مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154668 / تحميل: 6008
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١
٢

٣

٤

مقدمة الطبعة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن

كتاب القرون والأجيال

الحمد لله الذي نزّل القرآن تبياناً لكلّ شيء، والصّلاة والسّلام على عبده ورسوله الذي نُزّل القرآنُ على قلبه ليكون من المنذِرين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيش العلم وموت الجهل.

أمّا بعد، فانّ القرآن كتاب أبديّ خالد ينطوي على أبعاد مختلفة وبطون لا يمكن للبشر أن يكتشف جميعها جملة واحدة، وإنّما يكتشف في كلّ عصر بُعداً من أبعاده، وحقيقةً من حقائقه.

وقد استخرج المحقّقون بفضل جِدّهم ومثابرتهم حقائق في غاية الأهمية لم يخطر على بال القدامى من المحقّقين، وهذا دليل واضح على أبعاد القرآن اللامتناهية، وإليها يشير ابن عباس بقوله: إنّ القرآن يفسّره الزمان(١) .

وهذه حكمة بالغة نطق بها حبر الأُمّة تلميذ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأثبتتها التجارب على مرّ الزمان.

__________________

(١) راجع النواة في حقل الحياة، تأليف مفتي الموصل الشيخ العبيدين.

٥

والحقّ يقال: انّ السير التكاملي للعلوم على مرّ الزمان لم يمنع علماء الطبيعة فحسب من إمكانية استنباط حقائق هامّة وجديدة من القرآن في حقول العلوم الطبيعية، بل وأتاح للمفسّرين أيضاً إمكانية استخراج حقائق قرآنية هامّة لم تكن معروفة من ذي قبل، وذلك بفضل تطور المناهج العلميّة المتداولة.

إنّ القرآن الكريم صدر من لدن حكيم خبير لا يحد ولا يتناهى، ومقتضى السنخية بين الفاعل والفعل أن يكون في فعله أثر من ذاته، فإذا كانت ذاته لا متناهية ولا أوّل لها ولا آخر، فاللازم أن ينعكس شيء من كمالات الذات على الفعل أيضاً، وإلى ذلك يشير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كلامه إذ يتحدّث حول أبعاد القرآن وأغواره، فيقول :

« فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فانّه شافع مشفّع، وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم، وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جالٍ بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، ويتخلّص من نشب، فانّ التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور »(١) .

كما أشار أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى هذه الأبعاد اللا متناهية، وقال في معرض كلامه عن القرآن: « ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يدرك قعره، فهو ينابيع العلم وبحوره، وبحراً لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون »(٢) .

__________________

(١) الكافي: ٢ / ٥٩٩، كتاب فضل القرآن.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة رقم ١٩٨.

٦

إنّ هذه الميزة ( البعد اللا متناهي للقرآن ) لم تكن أمراً خفيّاً على بلغاء العرب في صدر الرسالة، وهذا هو الوليد بن المغيرة ريحانة العرب، يشيد بالقرآن ويصفه بقوله :

والله لقد سمعت من محمّد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وانّه ليعلو وما يعلى عليه(١) .

إنّه سبحانه خصَّ نبيّه بتلك المعجزة الخالدة، وما هذا إلّا لأنّ الدين الخالد يستدعي معجزة خالدة، ودليلاً وبرهاناً أبدياً لا يختص بعصر دون عصر، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنْ جاء بمعاجز ودلائل باهرة لم ترها عيون الأجيال المتعاقبة ولكن عوّضهم الله سبحانه بمعجزة هي كشجرة مثمرة تعطي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها، وينتفع كلّ جيل من ثمارها حسب حاجاته، وإلى هذا يشير الإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام حين سأله السائل، وقال: ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلّا غضاضة ؟ فقال الإمام: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة »(٢) .

اهتمام المسلمين بالكتاب العزيز

ارتحل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وترك بين الأُمة تركتين ثمينتين، إحداهما: الكتاب، والأُخرى: العترة.

وقد أكبّ المسلمون بعد رحيله على قراءة القرآن وتجويده وكتابته ونشره بين الأُمم. وأسّسوا علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم، كما أنّهم وراء ذلك اهتموا

__________________

(١) مجمع البيان: ٥ / ٣٨٧، طبع صيدا، وقد سقط عن النسخة لفظة « عليه » من قوله: « وما يعلى ».

(٢) البرهان في تفسير القرآن، للسيد البحراني: ١ / ٢٨.

٧

بتفسير غريب القرآن وتبيين مفرداته، ومجازاته وتفسير جمله وتراكيبه، وردّ متشابهه إلى محكماته، وتمييز ناسخه عن منسوخه، وتفسير آيات أحكامه، وإيضاح قصصه وحكاياته، وأمثاله وأقسامه، واحتجاجاته ومناظراته، إضافة إلى بيان أسباب نزوله، وكلّ ذلك يعرب عن الأهمية الفائقة التي يحظى بها القرآن الكريم.

وفي ظل هذه الجهود المضنية ظهرت تفاسير في كلّ قرن وعصر لو جمعت في مكان واحد لشكلت مكتبة ضخمة لا يستهان بها.

التفسير الترتيبي والتفسير الموضوعي

إنّ التفسير الرائج في الأجيال الماضية هو تفسير القرآن حسب السور والآيات الواردة في كلّ سورة، فمنهم من سنحت له الفرصة أن يفسّر آيات القرآن برمتها، ومنهم من لم يسعفه الحظ إلّا بتفسير بعض السور، وهذا النوع من التفسير الذي يطلق عليه اسم التفسير الترتيبي، ينتفع به أكثر شرائح المجتمع الإسلامي، وكلّ حسب استعداده وقابلياته.

بيد أنّ هناك لوناً آخر من التفسير يطلق عليه اسم التفسير الموضوعي الذي ظهر في العقود الأخيرة، واستقطب قسطاً كبيراً من اهتمام العلماء نظراً لأهميته، وهو تفسير القرآن الكريم حسب الموضوعات الواردة فيه بمعنى جمع الآيات الواردة في سور مختلفة حول موضوع واحد، ثمّ تفسيرها جميعاً والخروج بنتيجة واحدة، وقد أُطلق على هذا اللون من التفسير بالتفسير الموضوعي.

وأوّل من طرق هذا الباب لفيف من علماء الشيعة عند تفسيرهم آيات الأحكام الشرعية المتعلّقة بعمل المكلّف في حياته الفرديّة والاجتماعيّة فانّ النمط السائد على تآليفهم في هذا الصعيد هو جمع الآيات المتفرقة الراجعة إلى موضوع واحد في مبحث واحد، فيفسّرون ما يرجع إلى الطهارة في القرآن في باب واحد، كما

٨

يفسّرون ما يرجع إلى الصلاة في مكان خاص، وهكذا سائر الآيات، وهذا ككتاب « منهاج الهداية في شرح آيات الأحكام » للشيخ جمال الدين ابن المتوج البحراني ( المتوفّى عام ٨٢٠ ه‍ )، و « آيات الأحكام » للشيخ السيوري الأسدي الحلّي المعروف بالفاضل المقداد ( المتوفّى عام ٨٢٦ )، إلى غير ذلك مما أُلف في هذا الصدد، وهذا على خلاف ما كتبه أهل السّنة في تفسير آيات الأحكام كالجصّاص وغيره، فانّهم فسّروا آيات الأحكام حسب السور، وقد اعترف بذلك الشيخ الذهبي في كتابه « التفسير والمفسّرون ».

