مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 155102 / تحميل: 6033
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مقدّمةالمؤلّف

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

الله تعالى أحمد، وأصلي وأسلم على خاتم رسله أحمد، وعلى أوصيائه ما لاح في السماء فرقد، وما هزج طائر على أفنانه وغرّد.

وبعد فقد كنت شرعت عام ١٣٤٠هـ بتأليف كتاب تنتظم دفتاه تاريخ الشيعة الديني والسياسي على أثر هزات هنا وهناك تنتقص قدر هذه الفرقة من فرق المسلمين بمؤلفات فيها الكثير مما عُزي إلى الإمامية، ولم يكن مما تعتقده وهي منه براء. وما كان على مؤلفي تلك الكتب في عصر الطباعة إلا الرجوع إلى ما هو في متناولهم من المؤلفات المطبوعة المنشورة، وجلها الصريحة ذات العقيدة الصحيحة، لتسلم مؤلفاتهم من معرّة ما يجافي الحق والحقيقة ولا يأتي بخير اللهم إلا تفريق صفوف المسلمين في عصر هم أحوج فيه إلى تأليف الكلمة والوقوف صفاً واحداً للذود عن حياض كرامتهم وعزة دينهم المتين، ويا حبذا لو التف كل مسلم غيور طالب إحقاق الحق حول لواء جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية المؤسسة لهذا الغرض النبيل في مصر، ولا نذكر جامعة الأزهر إلا بخير، والأزهر الشريف الخالد المشيدة دعائمه منذ ألف عام ونيّف للقيام برسالتي العلم والدين وأدائهما حق الأداء والقضاء المبرم على التعصبات المذهبية لم يفرّط بمهمته، ومهمته الكبرى في هذا العصر أن يقضي على تلك المنازعات، وجلها وليد السياسات التي انتهى أجلها وأزيحت عللها.

فجامعة الأزهر مفروض على علمائها أن ينهضوا بكل ما يعزّز

٢١

الجامعة الإسلامية ويصلوا ما أمر الله به أن يوصل من إزاحة علل التفرق.

وبعد فإن من إثارة تلك المجادلات التي فتح بابها الموصد على مصراعيه فريق من كتاب مصر ومن غير مصر أن نشأت فوضى جدلية اختلط فيها الحابل بالنابل، وخاض غمارها كثير ممن لم يؤت الحكمة والاعتدال، ومن خدم سياسة الأجنبي عن قصد أو غير قصد. ولا ننقص بعض المؤلفين حقهم، فكانوا من المنصفين، وكانوا من الحريصين على قطع خط الرجعة على المفرقين، ومنهم مؤلف كتاب السنة والشيعة من علماء بيروت العاملين، وفريق من أعلام الكتّاب المصريين. وكان من مستغلّي تلك البلبلة وهي سلاح ماضي الحدين فريق من كتبة الفرنج، ومنهم مؤلف (عقيدة الشيعة) الذي حشا كتابه بكل ما هو أشبه بالعبادات من اتصاله بالاعتقادات والمأخوذ عن العامة لا عن الخاصة، ولم يكن فيه أثر للتمحيص، فيتبيّن الرشد من الغيّ والصحيح من الفاسد. وإذا كان نفر من المسلمين أنفسهم من ينتهج هذا الطريق، ولا يكلف نفسه التحقيق، فأي ملام على الأجنبي، وجل اعتماده وما يهدف إليه ما يمكن لدولته استغلال كل ما يوهن قوة من يطمح في إخضاعه لسلطانه، والنفر المولعون بالجدل البيزنطي هم أعوانه وأنصاره من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، ومن حيث يقصدون أو لا يقصدون.

وكأن الشيعة وخاصة الإمامية نكرة مجهولة وكتب اعتقاداتها المنشورة ملء مكاتب الشرق والغرب محتاجة إلى التعريف، وهو من الباحثين كقاب قوسين أو أدنى ولا يكلفهم عناء كثيراً.

فنهض بهذه المهمة إمام من أئمة الإمامية فألف رسالة (أصل الشيعة وأصولها) ألا وهو المرحوم الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي وهو من كبار المدرسين ومن المراجع في التقليد، فكانت رسالة على اختصارها جامعة لكل ما يهم الباحث الوقوف عليه من عقائد الشيعة، وطبعت عدة مرات كما نقلت إلى كثير من اللغات الأجنبية، وتلقى مؤلفها العظيم تقاريظ كثيرة من علماء المسلمين على اختلاف المذاهب ومن المستشرقين إلى ما في تلك الرسالة من دعوة إلى التقرّب الإسلامي.

وفي احتدام تلك المعمعة الجدلية، وفيما حامَ حول الشيعة من الظنون، وما عزي إلى الإمامية منهم ما لم يعتقدوه دار في خُلدي على قلة

٢٢

المصادر أن أفرد كتاباً بالتأليف في تاريخ الشيعة الديني والسياسي تاركاً تدوين تاريخها الأدبي، وقد حفلت به الكتب القديمة والحديثة وفي هذا العصر، وقد أُلف فيه موسوعتان جليلتان الأولى (أعيان الشيعة) للإمام العلاّمة المرحوم السيد محسن الأمين العاملي، والثانية لإمام عصره في التأليف العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني النجفي (طبقات أعلام الشيعة في مختلف العصور إلى العصر الحاضر)، وهناك موسوعة ثالثة وهي (الطليعة في شعراء الشيعة) لمؤلفها المتتبع الضليع العلامة الشيخ محمد طاهر السماوي، وللعلامة الإمام السيد حسن الصدر الكاظمي كتاب جليل في موضوع مؤلفي الشيعة سماه (تأسيس الشيعة الكرام) وقد طبع مختصره، وللعلامة الشيخ علي آل كاشف الغطاء والد الشيخ محمد الحسين مؤلف كتاب (أصل الشيعة وأصولها) الآنف الذكر كتاب (طبقات الشيعة)، هذا ولست في صدد إحصاء المؤلفات الشيعية الأدبية المتعذر علي، فأكتفي بهذه الجملة، وها أنا أشرع في تدوين مباحث الكتاب مستمداً منه تعالى التُوفِّيق والتسديد في القول والعمل وعليه الاتكال. واتّباعاً للطريقة المألوفة عند العلماء المؤلفين لسهولة دراسة مؤلفاتهم على مختلف أهدافها وموضوعاتها من التبويب رتبت كتابي هذا على كتابين الأول وينطوي على معتقدات الإمامية، ويتناول ما يتّسع له المجال من الفروق بينها وبين معتقدات بعض فرق الشيعة المخالفة لها وينسب إليها منه ما هي منه براء.

والكتاب الثاني وهو (تاريخ الشيعة السياسي) ويشمل دول الشيعة على اختلاف المذاهب ممن يشملهم هذا الاسم، وعلى خاتمة تتضمن دعوة المسلمين كافة إلى التحرر من التعصب الممقوت للمذهب والعقيدة والذي أدّى إلى ذهاب ريحهم وتفرقهم قِدداً، وانتقاص أطراف ملكهم الواسع، وصيّرهم خولاً لمن كانوا لهم أتباعاً، وجنوا من ثمرات ذلك التنازع ما أطمع فيهم الغريب، وهم في هذا العصر أحوج منهم في كل العصور إلى التضامن والتآزر وترك التنازع فيما لا يجدي، وهو آية الفشل في ميادين الحياة، وإلى الاعتصام بعروة العقيدة الإسلامية الجامعة التي هي فوق الشبهات والأهواء، وقى الله تعالى المسلمين شر التفرق الذي أدّى بهم إلى الضعف، وجمعهم على التناصر والتظافر وإعلاء دين الله الإسلام، والله مع الجماعة.

٢٣

٢٤

الفكرة الشيعية

أسبابها - انتشارها

٢٥

٢٦

نأتي في هذا الجزء من كتابنا تاريخ الشيعة وهو تاريخها السياسي على مقدمة نشرح فيها الأسباب التي جعلت للشيعة كياناً سياسياً قام على منابذة السياسة الأموية، ثم على مناجزة السياسة العباسية، وكان من جهادها السياسي المستتر في عهد هاتين الدولتين تحت ستار التكتم والتقية، أن قام للشيعة دول في المشرق والمغرب كان القائمون على سلطانها في أول الأمر رجالاً من العلويين من بني الحسن والحسين، ومن العباسيين يوم انتشر دعاة الشيعة من العلويين والعباسيين في مختلف الأمصار الإسلامية، يدعون متحدين للفريقين. على أن الدعوة العباسية لم تكن في ظاهرها إلا دعوة للعلويين، ولم يطل العهد حتى أثمرت هذه الدعوة ثمرة اقتطفها بنو العباس، وما كان هؤلاء وقد آل إليهم السلطان وخلافة الإسلام أعطف على العلويين من الأمويين، ولا أقلّ تنكّراً لهم من أولئك، ممّا كان من أثره قيام دولة علوية في الشرق وأُخرى في الغرب الأفريقي والأندلسي من الأدارسة من بني الحسن، ومن الفاطميين من بني الحسين. ثم كان للشيعة في عهد انحلال الدولة العباسية وانتثار عقد سلطانها وامتداد الأيدي الغريبة إليها من التُّرك والفرس والعرب، دول من غير القبيل الهاشمي والفاطمي كالدول: البويهية والحمدانية وبني دُبيس وصدقة.

