ما فرغ من إنشاء قصيدته كساه النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم بردة كانت عليه ، فلما كان زمن معاوية أرسل الى كعب أن بعنا بردة رسول الله ، فقال : ما كنت لاوثر بثوب رسول الله أحدا ، فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم وهي البردة التي كان يلبسها الخلفاء الامويون والعباسيون ( راجع الكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٧٦ ). وجاء في ناسخ التواريخ الجزء الثالث من المجلد الثاني ان كعبا لما قال « ان النبي لسيف يستضاء به » قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم « إن النبي لنور ».
في أواخر السنة الثامنة للهجرة فقد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم كبرى بناته : « زينب » ، وقد تزوّجت زينب قبل البعثة بابن خالتها أبي العاص ، وآمنت بأبيها رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بعد البعثة من دون تأخير ، ولكنّ زوجها ظلّ على شركه ، وشارك في « بدر » ضدّ الإسلام والمسلمين ، وأسر في تلك المعركة فخلّى رسول الله سبيله ، شريطة أن يبعث بابنته « زينب » إلى المدينة.
وفعل ابن العاص ذلك فجهّز زوجته « زينب » وبعثها برفقة أخيه إلى المدينة ، غير أن سادة قريش عرفوا بذلك ، فكلّفوا من يعيدها إلى مكة ، فلحق بها الرجل في أثناء الطريق ، فضرب هودجها برمحه ففزعت زينب ابنة رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم واسقطت حملها من شدّة الفزع ، ولكنها لم تنصرف عن الذهاب الى المدينة ، فقد واصلت سيرها حتى قدمت المدينة وهي عليلة ، وقضت بقية عمرها مريضة حتى توفّيت في أواخر السنة الثامنة من الهجرة.
ولكنّ هذا الحزن قارنه فرح وسرور فقد رزق رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في أواخر نفس ذلك العام ولدا اسماه « ابراهيم » من زوجته « مارية القبطية » ( وهي الجارية التي أهداها المقوقس حاكم مصر إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ).
والجدير بالذكر أنه عند ما بشّرت سلمى ( المولّدة ) رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك ، أعطاها هدية ثمينة ، وعقّ له في اليوم السابع من ولادته ، وحلق شعره ، وتصدّق بوزن شعره ، فضة في سبيل الله(١) .
__________________
(١) تاريخ الخميس : ج ٢ ص ١٣١.
حوادث السنة التاسعة من الهجرة
٥٣ علي بن أبي طالب في أرض طيّ |
انقضت السنة الهجرية الثامنة بكل حوادثها المرّة والحلوة ، فقد سقطت اكبر قاعدة من قاعدة الوثنية والشرك في أيدي المسلمين ، وعاد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المدينة ظافرا منتصرا على أعداء الإسلام انتصارا كاملا ، وقد هيمنت ظلال القوة العسكرية الإسلامية على اكثر أنحاء الجزيرة العربية ونقاطها.
كما أخذت القبائل العربية المتمرّدة التي لم تكن تتصور إلى ذلك اليوم أن يتحقق مثل هذه الانتصارات لدين التوحيد ، أخذت تفكّر شيئا فشيئا في التقرب الى المسلمين وقبول معتقداتهم ، واعتناق دينهم.
من هنا كانت وفود القبائل العربية المختلفة ، وأحيانا مجموعة من أفراد قبيلة ما بقيادة رئيسها تقدم على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وتعلن عن إسلامها ، وقبولها للرسالة المحمدية.
وقد ازداد قدوم وفود القبائل هذه على عاصمة الإسلام ( المدينة المنورة ) في هذا العام حتى سمّى بعام الوفود(١) .
__________________
(١) لقد سجّل المؤرخ المعروف محمّد بن سعد ـ في كتابه ـ خصوصيات واسماء هذه الوفود وتفاصيل القسم الاكبر من تفاصيل ما دار بينها وبين النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم وما خصّهم به رسول
وعند ما قدم وفد من قبيلة « طيّ » وفيهم سيدهم « زيد الخيل » على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وتحادث مع النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم أعجب رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بعقل زيد وحكمته ووقاره فقال عنه :
« ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلاّ رأيته دون ما يقال فيه إلاّ زيد الخيل ، فانه لم يبلغ كل ما كان فيه ».
