مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 155025 / تحميل: 6027
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بنود الصّلح

٢٢١
٢٢٢

واختلف المؤرخون اختلافا كثيرا فيمن بادر لطلب الصلح فأبن خالدون وجماعة من المؤرخين ذهبوا الى أن المبادر لذلك هو الامام الحسنعليه‌السلام بعد ما آل أمره الى الانحلال(1) ، وذهب فريق آخر الى أن معاوية هو الذي بادر لطلب الصلح بعد ما بعث إليه برسائل أصحابه المتضمنة للغدر والفتك به متى شاء معاوية أو أراد(2) ، وذكر السبط ابن الجوزي أن معاوية قد راسل الامام سرا يدعوه الى الصلح فلم يجبه ، ثم أجابه بعد ذلك(3) ، وأكبر الظن ان معاوية هو الذي استعجل الصلح وبادر إليه وذلك خوفا من العراقيين أن ترجع إليهم أحلامهم ، ويثوب إليهم رشدهم وذلك لما عرفوا به من سرعة الانقلاب وعدم الاستقامة على رأي ، ومما يدل على ان معاوية هو الذي ابتدأ في طلب الصلح ، خطاب الامام الحسن الذي ألقاه في المدائن فقد جاء فيه « ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة ».

__________________

(1) تاريخ ابن خالدون 2 / 186 ، وفي الاصابة انه لما طعن الامام بخنجر دعا عمرو بن سلمة الأرحبى وأرسله الى معاوية يشترط عليه ، وفي الكامل 3 / 205 قال لما رأى الامام الحسن تفرق الأمر عنه كتب الى معاوية ، وذكر ذلك ابن أبي الحديد 4 / 8.

(2) الارشاد ص 170 ، كشف الغمة ص 154 ، مقاتل الطالبيين ص 26

(3) تذكرة الخواص ص 206 ، وذكر الحاج احمد افندي في فضائل الأصحاب ص 157 انه يمكن الجمع بين الأخبار بأن معاوية أرسل له أولا في الصلح فكتب الحسن إليه ثانيا يطلب ما ذكر ، وأجملت بعض المصادر الأمر ، فقال اليعقوبي في تأريخه 2 / 192 : لما رأى الحسن أن لا قوة به وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له صالح معاوية ، وكذا ذكر غيره.

٢٢٣

ومهما يكن من شيء فان تحقيق ذلك ليس بذي أهمية ، لأن الامام إن كان هو الذي استعجل الصلح فلا ضير عليه نظرا للمحن الشاقة التي أحاطت به حتى ألجأته الى المسالمة ، وإن كان معاوية هو الذي استعجل الصلح فلا ضير على الامام أيضا لما أوضحناه في أسباب الصلح ، والمهم البحث عن الشروط التي اشترطها الإمام على خصمه.

فقد اختلف التأريخ فيها اختلافا فاحشا ، واضطربت كلمات المؤرخين فى ذلك ، وفيما يلي بعض تلك الاقوال.

1 ـ ذكر بعض المؤرخين ان الامام أرسل سفيرين الى معاوية ، هما عمرو بن سلمة الهمداني ، ومحمد بن الأشعث الكندي ليستوثقا من معاوية ويعلما ما عنده. فأعطاهما معاوية هذا الكتاب وهذا نصه :

« بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان ، إني صالحتك على ان لك الأمر من بعدي ، ولك عهد الله وميثاقه وذمته ، وذمة رسوله محمد (ص) ، وأشد ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد ، لا أبغيك غائلة ولا مكروها ، وعلى أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال ، وعلى أن لك خراج پسا ودارابجرد ، تبعث إليهما عمالك ، وتصنع بهما ما بدا لك ». شهد بها عبد الله بن عامر ، وعمرو بن سلمة الكندي ، وعبد الرحمن بن سمرة ، ومحمد ابن الأشعث الكندي ، كتب في شهر ربيع الآخر سنة إحدى واربعين هجرية.

وتنص هذه الوثيقة على اعطاء معاوية للحسن ثلاثة أشياء :

1 ـ جعله ولي عهده.

2 ـ للإمام من بيت المال راتب سنوي ألف ألف درهم.

3 ـ منحه كورتين من كور فارس يرسل إليهما عماله ، ويصنع بهما ما شاء.

٢٢٤

واحتفظ الامام برسالة معاوية ، فأرسل إليه رجلا من بني عبد المطلب وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل وأمّه اخت معاوية فقال له : ائت خالك وقل له إن أمنت الناس بايعتك.

ولما انتهى عبد الله الى معاوية وعرض عليه مهمة الامام وهي طلب الأمن العام لعموم الناس ، استجاب له وأعطاه طومارا وختم في أسفله وقال له : فليكتب الحسن فيه ما شاء ، فجاء عبد الله بن الحارث بهذا التفويض المطلق الى الامام ، فكتب (ع) ما رامه من الشروط ، وسنذكر نص ما كتبه عند التعرض لبعض الروايات ، لأنه لا يختلف عنها ، وقد عول على هذه الرواية الدكتور طه حسين(1) .

2 ـ وروى كل من الطبري وابن الأثير صورة غير هذه وخلاصتها ان الامام راسل معاوية فى الصلح واشترط عليه امورا فان التزم بها ونفذها أجرى الصلح وإلا فلا يبرمه ، فلما وصلت رسالة الامام الى معاوية أمسكها واحتفظ بها ، وكان معاوية قبل ورود هذه الرسالة عليه قد بعث للامام صحيفة بيضاء مختوما في أسفلها ، وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت وقد وصلت هذه الصحيفة الى الامام بعد ما بعث الى معاوية الوثيقة التي سجل فيها ما أراده ، وسجل الامام في تلك الصحيفة البيضاء اضعاف الشروط التي اشترطها أولا ثم أمسكها ، فلما سلم له الأمر طلب منه الوفاء بالشروط التي اشترطها أخيرا ، فلم يف له بها وقال له : « لك ما كنت كتبت إليّ أولا تسألني أن أعطيكه فاني قد أعطيتك حين جاءني كتابك ، فقال له الحسن (ع) : وأنا قد اشترطت حين جاءني كتابك وأعطيتني العهد على

__________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 200.

٢٢٥

الوفاء بما فيه ، فاختلفا في ذلك ، فلم ينفذ للحسن من الشروط شيئا »(1) .

وهذه الرواية لم تذكر لنا الشروط التي اشترطها الامام « أولا » ولا ما سجله. « ثانيا » في الصحيفة البيضاء التي بعث بها معاوية إليه إلا أن أبا الفداء في تأريخه نص على الشروط الاولى التي اشترطها الامام فقال : « وكتب الحسن الى معاوية واشترط عليه شروطا وقال : إن أجبت إليها فأنا سامع مطيع ، فأجاب معاوية إليها ، وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة ، وخراج دارابجرد من فارس ، وأن لا يسب عليا ، فلم يجبه الى الكف عن سب علي فطلب الحسن أن لا يشتم عليا وهو يسمع فأجابه الى ذلك ، ثم لم يف له به »(2) .

وعندي ان ما ذكره ابن الأثير والطبري بعيد عن الصحة كل البعد وذلك لأن الشروط التي اشترطها الامام أخيرا إن كانت ذات أهمية بالغة فلما ذا أهملها ولم ينص عليها في بداية الأمر؟ ولو اغمضنا النظر عن ذلك فأي فائدة فى تسجيلها مع عدم اطلاع معاوية عليها وإقراره لها ، مضافا لذلك ان معاوية في تلك المرحلة لو سأله الإمام أي شيء لأجابه إليه.

3 ـ وروى ابن عبد البر : « ان الإمام كتب الى معاوية يخبره أنه يصيّر الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه ، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلا أنه قال : أما عشرة انفس فلا أؤمنهم ، فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول : إني قد آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده ، فراجعه الحسن إني لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا

__________________

(1) الكامل 3 / 205 ، الطبري 6 / 93.