أما الأسباب فإنها كثيرة وقد بحث عنها المؤرخون، فمنهم من تعرّض لبحث القريب منها وأغفل البعيد، ومنهم من تعرّض لبحث الأمرين، وإنّا نلخصها معتمدين في ذلك على منطق الوقائع ووضوح الحوادث، وهي فيما استنتجناه تعود إلى أمور:

٢٧

الأول (الخلافة):

هذا المنصب الخطير الذي كان يعتقد الشيعة أنه لعلي وبني علي من فاطمة بالوصية من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبالنص الجلي الذي لا ارتياب فيه، ولهم أدلة من الحديث والكتاب على انحصاره في علي والأئمة من بنيه وأنه كمنصب النبوة وهو خلافة لها لا يرجع إلى الشورى والاختيار، وأنه من الأصول الاعتقادية. فصرفُه عن علي وأهل بيته كان ولا ريب من أسباب سخط الشيعة ومن دواعي عملهم في السر والخفاء على إعادته إلى نصابه وصرفه إلى أهله الذين هم أجدر به، وهو المنصوص عليه في اعتقادهم.

الثاني:

سكت الشيعة مختارين أو مكرهين على الطاعة لمن ملكوا ناصية الخلافة بالاختيار والانتخاب والوصية والشورى للخلفاء الثلاثة وهم لم يبتعدوا عن إدارة مهامّها عن أسلوبها الديني؛ وسكتوا كما سكت إمامهم عن المناجزة في سبيل استردُّدها إليه لاعتبارات كثيرة رآها علي وحزبه من أعظم الدواعي إلى السكوت والرضا بالأمر الواقع، وفي الخروج عنها ما يتخوف منه على بَيضة الإسلام، وهو لم يستكمل بعدُ دعوته ولم يعتصم بعد بالقوة التي ترد عنه أعداءه الكثيرين، وتحمي تلك الدعوة ممن همّوا بالخروج عن الإسلام وقد رأوا رؤوس الفتنة تطلع بالردّة حوالي المدينة وبالأقطار العربية الأُخرى من أنحاء الجزيرة، ورأوا بنظرهم البعيد وحرصهم على انتشار الدعوة الإسلامية ما يكون من الإضرار بها إن انصرفوا إلى التنازع فيما بينهم المؤدّي إلى ذهاب ريحهم وتبدّد قوتهم وهو سلاح حاد للطامعين بالخروج من القريب، وبنقض الدعوة من الغريب القوي من الرومان والفرس. فرأوا - والحكمة الرشيدة فيما رأوا - أن ترك المطالبة بالحق - والمطالبة به تؤدي إلى مثل هذه النتائج - واجب محتَّم، فسكتوا، وإذا كان في السكوت ضرر ففي تركه أكبر الضررين. فكان عليّ وحزبه المثل الأعلى في الإعراض عن التنازع، والالتفاف حول الخلفاء ومناصرتهم، وفيها مناصرة للإسلام، والظهور بمظهر الوحدة وهي قوة حامية للدعوة صائرة إلى إعزاز الإسلام كلمة الله الباقية في الأرض.

٢٨

الثالث:

إن مما لا ريب فيه أن قيام الخلافة على الشكل الذي قامت فيه من الانتخاب الذي لم يستكمل شرائطه حتى عند من يقول بالاختيار في هذا المنصب، أن أسكتت المصلحة الإسلامية العامة من كان منصوصاً عليه من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وحزبه عن نقضه بقوة الجدل أو بقوة السلاح، وعن منازعة من صار إليه بانتخاب فريق من ذوي الحل والعقد دون الفريق الآخر، ومنهم علي وحزبه من الهاشميين وغير الهاشميين من أفاضل الصحابة، فلم يكن هذا السكوت المنبعث عن تلك المصلحة التي راعاها الفريق الذي عُزل عن حقه في الاختيار أو افتئت على حقه في النص، إلا بالذي يترك في النفوس أثراً إن لم يكن في نفس صاحب الحق فإنه في نفوس حزبه، وإن غلبت عليه دواعي الحال فلم تغلب عليه دواعي الاستقبال يوم تمكّن الفرص منه، والجرح إذا لم يندمل يوم فساده فهو إلى النكأة قريب.

كوّنت هذه الحال فكرةً لدى الشيعة فعملوا لها في السر على استرجاع الحق إلى أهله، ومن رسخت في نفوسهم هذه الفكرة يرونها واجباً دينياً يجب العمل به يوم تمكن الفرصة من العمل، فكانت كامنة في هذه النفوس الشيعية كمون النار في الرماد، وهي مع ذلك لم تجد إلا ما يستثيرها ويستفزّها ويذكّيها. ولم يجد حاملوها من حسن السياسة ما يخفف من سخائمهم، ولا ننكر أنه قد اندسّ فيهم من لم يكن مخلصاً لا لعلي ولا للمسلمين، ومن لم يكن راضياً عن خلافة الخلفاء إمّا حسداً وهو يرى مكانة قبيله أشرف من مكانة قبيلهم، وإمّا طمعاً في ولايةٍ من ولايات الخلافة، وهو لم يكن ذا حظ منها عملاً بقول الشاعر:

إذا لم يكن للمرء في دولة امرئٍ = نصيب ولا حظّ تمنَّى زوالها

والنفوس مطبوعة على حب السلطان وأبهة الحكم، ولا سيما ممن يرجع إلى قبيل شريف، وإما عقيدة في علي خرج بها عن حد القصد، وادّعى فيه ما لم يدعه هو ولا حزبه كابن سبأ وأضرابه، وإما رجاء في المستقبل بالمشاركة في الأمر والنهي. فكان العباسيون كالعلويين والأمويين يرون أن لهم في ذلك المنصب من المؤهلات أضعاف ما لمن ولِيَهُ من الخلفاء، فأدّى ذلك كله إلى اصطباغ الفكرة الشيعية بكثير من الألوان.

٢٩

الرابع:

إن سياسة الخلافة كانت في عهد الخليفتين الأولين لا تبتعد عن روح الدين كما عرفت. وكانت حريصة على جمع الكلمة الإسلامية وبعيدة عن الاستئثار والافتئات، وأقرب إلى تأليف القلوب النافرة من خلافة الثالث المعتز بقبيله الأموي الكثير العدد. وقد سلف أن الأمويين لم تكن لهم قدم راسخة في الإسلام، بل كانوا حرباً عليه وأعداء ألدّاء للدعوة، وقد أُكرهوا على دخولهم في الإسلام إكراهاً يوم فتح مكّة الذي ظهر فيه أمر الإسلام والمسلمين، ودانت له جبابرة مكة وعتاة العرب، وغلب على يهود خَيْبَر وقُرَيْظَة وبني المُصْطَلِق.

بسط هذا القبيل يده في سلطان هذا الخليفة الأموي، وولي كبريات الولايات والأعمال، وشاء القدر أن يلي معاوية في عهد الخليفة الثاني ولاية الشام، وتمتد ولايته إلى خلافة عثمان، فيتسع أمامه مجال ترسيخ قواعد سلطانه. وقد جمعت هذه الولاية مما خلفه فيها الرومان من كنوز الثروة ومن العمران الزاخر والخصب العجيب ما يزيد في قوة سلطانه ونفوذه. وهو قد أوتي دهاء إلى سياسة مشى فيها بعيداً جد البعد عن روح السياسة الإسلامية الدينية، فكان فيه مطمع لذوي النفوس الضعيفة الطامحة إلى مشاركته في رغد العيش ورفاهيته.

هذا إلى ما نال في سلطان هذه الخلافة أعلام صحب علي من إرهاق وترويع، ومنها ما أصاب الصحابي الجليل أبا ذَرّ الغفاري من نفي إلى الشام، ومن الشام إلى الرَّبَذة حيث مات في هذا المنفى.

