مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 155064 / تحميل: 6030
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الفصل العاشر

أم البنين وثورة عاشوراء

١٤١

أم البنين عليها‌السلام

ورحيل الحسين عليه‌السلام عن المدينة

لما دخل الامام الحسين عليه‌السلام على الوليد نعى اليه معاوية فاسترجع الامام.

قال له: لماذا دعوتني؟

قال: دعوتك للبيعة.

فطلب منه الامام تأجيل البيعة قائلاً: إنّ مثلي لا يبايع سراً ولا يجتزىء بها مني سراً، فاذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم كان الأمر واحداً...

لقد أراد الامام أن يعلن رأيه أمام الجماهير في رفضه البيعة ليزيد، وعرف مروان قصده فصاح بالوليد:

ولئن فارقك - يعني الحسين عليه‌السلام - الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، إحبسه فان بايع وإلّا ضربت عنقه.

ووثب أبي الضيم كالأسد فقال للوزغ ابن الوزغ:

يا ابن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله ولؤمت (1) .

__________________

(1) تاريخ ابن الاثير 3 / 264.

١٤٢

وأقبل على الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفضه الكامل للبيعة ليزيد قائلاً: أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، وقاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحقّ بالخلافة والبيعة... (1) .

وبعد ما أعلن الامام رفضه الكامل لبيعة الطاغية يزيد عزم على مغادرة يثرب (2) .

روى عبد الله بن سنان الكوفي عن أبيه عن جدّه قال: خرجت بكتاب أهل الكوفة إلى الحسين عليه‌السلام ، وهو يومئذٍ بالمدينة، فأتيته فقرأه فعرف معناه فقال: انظرني إلى ثلاثة أيام، فبقيت في المدينة، ثم تبعته إلى أن صار عزمه بالتوجه إلى العراق، فقلت في نفسي: أمضي وأنظر إلى ملك الحجاز كيف يركب؟ وكيف جلالته وشأنه؟

فأتيت إلى باب داره فرأيت الخيل مسرجة والرجال واقفين والحسين عليه‌السلام جالس على كرسي وبنو هاشم حافون به، وهو بينهم كأنه البدر ليلة تمامه وكماله، ورأيت نحواً من أربعين محملاً، وقد زينت المحامل بملابس الحرير والديباج.

قال: فعند ذلك أمر الحسين عليه‌السلام بني هاشم بأن يركبوا محارمهم على المحامل، فبينما أنا انظر وإذا بشاب قد خرج من دار الحسين عليه‌السلام وهو طويل القامة ووجهه كالقمر الطالع، وهو يقول: تنحو يا بني هاشم، وإذا بامرأتين قد خرجتا من الدار وهما تجران أذيالهما على الأرض حياءً من الناس، وقد حفت بهما إماؤها، فتقدم ذلك الشاب إلى محمل من المحامل وجثى على ركبتيه وأخذ بعضديهما وأركبهما المحمل.

فسألت بعض الناس عنهما، فقيل: أما أحدهما فزينب والأخرى أم كلثوم بنتا أمير المؤمنين.

__________________

(1) حياة الامام الحسين 2 / 255.

(2) السيدة زينب (للقرشي): 191.

١٤٣

فقلت: ومن هذا الشاب؟

فقيل لي: هو قمر بني هاشم العباس ابن أمير المؤمنين.

ثم رأيت بنتين صغيرتين كأنّ الله - تعالى - لم يخلق مثلهما، فجعل واحدة مع زينب والأخرى مع أم كلثوم، فسألت عنهما، فقيل لي: هما سكينة وفاطمة بنتا الحسين عليه‌السلام .

ثم خرج غلام آخر كأنه البدر الطالع ومعه امرأة وقد حفت بها إماؤها، فأركبها ذلك الغلام المحمل، فسألت عنها وعن الغلام، فقيل لي: أما الغلام فهو علي الأكبر ابن الحسين عليه‌السلام والامرأة أمه ليلى زوجة الحسين عليه‌السلام .

ثم خرج غلام وجهه كفلقة القمر ومعه امرأة، فسألت عنها فقيل لي: أما الغلام فهو القاسم بن الحسن المجتبى والامرأة أمه.

ثم خرج شاب آخر وهو يقول: تنحوا عني يا بني هاشم، تنحو عن حرم أبي عبد الله، فتنحى عنه بنو هاشم، وإذا قد خرجت امرأة من الدار وعليها آثار الملوك وهي تمشي على سكينة ووقار، وقد حفت بها إماؤها، فسألت عنها، فقيل لي: أما الشاب فهو زين العابدين ابن الامام وأمّا الامرأة فهي أمه شاه زنان بنت الملك كسرى زوجة الامام، فأتى بها وأركبها على المحمل.

ثم أركبوا بقية الحرم والأطفال على المحامل، فلما تكاملوا نادى الامام عليه‌السلام :

أين أخي؟ أين كبش كتيبتي؟ أين قمر بني هاشم؟

فأجابه العباس: لبيك لبيك يا سيدي.

ففقال له الامام عليه‌السلام : قدّم لي يا أخي جوادي.

فأتى العباس عليه‌السلام بالجواد اليه، وقد حفت به بنو هاشم، فأخذ العباس بركاب الفرس حتى ركب الامام.

ثم ركب بنو هاشم وركب العباس وحمل الراية أمام الامام.

١٤٤

قال: فصاح أهل المدينة صيحة واحة وعلت أصوات بني هاشم بالبكاء والنحيب وقالوا: الوداع.. الوداع، الفراق.. الفراق.

فقال العباس: هذا والله يوم الفراق والملتقي يوم القيامة.

ثم صاروا قاصدين كربلاء مع عياله وجميع أولاده ذكوراً وإناثاً إلا ابنته فاطمة الصغرى، فانها كانت مريضة (1) .

وكأني بأم البنين عليها‌السلام تشهد هذا الموقف الذي تتألم له صم الصخور، وهي تودع ريحانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرمه وابناءها البررة، وتوصي أولادها بأخواتهم وسيدهم ومولاهم الحسين عليه‌السلام ، وتقول لهم: كونوا فداءً لسيدكم وكونوا له عيناً ودرعاً، واجعلوا قلوبكم دروعكم للدفاع عنه وعن حرمه، ولا تقصروا في الذبّ عنه، وبيضوا وجهي عند أمه وأبيه وجده وأخيه وعنده.

حوار بين أم البنين عليها‌السلام وبشير:

قال في «اللهوف»: قال الراوي: ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة قال بشير بن حذلم: فلما قربنا منها نزل علي بن الحسين فحط رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه وقال: يا بشر رحم الله أباك لقد كان شاعراً فهل تقدر على شيء منه؟

فقلت: بلى يا ابن رسول الله، إني لشاعر.

فقال عليه‌السلام : ادخل المدينة وانع أبا عبد الله.

قال بشير: فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة، فلما بلغت مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء فأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج

والرأس منه على القناة يدار

__________________

(1) معالي السبطين 1 / 221.

١٤٥

قال: ثم قلت: هذا علي بن الحسين عليه‌السلام مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله اليكم أعرفكم مكانه.

قال: فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلّا برزن من خدورهن، مكشوفة شعورهن، مخمشة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه (1) .

