مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن2%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154798 / تحميل: 6013
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مطالعته الباحثة للكون، وأوّل نظره إلى ما حوله بنظرة المحقق المتأمّل واستفادته هذه المطالب التوحيدية من ذلك.

٣. تشهد عبارة( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) أنّ إبراهيم بدأ تحقيقه هذا بين أبناء قومه الذين كانوا يعبدون هذه الكواكب باعتقاد أنّها أرباب وتشهد أنّهم كانوا معه، في كل المراحل الثلاث من التحقيق، المذكورة في الآيات، يرون تحقيقه، ويشاهدون بحثه، للوقوف على الرب الحقيقي ويسمعون كلامه طوال ذلك البحث والتأمّل.

ولو كان الأمر على غير هذا لما صح توجيه الخطاب إلى قومه مرّة واحدة فيقول:( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) ، لأنّ الهدف من جعل قومه موضعاً لخطابه هو ضم قومه إليه في الاعتقاد الصحيح، ودفعهم إلى ترك الشرك، وهذا التكليف إنّما يكون صحيحاً إذا سمعوا منطقه وحديثه المبرهن.

٤. عندما كانت تقع عينا إبراهيم على الكوكب أو القمر أو الشمس كان يقول:( هٰذَارَبِّي ) .

إنّ هذه الجملة لا تعني ـ بالمرّة ـ وللأدلة التي سنذكرها، إذعاناً قلبياً بربوبية هذه النجوم بل كان الهدف هو طرح النظرية هذه ليتضح ويوضح ـ بعد ذلك ـ بطلانها أو صحتها.

وهذا أسلوب متعارف وشائع في عمليات البحث والتحقيق العلمي.

فالباحث عن علّة حادثة ما يستعرض في مخيلته جميع الاحتمالات والفروض الواحد تلو الآخر، ويعمد إلى مطالعة كل واحد من هذه الفروض والاحتمالات فيفترض كونه هو العلة ولو للحظة واحدة، ولا يتركه إلى غيره ما لم تتضح النتيجة

١٤١

وما لم يثبت بطلان الفرض. فإذا ثبت بطلان الفرض تركه وانتقل إلى دراسة الفرض الآخر، وهكذا يتحكم نوع من الروح الباحثة على كل هذه الفروض دون أن يكون في البين أيُّ إذعان وتصديق.

هذا مضافاً إلى أنّ قوله تعالى:( وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيم ) يفيد أنّ إبراهيم كان مشمولاً بالعناية الإلهية الخاصة في كل المواقف، وكانعليه‌السلام يستمد منه تعالى العون، والمدد، وكان الله سبحانه يريد لإبراهيم أن يقف على معنى مالكية الله وحاكميته المطلقة عبر طي مراحل من استعراض مجموعة من الفرضيات عن حاكمية الكواكب والنجوم وإبطالها، وأن يطمئن ـ من خلال دليل رافع للشك ـ إلى أنّ أمر الإنسان بيد الله وليس بيد هذه الأجرام النورية الأسيرة في قبضة القوانين الطبيعية، الخاضعة للسنن الكونية.

مع هذا البيان لا يكون قول إبراهيمعليه‌السلام :( هٰذَارَبِّي ) بمعنى الإذعان والتصديق القلبي.

وبعبارة أُخرى: كان الله تعالى يريد لإبراهيم أن يكون ـ بمشاهدته لملكوت السماوات والأرض وتعلّق هذه الموجودات بالقدرة الإلهية ـ من الموقنين، كما صرح بذلك القرآن الكريم بعد أن كان من المؤمنين.

وهذا الكلام لا يعني ـ بالطبع ـ أنّ إبراهيم كان إلى ذلك الحين خالياً من هذا اليقين عارياً عنه. كلا بل كان يعلم بفطرته السليمة أنّ الرب الحقيقي للكون والإنسان هو الله الخالق لا غير، ولكنّه أُريد له أن يقف على ذلك الأمر الذي كانت الفطرة تدعو إليه عن طريق الاستدلال، ليزداد يقيناً إلى يقين.

ولم يكن هذا بالأمر الجديد في شأن إبراهيمعليه‌السلام ، بل تكرر منه مثل هذا في

١٤٢

أمر المعاد، وبعث الإنسان والحياة أيضاً.

ولك أن تراجع في هذا الصدد تفسير قوله سبحانه:( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِيَنَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (١) .