ثم سمّاه رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم زيد الخير(١) .
إن دراسة قصة الوفود ، والإمعان والتدبر في ما دار بينهم وبين رسول الاسلام يفيد بوضوح وجلاء ان الاسلام انتشر في شبه الجزيرة العربية عن طريق الدعوة والتبليغ.
على أن طواغيت ذلك العصر أمثال أبي سفيان وأبي جهل كانوا يحاولون الحيلولة دون انتشار هذا الدين ، فكانت لأجل ذلك حروب النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم فمضافا إلى أن اكثرها كان لإفشال تلك المؤامرات ، كان الهدف منها
__________________
الاسلام من الطف لا يسع المجال لذكره هنا ، وقد ذكر اسماء ثلاثة وسبعين وفدا من تلك الوفود التي وفدت على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم طوال السنة التاسعة من الهجرة او ما قبلها بقليل ( الطبقات الكبرى : ج ١ ص ٢٩١ ـ ٣٥٩ ).
(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٧٧. هذا وينبغي الاشارة هنا وبالمناسبة إلى أنه كان من سيرة رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم أن يغيّر الأسماء القبيحة التي اعتاد الجاهليّون على تسمية أبنائهم بها ايثارا للاسم الحسن ولأن الاسم يورث الاحساس بالشخصية لدى صاحبه على العكس من الاسم القبيح ، وقد ثبت هذا نفسيا ، بل ربما غيّر الاسماء التي قد يشعر معها الانسان بالعظمة ، والفخر والزهو منعا من أن تحدث لأصحابها مثل ذلك. فعن الامام جعفر بن محمّد الصادق عن ابيهعليهماالسلام : إنّ رسول الله كان يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان ( قرب الاسناد ص ٤٥ ) ولهذا غيّر أسماء كثيرة لرجال ونساء فغيّر اسم ابنة لعمر كانت يقال لها عاصية فسماها رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم جميلة ( صحيح مسلم : ج ٦ ص ١٧٣ ) وغيّر اسم غافل بن البكير فسمّاه عاقلا ، وقد روي أن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « إن أوّل ما ينحل احدكم ولده الاسم الحسن » ( بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ١٢٢ ).
هو قمع أولئك الطواغيت الذين كانوا يصدّون عن سبيل الله ويمنعون من دخول مجموعات الدعوة والتبليغ الاسلامية إلى مناطق الحجاز ونجد وغيرها.
إنّ من البديهيّ أن لا يتيسّر انتشار أيّ دين ، وتطبيق أي برنامج إصلاحي من دون تحطيم الطواغيت ، وإزالة الأشواك من طريقه.
ومن هنا نرى أنّ جميع الأنبياء والرسل ، وليس رسول الله فقط كانوا يجتهدون قبل أي شيء في تحطيم الطواغيت وإزالة السدود والموانع ، من طريق الدعوة.
ويتحدث القرآن الكريم في سورة خاصة عن قدوم هذه الوفود على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وما حققه الإسلام من فتح وانتصار ساحق اذ يقول :
«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً »(١) .
وبالرغم من هذا الإقبال المتزائد على الإسلام لدى القبائل وقدوم الوفود المتلاحق على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فقد قام في السنة التاسعة من الهجرة ببعث عدة سرايا ، ووقعت غزوة واحدة ، وكانت السرايا هذه لأجل إفشال المؤامرات التي كانت تحاك ضدّ الاسلام والمسلمين ، وكانت في الأغلب لهدم الأصنام الكبيرة التي كانت لا تزال القبائل العربية المشركة تقدسها وتعبدها ، ومن جملة هذه السرايا سرية علي بن أبي طالبعليهالسلام التي وجّهت إلى أرض « طيّ » بأمر رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ومن بين ما وقع في السنة التاسعة يمكن الاشارة إلى غزوة « تبوك ».
ففي هذه الغزوة غادر رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم المدينة متوجها إلى أرض تبوك ، ولكنه لم يلق فيها أحدا ، فعاد من غير قتال ، إلاّ أنّه مهّد الطريق لفتح البلاد الحدودية لمن يأتي في المستقبل.
__________________
(١) النصر : ١ ـ ٣.