قال بشير: ورأيت امرأة كبيرة تحمل على عاتقها طفلاً وهي تشق الصفوف نحوي، فلمّا وصلت قالت: يا هذا أخبرني عن سيدي الحسين عليه‌السلام ، فعلمت أنها ذاهلة؛ لأني أنادي «قتل الحسين» وهي تسألني عنه، فسألت عنها، فقيل لي: هذه أم البنين عليها‌السلام ، فأشففت عليها وخفت أن أخبرها بأولادها مرة واحدة.

فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عبد الله.

فقالت: ما سألتك عن عبد الله، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قال: فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عثمان.

فقالت: ما سألتك عن عثمان، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك جعفر.

قالت: ما سألتك عن جعفر، فانّ ولدي وما أظلته السماء فداءً للحسين عليه‌السلام ، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العباس.

قال بشير: لقد رأيتها وقد وضعت يديها على خاصرتها وسقط الطفل من على عاتقها وقالت: لقد والله قطعت نياط قلبي، أخبرني عن الحسين.

قال: فقلت لها: عظم الله لك الأجر بمصاب مولانا أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام .

__________________

(1) معالي السبطين 2 / 203.

١٤٦

ما أعظم موقفها عليها‌السلام وأعظم مصابها برزية الامام، مما يكشف عن مدى إيمانها ورسوخ اعتقادها وولاءها الوثيق وحبها الذي يوصف للحسين عليه‌السلام ، ولطالما كانت تقول: ليت أولادي جميعاً قتلوا وعاد أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام سالماً.

إنّ شدة حبها للحسين يكشف عن علو مرتبتها في الايمان وقوة معرفتها بمقام الامامة بحيث تستسهل شهادة أولادها الأربعة - وهم لا نظير لهم أبداً - في سبيل الدفاع عن إمام زمانها (1) .

قال السيد محمد كاظم الكفائي:

أم على أشبالها أربع

جاءت لبشر وبه تستعين

وتحمل الطفل على كتفها

تستهدي فيه خبر القادمين

ملهوفة مما بها من أسى

ترى بذاك الجمع شيئاً دفين

فقال يا أم ارجعي للخبا

وابكي بنيك قتلوا أجمعين

فما انئنت وما بكت أمهم

وخاب منه ظنه باليقين

كأنهم الطود وما زلزلت

وحق أن تجري لهم دمع عين

فقال يا أم البنين اعلمي

بأن عباساً قتيلاً طعين

قالت طعنت القلب مني فقل

النفس والدنيا وكل البنين

نمضي جميعاً كلنا للفنا

نكون قرباناً فدىً للحسين

فقال يا أم البنين البسي

ثوب حداد الحزن لا تنزعين (2)

لقاء أم البنين عليها‌السلام مع زينب الكبرى عليها‌السلام :

كانت أم البنين عليها‌السلام من النساء الفاضلات العارفات بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام مخلصة

__________________

(1) أنظر: تنقيح المقال 3 / 70.

(2) أم البنين للسيد الكفائي: 82.

١٤٧

في ولائهم ممحضة في مودتهم، ولها عندهم الجاء الوجيه والمحل الرفيع، وقد زادتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزيها بأولادها الأربعة كما كانت تزورها أيام العيد (1) .

ويقال: لمّا دخل بشير إلى المدينة ناعياً الحسين عليه‌السلام وخرج الرجال والنساء وخرجت من جملتهن أم البنين، فلما سمعت بقتل الحسين عليه‌السلام خرّت مغشياً عليها، وحبى عائلة الحسين عليه‌السلام إلى المنازل، فقالت زينب عليها‌السلام : لا أريد أحداً يدخل عليّ في هذا اليوم إلّا من فقدت لها عزيزاً في كربلاء، وجلست في منزلها وجعلت فضة على الباب.

فلما أفاقت أم البنين عليها‌السلام من غشيتها سألت عن الحوراء زينب وعن العائلة فأخبروها بذلك، فبينما هنّ في البكاء والعويل وإذا بالباب تطرق.

فقالت فضة: من بالباب فانّ سيدتي زينب لا تريد أحداً يدخل عليها إلّا من فقدت لها عزيزاً في كربلاء.

فقالت: قولي لسيدتك زينب إنّي شريكتها في هذا العزاء وأريد أن أدخل عليها لأساعدها فاني مثلها في المصاب.

فلما أخبرت فضة زينب قالت: سليها من هي التي تكون مثلي في المصاب، ثم قالت: إن صدق ظني فانها أم البنين عليها‌السلام .

فرجعت فضة وقالت لها: تقول سيدتي من أنت التي مثلها في المصاب؟

قالت: إني الثاكلة أم المصيبة العظمى.

قالت: أوضحي لي؟

قالت: الحزينة صاحبة الفاجعة الكبرى.

قالت: أوضحي لي من تكونين؟

__________________

(1) العباس عليه‌السلام (للمقرم): 72.

١٤٨

قالت: أو ما عرفتني، إنّي أم البنين عليها‌السلام .

فقالت فضة: لقد صدقت سيدتي في ظنها وإنّك - والله - كما تقولين، أم المصيبة العظمى والفاجعة الكبرى، ثم فتحت لها الباب.

فلمّا دخلت استقبلتها زينب واعتنقتها وبكت وقالت: عظم الله لك الأجر في أولادك الأربعة.

قالت: وأنت عظم الله لك الأجر في الحسين عليه‌السلام وفيهم، وبكت وبكى من كان حاضراً (1) .

أم البنين تندب أبناءها:

روى أحمد بن عيسى عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام مسنداً قال: إنّ زيد بن رقاد الجهني وحكيم بن الطفيل الطائي، قتلا العباس بن علي.

وقال أبو الفرج الاصفهاني: وكانت أم البنين عليها‌السلام أم هؤلاء الأربعة الاخوة القتلى تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرها فيجتمع الناس اليها يسمعون منها، فكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي (2) (3) .

__________________

(1) مولد العباس لمحمد علي الناصري: 44.

(2) لقد كانت ندبة أم البنين عليها‌السلام مشجية «صم الصخور لهولها تتألم» ولكن ذلك لا يعني أبداً أن يرقّ قلب الوزغ ابن الوزغ مروان ابن الحكم، فقد يستفاد من قول أبي الفرج أن ندبة أم البنين كانت محرقة للقلوب بحيث تأثر بها مروان على قساوته إلّا أن هذا مما لا يمكن تصويره في حق هذا اللعين، وهو الذي حارب أهل البيت عليهم‌السلام ولم يفتر عن حربهم لحظة من عمره المشؤوم، وهو الذي ألّب عليهم وحرض وكاد لهم أحياءً وأمواتاً، وهو المتشفي بقتل الحسين عليه‌السلام وقد أظهر الفرح والشماته بقوله لما نظر إلى رأس الحسين عليه‌السلام :

يا حبذا بردك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدين

كأنه بات بعسجدين

شفيت نفسي من دم الحسين

(3) مقاتل الطالبيين: 90 ذيل ترجمة العباس عليه‌السلام .