يقول الذهبي عند ما يتطرق إلى تفسير « كنز العرفان في فقه القرآن »: يتعرض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط، وهو لا يتمشّى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ذاكراً ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصّاص وابن العربي مثلاً، بل طريقته في تفسيره: أنّه يعقد فيه أبواباً كأبواب الفقه، ويدرج في كلّ باب منها الآيات التي تدخل تحت موضوع واحد، فمثلاً يقول: باب الطهارة، ثمّ يذكر ما ورد في الطهارة من الآيات القرآنية، شارحاً كلّ آية منها على حدّه، مبيناً ما فيها من الأحكام على حسب ما يذهب إليه الإماميّة الاثنا عشريّة(١) .

ثمّ إنّ أوّل من توسّع في التفسير الموضوعي هو شيخنا العلاّمة المجلسي، فقد اتّبع هذا المنهج في جميع أبواب موسوعته النادرة « بحار الأنوار » حيث جمع الآيات المربوطة بكلّ موضوع في أوّل الأبواب وفسّرها تفسيراً سريعاً، وهذه الخطوة وإن كانت قصيرة، لكنّها جليلة في عالم التفسير، وقد قام بذلك مع عدم وجود المعاجم القرآنية الرائجة في تلك الأعصار.

وبما أنّ القرآن الكريم بحث في أُمور ومواضيع كثيرة لا يحيط بها أحد، لذا

__________________

(١) التفسير والمفسّرون: ٢ / ٤٦٥.

٩

فقد آثرنا دراسة الجانب العقائدي من هذه المواضيع الكثيرة جداً، لأهميته في ترسيم معالم الإيمان وترسيخه في حياة الإنسان. وتؤلّف قضايا التوحيد والشرك حجر الأساس في العقيدة الإسلاميّة، بل حجر الأساس في كلّ الشرائع السماويّة.

فبإلقاء نظرة سريعة على الآيات القرآنية يتضح أنّ القرآن الكريم بذل حيال مسألة التوحيد الأُلوهي والربوبي من العناية ما لم يبذل مثلها حيال أيّة مسألة أُخرى من المسائل العقائديّة والمعارف العقليّة. بل حتى قضية « المعاد » والبعث في يوم القيامة التي تعد من القضايا المهمّة جداً في نظر القرآن بحيث لا يمكن لأيّ دين أنْ يتجلى في صورة « عقيدة سماويّة » ومنهج إلهي دون الاعتقاد بها، كما لا يمكن لذلك المنهج أنْ ينفذ إلى الأعماق والأفئدة بدونها.

ويجدر بالذكر أنّ عناية القرآن تركزت أساساً على إبلاغ وبيان « أُصول الدين » وبذر بذورها في الأفئدة، والعقول أكثر من العناية ببيان المسائل الفرعية العملية.

ويشهد على ذلك أنّ الآيات التي وردت في القرآن حول موضوع « المعاد » تتجاوز (٢٠٠٠) آية، في حين يقارب مجموع الآيات الواردة حول الأحكام المبينة لفروع الدين (٢٨٨) آية أو يتجاوزها بقليل.

وهذا هو بذاته يكشف عن الاهتمام الواسع والعناية الفائقة التي يوليها القرآن الكريم للمسائل الفكرية والقضايا الاعتقادية.

وعلى هذا الأساس قد خصصنا الجزء الأوّل للتوحيد والشرك بمختلف مراتبهما، ولما انتهى بحثنا في آخر الجزء إلى التوحيد في الحكومة التي هي لله سبحانه فقط، آثرنا أن نركز في الجزء الثاني على معالم الحكومة الإسلامية، ثمّ تدرّجنا في البحث في سائر الأجزاء إلى الجزء العاشر الذي اهتم بالعدل والإمامة، وما يمتُّ لهما بصلة.

١٠

وبذلك انتهت هذه الموسوعة القرآنيّة المبتكرة في موضوعها، وهي نعمة منَّ الله سبحانه بها على عبده الفقير.

وفي الختام لا يسعني هنا إلّا أنْ أقدّم بخالص الشكر إلى ولدي الروحي الحجة الفاضل الشيخ جعفر الهادي ( حفظه الله) حيث قام بتدوين ما ألقيته من محاضرات في الجزء الأوّل والثاني على أحسن ما يمكن.

وقد بذل وقته الثمين لتحرير هذين الجزءين وإخراجهما بهذه الحلّة القشيبة، وهو ( حفظه الله ) ذو باع طويل في هذا المضمار.

وأمّا الأجزاء الثمانية الباقية فقد قمت بكتابتها وتحريرها بفضل من الله سبحانه فجاءت هذه الموسوعة في عشرة أجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام

١٤ ذي الحجة الحرام من شهور عام ١٤٢٠ ه‍

١١
١٢

مراتب التوحيد

لقد لخّص المحقّقون الإسلاميون البحوث المرتبطة بالتوحيد في أربعة أقسام نذكرها فيما يأتي باختصار :

١. التوحيد في الذات

والمقصود به أنّ الله واحدٌ أحدٌ لا شريك له ولا نظير ولا يتصور له شبيه ولا مثيل.

بل إنّ ذاته المقدّسة بسيطة غير مركبة، من أجزاء كما هو شأن الأجسام.

٢. التوحيد في الصفات

ويراد منه أنّ الله تعالى وإن كان متّصفاً بصفات عديدة كالعلم والقدرة والحياة، إلّا أنّ هذا التعدّد إنّما هو باعتبار المفهوم الذهني وليس باعتبار الوجود والواقع الخارجي، بمعنى أنّ كل واحدة من هذه الصفات هي « عين » الأُخرى وليست « غير » الأُخرى، وهي أجمع « عين » الذات وليست « غير » الذات.

فعلم الله ـ مثلاً ـ هو « عين » ذاته، فذاته كلّها علم، في حين تكون ذاته كلها

١٣

« عين » القدرة، لا أنّ حقيقة العلم في الذات الإلهية شيء، وحقيقة القدرة شيء آخر، بل كل واحدة منهما « عين » الأُخرى، وكلتاهما « عين » الذات المقدّسة.

ولتقريب المعنى المذكور نلفت نظر القارئ الكريم إلى المثال التالي فنقول :

من الواضح أنّ كل واحد منّا « معلوم » لله، كما أنّه « مخلوق » لله في نفس الوقت.

صحيح أنّ مفهوم « المعلوميّة » غير مفهوم « المخلوقيّة » في مقام الاعتبار الذهني وعند التحليل العقلي البحت، ولكنَّهما في مقام التطبيق الخارجي واحد، فإنّ وجودنا بأسره معلوم لله، كما أنّ وجودنا بأسره مخلوق لله في نفس الوقت هكذا وجود واحد باعتبارين.

فهما ( أي المعلومية والمخلوقية ) المتّصف بهما وجودنا ليسا في مقام المصداق الخارجي إلّا « عين » الأُخرى، وهما « عين » ذاتنا، لا أنّ قسماً من ذاتنا هو المعلوم لله والقسم الآخر هو المخلوق له تعالى، بل كل ذاتنا بأسره مخلوق ومعلوم لله في آنٍ واحد.

٣. التوحيد في الأفعال

نحن نعلم أنّ هناك في عالم الطبيعة سلسلة من العلل والأسباب الطبيعية لها آثار خاصة ك‍ :

الشمس والإشراق الذي هو أثرها ومعلولها، والنار والإحراق الذي هو أثرها ومعلولها، والسيف والقطع الذي هو أثره ومعلوله.

١٤

والتوحيد الأفعالي هو أنْ نعتقد بأنّ هذه « الآثار » المخلوقة هي أيضاً لله تعالى كما أنّ عللها مخلوقة له سبحانه.

بمعنى أنّ الله الذي خلق العلل المذكورة هو الذي منحها تلك « الآثار ».

فخلق الشمسَ وأعطاها خاصيّة الإشراق، وخلقَ النار وأعطاها خاصية الإحراق، وخلق السيف وأعطاه خاصية القطع، إلى آخر ما هنالك من العلل والمعلولات، والأسباب والمسببات والمؤثرات وآثارها.