لقد كانت الوظيفة الاساسية الاولى من وظائف النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم هي : نشر عقيدة التوحيد ، واجتثاث جذور كل نوع من أنواع الشرك ، وقد كانصلىاللهعليهوآلهوسلم يسلك ـ لتحقيق هذه الغاية ، ولارشاد الضالّين والوثنيين ـ طريق المنطق والاستدلال ، قبل أي شيء فكان يلفت أنظارهم بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة إلى بطلان الشرك والوثنية ، فاذا لم يجد معهم المنطق المبرهن ، والارشاد المستدلّ ، ولجّوا في كفرهم وشركهم سمح لنفسه بأن يتوسّل بالقوة ، ويداوي أولئك المرضى روحا وفكرا والذين يمتنعون عن استعمال الدواء وبمحض اختيارهم ، بالمعالجة الجبرية.
فانّه إذا شاع داء الكوليرا في بلد من البلدان مثلا ، وامتنع فريق من الناس عن قبول تلقيحهم بالمصل اللازم لمكافحة ذلك المرض ، فإنّ المسئول في ذلك البلد يرى لنفسه الحق في أن يجبر تلك الجماعة الضيّقة التفكير التي تعرّض سلامة نفسها وسلامة غيرها للخطر من حيث لا تشعر على الرضوخ لعملية التلقيح المذكورة.
لقد أدرك رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في ضوء تعاليم الوحي أنّ الوثنية أشبه شيء بجرثومة « الكوليرا » تهدم فضائل الانسان ، وشرفه ، وتقضي على مكارم الاخلاق ، وتحطّ من مكانة الانسان الرفيعة ، وتجعله كائنا حقيرا أمام الطين والحجر والموجودات المنحطّة.
وعلى هذا الاساس امر من جانب الله تعالى بأن يجتثّ جذور الشرك من كيان ذلك المجتمع الموبوء ، ويزيل كل مظاهر الوثنية ، وكل أنواعها وأشكالها ، واذا ما قاومت جماعة هذا العمل ، وعارضت هذا الاجراء حطّم مقاومته بالقوة العسكرية ، والقبضة الحديدية.
إنّ التفوّق العسكري أعطى لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فرصة بعث
الفرق العسكرية لتحطيم وهدم كل بيوت الأصنام ، وأن لا يبقوا في منطقة الحجاز صنما إلاّ هدّموه.
ولقد كان رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم يعرف من قبل ، أن في قبيلة طيّ صنما كبيرا يقدّس إلى الآن ومن هنا بعثصلىاللهعليهوآلهوسلم بطل جيشه الشجاع علي بن أبي طالبعليهالسلام على رأس مائة وخمسين فارس إلى أرض طيّ ، وأمره بأن يحطّم صنم طيّ ، ويهدم بيته.
وقد أدرك قائد هذه السرية أن القبيلة المذكورة ستقاوم جنود الاسلام ، وأنّ الأمر لن يتمّ من دون قتال ، ولهذا حمل بأفراده على موضع ذلك الصنم ، عند الفجر والناس نيام ، فاستطاع أن يأسر جماعة من تلك القبيلة ممن قاوم ، وان يعود بهم وبالغنائم الى المدينة وقد فرّ « عديّ بن حاتم الطائي » الذي انضمّ فيما بعد الى صفوف المسلمين ، المجاهدين في سبيل الله ، وكان يرأس تلك القبيلة ، حين سمع بتوجه علىعليهالسلام نحوها.
ولنستمع إلى عديّ الطائي نفسه وهو يقصّ علينا قصة هروبه.
يقول عديّ : ما من رجل كان أشدّ كراهية لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم حين سمع به ، منّي.
أمّا أنا فكنت امرأ شريفا ، وكنت نصرانيا ، وكنت اسير في قومي بالمرباع ( أي آخذ الربع من الغنائم لأني سيدهم ) فكنت في نفسي على دين ، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي. فلما سمعت برسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم كرهته ، فقلت لغلام كان لي عربيّ ، وكان راعيا لابلي : لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا ، فاحتبسها قريبا منّي ، فاذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذنّي ؛ ففعل ؛ ثم أنه أتاني ذات غداة ، فقال : يا عديّ ما كنت صانعا اذا غشيتك خيل محمّد ، فأصنعه الآن ، فاني قد رأيت رايات ، فسألت
عنها ، فقالوا : هذه جيوش محمّد. قال : فقلت : فقرّب إليّ أجمالي فقرّبها ، فاحتملت بأهلي وولدي ، ثم قلت : ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام فسلكت الجوشية(١) وقد تركت أختي في قومي.