١٤٩

وقال العلامة السماوي في «إبصار العين»: وقد كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم ترثيه وتحمل ولده عبيد الله فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة، وفيهم مروان بن الحكم، فيبكون لشجى الندبة، وكان من قولها عليها‌السلام :

يا من رأى العباس كر

على جماهير النقد

ووراه من أبناء حيدر

كل ليث ذي لبد

انبئت أن ابني أصيب

برأسه مقطوع يد

ولي على شبلي أما

ل برأسه ضرب العمد

ولو كان سيفك في يد

يك لما دنا منه أحد

وقولها عليها‌السلام :

لا تدعوني ويك أم البنين

تذكريني بليوث العرين

كانت بنون لي ادعى بهم

واليوم أصبحت ولا من بنين

أربعة مثل نسور الربى

قد واصلوا الموت بقطع الوتين

تنازع الخرصان أشلائهم

فكلهم أمسى صريعاً طعين

يا ليت شعري أكما أخبروا

بان عباساً قطيع اليمين (1)

أم البنين تحيي ذكرى عاشوراء:

كانت أم البنين من النساء الفاضلات العارفات بزمانها والعارفات بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، كما كانت فصيحة لسنة ورعة، وكانت ممن حمى حريم الحسين، وأقامة العزاء عليه لتشارك في حفظ ثورته والوفاء لدمه الذي سكن الخلد، وتشكل حلقة مهمة في امتداد الثورة، وتكون صوتاً للحنجرة المقدسة التي قطعت.

وقد اتخذت من أسلوب الندبة والنياحة سبيلاً للنداء بمظلومية الحسين

__________________

(1) إبصار العين: 31 - 32.

١٥٠

وآل البيت عليهم‌السلام فكانت - كما مر قبل قليل - تحمل عبيد الله بن العباس وتخرج إلى البقيع تقيم المآتم على قتيل العبرات، وتندب أولادها أشجى ندبة، وتتمنى لو كان الحسين حياً وتموت هي وأولادها ومن على الأرض فداءً له، وكانت تتوخى من وراء ذلك:

1 - إقامة المآتم على سيد الشهداء وريحانة الرسول وتعظيم شعائر الله.

2 - تعلن للملأ عن شجاعة الحسين وأولادها ومظلوميتهم وتفخر بهم على التاريخ.

3 - تشرح أحداث كربلاء وما وقع فيها من ظلامات لآل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفجائع يخجل منها كل مخلوق، وتصيغ ذلك بأسلوب الندبة العاطفي، وتعلن بذلك عن اعتراضها على الوضع القائم وحكومة الطاغوت.

4 - تفضح الحكام الظلمة الذين تسلطوا على مقدرات الأمة وحاولوا تضليل الناس، وقلب الحقائق على مرّ التاريخ، فكانت أم البنين عليها‌السلام تبين الحق والحقيقة من خلال ذلك.

5 - تحرض الناس ضد بني أمية وأذنابهم وتطالب بدماء الأحراء من آل البيت عليهم‌السلام .

6 - وكانت تخرج إلى البقيع - مع أن قبر العباس وأخوته في كربلاء - ليجتمع الناس هناك ويتذكرون مظالم الحسن وريحانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصديقة الطاهرة وتعيد لهم ذكرياتهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هناك وتذكرهم بمواقف المسلمين في صدر الاسلام في الذبّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ضمتهم الآن هذه المقبرة المقدسة.

7 - وكانت تحمل معها عبيد الله بن العباس - حفيدها - باعتباره كان موجوداً في يوم الطف فهو شاهد عيان ودليل وبرهان حي يروي لهم ولمن سيأتي من الأجيال ويجتمع له أترابه والكبار والصغار....

١٥١

لقد ساهمت أم البنين عليها‌السلام في إبلاغ خطاب عاشوراء إلى المجتمع المعاصر لها وأبلغت مسامع الايام ليتردد صوتها إلى جانب صوت أم المصائب زينب عليها‌السلام حينما وقفت كالطود الشامخ لا تحركه العواصف لتحمي ثورة الحسين عليه‌السلام ، وتحفظ الحق ورسالة التوحيد على طول خط التاريخ.

* * *

١٥٢

الفصل

الحادي عشر

التوسل بأم البنين عليها‌السلام

١٥٣

التوسل بأم البنين عليها‌السلام

من سنن الله الجارية في أوليائه ( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) (1) إكرامهم باظهار ما لهم من الكرامة عليه والزلفى منه، وذلك غير ما ادخره لهم من المثوبات الجزيلة في الآجلة، تقديراً لعملهم واصحاراً بحقيقة أمرهم ومبلغ نفوسهم من القوة وحثاً للملأ على اقتفاء آثارهم في الطاعة، ومهما كان العبد يخفى الصالحات من أعماله فالمولى سبحانه يراغم ذلك الاخفاء باشهار فضله، كما يقتضيه لطفه الشامل ورحمته الواسعة وبرّه المتواصل، وأنّه جلت آلاؤه يظهر الجميل من أفعال العباد ويزوي القبيح رأفة منه وحناناً عليهم.

ومن هذا الباب ما نجده على مشاهد المقربين وقباب المستشهدين في سبيل الله من آثار العظمة وآيات الجلال من إنجاح المتوسل بهم اليه - تعالى شأنه - وإجابة الدعوات تحت قبابهم المقدسة، وإزالة المثلات ببركاتهم، وتتأكد الحالة إذا كان المشهد لأحد المنتسبين للبيت النبوي؛ لأنه جلت حكمته ذرأ العالمين لأجلهم؛ ولان يعرفوا مكانتهم فيحتذوا أمثالهم في الأحاكم والأخلاق، فكان من المحتم في باب لطفه وكرمه - عظمت نعمه - أن يصحر الناس بفضلهم الظاهر.

__________________

(1) سورة فاطر: 43.

١٥٤

ومن المنتسبين إلى ذلك البيت الطاهر الذي أذن الله أن يرفع فيه اسمه «أم البنين عليها‌السلام »، فانها في الطليعة من أولئك الذين بذلوا في الله ما عزّ لديهم وهان حتى اتصلت النوبة إلى أولادها وفلذة كبدها، بل أذهبت نفسها في زفراتها الحارة على الحسين وآله عليهم‌السلام ، فكان ذلك كلّه نصب عينه - تعالى ذكره - فأجرى الله سنته الجارية في الصديقين فيها بأجلى مظاهرها؛ ولذلك تجد المؤمنين في أصقاع الأرض يتوسلون بها إلى الله، ويستشفعون بها في حاجاتهم في آناء الليل وأطراف النهار، ويجعلونها باباً من أبواب رحمة الله، فيطرقه أرباب الحوائج من عاف يستمنحه بره، إلى حمى أمنه، إلى أنواع من أهل المقاصد المتنوعة، فينكفأ فلج الفؤاد بنجح طلبيته، قرير العين بكفاية أمره، إلى منتجز باعطاء سؤله، كلّ هذا ليس على الله بعزيز، ولا من المقربين من عباده ببعيد.

توسلوا بأمي أم البنين عليها‌السلام :

يقول المؤلف: حدّث العالم الفقيه آية الله الحاج السيد محمد الحسيني الشيرازي قدس‌سره في تاريخ 27 ذي الحجة الحرام سنة (1416) ضمن حديثه عن عظمة شخصية أبي الفضل العباس عليه‌السلام :

رأى أحد العلماء في عالم المكاشفة قمر بني هاشم أبا الفضل العباس عليه‌السلام وقال له: سيدي إن لي حاجة فبمن أتوسل حتى تقضي حاجتي؟

فأجابه عليه‌السلام : توسل بأمي أم البنين عليها‌السلام .

ونحن نذكر هنا بعض الختومات وآداب التوسل بتلك السيدة المباركة من المجربات التي رويت عن بعض الأساطين:

١٥٥

1 - إهداء الصلوات:

قال المرحوم آية الله الحاج السيد محمود الحسيني الشاهرودي المتوفي في 17 شعبان (394 هـ):

إني أصلّي على محمد وآل محمد مائة مرة وأهديها إلى أم البنين عليها‌السلام فتقضي حاجتي.