(2) تأريخ ابي الفداء 1 / 192.

٢٢٦

أو غيره بتبعة ، قلت : أو كثرت! فبعث إليه معاوية حينئذ برق أبيض وقال : اكتب ما شئت فيه وأنا التزمه ، فاصطلحا على ذلك ، واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده ، فالتزم ذلك كله معاوية »(1) .

وقد احتوت هذه الرواية على أن أهم ما طلبه الامام الأمن العام لعموم اصحابه واصحاب أبيه ، ولا شك ان هذا الشرط من أوليات الشروط وأهمها عند الامام أما ان الصلح جرى بهذا اللون فأنا أشك في ذلك.

4 ـ وذكر جماعة من المؤرخين ان الإمام ومعاوية اصطلحا وارتضيا بما احتوته الوثيقة الآتية وقد وقّع عليها كل منهما وهذا نصها :

بسم الله الرحمن الرحيم

« هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب ، معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على ان يعمل فيهم بكتاب الله ، وسنّة رسوله ، وسيرة الخلفاء الصالحين ، وليس لمعاوية بن ابي سفيان ان يعهد الى احد من بعده عهدا ، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ، وعلى ان الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله فى شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى ان اصحاب علي وشيعته آمنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم ، وعلى معاوية بن ابي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وما أخذ الله على احد من خلقه بالوفاء ، وبما اعطى الله من نفسه ، وعلى ان لا يبغي للحسن بن علي ، ولا لأخيه الحسين ، ولا لأحد من اهل بيت رسول الله (ص) غائلة سرا ولا جهرا ، ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق ، شهد عليه فلان ابن فلان بذلك ، وكفى

__________________

(1) الاستيعاب 1 / 370.

٢٢٧

بالله شهيدا »(1) .

وهذه الصورة افضل صورة وردت مبينة لكيفية الصلح فقد احتوت على امور مهمة يعود صالح الأكثر منها الى عموم المسلمين إلا انا نشك في ان ما احتوت عليه هذه الوثيقة هو مجموع ما طلبه الإمام واراده ، ونذكر فيما يلي مجموع الشروط التي ذكرها رواة الأثر وإن كان كل واحد منهم لم يذكرها بأسرها إلا ان بعضهم نص على طائفة منها ، والبعض الآخر ذكر طائفة اخرى ، وقد اعترف الفريقان ان ما ذكره كل واحد من الشروط ليس جميع ما اشترطه الإمام وإنما هي جزء من كل ، وها هي :

1 ـ تسليم الأمر الى معاوية على ان يعمل بكتاب الله ، وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) وسيرة الخلفاء الصالحين(3) .

2 ـ ليس لمعاوية ان يعهد بالأمر الى احد من بعده والأمر بعده للحسن(4)

__________________

(1) الفصول المهمة لابن الصباغ ص 145 ، كشف الغمة للإربلي ص 170 البحار 10 / 115 ، فضائل الأصحاب ص 157 ، الصواعق المحرقة ص 81.

(2) ذكرت هذه المادة في صورة المعاهدة التي ذكرناها ، وذكرها ابن ابي الحديد في شرح النهج 4 / 8.

(3) البحار 10 / 115 ، النصائح الكافية ص 159 ( الطبعة الثانية ) اخذه عن فتح الباري ، وصحيح البخاري.

(4) الاصابة 1 / 329 ، الطبقات الكبرى للشعراني ص 23 ، حياة الحيوان للدميري 1 / 57 ، تهذيب 2 / 229 ، تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 199 ، ذخائر العقبى ص 139 ، الامامة والسياسة 1 / 171 ، ينابيع المودة ص 293 ، وجاء فيه ان يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.

٢٢٨

فان حدث به حدث فالأمر للحسين(1) .

3 ـ الأمن العام لعموم الناس الأسود والأحمر منهم سواء فيه ، وان يحتمل عنهم معاوية ما يكون من هفواتهم ، وان لا يتبع احدا بما مضى ، وان لا يأخذ اهل العراق بإحنة(2) .

4 ـ ان لا يسميه امير المؤمنين(3) .

5 ـ ان لا يقيم عنده الشهادة(4) .

6 ـ ان يترك سب امير المؤمنين(5) وان لا يذكره إلا بخير(6) .

7 ـ ان يوصل الى كل ذي حق حقه(7) .

8 ـ الأمن لشيعة امير المؤمنين وعدم التعرض لهم بمكروه(8) .

9 ـ يفرق في أولاد من قتل مع ابيه في يوم الجمل وصفين الف الف درهم ، ويجعل ذلك من خراج دارابجرد(9) .

__________________

(1) عمدة الطالب في انساب آل ابي طالب لجمال الحسني ص 52.

(2) الدينوري ص 200 ، مقاتل الطالبيين ص 26.

(3) تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 206.

(4) اعيان الشيعة 4 / 43.

(5) نفس المصدر.

(6) مقاتل الطالبيين ص 26 ، شرح النهج 4 / 15.

(7) الفصول المهمة لابن الصباغ ص 144 ، ومناقب ابن شهر اشوب 2 / 167.

(8) اعيان الشيعة 4 / 43 ، الطبري 6 / 97 ، علل الشرائع ص 81.

(9) البحار 10 / 101 ، تأريخ دول الإسلام 1 / 52 ، الامامة والسياسة ص 200 ، تاريخ ابن عساكر 4 / 221 ، وجاء فيه ان يعطيه خراج پسا ودارابجرد.

٢٢٩

10 ـ ان يعطيه ما في بيت مال الكوفة(1) ويقضي عنه ديونه ويدفع إليه في كل عام مائة الف(2) .

11 ـ ان لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأهل بيت رسول الله (ص) غائلة سرا ولا جهرا ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق(3) .

هذه بنود الصلح ومواده التي ذكرها رواة الأثر اما ان الإمام قد اشترطها كلها او بعضها فسوف نذكر ذلك عند دراسة الشروط وتحليلها ، وقبل ان نلقي الستار على هذا الفصل لا بد لنا من التعرض الى انه فى اي مكان جرى الصلح وفى اي زمان نفذ؟

مكان الصلح :

اما المكان الذي جرى فيه الصلح فقد كان في مسكن حسب ما ذكرته اوثق المصادر ، ففي تلك البقعة ابرم الصلح ونفذ امام جمع حاشد من الجيش العراقي والشامى ، وذهب بعض المؤرخين إلى انه وقع في بيت المقدس(4) ، وذهب بعض آخر إلى انه وقع بأذرح من ارض الشام(5) وهذان القولان من الشذوذ بمكان فلا يعول عليهما.

__________________

(1) تأريخ دول الإسلام 1 / 53.

(2) جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام ص 112.

(3) البحار 10 / 115 ، النصائح الكافية ص 160.

(4) تأريخ الخميس 2 / 323 ، دائرة المعارف للبستاني 7 / 38.

(5) تذكرة الخواص ص 206.

٢٣٠

عام الصلح :

وكما اختلف المؤرخون في المكان الذي وقع فيه الصلح فقد اختلفوا في الزمان أيضا ، فقد قيل : إنه كان سنة 41 هجرية فى ربيع الأول ، وقيل : فى ربيع الآخر ، وقيل : في جمادى الأولى ، وعلى الأول تكون خلافته خمسة أشهر ونصف ، وعلى الثاني فستة أشهر وأيام ، وعلى الثالث فسبعة أشهر وايام(1) ، وقيل : وقع الصلح سنة اربعين من الهجرة فى ربيع الأول(2) ، وقيل غير ذلك ، والأصح ان مدة خلافته كانت ستة اشهر حسب ما ذكره اكثر المؤرخين.