ثم تغزو خيل رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم قومي فتصيب ( اختي ) ابنة حاتم فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في سبايا من طيّ ، وقد بلغ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم هربي الى الشام.
فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيه ، فمرّ بها رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فقامت إليه اختي وكانت امرأة جزلة ، فقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن عليّ منّ الله عليك.
قال : ومن وافدك؟
فقالت : عديّ بن حاتم.
قال : الفارّ من الله ورسوله؟
ثم مضى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وتركني حتى إذا كان من الغد مرّ بي ، فقلت له مثل ذلك ، وقال لي مثل ما قال بالأمس ، حتى إذا كان من الغد مرّ بي وقد يئست منه ، فاشار إليّ رجل من خلفه أن قومي فكلّميه ، فقامت إليه ، وقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن عليّ منّ الله عليك ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم :
« قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني ».
تقول اختي : فسألت عن الرجل الذي أشار إليّ أن أكلمه فقيل : علي بن أبي طالب رضوان الله عليه.
ثم إن أختي أقامت حتى قدم ركب من بلّي او قضاعة قالت : وأنما اريد أن
__________________
(١) الجوشية : جبل للضباب قرب ضرية. من أرض نجد.
آتي أخي بالشام. قالت : فجئت رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فقلت : يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ.
قالت : فكساني رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وحملني ، واعطاني نفقة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
قال عديّ : فو الله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة ( وهي المرأة في هودجها ) تصوّب إليّ تؤمنا قال : فقلت ابنة حاتم ، قال : فإذا هي هي ، فلما وقفت عليّ أخذت في اللوم تقول : القاطع الظالم ، احتملت أهلك وولدك ، وتركت بقيّة والدك عورتك.
فقلت : أي أخيّة ، لا تقولي إلاّ خيرا ، فو الله ما لي من عذر ، لقد صنعت ما ذكرت ، ثم نزلت فاقامت عندي فقلت لها ، وكانت امرأة حازمة : ما ذا ترين في أمر هذا الرجل؟
قالت : أرى والله أن تلحق به سريعا ، فان يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله ، وان يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن ، وأنت أنت. فقلت : والله إنّ هذا الرأي.
قال عديّ : فخرجت حتى أقدم على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم المدينة فدخلت عليه ، وهو في مسجده ، فسلّمت عليه ، فقال : من الرجل؟ فقلت : عديّ بن حاتم ، فقام رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فانطلق بي إلى بيته ، فو الله إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلّمه في حاجتها. فقلت في نفسي : والله ما هذا بملك.
ثم مضى بى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إليّ ، فقال : اجلس على هذه ، فقلت : بل أنت فاجلس عليها فقال : بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بالأرض ( وهو عظيم الحجاز ) فقلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك ثم قال : إيه يا عديّ بن حاتم ، ألم تك ركوسيّا ( وهو دين بين دين النصارى
والصابئين )؟
قلت : بلى.
قال : أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟
قلت : بلى.
قال : فان ذلك لم يحل لك في دينك.
قلت : أجل والله ، وعرفت أنه نبي مرسل ، يعلم ما يجهل ، ثم قال : لعلّك يا عديّ إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، فو الله ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعلّك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلة عددهم ، فو الله ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف ، ولعلّك إنما يمنعك من دخول فيه أنّك ترى أنّ الملك والسلطان في غيرهم وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم.
قال عديّ : فاسلمت.
وكان عديّ يقول : قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة والله لتكوننّ ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحجّ هذا البيت ، وأيم الله لتكونن الثالثة ، ليفيضنّ المال حتى لا يوجد من يأخذه(١) .
ولقد نقل العلامة الطبرسي في تفسير قوله تعالى : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ »(٢) اللقاء الذي تمّ بين عدي ورسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ويقول : قال عديّ انتهيت إلى رسول الله وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ » حتى فرغ منها ،
__________________
(١) المغازي : ج ٢ ص ٩٨٨ و ٩٨٩ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٧٨ ـ ٥٨١ ، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الامامية : ص ٣٥٢ ـ ٣٥٤ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٤٥.