كانت هذه السياسة الجديدة وهي قائمة على إدارة رجال أمويين لا يعرفون للقصد حداً، وهي مصطبغة بصبغة بعيدة عن روح الدين، من أسباب نفور الشيعة ومن أسباب قوة الفكرة الشيعية في العمل لإرجاع الخلافة إلى أهلها، ولا نستطيع أن نقول: إن لعلي يداً في تغذيتها، وهو أبعد عن إحداث فتنة في الإسلام، ولكن ماذا يعمل علي في سبيل إخماد ثائرة النفوس، وقد امتلأت سخيمة من هذه السياسة القائمة على إرهاق أشياعه والابتعاد بالخلافة عن مناهجها الدينية...، وقد عرفت أن في الملتفّين حول الدعوة الشيعية أصنافاً من الناس ومنهم من له هوى غير

٣٠

هوى على ورجوع الخلافة إلى علي. فكان من نتائج تلك السياسة ومن مجموع هذه العناصر المكوّنة منها فكرة الدعوة للخلافة الحقة، انتقاض الأمصار على عثمان وقيام من قام منها من الكوفة ومصر والمدينة بمحاصرته في داره فمقتله. وما كان الجاني عليه في نفس الأمر والواقع إلا رجال قبيله، وهم وحدهم الملومون عند الباحث المنصف، وهم الذين جنوا على الإسلام لا الشيعة كما يزعم كثير من الباحثين، وخاصة في هذا العصر الذي توفرت فيه لديهم الأسباب لتمحيص الحقائق، وأوتوا وراء ذلك علماً بأساليب البحث ومعرفة بفلسفة المباحث الإسلامية وتاريخ الإسلام. ولئن بعدت عنهم الحوادث التي حدثت واكتنفها كثير من الغموض بواسطة العصبيات المذهبية التي تكونت من العصبيات الحزبية، فإن منطق تلك الحوادث التي تضافر على نقلها علماء الفريقين من الحزبين أو المذهبين، ما يرشد المنصف إلى سواء السبيل، وإلى تعليل تلك الحوادث بعللها الصحيحة، ولا سيما إذا تجرد عن التقليد لسلفه أو انجرّ إليه وهو في موقف تعليل الحوادث بعامل التأثير الخفي بما كان لسلفه من الرأي وهو في موقف تعليل الحوادث بعامل التأثير الخفي بما كان لسلفه من الرأي والاعتقاد، وهو يظن أنه يكتب لفلسفة التاريخ الإسلامي، وما مؤدى فلسفته إلا الغمز من قناة الشيعة وتسفيه آرائهم وإلصاق كل جناية بهم.

الخامس:

لم يكن ما مُني به عليّ، وقد آل إليه مصير الخلافة، من الانتقاض عليه ممن بايعه أمس، ومن وقعة الدار، وقد شاء أعداؤه أن يحمّلوه منها أثقل الأوزار. وتحيّن معاوية الفرصة وقد استوسق له أمر الشام وأُطلقت يده في حكمه الذي استمر مدة طويلة، فاتّخذ من مقتل عثمان ذريعة لمنافسة عليّ في الخلافة، وما كان له بكفء في منزلة من منازل الشرف والفضيلة، مِمّا أَدّى إلى وقوع أعظم حرب منذ ظهور الإسلام وحتى ذلك الوقت بعد حرب الجمل التي جرها نقض من بايع بيعته.

لم يكن ما مُني به عليّ من هذه الأحداث العظيمة إلاّ حافزاً عظيماً لشيعته ومن التفّ حولهم وقال بمقالتهم ونفر من افتئات معاوية بالأمور نفورهم، لترويج تلك الفكرة الشيعية، وإن شئت فقل السياسية أو الحزبية.

٣١

السادس:

مقتل عليّ منازعاً في خلافته الحقة، مغلوباً على أمره من مناوئيه من هنا وهناك، فلا يمكن له من تقويم المعوّج والسير بالأمة في سياسة تضمن لها انتظام أمري دينها ودنياها، وابتلاؤها، وابتلاؤه بعد وقعة (صفّين) بالخوارج ممن كانوا يتظاهرون بالتشيّع له ثم بالتآمر عليه وقتله، وانتهاء الأمر إلى معاوية بعد ستة أشهر من خلافة الحسن التي انتهت إليه، وهو في حزب متضعضع الأركان مشتت الأهواء، تجمعت فيه عناصر لم يكن الكثير منها مخلصاً.

كان من الطبيعي، بعد هذين الحادثين العظيمين: مقتل علي وفشل جيش الحسن في محاربة معاوية، أن ينتهي أمر الحسن إلى ترك الحرب ومسالمة معاوية على شروط ومواثيق التزم بها.

وكان من جراء هذه الأحداث وإِخلاف معاوية للميثاق الذي أعطاه للحسن، وما جرّه هذا الميثاق على شيعة الحسن من المغارم والمظالم والقتل الذريع على يد عمّاله أمثال زياد وسَمُرَة وعمرو بن سعيد الأشْدَق وبُسْر بن أبي أَرْطاة وأضرابهم - دع ما كان في أيامه من الأحداث التي يمقتها الدين، والتي صبغت الخلافة الدينية بصبغة السلطان الدنيوي الجائر - كان ذلك كله وما إليه من أسباب نموّ تلك الفكرة.

السابع:

وهو مقتل الحسين، بعد مقتل الحسن مسموماً على يد جَعْدَة زوجته بِدَسيسَةٍ من معاوية، وقيام يزيد بعده بسلطان الخلافة وهو من لم تحمد سيرته لا في الدين ولا في سياسة الملك والسلطان.

كان هذا من أعظم الأسباب، بل كاد ينحصر فيه، ظهور الفكرة الشيعية بصورة عملية منظمة، وزاد في تنظيمها ما كان يلاقيه بعض رجالات أهل البيت بعد يزيد من الظلم الأموي، وقد ولي الأمر من بني أُميّة مروان وأبناء مروان.

وكان أول هدف للشيعة في سبيل تحقيق الفكرة الشيعية هو قيامهم وعلى رأسهم المختار بأخذ ثأر الحسين. ومن الواضح البيّن أن الذين كانوا ينظّمون الدعوة والذين قاموا بالثورة يرجعون إلى (محمد بن الحنفيّة)، ثم إلى ولده من بعده. ولم يكن أحد من ولد الحسن والحسين في أول الأمر

٣٢

ممن يدعى إليه أو يرضى الدعوة لنفسه، فكان المختار بثورته داعية محمد بن الحنفيّة، ثم انتشر الدعاة باسم بني محمد بن الحنفية وبني العباس، أو للرضا من آل محمد ظاهراً. أما ابن قتيبة فهو يقول في كتابه (الإمامة والسياسة) في بدء الفتن والدولة العباسية، قولاً لم ينظر فيه إلاّ إلى سبب واحد من الأسباب التي ذكرناها وغيرها مما لم نذكره ومما سنذكره في هذهِ المقدمة، قال:

(لما سلّم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، قامت الشيعة من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة واليمن وأهل البصرة وأرض خراسان في سَتْرٍ وكتمان. فاجتمعوا إلى محمد بن علي (وهو محمد بن الحنفيّة)، فبايعوه على طلب الخلافة إن أمكنه ذلك. وعرضوا عليه قبض زكاتهم لينفقوها يوم الوثوب حين تحين الفرصة فيما يحتاج من النفقة على مجاهدته، فقبلها. وولّى على شيعة كل بلد رجلاً منهم، وأمره باستدعاء من قبله منهم في سرّ وتوصية إليهم ألا يبوحوا بمكتومهم إلاّ لمن يوثق به حتى يرى للقيام موضعاً. فأقام محمد بن الحنفية إمام الشيعة قابضاً لزكاتهم حتى مات. فلما حضرته الوفاة ولّى عبد الله ابنه من بعده وأمره بطلب الخلافة إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وأعلم الشيعة بتوليته إياه، فأقام عبد الله بن محمد بن علي وهو أمير الشيعة. فبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك في أول خلافته أن الشيعة قد بايعت عبد الله بن محمد بن علي بعد أبيه، فبعث إليه، وقد أعدّ له في أفواه الطرق رجالاً معهم أشربة مسمومة، وأمرهم إذا خرج من عنده أن يعرضوا عليه الشراب، فلما دخل على سليمان أجلسه إلى جانبه ثم قال له: بلغني أن الشيعة بايعتك على هذا الأمر، فجحده عبد الله وقال: بلغك الباطل، وما زال لنا أعداء يبلغون الأئمة قبلك عنا مثل ما بلغك ليغروهم بنا فيدفع الله عنا كيد من ناوأنا، وأنا بما يلزمني من مؤونتي أشغل مني بطلب هذا الأمر. ثم خرج من عنده في وقت شديد الحر، فكان لا يمر بموضع إلاّ قام إليه الرجل بعد الرجل يقول له: هل لك في شربة سويق اللوز وسويق كذا وكذا يا ابن بنت رسول الله؟ ونفسه موجسة منهم، فيقول: بارك الله لكم، حتى إذا وصل إلى آخر الطريق خرج إليه رجل من خبائه وبيده عُسٌّ فقال: هل لك في شربة من لبن يا ابن بنت رسول الله؟ فوقع في نفسه أن اللبن مما لا يسمم، فشرب منه ثم مضى،

٣٣

فلم ينشب أن وجد للسمّ حسّاً فاستدلّ على الطريق إلى الحميمة، وبها جماعة آل العباس، وقال لمن معه: إن متّ ففي أهلي، ثم توجّه فنزل على محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس فأخبره الخبر، وقال له: إليك الأمر والطلب للخلافة بعدي، فولاّه وأشهد له من الشيعة رجالاً، ثم مات. فأقام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ودعوة الشيعة له حتى مات، فلمّا حضرته الوفاة ولّي محمد بن إبراهيم الأمر، فأقام وهو أمير الشيعة وصاحب الدعوة بعد أبيه، انتهى)(١) .