وعلى أي حال فقد اصطلح بعض المؤرخين على تسمية ذلك العام ـ الخالد في دنيا الأحزان ـ بتسميته بعام الجماعة ، نظرا لاجتماع كلمة المسلمين بعد الفرقة ، ووحدتهم بعد الاختلاف ، ولكن الحق ان هذه التسمية من باب تسمية الضد باسم ضده لأن المسلمين منذ ذلك العام قد وقعوا في شر عظيم ، وانصبت عليهم الفتن كقطع الليل المظلم ، حتى تغيرت معالم الدين ، وتبدلت سنن الإسلام ، وآلت الخلافة الإسلامية الى المصير المؤلم تنتقل بالوراثة من ظالم الى ظالم حتى اغرقت البلاد فى الدماء والماسي والشجون ، يقول الجاحظ : « فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية

__________________

(1) تأريخ أبي الفداء 1 / 193.

(2) تهذيب التهذيب 2 / 299 ، وجاء فى الاستيعاب ان الإمام سلم الأمر الى معاوية فى النصف من جمادى الاولى سنة 41 ه‍ وكل من قال : إنه كان سنة اربعين فقد توهم ، وفي تأريخ سينا ان الامام تنازل عن الخلافة في 26 ربيع الثاني سنة 41 ه‍.

٢٣١

الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه ( عام الجماعة ) وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا ، والخلافة منصبا قيصريا »(1) .

لقد انفتح باب الجور على مصراعيه منذ ذلك العام الذي تم فيه الملك الى ( كسرى العرب ) فقد لا فى المسلمون وخصوصا شيعة آل محمد (ص) من العناء والظلم والإرهاق ما لم يشاهد له التاريخ نظيرا فى فظاعته وقسوته يقول ابن أبي الحديد عما جرى على المسلمين بعد عام الصلح : « ولم يبق أحد من المؤمنين إلا وهو خائف على دمه أو مشرد في الأرض ، يطلب الأمن فلا يجده » ، وبعد هذا الظلم الشامل والجور المرهق هل يصح أن يسمى ذلك العام عام الجماعة والألفة؟

دراسة وتحليل :

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى تحقيق الشروط التي اشترطها الإمام على معاوية ، كما لا بد من دراستها والإحاطة بها ـ ولو إجمالا ـ لأنها قد احتوت على امور بالغة الأهمية ، فقد الغمت نصر معاوية ببارود ، وعادت عليه بالخزي ، واخرجته من حكام العدل الى حكام الجور والظالمين.

اما الشروط التي ذكرت فانا نؤمن بجميعها سوى شرطين ، وهما : ان يكون للإمام ما في بيت مال الكوفة ، ومنحه راتب سنوي له ، ولأخيه

اما ( الاول ) فهو بعيد لأن ما في خزانة الكوفة من الأمتعة والأموال قد كانت تحت قبضة الإمام وبيده ، يتصرف فيها حيثما اراد ، ولم تكن

__________________

(1) الغدير 10 / 227.

٢٣٢

محجوبة عنه أو ممنوعة عليه حتى يشترط على معاوية أن يمكنه منها ، على أنا نشك ان خزانة الدولة قد احتوت على أموال كثيرة لأن سياسة أهل البيت تقضي بصرف المال فورا على ما خصصه الإسلام لها.

وأما ( الثاني ) فهو بعيد لأن الإمام كان في غنى عن أموال معاوية ، وليس بحاجة لها ، ولو سلمنا ذلك فانه لا ضير على الإمام من أخذها ، لأن انقاذ أموال المسلمين من حكام الجور أمر لازم كما سنوضحه عند التعرض لسفر الإمام الى دمشق ، والذي أراه أن معاوية قد أعطى الامام فى بداية الأمر هذين الشرطين ، فتوهم بعض المؤرخين أنهما من جملة الشروط التي اشترطها الإمام عليه.

وعلى أي حال ، فان تلك الشروط كانت تهدف الى طلب الأمن العام ، والسلم الشامل لجميع المسلمين ، وتدعوهم في نفس الوقت الى اليقظة والتحرر من الاستعباد الأموي ، كما دلت على براعة الإمام في الاحتفاظ بحقه الشرعي ، والتدليل على غصب معاوية له ، وإنه لم يتنازل له عن حقه ، اما محتويات الشروط فهي كما يلي :

1 ـ العمل بكتاب الله :

ولم يخل الإمام بين معاوية وبين المسلمين يتصرف في شئونهم حيثما شاء ، فقد أخذ عليه أن لا يعدو الكتاب والسنة في سياسته وسياسة عماله ، ولو كان يراه يسير على ضوء القرآن ، ويسير على منهج الإسلام لما شرط عليه ذلك ، وجعله من أهم الشروط الأساسية التي ألزمه بها.

٢٣٣

2 ـ ولاية العهد :

وعالج الإمام نقطة مهمة في تلك المعاهدة ، وهي مصير الخلافة الاسلامية بعد هلاك معاوية ، فقد شرط عليه أن تكون الخلافة له ولأخيه من بعده ، وصرحت بعض المصادر ان الامام اشترط عليه أن يكون الأمر شورى بين المسلمين بعد هلاك معاوية ، وعلى كلا القولين فقد أرجع الامام الخلافة الى كيانها الرفيع ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه باتجاهاته السيئة ، وانه لا بد أن ينقل الخلافة الاسلامية من واقعها الى الملك العضوض ، ويجعلها في عقبه من شذاذ الآفاق والمجرمين ، فأراد الامام ايقاظ المجتمع ، وبعثه الى مناجزته إن قدم على ذلك.

3 ـ الأمن العام :

وأهم ما ينشده الإمام من تلكم الشروط هو بسط الأمن ، ونشر العافية بين جميع المسلمين سواء الأسود منهم والأحمر ، وقد دلّ ذلك على مدى حنانه وعطفه على جميع المسلمين ، كما نصت هذه المادة على أن لا يتبع أحدا بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة مما قد مضى ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيعاملهم به من الارهاق والتنكيل انتقاما لما صدر منهم فى أيام صفين.

4 ـ عدم تسميته بأمير المؤمنين :

وفي رفض الامام (ع) تسمية معاوية بأمير المؤمنين تجربد له من

٢٣٤

السلطة الدينية عليه وعلى سائر المسلمين ، ولم يلتفت معاوية الى هذه الطعنة النجلاء ، فانه إذا لم يكن على الحسن أميرا لم تكن له بالطبع على المسلمين امرة أو سلطان ، وكان بذلك حاكم جور وبغي ، وقد جرده بذلك من منصب الامامة والخلافة ، وأثبت له الغصب لهذا المركز العظيم.

5 ـ عدم اقامة الشهادة :

وهذه المادة قد فضحت معاوية وأخزته ، ودلت على أنه من حكام الجور ، فان اقامة الشهادة حسب ما ذكره الفقهاء إنما تقام عند الحاكم الشرعي ، فهي من الوظائف المختصة به ، وإذا لم تصح إقامة الشهادة عند معاوية فهو ليس بحاكم عدل وإنما هو حاكم جور ، وحكام الجور لا يكون حكمهم نافذا ، ولا تصرفهم ماضيا عند الشرع ، ويجب على الأمّة أن تزيلهم عن هذا المنصب الذي انيط به حفظ الدماء ، وصيانة الاعراض ، وحفظ الأموال ، وفى هذا الشرط بيّن الامام أنه صاحب الحق ، وان معاوية غاصب له ،

6 ـ ترك سب أمير المؤمنين :

وأظهر (ع) بهذا الشرط تمادي معاوية فى الاثم ، فقد علم أنه لا يترك سبّ أمير المؤمنين والحطّ من كرامته ، فأراد (ع) أن يبيّن للمجتمع الاسلامى مدى استهتاره ، وعدم اعتنائه بشئون الإسلام وتعاليمه ، فان سب المسلم وانتقاصه قد حرّمه الاسلام ، ولكن ابن هند لم يقم للإسلام وزنا ، فقد أخذ بعد إبرام الصلح يسب أمير المؤمنين على رءوس الأشهاد

٢٣٥

كما سنبين ذلك عند التعرض لخرقه شروط الصلح. ولا يخفى أن الامام قد فضحه بهذا الشرط وأماط عنه الستر الصفيق الذي تستر به باسم الدين.