وبعبارة أُخرى: إنّ « التوحيد الافعالي » هو أنْ نعترف بأنّ العالم بما فيه من العلل والمعاليل، والأسباب والمسببات، ما هو إلّا فعل الله سبحانه، وأنّ الآثار صادرة عن مؤثراتها بإرادته ومشيئته.

فكما أنّ الموجودات غير مستقلة في ذواتها بل هي قائمة به سبحانه، فكذا هي غير مستقلة في تأثيرها وعلّيَّتها وسببيَّتها.

فيستنتج من ذلك أنّ الله سبحانه كما لا شريك له في ذاته، كذلك لا شريك له في فاعليته وسببيته، وأنّ كل سبب وفاعل ـ بذاتهما وحقيقتهما وبتأثيرهما وفاعليتهما ـ قائم به سبحانه وأنّه لا حول ولا قوة إلّا به.

ويندرج في ذلك « الإنسان »، فبما أنّه موجود من موجودات العالم وواحد من أجزائه فإنّ له فاعلية، وعلّية بالنسبة لأفعاله، كما أنّ له حرية تامّة في مصيره وعاقبة حياته، ولكنَّه ليس موجوداً مفوّضاً(١) إليه ذلك، بل هو بحول الله وقوّته يقوم ويقعد ويتسبب ويؤثر.

__________________

(١) المراد من التفويض هو أنّ الله أعطاه الفاعليّة ثمّ هو يفعل ما يريد دون مشيئة الله وعلى نحو الاستقلال، وسيأتي شرح التفويض في الفصول القادمة مسهباً.

١٥

إنّ « التوحيد الأفعالي » لا يعني إنكار العلل الطبيعيّة أو إنكار مشاركتها في التأثير وفي حدوث معلولاتها، بل يعني مع الاعتراف بأنّ للعلل تمام المشاركة في ظهور الآثار، وأنّ هذه الآثار هي من خواص هذه العلل.

أقول: يعني مع الاعتراف بهذا، الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في صفحة الوجود إلّا « الله » وأنّ تأثير ما سواه من المؤثرات إنّما هو في ظل قدرة الله، ذلك المؤثر الحقيقي الأصيل، وأنّ هذه العلل ما هي إلّا وسائط للفيض الإلهي.

فمنه تعالى تكتسب « الشمس » القدرة على الإشراق والإضاءة كما استمدت منه أصل وجودها.

ومنه تعالى تكتسب « النار » خاصية الإحراق والحرارة كما استمدت منه أصل وجودها، وأنّه تعالى هو الذي منح هذه العلل والأسباب هذه الخواص، وأعطاها هذه الآثار كمامنحها: وجودها أساساً وأصلاً.

وبتعبير آخر نقول: إنّ التوحيد الأفعالي يعني أنّه لا مؤثر بالذات ـ في هذا الوجود ـ إلّا « الله »، فهو وحده الذي لا يحتاج إلى معونة أحد أو شيء في الإيجاد والتأثير والإبداع والابتكار.

وأمّا تأثير ما عداه « من العلل »، فجميعه يكون بالاعتماد على قدرته وقوته سبحانه.

بهذا البيان يتضح الفرق بين مدرستين في هذا المجال :

مدرسة الأشاعرة القائلين بعدم دخالة العلل في الآثار مطلقاً.

والمدرسة القائلة بالتوحيد الافعالي.

١٦

فتذهب المدرسة الأُولى إلى أنّ الشمس والنار والسيف غير مؤثرة إطلاقاً، وغير دخيلة مطلقاً في وجود النور والحرارة والقطع، بل إنّ عادة الله هي التي جرت على أنْ يوجد الله النور بعد طلوع الشمس، والحرارة عند حضور النار، والقطع عند حضور السيف، وإنْ لم تكن لهذه الأشياء [ أي الشمس والنار والسيف ] أيّة مشاركة في إيجاد هذه الآثار ووقوعها.

ولا شكّ أنّ هذه النظرية مرفوضة في نظر العقل ومنطق القرآن(١) .

فبينما تنفي مدرسة الأشاعرة دور العلل ومشاركتها رأساً، تذهب المدرسة الثانية ( القائلة بالتوحيد الافعالي ) إلى الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في الوجود إلّا « الله »(٢) ولكن مع الاعتراف ـ إلى جانب ذلك ـ بدخالة « العلل » في إيجاد « الآثار »، مستمدة هذه القدرة على التأثير من ذلك المؤثر الحقيقي الواحد، ونعني « الله » سبحانه وتعالى.

ولهذا يغدو أي اعتقاد بالثنوية أو التثليث مرفوضاً في منطق هذه المدرسة.

وبهذا يتبيّن أنّ القائلين بأنّ الإنسان محتاج إلى الله في أصل وجوده، ولكنه مستغن عنه تعالى في أفعاله ومستقل في تأثيره، قد سقطوا في الشرك من حيث لا يعلمون، ذلك لأنّهم بمثل هذا الاعتقاد يكونون قد اعترفوا ـ في الحقيقة ـ بمؤثرين أصيلين مستقلين غنيين وخرجوا بذلك عن إطار « التوحيد الافعالي » !!

__________________

(١) فالقرآن يصرح بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها حيث يقول:( يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ ) ( النحل: ١١ ) فإنّ قوله( بِهِ ) صريح في تأثير الماء في إنبات هذه الثمار، وسيوافيك تفصيل القول في ذلك عند البحث في التوحيد الربوبي.

(٢) الاعتراف بوحدانية المؤثر في صفحة الوجود لا ينافي القول بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها.

١٧

كما أنّ الذين اعتقدوا بوجود « مبدأين » لهذا العالم، وتصوّروا بأنّ خالق الخير هو غير خالق الشر هم أيضاً خرجوا عن دائرة التوحيد الافعالي وارتطموا في الشرك والثنويّة في الفاعلية والتأثير(١) .

٤. التوحيد في العبادة

ونعني أنّ العبادة لا تكون إلّا لله وحده، وأنّه لا يستحق أحدٌ أنْ يُتّخذ معبوداً مهما بلغ من الكمال والجلال وحاز من الشرف والعلاء.

ذلك لأنّ الخضوع العبودي أمام أحد لا يجوز إلّا لأحد سببين، لا يتوفران إلّا في « الله » جل جلاله :

١. أن يبلغ المعبود حداً من الكمال يخلو معه عن أي عيب ونقص، فيستوجب ذلك الكمال أن يخضع له كل منصف ويعبده كل من يعرف قيمة ذلك

__________________

(١) ونظنك أيّها القارئ قد وقفت على الفرق بين التوحيد الافعالي، وبين ما يذهب إليه الأشاعرة والمجبرة.

فإنّ الفاعل عند هاتين الطائفتين ( الأشاعرة والمجبرة ) لا مشاركة له في أفعاله وآثاره أصلاً، وإنّها تستند إلى الله سبحانه مباشرة وبلا واسطة فهو الذي ينفذ الفعل عن طريق الفاعل دون إرادة ومشاركة من الفاعل في الفعل مطلقاً » !!

وأمّا الذي نقوله نحن فهو أنّ كل فاعل إنّما يعتمد ـ في فعله وأثره ـ على الله من حيث إنّه فقير محتاج إلى الغني بالذات في جميع شؤونه وأطواره. وأنّ للفاعل ـ مريداً كان أو غير مريد ـ دوراً في حدوث الأثر وبروزه وأنّ الأثر لا يمكن أن يتحقق على صعيد الوجود إلّا عن طريق هذا الفاعل.

وكم فرق بين أنْ ننسب أفعال الفاعل كلّها إلى الله مع نفي مشاركته فيها، وبين أنْ نعزي إمكانية التأثير إلى الله مع الاعتراف بمشاركة الفاعل في فعله.

وسوف يظهر لك الفرق بين المدرستين ـ بنحو أكثر تفصيلاً ـ في البحوث الآتية.