2 - نذر الاطعام:

أن ينذر لأم البنين عليها‌السلام ويطعم الفقراء باسم أبي الفضل العباس عليه‌السلام ، وهو من المجربات في قضاء الحوائج.

3 - ختم سورة «يس»:

قراءة سورة «يس» عشرة مرات في أربع أسابيع كالتالي، وهو مؤثر إن شاء الله تعالى:

يقرأها في ليلة الجمعة من الأسبوع الأول ثلاث مرات، وفي ليلة الجمعة من الأسبوع الثاني يقرأ ثلاث، وفي ليلة الجمعة من الأسبوع الثالث يقرأ ثلاث أيضاً، وفي ليلة الجمعة الأخيرة في الأسبوع الرابع يقرأها مرة واحدة ويهديها لأم البنين عليها‌السلام نيابة عن أبي الفضل العباس عليه‌السلام ، فانه ستقضى حاجته إن شاء الله على أتم وجه.

4 - تجهيز من يزور كربلاء نيابة عن أم البنين عليها‌السلام :

حدثني الحاج الشيخ محمود الخليلي في شوال المكرم سنة (1418 هـ) في منزل آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي قدس‌سره قال:

إنّ آية الله الحاج السيد محمد الروحاني قدس‌سره كان يتوسل في المهمات والمشاكل المعضلة بأم البنين عليها‌السلام ، وكان توسّله بتلك المخدرة المجللة أن ينذر لله أن

١٥٦

يقضي حاجته ويكشف كربته على أن يبعث إلى كربلاء من يزور هناك نيابة عن أم البنين عليها‌السلام ، ويتحمّل كافة مصروفات سفره.

وأتذكر جيداً أني حظيت في سنة (1383 هـ) بشرف زيارة كربلاء نيابة عن السيدة أم البنين من قبل السيد قدس‌سره فدفع لي مبلغ «نصف دينار» ما يعادل عشرة دراهم، وكانت الأجرة يومها ذهاباً وإياباً تتراوح بين ثلاثة أو أربعة دراهم.

قال أيضاً: ابتلي آية الله الروحاني ذات مرة بألم شديد في سنّه، وكن ألماً مبرحاً لا يطاق، فراجع طبيبه الدكتور الطريحي فلم يجده، فلما اشتد الألم اشتداداً مروعاً نذر لله إن نجّاه من هذا الألم أن يستأجر من يزور كربلاء نيابة عن أم البنين عليها‌السلام في ليلة الجمعة القادمة، فلم تمض لحظات حتى سكن الألم وكأن لم يكن شيئاً، وفي عصر اليوم التالي عاد الالم مجدداً فقال السيد: يبدو أن الطبيب قد حضر، فراجعه فوجده في مطبه، فقلع سنه وارتاح من بلائه، كلّ ذلك ببركة أم البنين عليها‌السلام .

وأضاف الشيخ الخليلي: إنّي علّمت هذا التوسل بهذه الطريقة لكثير من ذوي الحاجات فكان نافعاً في قضاء حوائجهم وكشف كربهم.

5 - إهداء الصلوات للمعصومين وقراءة دعاء التوسل:

ختم مذكور في كتاب «مجموعة علم جعفر» ووقته بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العشاء، والأفضل أن يشرع به في أول الشهر وهو كالتالي:

في اليوم الأول: ألف مرة «اللهم صلّ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم» ويهديخا إلى خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي اليوم الثاني: أيضاً ألف مرة على النحو المذكور لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام .

١٥٧

وفي اليوم الثالث: لسيدة النساء فاطمة الزهراء عليها‌السلام .

وفي اليوم الرابع: للامام المجتبى ريحانة الرسول الحسن المظلوم عليه‌السلام .

وهكذا على عدد المعصومين عليهم‌السلام حتى يصل إلى صاحب الأمر والزمان - أرواح العالمين له الفداء -.

وفي اليوم الخامس عشر: أيضاً ألف مرة على النحو المذكور لأبي الفضل العباس عليه‌السلام .

وفي اليوم السادس عشر: لأم البنين عليها‌السلام

وفي اليوم السابع عشر: لزينب الكبرى عليها‌السلام .

وفي اليوم الأخير: بعد أن ينتهي من الصلوات يقرأ الدعاء المعروف المذكور في مفاتيح الجنان وأوله «اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيك نبي الرحمة...».

قال في الكتاب المذكور: نقل لي من أثق به أنّ جماعة التزموا هذا الختم وأدوه جماعة، فلمّا انتهوا منه تشرفوا بزيارة العباس عليه‌السلام فقال لهم: «حاجتكم مقضية».

أقسم الرجل المذكور أيماناً مغلظة قائلاً: كنّا جماعة وقد قضى الله حوائجنا جميعاً والحمد لله (1) .

6 - قراءة الفاتحة لام البنين عليها‌السلام :

مما اشتهر بين الناس سيما من يعرف منهم مقام أم البنين عليها‌السلام ومنزلتها أنّه إذا فقد حاجة وضاعت منه وأراد أن يبحث عنها فانّه يقرأ سورة الفاتحة ويصلي على محمد وآل محمد ويهديها لأم البنين عليها‌السلام ، فانّه يجد ضالته باذن الله، وقد جرب ذلك مراراً.

__________________

(1) استفدنا ذلك من مذكرات السيد مرتضى المجتهدي السيستاني.

١٥٨

7 - إهداء ختمة قرآن لأم البنين عليها‌السلام :

بعث الحاج الشيخ محمد علي إسلامي رسالة إلى «انتشارات مكتب الحسين عليه السالم» بتاريخ ذي الحجة الحرام (1419 هـ) وقال فيها:

«.. إنّي المدعو «محمد علي بن أحمد الاسلامي» حدثت لي معضلة لا يمكن حلّها عادة، وكانت متعلقة بعدة دوائر رسمية، وقد سدّت جميع الأبواب في وجهي، ولم أجد أي حيلة أو سبيل لحلّها، فتوسلت بالسيدة أم البنين عليها‌السلام وقلت لها: سيدتي أُم البنين.. إنّ لك عند الله جاهاً عريضاً وأنا سأختم القرآن الكريم وأهدي ثوابه لروحك المقدسة وفي المقابل توسلي أنت إلى الله في حلّ مشكلتي.

أجل؛ هكذا نذرت وشرعت في تلاوة القرآن الكريم وقبل إتمام الختمة تيسر أُموري كلّها وقضيت حاجتي، فكنت إذا راجعت أي دائرة من الدوائر وجدت السبيل مفتوحة والأُمور ميسرة والوجوه طلقة، وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً.

هكذا هي هذه الأُسرة الجليلة شفيعتنا في الدنيا والآخرة.

8 - إهداء زيارة عاشوراء لأم البنين عليها‌السلام :

السيد محمد حسين جعفر زاده عقيد متقاعد يسكن في منطقة «عظيمية» في كرج من ضواحي طهران العاصمة.. أرسل رسالة إلى «مكتب الحسين عليه‌السلام » ذكر فيها كرامة لقمر العشيرة أبي الفضل العباس عليه‌السلام وضمّنها توسلين بأُم البنين عليها‌السلام فقال:

1 - قضيت ثلاثين سنة من عمري في خدمة الجيش في الجمهورية الإسلامية، ومن ثم أحلت على التقاعد، فقدمت لي دعوة من «منظمة الاعلام الاسلامي» أولاً، ومن ثُمَّ من إحدى المراكز الناشطة في المدينة «كرج» لأقوم بتدريس فن قراءة المراثي وإقامة العزاء «ما يسمى عند الناس بالرادود» فقبلت الدعوة وشرعت بالتدريس على بركة الله، وقد كتبت - لحد الآن - أربعة كتب في هذا الفن وقدمتها لخدام المنبر الحسيني.