7 ـ الامن العام للشيعة :

كان الامام (ع) حريصا أشد الحرص على شيعته وشيعة أبيه ، فقد صالح معاوية حقنا لدمائهم ، وحفظا عليهم ، وقد اشترط على معاوية أن لا يتعرض لهم بمكروه وسوء ، وهذا الشرط عنده من أهم الشروط وأعظمها قال سماحة المغفور له آل ياسين : « واعتصم فيها ـ أي في المعاهدة ـ بالأمان لشيعته وشيعة أبيه وإنعاش أيتامهم ليجزيهم بذلك على ثباتهم معه ، ووفائهم مع أبيه ، وليحتفظ بهم امناء على مبدئه ، وانصارا مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه يوم يعود الحق الى نصابه »(1) .

إن أغلب الشروط التي اشترطها الامام كانت تهدف لصالح شيعته وضمان حقوقهم وعدم التعرض لهم بأذى أو مكروه.

8 ـ خراج دارابجرد :

واشترط الامام على معاوية أموالا خاصة ينفقها على شيعته وشيعة أبيه وهي خراج دارابجرد(2) والوجه في هذا التخصيص إن الذي يجلب الى الدولة من الأموال يسمى بعضه بالفيء ، وهو المال المأخوذ من الأراضي

__________________

(1) صلح الحسن ص 258.

(2) دارابجرد : اراض واسعة بفارس على حدود الأهواز قد فتحها المسلمون عنوة.

٢٣٦

المفتوحة عنوة ، وهذا يصرف على المصالح العامة ، وعلى الشؤون الاجتماعية وذلك كتحسين الجيش ، وإنشاء المؤسسات وما شاكل ذلك من المشاريع الحيوية ، وقسم من الأموال يسمى ( بالصدقة ) وهي الضرائب المالية التي فرضها الاسلام في اموال مخصوصة وانواع من الواردات يدور عليها رحى سوق التجارة في العالم فرضها على الأغنياء تجلب منهم وتدفع الى الفقراء لمكافحة الفقر وقلع بذور البؤس ، فقد قال (ص) : « أمرت في الصدقة ان آخذها من اغنيائكم واردها فى فقرائكم » ، وقد كره الحسن ان يأخذ من هذه الأموال لنفسه أو لشيعته ، اما له فانها محرمة عليه لأن الصدقة حرام على آل البيت ، واما كراهة اخذها لشيعته فلأن اموال الصدقة لا تخلو من حزازة عليهم لأنها اوساخ الناس ، وقد كره (ع) ان يأخذ منها لشيعته ، وخصّ ما يأخذه لهم من دارابجرد ، لأنها قد فتحت عنوة ، وما فتح عنوة فهو ليس بصدقة ، وبذلك قد اختار لشيعته من الأموال ما هو ابعد عن الشبهة الشرعية وهي خراج دارابجرد التي هي للمسلمين وعلى الامام أن ينفقها على صالحهم.

9 ـ عدم البغى عليهم :

ومن مواد المعاهدة أن لا يبغي معاوية للحسن والحسين ، ولا لأهل بيت النبي (ص) غائلة ، ولا يخيف أحدا منهم ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيبغيه لهم من الشر والمكر ، فكان من غوائله لهم أنه دس السم للإمام ـ كما سنبينه ـ فأراد الإمام بهذا الشرط وبغيره من بنود الصلح أن يكشف الستار عن معاوية ، ويبدي عاره وعياره ، وانه لا ذمة ولا حريجة له في الدين.

٢٣٧

هذه بعض بنود الصلح ، وقد حفلت بعناصر ذات أهمية بالغة دلت على براعة الإمام ، وقابلياته الفذة فى التغلب على خصمه ، يقول سماحة المغفور له آل ياسين فى هذه المعاهدة :

« ومن الحق أن نعترف للحسن بن علي على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل إليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف ، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيين المحنكين ، وحكام الاسلام اللامعين ، ولن يكون الحرمان يوما من الأيام ، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة على طبيعة الزمان دليلا على ضعف أو منفذا الى نقد ، ما دامت الشواهد على بعد النظر وقوة التدبير ، وسمو الرأي ، كثيرة متضافرة تكبر على الريب وتنبو عن النقاش.

وللقابليات الشخصية مضاؤها الذي لا يعدم مجال العمل ، مهما حدّ من تيارها الحرمان أو ثنى من عنانها الفشل ، وها هي من لدن هذا الرجل تستجد ـ منذ الآن ـ ميدانها البكر القائم على الفكرة الجديدة القائمة على صيانة حياة أمّة بكاملها في حاضرها ومستقبلها ، بما تضعه المعاهدة من خطوط وبما تستقبل به خصومها من شروط »(1) .

__________________

(1) صلح الحسن ص 257.

٢٣٨

موقف الإمام الحسين

٢٣٩
٢٤٠

( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) (١) .

( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ *يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتَرُونَ ) (٢) .

( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ) (٣) .

( فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْئَمُونَ ) (٤) .

( وَتَرَىٰ المَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) (٥) .

٣. وربما ذكر القرآن ـ بعد الاخبار عن عموم التسبيح ـ تسبيح الطير إذ يقول:( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَالطَّيْرُ صَافَّات كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (٦) .

إنّ الإمعان في هذه الآية يفيد أنّ القرآن الكريم ينسب « العلم والوعي » إلى الفريق المسبِّح، ويصرّح بأنّ كل واحد من هذه الموجودات يعلم تسبيح نفسه بمعنى أنّ ما يقع منها من تسبيح يقع عن وعي وشعور بذلك، إذ يقول :

( كُلٌّ ( أي كل واحد من الموجودات العاقلة والطير )قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ

__________________

(١) الرعد: ١٣.

(٢) الأنبياء: ١٩ ـ ٢٠.

(٣) غافر: ٧.

(٤) فصلت: ٣٨.

(٥) الزمر: ٧٥.

(٦) النور: ٤١.

٢٤١

وَتَسْبِيحَهُ ) .

وقد ورد تسبيح الطير في آيات أُخرى، وهي :

( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ (١) ) (٢) .

( إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ *وَالطَيْرَ محْشُورَةً كُلٌّ ( من الجبال والطير )لَهُ أَوَّابٌ ) (٣) .

٤. وفي آيات أُخرى صرح القرآن الكريم بتسبيح الجبال في أوقات خاصة معينة، إذ يقول :

( إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ) (٤) .

وقد جاء تسبيح الجبال في آيات غير هذه الآية أيضاً، وهي :

( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ ) (٥) .

( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ) (٦) .

٥. وتحدث القرآن عن تسبيح الرعد، فقال :

( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) (٧) .

__________________

(١) عطف على محل الجبال، أي ودعونا الطير لتسبّح معه.

(٢) سبأ: ١٠.

(٣) ص: ١٨ و ١٩.

(٤) ص: ١٨.

(٥) الأنبياء: ٧٩.

(٦) سبأ: ١٠.

(٧) الرعد: ١٣.

٢٤٢

والآن يجب أن نعرف ماذا يعني التسبيح ؟

التسبيح لغة يعني التنزيه عن النقائص والمعايب.

فعندما ينزّه شخص أحداً عن النقائص والمعايب يقال: سبحه، وقدسه.

