مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154957 / تحميل: 6020
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بينما يخص الانذار بالمخاطبين في هذه الآية يعمّم الانذار لكلّ الناس في آية اُخرى ويقول:( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) ( يونس ـ ٢ ).

٢. عد بعض أهل الكتاب من الصالحين :

انّ القرآن الكريم يعد بعض أهل الكتاب من الصالحين حيث يقول :

( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ *يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران: ١١٣ ـ ١١٤ ).

فلو كانت رسالة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عالمية يجب أن يرجع إلى شريعتها كلّ من يعيش تحت السماء من أصحاب الشرائع السماوية فعندئذ كيف يعد بعض من لم يرجع إليها من الصالحين ويصفهم بالأوصاف المذكورة في هاتين الآيتين ؟

الجواب :

انّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الرجوع إلى سياق الآيات فانّه سبحانه لـمّا وصف أهل الكتاب بأنّ أكثرهم الفاسقون وقال :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) .

وقال:( لَن يَضُرُّوكُمْ إلّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) .

وقال في حق اليهود :

( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ) ( آل عمران: الآيات١١٠، ١١١، ١١٢ ).

أراد سبحانه أن لا يبخس حق الأقلّية الصالحة منهم، تمشّياً مع الحقيقة، ووفاء للحق. وقال :

( لَيْسُوا سَوَاءً ) .

٦١

أي ليس الجميع ـ من أهل الكتاب ـ على وتيرة واحدة، وأنّه يوجد بينهم من يستقيم على دينه، ويثبت على أمر الله، ويتلوا آيات الله فهم الذين يعدّون من الصالحين أي الذين صلحت نفوسهم فاستقامت أحوالهم وحسنت أعمالهم.

ومن المعلوم أنّ توصيف ثلة قليلة بالصلاح إنّما هو في مقابل الأكثرية الموصوفة بالفسق والطغيان وقتل الأنبياء والاعتداء.

وهذا التحسين النسبي لا يدل على إقرار شريعتهم وعدم نسخه بالإسلام وأنّهم لو عملوا بشريعتهم لكانوا من الناجحين.

ويدل على ذلك أنّه سبحانه يصرّح في الآية ١١٠ بلزوم إيمان أهل الكتاب بما آمن به المسلمون ويقول :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ) .

وعلى ذلك يتّضح مساق الآية وهدفها.

إجابة اُخرى :

غير أنّ المفسرين فسّروا الآية على وجه آخر وقالوا: لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلّا شرارنا فأنزل الله:( لَيْسُوا سَوَاءً ـ إلى قوله ـمِنَ الصَّالِحِينَ ) .

روي ذلك عن ابن عباس وقتادة وابن جريح.

وقيل انّها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم(١) .

غير أنّ هذا التفسير لا يلائم ظاهر الآية فالظاهر أنّ الموصوفين بالصلاح من أهل الكتاب حين نزول الآية كما هو ظاهر قوله:( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) ولو كان المراد هو المؤمنون المسلمون لما عبّر عنهم بهذا العنوان ولا ينافي ما ذكرنا توصيفهم

__________________

(١) مجمع البيان ج ٤ ص ٤٨٨، راجع الدر المنثور ج ٢ ص ٦٤ و ٦٥.

٦٢

بأنّهم يتلون آيات الله آناء الليل إذ عندهم من المناجات والأدعية له الشيء الكثير لا سيّما في زبور داود.

٣. تخصيص الانذار باُمّ القرى ومن حولها :

وهناك بعض الآيات تخص الانذار باُمّ القرى ومن حولها حيث يقول :

( وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) ( الأنعام ـ ٩٢ ).

وقال سبحانه :

( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) ( الشورى ـ ٧ ).

فهاتان الآيتان يستظهر منهما اختصاص نطاق رسالته في إطار أُمّ القرى ومن حولها.

وأُمّ القرى أمّا علم من اعلام مكّة أو كلّي اطلق عليها في هذه الآية.

وعلى أي تقدير فتشعر باختصاص الرسالة بما ذكر فيها.

الجواب :

غير خفي على القارئ النابه أنّ ما ادّعاه من الظهور ضعيف جداً، ولو سلم فلا يتجاوز حد الاشعار الابتدائي(١) ولا يعتنى به اتّجاه الحجّج الدامغة الدالّة على سعة نطاق رسالته وعدم محدوديتها بشيء من الحدود والقيود، كما وافاك بيانها.

__________________

(١) بل ذيل نفس الآية دليل على عموم رسالته، حيث أنّه سبحانه قال:( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وظاهره أنّ كل من يؤمن بالآخرة من العرب والعجم يؤمن بهذا الكتاب، وإنّه منزّل من ربّهم: مصدّق لما تقدمه من الكتب، فلو كانت دعوته اقليمية أو طائفية لما كان لإيمان من ليس من تلك الطائفة أو لا يعيش في الجزيرة العربية معنى صحيح.

٦٣

نحن نسأله لماذا نسي أو تناسى قوله سبحانه في نفس هذه السورة ( الأنعام ) الدالّ على عمومية رسالته، وأن ّ الله سبحانه أمره أن ينذر بكتابه كلّ من بلغه هتافه في أقطار الأرض وأرجاء العالم. وقال سبحانه:( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ).

وصريح هذه الآية أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرلينذر بقرآنه كلّ من بلغه ووصل إليه هتافه، عربياً كان أو أعجمياً، شرقياً كان أم غربياً، فلماذا أخذ الكاتب بالإشعار الضعيف وترك التصريح على خلافه مع كونهما في سورة واحدة ؟!

فلو أنّه كتب ما كتب بدافع التحقيق والبخوع للحقائق، فلماذا فتح بصره وألقى أسدالاً على بصيرته فاعتمد على الاشعار ورفض التصريح.

ومن المتحتمل أنّه رأى الآيتين، لكنّه حسب أنّ الله تعالى نقض كلامه الوارد في ابتداء السورة بختامها وهو سبحانه يقول:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء ـ ٨٢ ).

نحن لا نميط الستر عن نواياه وضمائره وهو قد وقف على هذه الآية وغيرها مما سردناه من الآيات الدالّة على عالمية رسالته، لكن الظاهر أنّه لا يستهدف بذلك إلّا تعكير الصفو وبث بذور الشك في قلوب السذّج والبسطاء من الاُمّة الإسلامية لغاية هو أعرف بها وإن كان لا يفوتنا عرفانها.

والحق أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن في دعوته وانذاره بدعاً من الرسل، فقد مشى في ابلاغه على سنن من قبله من المرسلين، فالمسيح كان رسول الله، إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني إسرائيل(١) ، ومع ذلك كلّه فقد بدأ هتافه بكونه رسولاً إلى بني إسرائيل مع أنّه رسول

__________________

(١) نعم لم يثبت كون المسيح مبعوثاً إلى الناس أجمع، كما سيوافيك بيانه في هذا البحث بل كان مبعوثاً إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني اسرائيل، لما ثبت من بعثهعليه‌السلام رسلاً من حوارييه وتلاميذه إلى الاُمم التي لا تمت إلى بني إسرائيل بصلة، وهو دليل على أوسعية نطاق رسالته من بني اسرائيل.

٦٤

إليهم وإلى غيرهم وقال:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف ـ ٦ ).

فخصّ خطابه ورسالته ببني إسرائيل مع كونه رسول الله إلى غيرهم أيضاً ولا ضير في ذلك لأنّ كونه رسولاً إليهم لا ينافي كونه رسولاً إلى غيرهم فإنّ اثبات الحكم لموضوع لا يلازم نفيه عن غيره.

وقد ضارعه نبي الإسلام، فهو مع كونه رسول الله إلى الناس جميعاً، ومع أنّه أمره الله أن ينذر بقرآنه قومه وكلّ من بلغه كتابه في مشارق الأرض ومغاربها(١) أمره الله سبحانه أن يقول:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ ٩٢، الشورى ـ ٧ ) فإنّ كونه مبعوثاً لانذار الاُمّة العربية القاطنة في عاصمتها مكة ومناطقها التابعة لها، لا ينافي كونه مبعوثاً إلى غيرها أيضاً ومنذراً بكتابه سواها.

وقد حذى الرسول حذو القرآن في خطاباته الشخصية في اندية الانذار والابلاغ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما وفدت إلى داره عشيرته وأقربوه: « انّي رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامّة » وهو في الوقت نفسه حينما صعد على الصفا خص قريشاً بالخطاب وقال: « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ».

وقد وافيناكم بتلك الدرية في صدر البحث(٢) .