(٢) التوبة : ٣١.
فقلت له : انّا لسنا نعبدهم ، فقال : أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه ، فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم(١) .
__________________
(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ٢٤.
٥٤ غزوة تبوك |
كانت القلعة القويّة ، الرفيعة الجدران المقامة عند عين ماء على الشريط الحدودي السوري في طريق « حجر » و « الشام » تسمّى تبوكا.
وكانت سورية آنذاك من مستعمرات إمبراطورية الروم الشرقية ، التي كان عاصمتها القسطنطنية.
وكان جميع سكان المناطق الحدودية للشام نصارى على دين المسيح عيسى بن مريمعليهالسلام وكان أكثر زعمائها ولاة منصوبين من قبل حاكم الشام الذي كان يمثّل هو بدوره إمبراطور الروم ، ويمتثل أوامره.
ولقد كان لانتشار الاسلام السريع في شبه الجزيرة العربية وفتوحات المسلمين المشرقة في الحجاز صداه في خارج الحجاز ينعكس بالوسائل الموجودة في ذلك اليوم ، وكان ذلك يرعب الأعداء ، ويدفعهم إلى التفكير في حيلة.
ولقد دفع سقوط حكومة « مكة » الوثنية ، واعتناق زعماء الحجاز الكبار للدين الاسلامي ، وبطولات جنود الاسلام الباهرة وبسالتهم وتفانيهم الفريد في طريق عقيدتهم ، بامبراطور الرّوم إلى أن يحشد جموعا كبيرة ، ويتهيّأ لمهاجمة المسلمين وغزوهم بغتة ، لأنّه كان يرى تزلزل سلطانه مع انتشار الاسلام المطّرد ، وكانت مخاوفه تزداد يوما بعد يوم وهو يرى تعاظم القوة الاسلامية العسكرية ، وانتشار نفوذه السياسيّ.
كانت الروم ـ آنذاك ـ المنافسة الوحيدة ، والقوية لإيران ، وكانت تملك أعظم قوة عسكرية ، وكانت مغترّة أشدّ الغرور بنفسها ، لما أصابته من فتوحات وانتصارات في معاركها الكبرى مع إيران ، وما ألحقته من هزائم نكراء بإيران في تلك العصور.
وقد كان جيش الروم يتألّف من أربعين ألف فارس وراجل ، وكان مجهّزا بأحدث أسلحة وتجهيزات ذلك العصر ، وقد استقرّ هذا الجيش على الشريط الحدوديّ لأرض الشام ، والتحقت به قبائل عديدة تسكن الحدود مثل قبيلة « لخم » « عاملة » « غسان » « جذام » ، وتقدمت طلائع ذلك الجيش حتى منطقة « البلقاء ».
ولقد بلغ نبأ استقرار فريق من جنود الروم على الشريط الحدودي للشام إلى مسامع النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم عن طريق القوافل التجارية التي تعمل على طريق الحجاز ـ الشام فلم ير رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بدّا من أن يردّ على هؤلاء المعتدين ، بجيش عظيم ، ويحافظ بذلك على الدين الّذي قام بفضل الدماء الزكية التي اريقت من أصحابه ، وبفضل تضحياته هوصلىاللهعليهوآلهوسلم وهو الآن على أبواب أن يعمّ العالم نوره وهداه ، من ضربات العدوّ المفاجئة.
ولقد بلغ هذا الخبر المقلق أهل المدينة ، وأمر رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم ، والناس في زمان عسرة ، وشدة من الحرّ ، وجدب من البلاد ، وقد طابت الثمار ، والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه.
ولكن الدوافع المعنوية ، وروح الحفاظ على الأهداف المقدّسة ، والجهاد في سبيل الله مقدّم ـ عند عباد الله المؤمنين الصالحين ـ على كل تلك الامور.
كان رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم يعرف على نحو الاجمال مدى وحجم
استعدادات العدوّ ، وطاقاته ، وقدرته على القتال.
من هنا كان مطمئنا إلى أن الانتصار في هذه المعركة بحاجة ـ مضافا إلى الخلفية المعنوية القوية وهي الايمان بالله والقتال ابتغاء لمرضاته ـ الى قوة عسكرية كبيرة جدا ولهذا بعث رجالا إلى مكة ، ونواحي المدينة يدعون المسلمين إلى المشاركة في الجهاد في سبيل الله ، ويحثّون أهل الغنى والثروة ، على تهيئة نفقات الجهاد في سبيل الله من الزكاة.