كل هذا مضافاً إلى أنّ بحث إبراهيم وتحقيقه تم في حين كان قومه مشركين يعبدون تلك الكواكب والنجوم، فهو كان فيهم وكانوا معه، وحيث إنّ أحد أهدافهعليه‌السلام في هذا التحقيق كان إرشاد قومه وهدايتهم إلى طريق الحق والصواب، وذلك يقتضي أن يقبل الموجّه والمرشد الفكرة الباطلة بنحو موقت ثم يعمد إلى إبطالها بالدليل وإقامة البرهان، لذلك لم يكن بد لإبراهيم من اتخاذ هذا الاسلوب المعقول والمنطقي في الإرشاد والهداية والتوجيه.

٥. الظاهر أنّ الآيات المبحوثة تفيد أن إبراهيمعليه‌السلام قام بجميع مراحل بحثه ـ المذكورة في الآيات ـ تباعاً وفي موقف واحد بحيث طلع القمر على أثر أُفول النجم، وطلعت الشمس على أثر غياب القمر.

ومثل هذا الفرض أي ملازمة طلوع القمر مع أُفول النجم يحصل ـ في الأكثر ـ مع كون النجم المذكور هو الزهرة.

لأنّ كوكب الزهرة ـ نظراً لضيق مداره ـ لا يمكن أن يبتعد عن الشمس أكثر من ٤٧ درجة، ولهذا فهو يلازم الشمس دائماً، وقد يظهر في السماء قبل طلوع الشمس، ولكن لا يلبث أن يختفي بعيد طلوع الشمس، وقد يظهر بعد غروب

__________________

(١) البقرة: ٢٦٠.

١٤٣

الشمس في جهة المغرب ولا يلبث أن يغيب من الأُفق بسرعة.

فعلى هذا يقارن غروب الزهرة طلوع القمر في النصف الثاني من الشهر في الليالي ١٧ و ١٨ و ١٩.

لأجل هذا لا يستبعد أن يكون المراد بالكوكب المذكور في الآية هو كوكب الزهرة(١) .

ذلك مضافاً إلى أنّ الصابئة الذين كانوا يقطنون في العراق وكان النبي إبراهيم يعيش بينهم كانوا ينسبون تدبير الظواهر والحوادث الأرضية إلى السيارات السبع ( ومنها الزهرة ) وكانوا يحترمون هذه الكواكب فقط دون بقية الكواكب، هذا على العكس من الهندوس الذين كانوا ينسبون تدبير الموجودات والوقائع الأرضية إلى الثوابت من الكواكب ويحترمونها خاصة.

٦. تكشف آية:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمٰوَاتِ والأرض ) عن أنّ مسألة خالقية الله لم تكن موضع بحث وحوار بين إبراهيم وقومه. فهو وقومه ـ أيضاً ـ كانوا يعتقدون بأنّه لا خالق للكون غير الله، بل كان البحث والجدل يدور حول من هو « مدبّر » الظواهر والحوادث الأرضية ؟

هل هو الله الخالق ؟

أم أنّ بعض أُمور تدبير الموجودات الأرضية قد فوض إلى بعض المخلوقات

__________________

(١) وقد أثر عن أئمّة أهل البيت: أنّ هذا الكوكب كان الزهرة، من ذلك قول الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام : أنّ إبراهيمعليه‌السلام وقع إلى ثلاثة أصناف صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر وصنف يعبد الشمس، فلما رأى الزهرة قال هذا ربي على الاستنكار والاستخبار فلما أفل الكوكب قال: لا أحب الآفلين، لأنّ الأُفول من صفات المحدث لا من صفات القديم.

راجع توحيد الصدوق: ٧٤ ـ ٧٥.

١٤٤

كما كان يظن ويعتقد قوم إبراهيم في العراق، ويتصورون أنّ تدبير الحوادث الأرضية فوِّض إلى القمر والشمس وغيرهما من الكواكب ؟

إذن فمصب البحث لم يكن إثبات الصانع، أو توحيد ذاته تعالى، أو توحيد الخالقية، بل كان تعيين « المدبّر » الحقيقي للظواهر الأرضية.

وبتعبير آخر: فإنّ مصب البحث كان هو التوحيد الافعالي، لأنّ البحث في إرجاع تدبير الكون، كله أو بعضه، إلى بعض المخلوقات من فروع التوحيد في الأفعال.