هذه سيرة الرسول وسيرة من قبله، من اُولي العزم من الرسل، فهم يقتفون في توجيهاتهم ودعواتهم مقتضى الحال، مراعين في ذلك شرائط البلاغة، وإلقاء الكلام على وفق الحكمة، فربّما دعت المصلحة إلى توجيه الكلام إلى مجتمع خاص، كما أنّه ربّما اقتضت توجيهه إلى الناس عامة من دون أي تنافر وتناكر في التوجيهين.

وإن شئت قلت: انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بُعث إلى عشيرته والعرب والناس جميعاً على سبيل « تعدد المطلوب » كما قال: « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار » وقال: « انّي رسول

__________________

(١) الأنعام ـ ١١٩.

(٢) أنظر ص ١٣٥ من كتابنا هذا.

٦٥

الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة » وكانت كلّ واحدة من هذه الطوائف الثلاثة صالحة لأن يبعث إليهم رسول خاص. وعلى ذلك فله أن يصرّح حسب مقتضيات المقام بأحد الأغراض التي اُرسل لأجلها ويسكت عن الآخرين بلا استنكار.

ويشير إلى ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بعثت إلى الناس كافة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب، فإن لم يستجيبوا لي، فإلى قريش، فإن لم يستجيبوا لي، فإلى بني هاشم، فإن لم يستجيبوا لي، فإلي وحدي »(١) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام :

« إنّ الله تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى:: التوحيد والاخلاص وخلع الانداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة إلى أن قال: ونصره بالرعب وجعل له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والانس »(٢) .

ونظير ذلك لو بعثت انساناً لينجز لك اُموراً مختلفة، وكان كلّ واحد منها صالحاً لأن يبعث لانجازه شخص خاص، فعند ذلك يصح لك أن تقول: بعثته ليعمل كذا وتذكر أحد الاُمور التي بعث لأجلها وتسكت عن ذكر الباقي كما يصح للمبعوث أن يقول: بعثت لأفعل كذا ويذكر أحد الأهداف التي بعث لتحقيقها من دون أن يذكر الأمرين الآخرين وهكذا

على أنّ الآية التي استدل بها القائل على ضيق نطاق رسالته، مكية، وردت في سورتي الأنعام والشورى المكيتين، ولم تكن الظروف في مكة تبيح له الاجهار غالباً بنفس رسالته، فضلاً عن الاجهار بعالميتها، فلا عتب عليه لو خص خطابه بجمع دون جمع. مع سعة نطاقها في نفس الأمر، إذا اقتضت المصلحة ذلك لأنّ المرمى الأهم في هذه البيئة، الاجهار بنفس الرسالة لا كمّها ولا كيفها وإن كان يصلح أن يصرّح في بعض

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ١ ص ١٩٢.

(٢) الكافي ج ٢ ص ١٧ وسيوافيك بعض الروايات عند البحث عن « الخاتمية في الأحاديث ».

٦٦

الأوقات بعالمية رسالته إذا كان الظرف في مكّة صالحاً. كما في قوله سبحانه:( وَمَا هُوَ إلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) ( القلم ـ ٥٢ ) والآية مكية بلا كلام. وكما في قوله:( لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ) والسورة مكية، وإن شئت قلت: انّ الظروف في مكّة كانت مختلفة متلوّنة، ولم تكن حياة الرسول رخاءاً وشدة على نسق واحد، فتارة كانت بيئة مكة قاسية عنيفة لا تسمح بالجهر بنفس رسالته، فضلاً عن المصارحة بكيفها وكمّها، والمسلمون من جانب ـ اضطهاد قريش لهم ـ كانوا يعيشون في حالة عصيبة واُخرى كانت الأزمة قليلة مخففة بحلول أشهر الحج أو طروء حوادث تمنع العصابة المشركة المجرمة وتكفّهم عن إيذاء المسلمين.

وعند ذاك كان يفسح المجال أمام النبي وأصحابه بأن يبلغوا الدعوة وفق الظروف وحسب المقتضيات شدة وضعفاً، فنراه في مواقفه بمكة يصرّح بجانب من جوانب الدعوة على صعيد خاص كقوله: يا معشر قريش انقذوا أنفسكم واُخرى ينادي بعموم دعوته مما يستفاد من أنّه بعث إلى الناس كافة ولأجل ذلك نواجه في سورة واحدة لونين من طريقة الدعوة، فنرى أنّها في صدرها تأخذ بجميع جوانب دعوته وتصرّح بعموم دعوته وعالمية رسالته، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمر من جانبه سبحانه أن ينذر بقرآنه قريشاً وكلّ من بلغه كتابه وانذاره حيث قال:( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) وفي الوقت نفسه نرى في خلال السورة، لوناً خاصاً من الدعوة حيث تخصّها بمن في اُمّ القرى ومن حولها ويقول:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) فيعلم من ذلك أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوجّه دعوته حسب ما تقتضيه المصلحة تبعاً للأحوال المختلفة وتبدل الظروف الزمانية والمكانية من دون توهّم تناقض في طريق الدعوة ولونها.

جواب آخر عن الشبهة :

جاء بعض المعاصرين من الأجلاّء، في تعاليقه القيّمة على كتاب « الابطال » بجواب آخر(١) مبني على أمرين :

__________________

(١) ترى اجمال هذا الجواب في مجمع البيان ج ٣، ص ٣٣٤، و ج ٥، ص ٢٢ والمفردات للراغب مادة « اُم ».

٦٧

الأوّل: انّ المراد من « القرى » في قوله تعالى:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ما يعم المدن الواسعة، وقد أطلق لفظ القرية في القرآن على المدينة أيضاً كقوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) ( يوسف ـ ٨٢ ) والقرية التي اقترح أبناء يعقوب على أبيهم أن يسألها، هي مدينة « مصر » وقد كانت يوم ذاك مدينة كبيرة، ذات أبواب متفرّقة، لقوله سبحانه:( يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ) ( يوسف ـ ٦٧ ).

الثاني: قد استفاضت الروايات من مهبط الوحي والتنزيل على أنّ الله سبحانه دحى الأرض يوم دحاها، من تحت مكة، والمراد من الدحو من تحتها أنّ أرض مكة هي أوّل قطعة من الأرض اخرجت من الماء، بعد ما كانت الأرض بعامة أجزائها مغمورة بالماء، ثمّ برز سائر اجزائها، عن تحت الماء تدريجاً، وبذلك صارت مكة اُمّاً لسائر البلاد، وأصلاً لسائر القرى ومركزاً تكوينياً للأرض.

قال: إذا كان إطلاق اُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة، فيصير المراد من « أُمّ القرى »، أي أُمّ البلاد الموجودة في العالم ومركزها التكويني كما يصير المراد من( وَمَنْ حَوْلَهَا ) عامة من يعيش في نواحي الأرض وسائر أقطارها كلّها وإليه ذهب حبر الاُمّة عبد الله بن عباس، وفسّره الإمام الطبرسي بقوله: « من سائر الناس وقرى الأرض كلّها »(١) فتصير الآية من الأدلّة الدالّة على عالمية رسالته.

وفي هذا الجواب مجال للنظر والبحث :

أمّا أوّلاً: فلأنّ أُمّ القرى ليست علماً لمكّة، بل كلّياً اُطلق عليها في هذه الآية بما أنّها إحدى مصاديقه، كيف وقد قال سبحانه مبيّناً لسنّته في الاُمم الماضية جميعاً:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ ٥٩ ) أي حتى يبعث في أُمّ تلك القرى رسولاً يبلّغ رسالات الله عليهم. وهذه سنّة الله تعالى في ابادة الاُمم الطاغية مطلقاً، غير مختصة بالاُمّة العائشة بمكّة ومن حولها.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ٢٢.

٦٨

وهذا إمام اللغة ابن فارس، يقول في مقاييسه: « أُمّ القرى، مكّة، وكلّ مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى ».

قال ابن فندق في تاريخه: إذا تركّزت اُمور منطقة خاصة في محل، يقال له باعتبار القرى والقصبات التابعة له، أُمّ القرى، ثم أتى بأمثلة وقال: فصنعاء أُمّ القرى في اليمن، « وبغداد » أُمّ القرى في العراق، بعد ما كانت « البصرة » يوماً أُمّ القرى ومرو أُمّ القرى في خراسان وهكذا(١) .