وكأن تسليم الحسن الأمر إلى معاوية بعد أخذه عليه العهود، نبَّه الشيعة، وهم يعلمون أنهم إذا لم ينكمشوا في أمرهم ويقلّدوه رجلاً من آل علي أو ولد العباس، وقد تنازل عنه الحسن ولم ينهض به الحسين - والإمامة لأخيه - فهم مأخوذون في عقر دارهم مُستهدفون للظلم، وإن كان هذا الرأي لا يراه كل الشيعة، ومنهم من يعتقد انحصاره في علي والأئمة من بنيه من فاطمة، وإنه ليس لسواهم ولا لبني العباس. ولكنه قد يكون في الشيعة من يؤيد القائمين وإن لم يروا رأيهم في إمامة محمد بن الحنفية وولده وولد ابن عباس، منهم إن لم يتفقوا معهم في العقيدة فهم متفقون معهم في التماس الخلاص من الظلم الأموي.

الثامن:

لم يكتف معاوية باغتصاب الخلافة من عليّ وهو المتعين لها على مذهب الإمامية بالنصّ ومذهب أهل السنة والجماعة ببيعة أهل الحلّ والعقد وهو الإمام المفترض الطاعة الذي لا تجوز محاربته. ولم يكتف بمحاربته وهو الظالم له، ولا بطغيان جيوشه على بلاده وانتقاصها من أطرافها وتأمير مثل (بُسْر بن أبي أرطاة) عليها، وهو الفظ الغليظ وحسبه لؤماً قتله في غزوته اليمن طفليّ عاملها من قبل علي بن عبد الله بن عباس. لم يكتف بهذه الأفاعيل حتى سنّ مَسبَّة عليّ في حياة عليّ، ولم يتحرّج من أن يسمعها ولده الحسن وقبيله الهاشميّ غير متأثم لا مستعظم، ثم درج عليها من وُلّي الأمر بعده من الأمويين إلى أن أبطلها عمر بن عبد العزيز.

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة.

٣٤

هل هذا من العقل والدهاء اللذين وُصف بهما معاوية؟ وهل من الحكمة استفزاز العلويين وأشياعهم وقبيلهم الهاشميّ بمثل هذه البدعة من سبّ إمام حق مفترض الطاعة؟... وهل تحتملها النفوس الأبيّة مهما اتّصف أهلها بالتؤدة والحلم والأناة...؟

أليست وحدها - دع تلك الأحداث العظام التي أحدثها في الإسلام ومنها أخذه البيعة لولده الذي لا يدين بدين الحقّ - مما يكون من أعظم الأسباب لتضامن الحزب الساخط على هذه السياسة ومثيلها من سياسة من وُلّوا الخلافة من بني أميَّة...؟

التاسع:

لم يكتف الأمويون باغتصابهم الخلافة بغير حق، وهم ليسوا لها بأهل، وافتئاتهم بسلطانها وهم ليسوا برشدة ولا بحكماء حتى اتخذوا لهم أشياعاً من الظَّلمَة. فكان لمعاوية مثل زياد وسَمُرَة وبُسْر بن أبي أَرْطاة، وكان ليزيد مثل عبيد الله بن زياد، وكان لعبد الملك مثل الحجاج، ولهشام مثل يوسف بن عمر، ولغيرهم مثل هؤلاء ممن كان همهم اضطهاد أشياع علي وهم كثر منتشرون في كل بلد إسلامي، وما كانوا بل وما كانت الأمة إن أسكتتها القوة وهي بعد مجتمعة تحت سلطان الخلافة المغمور بالفتوح وامتلاك ناصية الأمم، بالراضية عن شكل هذا الحكم السابح في بحار من الدماء والجرائم والآثام. ومع ذلك فإن القائمين عليه لم يدعوا طريقة من طرق استفزاز من لهم مكانتهم في نفوس الأمة ولا سيما من عليّة الهاشميين إلاّ وقد سلكوها غير ناظرين إلى ما لها من العُقْبى في تفريق شملهم يوم قيام الفرصة السانحة وانتزاع الأمر المغصوب منهم يوم يمكّن منه القدر.

أحرجوا الحسين فأخرجوه، وقد رأى الخروج واجباً، وقد طلبوا منه وهو الإمام الحق وسبط الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يبايع يزيد. وظن وقد كاتبه الكوفيون، وبايع منهم لابن عمه (مسلم بن عقيل) ثمانية عشر ألفاً، أنه سيكون في منعة، وفي جيش كوفي مناصر يتغلب به على يزيد وأنصار يزيد، فيخلّص المسلمين منه ومنهم. ولكن انتهى الأمر بفشل الكوفيين ونكثهم البيعة له وبمقتله ومقتل أهله وأنصاره القليلين.

٣٥

ولكن لم تكن هذه المأساة إلاّ المُعْول الأول لانتقاض بنيان الخلافة الأموية حجراً فحجراً.

استفزّوا زيد بن علي، ودم جده بعد لم يجفّ من أرض الكوفة ومأساته الفادحة لم تُنس، فخرج آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ولم يكن طالباً للإمامة وهو يعلم أنها ليست له بل هي لأخيه (أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)). وظن كما ظن أبوه من قبله أنه في عزة ومنعة بأنصاره الكوفيين الذين بايعوه كما بايعوا جده، وأصابه من نكثهم بيعته ما أصاب جده، فانتهى الأمر بقتله وصلبه.

وقال بعض أشياع الأمويين فيه:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ولم نرَ مهدياً على الجذع يُصلبُ

وقـستم بـعثمان عـلياً سفاهة وعثمان أزكى من علي وأطيب

قد ذكر المؤرخون أسباباً لخروجه، وسنذكرها في مواضعها من هذا الكتاب، وكان خروج زيد سنة مائة وإحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين.

وخرج بعده ولده يحيى بن زيد بن علي بن الحسين سنة خمس أو ست وعشرين بالجوزجان من بلاد خراسان، منكراً للظلم وما عم الناس من الجور، فانتهى خروجه بقتله وصلبه، ولم يزل مصلوباً إلى أن خرج أبو مسلم صاحب الدولة العباسية وقتل قاتله (سَلْم بن أَحْوز)، وأنزل جثة يحيى فصلى عليها ودفنت هناك.

أمّا ما كان لمقتل يحيى من الأثر في النفوس الخراسانية وثورتها على الظلم الأموي، فخُذْ دليلاً عليه ما ذكره المؤرخون ومنهم المسعودي في مروجه فقال:

(وأظهر أهل خراسان النياحة على يحيى بن زيد سبعة أيام في سائر أعمالها في حال أمنهم على أنفسهم من سلطان بني أميّة، ولم يولد في تلك السنة بخراسان مولود إلاّ وسُمّي بيحيى أو بزيد لما داخلَ أهل خراسان من الجزع والحزن عليه)(١) .

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي المجلد ٢ ص١٨٥ - المطبعة البهية سنة ١٣٤٦هـ.

٣٦

نشاط الشيعة لتنظيم الدعوة

ونشرها ضد الأمويين

هذه الأسباب التي ذكرناها لا نزعم أنها هي وحدها التي أهابت بالشيعة إلى نفورها من الأمويين وحكمهم الظالم، بل هناك أسباب أُخرى نعرض عنها للاختصار مجتزئين بما ذكر.

هذه الأسباب إلى ما يضارعها دعت الشيعة إلى تنظيم صفوفها وتنظيم دعاتها إلى كل ما ينقض بنيان السلطان الأموي.

وإليك ما علّله ابن خلدون في تاريخه من خروج العلويين حيث قال:

(قد تقدم لنا ذكر شيعة أهل البيت لعلي بن أبي طالب وبنيه رضي الله عنهم، وما كان من شأنهم بالكوفة وموجدتهم على الحسن في تسليم الأمر لغيره، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، حتّى قتل المتولون كِبَر ذلك منهم (حِجْر بن عَديّ) وأصحابه. ثم استدعوا الحسين بعد وفاة معاوية، فكان من قتله بكربلاء ما هو معروف. ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان، وخروج عبيد الله بن زياد من الكوفة، وسمّوا أنفسهم التوّابين، وولّوا عليهم (سُليمان بن صُرَد)، ولقيتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستلحموهم.

ثم خرج (المختار بن أبي عُبيد) بالكوفة طالباً بدم الحسين رضي الله عنه وداعياً لمحمد بن الحنفيَّة، وتبعه على ذلك جموعه من الشيعة، وسماهم شرطة الله. وزحف إليه (عُبيد الله بن زياد) فهزمه المختار وقتله. وبلغ محمد بن الحنفيّة من أحوال المختار ما نقمه عليه فكتب إليه بالبراءة

٣٧

منه، فصار إلى الدعاء (لعبد الله بن الزُّبَيْر)، ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك، فقتله صاحب الكوفة (يوسف بن عمر) وصلبه. وخرج إليه ابنه يحيى بالجَوْزَجان من خُراسان فقُتل وصُلب كذلك، وطُلّت دماء أهل البيت في كل ناحية)(١) .