وقد كان قوم إبراهيمعليه‌السلام مشركين في مسألة التدبير هذه. وكان إبراهيم يريد أن يدعوهم إلى التوحيد في هذه المسألة ويدفعهم إلى الاعتقاد بوحدانية المدبّر.

لهذا السبب جاء في نهاية آية( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ) قوله:( وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ) تلويحاً إلى أنّه يعتقد بوحدانية المدبّر على خلاف ما عليه أبناء قومه المشركين في قضية التدبير.

٧. يستدل إبراهيم بأُفول هذه الأجرام الثلاثة على أنّ هذه الأجرام لا تصلح لأن تكون هي المدبّر لشؤون الأرض وحوادثها، وعلى الأخص: الإنسان.

وهنا ينطرح سؤال هو: كيف ولماذا استدل الخليل بأُفول هذه الأجرام على عدم كونها مدبّرة، أو مشاركة في التدبير ؟!

إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن أن يتم في صور مختلفة على أنّ كل صورة من هذه الصور مفيدة في حد ذاتها.

هذا بالإضافة إلى أنّ تعدد تفسير منطق إبراهيم في إبطال مدبّرية الكواكب

١٤٥

يكشف عن تعدّد أبعاد مفاهيم القرآن وكثرتها، بحيث يصلح كل بعد منها لفريق من الناس المختلفي المدارك.

وإليك التفسيرات المتعددة المتنوّعة لهذا الاستدلال :

ألف. لـمّا كان الهدف من اتخاذ الرب هو أن يبلغ الموجود الضعيف في ظل اتصاله بالقدرة الربانية إلى الكمال المطلوب، لذلك ينبغي ( بل ويتحتم ) أن يكون هذا الرب والمربي قريباً من مربوبيه بحيث يكون عالماً بأحوالهم مطّلعاً على احتياجاتهم، ولا يكون بعيداً عنهم، مفارقاً لهم، غير حاضر لديهم ولا شاهداً لأوضاعهم.

أمّا ذلك الموجود الذي يكون بعيداً عن مربوبيه، ساعة أو ساعات، ويكون نائياً عنهم بالمرة بحيث يحجب عنهم أنواره، وبركاته، فكيف يصلح أن يكون مربياً لتلك الموجودات المربوبة ورباً للكائنات الأرضية ؟!

من أجل هذا كان أُفول هذه الكواكب، وغيبتها علامة على غربتها عن الكائنات الأرضية وانقطاع الصلة بينها وبين هذه الموجودات، وشاهداً على أنّ لهذه الكائنات مدبّراً غير هذه الكواكب مدبّراً عارياً عن أي نقص منزّهاً عن أي عيب.

ب. انّ طلوع وغروب الأجرام السماوية وحركتها المنتظمة في مدارات لا تتغير لدليل قاطع على أنّها خاضعة لموجود آخر فوقها، وأنّها مسخَّرة لقدرة عليا سخَّرها لإرادته، وجعلها محكومة لقوانين خاصة تابعة لمشيئته.

ومن المعلوم أنّ المسخَّر لا يمكن أن يكون مدبّراً مطلقاً، وأنّ الخضوع لقوانين منتظمة آية ضعف هذه الكواكب، وعلامة واضحة على أنّها لا يمكن أن

١٤٦

تحكم على الوجود، أو تدبّر شؤون الأرض.

وأمّا استفادة الكائنات الأرضية من نور هذه الأجرام فليست دليلاً على ربوبية هذه الأجرام، بل هي شاهد آخر على أنّ هذه الأجرام تأتمر بأوامر قدرة عليا، وتخضع لمشيئة مقام أعلى، وأنّها بالتالي لا تقوم تجاه الأرض إلّا بما حملت من تكاليف.

ج. ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات، ونعني النجوم والكواكب هل الهدف هو السير من النقص إلى الكمال، أم العكس ؟

أمّا الثاني فليس قابلاً للتصوّر، وعلى فرض التصوّر فلا معنى لأن يسير « الرب » من الكمال إلى النقص، والعدم.

إذن لابد أن يكون الأوّل هو الصحيح على حين أنّ ذلك الأمر، أي السير من النقص إلى الكمال، أفضل شاهد على وجود مربّ آخر، يوصل هذه الموجودات الضعيفة الناقصة في الحقيقة، القوية في الظاهر، إلى مرحلة الكمال الأفضل.