١٥٩

وفي ذات يوم - وكان اليوم جمعة - كنت مشغولاً بالتدريس وقت الحصر إذ دخل أحد التلاميذ ذاهلاً فاستأذن وقال: إنّ أبي الآن يعالج الموت، وقد تركته في سكراته محتضراً ووجهته إلى القبلة، وجئت لأعتذر اليك عن التأخير وأعود اليه.

فقلت له: اسمع مني سأروي لك حديثاً عن سيدتي فاطمة الزهراء عليها‌السلام فانها قالت: سألت أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أي ساعة أفضل لاستجابة الدعاء؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عند الغروب يوم الجمعة.

فنحن ندعو ولكن الأفضل أن تنذر أنت أيضاً نذراً قال: إنّي الآن في حالة من الاضطراب وتشتت البال بحيث لا أدري ماذا أفعل وماذا أنذر، أرجوا أن تنصحني وتعلمني وترشدني إلى ما أفعل؟

فقلت له: إنذر الآن أن تقرأ زيارة عاشوراء عشرة مرات وتهديها لأم البنين عليها‌السلام بقصد شفاء والدك.

فقال: أفعل، ورجع إلى البيت مسرعاً، فلمّا دخل البيت بلغ به العجب غايته، إذ رأى أباه واقفاً في ساحة الدار مشتغلاً بالوضوء والاستعداد لصلاة المغرب، فسأل عن ذلك، فأخبروه أنّه منذ نصف ساعة تقريباً انقطعت عنه الحمى فجأة وأخذ يتماثل إلى الشفاء وبدأت أعراض المرض تزول منه حتى قام قائماً على قدميه.

قال العقيد جعفر زاده:

وها هو ذا الأب حفظه الله يشتغل بالقرب منا يزاول عمله سالماً غانماً.

2 - في يوم 22 رمضان سنة 1420 قالت لي زوجتي: إنّ تحت ابطي غدة بحجم «بيضة»، وبقيت على هذه الحال إلى أن انتهى الشهر الكريم، فراجعنا الطبيب الجراح فأخذ نموذجاً من الغدة وأرسلها إلى ال مختبر لتجرى عليها زراعة وتحليل لتشخيصها، إلّا أنّه لوّح لنا في كلامه إلى أنّها غدة خبيثة، وكانت نظرات العاملين في المختبر تحكى ذلك أيضاً. فتوجهت إلى الأئمة الأطهار وتوسلت بهم

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ذاتياً ـ ذلك الفهم والفكر والشعور الهادي وتكون ـ هي بذاتها ـ موجدة للأفكار التي تعين تلك الأحياء على الاهتداء إلى سبل حياتها.

وحيث إنّ هذا الاحتمال لا يمكن أن يكون وارداً وصحيحاً، لذلك لابد أن نسلك طريقاً آخر بأن نقول :

٢. انّ طبيعة البناء الميكانيكي والتركيب المادي لهذه الأحياء تكفي ـ دون شيء آخر ـ لإيقاع هذه الأعمال، ونقول بالتالي: إنّ اهتداء هذه الأحياء وما سوى ذلك من الأعمال التي ذكرناها والتي نشاهدها في عالم النمل والنحل وحشرة الموروفيل أو الاسفنج البحري، كل ذلك إنّما هو نتيجة انتظام الأجزاء والعناصر الجسمانية لهذه الأحياء وانضمامها إلى بعض بنحو يؤدي ذلك النظم والتركيب الخاص إلى صدور هذه العمليات والأفعال من هذه الأحياء بصورة تلقائية لا إرادية.

وبعبارة أُخرى: أنّ الخواص الفيزياوية والكيمياوية لخلايا هذه الأحياء هي التي تقتضي وتوجب هذه السلسلة من الأعمال والنشاطات دون تدخل من خارج.

وفي هذه الصورة لن يكون موضوع « اهتداء » هذه الأحياء إلى سبيل حياتها دليلاً مستقلاً على وجود الله، بل يندرج تحت عنوان « برهان النظم » لكونه مسألة ترجع إلى النظم، فقد جهّزت خلقة هذه الأحياء بجهاز متين على نظم خاص رصين يقدر معه وبفضله على القيام بشؤون حياته كالأشجار فيكون اهتداؤها ليس إلّا مقتضي كيفية تركيب أجزائها.

٣. أن نختار ما اختاره بعض المحقّقين إذ قال ما خلاصته: إنّ الحركات

٢٢١

والفعّاليات الصادرة من أي جهاز من الأجهزة إنّما يمكن التنبّؤ بها من قبل ما دامت ترتبط بنفس ذلك الجهاز وتركيبته، بمعنى أنّ نفس الجهاز المادي وتشكيلاته الداخلية تكون كافية لأن تكون الإحاطة به سبباً للتنبّؤ بأعماله وفعالياته.

وبعبارة أُخرى: انّ ما تقوم به هذه الحشرات من الأعمال البديعة إنّما تصح نسبتها إلى الجهاز الميكانيكي إذا كان ذلك الجهاز كافياً في صدور تلك الأعمال منها بأن يكون نفس نظام ذلك الجهاز وكيفية تركيبه كافياً في القيام بهذه الأعمال.

وأمّا عندما يصل الأمر إلى موضع لا يجب أن يقوم ذلك الجهاز فيه بفعل مخصوص بل يواجه مفترق طريقين، ومع ذلك يختار أحد الطريقين مما يكون موصلاً إلى الهدف فهناك لابد من الإذعان بأنّ مجرد النظم المادي لذلك الجهاز غير كاف لاختيار أحد الطريقين دون سواه، بل إنّ هذا النوع من الاهتداء والانتخاب كاشف عن وجود رابطة خفية بين الجهاز المذكور وبين مصيره، وأنّ هذه الحقيقة، أعني: الابتكار والابتداع، دليل على الهداية من النوع الثاني « أي الذي لا يرتبط بنفس الجهاز ونفس نظامه وتركيبه العضوي » بل يرتبط بهداية عليا.

إنّ آلة حاسبة يمكن أن تصنع وتنظم بشكل تؤدي كل عمليات الجمع والطرح والضرب والتقسيم الحسابية بدقة متناهية، ولكن من المستحيل أن تقدر هذه الآلة الحاسبة على القيام بابتكار وابتداع قاعدة رياضية واحدة.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى آلة ترجمة فإنّها قادرة على ترجمة كلام شخص أو مقالة، ترجمة دقيقة متقنة، ولكن نظمها لا يقدر ـ أبداً ـ على تصحيح أخطاء ذلك

٢٢٢

القائل والقيام بعمل ابتكاري، وابداعي من هذا النمط(١) .

ونستخلص مما سبق أنّ القدرة الغيبية الخفية التي تهدي هذه الأحياء، قوة واسعة مطلقة تحيط علماً بكل الحشرات، إحاطة شاملة كاملة وهي عنده بمنزلة سواء.

وتلك القوة الهادية العظيمة ليست سوى الله تعالى أو سائر القوى الغيبية المدبّرة لأُمور الكون العاملة بإذن الله ومشيئته، التي أُنيطت إليها هداية هذه الحشرات وإرشادها وتوجيهها.