١٨

« الكمال المطلق ».

ونعني ببلوغ أقصى درجات الكمال ومراتبه أن يتحلّى ـ مثلاً ـ بالوجود اللامتناهي الذي لا يشوبه عدم، والعلم اللامحدود الذي لا يخالطه جهل، والقدرة المطلقة التي لا يمازجها عجز أو عيّ.

فهذه الأُمور هي التي تدفع كل ذي وجدان سليم وضمير حي إلى التعظيم والخضوع لصاحبها وإظهار العبودية أمام ذلك الكمال المطلق.

٢. أن يكون ذلك المعبود بيده مبدأ الإنسان ومنشأ حياته فيكون خالقه وواهب الجسم والروح له ومانح الأنعم والبركات إياه ومسبغها عليه بحيث لو قطع عنه فيضه لحظة من اللحظات عاد عدماً واستحال خبراً بعد أثر.

ترى هل يتوفر هذان الوصفان في أحد غير الله ؟ وهل سواه يتصف بأكمل الكمال ؟ أم هل سواه منح للأشياء وجودها وخلق الإنسان ويسر له سبل الحياة ؟ وهل سواه المبدأ الفياض الذي لو وكل الحياة إلى ذاتها، وترك الإنسان لنفسه آناً من الآونة صارت الحياة كأن لم تكن ؟

هذا والجدير بالذكر أنّ عبادة الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين لله سبحانه لم تكن إلّا ل‍ ( كمال ) ذلك المعبود المطلق.

فهم لمعرفتهم الأفضل، واطّلاعهم الأعمق على عالم الغيب عبدوا الله سبحانه لـِما وجودوا فيه من الجمال المطلق، والكمال اللامحدود، ولأجل أنّهم وجدوه أهلاً للعبادة، والتقديس والخضوع والتعظيم فعبدوه وقدّسوه وخضعوا له وعظّموه.

أجلْ لذلك فحسب وليس لسواه عبدوه، وأعطوه بلاءهم وولاءهم، حتى

١٩

أنّهم كانوا سيعبدونه ـ حتماً ـ حتى ولو لم يك هناك العامل والملاك الآخر للعبادة، في حين أنّ الآخرين إنّما يعبدون « الله » لكونه خالقهم، ومصدر وجودهم وسابغ النعم عليهم، وواهب القدرة والطول لهم، ولأنّ بيده مفتاح كل شيء وناصية كل موجود(١) .

على كل حال سواء كان الأولى هو الأخذ بالملاك الأوّل للعبادة أم الثاني، فإنّ العبادة بكلا الملاكين المذكورين مخصوصة بالله وليس معه في ذلك شريك، لعدم وجودهما في غيره تعالى.

وبذلك تكون عبادة غير الله أمراً مرفوضاً بشدة في منطق العقل والشرع على السواء.

كان هذا هو مقصود علماء الإسلام من مراتب وأقسام التوحيد الأربعة، التي ذكرناها باختصار وسنذكرها مفصّلة، كما سنذكر غيرها من مراتب التوحيد في الصفحات القادمة مع استعراض الآيات الدالة عليها إنْ شاء الله.

غير أنّنا مع تقديرنا لـِما قام به أُولئك العلماء والمحقّقون المسلمون من خدمات علمية جليلة على هذا الصعيد نقول: إنّ مراتب التوحيد ـ حسب نظر القرآن ـ لا تنحصر في ما ذكروه من المراتب، بل يستفاد من آيات الكتاب العزيز أنّ هناك مراتب توحيدية أُخرى يمكن استنباطها واستفادتها من القرآن، من الصعب، ادراجها تحت المراتب الأربع المذكورة.

وإليك فيما يلي هذه المفاهيم باختصار :

__________________

(١) هناك عوامل أُخرى للعبادة سيوافيك بيانها في موضعه.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

من تعاملهم مع الهنود الحمر في امريكا ، ولو تجاوزنا بعض المظالم والضغوطات التي قمنا بها في حروبنا غير المشروعة ضدهم ، فأن تعاملنا ( شعوب اوروبا ) مع شعوب الشرق يبقىٰ باعثاً علىٰ العداء والبغضاء ، فلو لم يستطع الاوروبيون الاستفادة مباشرة من الشرقيين كما حصل في الهند ، حيث كانوا لا يبقون لهم الّا ما يسدون به رمقهم ، بأسم الضرائب ، فقد كانوا يحصلون منهم الاموال من خلال تجارة غير مشروعة ومضاربات مالية ، ومن هنا يتّضح حجم الانحطاط الاخلاقي الذي وصل اليه الاوروبيون ، ولو اردنا محاكمة التجّار الاوروبيون علىٰ ضوء قانونهم التجاري لما نجىٰ إلّا القليلين منهم من اشد العقوبات ».

حرب الافيون في الصين

ثم يقول الدكتور لوبون :

« ومن الصفحات السوداء في تاريخ اوروبا ، تلك التي تختص بالعلاقة مع الصين في القرن التاسع عشر ، ولربما ينال احفادنا يوماً ما عقاب ما فعلناه هناك علىٰ يد الصينيين(1) ، فما هو تعليق الشعوب الاوروبية علىٰ الحرب المدمرة التي تعرف بحرب الافيون ، حيث قام الانجليز بادخال سمّ قاتل ( الترياق ) الىٰ الصين ، فعارضت الحكومة الصينية آنذاك هذا العمل لكن الانجليز اجبروهم علىٰ الاستسلام والقبول في النهاية بالقوة ومن خلال دوي ________________

(1) ونحن أيضاً ننتظر ذلك اليوم ، حيث تنتقم الشعوب المستضعفة ، وليس الشعب الصيني فقط ، منهم ان شاء الله.

٢٢١

المدافع ، وصحيح ان بريطانيا تجني حالياً مائة وخمسين مليون جنيه في السنة من تجاره ( الترياق ) ، لكنه وحسب الاحصائية التي قام بها حديثاً الدكتور كريستليب(1) فأن هذا الترياق ينتهي بستمائة الف صيني سنوياً الىٰ خشبة الاعدام ، وحرب الترياق المدمرة مثال يحتفظ به الصينيون علىٰ وحشية الاوروبيين وانحطاطهم الاخلاقي ، وهو ما سينقلونه لأجيالهم اللاحقة أيضاً(2) فعندما كان المبشرون الانجليز يدعون الصينيين الىٰ النصرانية ، كان جوابهم : سبجان الله ! انكم تسمّونا اولاً وتقتلوننا وبعد ذلك تعطونا دروساً في التقوىٰ والعفة.

وبعد ان ينقل الدكتور لوبون حديثاً عن السيد ششوار(3) في بعض الصينيين والهنود للاوروبيين ، يضيف :

« تعاملنا مع شعوب الشرق ، يعطيعم الحق في بعضنا والعداء لنا ، فكلما تصورت نفسي شرقياً لا اجد تردداً في اظهار ذلك البغض والعداء للاوروبيين ، فحتىٰ لو اظهرنا نحن الاوروبيين الامانة والصدق حالياً في جميع معاملاتنا مع شعوب الشرق ، يبقىٰ من مصلحة الشرق ان يقطع كل علاقة له بالقرب مع الغرب ويكمل الجدار القديم الذي بناه ذلك الملك العاقل علىٰ حدود الصين ».

________________

(1) Dr. Chritlieb

(2) يجب ان نشكر الشعب الصيني الذي وصفهم بالوحوش والبرابرة ، في حين ان بعض ابناء شعبنا ورغم المآسي التي لحقت بهم من الاوروبيين وهي اخطر مئات المرات من حرب الافيون ، لا يزالون يعبدونهم مثل الاصنام.