فهذا التركيب ( أُمّ القُرى ومن حولها ) ليس من مصطلحات القرآن واختصاصاته بل كان دارجاً في عصر الرسالة وقبله وبعده، وقد نزل القرآن بلسان النبي الذي هو لسان قومه وليس له في هذا التركيب اصطلاح خاص، بل هو والعرف في ذلك سواسية، فلا يصلح أن يحمل على غير ما هو المتفاهم عندهم. فإذا قيل:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) وقامت القرينة على أنّ المراد من أُمّ القرى مكة، فلا يراد منه وممّا عطف عليه إلّا ما يراد في نظائرها، فإذا قيل: هذا إمام البصرة أو سائسها ومن حولها، فلا يراد إلّا نفوذ حكمه في نفس البصرة والمناطق التابعة لها، حكماً وسياسة واقتصاداً، أو غيرها من وشائج الارتباط ودوافع التبعية، لا أنّه إمام الأرض شرقاً وغرباً، وهكذا إذا قيل: بعث نبي الإسلام لينذر مكّة ومن حولها، لا يراد منه إلّا أنّه بعث لينذر من يعيش في مكة والمناطق التابعة لها عرفاً، سياسة وحكماً أو اقتصاداً وتجارة، أو غيرها من القرى القريبة المتاخمة لها، القائمة عند حدودها والمناطق التابعة لها في العلاقات الاجتماعية لا أنّه بعث لينذر أهل العالم كلّه، فإنّ إرادة هذا المعنى من هذا التركيب غير معهود، لو لم يكن مستهجناً.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكره من حديث دحو الأرض إلى آخره، صحيح، غير أنّ إطلاق أُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة التكوينية يحتاج إلى دليل، ودون اثباته خرط القتاد، والعرب الجاهليون كانوا يطلقون أُمّ القرى، على مكّة، من غير أن يكون لهم علم

__________________

(١) تاريخ بيهق ج ص ٢٢ بتعريب منّا.

٦٩

ولا عهد بهذه المعارف، وليس إطلاقها عليها من خصائص القرآن، بل هو يتبع في ذلك لما هو الدارج، والحق في الجواب ما أوضحناه.

٤. كلّ نبي مبعوث بلسان قومه

جرت سنّة الله على بعث رسله بلسان قومهم، وهذا هو الأصل لو كان الرسول مبعوثاً إلى خصوص إنقاذ قومه.

أمّا إذا كان مبعوثاً إلى اُمّة أوسع من قومه، وكان كلّ قوم يتكلّمون بلسانهم الخاص فعند ذلك لا حاجة إلى نزول كتابه بجميع الألسنة، لأنّ الترجمة تنوب عن ذلك مع ما في نزوله بلسانين أو أزيد من التطويل، وامكان تطرّق التحريف والتبديل والتنازع والاختلاف. فبقي أن ينزل بلسان واحد. وأولى الألسنة لسان قوم النبي ولغتهم لأنّهم أقرب إليه، ولا معنى لرفض هدايتهم والتوجّه إلى غيرهم.

على أنّ إيمان قومه به، وخضوعهم له، ربّما يثير رغبة الآخرين بالإيمان به كما أنّ إعراض قومه جيمعاً عن دعوته ورغبتهم عنه، تثير روح الشك والترديد في قلوب البعداء عنه، قائلين بأنّه لو كان في دعوته خير لما أعرض عنه قومه.

على أنّ في إرسال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بلسان قومه نكتة اُخرى وهو أنّ قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يملكون نفسيّة خاصة وهو عدم رضوخهم واستجابتهم بسهولة لعادات غيرهم وألسنتهم.

فلو أنزل الله سبحانه كتابه إليهم بغير لسانهم لما آمنوا به كما قال سبحانه:( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الأَعْجَمِينَ *فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) ( الشعراء: ١٩٨ ـ ١٩٩ ) فلأجل ذلك بعثه الله سبحانه بلسان قومه حتى يسد باب العذيرة عليهم.

ولأجل هذه المهمة الاجتماعية يجب على الرسول صرف همّته أوّلاً في هداية قومه وانقاذهم حتى يتسنّى له هداية الآخرين، وهذه سنّة متبعة في الاُمور العادية، فضلاً عن المبادئ العامّة.

٧٠

وإلى ذلك تهدف الآية التالية:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم ـ ٤ ) ومفاد الآية أنّه سبحانه لم يجر في بعث رسله مجرى الاعجاز وخرق العادة، ولا فوّض إلى رسله من الهداية والضلال شيئاً، بل أرسلهم بلسانهم العادي الذي يتحاورون به كل يوم مع أقوامهم ليبيّنوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلّا بيان ما اُمروا به وأمّا الغاية من بعثهم، أعني الاهتداء فهو بيد الله سبحانه، لا يشاركه في ذلك رسول ولا غيره.

وعلى ذلك فليست في الآية دلالة ولا إشعار بلزوم اتحاد لغة الرسول مع لغة من اُرسل إليهم، حتى يلزم منهم اختصاص دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقومه. إذ الآية تصرّح بلزوم موافقة لغة الرسول مع لسان قومه، لا اتّحاد لغته مع لسان كل من اُرسل إليهم، كما هو أساس الشبهة، ومن الممكن المتحقق أن يكون المرسل إليه أوسع من قومه كما هو الحال في ثلّة جليلة من الرسل، فقد دعا إبراهيم عرب الحجاز إلى الحج، والوفود إلى زيارة بيته، وأمر سبحانه كليمه بدعوة فرعون إلى الإيمان به، ودعا نبيّنا اُمّتي اليهود والنصارى إلى الإيمان برسالته، فآمن منهم من آمن. وبقي منهم من بقي.

مغالطة اُخرى حول الآية

نرى بعض من فسّر الآية بأنّ مفادها: « أنّ كلّ رسول من الله يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم »، جاء بمغالطة شوهاء في مفاد الآية، وقال: إذا كان معنى الآية ما ذكر فهو ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا، من لا يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم ليس رسولاً منه سبحانه. فلو فرضنا أنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مبعوثاً إلى العالمين كلّهم مع اختلافهم في اللسان، يلزم منه كونه غير مبعوث من الله سبحانه أصلاً.

وعلى الجملة: تنتج عالمية رسالته، وسعة نطاق دينه، كونه غير مرسل من جانبه عزّ وجلّ.

ومنشأ هذه المغالطة ما تخيّله المغالط من مفاد الآية، إذ ليس مفادها ما تصوّره من

٧١

أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم حتى يصح ما بني عليه، بل مفاده: أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان قومه، وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون مبعوثاً إلى أزيد من قومه(١) أو إلى قومه فقط.

نعم تنعكس الآية إلى قولنا: من لا يوافق لسانه، لسان قومه ليس رسولاً من الله سبحانه، وهو صحيح، وأمّا نبي الإسلام فالمفروض أنّ لسان كتابه ولغة دعوته موافقة مع لسان قومه.

وعلى أي تقدير فالمراد من القوم هم الذين عاش فيهم الرسول وخالطهم ولا يختص بالذين هو منهم نسباً، والشاهد على ذلك أنّه سبحانه صرّح بمهاجرة لوط من « كلدة » وهم سريانيو اللسان، إلى المؤتفكات وأهلها عبرانيون، وفي الوقت نفسه سمّاهم قومه، وأرسله إليهم، ثم أنجاه وأهله إلّا امرأته(٢) .

__________________

(١) هذا أحد الاحتمالات في اُولي العزم، أعني من اُرسل إلى أزيد من اُمّة، راجع الميزان ج ١٢ ص ١٣ وسوف نحقق معنى هذه الكلمة على ضوء ما ورد في الذكر الحكيم في فصول هذا الكتاب.

(٢) الميزان ج ١٢ ص ١٣.

٧٢

هل كانت

نبوّة نوح والكليم والمسيح

عالمية ؟

قد اتضح من هذا البحث الضافي أنّ رسالة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رسالة عالمية، فهو مبعوث إلى شرق الأرض وغربها.

غير أنّه اكمالاً للبحث نبحث عن نبوّة ورسالة الأنبياء الثلاثة، فهل كانت نبواتهم ورسالاتهم عالمية أم كانت تقتصر على أقوامهم، أو المناطق التي ظهروا فيها ؟

ونبحث في المقام عما يفيده القرآن في هذا الموضوع مع غض النظر عمّا يوجد في التوراة والانجيل وما يدعيه علما ء اليهود والنصارى لأنّ البحث في المقام قرآني ينظر إلى الموضوع من زاوية خاصة، فيقع الكلام في مقامات :

الأوّل: في عمومية نبوّة نوح وعدمها.

الثاني: في عمومية نبوّة الكليم وعدمها.

الثالث: في عمومية نبوّة المسيح وعدمها.

ويتضح ممّا ذكرنا حال رسالة الخليلعليه‌السلام أيضاً.

وليكن القارئ الكريم على ذكر من نكتة، وهي أنّ ما سنذكره من الآيات ونستدل بها لا يعدو عن كونها اشعارات واستظهارات ولا يمكن أن يستدل بكلّ واحدة منها على المقصود، نعم يمكن اعتبار مجموعها دليلاً مفيداً للاطمئنان.