وأخيراً لابد من الإشارة إلى نكتة مهمة وهي :

أنّ هذا البرهان سواء رجع إلى برهان النظم بمعنى أنّ أعمال هذه الأحياء ما هي إلّا نتيجة النظم المادي الحاكم على تركيبتها المادية، وتشكيلاتها الداخلية، أو قلنا بأنّ هناك قوة هادية هي التي تقوم بهداية هذه الحشرات إلى تلك الأعمال والمواقف العجيبة، وتساعدها في هذه الابتكارات والإبداعات فيكون هذا برهاناً مستقلاً بنفسه.

أقول: سواء كان هذا أم ذلك فإنّ مما لا شك فيه انّ دراسة « الأحياء » في حد ذاتها واحدة من سبل معرفة الله وإحدى الطرق للتعرف عليه.

وقد اعتمد القرآن على ذلك في غير الآية المذكورة ـ في مطلع بحثنا هذا ـ إذ يقول ـ في موضع آخر ـ مخبراً عن الله بأنّه :

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) (٢) .

__________________

(١) راجع تعاليق أُصول الفلسفة للأُستاذ الشهيد مرتضى مطهري: ٤٩ ـ ٥١.

(٢) الأعلى: ٢ ـ ٣.

٢٢٣

والجدير بالذكر أنّ الإمام علياًعليه‌السلام أشار إلى هذا البرهان ذاته عندما تحدّث عن خلقة النمل قائلاً :

« ولو فكروا في عظيم القدرة، وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة !

ألا ينظرون إلى صغير ما خلق، كيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر، وسوى له العظم والبشر ؟

انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبتّ على أرضها، وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدّها في مستقرها، تجمع في حرّها لبردها، وفي ورودها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنّان، ولا يحرمها الديّان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس !

ولو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً ! فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها ! لم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه في خلقها قادر، ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلّا على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كل شيء وغامض اختلاف كل حي، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء ».

وفي سياق هذا الكلام يقول الإمامعليه‌السلام :

٢٢٤

« وهل يكون بناء من غير بان، أو جناية من غير جان » ؟(١) .

وتبعه في ذلك الإمام الصادقعليه‌السلام حيث ذكر في أماليه التي أملاها على تلميذه « المفضل » إذا قال عن النحل مثلاً :

« انظر إلى النحل واحتشاده في صنع العسل، وتهيئته البيوت المسدّسة، وما ترى في ذلك من دقائق الفطنة، فإنّك إذا تأمّلت العمل رأيته عجيباً، وإذا رأيت المعمول ( أي العسل ) وجدته عظيماً شريفاً موقعه من الناس.

وإذا راجعت إلى الفاعل ( أي النحل ) ألفيته غبياً جاهلاً بنفسه(٢) فضلاً عمّا سوى ذلك، ففي هذا أوضح الدلالة على أنّ الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل، بل هي للذي طبعه عليها وسخّره فيها لمصلحة الناس »(٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة: ١٨٠، وللإمام نظير هذا الكلام في الخفاش والطاووس والجراد، راجع نهج البلاغة.

(٢) قال المجلسيرحمه‌الله في بحار الأنوار في تعليقته: ٣ / ١١٠ على هذا المقطع من كلام الإمام: أي ليس له عقل يتصرف في سائر الأشياء على نحو تصرفه في ذلك الأمر المخصوص، فظهر أنّ خصوص هذا الأمر ( الهام ) من مدبّر حكيم.

(٣) المصدر السابق.

٢٢٥
٢٢٦

الفصل الرابع

الله وسريان معرفته في العالم كلّه

٢٢٧

سريان معرفة الله في الكون بأسره

١. الكون بأسره يسجد لله ويسبّح بحمده.

٢. ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون ؟

٣. بيان حقيقة سجود الكائنات.

٤. ما المراد من السجود الطوعي والإكراهي ؟

٥. الحمد والتسبيح الكوني كيف ؟

٦. آراء المفسّرين في تسبيح الكائنات.

٧. النظرية الأُولى.

٨. النظرية الثانية.

٩. النظرية الثالثة.

١٠. النظرية الرابعة.

١١. القرآن وسريان الشعور في عموم الموجودات.

١٢. القرآن وسريان الشعور في الجمادات.

١٣. البرهان العقلي على هذا الرأي.

١٤. سريان الشعور والعلم الحديث.

٢٢٨

ذرّات الكون بأجمعها تسجد لله وتسبّح بحمده

من الحقائق الجليلة والمعارف الرفيعة التي تضمّنها القرآن الكريم هو إخباره عن سجود الكائنات ـ بأجمعها ـ لله وتسبيحها له سبحانه.

وتلك حقيقة عليا لم تسمع إذن الدهر من غير هذا الكتاب العزيز بمثل هذا التفصيل والشمولية.

وبعبارة أُخرى فإنّ القرآن الكريم يخبرنا ـ وفي صراحة كاملة ـ أنّ جميع أجزاء العالم ـ بدءاً من الذرة حتى أعظم مجرّة ـ تقوم بثلاث وظائف وأعمال كبرى هي :

١. السجود لله تعالى.

٢. حمده وتمجيده عز شأنه.

٣. تسبيحه وتنزيهه سبحانه.

وكأنّ الكون بأسره: « كتلة واحدة » من الخضوع والخشوع، والشعور والإحساس والوعي.

أو كأنّ الكون ـ بجميع أجزائه وذرّاته ـ لسان واحد ينطق بحمد الله، ويلهج بثنائه، وقلب واحد ينبض بتمجيده، ويؤدّي السجود له.

٢٢٩

والفرق بين السجود والتسبيح والحمد واضح.

أمّا السجود فهو الخضوع أمام كماله المطلق، أو الخضوع أمام أنعامه وأفضاله.

وأمّا الفرق بين الحمد والتسبيح فيتلخص في أنّ الحمد تمجيد لله وثناء عليه بالجميل الاختياري، في حين أنّ حقيقة التسبيح تعني أنّ موجودات هذا العالم بأجمعها تنزهّه عن أي نقص وعيب.

قال الراغب ـ في مفرداته: ـ « الحمد لله: الثناء عليه بالفضيلة وهو أخص من المدح، وأعم من الشكر، فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره وغيره، فقد يمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه والحمد يصح في الثاني دون الأوّل، والشكر لا يقال إلّا في مقابلة نعمة فكل شكر حمد وليس كل حمد شكراً، وكلّ حمد مدح وليس كل مدح حمداً »(١) .

إذا تبين هذا فإنّ علينا الآن أن نتحدث بالتفصيل عن هذه الأُمور الثلاثة التي هي من معارف القرآن العليا.

ذرّات الكون بأجمعها تسجد لله

طرح القرآن الكريم قضية « سجود الكائنات بأسرها لله » في صور مختلفة.

ففي بعض الآيات تحدّث عن سجود ذوات الشعور من موجودات هذا العالم خاصة إذ قال :

( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُمْ بِالغُدُوِّ

__________________

(١) مفردات الراغب باب الحاء: حمد.

٢٣٠

والآصَالِ ) (١) .

ففي هذه الآية(٢) أُشير إلى سجود الموجودات العاقلة خاصة، بدلالة لفظة( مَن ) في قوله( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ ) مع العلم بأنّ ( مَن ) تستعمل في العقلاء.