وأخيرا أعلن ثلاثون ألفا من المسلمين استعدادهم للمشاركة في هذه الغزوة واجتمعوا في معسكر عند « ثنية الوداع » وتهيّأ قدر كبير من نفقات القتال عن طريق الزكاة ، وكان الجيش الاسلاميّ يتألف من عشرة آلاف فارس ، وعشرين الف راجل.
وقد أمر رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم أن تتخذ كل قبيلة راية لنفسها.
كانت غزوة « تبوك » خير محكّ لمعرفة المجاهدين الصادقين وتمييزهم عن غير الصادقين من أدعياء الإيمان والمنافقين لأن التعبئة العامّة لهذه الغزوة اعلنت في وقت كان الناس يستعدّون فيه للحصاد من جهة ، وكان الحرّ على أشدّه من ناحية اخرى ، فكشف تخلّف البعض ـ بالأعذار والحجج المختلفة ـ القناع عن وجههم الحقيقي ونزلت آيات في ذمّهم جميعها في سورة البراءة.
لقد تخلّف البعض عن المشاركة في هذه الغزوة للاسباب والعلل التالية :
١ ـ عند ما قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم للجدّ بن قيس ، ـ وكان من الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة ـ :
« أبا وهب هل لك العام تخرج معنا »؟
فقال : يا رسول الله أو تأذن لي ، ولا تفتنّي(١) فو الله لقد عرف قومي ما أحد
__________________
(١) أي أخشى الافتتان ببنات الروم فلا تفتني بهنّ يا رسول الله.
اشدّ عجبا بالنساء مني ، واني لأخشى إن رأيت بنات بني الأصفر ( الروم ) لا أصبر عليهنّ.
فاعرض عنه رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن سمع منه ذلك العذر الصبياني ، وقد نزل فيه قول الله تعالى :
«وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ »(١) .
٢ ـ المنافقون : إن جماعة ممن تظاهروا بالإسلام والإيمان وهم منه خلو ، أخذوا يثبّطون الناس عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في غزوة تبوك ، وربما تحجّجوا بشدة الحرّ فقالوا : يغزو محمّد بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ ، والبلد البعيد ، إلى ما قبل له به ، يحسب محمّد أن قتال بني الاصفر اللعب ، فنزل فيهم قول الله تعالى :
«وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ »(٢) .
وقد كان بعض المنافقين يخوّفون المسلمين من المشاركة في هذه الغزوة ، وكانوا يقولون في هذا الصدد : تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم ، والله لكأنّا بكم غدا مقرّنين في الحبال؟!(٣) .
كان رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم كما أسلفنا يولي مسألة تحصيل المعلومات عن العدو وتحركاته اهتماما كبيرا ، وكان اكثر انتصاراته تعود إلى حسن استخدامه لهذه الوسيلة وبالتالي لمعرفته الدقيقة بتحرّكات العدو ونشاطاته ، وعلى
__________________
(١) التوبة : ٤٩.
(٢) التوبة : ٨١ و ٨٢.
(٣) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٥٠.
هذا الاساس كان يقضي على الكثير من المؤامرات في مهدها.
ولقد بلغ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت « سويلم » اليهودي ، ويخطّطون لتثبيط المسلمين عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه الغزوة ، فبعث رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم « طلحة بن عبيد الله » في نفر من أصحابه لإرهاب اولئك المتآمرين حتى يكفّوا عن التآمر ، وأمره بأن يحرّق عليهم بيت « سويلم ». ففعل طلحة ذلك إذ اقتحم البيت بغتة ، وهم يخطّطون ، ويدبّرون مؤامرة ، واحرق البيت ، ففرّوا وسط ألسنة اللهب ، وأعمدة الدخان ، وافلتوا ، وانكسرت رجل أحدهم حين الفرار.