٧٣

على أنّ تلك الاشعارات إنّما تتم إذا لم يكن هناك دليل صريح على خلافها وإلّا فتكون النسبة بين تلك الاشعارات وما يدل على خلافها من قبيل نسبة الأصل إلى الدليل الاجتهادي الحاكم بالاشتغال.

فيرتفع الأصل بموضوعه عند وجود الدليل الاجتهادي.

هل رسالة نوح كانت مختصّة بقومه ؟

يمكن استظهار الاختصاص من قوله سبحانه:( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) ( نوح ـ ١ )، فهو يشعر باختصاص رسالته بقومه(١) .

وأمّا صيرورة رسالته بعد الطوفان عالمية، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.

أضف إلى ذلك أنّ قدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً بل خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه، ويؤيد ذلك أنّه لا وجه لتعذيب غيرهم واهلاكهم بتكذيب قومه خاصة.

فانّ الظاهر من القرآن هو أنّ التعذيب كان لتكذيب قومه، قال سبحانه:( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) ( هود: ٣٦ ـ ٣٧ ) أضف إلى ذلك أنّ عمومية الرسالة تتطلب وجود امكانيات تمكن الرسول من إيصال نداء رسالته وصوت دعوته إلى جميع أنحاء العالم، وذلك لم يكن متوفراً في عهد نوح، كما سيوافيك بيانه مفصّلاً.

تحقيق وتنقيب :

إنّ العلّامة الطباطبائي ( رضوان الله عليه ) قد طرح مسألة عمومية نبوّة نوح

__________________

(١) لاحظ الآيات ٢٥ ـ ٤٨ من سورة هود، ترى فيها اشعارات كثيرة باختصاص رسالته بقومه.

٧٤

عليه‌السلام في الجزء العاشر من تفسيره القـيّـم « الميزان » فقال :

المعروف عند الشيعة عموم رسالتهعليه‌السلام وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستنداً إلى ظاهر الآيات الناطقة لشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله سبحانه:( رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ( نوح ـ ٢٦ )، وقوله تعالى:( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إلّا مَن رَّحِمَ ) ( هود ـ ٤٣ ) وقوله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) ( الصافات ـ ٧٧ ).

وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة: أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ولازم ذلك كونه مبعوثاً إليهم كافة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبي: « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ».

وأجابوا عن الآيات بأنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كان يسكنها نوح وقومه، وهي وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) ( يونس ـ ٧٨ ).

فمعنى الآية الاُولى: لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديّاراً، وكذا المراد بالثانية: « لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله » وكذا المراد بالثالثة: « وجعلنا ذريته هم الباقين » من قومه.

ثمّ انّه ـ قدّس الله سرّه ـ أفاد أنّه لم يستوفوا حقّ الكلام في هذا البحث ثمّ اختار هو عموميّة نبوّته ورسالته بتقديم مقدّمة حاصلها :

أنّ الواجب في عناية الله أن يهدي الانسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه، ولا يكفي في هدايته ما جهز به الإنسان من العقل البشري، بل لابد من طريق آخر لهدايته وسوقه إلى قمة الكمال وهو تعليم الإنسان شريعة الحق، ومنهج الكمال والسعادة، وهو طريق الوحي، وهو نوع تكليم إلهي يعلم الانسان ما يفوز بالعمل به، والاعتقاد به في حياته الدنيوية والاخروية فطريق النبوّة ممّا لا

٧٥

مناص منه في تربية النوع البشري بالنظر إلى العناية الإلهية.

وإن شئت قلت: الواجب في عناية الله تزويد المجتمع الانساني بشريعة يأخذ بها في حياته الاجتماعية دون أن يخص بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية له بهم، ولازمه أن يكون أوّل شريعة نزلت على البشر شريعة عامّة، وقد أخبر الله سبحانه أنّ شريعة نوح هي أوّل شريعة نزلت على المجتمع البشري قال سبحانه:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى ـ ١٣ )، ومقام الامتنان يقتضي بأنّ الشرائع الإلهية المنزلة على البشر عبارة عمّا جاء ذكرها في هذه الآية، وأوّل ما نزلت من الشرائع هي شريعة نوح، ولو لم تكن عامة للبشر، بل كانت خاصة بقومه لكان هناك أمّا نبي آخر، وشريعة اُخرى لغير قوم نوح والحال أنّه لم يذكر في هذه الآية ولا في موضع آخر من كلامه سبحانه.

وأمّا اهمال سائر الناس غير قومه في زمنه وبعده إلى حين(١) .

ملاحظات في كلام العلّامة الطباطبائي

وفيما ذكرهقدس‌سره ملاحظات نلفت نظر القارئ الكريم إليها :

أمّا أوّلاً: فإنّ ما ذكره من أنّه يجب في عناية الله تكميل الأنواع وأنّ الشريعة الإلهية تكمل النوع الانساني، وأنّ التشريع تكميل للتكوين ممّا لا كلام فيه، غير أنّ الكلام هو في قابلية سائر العناصر البشرية الاُخرى المعاصرة لنوح، الساكنة في مناطق اُخرى لتلقي الشريعة وأخذها والعمل بها، فإنّه من المحتمل أن لا تكون تلك العناصر والأفراد لبداوتها وبساطة شعورها وحياتها أهلاً لارسال الشريعة إليهم وعدم بلوغهم بعد إلى حد يستأهلون معه للتعليم الإلهي، فإنّه من البديهي أنّ البلوغ الجسماني وحده لا يكفي في تلقي الشريعة والعمل بها، بل يجب أن يكون معه مقدرة فكرية واستعداد نفسي يؤهّله لاستقبال الشريعة، والدخول في مدرسة الوحي الإلهي. فمثل بعض المجتمعات قبل أن

__________________

(١) الميزان ج ١٠ ص ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٧٦

تصل إلى هذه المرتبة مثل الطفل الناشئ لا يستأهل ولم يصبح صالحاً للدخول في المدرسة وتلقي التربية المدرسية.

وثانياً: فإنّ ما استفادهرحمه‌الله من الآية ب‍ « أنّ شريعة نوح أوّل شريعة نزلت إلى البشر » اشعار كسائر الاشعارات فمن المحتمل أن تكون هناك شريعة اُخرى نزلت قبل نوح ولكن لم تذكر لعدم بلوغها إلى مرتبة الشرائع المذكورة في هذه الآية.

وأمّا ثالثاً: انّ من الممكن أن يكون هناك شريعة في عرض شريعة نوح تختص بقوم آخر لكنّه لم يذكرها القرآن، كيف لا وأنّ القرآن صرّح بأنّه لم يستوعب قصص جميع الأنبياء حيث قال:( مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ( غافر ـ ٧٨ ) وقال سبحانه:( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ( النساء ـ ١٦٤ ).

وفي الختام أنّ ما ذكرناه حول دعوة نوح كمثل ما نذكره حول الكليم والمسيح مجرد نظرية منبعثة من التدبّر في آيات الذكر الحكيم فمن المحتمل أن لا تكون صائبة، والعصمة لله سبحانه ولرسوله والأئمّة الهداة.

ثم إنّه دام ظله رتب على مختاره في تعميم رسالة نوح أنّ الطوفان كان عاماً لجميع الأرض حيث قال: تبين الجواب عن السؤال: هل الطوفان كان عاماً لجميع الأرض فإنّ عموم دعوته يقضي بعموم العذاب.

ثمّ أيّده بما جاء في كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين ابقاء على الأنواع الحيوانية فلو كان الطوفان خاصاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق ـ كما قيل ـ لم تكن هناك أية حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين(١) .

وقد تبيّن ممّا ذكرناه من اختصاص دعوة نوح وعدم عموميتها عدم صحة ما اعتمدت عليه النظرية.

__________________

(١) الميزان ج ١٠ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٧٧

وأمّا ما استشهد به فيمكن أن يكون للحفاظ على الحيوانات في منطقته إذ كان من العسير انتقال الحيوانات التي تعيش في مناطق اُخرى إلى قومه، والله سبحانه هو العالم.

هل كانت نبوّة الكليم عالمية ؟

إنّ تنقيح الموضوع يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل: في عموم دعوته إلى التوحيد.

الثاني: في عموم شريعته وشمول أحكامه.

ونعني من عموم دعوته في مسألة التوحيد أنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل وغيرهم، في دعوتهم جميعاً إلى توحيده سبحانه وكسر كلّ صنم ووثن.