3 ـ Mr. Rochechouart

٢٢٢

كان ذلك اعترافاً من اشهر علماء اوروبا المنصف الدكتور لوبون ، ويظهر منه المستوىٰ الذي وصل اليه ظلم الغرب واعتداءاته علىٰ الشعوب والدول المستضعفة التي تطالب بأستقلالها وحقوقها ، اجل هؤلاء السارقون الدوليون والمدججون بالسلاح والتكنولوجيا والسباع الضارية ، هم انفسهم الذين يعتبرون قطع يد السارق عقاباً له عملاً وحشياً خلافاً للعواطف الانسانية !

سعادة الدكتور ، هذه بضع نماذج قدمتها لكم عن قوانين الاسلام العظيم ، واعتذر لضيق المجال عن ذكر جميع القوانين التي اتىٰ بها الاسلام ، ومقارنتها بالقوانين الوضعية التي تحكم عالمنا المعاصر.

فهذه القوانين السامية هي التي ادت الىٰ انتشار الاسلام بسرعة بين الناس في عالم الامس وعالم اليوم ، كما ان دقتها العلمية هي التي جعلت كبار علماء العالم يسلمون امام عظمة نبي الاسلام الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته.

٢٢٣

البحث في قوانين الاسلام العسكرية

العقيد : ما ارودتموه في اثبات قوة القوانين الاسلامية من الناحية العلمية وفي جميع شؤون الحياة المادية والمعنوية ، قياساً بقوانين عالم اليوم ، مقنع جداً ، لكن الجزء الذي ارأىٰ صعوبة في قبوله من كلامكم ، هو ان القوانين الاسلامية المحيّرة للعقول هي العامل الوحيد في التقدّم السريع الذي كان للاسلام في عالم الامس وانتشاره في عالم اليوم ، لأنه والحق يقال ، وكما اشار الىٰ ذلك الكثير من المبشرين المسيحيين فان الحروب الكثيرة التي خاضها المسلمون ، لعبت دوراً كبيراً وهاماً في تقدم الاسلام وانتشاره.

الشيخ : سيادة العقيد ! ان الذين يرون ان الاسلام انتشر بالسيف ، أمّا ان يكونوا من اعداء الاسلام أو أنَّهم ممن يجهلون البرنامج العسكري والحربي للاسلام ، ولا يدركون الهدف الاساسي الذي ينشده المسلمون من الحرب ، ولأثبات بطلان التهم التي تصدر من اعداء الاسلام وخاصة المبشرين المسيحيين الذين استفادوا من جهل المسلمين بتاريخهم وادعوا أن الاسلام انتشر بالسيف والقوة ، سوف أكون مضطراً لشرح البرنامج العسكري الاسلامي وهدف المسلمين من الحرب.

جوع وميدان معركة !

وفي هذه الاثناء ارتفع صوت عامل مطعم القطار في الممر :

٢٢٤

الغداء الغداء ايها السادة الغداء جاهز.

نظر الشيخ وبقية الاصدقاء الىٰ ساعاتهم فوجدوا الوقت ، اول الظهر.

الدكتور : سيادة العقيد ، الوقت اول الظهر ، ولن ادعك تجر هذا الشيخ الىٰ ساحة القتال وهو جائع ، فأنت عسكري وتستطيع تحمل الجوع ، لكن هذا العم يتحدث لنا منذ ساعات وبالتأكيد ليس بأستطاعته الآن شرح برنامج الاسلام العسكري ببطن فارغة.

العقيد : سعادة الدكتور ، اتصوّر انك اتّخذت الشيخ ذريعة ، والحقيقة انكم انتم الجائعون ، وهنا ضحك الاصدقاء.

الدكتور : بالتأكيد ، الجميع جياع ، والامر لا يختص بي سوىٰ انني تكلمت بصراحة ، لكنكم اضمرتم ذلك ، حسناً ، مع انني جائع جداً ، إلّا اني اوافق علىٰ الحديث عن البرنامج الحربي يطرحه الاسلام اولاً ، ثم نذهب للغداء من بعد.

العقيد : شكراً علىٰ ذلك.

الشيخ : قبل الدخول في بحث قوانين الاسلام العسكرية ، لابد من الاشارة إلى أن الاسلام دين كامل ومذهب مستقل ، ولو كان هذا الدين لا يملك برنامجاً ، واحكاماً فيما يتعلق بالامور العسكرية فانه بلا شك ناقص وغير تام.

ولا بدّ ان يكون لهذا الدين السماوي الكامل افضل واكمل القوانين أيضاً في المجال العسكري ، لأن الاسلام لا يواجه في مسيرة الكمال التي يدعو لها اهل العلم والمنطق أو الناس البسطاء غير المتعلمين فقط ، بل هناك الجبابرة

٢٢٥

والطواغيت الذين يُعد الاسلام خطراً مواجهاً لهم في استمرار سيطرتهم واستضعافهم للناس والمحرومين ، لذلك من الطبيعي ان يقفوا ضده ويضعوا العوائق في طريقه ، وهؤلاء الذين لم يتعاملوا مع المسلمين إلّا بمنطق القوة والسيف ، كان لابدّ للمسلمين أيضاً ان يواجهونهم بنفس المنطق الذي لا يفهمون غيره وان يزيلوهم عن طريق الدعوة الىٰ الاسلام الذي هو السبيل لكمال الانسان وسعادته ، والآن حيث اتّضحت الحاجة الىٰ برنامج ونظام حربي الاسلامي ، لابد من شرح قوانين الاسلام واحكامه العسكرية لمعرفة قوتها وقيمتها الحقيقية.

ان اغلب الحروب ، تحدث للتوسع وفتح البلدان واستعمارها واستثمارها ، وفي هذه الحروب تهاجم دولة ، دولة اخرىٰ وتحاول الانتصار عليها بأية وسيلة حتىٰ تسيطر علىٰ ذلك البلد وتوسع من دائرة سلطتها وحكومتها ، لذلك نشاهد الجرائم والمآسي التي تأتي بها تلك الحروب في الماضي والحاضر وتلك الاعمال الدنيئة التي يخجل الانسان من ذكرها.

أمّا الاسلام فلا يهدف من حروبه فتح البلدان أو استثمار الشعوب ، لأنه اساساً يقف في حروبه امام الطغاة الذين قاموا بأستثمار الناس وعملوا على تخلفهم.

وللاسلام أهداف مقدّسة وانسانية سامية في الحروب والمعارك التي يخوضها ، لذلك فالبرنامج العسكري الوحيد المليء بالمفاخر والاعتزاز هو البرنامج العسكري الاسلامي ، لأن حروب الاسلام هي حروب تحريرية ، وعلىٰ هذا الاساس ، فالقوانين العسكرية والحربية الاسلامية بمستوىٰ من الشرف والنخوة ، استطيع ان ادعي معه بصراحة انه لا يوجد مثيل لها في جميع

٢٢٦

القوانين العسكرية والحربية في العالم ، وهذه بعض المواد الاساسية للنظام العسكري والحربي في الاسلام :

1 ـ علىٰ الجندي المسلم عندما يواجه العدو ، ان يدعوه في البدء الىٰ الاسلام ، وفيما لو قبل الدعوة واصبح مسلماً فلا يحق لأحد من جيش المسلمين الاعتداء عليه أو علىٰ ماله وبلده ، بل لو اعتدىٰ أحد الجنود المسلمين علىٰ ذلك الشخص الحديث الاسلام وقتله ، لابدّ من معاقبة ذلك الجندي المسلم ، والاقتصاص منه علىٰ اساس قانون القصاص.

2 ـ فيما لم يقبل الاعداء غير المسلمين الدعوة الىٰ الاسلام ، لايحق للجنود المسلمين ايضاً مهاجمتهم والاقتتال معهم ، بل يجب ان يدعوهم لأعطاء الجزية(1) ولو قبلوا بذلك لايحق للجيش الاسلامي الاعتداء عليهم ومهاجمتهم.