وبعد أن أوجز اختلاف الشيعة في الإمامة ومصيرها إلى مذاهب الإمامية والزيدية أتباع زيد، والكيسانية المعتقدين إمامة محمد بن الحنفية قال:

(ولمّا صار أمر بني أمية إلى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سراً لمحمد بن عبد الله بن حسن المُثَنّى بن الحسن بن علي، وسلّم له جميعهم، وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم، ولما علموا له من الفضائل عليهم. ولهذا كان مالك وأبو حنيفة يجتمعان إليه حين خرج من الحجاز، ويريدون بذلك أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصية من زيد بن علي. وكان أبو حنيفة يقول بفضله ويحتج إلى حقه، فتأدت إليهما المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب مالك على الفُتياء في طلاق المكره، وحبس أبو حنيفة على القضاء)(٢) .

لم يدع رجال الشيعة وسيلة من وسائل التفكير في حمل الكافة على مقت الخلافة الأموية - وإن كان ما يصدر عنها كافياً لنماء ذلك المقت - ولم يتركوا ذريعة من الذرائع لتكوين فكرة عامة، ولا حيلة من الحيل لتفكيك عرى عصبيتها والعمل المشترك على دكّ عرشها، إلاّ وقد تذرعوا. وأنشأوا الأحزاب الخفيّة وبثوا الدعاة في الأمصار ولا سيما البعيدة عن عاصمة الخلافة كبلاد خراسان الواسعة، وهي البلاد التي لم تقم فيها عصبية للأمويين بل ولا للعرب وأهلها، وإن دخلوا في الإسلام فهم لا

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون ج٤ ص٣، ٤ - دار الكتاب اللبناني - بيروت.

(٢) نفسه ج٤ ص٥، ٦.

٣٨

ينسون عزة سلطانهم وقد انتزعه منهم العرب، ولا كان في طبيعة الحكم الأموي من العدل ما يحملهم على النسيان أو التناسي وفي نفوسهم نزوع إلى استردُّد ملكهم واسترجاع سلطانهم المفقود، فكانوا بطبيعة الحال أميل إلى الحزب الهاشمي المعارض والنفوس مطبوعة على هوى المستضعف. دع ما في انضمامهم إلى هذا الحزب ما يرون فيه الوصول إلى بغيتهم وهي رجوع سلطانهم إليهم وفيهم من عرف بفصل الدعاوة أو بدراسة الدين الحق لأهله.

ولهذه العوامل اعتزت الدعوة الهاشمية بخراسان بكثرة الأشياع والأتباع وقيام (أبي مسلم الخراساني).

العصبية بين النِّزاريّة واليَمانية:

ومن آثار هذه السياسة الشيعية الخفية المرتكزة على دمامة التفكير الصحيح من الحزب المعارض، قيام العصبية النِّزارية واليمانية التي كان (الكُميت) الشاعر الهاشمي السياسي أول من أذكى جذوتها وهو نزاري، وكان خصمه الذي نَهَدَ لمعارضته (دِعْبِل) الشيعي الشاعر الهاشمي السياسي وهو يماني.

وسبب قيام هذه العصبية بعد أن أتى الإسلام على كل عصبية جاهلية، أنّ الكُميت لما قال الهاشميات قصد البصرة فأتى (الفَرَزْدَق) وهو شيعي فأنشد قصيدته التي مستهلُّها:

طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب

ولمّا أتمّ إنشادها قال له: (أظهِر، ثم أظهِر...)، وهذا هو غرض الكُميت الذي كان يقصده من عرض قصيدته على شاعر عصره الفَرَزْدق.

(ولما قدم الكميت المدينة أتى أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، فأذن له، وأنشده فلما بلغ من قصيدته قوله:

وقتيل بالطفّ غودر منهم بين غوغاء أمة وطغام

بكى أبو جعفر ثم قال:«يا كُميت، لو كان عندنا مال لأعطيناك،

٣٩

ولكن لك ما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لِحسَّان بن ثابت: لا زلت مؤيداً بروح القدس ما ذببت عنا أهل البيت» .

فخرج الكُميت من عنده، فأتى عبد الله بن الحسن بن علي فأنشده فقال: يا أبا المستهل، إن لي ضيعة أُعطيت فيها أربعة آلاف دينار، وهذا كتابها، وقد أشهدت لك بذلك شهوداً، وناوله إياه.

فقال له الكُمَيت:

(بأبي أنت وأمّي، إني كنت أقول الشعر في غيركم أريد بذلك الدنيا والمال، ولا والله ما قلت فيكم إلاّ لله، وما كنت لآخذ على شيء جعلته لله مالاً ولا ثمناً.

فألحّ عبد الله عليه وأبى من إعفائه، فأخذ الكُميت الكتاب ومضى. فمكث أياماً ثم جاء إلى عبد الله فقال:

(بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول الله، إني لي حاجة).

فقال له عبد الله: (وما هي؟ وكل حاجة لك مقضية). قال الكُميت: (كائنة ما كانت؟). قال عبد الله: (نعم).

قال الكُمَيت: (هذا الكتاب تقبله وترتجع الضيعة).

ووضع الكتاب بين يدي عبد الله، فقبله عبد الله.

ونهض عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأخذ ثوباً جلداً فدفعه إلى أربعة من غلمانه، ثم جعل يدخل دور بني هاشم ويقول:

(يا بني هاشم...، هذا الكُميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم وعرض دمه لبني أمية فأثيبوه بما قدرتم)، فيطرح الرجل في الثوب ما قدر عليه من دنانير ودراهم، واعلم النساء بذلك فكانت المرأة تبعث ما أمكنها حتى إنها لتخلع الحلي عن جسدها. فاجتمع من الدنانير والدراهم ما قيمته مائة ألف درهم، فجاء بها إلى الكميت، فقال:

(يا أبا المستهل...، أيتناك بجهد المقل ونحن في دولة عدونا، وقد جمعنا هذا المال وفيه حلى النساء كما ترى، فاستعن به على دهرك).فقال الكُميت:

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

من هذين البيانين اتضح مقصود القرآن الكريم من قوله :

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

وقوله :

( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) .

كما اتضح أيضاً لماذا لا تكون الوحدة التي نصف بها الذات الإلهية، وحدة عددية، لأنّ مثل هذه الوحدة ( أي العددية ) إنّما تتصور إذا أمكن تصور فردين أو أفراد للشيء، في حين لا يمكن تصور التعدّد في مورد اللامحدود، لأنّ كل واحد من الفردين عند افتراض التعدّد، غير الآخر، ومنتهى حدود الآخر، ولهذا يكون أي واحد منهما غير محدود، وغير متناه في حين أنّنا افترضنا الأوّل غير محدود، وغير متناه.

سؤال في المقام

نرى في الكتاب العزيز مجيء وصف « القهار » عقيب وصف الله ب‍ « الواحد » مثل قوله :

( وَمَا مِنْ إِله إلّا الله الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (١) .

( سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (٢) .

( وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (٣) .

__________________

(١) ص: ٦٥.

(٢) الزمر: ٤.

(٣) الرعد: ١٦.

٢٨١

وهنا ينطرح سؤال عن وجه الارتباط بين وصفي الوحدانية والقهارية ؟

الجواب :

الحق أنّ « القهارية » دليل على وحدانية الله، لأنّ الشيء المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه، وعلامة المقهورية هي أن يصح سلب أُمور منه، مثلاً يصح أن يقال في شأنه :

هذا الجسم ليس هناك أو أنّه لم يكن في ذلك الوقت.

وعلى هذا فإنّ المقهورية هي سبب المحدودية.

وأمّا إذا كان الشيء « قاهراً » من كل الجهات، فلا تتحكم فيه الحدود قطعاً، واللامحدودية تستلزم الوحدانية والتفرّد، ولأجل ذلك قورنت صفة الوحدانية بوصف القاهرية، وقال:( الوَاحِدُ القَهَّارُ ) .

وفي الحقيقة يمكن اعتبار هذا النوع من الوصف ( أي الوصف بالقهارية ) إشارة إلى ذلك الدليل العقلي الذي ذكرناه في هذه الإجابة.

وهكذا يتضح وجه الارتباط بين وصفي « الوحدانية » و « القهّارية » اللّذين اجتمعا في بعض الآيات القرآنية.

سؤال آخر :

إذا كان وجود الله منزّهاً عن الوحدة العددية، ففي هذه الصورة ماذا يكون معنى الآيات التي تصف الله بأنّه « الواحد »، والواحد، كما نعلم، هو ما يقابل الاثنين والثلاث إلى غيرهما من الأعداد، كقوله سبحانه :

٢٨٢

( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إلّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) (١) .

( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (٢) .

خاصة إذا عرفنا بأنّ هذه الآيات نزلت في مقام الرد على ما كان يذهب إليه المشركون من الاعتقاد ب‍ « تعدّد الآلهة »، والذين كانوا يقولون :

( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (٣) .