كما أنّه نعني من عموم شريعته شمول كلّ ما جاء به موسى في التوراة من الفروع والأحكام لبني إسرائيل وغيرهم(١) وعموم دعوته إلى التوحيد لا يلازم عموم شريعته، دون العكس(٢) ولأجل ذلك جعلنا البحث في مقامين، فنقول :

المقام الأوّل: في عموم دعوته في أصل التوحيد ورفض الأوثان والأصنام كلّها.

الظاهر من الآيات الواردة حول دعوة الكليم، أنّه كان مبعوثاً إلى خصوص بني إسرائيل مثل قوله سبحانه :

( وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ) ( البقرة ـ ٩٢ ).

وقوله سبحانه:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ) ( الصف ـ ٥ ).

__________________

(١) وللفرق بين المقامين يعبّر عن الأوّل بعموم الدعوة والنبوّة وعن الثاني بعموم الشريعة والرسالة فلاحظ.

(٢) لامكان انحصار دعوته بالنسبة إلى قوم في الاُصول ولا يمكن العكس إذ لا تصح الدعوة إلى الفروع منفكة عن الدعوة إلى الاُصول.

٧٨

وهذه الآيات الكثيرة تشعر باختصاص دعوته بقوم موسى وإنّما قلنا « تشعر » لوضوح أنّ ارساله إلى قومه، لا يدل على عدم إرساله إلى غيرهم، فإنّ شعيباً كان مرسلاً من جانبه سبحانه إلى أهل مدين كما يدل عليه قوله تعالى:( وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ) ( الأعراف ـ ٨٥ ).

وفي الوقت نفسه كان مبعوثاً إلى أصحاب الايكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ) ( الشعراء ١٧٦ ـ ١٧٧ ).

ولأجل ذلك قلنا انّ ما نستدل به لا يعدو عن كونه استظهارات واشعارات إذا توفرت تفيد الاطمئنان ولو كان هناك دليل صريح على عموم دعوته ونبوّته، لسقطت هذه الاستظهارات عن الاعتبار.

موقف دعوة الكليم من القبطيين

يمكن أن يقال: بأنّ دعوة موسى في مسألة التوحيد، كانت تعم بني إسرائيل والقبطيين.

وتستفاد عمومية دعوته إليهم أيضاً من بعض الآيات مثل قوله سبحانه:( حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الاعراف ـ ١٠٥ ).

وقوله سبحانه:( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الأعراف ـ ١٣٤ ).

وقوله سبحانه:( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ *فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الهُدَىٰ ) ( طه: ٤٣ و ٤٤ ـ ٤٧ ).

وقوله سبحانه:( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ *أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا

٧٩

بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء: ١٦ ـ ١٧ ).

وقوله سبحانه حكاية عن فرعون:( قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) ( الشعراء ـ ٢٧ ).

وقوله سبحانه:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الزخرف ـ ٤٦ ).

وقوله سبحانه:( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً *فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً ) ( المزمل ١٥ ـ ١٦ ).

وقوله سبحانه:( وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) ( الذاريات ـ ٣٨ ).

وهذه الآيات وما يشابهها تفيد أنّ دعوته إلى عبادة الله والانخلاع عن عبادة الأوثان كانت تعم بني إسرائيل والقبطيين ولأجل ذلك ضرب مع رئيسهم فرعون موعداً لا يخلفه هو ولا ذاك، فاتفقا على أن يكون موعدهم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فلما ألقى موسى ما ألقى وتلقف ما صنعوا من الكيد والسحر، القي السحرة ساجدين قائلين بأنّهم آمنوا بربّ موسى وهارون(١) .

هذا كلّه يفيد بوضوح شمول دعوته للقبطيين أيضاً وأنّه كان مأموراً من الله بدعوة فرعون وملائه إلى الايمان بالله سبحانه وترك عبادة البشر والاستعلاء على عباد الله واستضعافهم، ويؤيده أنّه لـمّا أدركه الغرق قال فرعون:( آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ) ( يونس ـ ٩٠ ) ولم يك ينفع إيمانه ذلك الوقت ولأجله خاطبه سبحانه بقوله:( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( يونس ـ ٩١ ).

ومع ذلك كلّه ففي النفس من شمول دعوته ـ حتى بهذا المعنى للقبطيين، شيء.

أمّا أوّلاً: فلأنّه يحتمل أنّه كان نبيّاً ورسولاً إلى اُمّة بني إسرائيل فقط ليخلصهم

__________________

(١) راجع سورة طه: الآيات ٤٢ ـ ٧٠.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

« غناءه » سبحانه في العلم، بما وراء ذاته، عن غيره، فيعلم بذاته كل الأشياء دون حاجة إلى الغير، وهذا بخلاف القول بالزيادة ـ كما عليه الأشاعرة ـ فإنّه يستلزم ذلك افتقاره سبحانه في علمه بالأشياء وخلقه إياها، إلى أُمور خارجة عن ذاته، فهو يعلم بالعلم الذي هو سوى ذاته، ويخلق بالقدرة التي هي خارجة عن حقيقته، وهكذا سائر الصفات من السمع والبصر، والواجب سبحانه منزّه عن احتياجه إلى غير ذاته فهو غني في ذاته وفعله عمن سواه.

نعم الأشاعرة وإن كانت قائلة بأزلية الصفات مع زيادتها ولكن ذلك لا يدفع الفقر والاحتياج عن ساحته، لأنّ الملازمة غير العينية فكونه سبحانه مع صفاته متلازمين منذ الأزل غير كونه نفس هذه الصفات وعينها.

والحاصل إنّ كون الصفات عندهم غير الذات عين القول باحتياجه في العلم والإيجاد إلى غيره.

إذ نتيجة قولهم بفصل الذات عن الصفات هي أنّه يستعين في تحصيل العلم بذاته، بعلم منفصل كما يعني أيضاً أن يستعين في إيجاد شيء بقدرة خارجة عن ذاته على أنّ دلائل « عينية الصفات للذات » وبالعكس لا تقتصر على هذا الدليل الذي ذكرناه فقط، ولكننا نكتفي بذلك.

تعدّد الصفات وبساطة الذات كيف ؟

لقد قادتنا البراهين السابقة إلى « بساطة الذات الإلهية » وخلوّها عن أي نوع من أنواع التركيب العقلي والخارجي، وهنا ينطرح سؤال هو: كيف يتناسب تعدّد الصفات مع بساطة الذات ؟ أليس يستلزم تعدد الصفات تركّب الذات الإلهية من صفات متعدّدة، وهذا ما يخالف بساطتها ؟

٣٢١

إنّ السؤال إنّما يتوجه إذا كان كل واحد من هذه الصفات يكوّن جزءاً خاصاً ويحتل موضعاً معيناً من ذاته سبحانه، فحينئذ يمكن القول بأنّه يستلزم التركيب في ذاته سبحانه.

ولكن إذا قلنا بأنّ كل واحد من هذه الصفات يكوّن تمام الذات، برّمتها وبأسرها فلا يبقى حينئذ أي مجال لتصوّر التركيب في شأنه تعالى، إذ ماذا يمنع من أن يكون شيء على درجة من الكمال بحيث يكون ذاته علماً كلها، وقدرة كلها وحياة كلها، دون أن تظهر أية كثرة في ذاته، نعم لو كانت هناك كثرة فإنّما هي في عالم الاعتبار والذهن دون الواقع الخارجي إذ يكون في هذه الصورة مصداق العلم في الله نفس مصداق القدرة ويكون كلاهما نفس مصداق الذات بلا مغايرة ولا تعدّد.

ولتقريب هذا المعنى الدقيق نشير إلى مثال له في عالم الممكنات.

ولنأخذ مثلاً الإنسان، فكل وجوده مخلوق لله، بينما هو أيضاً بكلّه معلوم له سبحانه دون أن يكون معنى ذلك أنّ جزءاً من ذات الإنسان معلوم لله والجزء الآخر مخلوق له سبحانه، بل كلّه معلوم لله في عين كونه مخلوقاً كله له وليست جهة المعلومية في الخارج غير جهة المخلوقية.

وللمزيد من التوضيح لاحظ النور، فإنّ الإضاءة والحرارة من خواص النور، ولكن ليست الكاشفية والإضاءة مرتبطة بناحية خاصة من وجوده، بل الإضاءة والكاشفية خاصية تمامه دون تبعض، كما أنّ الحرارة هي أيضاً خاصية تمامه دون أن يستلزم ذلك أي تعدد في ذات النور وحقيقته.

٣٢٢

إلى هنا تبيّنت لنا حسب التحليل العقلي مسائل ثلاث هي :

١. ذات الله منزّهة عن التركيب الخارجي.

٢. ذات الله منزّهة عن التركيب الذهني.

٣. صفات الله عين ذاته.