وفي الحقيقة فإنّ ذلك المربّي هو الرب الحقيقي الذي يجر هذه الأجرام وما سواها وما دونها نحو الكمال الذي تسير إليه.

هذا ويمكن تفسير وتصوير استدلال النبي إبراهيمعليه‌السلام أشكال أُخرى، بعضها بعيد عن روح استدلالهعليه‌السلام .

وإليك بعض هذه التفسيرات :

١. انّ الأُفول والغروب في الأجرام والكواكب علامة الحركة.

والحركة ملازمة للتغيّر في المتحرّك.

١٤٧

والتغيّر دليل على حدوث المتحرّك، لأنّ الموجود المتحرّك يصل بعد الحركة إلى كمال كان فاقداً له قبل ذلك.

لأجل هذا تكون الحركة ملازمة للحدوث.

ومن البيّن أنّ الموجود « الحادث » لكونه غير أزلي، وغير أبدي لا يمكنه أن يكون رباً.

ونقائص هذا الاستدلال واضحة :

أوّلاً: إذا كان الأُفول والغروب علامة الحدوث، فإنّ الطلوع والشروق هو أيضاً علامة الحدوث، فلم استدل الخليلعليه‌السلام بالأُفول والغروب فقط في حين أنّ الغروب والطلوع من حيث الدلالة على الحدوث سواء ؟!

ثانياً: إذا كان قوم إبراهيم يعتقدون في شأن الأجرام السماوية بأنّها آلهة واجبة الوجود تنتهي إليها سلسلة الممكنات صح أن يقال حينئذ أنّ الحدوث لا يلائم ولا يوافق شأنها قطعاً، لأنّها في هذا الفرض، أي كونها آلهة واجبة الوجود تحتل مكان علّة العلل ولابد أن تكون علّة العلل أزلية أبدية.

ولكن قوم إبراهيم كانوا يعتبرون هذه الكواكب مخلوقة لله، وغاية ما كانوا يعتقدون في حقّها أنّ أمر تربية الموجودات الأرضية وأمر تدبيرها قد فوّض إليها تفويضاً على النحو الذي مر معناهن.

وفي مثل هذه الحالة لايضير الحدوث بها، كما لا تشترط الأبدية والأزلية في شأنها.

وبناء على هذا لا ربط لطرح مسألة الحدوث وعدم الأبدية والأزلية ببرهان إبراهيم الذي عرضه على قومه.

١٤٨

٢. إذا كانت الحركة دليل الحدوث فهي دليل الإمكان أيضاً، بدليل أنّ كل حادث ممكن أيضاً وكل ممكن لا بد أن ينتهي ـ من حيث الوجود ـ إلى موجود آخر، منزّه عن صفة الإمكان، واجب الوجود ـ حسب الاصطلاح العلمي ـ أي غير مستمد وجوده من غيره.

وإشكال هذا الاستدلال بيّن أيضاً: لأنّ قوم إبراهيم لم يعتبروا الكواكب ـ قط ـ إلهاً خالقاً يرتبط به وجود العالم ليكون إمكانه دليلاً على بطلان اعتقادهم وفساد مذهبهم.

٣. يعتبر الحكيم صدر المتألّهين استدلال النبي إبراهيم مرتبطاً بإثبات الصانع وذهب إلى أنّه ناظر إلى « برهان الحركة »، وهو البرهان الذي يتوسّل به علماء الطبيعة لأثبات وجود خالق لهذا الكون، على أساس أنّ الحركة الشاملة في الكون تدلّ على محرّك(١) .

فقد تصور صدر المتألّهين لأدلة ثبت بطلانها على أثر الاكتشافات المهمة التي تمت في عالم الفلك والفضاء أنّ حركة الأجرام السماوية لا تعود إلى طبيعتها، كما أنّ ذلك ليس قسرياً، إنّما هي حركة نابعة من « شوق وإرادة » في هذه الكواكب والأجرام غير ناشئة عن الغضب أو الشهوة، لأنّ هذه الأجرام أسمى ـ كما في نظره

__________________

(١) من الطبيعي أن يستدل كل فريق بما يناسب تخصّصه العلمي على وجود الله، وهكذا فعل علماء الطبيعة الذين يبحثون عن خواص المادة وأحوالها، فهم استدلوا على وجود الله بالحركة فقالوا: لا بد لهذا العالم المتحرّك من محرّك، ولابد أن ينتهي هذا المحرك إلى محرك غير متحرّك لنتخلص من ورطة الدور والتسلسل، وفي هذا الصدد يقول الحكيم السبزواري صاحب المنظومة في المنطق والفلسفة :

ثم الطبيعي طريق الحركة

يأخذ للحق سبيلاً سلكه

أي أنّ العالم الطبيعي والناظر في الأجسام الطبيعية يسلك طريق « الحركة » لإثبات وجود الله.