3 ـ بعد ان يمتنع الاعداء غير المسلمين من دفع الجزية ، عند ذاك تكون دور الحرب معهم ، لكن الحرب تكون مع الجنود غير المسلمين الذين جاؤا الىٰ ساحة المعركة بهدف القتال ، ولو فرّوا من ساحة القتال لا يحق للمسلمين مطاردتهم ، ولو اندحر جيش الكفار ودخل المسلمون بلاد الاعداء ، لا يحق لهم التعرّض الىٰ الشيوخ والعجائز وقتلهم ، أو ايذاء الاطفال والنساء والضعفاء ، وحتىٰ الحيوانات ، كما يجب عليهم ان لا يدمروا المزارع والبساتين ، ولا يخربوا الانهار والقنوات ، ولا يحق لهم تخريب الابنية أو قطع الاشجار المثمرة

________________

(1) ضريبة خاصة تؤخذ من المشركين ( اهل الكتاب ) حسب قدراتهم المالية ، وفي المقابل تتعهد الدولة الاسلامية بضمان امنهم.

٢٢٧

والخضراء.

عندما أراد جيش المسلمين التحرك نحو مؤته ، خطب فيهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :

« ستجدون فيها رجالاً معتزلين الناس فلا تتعرضوا لهم ، لاتقتلن امرأة ولا صغيراً ضرعاً ولا كبيراً فانياً ولا تقطعن نخلاً ولا شجراً ولا تهدمن بناء »(1) .

وفي خطبة لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام لجيشه قبل قتال جيش معاوية ، يقول :

« فاذا كانت الهزيمة باذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً ولا تجهزوا علىٰ جريح ولا تهيجوا النساء بأذىٰ »(2) .

أصدقائي الاعزاء !

هذه بعض مواد القانون الحربي في الاسلام ، وكما تلاحظون ، مع ان هدف المسلمين هو احتلال البلدان غير الاسلامية ، ( من اجل غاية مقدسة سنشرحها لاحقاً ) ، لكنهم يراعون جميع جوانب الفضيلة والانسانية ، والقوانين الحربية في الاسلام لا تسمح بأي عمل غير اخلاقي أو مما يخدش بالرجولة والضمير.

________________

(1) نواسخ التواريخ.

(2) نهج البلاغة : 16 ، طبعة مصر.

٢٢٨

لنكتشف مجرىٰ الماء

في احدىٰ معارك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع اليهود ، كان اليهود قد لجأوا الىٰ حصن منيع لا يطاله المسلمون ، فبقي المسلمون محاصرين للحصن اياماً ، وهم يفكرون بحلّ لفتح الحصن والانتصار علىٰ اليهود ، وفي مثل تلك اللحظات الحساسة جاء أحد قادة الجيش الاسلامي الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال ان ماء شرب اهالي الحصن يأتي من خارجها ، ونستطيع نحن من خلال اكتشاف مجرىٰ الماء ان نسيطر عليه ، ونمنع عنهم الماء فنضطرهم الىٰ الاستسلام ، فهل تسمح لنا القيام بذلك ؟ فأجابه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لن اسمح لكم بذلك ، ففي الحصن اشخاص كبار في السن طاعنين ومرضىٰ وفيها نساء واطفال وحيوانات ، فلماذا نمنع الماء وهم لا يقاتلوننا(1) .

لن اسمح بمنع الماء

حدث في معركة صفين ان جيش معاوية استولىٰ علىٰ أطراف نهر الفرات قبل وصول جيش الامام عليعليه‌السلام ، ولم يسمح لجيش الامام عليعليه‌السلام ان يأخذ من ماء النهر ، فأشتد العطش بجيش الامام عليعليه‌السلام فطلبوا الاذن من الامام بالهجوم علىٰ قوات معاوية التي تحول دون وصولهم للنهر ، فسمح لهم الامام بذلك ، وبعد هجوم سريع استطاع جيش الامام علي ان يخرج الفرات من قبضة جيش معاوية.

________________

(1) ناسخ التواريخ.

٢٢٩

ورداً لما قام به معاوية وجيشه من دناءة ، اقترحوا علىٰ الامام عليعليه‌السلام ان لا يسمح هو أيضاً لجيش معاوية الاستفادة من ماء الفرات ، وبذلك سيفقد الجيش قدرته علىٰ الصمود من شدة العطش ، فينهار ويستسلم دفعة واحدة ، فأجابهم الامامعليه‌السلام علىٰ اقتراحهم : لا اكافيهم ، بمثل ما فعلوا ، افسحوا لهم عن الشريعة(1) .

اصدقائي الاعزاء !

يتّضح من المثالين التاريخيين اللذين سقتهما ، كيف ان انتصار الجنود المسلمين علىٰ الاعداء ممزوج بالرجولة والفضيلة.

هدف الاسلام الاساسي من الحرب مع غير المسلمين

الطالب الجامعي ، حسن : القوانين الحربية والعسكرية الاسلامية التي نقلتها ـ والخطاب للشيخ ـ رجولية وعطوفة جداً ، وصحيح انه لا يوجد مثل هذه القوانين الفاضلة المشرّعة لساحة القتال حيث يصل الغضب والحقد ذروته ، في جميع قوانين العالم الحربية ، لكنه يبقىٰ هناك سؤال وهو هدف الاسلام من الحرب والانتصار علىٰ الدول غير الاسلامية ؟

الشيخ : لم يكن هدف المسلمين من الانتصار علىٰ الدول غير الاسلامية ، هو ادخالهم الىٰ الاسلام بالسيف ، بل الهدف الاساسي والمهم من

________________

(1)المصدر نفسه.

٢٣٠

ذلك هو ايجاد حالة من الترابط والاختلاط التام بين المسلمين وغير المسلمين ، كي يطلعوا علىٰ قوانين الاسلام السامية عن قرب ، ويشاهدوها عملياً من خلال تصرفات المسلمين ، وبالنتيجة سيدخلون الاسلام بأرادتهم ورغبتهم ، لأنه ليس هناك شك من ان القوانين الاسلامية فطرية وطبيعية وجذابة بشكل لو شوهد تطبيقها من قبل المسلمين ، ستكسب إليها كل انسان سليم القلب ، لذلك كان الناس يدخلون الاسلام افواجاً في البلدان التي فتحها المسلمون والتي شاهدوا فيها وفعة وسموّ القوانين الاسلامية وافضليتها ، من خلال سلوكيات المسلمين ، وهكذا ينتشر الاسلام بالمنطق والاستدلال ودون اي اكراه أو الزام.

لم ينتشر الاسلام بالسيف

الآن وقد تحدثنا عن برنامج الاسلام الحربي وقوانينه وكذلك الهدف الاساسي من الحرب بالنسبة للمسلمين ، سنجيب عن التهم الباطلة التي يرمي بها المبشرون والقساوسة المشركين الاسلام ، من انه دين انتشر بحد السيف ومن خلال الحروب التي خاضها المسلمون وفتحوا بها البلدان.

واجاباتنا علىٰ تلك التهم ، نحددها في عدة مواضيع :

1 ـ علىٰ مدىٰ ثلاثة عشر عاماً من البعثة ، كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذروة ضعفه العسكري وهو بين اعدائه الاقواياء الذين يسيطرون علىٰ كل شيء في مكة ، وفي تلك الفترة اعتنق الكثيرين الاسلام دون ان يرهبهم سيف ، لأنه فضلاً عن عدم وجود سيف وقوة للمسلمين ، فقد كانوا اقلية تخاف ان يتخطفها الناس

٢٣١

علىٰ حد تعبير القرآن الكريم ، وكانوا يضطرون احياناً للهجرة من ديارهم وترك اموالهم الىٰ بلدان اجنبية لكي يحفظوا اسلامهم.