وقد ذكرنا ـ في معرض بيان هذه الحقائق وشرحها ـ أنّ الأمر لو كان على غير ما أثبتناه للزم أن يفتقر الله تعالى إلى سواه.

فالواجب الوجود غني عن غيره، لا يفتقر إلى شيء سبحانه، وسنذكر فيما يلي ما ورد من الآيات في هذا المجال.

١. هو الغني المطلق

إنّ القرآن يصف الله سبحانه في سبعة عشر مورداً بالغني وعدم الافتقار والاحتياج، فقال :

( واللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (١) .

( فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ) (٢) .

( أنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (٣) .

( واللهُ هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ ) (٤) .

( سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ ) (٥) .

__________________

(١) البقرة: ٢٦٣.

(٢) آل عمران: ٩٧.

(٣) البقرة: ٢٦٧.

(٤) فاطر: ١٥.

(٥) يونس: ٦٨.

٣٢٣

( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (١) .

وفي سورة فاطر وصف القرآن الكريم جميع الناس بالفقر إلى الله كما وصف الله وحده بالغني دون غيره، إذ قال :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَىٰ اللهِ واللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (٢) .

وليس لغناه سبحانه معنى إلّا عدم احتياجه في ذاته ووجوده، وفي علمه، وقدرته إلى من سواه، والاحتياج في هذه المراحل من أشد أنواع الاحتياج، وقد أسلفنا أنّ تركب الذات من الأجزاء الخارجية والعقلية يستلزم ـ بالبداهة ـ الاحتياج إلى الأجزاء.

كما أنّ عدم عينية الصفات للذات الإلهية دليل على احتياجه تعالى إلى العلم والقدرة الخارجين عن ذاته، وحيث إنّ الله هو الغني غير المفتقر يلزم أن يكون منزّهاً عن هذه التصوّرات.

فكونه سبحانه غنياً على الإطلاق يثبت المسائل الثلاث: تنزّهه عن التركيب العقلي، والخارجي، وعينية صفاته لذاته.

٢. هو الله الأحد

يقول اللغويون :

الأحد أصله وحد.

وحيث إنّ هذه اللفظة ذات معنى خاص، لذلك لا يوصف بها غير الله تعالى(٣) .

__________________

(١) النمل: ٤٠.

(٢) فاطر: ١٥.

(٣) راجع مفردات الراغب: ١٢.

٣٢٤

ولو جعلت هذه اللفظة ( أعني: الأحد ) في سياق النفي أُطلقت على غير الله مثل أن تقول: ما جاءني من أحد. وأمّا لو جُعلت في سياق الإثبات فتستعمل على نحو الإضافة فقط مثل قولهم: أحدهم، أحد عشر.

وأمّا في غير صورة الإضافة فتطلق على الله فحسب، مثل قوله:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) بمعنى أنّه لا يوصف بها حينئذ، إلّا الله سبحانه.

يقول الأزهري، اللغوي المعروف :

« إنّ « أحد » صفة من صفات الله استأثر بها فلا يشركه فيها شيء من الكائنات، ويأتي في كلام العرب بمعنى الأوّل كيوم الأحد »(١) .

وأمّا المفسرون الإسلاميون فيذكرون لفظة الأحد في قوله تعالى:( هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) طائفة من التفاسير منها :

« الأحد: هو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم في ذاته، ولا في صفاته »(٢) .

ويقول الجزائري في كتاب « فروق اللغات » في الفرق بين الواحد والأحد :

« إنّ الواحد: الفرد الذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر ; والأحد: الفرد الذي لا يتجزأ ولا يقبل الانقسام »(٣) .

ويقول العلاّمة الطباطبائي ـ دام ظله ـ في تفسيره في هذا المجال :

« والأحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد، غير أنّ الأحد إنّما يطلق على

__________________

(١) تفسير سورة الإخلاص للشيخ حبيب الله الكاشاني: ٣١.

(٢) مجمع البيان: ٥ / ٥٦٤.

(٣) فروق اللغات: ٣٨.

٣٢٥

ما لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً، ولذلك لا يقبل العد ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد، فإنّ كل واحد له ثانياً وثالثاً أمّا خارجاً وأمّا ذهناً بتوهم أو بفرض العقل فيصير بانضمامه كثيراً، وأمّا الأحد فكل ما فرض له ثانياً كان هو هو لم يزد عليه شيء »(١) .

وهذه الحقيقة نكتشفها بوضوح من التحقيق في موارد استعمال هاتين اللفظتين: الأحد والواحد في سياق النفي.

فإذا قال قائل: ما جاءني من القوم أحد، كان مفهوم الجملة نفي مجيء مطلق الأفراد، لا نفي مجيء فرد واحد أو فردين، أو ثلاثة.

وبتعير أوضح، فإنّ مفهوم هذه الجملة هو نفي الجنس لا نفي الواحد.

ولكن إذا قال: ما جاءني واحد، فهم من هذه الجملة نفي مجيء شخص واحد في مقابل نفي مجيء فردين أو ثلاث.

وحيث إنّ للفظة « أحد » مثل هذه الخصوصية لذلك عدّت صفة منحصرة في الله سبحانه ولم يجز أن يوصف بها غيره، ولذلك يقول أحد أئمّة أهلالبيت: :

« كل مسمّى بالوحدة غيره قليل »(٢) .

ويؤيد ما قاله أهل اللغة والمفسّرون مجيء جملة( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) بعد وصف الله تعالى نفسه ب‍ ( الأحد ) في سورة الإخلاص ونحن نعلم أن مفاد

__________________

(١) تفسير الميزان: ٢٠ / ٣٨٧.

(٢) سيوافيك عن قريب أنّه يمكن استنتاج المسألة الثالثة، أعني: عينية الصفات مع الذات من هذه الآية فارتقب أيضاً.

٣٢٦

هذه الجملة أي قوله:( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) ، هو نفي النظير والمثيل له سبحانه في الذات والفعل، فلا ذات كذاته ولا خالق أو لا مدبر مثله، فإذا كان معنى هذه الجملة هو ما عرفناه وذكرناه فليس من المستحسن أن نفسر جملة( هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) بنفس المعنى أيضاً، إذ أنّ ذلك يستلزم تكرار مضمون واحد في سورة واحدة وعلى فاصلة قصيرة لهذا يجب القول بأنّ الجملة الأُولى تفيد نفي أي نوع من أنواع التركيب والتجزئة، والجملة الثانية تفيد نفي الشبيه والنظير له سبحانه.

وبملاحظة هذا التفسير تستفاد مسألتان(١) من المسائل الثلاث المطروحة في مطلع هذا القسم من هذه الآية، لأنّ وحدة الذات تستلزم ـ بالضرورة ـ نفي أي نوع من أنواع التركيب الخارجي والذهني عن الله.

وأمّا المسألة الثالثة وهي « عينية الصفات الإلهية للذات » فطريق إثباتها هو « صفة الغنى المطلق » التي أثبتها القرآن الكريم لله سبحانه في مواضع عديدة.

كما أنّ وصف الله في سورة الإخلاص بالصمد يثبت هذه العينية والاتحاد أيضاً بناء على أنّ أحد معاني الصمد هو « المقصود لكل محتاج ».

فإذا كان الله مقصود كلِّ محتاج ولم يكن أيُّ مقصود سواه، استلزم ذلك أن تكون « الصفات عين الذات » وإلاّ لاحتاج في العلم بالأشياء، أو إيجاد شيء، إلى علم خارج، وقدرة خارجة عن ذاته، وفي هذه الصورة لا يكون الله متصفاً بالغنى المطلق ولن يكون حينئذ مقصود كلِّ محتاج.

بل يكون هناك مقصود آخر، يتوجّه إليه حتى الله سبحانه.

إلى هنا أثبتنا، عن طريق الآيات القرآنية « بساطة الذات الإلهية » ووحدتها

__________________

(١) الميزان: ٢٠ / ٣٨٧.

٣٢٧

وكذا عينية الصفات للذات، ولتكميل هذا المبحث يتعيّن علينا الآن أن نستعرض ما ورد عن أئمّة أهل البيت: حول هذا المطلب.

والجدير بالذكر أنّ الأحاديث والأخبار الواردة في هذا الشأن أكثر من أن تحصى، ومن أن يمكن الإتيان بها في هذا الموضع، إلّا أنّنا سنكتفي بذكر نماذج منها، فقد قال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« وأمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه [ أي في الله من التوحيد ] فقول القائل :

١. هو واحد ليس له في الأشياء شبه.

٢. أنّه عزّ وجلّ أحدي المعنى، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود [ خارجي ] ولا عقل ولا وهم »(١) .

والعبارة الأخيرة تثبت بوضوح بساطة الذات الإلهية ونفي أيّ شكل من أشكال التركيب الخارجي والذهني(٢) في شأنها.