١٤٩

ـ من أن تكون حركتها ناشئة عن الغضب أو الشهوة.

وإذا تبيّـن أنّ حركتها هكذا فلابد أن يكون الغاية التي تتحرك نحوها أمراً قدسياً، فإن كان ذلك واجب الوجود ثبت بذلك وجود الله الصانع وإن لم يكن كذلك فلابد أن ينتهي إلى واجب الوجود حتماً، دفعاً للتسلسل والدور.

وهكذا أثبت صدر المتألّهين وجود « الوعي » لدى هذه الأجرام، واستدل من حركتها على وجود الصانع وبذلك تصوّر أنّ استدلال إبراهيم كان لإثبات الصانع.

وإليك نص ما كتبه صدر المتألّهين في كتابه « المبدأ والمعاد » قال :

« وللطبيعيين طريق خاص في الوصول إلى هذا المقصد أي إثبات وجود الصانع وهو أنّهم قالوا في بيانه: إنّ الأجسام الفلكية حركتها ظاهرة، وهي ليست طبيعية ولا قسرية، بل نفسانية شوقية لابد لها من غاية.

وإذ ليست الغاية غضبية ولا شهوية لتعاليها عنهما ولا الغاية الأجسام التي تحتها أو فوقها ولا النفوس التي لشيء منها ـ كما ستطلع على بيان الجميع بالبرهان إن شاء الله ـ.

فتعين أن يكون غايتها أمراً قدسياً مفارقاً عن المادة بالكلية تكون ذا قوة غير متناهية، لا تكون تحريكاته لها على سبيل الاستكمال فإن وجب وجوده فهو المقصود، وإن لم يجب فينتهي إلى ما يجب وجوده دفعاً للدور والتسلسل.

وهذه الطريقة هي التي سلكها واعتمد عليها مقدم المشّائين، وأُشير إليها في الكتاب الإلهي حكاية عن الخليل »(١) .

__________________

(١) المبدأ والمعاد: ١١، والأسفار: ٦ / ٤٤.

١٥٠

ولكن هذا الرأي وهذا الاستدلال مضافاً إلى أنّه ثبت بطلانه ـ كما قلنا ـ لبطلان أدلّته، وثبت أنّ حركة الأجسام الفلكية ليست حركة واعية، توجيه بعيد عن هدف إبراهيمعليه‌السلام ، لأنّه ـ كما قيل ـ لم يكن الخليلعليه‌السلام في مقام إثبات الصانع وأبطال الإلحاد، بل هو في مقام استنكار الشرك وإبطال فكرة الشريك لله في التدبير.

كلمة أخيرة حول هذه الآيات

وآخر ما يمكن قوله حول هذه الآيات هو أن نقول :

إنّ هذه الآيات تتحدث مباشرة عن محاربة الشرك في التدبير ولكنّها تتعلّق ـ بصورة غير مباشرة ـ بإثبات الصانع أيضاً، بتقريب أنّ أُفول هذه الكواكب يدلّ على كونها مسخّرة وأنّ هناك مسخّراً هو الذي خلقها وسخّرها.

وفي هذه الصورة لا يمكن أن تكون هي مدبّرة، إنّما التدبير لذلك الخالق الذي خلقها وسخّرها.

وفي هذه الحالة يكون أُفول وغياب هذه الأجرام حين كونها دليلاً على عدم ربوبيتها دليلاً قاطعاً وشاهداً واضحاً على ربوبية مسخّرها ومالك أمرها.

١٥١

التوحيد الاستدلالي: البرهان الثالث

خلق السماوات والأرض

دليل على وجود الخالق

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ والأرض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) (١) .

كيفية الاستدلال بهذه الآية واضحة. فالقرآن الكريم يطرح مسألة « الشك في وجود الله » في صورة استفهام إنكاري، إذ يقول:( أَفِي اللهِ شَكٌّ ) ؟

ولكي يرد هذا الشك ويدفعه يذكّر بخلق السماوات والأرض وفطرها، إذ يقول :

( فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ والأرض ) .