اذن في الصدر الاول بحيث بدأ انتشار الاسلام لم يكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يمتلك قوة يرهب بها الناس لدخول الاسلام ، بل ان هؤلاء الناس ذوو النفوس النقية ، دخلوا الاسلام ونبذوا الكفر في ذروة قوته ، وبأختصار ، فلاسلام انتشر في البداية علىٰ اساس الاستدال والمنطق والايمان ، وبعد ذلك بدأ بفتح البلدان للهدف الذي ذكرناه مسبقاً.

2 ـ وكما قلنا سابقاً ، كان المسلمون وقبل بدأ القتال يدعون المشركين من الكفار الىٰ دفع الجزية ، وفيما لو دفعوا الجزية ، كان لهم الحق ان يبقوا علىٰ دينهم للأبد وتحت ظل الحكومة الاسلامية ، وهذا اكبر دليل علىٰ ان المسلمين لم يهدفوا في فتحهم البلدان الىٰ اجبار الناس علىٰ دخول الاسلام ، لانهم كان بأستطاعتهم ان لا يأخذوا الجزية من غير المسلمين ، ويجبروهم علىٰ دخول الاسلام.

3 ـ يحقُّ للذين يدفعون الجزية للمسلمين ليس فقط البقاء علىٰ دينهم ، بل اقامة شعائرهم الدينية الخاصة والذهاب الىٰ الكنائس والمعابد بشكل علني ، في ظل حماية المسلمين.

في حين لو كان المسلمون يريدون اجبار الكفار علىٰ دخول الاسلام ، لما اجازوا لهم اقامة شعائرهم بشكل علني في محافلهم ومعابدهم.

4 ـ الدليلان الرابع والخامس اللذان نسوقهما علىٰ ان هدف الاسلام من الحروب التي قام بها بعد انتشاره وقوته ، لم يكن ارغام الناس علىٰ الدخول فيه

٢٣٢

بالقوة ، هذان النموذجان عن تعامل نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غير المسلمين :

وثيقة صلح الحديبية

في وثيقة صلح الحديبية ( وهي منطقة قريبة من المدينة ) التي وقّعت بين المسلمين والكفار ، تعهد المسلمون بأرجاع اي شخص من كفار مكة يدخل الاسلام ويلجأ الىٰ المدينة. فقال أحد المسلمين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، خذ منهم عهداً بأعادة أي شخص يرتد عن الاسلام ويذهب الى مكة.

فقال نبي الاسلام : لا آخذ مثل هذا العهد من اهالي مكة(1) لان المسلم الذي يرتد عن الدين ويلجأ الىٰ الكفار ، لن يفيدنا اذا اعادوه لنا ، لأن القلب هو مركز الايمان ، والشخص الذي لا يدخل الاسلام عن قناعة ورغبة ، لن يكون مسلماً حقيقياً.

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي اربعة اشهر مهلة

بعد ان نقض اهل مكة مفاد صلح الحديبية ، تحرك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لفتح مكة ، فدخل جيش الاسلام مكة دون مقاومة تذكر ـ كما مرّ سابقاً ـ سوىٰ مقاومة صغيرة لبعض شباب مكة بزعامة صفوان بن اُمية وعكرمة بن أبي جهل ، وبعد قتال محدود ، اندحرت مجاميع الكفار ، وسيطر المسلمون علىٰ مكة كلها ، فهرب صفوان بن اُمية وعكرمة بن أبي جهل من مكة بنية مغادرة

________________

(1) ناسخ التواريخ.

٢٣٣

الحجاز تماماً ، إلّا ان عمير بن وهب ، جاء الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وشفع لصفوان بن اُمية ، فقبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة عمير ، وعفىٰ عن صفوان ، فذهب عمير بن وهب الىٰ خارج مكة ، وأبلغ صفوان عفو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله له ، وطلب منه ان يعود مطمئناً الىٰ مكة ، فقال له صفوان : أخاف أن يمكر بي نبيكم ويقتلني عند دخولي مكة ، فطمأنه عمير بأن ليس في الاسلام مكراً وخديعة ، عند ذلك اطمئن صفوان إلى كلام عمير بن وهب ورجع إلى مكة ، وعندما قابل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا محمد عمير بن وهب يدعي انك أعطيتني الامان.

فقال الرسول : يصدق عمير.

فطلب صفوان مهلة شهرين من الرسول كي يطلع علىٰ الاسلام ، ومن ثمّ يسلم ، فقال له الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : لك اربعة اشهر مهلة.

لكن صفوان اسلم عن قناعة قبل انقضاء المهله(1) .

ومن خلال هذه القصة يتّضح ، انه لو كان هدف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو اجبار الناس علىٰ الاسلام بقوة السيف لما أمهل صفوان يوماً واحداً فضلاً عن اعطائه اربعة اشهر ، أو لاكتفىٰ بالشهرين اللذين طلبهما صفوان منه كمهلة.

اصدقائي الاعزاء !

هذه دلائل لا تقبل الشك ، يتضح خلالها هدف المسلمين من الحرب ، وهو غير اجبار الناس علىٰ الاسلام بالقوة ، بل ان اهم هدف من وراء ذلك هو

________________

1 ـ حياة محمد (ص).

٢٣٤

مدّ جسر وثيق من العلاقة والارتباط بين المسلمين وغير المسلمين لكي تطلع شعوب الدول غير الاسلامية علىٰ قوانين الاسلام العظيم ، ولكي لا يحول طواغيت الارض ، ولا تقف الانظمة الكافرة امام تعالي الانسان وخلاصة وتحرره من رجسها وذل عبودية غير الله.

لذلك فمن حقنا القول ان كلام المبشرين في ان الاسلام انتصر وانتشر بحد السيف ما هي الّا تهم باطلة ودنيئة تصدر عن اعداء الاسلام والحاقدين عليه.

اعتراف كبار العلماء بأن الاسلام لم ينتشر بالسيف

ولكي يعرف اصدقائي الاعزاء مقاصد المبشرين المسيحيين أكثر من التهم التي يسوقونها ضد الاسلام ، سننقل هنا بعض ما قاله كبار علماء اوروبا المسيحيين حول سرعة انتشار الاسلام :

يقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه حضارة الاسلام والعرب :

« ينتشر الاسلام بطريق بسيط وسهل ، جعل الجميع يحتارون في امره ، ولا بدّ ان نعتبر ذلك من خصوصيات الاسلام التي ينفرد بها دون غيره من الاديان ، ففي كل مكان وضع المسلمين اقدامهم ترسخ الاسلام في قلوب الناس ، في الصين وفي افريقيا الوسطىٰ وروسيا ، ولم يكن ذلك عن طريق الحرب وبواسطة الجيوش ، بل عن طريق التجار والتجارة ، واليوم نشاهد ملايين المسلمين في تلك البلدان ، فهؤلاء لم يدخلوا الاسلام بالترغيب أو القوة بل عن قناعة ورغبة ورضىٰ ، ولم نسمع لحد الآن عن قوة عسكرية

٢٣٥

كانت تدعم اولئك التجار ، والاغرب من ذلك هو نمو الاسلام وانتشاره السريع اين ما وصل التجار ودعوا الناس إليه ، فعلىٰ سبيل المثال منذ قرون والاسلام في روسيا ينتشر ، وفي الهند التي يعيش فيها الآن ملايين المسلمين ، صرف المبشرين والقساوسة البروتستانت مبالغ طائلة لنشر المسيحية دون نتيجة ، وفي الصين التي تعتبر من المناطق التي تفتخر بتراثها القومي لم يستطع المبشرون المسيحيون رغم الوسائل الكثيرة التي استخدموها هناك أن ينشروا المسيحية واعترفوا بكل صراحة عن عجزهم ، لكن الاسلام انتشر وينتشر هناك يومياً علىٰ الرغم من عدم وجود دعم خارجي ، بحيث يصل مجموع المسلمين اليوم هناك اكثر من اربعين مليون مسلم في كل انحاء الصين ، وفي بكين وحدها هناك اليوم ما يزيد علىٰ مائة الف مسلم ».