كما وصفه الإمام الصادقعليه‌السلام بالبساطة، ضمن كلام طويل، إذ قال :

« وصانع الأشياء غير موصوف بحد مسمّى »(٣) .

وهذا الحديث يمكن أن يكون ناظراً إلى نفي « الحد والماهية » عن الله تعالى، كما يمكن أن يكون المراد منه هو نفي المحدودية عنه تعالى، أو يكون مسوقاً لبيان كليهما.

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٨٣ ـ ٨٤.

(٢) كالتركب من الوجود والماهية.

(٣) توحيد الصدوق: ١٩٢.

٣٢٨

ويقول الإمام الثامن عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام في هذا الصدد :

« بتجهيره الجواهر عرف أنّ لا جوهر له »(١) .

من هذه الأحاديث يمكن استنباط كلا المسألتين المذكورتين بوضوح، وأعني بهما :

١. نفي الأجزاء الخارجية ( والتركيب الخارجي ).

٢. نفي الأجزاء العقلية ( والتركيب العقلي ).

أمّا المسألة الثالثة، وهي عينية الصفات للذات، فنشير إلى بعض الأحاديث الناظرة إليها فيما يأتي :

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« وكمال الإخلاص له، نفي الصفات [ الزائدة ] عنه لشهادة كلِّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلِّ موصوف أنّه غير الصفة.

فمن وصف الله [ أي وصف زائد على ذاته ] فقد قرنه [ أي قرن ذاته بشيء غير الذات ] ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله »(٢) .

وفي هذا الكلام العلوي تصريح بعينية الصفات للذات المقدسة، بل في هذا الكلام إشارة إلى برهان آخر، وهو أنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته يوجب تنزيهه تعالى عن التركيب والتجزئة، ونفي الاحتياج والافتقار عن ساحته.

وأمّا إذا قلنا بغيريَّتها مع الذات فذلك يستلزم التركيب وبالم آل: الثنويّة ،

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٣٧.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.

٣٢٩

والتركيب آية الاحتياج، والله الغني المطلق لا يحتاج إلى من سواه.

وعلى هذا الأساس يكون قوله تعالى:( هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) التي تدل على بساطة الذات دليلاً أيضاً على عينيّة الصفات للذات، إذ على فرض زيادتها على الذات يحصل هنا وجود مركب من العارض والمعروض فيكون مصداق لفظة الجلالة هو المركب منهما، مع أنّ المفروض بساطة ذاته.

هذا مضافاً إلى أنّ الاعتقاد بزيادة الصفات ـ حسب ما ذهب إليه الأشاعرة ـ يستلزم أن يكون هناك « قدماء ثمانية » ما عدا الله القديم، في حين أنّ الآيات القرآنية التي تدل على وحدانية القديم الأزلي تنفي هذه النظرية أيضاً، وقد أشرنا إليه سابقاً.

قال الإمام الصادقعليه‌السلام لأبي بصير في هذا الصدد :

« لم يزل الله جل وعزّ ربنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور »(١) .

والإمام يشير إلى قسم خاص من علمه سبحانه وهو وجود العلم بلا وجود معلوم، ووجود السمع بلا وجود مسموع، وشرح هذا القسم من العلم يطلب من الكتب الكلامية والفلسفية.

وللفيلسوف الجليل صدر المتألّهين في هذا المقام بيان لا يسع هذا المجال لإيراده(٢) .

__________________

(١) التوحيد للصدوق: ١٣٩.

(٢) الأسفار الأربعة: ٦ / ٢٦٣ ـ ٢٧٠.

٣٣٠

الفصل السابع

الله والتوحيد في الأفعال

١. التوحيد في الخالقية

٣٣١

الله والتوحيد في الخالقية

١. عقيدة المعتزلة في العلل والأسباب.

٢. نقد هذه العقيدة.

٣. مذهب الإمام الأشعري في العلل الطبيعية.

٤. نقد هذا المذهب.

٥. مذهب أئمة أهل البيت: « الأمر بين الأمرين ».

٦. التوحيد في الخالقية من شعب التوحيد الافعالي.

٧. ما معنى الخالقية ؟

٨. لماذا يؤكد القرآن على التوحيد في الخالقية ؟

٩. ما معنى خالقية المسيح ؟

١٠. التوحيد في الخالقية يؤكد الاختيار.

١١. كيف تعلّقت الإرادة الأزلية بصدور الفعل عن الفاعل.

١٢. تحليل عن الشرور.

١٣. خلاصة القول في الشرور.

١٤. جواب آخر حول الشرور.

١٥. الشر أمر نسبي.

٣٣٢

التوحيد في الخالقية

تشهد النظرة العلميّة والفلسفية بقيام النظام الكوني على أساس سلسلة الأسباب والمسببات وارتباط كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية بعلّة وسبب مادي، فهذا النظام ـ بمجموعه ـ نظام ممكن، محتاج ـ في ذاته، وفعله ـ إلى واجب غني بالذات، وحيث إنّ الإمكان والافتقار لازم « ذات » الممكن وماهيته، والفقر والاحتياج لا ينقطع ولا ينفك عنه، فالنظام الذي يتألف من سلسلة « العلل والمعلولات » يكون قائماً ـ في وجوده وبقائه وفي تأثيره وفعله ـ بالله تعالى دون أن يتمتع بأي « استقلال » ذاتي واستغناء عنه حدوثاً وبقاء ذاتاً وفعلاً.

وبعبارة أُخرى إنّ الظواهر الكونية كما أنّها « غير مستقلة في ذاتها » وأصل وجودها كذلك هي غير مستقلة ـ في مقام عليتها وتأثيرها ـ بمعنى أنّها لا تؤثر أو لا يمكنها التأثير إلّا بإرادة الله، وحوله وقوته سبحانه، ويستنتج من ذلك أنّه كما لا شريك له سبحانه في الفاعلية والعلية، ليس هناك في الواقع إلّا « فاعل مستقل واحد » لا غير، وإلاّ علة واحدة قائمة بنفسها لا بسواها، وذلك هو « الله » عز وجل.

وأمّا الأسباب والعلل الأُخرى فهي تستمد « وجودها » و « فاعليتها » أيضاً من الله، وتقوم به، ولذلك فإنّ شعار المؤمن الموحد يكون دائماً هو: « لا حول ولا قوة إلّا بالله ».

٣٣٣

عقيدة المعتزلة

ذهب المعتزلة إلى أنّ كل ممكن مؤثر، يحتاج في ذاته إليه سبحانه لا في فعله، فوجوده فقط قائم به تعالى، دون إيجاده، وإنّ فعل الممكن يرتبط بنفسه لا بموجده.

فقد فوض تأثير الفاعل ـ في نظر هذه الطائفة ـ إلى نفس « الأسباب والعلل » بحيث لم تعد هذه الأسباب بحاجة إلى الله في « تأثيرها وفاعليتها » بل هي تأتي بكل ذلك على وجه الأصالة والاستقلال دون فرق في هذه الناحية بين الإنسان وغيره.

وقد دفع هذه الفرقة إلى اختيار مثل هذه العقيدة، تصور تنزيه الله عمّا يفعله العباد من الآثام والقبائح كالظلم والقتل والزنا.

فلو كانت « سببية » هذه الأفعال مستندة إلى الإرادة الإلهية، لاستلزم ذلك أن يكون عقاب العصاة ـ حينئذ ـ مخالفاً للعدل الإلهي، واستلزم نسبة القبيح إليه سبحانه.

فهم بغية الحفاظ على العدل الإلهي وتنزيهه سبحانه سلكوا هذا المسلك على خلاف البراهين العلميّة والفلسفية، وعلى خلاف الآيات والأحاديث الإسلامية، واعتبروا العلل « عللاً مفوضة » فوضت إليها السببية والتأثير، بحيث تؤثر دون الاستناد إلى القدرة الإلهية، أي بالاستقلال والأصالة.

وفي الحقيقة، جعلوا مكان « الفاعل المستقل الواحد » ملايين الفاعلين المستقلين، وبذلك اتخذوا لله ـ بدل شريك واحد ـ شركاء كثيرين له في الفعل

٣٣٤

والتأثير، فسقطوا بذلك في ورطة « الشرك الخفي »(١) بظن المحافظة على العدل الإلهي.

نقد هذا الاعتقاد

ونحن قبل أن نتحدث حول الآيات المرتبطة ب‍ « التوحيد في الخالقية » الذي هو في الحقيقة بحث في « التوحيد الأفعالي » سنذكر باختصار ما يرد على هذه النظرية من نقد وأشكال، فنقول :

١. هل يصح أن يستند الموجود الممكن في وجوده وذاته إلى الله، ولكن يكون مستقلاً عنه في تأثيره في حين أنّ الارتباط من حيث الذات يستلزم الارتباط من حيث الفعل والتأثير، لزوماً وحتماً.