إذن فينطوي التسبيح على معنى التقديس والتنزيه، وأي تفسير للتسبيح لا يكون حاكياً عن تنزيه الله، وتقديسه من النقائص والعيوب لا يمكن أن يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولاً.

آراء المفسّرين في تسبيح الكائنات

إنّ بعض المفسّرين ـ وإن قال بأنّ المراد من لفظة ( ما ) في قوله تعالى:( مَا فِي السَّمٰوَاتِ ) هو الموجودات العاقلة المدركة الشاعرة كالإنسان والملائكة التي تقدّس الباري، وتنزّهه بكامل شعورها وإدراكها ووعيها ـ ولكن كثيراً من المفسّرين لم يرتضوا هذا الرأي وقالوا: بأنّ المقصود من ( ما ) هو مطلق الموجودات ( عاقلة وغير عاقلة، مدركة وغير مدركة ) وظاهر الآية يؤيد هذا الرأي، إذ أنّ لفظة ( ما ) تستعمل عادة في مطلق الموجودات على عكس ( من ) التي تطلق ـ في الأغلب ـ على أصحاب العقل والإدراك.

أضف إلى ذلك أنّ الآية الدالة على سجود الموجودات غير العاقلة لا تختص بالآيات التي وردت فيها لفظة ( ما )، بل كان هناك لفيف من الآيات ذكر فيها تسبيح الطير والجبال والرعد.

وعلى ذلك فالتوجيه المزبور لو صح لتم في القسم الأوّل من الآيات لا في القسم الثاني.

٢٤٣

وقد ذكر فريق من المفسّرين توجيهات مختلفة للتسبيح، ولكن أكثرها وإن كانت صحيحة غير أنّها لا ترتبط بالمعنى الحقيقي للتسبيح، وسوف نشير فيما يلي إلى جملة من هذه الآراء.

النظرية الأُولى(١)

قال أصحاب هذه النظرية: إنّ المراد من التسبيح هو « التسبيح التكويني » بمعنى أنّ وجود كل موجود حادث يشهد ـ بحدوثه ـ أنّ له صانعاً خالقاً حتى أنّ وجود المادي الملحد المنكر لله بلسانه، هو أيضاً، يشهد بوجود الخالق الصانع.

بيد أنّ هذا الرأي ـ رغم صحته واستقامته في حد نفسه ـ لا يمكن أن يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولاً للتسبيح، لما قلناه من انطواء التسبيح على معنى ( التنزيه ) والتقديس من العيوب والنقائص، ولا ربط لدلالة الموجودات على وجود خالق لها بمسألة « التنزيه » و « التقديس » عن العيب والنقص والشريك.

النظرية الثانية

وتقول هذه النظرية: إنّ المقصود من التسبيح هو « الخضوع التكويني » الذي يبديه كل واحد من الموجودات الكونية تجاه مشيئة الله وأمره، إذ نحن نلمس بالوجدان كيف يخضع كل الوجود بلا استثناء أمام الإرادة الإلهية، سواء أكان في تقبل الوجود، أم في اتّباع السنن الطبيعية التي قررها وأرساها الله في عالم الكون.

__________________

(١) هذه النظرية إجمال ما سيوافيك في النظرية الثالثة، ولعل مراد من فسر التسبيح بما في هذه النظرية، هو ما سيأتي في ثالثتها من أنّ العالم كما يدل على وجود خالقه يدل على صفاته من توحيده وعلمه و وعلى ذلك تتحد النظريتان.

٢٤٤

فهذه الطاعة المطلقة أزاء تلك الإرادة الإلهية العليا، وهذا الانصياع لتلكم السنن الإلهية هو « تسبيح الموجودات » ليس غير.

ثم يستدل أصحاب هذا الرأي على تسليم جميع الموجودات تجاه الإرادة الإلهية النافذة بآيات، مثل قوله تعالى :

( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَىٰ السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (١) .

وبناء على هذه النظرية فإنّ جميع الآيات التي نسب فيها « السجود » والخضوع إلى كل ما في السماوات والأرض، يمكن أن تكون مؤيدة للرأي المذكور.

ولكنّنا نتصور أنّ هذا الرأي غير صحيح هو أيضاً، ذلك لأنّ مسألة « خضوع » الوجود بأسره وبكل أجزائه، وتسليمه للسنن والقوانين الإلهية لا يرتبط بمسألة تنزيه الله، وتقديسه تعالى من العيب والنقص والشرك، وينبغي أن لا نخلط بين هذين الموضوعين، وإن كان كل منهما صحيحاً وصائباً في حد ذاته.

النظرية الثالثة

ذهب كثير من المفسّرين إلى تفسير تسبيح عموم الموجودات على النحو الآتي، إذ قالوا :

إنّّ النظام العجيب المستخدم في تكوين كل واحد من هذه الموجودات والدقة المتناهية في هذا النظام دليل على « قدرة » عليا و « حكمة » و « علم » مطلقين لصانعها وخالقها.

__________________

(١) فصلت: ١١.

٢٤٥

فالكيان المعقّد والعجيب لكل واحد من هذه الموجودات، والمليء بالأسرار كما يشهد بصدق وجلاء على صانع لها، كذلك يشهد ـ بلسان التكوين ـ على خالق واحد، عالم وقدير وحكيم، وعلى الجملة على « علم » ذلك الصانع و « حكمته » و « قدرته » وخلوّه عن أي نوع من الجهل والعجز والعي، بل يكفي في التسبيح دلالتها على صفاته الكمالية فقط، الملازم لدفع الصفات السلبية ولا يجب أن يكون بصورة سلب النقائص ابتداء.

ففي مجال تنزيه الله عن « الشريك » مثلاً، تأتي شهادة هذه الموجودات على النحو الآتي :

إنّ النظام الواحد الذي يسود في الذرة والمجرّة على السواء يشهد بأنّ الكون بأسره وجد بإرادة خالق وصنع صانع واحد دون أن تكون لأي خالق آخر مشاركة في هذا الخلق والصنع، وأنّ وحدة النظام دليل على وحدة المنظم وعدم الشريك له سبحانه.

وكذا إنّ سيادة نظام موحد على مجموع أجزاء الكون كما تفيد أنّ ثمة « منظماً واحداً » يحكم هذا العالم، كذلك تكشف الأسرار الدقيقة، والتقدير المتقن عن « علم » صانعها و « حكمته » و « قدرته » الملازم لتنزّهه عن الجهل واللعب والعجز(١) ، وقد مر أنّه يكفي في التسبيح دلالة الشيء على كمال المؤثر الملازم

__________________

(١) هذا مضافاً إلى أنّ هذه النظرية تفصيل لما أجمل في النظرية الأُولى، فإنّ القائل بالنظرية الأُولى أجمل القول واكتفى بالقول بأنّ كل موجود حادث يدل على وجود محدثه، لكن القائل بالنظرية الثالثة بسط الكلام وأفاد بأنّ وجود كل حادث كما يدل بحدوثه على وجود محدثه، كذلك يدل بصفاته ( أعني: النظام السائد فيه ) على صفات موجده من العلم والقدرة والحكمة، وخلوّه عن العجز والجهل والعبث.

ولأجل هذا قلنا إنّ النظرية الثالثة تفصيل لما جاء في الأُولى.

٢٤٦

لدفع العيب عنه ولا يلزم أن يدل على تنزيهه من الجهل مطابقة.

ولنا على هذا الرأي الذي اعتمد عليه كثير من المفسّرين ملاحظات من عدة جهات :

١. إذا كان هذا هو مقصوده سبحانه من تسبيح عموم الموجودات، فهو ممّا يدركه ويفقهه جميع الناس أو أكثرهم، ولا معنى لأن يقول القرآن في سورة الإسراء الآية ٤٤:( وَلَكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) .