الجواب: انّ الهدف من هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ هو استنكار ما كان يعتقده المشركون بأنّ لكل قبيلة وقوم إلهاً خاصاً بها كانوا يعبدونه ولا يعتقدون بآلهة الآخرين.

فالمقصود من هذه الآيات هو إبطال إلوهية هذه الأوثان والآلهة المدّعاة وتوجيه الأذهان إلى « الله الواحد » بدل تلك الآلهة المتعددة.

وأمّا أنّ وحدته كيف ؟ وعلى أي وجه ؟ ومن أي نوع من أنواع الوحدات الأربع تكون هذه الوحدة ؟ فليست الآيات المذكورة ناظرة إليه، بل يجب استفادة هذا الأمر من الإشارات التي وردت في القرآن إلى هذه الوحدة في مواضع أُخرى.

أحاديث أئمّة أهل البيت: حول وحدانية الله

لقد ورد هذان الموضوعان، أعني: عدم تناهي ذاته سبحانه وعدم الوحدة العددية، المذكوران في البرهان العقلي في أحاديث أئمّة أهل البيت: أيضاً فهي

__________________

(١) البقرة: ١٦٣.

(٢) العنكبوت: ٤٦.

(٣) ص: ٥.

٢٨٣

صرّحت بنفي المحدودية والتناهي في الذات الإلهية، وصرّحت أيضاً بعدم صدق « الوحدة العددية » في حقّه سبحانه.

فقد قال الإمام الثامن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء :

« ليس له حد ينتهي إلى حده، ولا له مثل فيعرف بمثله »(١) .

ومما يستحق الإمعان والدقة أنّ الإمامعليه‌السلام ـ بعد نفيه الحد عن الله ـ نفى المثيل له سبحانه لارتباط اللامحدودية وملازمتها لنفي المثيل على النحو الذي مر بيانه.

ومن ذلك ما قاله الإمام عليعليه‌السلام في وقعة الجمل عندما كان بريق السيوف يشد إليها العيون، وكانت ضربات الطرفين تنتزع النفوس والأرواح التفت إليه رجل من أهل العراق وسأله عن كيفية وحدانية الله، فلامه أصحاب الإمام وحملوا عليه قائلين له: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ( أي تشتت الفكر واضطراب البال ) ؟!

فقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ».

ثم قال ـ شارحاً ما سأل عنه الأعرابي ـ :

« وقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ».

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٣٣.

٢٨٤

ثمّ أضافعليه‌السلام قائلاً :

« هو ( أي الله ) واحد ليس له في الأشياء شبيه، كذلك ربنا »(١) .

وهكذا يصرح الإمام بأنّ الواحدية المذكورة هنا تعنى أنّه لا عديل له لا أنّه واحد على غرار قولنا: « هذا قلم واحد » الذي يكون مظنة لإمكان الاثنينية، إذ في هذه الصورة يمكن أن يكون ذات مصاديق متعددة وأفراد متكثرة، ولكنه انحصر في الله، وهذا خلف، وغير صحيح.

الآلهة الثلاثة أو خرافة التثليث

بعد أن درسنا ـ بالتفصيل ـ الآيات المرتبطة بتوحيد الله، يلزم أن نعرف نظر القرآن في حقيقة التثليث.

الحقيقة أنّه قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعاني منها المسيحية.

كما أنّه قلّما توجد مسألة في غاية الإبهام واللامعقولية كما تكون عليه مسألة « التثليث » في تلك العقيدة.

لقد أدّى تقادم الزمن وتطور الحياة والتكامل الفكري وتضاؤل العصبيات المذهبية والتحولات الفكرية، أدّت كل هذه الأُمور إلى ظهور « طبقة » جديدة بين مفكري المسيحية وعلمائها، كما تسببت في وجود فجوة عميقة بين العلم والمنطق من جانب، وبين معتقداتهم القديمة من جانب آخر بشكل لا يمكن ملؤها بأي نحو، وأي شيء.

غير أنّ هذه « الطبقة الجديدة » من العلماء المسيحيين اتخذت لملء هذه

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٨٣.

٢٨٥

الفجوة الفكرية وهذا الخلاء العقيدي طريقين :

الطريق الأوّل: محاولة البعض منهم لتأويل تلك المعتقدات المسيحية الباطلة المرفوضة حتى في المنطق البشري الحاضر، وإعطاء هذه الأفكار الخرافية صبغة منطقية عصرية كما نشاهد ذلك في تأويلهم لمسألة التثليث.

الطريق الثاني: هو اجتناب التأويل واتباع قاعدة أتفه وهي قولهم: « بأنّ طريق العلم يختلف عن طريق الدين » وأنّه من الممكن أن يقول الدين بشيء أو يرتضي أصلاً لا يصدقه العلم فيه. وإنّه ليس من الضروري أن يطابق الدين مع العلم دائماً.

وبالتالي قبول خرافة « الدين يخالف العلم ».

ولكن هؤلاء غفلوا عن نقطة هامّة جداً وهي أنّ القول بخرافة: « مضادة الدين للعلم » ستؤدي في المآل إلى إبطال أصل الدين، لأنّ اعتقاد البشر بأي دين من الأديان يتوقف على الاستدلالات العقلية والعلمية، وفي هذه الصورة، نعني: مضادة العلم للدين، كيف يمكن إثبات صحة الدين بالاستناد إلى الأُسس العقلية والعلمية والحال أنّ بين الدين والعلم مباينة ـ حسب هذه النظرية ـ أو أنّ في الدين ما ربما يخالف العلم والعقل ؟!!

إنّ البحث في العقيدة النصرانية حول سيدنا المسيح يتركّز في مسألتين :

١. التثليث وانّ الله سبحانه هو ثالث ثلاثة.

٢. كونه سبحانه اتخذ ولداً.

والمسألتان مفترقتان من حيث الفكرة وإقامة البرهان، ولأجل ذلك نعقد لكل واحدة منهما عنواناً خاصاً.

٢٨٦

كيف تسربت خرافة التثليث إلى النصرانية ؟

ينقل الأُستاذ فريد وجدي نقلاً عن دائرة معارف « لاروس » :

« أنّ تلاميذ المسيح الأوّليّين الذين عرفوا شخصه، وسمعوا قوله، كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنّه أحد الأركان الثلاثة المكونة لذات الخالق وما كان بطرس أحد حوارييه، يعتبره إلّا رجلاً موحى إليه من عند الله، أمّا بولسن فإنّه خالف عقيدة التلامذة الأقربين لعيسى وقال: إنّ المسيح أرقى من إنسان وهو نموذج إنسان جديد أي عقل سام متولد من الله »(١) .

إنّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ـ بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم ـ إلى الشرك والوثنية ـ تحت تأثير المضلّين ـ وبذلك كانوا ينحرفون عن جادة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي والغاية القصوى لأنبياء الله ورسله.

إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل وترك التوحيد الذي هداهم النبي العظيم موسى له، لمن أفضل النماذج لما ذكرناه وهو ما أثبته القرآن والتاريخ للأجيال القادمة، وعلى هذا فلا داعي للعجب إذا رأينا تسرب خرافة « التثليث » إلى العقائد النصرانية بعد ذهاب السيد المسيحعليه‌السلام وغيابه عن أتباعه.

إنّ تقادم الزمن قد رسخ موضوع « التثليث » وعمّقه في قلوب النصارى وعقولهم بحيث لم يستطع حتى أكبر مصلح مسيحي ونعني « لوثر » الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات وأسس المذهب البروتستانتي، لم يستطع لوثر هذا من التخلّص من مخالب هذه الخرافة وأحابيلها.

__________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين مادة ثالوث.

٢٨٧

رأي القرآن في التثليث

يعتبر القرآن الكريم « قضية التثليث » مرتبطة بالأديان السابقة على المسيحية ويعتقد أنّ المسيحعليه‌السلام نفسه ما كان يدعو إلّا إلى الله « الواحد » الأحد إذ يقول :

( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إنّ اللهَ هُوَ المسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ وقالَ المَسِيحُ يا بَنِي إسرائيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبّي وَرَبَّكُمْ إنّهُ مَنْ يُشْرِكْ باللهِ فَقَدْ حَرّمَ الله عَلَيْهِ الجَنَّةَ ) (١) .

ويعتقد القرآن أنّ النصارى هم الذين أدخلوا هذه الخرافة في العقائد المسيحية إذ يقول :

( وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) (٢) .

لقد أثبتت تحقيقات المتأخرين من المحققين صحة هذا الرأي القرآني بوضوح لا لبس فيه.

فهذه التحقيقات والدلائل التاريخية جميعها تدل على أنّه أدخلت ـ في القرن السادس قبل الميلاد ـ إصلاحات على الدين البراهماني، وفي النتيجة ظهرت الديانة الهندوسية.

وقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي وتجسد ـ لدى البراهمة ـ في ثلاثة مظاهر وآلهة :

١. برهما ( الخالق ).

__________________

(١) المائدة: ٧٢.

(٢) التوبة: ٣٠.

٢٨٨

٢. فيشنو ( الواقي ).