أي وهو فاطر السماوات والأرض.

و « الفطر » تعني لغة: « الخلق ».

وإطلاق الفطر على الخلق بمناسبة أنّ الخالق يشق بطن العدم، ويستخرج

__________________

(١) إبراهيم: ١٠.

١٥٢

منه « الشيء » الذي يريد خلقه وإيجاده.

خلاصة القول: إنّ الآية تعني أنّ خلق السماوات والأرض ووجودهما بعد العدم، خير دليل على وجود موجد لها، وخالق خلقها، وأتى بها إلى حيز الوجود.

لهذا يجب أن لا نسمح للشك في هذا الأمر « أي وجود الخالق » ونحن نرى هذه المخلوقات الجسام العظيمة الصنع.

والاستدلال في هذه الآية على نمط الاستدلال بوجود الأثر والمصنوع على وجود المؤثر الصانع، وهو ما يصطلح عليه بالبرهان الأنّي(١) .

وقد بيّـن هذا البرهان في كتب الكلام والعقائد في صور مختلفة متنوعة.

سؤال حول الآية

لقد بعث الأنبياء والرسل المذكورون في الآية لهداية أقوام نوح وعاد وثمود(٢) في حين كان جميع هذه الشعوب والأقوام مؤمنين بالله خالقاً لهذا الكون وفاطراً للسماوات والأرض، ولكنّهم كانوا يعبدون الأصنام باعتقاد أنّها شفعاء مقرّبة، ومقرّبة عند الله أو لأسباب أُخرى، وفي هذه الحالة لماذا طرح القرآن الكريم موضوع الشك في « وجود » الله، وأقام البرهان على « وجوده » تعالى، وليس المقام مقام شك في وجوده سبحانه ؟

وبتعبير آخر: لم تكن هذه الأقوام التي مر ذكرها، ملحدة، ومنكرة لوجود

__________________

(١) الاستدلال الإنّي هو الاستدلال بالمعلول على وجود العلة عكس البرهان اللّمي الذي يستدل فيه بالعلة على المعلول وستوافيك كلمتنا حول الاستدلالين.

(٢) كما يلاحظ ذلك من مراجعة الآية السابقة لهذه الآية إذ تقول:( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودٍَ ) ( إبراهيم: ٩ ).

١٥٣

الله، بل كانوا يعانون من عبادة المعبودات المتعددة. ومن المعلوم أنّ الأنبياء لم يبعثوا إلّا ليجنّبوا البشرية عن عبادة غير الله، ولذلك يتحتم ـ عند المحاورة والدعوة ـ إبطال أساس الشرك العبادي، وإقامة البراهين على وهنه وضعفه وفساده، لا على إثبات وجود الله، فلماذا طرح أُولئك الأنبياء قضية إثبات وجود الله كما نرى في الآية المبحوثة ؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يتضح من الإمعان والتدبّر في ما قبل وما بعد هذه الآية.

فمن تأمل رأى كيف أنّ الأنبياء عندما دعوا هذه الأقوام ـ في بداية الأمر ـ إلى توحيد العبادة، ونهوا عن عبادة غير الله قوبلوا من جانب تلك الأُمم بهذا الرد :

( إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيب ) (١) .

لقد كانت دعوة الأنبياء مركبة من أمرين :

١. عبادة الله.

٢. ترك عبادة الأوثان.

وقد رفضت تلك الأقوام ـ وبشهادة الآية ٩ ـ كلا المطلبين، أو المطلب الثاني على الأقل.

ولذلك عمد الأنبياء إلى البرهنة على صحة المطلبين بطرح مسألة خالقية الله للسماوات والأرض فقالوا :

( أَفِي اللهِ شَكٌّ ) ؟

__________________

(١) إبراهيم: ٩.

١٥٤

يعني كيف يجوز ويمكن الشك في وجود الله وآيات وجوده ظاهره ساطعة وأعظمها هو خلق السماوات والأرض:( فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ والأرض ) وإذا لم يكن له وجود لما كان لهذه السماوات والأرض من وجود.

وبعد أخذ هذا الاعتراف من تلكم الأقوام، أصبح الطريق ميسّراً لإثبات المطلبين على النحو الآتي :

١. إذا كنتم تعتقدون بمثل هذا الإله، الخالق والمالك للكون ولأرواحكم وأجسادكم، أذن لابد ـ وبحكم أفضليته وعلوّه وبحكم مالكيته للكون والإنسان ـ من عبادته والخضوع أمامه خضوع العبيد.