وبما أنّ الآية تخبر عن سجود الموجودات العاقلة كلّها بلا استثناء، لا يمكن حملها على السجود التشريعي الصادر من المؤمنين لأجل امتثال أمر إلههم، لأنّه من الواضح عدم عمومية هذا النوع من السجود لكل من له عقل وفكر، فإنّ كثيراً من الناس يتركون عبادة ربهم والسجود له، فعندئذٍ يجب تفسير الآية بالسجود التكويني الذي سنبيّن مفاده.

وقد أُشير إلى هذا النوع من السجود، أعني: سجود العقلاء، أيضاً في سورة النحل إذ يقول :

( وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وما فِي الأرض مِنْ دَابَّة وَالمَلاَئِكَةُ ) (٣) .

والشاهد فيها هو سجود الملائكة.

وفي سورة الحج إذ يقول :

( أَلَمْ تَرَ أَن اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض ) (٤) .

__________________

(١) الرعد: ١٥.

(٢) محل الاستشهاد هو قوله سبحانه:( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّماواتِ ) باعتبار لفظ « من » وإن كانت لفظة « وظلالهم » دالة على سجود الموجودات غير العاقلة أيضاً، لكن بهذا الاعتبار تدخل الآية في الطائفة الرابعة الآتية.

(٣) النحل: ٤٩.

(٤) الحج: ١٨.

٢٣١

وفي طائفة أُخرى من الآيات تحدّث القرآن عن نطاق أوسع للسجود، فتحدّث عن سجود كلّ الدواب، إذ يقول ـ كما في الآية المتقدمة ـ.

( وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَمَا فِي الأرض مِنْ دَابَّة ) (١) .

ثم تحدث ثالثاً عن سجود النباتات والأشجار إذ قال :

( وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان ) (٢) .

ثم تحدّث رابعاً عن سجود أكثر شمولاً، إذ قال وهو يخبر عن سجود ظلال الأجسام :

( أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ الله مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ) (٣) .

وقد تقدم في التعليقة السابقة دلالة قوله:( وَظِلالُهُمْ ) على مفاد هذه الآية أيضاً.

وتحدّث خامساً عن سجود الشمس والقمر والكواكب والجبال والشجر والدواب إذ يقول :

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض والشمس والقمر وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) (٤) .

فهذه النصوص القرآنية تفيد بأنّ السجود ظاهرة عامة، وحالة تشمل كل

__________________

(١) النحل: ٤٩.

(٢) الرحمن: ٦.

(٣) النحل: ٤٨.

(٤) الحج: ١٨.

٢٣٢

أجزاء هذا الوجود دون أن تختص بشيء معين.

إنّ ما هو المهم ـ هنا ـ هو فهم حقيقة هذا السجود، وكيف أنّ هذه الموجودات أجمع ( عاقلها وغير عاقلها ) تظهر الخضوع أمام الله وتسجد له سبحانه.

ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون ؟

يؤدّي الإنسان عمل السجود ـ عادة ـ بالهوي إلى الأرض، ووضع الجبين أو الذقن على التراب، وإلى هذا يشير القرآن الكريم إذ يقول :

( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للإذْقَانِ سُجَّداً ) (١) .

وهذه الهيئة ـ ما هي في الحقيقة ـ إلّا الشكل الظاهري للسجود، ولكن جوهرها وروحها هو « إظهار غاية التذلّل والخضوع أمام المعبود ».

وهنا ينطرح هذا السؤال وهو: هل يلزم ـ في السجود ـ وجود هيئة خاصة بحيث لا يصح استعمال هذه اللفظة مع عدم تلك الصورة الخاصة، أو أنّ ملاك السجود هو مجرد إظهار الخضوع، فإذا تحقّق ذلك، تحقّقت حقيقة السجود وصح إطلاق لفظة السجود على ذلك المورد دونما إشكال، حتى وان لم يكن في البين تلك الهيئة الخاصة، حتى أنّ إطلاق السجود على الهيئة الخاصة ليس إلّا باعتبار أنّ تلك الهيئة تحكي في نظر العرف عن غاية التواضع ومنتهى الخضوع وباعتبار أنّها ـ في الحقيقة ـ طريق إلى إظهار الصغار والتذلّل أمام المعبود ؟

__________________

(١) الإسراء: ١٠٧.

٢٣٣

الحق أنّ القرآن يختار في هذه المسألة الطريق الثاني، بمعنى أنّ السجود في نظر القرآن الكريم هو إظهار التذلّل والخضوع في أية صورة تحقّق وفي أي شكل وقع.

ويدلّ عليه أنّ أئمّة اللغة فسّروا السجود بالذل والتطامن تارة، وطأطأة الرأس وانحنائه تارة أُخرى بلا إشارة إلى الهيئة المخصوصة الرائجة.

قال ابن فارس: « سجد يدلّ على تطامن وذل، يقال: سجد، إذا تطامن وكل ما ذلّ فقد سجد، قال أبو عمرو: سجد الرجل، إذا طأطأ رأسه وانحنى.

قال أبو عبيدة أنشدني أعرابي أسدي :

« وقلن له اسجد للبلى فاسجدا ».

يعني البعير إذا طأطأ رأسه »(١) .

قال الراغب في مفرداته: « السجود أصله التطامن والتذلّل، وجعل ذلك عبارة عن التذلّل لله وعبادته، وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد، وذلك ضربان :

سجود باختيار وليس ذلك إلّا للإنسان.

وسجود تسخير وهو للإنسان والحيوان والنبات حتى فسر قوله تعالى:( وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً ) (٢) ، بقوله متذلّلين منقادين »(٣) .

وعلى ذلك فاحتمال انّ السجدة مختصة بالهيئة المخصوصة واستعمالها في

__________________

(١) المقاييس: ٢ / ١٣ مادة سجد.

(٢) البقرة: ٥٨.

(٣) مفردات الراغب: مادة سجد.

٢٣٤

غيرها مجاز، بعيد، كاحتمال أنّ المقصود هو أنّنا ندرك الخضوع والسجود من الموجودات غير الشاعرة لا أنّها تظهر من نفسها التذلّل والخضوع الذي هو أبعد، لكونه خلاف المتبادر من نسبة السجود إلى ذوات الموجودات بأنفسها، لا أنّ الغير يدرك ذلك منها من دون أن توجد حقيقة السجود في ذواتها.

على أنّ العرف والعقل هما أيضاً اختارا هذا الطريق ( أي عدم الخصوصية ) في أمر استعمال الألفاظ.

فعندما استعملت لفظة المصباح على المصابيح البدائية كالشمعة التي لا تضيء إلّا بضع سانتيمترات حولها وما عداها من المصابيح البدائية ذات الهيئة الخاصة التي لا تشبه المصابيح الضخمة الحاضرة في أية جهة من الجهات.

أقول: يوم استعملت هذه اللفظة أُريد منها ـ في الحقيقة ـ ما يضيء، ولذلك حيث إنّ خاصية تلكم المصابيح القديمة موجودة ـ بذاتها ـ في المصابيح الحاضرة وبنحو أكمل جاز وصح استعمال اللفظة المذكورة في المصابيح الضخمة القوية الضوء، أيضاً دون أي تغيير.

حقيقة سجود الكائنات

جميع الكائنات في هذا الوجود، تظهر من نفسها التذلّل والخضوع لله، وبنحو خاص.