ثم يضيف الدكتور لوبون حول كيفية معاملة المسلمين مع شعوب الدول التي يفتحونها والحرية التي كانت للنصارىٰ في ظل الحكم الاسلامي ، فيقول :

« لقد عامل العرب الاندلسيين ( الاسبان ) الذين فتحت بلادهم علىٰ ايدي المسلمين ، كما كانوا يعاملون اهل مصر والشام ، وقد تركوا لهم حرية التصرف بأموالهم ومعابدهم وخيرّوهم في البقاء تحت حكم وقضاء اشخاص من نفس دينهم بشرط ان يدفعوا جزية سنوية ، ولقد كانت الشروط بسيطة وسهلة بحيث قبل بها الجميع مباشرة ، وكان تعامل المسلمين مع الشعوب التي فتحت بلادها حسناً بحيث كان يجوز للأساقفة ان يعقدوا لأنفسهم مجالس دينية ».

٢٣٦

اعتراف الدكتور لورا فاكسيا واغليري

يقول الدكتور فاغليري استاذ جامعة نابل :

« كانت حياة الشعوب المغلوبة وحقوقها المدنية وثرواتها الوطنية مصانة من قبل الدولة الاسلامية بشكل يتساوىٰ تقريباً مع ما كان للمسلمين انفسهم ».

ويضيف في مكان آخر :

« كان العرب الفاتحون مستعدون وفي ذروة قوتهم وانتصاراتهم ، لأن يقولوا لأعداءهم : كفّوا عن الحرب وادفعوا ضريبة مالية معتدلة ، ولكم ان تعيشوا تحت حمايتنا بشكل كامل ، ولكم من الحقوق مالنا ، ولو نظرنا جيداً الىٰ اقوال النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أوالىٰ فتوحات المسلمين ، في صدر الاسلام ، سنشاهد بسهولة كذب تهمة ادخال الناس بقوة السيف الىٰ الاسلام. فالقرآن الكريم يقول :

( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (1) .

ثم يضيف الدكتور واغليري :

« في التاريخ الاسلامي نماذج عديدة علىٰ مداراة الاسلام مع اتباع الاديان الالهية الاخرىٰ ، كما تعهد الرسول بنفسه حماية معابد مسيحيوا نجران ، وكذلك امر احد قادة الجيش الذي ارسله الىٰ اليمن ان لا يتعرض لأي شخص

________________

(1) سورة البقرة : 258.

٢٣٧

من اليهود في اماكنهم ومساكنهم ، وكان هذا تعامل المسلمين مع اتباع الديانات الاخرىٰ ، فهم احرار في العمل حسب آرائهم وشعائرهم الدينية ، بشرط ان يدفعوا ضريبة جزئية تسمىٰ الجزية ، وهذه الجزية عادة اقل من الضريبة التي يدفعها المسلمون انفسهم للدولة الاسلامية ، وفي مقابل تلك الجزية ، ولأتباع الديانات الاخرىٰ الحق في حرية العمل حسب مذاهبهم ولا يجبرون علىٰ تركها ، كما ان الدولة الاسلامية توفر لهم الحماية التامة ».

اصدقائي الاعزاء !

كان ذلك موجزاً عن برنامج الاسلام الحربي وهدف المسلمين من الحروب وكيفية تعامل المسلمين مع شعوب البلدان التي يسيطرون عليها واستشهدنا في ذلك بنماذج من تاريخ الاسلام ، واقوال علماء اوروبا ، واثبتنا ان المسلمين لوحدهم لم يجبروا الآخرين علىٰ اعتناق دينهم بالقوة والسيف ، بل منحوا الآخرين حرية دينية تامة في ظل حكمهم.

لكن لننظر ماذا فعل هؤلاء المسيحيون والاوروبيون عندما دارت الامور واستولوا هم علىٰ بلاد المسلمين ، لقد قاموا بجرائم ومجازر ومآسي سوّدت وجه التاريخ ويخجل الانسان من مجرد ذكرها !

تاريخ الحروب الصليبية الاسود

ولكي لا يتصور اصدقائي ان حديثي عن توحش وجرائم الشعوب الاوروبية مصدره التعصب الديني ، سأنقل لكم بعض الجرائم التي قام بها

٢٣٨

الصليبوين في الحروب الدموية والمعروفة بالحروب الصليبية ، وذلك ايضاً علىٰ حدّ ما جاء في كلام وكتابات العلماء والمؤرخين القساوسة الاوروبيين المسيحيين.

يتحدث الدكتور غوستاف لوبون في البداية عن الحرب التي شنها المسيحيين والاوروبيين ضد المسلمين ، فيقول :

« الكلام حول القتال الذي دار بين العالم الاوروبي المتوحش ، واسمىٰ الحضارات التي نشاهد آثارها في التاريخ ».

ثم يضيف :

« لقد قامت المسيحية الاوروبية بارتكاب اعمال وحشية في الحروب الصليبية ، لا يمكن ان اعبر عنها بشيء سوىٰ انهم ( المسيحيين ) كانوا قد جنوا ، فعندما انتصر الصليبيون علىٰ المسلمين الاتراك ، قاموا بقطع رؤوس المجروحين المسلمين وحملوها معهم علىٰ خيلولهم الىٰ معسكرهم وهم يفتخرون بما قاموا به ، ثم قاموا برمي تلك الرؤوس من فوق حصار كانوا يضربونه حول احدىٰ المدن المسلمين ، بأتجاه اهالي المدينة ، ان تصرفات المسيحيين الاوروبيين المشينة في جميع تلك الحروب جعلتهم بمستوىٰ اكثر الناس توحشاً وبربرية علىٰ وجه الارض ، وكانوا في تعاملهم السيء ذلك لا يفرقون بين اتباع دينهم واعدائهم أو الناس العاديين من النساء والاطفال والشيوخ والشبان والعسكر الذي يواجهونه ، في المدن التي يهاجمونها ، اي انهم كانوا يقتلون وينهبون الجميع دون استثناء ».

٢٣٩

تقول انكومن(1) ابنة امبراطور القسطنطنية :

« من جملة ماكان الاوروبيون يرفهون عن انفسهم فيه في تلك الحروب ، هو انهم كانوا يقتلون كل طفل يمرّ من امامهم ويلقون به في النار ! ».

ويقول الراهب روبرت(2) وهو من القساوسة المسيح حول المجازر التي ارتكبها المسيحيين الاوروبيين بحق المسلمين في مدينة مارا(3) :

« كان الجيش المسيحي يتحرك في انحاء المدينة مثل اللبوة التي سرقوا اطفالها ، وكانوا يتلذّون بالمجازر التي يرتكبونها بحق الناس ، فكانوا يقطعون أيدي الاطفال ويضربون اعناق الشيوخ والشبان ، ومن اجل ان يسرعوا في عملهم ، كانوا يشنقون عدة اشخاص في حبل واحد !

وكان المسيحيون في تلك الحروب ينهبون كل مايجدون عند الحيّ والميت من نقود ومجوهرات ، وكانت ازقة مدينة « مارا » تحولت الىٰ بركة من الدماء ، تسبح فيها جثث القتلىٰ المنتشرة في جميع ارجاء المدينة ، وكان المسيحيون يعبرون من فوقها !

في وصفه لدخول المسيحيين الاوروبيين الىٰ القدس ، يقول العالم الاوروبي المعروف ، رايموند داجلس(4) :

« عندما احتل المسيحيون الاوروبيون سور المدينة وقلاعها ، ظهرت

________________

(1) Aonicomnen

(2) Robert

(3) Marrat

(4) Rayimond Dagiles

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672