٣. سيفا ( الهادم ).

ويوجد هذا الثالوث الهندوكي المقدس في المتحف الهندي، في صورة ثلاث جماجم متلاصقة، ويوضح الهندوس هذه الأُمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي :

« براهما »: هو الموجد في بدء الخلق، وهو دائماً الخالق اللاهوتي، ويسمى الأب.

« فيشنو »: هو الواقي الذي يسمى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

« سيفا »: هو المفني الهادم المعيد للكون إلى سيرته الأُولى.

لقد أثبت مؤلف كتاب « العقائد الوثنية في الديانة النصرانية » في دراسته الشاملة حول هذه الخرافة وغيرها من الخرافات التي تعج بها الديانة النصرانية أثبت أنّ هذا « الثالوث » المقدس كان في الديانة البراهمانية، وغيرها من الديانات الخرافية، قبل ميلاد المسيحعليه‌السلام بمئات السنين.

وقد استدل لإثبات هذا الأمر بكتب قيمة وتصاوير حية توجد الآن في المعابد والمتاحف يمكن أن تكون سنداً حياً، ومؤيداً قوياً لرأي القرآن الكريم، الذي ذكرناه عما قريب.

ثمّ في هذا الصدد يكتب غوستاف لوبون :

« لقد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأُولى من حياتها مع

٢٨٩

أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوربية حوالي القرن الأوّل الميلادي، فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوناً من الأب والابن وروح القدس مكان التثليث القديم المكون من نروپي تر، وژنون ونرو »(١) .

لقد أبطل القرآن الكريم مسألة التثليث بالبرهان المحكم إذ قال :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً ) (٢) .

نعم لم يرد في هذه الآية كلام صريح عن التثليث بل تركز الاهتمام فيها على إبطال « إلوهية المسيح »، ولكن طرحت ـ في آيات أُخرى ـ إلوهية المسيح في صورة إنكار « التثليث » ومن هذا الطرح يعلم أنّ إلوهية المسيح كانت مطروحة بصورة « التثليث » وتعدد الآلهة كما قال القرآن في موضع آخر :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَة وَمَا مِنْ إِلهٍ إلّا إِلهٌ واحِدٌ ) (٣) .

يقيم القرآن الكريم ـ في هذا المجال ـ برهانين في غاية الوضوح والعمومية، وها نحن نوضحهما فيما يأتي :

والبرهانان هما :

١. قدرة الله على إهلاك المسيح.

__________________

(١) قصة الحضارة.

(٢) المائدة: ١٧.

(٣) المائدة: ٧٣.

٢٩٠

٢. أنّ المسيح مثل بقية البشر يأكل ويمشي و

يقول القرآن حول البرهان الأوّل :

( فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ واللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) (١) .

ولا ريب أنّ جميع النصارى يعترفون بأنّ السيد المسيح « ابن » لمريم ولذلك يقولون: المسيح بن مريم.

فإذا كان عيسى « ابناً » لمريم فلابد أنّه بشر كسائر البشر وآدمي كبقية الآدميين، محياه ومماته بيد الله، وتحت قدرته، فهو تعالى يهبه الحياة متى يشاء، وهو تعالى يميته متى أراد، ومع هذه الحالة كيف تعتبره النصارى « إلهاً » وهو لا يملك لنفسه حياة ولا موتاً ؟!! »

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم وجّه في هذه الآية عناية كاملة إلى « بشرية » المسيح باعتبار أنّ بشرية المسيح تؤلِّف أساس البرهان الأوّل ولذلك نجد القرآن يصفهعليه‌السلام بأنّه ابن مريم، ويتحدّث عن « أُمّه » وعن جميع من في الأرض فيقول:( وََأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً ) مشيراً إلى بشريته، بل وليثبت أنّ المسيح ليس أكثر من كونه واحداً من آحاد البشر وفرداً من أفراد النوع الإنساني يشترك مع بني نوعه في كل الأحكام على السواء.

وبعبارة أوضح أنّ هناك قاعدة في الفلسفة الإسلامية هي قاعدة « حكم

__________________

(١) المائدة: ١٧.

٢٩١

الأمثال » التي تقول: « حكم الأمثال فيما يجوز [ عليها ] وما لا يجوز واحد ».

فإذا كان هلاك أفراد الانسان ( ما عدا المسيح ) ممكناً كان هلاك المسيح أيضاً ممكناً كذلك، لكونه واحداً من البشر، وفي هذه الصورة كيف تعتبره النصارى إلهاً، والإله لا يجوز عليه الموت ؟!

ولتتميم هذا المطلب يختم القرآن الكريم الآية بجملة( وَللهِ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرض ) وفي الحقيقة إنّ هذه الجملة تكون علة للحكم السابق فمعناه أنّ الله يملك اهلاك عيسى وأُمّه وكل أفراد البشر لأنّهم جميعاً ملكه، وفي قبضته، وتحت قدرته، فيكون معنى مجموع الآية: انّ الله قادر على إهلاك عيسى وأُمّه، لأنّه مالكهم جميعاً وبيده ناصيتهم دون استثناء، والقدرة على إهلاكه وإهلاك أُمّه، أدل دليل على كونه مخلوقاً له سبحانه.

البرهان الثاني: المسيح والآثار البشرية

خلاصته: أنّ المسيح وأُمّه شأنهم شأن بقية الأنبياء، يأكلون الطعام، كأي بشر آخر، إذ يقول :

( مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمَّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) (١) .

وعلى هذا فليس بين المسيح وأُمّه وبين غيره من الأنبياء والرسل أي فرق، وتفاوت، فهم يأكلون عندما يجوعون ويتناولون الطعام كلما أحسّوا بالحاجة إلى الطعام، وشأن عيسى وأُمّه شأنهم، ولا ريب أنّ « الحاجة » دليل الإمكان والإله

__________________

(١) المائدة: ٧٥.

٢٩٢

منزّه عن الحاجة والإمكان.

إنّ هذه الآية لا تبطل إلوهية المسيح فحسب، بل تبطل إلوهية أُمّه أيضاً، إذ يستفاد من بعض الآيات أنّ « أُمّه » كانت معرضاً لهذه التصورات الباطلة أيضاً حيث يقول القرآن :

( ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) (١) .

لقد استوفينا البحث حول التثليث في نظر القرآن وبقي البحث حوله من زاوية البراهين العقلية، وسيوافيك ذلك في مختتم هذا الفصل، بعد أن ندرس بنوة عيسى ومعبوديته وبطلانها قرآنياً، لنتفرغ بعده إلى دراسة التثليث عقلياً.

الله سبحانه واتخاذ الولد(٢)

تعتبر مسألة بنوة المسيح لله إحدى مظاهر الشرك في « الذات »، الذي يصوّر حقيقة الإله الواحد في صورة آلهة متعددة، ويقوم « التثليث » النصراني في الحقيقة على هذا الأساس، أي على أساس اعتبار المسيح ابناً لله سبحانه.

وقد فنّد القرآن الكريم هذا الاعتبار الخاطئ وأبطله ببراهين عديدة، وأوضح تفاهته بطريقين :

أوّلاً: عن طريق البراهين العلميّة الدالة على استحالة أن يكون لله ولد مطلقاً سواء أكان هذا الولد عيسىعليه‌السلام أم غيره.

وثانياً: عن طريق بيان تولد المسيح من أُمّه، واستعراض حياته البشرية ،

__________________

(١) المائدة: ١١٦.

(٢) هذه هي المسألة الثانية التي أشرنا إليها ـ آنفاً في مطلع بحث التثليث ـ.

٢٩٣

الدال على بطلان كونه « ولداً » لله خصوصاً.

على أنّ النصارى ليسوا هم وحدهم الذين اعتقدوا بوجود ولد لله، بل قالت بمثل ذلك اليهود حيث ينقل سبحانه عنهم :

( وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ) (١) .

وحذا حذوهم مشركو العرب حيث كانوا يتصورون أنّ « الملائكة » بنات الله إذ يقول سبحانه :

( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ ) (٢) .

وإليك هذه البراهين حول الطريق الأوّل بالتفصيل.

البرهان الأوّل

يقول سبحانه :

( بَدِيْعُ السَّمٰوَاتِ والأرض أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٣) .

أُشير في هذه الآية الشريفة إلى برهانين على استحالة اتخاذ الله للولد :

١. انّ اتخاذ الولد يتحقق بانفصال جزء من الأب باسم « الحويمن » ويستقر في رحم الأُم ويتفاعل مع ما ينفصل منها وتسمّى بالبويضة، وتواصل تلك البويضة تكاملها حتى يكون الوليد بعد زمن.

__________________

(١) التوبة: ٣٠.

(٢) النحل: ٥٧.

(٣) الأنعام: ١٠١.

٢٩٤

إذن فمثل هذه العملية تحتاج ولا ريب إلى وجود « زوجة » أو بتعبير القرآن إلى « صاحبة » في حين يعترف الجميع بعدم الصاحبة له سبحانه كما يقول القرآن( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ) .