وإنّ أعلى مظاهر ذلك الخضوع، والتذلّل لله هو كون العالم بأسره تحت أمره سبحانه وفي قبضته، وهو كونها ـ دون استثناء ـ مطيعة له تعالى، ومؤتمرة بأوامره، وخاضعة لمشيئته المطلقة.

٢٣٥

وبتعبير آخر: انّ علامة هذا الخضوع الكوني الشامل هو: سيادة الإرادة الواحدة على الكون برمّته واتّباع كلّ أجزاء هذا العالم لتلك الإرادة العليا الواحدة دون مقاومة، أو تمرّد، ودون طغيان أو تردّد.

وبناء على هذا لا يمكن تصور أي نوع من « الإكراه والكراهية » في السجود بهذا المعنى ونعني به: الإطاعة المطلقة للأرادة الإلهية النافذة في مجال التكوين.

إذ « الإكراه » إنّما يتصور عندما يملك الشيء إرادة واختياراً من نفسه، ليتمكن من معاندة المكره ومقاومته، ومخالفة أمره في حين لا يملك أي واحد من هذه الكائنات « وجوده » دون الاستناد إلى الله، فكيف يمكن لها ـ والحال هذه ـ أن تخالف مشيئة الله، ويصدق عليها أنَّها مكرهة في سجودها أمام العظمة الإلهية، وخضوعها أمام المشيئة الربانية ؟

السجود الطوعي والإكراهي

إذا كان معنى السجود هو خضوع الموجود أمام إرادة الله ومشيئته، فلا معنى لتقسيمه إلى الطوعي والإجباري مع أنّا نرى القرآن الكريم يثبت للإنسان ولغيره من ذوي العقول نوعين من السجود إذ يقول :

( وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً ) (١) .

سجود عن طواعية ورغبة.

وسجود عن كراهية وإجبار.

وفي هذه الصورة لابد أن نختار لهذين النوعين من السجود معنى آخر غير

__________________

(١) الرعد: ١٥.

٢٣٦

ما سلف فنقول: إنّ المراد ب‍ « السجود الطوعي » هو قبول تلك الحالات الملائمة للطبع البشري أو لطبع أي موجود آخر، كالنمو، ودوران الدم، وضربان القلب، بينما يكون المقصود ب‍ « السجود الإجباري » هو قبول تلك الحالات المنافية للطبع كالموت والبلاء والمحنة التي تقضي على الإنسان أو الحيوان قبل حلول أجله الطبيعي.

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم استعمل هاتين اللفظتين: « طوعاً وكرهاً » في مورد سجود السماوات والأرض، ومن الطبيعي أنّ المقصود من ذلك هو ما قلناه كذلك.

فمراد الله من خطابه للسماوات والأرض إذ يقول لهما:( ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) هو دعوة السماوات والأرض إلى أن تقبل أي نوع من التغيّرات والتبدّلات والحالات سواء أكانت ملائمة لطبعها أم لا ؟

وعلى هذا فإنّ قبول الشيء للوجود، وقبوله لأي نوع من التصرّفات سواء أكانت موافقة لطبعه أم مخالفة له، خضوع وإظهار للتذلّل أمام الله، غاية ما هنالك أنّ قبول هذه الأُمور قد يكون كلّه عن رغبة وطواعية باعتبار، وقد يكون قبول بعض هذه الحالات عن كراهية عندما تكون على خلاف طبع الشيء.

على أنّه ليس وجود الموجودات هو وحده في قبضة الله تعالى، بل ظلالها هي الأُخرى تابعة لإرادته تعالى في حركاتها، وتحوّلاتها، بكرة وعشياً كما قال سبحانه :

( أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ الله مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً للهِ ) (١) .

__________________

(١) النحل: ٤٨.

٢٣٧

فهل ترى يجوز للإنسان ـ وهو يجد جميع الكائنات حتى ظلالها تسبِّح لله وحده.

هل يجوز لهذا الإنسان أن يشرك في سجوده أو يمتنع من الخضوع أمامه تعالى، وله يسجد كل ما عداه ؟!

وبعد أن تعرّفنا على معنى سجود الموجودات آن الأوان أن نتحدّث بتفصيل أكثر عن تسبيحها وحمدها لله وتمجيدها له سبحانه.

* * *

إذا وقفت على ما تعنيه آيات السجود فلا يمكن أن يستفاد منها علم الموجودات بسجود نفسها، بعد ما كان معنى السجود هو مطلق خضوعها وتذلّلها لدى إرادة بارئها.

نعم يستفاد سريان العلم في جميع الموجودات من آيات التسبيح كما سيمر عليك.

الحمد والتسبيح الكونيان كيف ؟

كل الكائنات ـ في هذا الوجود ـ تسبح لله، وتحمده، وتمجّده.

هذه ـ كما قلنا ـ حقيقة نطق بها الكتاب العزيز في أكثر من موضع.

وقد مر عليك أنّ الحمد يعني ثناء الموجودات على الله، لأجل أفعاله الجميلة وكمالاته الاختيارية، وأنّ التسبيح يعني تنزيهه عن كل عيب ونقيصة، وبالتالي وصف الله بالتنزيه عن الصفات السلبية التي لا تليق بشأنه.

قال ابن فارس في مقاييسه: « التسبيح: هو تنزيه الله جل ثناؤه من كل سوء ،

٢٣٨

والتنزيه: التبعيد، والعرب تقول: سبحان من كذا: أي ما أبعده ».

وحيث إنّ بعض الآيات ذكرت كلا اللفظين في مكان واحد، لذلك سنبحث عنهما في مقام واحد أيضاً دون تفريق.

وسنذكر كل الآيات الواردة في هذا الباب فيما يأتي.

* * *

١. ربما عرض القرآن موضوع تسبيح الموجودات في نطاق واسع، واعتبره أمراً عاماً، وحالة شاملة لكل الكائنات بلا استثناء عندما يقول :

( سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمٰوَاتِ والأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (١) .

ولفظة ( ما ) على العكس ممّا يتصوره البعض، تستعمل في العاقل وغيره، والمقصود ـ هنا ـ في هذه الآية هو كل موجود وكائن في السماوات والأرض.

وعلى هذا الغرار أيضاً كل ما جاء في المواضع التالية من القرآن :

( سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (٢) .

( يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ والأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (٣) .

( سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (٤) .

( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وما فِي الأرض المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ) (٥) .

__________________

(١) الحديد: ١.

(٢) الحشر: ١.

(٣) الحشر: ٢٤.

(٤) الصف: ١.

(٥) الجمعة: ١.

٢٣٩

( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) .

على أنّ أشد آية صراحة في هذا الشأن هو قوله تعالى :

( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ والأرضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ) (٢) .

والجدير بالذكر أنّ هذه الآية تحمل في ذيلها دليل ما ادّعيناه وهو قوله :

( ولكِنْ لا تَفْقَهوُنَ تَسْبِيحَهُمْ ) (٣) .

وهي عبارة تكشف عن أنّ التسبيح العام أمر واقع وكائن، ولكن البشر لا يفقه ذلك.

٢. وربّما تحدّث القرآن عن تسبيح الملائكة بالصراحة تارة، وبالكناية تارة أُخرى، إذ يقول :

( وَالمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) (٤) .

وقد ورد الإخبار بتسبيح الملائكة في آيات أُخرى غير هذه الآية أيضاً، وهي :

( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) (٥) .

__________________

(١) التغابن: ١.

(٢) و (٣) الإسراء: ٤٤.

(٤) الشورى: ٥.

(٥) الأعراف: ٢٠٦.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672