ولأجل هذا جاء في ذيل الآية قوله حكاية عنهم: :( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) .

٢. إذا كنتم تعتقدون بمثل هذا الإله فلماذا تعبدون الأصنام التي هي جزء من مخلوقات هذا العالم، وشأنها شأن بقية الكائنات في هذا الكون في الضعف والعجز، إذن لابد أن تعبدوا الله المنعم المحسن لا المخلوق المملوك الضعيف(١) .

بناء على هذا فإنّ الهدف من الإشارة إلى « مسألة خالقية الله للسماوات والأرض » إنّما هو إثبات انحصار العبادة فيه تعالى وأنّه يجب أن لا يعبد سواه، من خلال إثبات خالقيته التي هي ملاك العبادة وموجبها.

وصفوة القول: إنّ ضمائر تلك الأقوام كانت تنطوي على مقدمة ضمنية، وهي « من كان خالقاً كان مدبّراً أيضاً » ولهذا وبحكم فاطرية الله للسماء والأرض تثبت مدبّريته للكون وإذا لم يكن من مدبّر سواه إذن فبيده ـ دون غيره ـ مفاتيح

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي: ٥ / ٢٢٩ طبعة عام ١٣٠٨ ه‍.

١٥٥

كل الخيرات ولأجل هذا يجب أن يعبد وحده ولا يعبد غيره، ذلك لأنّ الغير لا يملك أي خير وأي أمر.

وبهذا يكون القرآن قد اعتمد على مقدمة وجدانية واستفاد منها لإثبات انحصار العبادة في الله.

وهذا الاستدلال يشبه ما إذا راجع عامل مؤسسة، من لا يستطيع حل مشكلته وفك عقدته فتقول له ـ لأجل منعه عن مراجعة من لا ينبغي مراجعته ـ ؛

من هو صاحب المؤسسة ورئيسها ؟

ومن الذي بيده مقاليد الأمر فيها ؟

وهدفك من هذه العبارات المعروف جوابها عند المخاطب، هو ردعه عن مراجعة الآخرين.

وكأنّك تريد أن تقول له: أيها العامل أنت الذي تعرف أنّ صاحب المؤسسة هو غير هذا، فلماذا لا تراجع صاحب المؤسسة ولماذا تراجع هذا ؟

١٥٦

التوحيد الاستدلالي: البرهان الرابع والخامس والسادس

١. برهان الإمكان

٢. برهان امتناع الدور

٣. برهان حاجة المصنوع إلى الصانع

١. المعلول بلا علة محال.

٢. خلق الشيء لنفسه مستلزم للدور المحال.

٣. وجود السماوات والأرض دليل على وجود الخالق.

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ) (١) .

( أَمْ خَلَقُوا السَّمٰوَاتِ والأرض بَلْ لا يُوقِنُونَ ) (٢) .

( أمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٣) .(٤)

تتألف دعوة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله من ثلاثة أُصول أساسية، وهي الدعوة إلى:

__________________

(١) الطور: ٣٥.

(٢) الطور: ٣٦.

(٣) الطور: ٤٣.

(٤) لمزيد الاطلاع راجع نص الآيات من ٣٦ ـ ٤٣ من السورة المذكورة، وقد اكتفينا منها بنقل هذه الآيات التي تتضمن أصل الاستدلال رعاية للاختصار.

١٥٧

١. الاعتقاد بالمعاد.

٢. الاعتقاد بنبوته.

٣. التوحيد بمعناه الواسع الجامع الذي من شعبه: الاعتقاد بوجود الصانع.

وقد بحثت هذه المواضيع الثلاثة في سورة « الطور » بنحو بديع.

ففي الآيات ١ إلى ٢٨ طرحت مسألة « المعاد » وبعث الناس في يوم القيامة وما يلابس ذلك.

وفي الآيات ٢٩ إلى ٣٤ طرحت مسألة « نبوة الرسول الأعظم »صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي الآيات المبحوثة هنا طرحت مسألة « وجود الله الواحد »(١) .

وقد هدى القرآن الكريم الإنسان الباحث إلى الاعتقاد بوجود الله بطرح مجموعة من الاحتمالات والأسئلة، كما نشاهدها في هذه الآيات.