٢. إن كان معنى « اتخاذ الولد » هو ما قلناه، إذن فلا يكون الولد مصنوعاً لله ومخلوقاً له تعالى بل يكون عدلاً وشريكاً له.

لأنّ « الوالد » ليس خالق « الولد » بل الولد جزء من والده انفصل عنه، ونما خارجه، وكبر، في حين انّ الله خالق كل شيء ما سواه من الأشياء بلا استثناء كما تقول:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

ويقول سبحانه في صدر الآية:( بَدِيعُ السَّمٰوَاتِ والأرْضِ ) بمعنى موجد السماوات والأرض وخالقهما وما فيهما.

البرهان الثاني

( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (١) .

وقد أُشير في هذه الآية إلى برهان واحد على « نفي الولد لله » وهو مسألة « المالكية التكوينية له سبحانه والوهيته المطلقة » لما سواه، وتوضيحه :

إنّ هناك نوعين من المالكية: مالكية اعتبارية، تنشأ من العقد الاجتماعي الدارج بين أبناء البشر، ومالكية تكوينية تنشأ من خالقية المالك.

إنّ مالكية الإنسان لأمواله مالكية ناشئة عن « العقد الاجتماعي » الذي

__________________

(١) الفرقان: ٢.

٢٩٥

أذعن له الإنسان لغرض إدارة الحياة وضمان تمشيتها وجريانها، في حين أنّ مالكية الله للسماوات والأرض وما بينهما مالكية تكوينية ناشئة عن خالقيته لها.

فإذا كان الله سبحانه مالكاً لكل شيء فلا يمكن حينئذ أن نتصور له ولداً لأنّ ولد الإنسان ـ بحكم كونه ليس مخلوقاً له ـ لا يكون مملوكاً له كذلك مع أنّا أثبتنا أنّ الله مالك لكل شيء لكونه خالقاً لكل شيء، وإلى هذا البرهان أُشير في هذه الآية:( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) .

كما أُشير ـ في ذيل هذه الآية ـ إلى علة هذه المالكية وأساسها وهو « الخالقية » إذ يقول:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

البرهان الثالث

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ *بَدِيعُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

استدل في هاتين الآيتين على « نفي الولد » بثلاثة براهين :

١. أنّ معنى الولد هو انفصال جزء من الوالد واستقراره في رحم الأُم، وهذا يستلزم كون الله جسماً، ومتصفاً بالآثار الجسمانية كالمكان، والزمان والجزئية، والتركب من الأجزاء بينما يكون الله سبحانه منزّهاً عن هذه الأُمور وإلى هذه الناحية أشارت الآية بكلمة « سبحانه ».

٢. انّ إلوهية الله مطلقة وربوبيته عامة وشاملة، فكل الموجودات قائمة به ومحتاجة إليه، غير مستغنية عنه.

__________________

(١) البقرة: ١١٦ ـ ١١٧.

٢٩٦

فإذا كان له « ولد » يلزم ـ حتماً ـ أن يكون الولد مثيلاً ونظيراً له في الاتصاف بجميع صفات الله ومنها: « الاستقلال والغنى عن الغير » على حين ثبت كونه سبحانه مالكاً مطلقاً للسماوات والأرض وما بينهما فهي قائمة به، تابعة له، محتاجة إليه دون استثناء ومطيعة لأمره وخاضعة لمشيئته بلا منازع، وليس هنا موجود مستقل غيره.

وإلى هذا البرهان أشار بقوله سبحانه:( لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) .

٣. انّه لا موجب لاتخاذ الله للولد، لأنّ طلب الأبناء والأولاد، إمّا أن يكون لغرض استمرار النسل والذرية، أو بهدف الاستعانة بهم لرفع الاحتياج عند الشيخوخة والعجز، ولا يمكن أن يتصور أي واحد من هذه الدوافع في مقامه سبحانه وإلى هذا أشارت الآية بقولها :

( بَدِيعُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

فأية حاجة تتصوّر لله إلى الولد وهو بديع كل شيء ؟

وفي آية أُخرى اعتمد على موضوع « الغنى الإلهي » لنفي الولد، إذ يقول :

( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وما فِي الأرْضِ ) (٢) .

وهكذا ينفي القرآن الكريم خرافة اتخاذ الله للبنين والبنات، تلك الخرافة التي كانت توجد في الديانات القديمة ك‍: « اليهودية » و « النصرانية »

__________________

(١) البقرة: ١١٧.

(٢) يونس: ٦٨.

٢٩٧

و « الزرادشتية » و « الهندوكية » وعند المشركين.

ولقد استدل المسيحيون على بنوة عيسى لله بتولده من غير أب، إذ قالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هل رأيت ولداً من غير أب ؟ إذن فليس لعيسى من أب إلّا الله.

فأجاب الله عن هذا الزعم بقوله :

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

أي إنّ مثل عيسى في تكونه من غير أب كمثل آدم في خلق الله له من غير أب وأُم فليس عيسى عندئذ بأبدع وأعجب من آدم فكيف أنكروا هذا وأقرّوا بذلك ؟!

خلاصة ما سبق

تلخّص مما سبق أنّ القرآن يستند في نفيه لاتخاذ الله ولداً على البراهين التالية :

١. ليست له سبحانه أية زوجة حتى يكون له ولد منها.

٢. انّه تعالى خالق كل شيء واتخاذ الولد ليس خلقاً بل هو انفصال جزء من الوالد وهو ينافي خالقيته لكل شيء.

٣. انّه مالك كل شيء مالكية ناشئة عن الخالقية وكون المسيح ولداً له سبحانه يستلزم عدم مخلوقيته وهو يستلزم عدم كونه مملوكاً وهو ينافي مالكية الله العامة.

٤. انّه سبحانه منزّه عن أحكام الجسم، واتّخاذ المسيح ولداً يستلزم كون الله

__________________

(١) آل عمران: ٥٩.

٢٩٨

جسماً ومحكوماً بالأحكام الجسمانية، لأنّ معنى كون المسيح ولداً له سبحانه هو انفصال جزء منه سبحانه وهو يستلزم كونه جسماً.

٥. انّ جميع الأشياء قائمة بالله فلا استقلال لسواه في حين يستلزم افتراض ولد لله سبحانه استقلاله كاستقلال الوالد حتى يكون الولد نظير الوالد.

٦. انّ الله تعالى غني فلا حاجة له إلى ولد.

٧. انّ كون المسيح دون والد ليس بأعجب من آدم الذي وجد من دون أبوين مطلقاً.

* * *

وأمّا الطريق الثاني(١) الذي سلكه القرآن لإبطال « بنوة خصوص المسيح » فهو بيان حياة السيد المسيح وشرحها بنحو واضح في سور مختلفة خاصة في سورة « مريم »(٢) بحيث لا يبقى أي شك لمنصف في « بشريته »عليه‌السلام .

وقد وردت في بعض الآيات التي مرت في هذا البحث نماذج عن حياته البشرية(٣) .

بقي هنا بحث هام اعتنى به القرآن الكريم بجد، وهو مسألة كون المسيح

__________________

(١) قد تقدم آنفاً في صفحة ٢٩٣ إنّ القرآن استعرض مسألة نفي الولد لله سبحانه بشكلين تارة عن طريق نفي أي ولد له سواء أكان المسيح أم غيره وأُخرى عن طريق نفي خصوص بنوة المسيح، وقد استوفينا البحث في القسم الأوّل وإليك البحث في القسم الثاني.

(٢) راجع سورة مريم: ١٦ ـ ٣٥.

(٣) راجع سورة المائدة: ١٧ و ٧٥، وسورة التوبة: ٣٠ وسيوافيك قوله سبحانه:( إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ ) ( النساء: ١٧١ ) فبملاحظة حالاته في هذه الدنيا نجزم بأنّه مخلوق لله سبحانه وليس ولداً له.

٢٩٩

معبوداً وانّه لا يستحق العبادة سواء أكان ابناً لله سبحانه أم لا، وسواء أصح التثليث أم لا، وهذه مسألة مستقلة تجتمع مع نفي التثليث والبنوة، ولأجل ذلك نستعرض هذا البحث مستقلاً عن البحثين الماضيين.

القرآن ومعبودية المسيح

إنّ القرآن ينزّه الله تنزيهاً مطلقاً عن أن يبعث رسلاً يدعون الناس إلى عبادة أنفسهم بدل الدعوة إلى عبادة الله سبحانه، فقال :

( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ الله وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيّيِنَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ *وَلا يَأْمُرَكُمْ أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (١) .

وفي هاتين الآيتين نفي لمعبودية المسيح أو مشاركته في الربوبية.

كما أنّ القرآن الكريم طرح مسألة عبادة السيد المسيح في آيات أُخرى وأبطل ـ بنفي مالكية المسيح لضر عباده ونفعهم ـ إمكان كونه مستحقاً للعبادة فيقول :

( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ولا نَفْعاً والله هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) (٢) .

__________________

(١) آل عمران: ٧٩ ـ ٨٠.

(٢) المائدة: ٧٥.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672