وقد اضطر البعض إلى إصلاح هذه النظرية بتفسير جملة( لا تَفْقَهُونَ ) بأنّها بمعنى عدم الانتباه والالتفات، وإنّ أكثر الناس غير منتبهين إلى تسبيح الموجودات، أمّا لانغماسهم في المادية، أو لأجل كون دلالة الموجودات على « تنزيه » الله عظيمة جداً بحيث لا يمكن للبشر أن يقف على مداها.

ولكن لا يخفى انّ هذا التوجيه خلاف ظاهر الآية، ولو صح ما فسروا به جملة( لا تَفْقَهُونَ ) للزم أن يقول « ولكنكم إذا لاحظتم تفقهون » أو ما يناسب ذلك مع ما نعرف من الدقة في التعبير القرآني، لا أن يسلب عنهم العلم والفهم بتاتاً.

هب أنّ أكثر الناس غير واقفين على دقة الخلقة وأسرارها والروابط السائدة على المخلوقات غير أنّ ذلك لا يصحح سلب العلم عن الناس عامة، جاهلهم وعالمهم، ولا سيما في هذا العصر الذي ظهرت فيه البواطن والأسرار واكتشفت الحقائق.

٢. إذا كان تسبيح الموجودات بالمعنى المذكور في هذه النظرية، ( أي أنّنا يمكن أن ندرك من التدبّر في خلقة الأشياء نزاهة خالقها وصانعها من الجهل

٢٤٧

والعجز ) فلماذا وصف القرآن بعض الحيوانات كالطير بإدراكها لتسبيحها وتنزيهها لربها وكونها تعلم بحقيقة تسبيحها إذ قال :

( كُلّ ( أي كل من في السماوات والأرض والطير )قَد عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (١) .

وبتعبير أوضح: لماذا نسب القرآن الكريم « العلم » إلى الطير بشكل صريح في حين أنّ مقتضى هذه النظرية هو أنّها لا تعلم بتسبيح نفسها، ولا تشعر ولا تدرك ذلك، بل نحن فقط نشعر ونعلم بتسبيحها التكويني من التدبّر في خلقتها ودقة صنعتها دون أن تشعر هي نفسها بذلك.

اللّهم إلّا أن يخصص العلم ـ بحكم ظاهر الآية ـ بالموجودات العاقلة للفظة( مَن فِي السَّمٰوَاتِ وَالأَرْضِ ) وخصوص الطير.

٣. إذا كان المقصود من تسبيح الكائنات هو ما جاء في هذه النظرية لما كان لهذا التسبيح وقت خاص، وزمان معين.

بل هو ( أي التسبيح بلسان التكوين ) حقيقة ملازمة للكائنات في كل وقت وآن، بحيث يدركها البشر أنّى تدبّر في خلقتها، وأنّى تفكّر في تكوينها، وتمعّن في صنعها، في حين أنّ القرآن الكريم يحدّد زمن « تسبيح الجبال » بأوقات خاصة من طرفي النهار بكرة وأصيلاً، إذ يقول في سورة ( ص الآية ١٨ ) :

( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ) (٢) .

__________________

(١) النور: ١٤.

(٢) إلّا أن يكون « العشي والإشراق » كنايتين عن مداومة التسبيح طول الليل والنهار، وعند ذلك لا يصلح هذا الوجه للاستدلال.

٢٤٨

نعم يمكن أن يقال: إنّ تحديد تسبيحها بالعشي والإشراق، لأجل أنّ تسبيح داود كان محدّداً بهذين الوقتين وكانت الجبال يسبحنّ معه، ولأجل تلك التبعية صار تسبيح الجبال محدّداً بها.

ولكن ذلك لا يضر بالمقصود، إذ هو حاك عن سريان شعور مرموز إليها بحيث تدرك تسبيح ولي الله سبحانه في أوقات خاصة فتنطلق تسبح معه كما هو صريح الآية.

واحتمال أنّ تسبيح الجبال كتكلّم شجرة موسى، وأنّ التسبيح إذا صدر من عباد الله الصالحين، تتجاوب معه الجبال بصورة خارقة كتكلم الشجرة بأمره، ولأجل ذلك صح اسناد التسبيح إلى الجبال، احتمال لا يمكن الركون إليه في تفسير الآية إلّا بشاهد من نفسها أو خارجها والظاهر هو المتبع ما لم يذدنا عنه البرهان.

على أساس هذه الملاحظات ـ بالرغم من صحة نظرية التسبيح التكويني في كل موجود في حد ذاتها ـ لا يمكن حمل « آيات التسبيح الكوني » عليها والقول بأنّها ناظرة إلى هذا المعنى.

النظرية الرابعة

وهذه النظرية هي للفيلسوف الإسلامي الجليل المرحوم « صدر المتألّهين » صاحب الآراء الجليلة في الإلهيات، وما وراء الطبيعة، وأحد كبار المؤسّسين

٢٤٩

لأُصول الفلسفة الإسلامية، المحقّقين النادرين(١) .

يقول هذا الفيلسوف الإسلامي ما توضيحه :

إنّ الكون بجميع أجزائه يسبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور وإدراك.

فلكل موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والإدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.

وعلى هذا الشعور تسبّح الموجودات كلّها، خالقها، وبارئها، وربها سبحانه وتنزّهه عن كل نقص وعيب.

ثم يقول :

إنّ العلم والشعور والإدراك كل ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود، ابتداء من « واجب الوجود » إلى النباتات والجمادات، وأنّ لكل موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة و و ولا يخلو موجود من ذلك أبداً، غاية ما في الأمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا ـ بعض الأحيان ـ لضعفها وضآلتها.

على أنّ موجودات الكون كلّما ابتعدت عن المادة والمادية، واقتربت إلى التجرد، أو صارت مجردة بالفعل ازدادات فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً

__________________

(١) ولد عام ٩٧٩ ه‍ في شيراز من بلاد إيران، وتوفّي عام ١٠٥٠ ه‍ في طريق الحج في البصرة.

لقد أنشأ المرحوم السيد حسين البروجردي في تاريخ وفاته قوله ـ كما في كتابه نخبة المقال ـ :

ثم ابن إبراهيم صدر الأجل

في سفر الحج « مريضاً » ارتحل

قدوة أهل العلم والصفاء

يروي عن الداماد والبهائي

٢٥٠

بينما كلما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية، وتعمقت فيها، ضعفت فيها هذه الصفات، وضؤلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرة، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والإدراك ولكنّها ليست كذلك ( أي أنّها ليست خلوة من العلم والشعور والإدراك ) ـ كما نتوهم ـ إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة(١) .

ثم إنّ صاحب هذه النظرية أثبتها عن طريق الأدلة والبراهين الفلسفية، والمكاشفات النفسانية.

على أنّه خطا خطوة أكبر، إذ قال: انّ ما يقوله القرآن بأنّ البشر لا يفقه تسبيح الموجودات، ناظر إلى أغلب الناس، لأنّ أغلبهم لا يفقهون هذا التسبيح، ولا يمنع ذلك من أن يفقهه بعض العارفين الذين ارتبطت أرواحهم بحقائق الموجودات، فلمسوا تسبيح الكائنات عامة، بعين القلب، واطّلعوا على تقديسها لله سبحانه، وانقيادها لمشيئته، وخضوعها له.

أجل أنّ القلوب الخالية من الوساوس الشيطانية، الطاهرة من العلائق المادية التي صارت محلاً للنور الإلهي ومحطّاً للفيوض الربانية، ومهبطاً للبركات المعنوية قادرة على « مشاهدة » هذه الحقائق العليا، مشاهدة وجدانية، وإدراكها إدراكاً قلبياً لا يتطرق إليه شك، وماذا يمنع من ذلك يا ترى ؟

* * *

وبعد أن وصل البحث إلى هذه النقطة يلزم أن نحاول الوصول إلى هذه الحقيقة القرآنية، بالتدبّر في آياتها التي تنسب الشعور والعلم إلى عموم

__________________

(١) راجع الأسفار: ١ / ١٨ و ٦ / ١٣٩ ـ ١٤٠، الطبعة الجديدة.