وهذه الاحتمالات وإن كانت واضحة، يدركها كل أحد بمجرد ملاحظة نصوص الآيات لكننا نشير ـ مرة أُخرى ـ إلى مضامين هذه الاحتمالات والتساؤلات لغرض الاستنتاج.

وإليك مجموعة هذه التساؤلات والاحتمالات التي تطرحها هذه الآيات حول مبدأ الإنسان وعلة وجود العالم :

١. أن تكون الكائنات البشرية قد وجدت بلا علة ( علة مادية كانت كالأب والأُم والخلية التناسلية، أو علة مجردة عن المادة كالله تعالى ) بمعنى أن تكون قد وجدت مصادفة، ومن تلقاء نفسها.

__________________

(١) تفسير الرازي: ٢٨ / ٢٥٩ الطبعة الجديدة.

١٥٨

وقد طرح هذا السؤال في قوله تعالى :

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ) (١) .

٢. أن تكون هي الخالقة لنفسها وهي الصانعة لذاتها والموجدة لها.

وإلى هذا الاحتمال أشارت جملة :

( أَمْ هُمُ الخالِقُونَ ) ؟

٣. على فرض أنّها هي الموجدة لنفسها فإنّه يبقى سؤال آخر في هذا المجال وهو: من خلق السماوات والأرض ؟

هل يمكن القول بأنّ هؤلاء الأفراد هم الذين خلقوا السماوات والأرض ؟

وإلى هذا السؤال أشار قوله سبحانه :

( أَمْ خَلَقُوا السَّمٰوَاتِ وَالأَرْضَ ) (٢) ؟

٤. أن يكون لهم إله غير الله وهذا الاحتمال أشار إليه قوله :

( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ الله ) ؟

هذه هي الاحتمالات التي طرحها القرآن الكريم ليفكر الناس فيها ثم يهتدوا إلى الله الواحد، وهي كلّها باطلة وغير صحيحة في منطق الوجدان الحي، والضمائر اليقظة.

__________________

(١) بملاحظة ما بين القوسين يمكن إرجاع كثير من الاحتمالات التي ذكرها المفسرون لكلمة « غير شيء » إلى معنى جامع واحد ولمعرفة هذه الاحتمالات يراجع تفسير الرازي: ٢٩ / ٢٦٠، والميزان: ١٩ / ١٩.

(٢) الطور: ٣٦.

١٥٩

فلابد إذن من الإذعان بوجود الله الواحد، ولابد من التزام العبودية أمامه.

يبقى أن نعرف وجه بطلان هذه الاحتمالات فنقول :

أمّا بطلان الاحتمال الأوّل ففطري، لبداهة أنّ لكل ظاهرة وحادث موجداً ومحدثاً لدلالة الفطرة السليمة، والضمير اليقظ والتجربة المتكررة، والبرهان العقلي عليه، بحيث لو ادّعى أحد إمكان وقوع معلول دون علة لسخَّر منه العقلاء أجمعون.

وبرهان الإمكان يؤيد هذه الآية.

وأمّا بطلان الاحتمال الثاني فهو كذلك بديهي كالأوّل لبداهة أنّ كل ظاهرة إذا كانت موجدة لنفسها كان معنى ذلك رجوع الاحتمال الثاني إلى الأوّل، وهو « تواجد المعلول بلا علة موجدة له خارجة عن ذاته » وقد عرفت فساده.

وخلاصة القول: إنّ الشيء إذا كان غير موجود بالذات ( أي لم يكن وجوده نابعاً من ذاته ) فهو إذن حادث، فهو إذن يحتاج ـ بحكم ما قلناه في الاحتمال الأوّل ـ إلى محدث.

وأما لو كان وجود الشيء نابعاً من ذاته فهو ليس إذن بحادث، بل هو أزلي أبدي في حين أنّهم ( أي الملحدين ) مذعنون بأنّ هذه الأشياء ( أي البشر ) ليست سوى أُمور حادثة مسبوقة بالعدم.

وبعبارة أكثر وضوحاً: انّ خلق الشيء لنفسه يستلزم « الدور » الواضح بطلانه.

لأنّ معنى قولك: « خلق الشيء نفسه » هو أن يكون الشيء موجوداً قبل ذلك ليتسنّى له خلق نفسه. ومعنى هذا: توقف الشيء وتقدمه على نفسه وهو

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672