وقد كان هذا الاجراء مفيدا في ردع المنافقين المشاغبين عن العودة إلى مثلها حتى قال أحد رءوسهم وهو « الضحّاك بن خليفة » :
كادت وبيت الله نار محمّد |
يشيط بها الضحّاك وابن أبيرق |
|
وظلت وقد طبّقت كبس سويلم |
أنوء على رجلي كسيرا ومرفقي |
|
سلام عليكم لا أعود لمثلها |
أخاف ومن تشمل به النار يحرق(١) |
٣ ـ البكّاءون : لقد أتى رجال من المسلمين رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم كانوا يرغبون في الخروج مع رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم إلى هذه الغزوة ، وطلبوا منه ما يحملهم عليه من دابّة فقد كانوا أهل حاجة فقراء ، فقال لهم رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم :
« لا أجد ما أحملكم عليه ».
فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ، ألاّ يجدوا ما ينفقون.
فاذا كان بين أصحاب النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم رجال نافقوا ، وتركوا الخروج مع رسول الله متعلّلين بالأعذار السخيفة ، فقد كان إلى جانب ذلك أيضا من كان يبكي بكاء مرّا لعدم تمكّنه من المشاركة في الجهاد المقدس حتى عرفوا
__________________
(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥١٧.
في التاريخ الاسلامي بالبكائين ، ونزل فيهم قرآن اذ يقول تعالى :
«وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ »(١) .
٤ ـ المتخلفون : ولقد أبطأ بعض أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم عن الخروج ، وتخلّفوا لا عن شكّ وارتياب ، أو رغبة عن الجهاد في سبيل الله ، وقد كانوا أهل صدق لا يتّهمون في إسلامهم ، إنّما تخلّفوا حتى يلتحقوا بركب النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن يفرغوا من الحصاد والقطاف وهم ( المخلّفون ) الثلاثة حسب تعبير القرآن الكريم الذين فاتتهم غزوة تبوك ، فوبّخهم الله تعالى وعاقبهم على تخلّفهم ليكون في ذلك عبرة لمن سواهم كما ستعرف تفصيل ذلك عمّا قريب.
٥ ـ المجاهدون الصادقون : الذين لبّوا نداء رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وتهيّأوا من فورهم للخروج معه في شوق بالغ ، ورغبة عظيمة في الجهاد.
لقد كان من أبرز فضائل عليّ بن أبي طالبعليهالسلام أنه شارك في جميع المعارك ، ولازم رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في جميع غزواته ، ـ وكان هو حامل لوائه في تلك المعارك والغزوات ـ ما عدا تبوك حيث بقي في المدينة بأمر رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يشارك في هذا الجهاد المقدس لأن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم كان يدرك جيّدا أن بعض المنافقين والمتربّصين ، والمتحينين الفرص من رجال قريش سيستغلّون فرصة غيبة النبي القائد عن المدينة ( مركز الدولة الاسلامية ) فيثيرون فيها فتنة ، ويجهزون على الحكومة الاسلامية الفتية بانقلاب أو ما شابه ذلك ، وأن مثل هذه الفرصة انما تسنح لهم إذا قصد رسول الله صلّى
__________________
(١) التوبة : ٩٢.
الله عليه وآله مكانا نائيا ، وانقطع ارتباطه بعاصمة الاسلام ( المدينة )!!
ولقد كانت « تبوك » أبعد نقطة خرج إليها رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في جميع غزواته ، فكان يحدس ـ بقوة ـ أن تقوم القوى المضادّة للاسلام بقلب الاوضاع في غيابه ، ويجمعوا من يروا رأيهم ويذهب مذهبهم من شتى أنحاء الحجاز ، ويتحدوا لضرب الدولة الاسلامية والقضاء عليها من الداخل.
ولهذا ـ رغم أنه استخلف « محمّد بن مسلمة » على المدينة ـ قال للامام « علي بن أبي طالب » :
« أنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي.
يا علي إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي وبك ».
ولقد أزعج بقاء عليّعليهالسلام في المدينة ، المنافقين الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرصة ، ويفكرون في انقلاب في غيبة النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم لأنهم كانوا يعرفون أنهم لن يعودوا يستطيعون مع وجود عليّعليهالسلام في المدينة ، ومراقبته الدقيقة لتحرّكاتهم ونشاطاتهم فعل أي شيء ممّا كانوا ينوون القيام به ، ولهذا أرجفوا به ، وبثّوا شائعات خبيثة حوله ، بغية إجباره على مغادرة المدينة فقالوا : ما خلّف رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم عليّا إلاّ استثقالا له ، وتخفّفا منه ، أو : أن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم دعاه إلى الخروج لتبوك ، ولكن عليا امتنع من الخروج بحجّة الحرّ الشديد ، وبعد الطريق وإيثارا للدعة والراحة والرفاهية!!