٢٥١

الموجودات، لأنّ القرآن إذا نسب « التسبيح والحمد » إلى عمومها، فهو في نفس الوقت يصف كل ذرات العالم بأنّها شاعرة، ومدركة، وسامعة.

فإذا وضعنا هاتين الطائفتين من الآيات إلى جانب بعض، ثبتت لنا صحة النظرية التي ذهب إليها « صدر المتألّهين ».

وإليك ـ فيما يأتي ـ الآيات الدالة على سريان الشعور، والعلم في عامة الموجودات بدءاً من الذرة وانتهاء بالمجرة، مع ما يمكن استنباطه واستفادته من هذه الآيات.

سريان الشعور في عموم الموجودات

ويمكن إثبات هذا الادّعاء عن طريقين :

أوّلاً: عن طريق الآيات التي تشهد على وجود الشعور، وسريانه في جميع موجودات هذا العالم، أحيائها، وغير أحيائها.

ثانياً: عن طريق البراهين والدلائل العقلية التي تثبت وجود الشعور في كل ذرات الكون.

وإليك الطريق الأوّل: ويتألف من آيات متعددة هي :

١. يشهد القرآن ـ بصراحة ووضوح ـ على أنّ النمل تتمتع بشعور خاص، لأنّها عندما مر على واديها سليمان وجنوده راحت نملة تخاطب بني نوعها وتحثّها على الدخول في بيوتها لئلاّ يسحقها سليمان وجنوده، كما يحدثنا القرآن إذ يقول :

( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ) (١) .

__________________

(١) النمل: ١٨.

٢٥٢

وكان هذا النداء التطميني ( أو التحذيري ) من تلك النملة، نداء حقيقياً، واقعياً، ولا يمكن أن نحمله على معنى مجازي، وندعي بأنّ ما قالته النملة كان بلسان « الحال »، وذلك لأنّ سليمان تبسّم على أثر سماعه ذلك النداء، ودعا ربّه أن يوفقه للشكر على ما وهبه وأنعم عليه وعلى والديه، إذ يقول القرآن :

( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا (١) وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ ) (٢) .

٢. انّ في القرآن قصة عن الهدهد تكشف عن شعور خاص لدى هذا الطائر، بحيث يمكن للهدهد أن يميز بواسطته: الموحد عن المشرك وبحيث كان سليمان يبعثه في إنجاز مهام معينة تحتاج إلى الشعور وتتطلب العلم والفهم.

وإليك هذه القصة بلسان القرآن نفسه :

( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لا أَرَىٰ الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ *لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَان مُبِين *فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَم تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ *إِنِّي وَجَدْتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ *وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * إلّايَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمٰوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخُفْونَ وَمَا تُعْلِنُونَ *اللهُ لا إِلَهَ إلّا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيم *قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ

__________________

(١) إنّ في لفظة « قولها » دلالة على أنّ نداءها لم يكن بلسان الحال، بل كان بالكلام والقول الذي ينطلق من شعور وأدراك.

(٢) النمل: ١٩.

٢٥٣

مِنَ الكَاذِبِينَ *اذْهَب بِكِتَابِي هَذا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرجِعُونَ ) (١) .

ألا يدل فعل هذا الطائر ـ العجيب ـ الذي يدرك كل الأُمور الدقيقة، ويخبر عنها بدقة وأمانة، ويمتثل لأُوامر سيده سليمان على أحسن وجه.

أقول: ألا يدل كل هذا على أنّ هذا الطائر يتمتع بشعور خاص وإدراك مخصوص هو الذي أهّله لتحمّل تلك المسؤولية الكبيرة الدقيقة ؟

٣. يعد القرآن من مفاخر سليمان: علمه بمنطق الطير، وهذا يكشف عن وجود منطق خاص للطير كاشف عن شعوره بما يقول، إذ قال :

( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) (٢) .

كما أنّ القرآن يخبرنا بأنّ سليمان ألّف جيشاً ضخماً من الإنسان والجن والطير، وكانت جميعها تحت أمره، ورهن إرادته، وإشارته :

( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ ) (٣) .

وهكذا يستفاد من مجموع هذه الآيات أنّ الطيور والنمل تتمتع بنوع خاص من الوعي والشعور، وأنّه لو أُتيح للإنسان أن يحكم على الكون كله، لاستطاع أن يتحدث معها ويعرف حديثها، وأن يستفيد منها في إرساء النظام التوحيدي وتقوية دعائمه، وتحطيم مظاهر الشرك والوثنية وتقويض قواعدها، كما استفاد سليمان من الهدهد ذلك الأمر، والظاهر أنّه لا خصوصية للمورد.

__________________

(١) النمل: ١٩ ـ ٢٨.

(٢) النمل: ١٦.

(٣) النمل: ١٧.

٢٥٤

سريان الشعور في الجمادات

تحدّثت الآيات القرآنية عن هذه الحقيقة بنحو ما، وراحت تنسب أفعالاً إلى ( الجمادات ) تقترن بالشعور وتثبت الإدراك لها.

فالقرآن الكريم يرى أنّ سقوط بعض الصخور من نقطة ما إنّما هو نتيجة خوفها من الله وخشيتها منه تعالى إذ يقول :

( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ) (١) .

نعم ربما يحتمل أنّ المراد من قوله تعالى :( وإِنَّ مِنها ( مِنَ الحْجَارَةِ )لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) هو التعبير عن شدّة قسوة قلوب اليهود، بشهادة أنّ من الحجارة ما تتفجّر منه الأنهار، دون قلوبهم، وانّ من الحجارة ما يهبط من خشية الله دونها، وعند ذاك لا تصلح الآية للاستدلال على سريان الشعور في الموجودات عامّة.

غير انّ هذا الاحتمال لا يضر بما ذهبنا إليه، فإنّ التعبير عن شدّة قسوة قلوبهم يجتمع مع دلالة الآية على سريان الشعور في عامّة الموجودات، فإنّ الآية أثبتت للحجارة صفتين: التفجّر، والهبوط من خشية الله.

فكما أنّ التفجّر أمر حقيقي لها، فكذلك الهبوط من خشية الله أمر حقيقي لها، ومع ذلك تدلّ على شدّة قسوة قلوبهم.

وفي آية أُخرى يخبر القرآن الكريم عن قضية عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وامتناع هذه الأشياء عن حملها خشية وإشفاقاً فيقول :

( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَىٰ السَّمٰوَاتِ والأرض وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا

__________________

(١) البقرة: ٧٤.

٢٥٥

وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ ) (١) .

غير أنّ طائفة من المفسّرين فسّروا هذه الآية ونظائرها بالمعاني المجازية، وبأنّ كل هذا الذي يخبر عنه القرآن تم بلسان الحال، بمعنى أنّها أبين وأشفقن عن تحمّل الأمانة المعروضة عليها، بلسان حالها، لا بلسان مقالها الكاشف عن الشعور في حين أنّ هذا التفسير والحمل ضرب من اتخاذ المواقف قبل البحث والدرس وهو أمر لا مبرر له، إذ لا دليل على حمل مثل هذه الآيات على غير ظاهرها، وتأويل هذه الحقيقة ـ التي يتحدّث عنها القرآن بصراحة ـ بمعان مجازية، ومحامل لم يقم عليها دليل.

على أنّ عدم توصل العلم إلى هذه الحقيقة، أعني: وجود الشعور عند عامّة الموجودات لا يكون دليلاً ـ أبداً ـ على عدم وجود هذا الشعور عند هذه الكائنات، لأنّ وظيفة العلم إنّما هي الإثبات فقط، وليس للعلم حق « النفي » والسلب، والإنكار.

إنّ العلم لم يبلغ تلك المرحلة من المعرفة، والإحاطة بحقائق الكون، إحاطة يمكنه معها أن ينكر ما لا يعرف وجوده أو عدمه(٢) .

وفي موضع آخر يقول القرآن في هذا الصدد :

__________________

(١) الأحزاب: ٧٢.

(٢) وهذه إحدى الفروق بين العلم والفلسفة فإنّ للثانية حق النفي والإثبات وليس للأوّل ذلك الحق، لأنّ الوسائل التي يتوسل بها العلم للتحقيق أقصر من أن يتوسل بها إلى الإحاطة بجميع الموجودات، وهذا بخلاف الفلسفة فإنّها تجعل صفحة الوجود مسرحاً لنقاشها ونفيها، وإثباتها وللبحث عن الفرق الكامل بين العلم والفلسفة موضع آخر.

٢٥٦

( لَوْ أَنْزَلْنَا هٰذَا القُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) (١) .

ولا ريب أنّنا لو تجرّدنا عن آرائنا الشخصية حول الآيات القرآنية، لوجب علينا أن نقول: إنّ هذه الجبال لابدّ أنّها تنطوي على قابلية الخشوع والتصدّع لكي يصح أن يتوجه إليها الخطاب الإلهي القرآني.

إذ ليس من المعقول أن ينسب القرآن الكريم ـ وليس من شأنه المبالغة الكاذبة ـ هذا النوع من الحالة ( أي حالة الخشوع ) إلى ما لا يكون قابلاً لها.

وربّما يحتمل أنّ الآية كناية عن عظمة القرآن وجلالة قدره، بدليل انّه لو أنزله الله على جبل لخشع وتصدّع، ولا يستلزم هذا إثبات قابلية الشعور في الجبال.

غير انّ الإجابة على هذا الاحتمال واضحة جداً، فإنّ هذا التفسير مبني على ما سلّم به القائل مسبقاً من أنّه لا شعور في الجبال، ولذلك عاد ففسر الآية على ما بنى عليه.

ولو تخلّى عن هذه الفكرة ـ كما قلناه آنفاً ـ ودرس الآية بدون فكرة سابقة لوقف على أنّ الآية مع دلالتها على عظمة القرآن تدل أيضاً على وجود شعور في الجبال، وقابلية للخضوع والخشوع الحقيقيين لديها.

وليست دلالة الآية على عظمة القرآن مانعة عن دلالتها على الأمر الثاني.

ويستفاد وجود مثل هذا الشعور والوعي في الجبال من بعض الآيات الأُخرى عندما تقول :

( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ ) (٢) .

__________________

(١) الحشر: ٢١.

(٢) إبراهيم: ٤٦.

٢٥٧

وكقوله تعالى :

( تَكَادُ السَّمٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدّاً ) (١) .

فإذا لم تكن في « الجبال » تلك القابلية وذلك الوعي لما يدور خارجها لما صحت هذه التوصيفات والنسب، ولوجب حينئذ أن نفترض لهذه الآيات « معاني مجازية » من قبيل المبالغة، والتمثيل تماماً كما ذهب إليها بعض المفسّرين حيث ارتكبوا حملها على التجوز والتمثيل.

نعم يمكن أن تكون الآية وسابقتها ناظرتين إلى أمر آخر وهو: أنّ عظم مكرهم بلغ إلى حد يمكن أن تنقلع به الجبال وتنشق السماء والأرض، والإزالة والانشقاق أثر المكر لا أن تزول وتنشق بتأثر ناشئ عن إدراك وشعور لديها.

فمكرهم أو قولهم بأنّ الله اتخذ ولداً قد بلغ من التأثير السيّء إلى حد الآلة الهدامة.

على أنّ الآيات المرتبطة بيوم القيامة تكشف النقاب عن وجود هذا الوعي والشعور ـ فضلاً عن إمكانه ـ حيث إنّها تخبرنا عن تكلّم الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها على الإنسان في ذلك اليوم الرهيب بأمر الله، فإذا بها تشهد على العصاة بكل ما فعلوا من أفاعيل، وآثام، بدقة متناهية.

وإليك هذه الآيات :

( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) .

( اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا

__________________

(١) مريم: ٩٠.

(٢) النور: ٢٤.

٢٥٨

يَكْسِبُونَ ) (١) .

( وَيَومَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إِلَىٰ النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ *حَتَّىٰ إَذَا مَا جَاءُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٢) .

نعم الآية واردة في شهادة الجلود يوم القيامة وألاستدلال بها على إمكانية وجود الشعور في جلود الإنسان هنا في الدنيا يحتاج إلى لطافة ذوق فإنّ النشأة الأُخروية ليست مباينة للنشأة الدنيوية.

ثم إنّ القرآن يشهد ـ بصراحة تامة ـ في آيات أُخرى بأنّ الأرض تتحدث بأمر الله وتخبر عما وقع على ظهرها إذ يقول :

( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ ( أي الأرض )أخْبَارَها *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) (٣) .

كما أنّ القرآن الكريم يخبرنا عن طاعة « السماوات والأرض » الكاشفة عن وجود مثل هذا الوعي فيها إذ يقول :

( ثُمَّ اسْتَوى إِلَىٰ السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (٤) (٥) .

__________________

(١) يس: ٦٥.

(٢) فصلت: ١٩ ـ ٢١.

(٣) الزلزلة: ٤ ـ ٥.

(٤) فصلت: ١١.

(٥) والخطاب إلى السماء والأرض باعتبار أنّ الخطاب توجّه إليهما بعد إيجاد مادتهما الأُولى بشهاد قوله سبحانه:( وَهِيَ دُخَانٌ ) فلا يمكن قياس تلك الآية بالآيات التي ورد فيها لفظ كن، فإنّ الخطاب هناك تكويني لغرض الإيجاد، دون المقام.

٢٥٩

هذه الآيات ونظائرها تفيد ـ حسب نظر من يتخلّى عن آرائه الشخصية عند فهم مقاصد القرآن ـ سريان الشعور والفهم في جميع أجزاء هذا العالم، وذراته.

أمّا كيف وماذا تكون حقيقة هذا الشعور والفهم والوعي، وما هو مستواها وحجمها فذلك ما ليس بواضح ولا معلوم لنا، بيد أنّ هذا الجهل لا يمكن أن يكون سبباً للإنكار فما أكثرها من حقائق في هذا الوجود لا يعرفها البشر المحدود الرؤية والتفكير.

ومما يجدر بالذكر أنّ الأدعية الإسلامية قد أشارت إلى هذا الموضوع، نذكر من باب المثال بعض النماذج :

« تسبّح لك الدواب في مراعيها والسباع في فلواتها، والطير في وكورها، وتسبح لك البحار بأمواجها والحيتان في مياهها »(١) .

كما أنّنا نقرأ في « الصحيفة السجادية » نظير هذا حيث يخاطب الإمام السجاد « الهلال » عند رؤيته، إذ يقولعليه‌السلام :

« أيّها الخلق المطيع الدائب السريع المتردّد في منازل التقدير، المتصرّف في فلك التدبير »(٢) .

بعد ملاحظة هذه الآيات والروايات الكاشفة عن سريان الشعور والفهم في كل الموجودات يتعيّن علينا أن نختار نظرية المرحوم صدر المتألّهين التي فسر فيها التسبيح المذكور في مورد الكائنات عامة، بالتسبيح « الحقيقي الواقعي » بمعنى أنّ

__________________

(١) راجع كتب الأدعية.

(٢) الصحيفة السجادية: الدعاء: ٤٣.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672