ولإبطال هذه الشائعة الخبيثة ، وتكذيب هذا الكلام ، أخذ عليعليهالسلام سلاحه ، وخرج حتى أتى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وهو نازل بالجرف ( وهو موضع على ثلاثة أميال من المدينة ) فقال :
« يا نبي الله ، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وتخفّفت منّي ».
فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم حينئذ كلمته التاريخية الخالدة التي تعتبر
من أبرز الادلة وأقواها وأوضحها على إمامة عليّ بن أبي طالبعليهالسلام وخلافته بعد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بلا فصل :
« كذبوا ، ولكنّني خلّفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي »(١) .
فرجع عليّعليهالسلام الى المدينة المنورة ، ومضى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم على سفره(٢) .
لقد دأب رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم إذ خرج لتأديب قوم يكيدون بالاسلام ، ويمنعون من تقدمه وانتشاره أو يقصدون الهجوم على المدينة واجتياحها ، أو إيجاد فتن فيها ، على أن لا يبوح بمقصده ووجهته لجنوده وامراء جيشه ، وأن يسير بالجيش في طريق آخر غير الوجه الذي ينويه باطنا ، حتى لا يعرف به العدو فيهيّأ لمواجهته ، وبذلك يتسنى لهصلىاللهعليهوآلهوسلم أن يباغت العدوّ ، ويحقّق الانتصار الساحق عليه(٣)
غير أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم عدل عن هذه السيرة في قضية غزو الروميّين الذين اجتمعوا في حدود الشام وهم يتأهّبون للهجوم على عاصمة الاسلام.
فقد بيّن للناس ـ منذ أعلن التعبئة العامة ـ الوجهة التي يقصدها ، وكان السرّ في ذلك هو أن يعرف المجاهدون أهمية هذا السفر وصعوبته ، وأن يحملوا الزاد الكافي والعدة اللازمة.
__________________
(١) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٤٩ و ٤٥٠.
(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٠ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٠٧ و ٢٠٨ ، وللوقوف على دلالة هذا الحديث على امامة امير المؤمنينعليهالسلام راجع كتب العقائد والكلام.
(٣) المغازي : ج ٣ ص ٩٩٠.
هذا مضافا إلى أن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم كان مضطرّا ـ لتقوية الجيش الاسلامي ـ إلى أن يستعين بقبائل « تميم » و « غطفان » و « طيّ » التي كانت تسكن في مناطق بعيدة عن المدينة.
وقد عمد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم لهذا الغرض إلى مراسلة زعماء تلك القبائل ، وساداتها كما كتب إلى « عتّاب بن اسيد » أمير مكة الشاب دعا فيه رجال تلك القبائل ، وفتيان مكة إلى المشاركة في هذا الجهاد المقدس(١) .
ومثل هذا النوع من الدعوة الصريحة العامة لا ينسجم مع الكتمان والسريّة ، لأنه كان لا بدّ أن يخبرصلىاللهعليهوآلهوسلم رؤساء القبائل في هذا الموضوع ، ويذكر لهم أهميّته ، ليحملوا معهم الزاد والعدة اللازمة الكافية.
ولما حان موعد تحرك الجيش استعرض رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم جيشه في معسكر المدينة العظيم ، المؤلّف من المؤمنين الفدائيين الغيارى على الإسلام ، والذين فضّلوا المشقة والموت في سبيل الهدف على الاستراحة في الظلال ، والتجارة ، وكسب المال واكتناز الثروة ، وخرجوا يستقبلون الموت في سبيل الدين بقلوب تفيض إيمانا ويقينا.
لقد كان هذا المشهد جميلا ورائعا جدا ، وكان له أثر قوي في نفس المتفرجين.
وفي هذه المناسبة ألقى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم خطبة مهمة ، لتقوية معنويات المجاهدين ، قد شرح فيها هدفه من هذه التعبئة العامة الواسعة.
فبعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله قال :
« أيّها الناس! أما بعد ، فإن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق العرى كلمة
__________________
(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٤٤.