وبعبارة أُخرى: إذا كان وجود هذه الموجودات وذاتها مرتبطة بالله، فإنّ فعلها وتأثيرها يكون أيضاً مرتبطاً به تعالى، فكيف يقول هؤلاء باستقلال هذه الموجودات في فعلها وتأثيرها مع اعترافهم بارتباطها بالله سبحانه في ذاتها، الملازم لارتباطها قهراً به في الفعل والتأثير في حين لو كان الفاعل مستقلاً في فعله لوجب أن يكون أيضاً مستقلاً في ذاته وأصل وجوده، والاعتقاد باستقلال الأشياء في « أصل وجودها وذاتها » موجب للاعتقاد بوجوب وجودها ـ لا محالة ـ ومعلوم أنّ مثل هذا الاعتقاد مناف ل‍ « التوحيد الذاتي ».

٢. من الجدير ـ جداً ـ التعمّق في الآية التالية :

__________________

(١) انّ اعتقاد المعتزلة باستقلال العلل والأسباب في الفاعلية هو نوع من الشرك الخفي الذي لا يدركه إلّا العلماء والمحققون دون عامة الناس، ولهذا لا يكون هذا الاعتقاد سبباً للخروج من الإسلام.

٣٣٥

( وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) (١) .

فإنّ قوله سبحانه:( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ ) أوضح دليل على عدم استقلال أي فاعل في فعله، إذ لا شك أنّ أثر الفاعل عاقلاً كان أو غيره جزء من الملك، فلو كان الفاعل مستقلاً في فعله، لكان بعض الكون وهو ذوات العلل والأشياء ملكاً لله سبحانه والبعض الآخر يكون ملكاً لغيره تعالى، أعني: العلل والأسباب، فإنّ المالكية متفرعة على الخالقية فلو كانت الآثار خارجة عن إطار خالقية الله لخرجت عن إطار مالكيته.

إنّ القرآن الكريم يخبر عن مجموعة من المدبرات إلى جانب الله حيث يقول :

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (٢) .

فمن ترى تكون تلك المدبّرات ؟

المراد من تلك المدبّرات أمّا العلل الطبيعية أو الملائكة التي تدبّر الكون.

فإذا كانت هذه الأشياء تدبّر شؤون العالم على وجه الاستقلال دون أن تكون أفعالها مستندة إلى إرادة الله ومشيئته، فهل يصح قوله تعالى :

( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) .

فأي شريك أعلى وأبين من هذه الشركاء المشتغلة بتدبير العالم دون الاعتماد على الله ودون الرجوع إليه فرضاً.

٣. لقد أشار أحد أئمّة أهل البيت في الرد على عقيدة المعتزلة إلى نكتة

__________________

(١) الإسراء: ١١١.

(٢) النازعات: ٤.

٣٣٦

خاصة وهي :

« انّ القدرية أرادوا أن يصفوا الله عز وجل بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه »(١) .

فلقد كشف الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام النقاب، منذ بداية نشوء مذهب الاعتزال(٢) عن الدوافع الأوّلية لمثل هذا الاعتقاد، وأعلن منذئذ عن فساده، وعلة بطلانه، لأنّه يحدّد قدرة الله.

ولو أمعنوا النظر في كيفية صدور الفعل عن الإنسان، وكيفية فاعليته، مع المحافظة على أصل « التوحيد الافعالي »، لثبت لهم أنّ كل فعل صادر من الإنسان مع أنّه فعل الله هو فعل الإنسان نفسه، ومع أنّه ( أي الفعل البشري ) قائم بالله تعالى هو صادر من العبد نفسه أيضاً، غاية ما في الباب أنّ فاعليته تعالى بالقيومية وفاعلية البشر فاعلية مباشرية.

يقول الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام في كتاب له إلى أحد أصحابه :

« قال الله: يابن آدم بمشيئتي كنت، أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوتي أديت إليَّ فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً، بصيراً، قوياً »(٣) .

__________________

(١) بحار الأنوار: ٥ / ٥٤.

(٢) نعم أنّ أصحاب الاعتزال قد أخذوا الأصلين الرئيسيين ( التوحيد والعدل ) عن خطب أمير المؤمنين عن طريق محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم غير أنّهم لابتعادهم عن سائر أئمّة أهل البيت لم يوفقوا إلى تفسير هذين الأصلين على النحو اللائق بهما إلى أن وجد فيهم أقوام لهجوا بأنّ الله غير قادر على أفعال الإنسان إيجاداً واعداماً وهؤلاء هم القدرية الحقيقية.

(٣) بحار الأنوار: ٥ / ٥٧.

٣٣٧

فالحديث رغم أنّه يصف الإنسان بأنّه هو الذي يريد لنفسه ما يريد، وبإرادته يؤدي فرائضه ويرتكب جرائمه إلّا أنّه في نفس الوقت يقول: بأنّه يفعل ما يفعل بأنعام الله وأقداره.

نعم اختارت المعتزلة ما اختارت من استقلال العبد في فعله بدافع المحافظة على « العدل الإلهي » متوهّمين بأنّ القول بوجود فاعل مستقل واحد في العالم يستلزم أن يكون عقاب العصاة على أفعالهم على خلاف العدل، ولكنّهم غفلوا عن أنّ عقاب العصاة على آثامهم إنّما يكون مخالفاً له إذا أنكرنا حرية الإنسان في الاستفادة من المواهب الإلهية، واعتبرناه مجبوراً مقهوراً في أفعاله وأنكرنا وساطة العلل والأسباب وفاعليتها وعلّيتها.

وأمّا إذا قلنا بمشاركة العلل والأسباب في وقوع الفعل بحيث لا يتحقق الفعل إلّا عن هذا الطريق، أعني: وجود العبد وإرادته واختياره فلا يكون لذلك التوهم أي مجال، والقول بمشاركة العبد في فعله على النحو الذي ذكرنا لا ينافي « التوحيد الافعالي » إذ لا يعني منه إنكار علية العلل والأسباب الطبيعية وغير الطبيعية وإلغاء دورها وتأثرها، بل يعني مع احترام علية العلل وسببية الأسباب أنّه ليس ثمت سبب مستقل ومؤثر بالذات إلّا الله، وانّه تعالى المؤثر الوحيد الذي يؤثر بالأصالة والاستقلال دون غيره، وبهذا الطريق وحده يمكن الاجتناب عن أي نوع من ألوان الشرك في الذات والفعل(١) .

وبعبارة أُخرى: انّ الله قد أعطى القدرة والنعمة لعبده، ولكن جعله حراً في كيفية الاستفادة منهما، فهو بإرادته واختياره يصرف كل نعمة في أي مورد شاء ،

__________________

(١) للسيد الرضي في المقام كلام فراجع حقائق التأويل: ٢٠٩ ـ ٢١٠.

٣٣٨

وعندئذ يكون هو المسؤول عن أعماله وأفعاله، وعلى هذا الأساس فالفعل مستند إلى الله سبحانه باعتبار أنّه أقدر عبده على الفعل وأنعم عليه، كما أنّه مستند إلى عبده لكونه باختياره صرف القدرة والنعمة في أي مورد شاء، وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الذي تواترت عليه الأخبار عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

مذهب الإمام الأشعري

إنّ هناك مذهباً آخر يعد مقابلاً للمذهب الماضي وهو المنسوب إلى الإمام الأشعري، فهو لا يعترف إلّا بمؤثر واحد وهو الله سبحانه وينكر علّية أي موجود سواه، بل يقول جرت إرادة الله على خلق الحرارة بعد النار وخلق النور بعد الشمس وهذا هو ما أسموه بالعادة الإلهية.

فالعادة الإلهية جرت ـ حسب تلك النظرية ـ على ظهور الأثر عقيب وجود المؤثر، دون مشاركة أو سببية للمؤثر في حصول ذلك الأثر مطلقاً.

ولكن هذه النظرية مرفوضة لمخالفتها الصريحة للبراهين العلميّة والفلسفية ولصريح الآيات القرآنية حول تأثير العلل والأسباب الطبيعية في عالم الكون، ونحن نرجئ بيان بطلان هذا الرأي من الناحية العلميّة والفلسفية(١) إلى موضع آخر، وإنّما نكتفي هنا ببيان بطلانه من وجهة نظر القرآن.

__________________

(١) نعم هذه النظرية تقارب ما نقل من الفيلسوف الإنجليزي المعروف: هيوم، حيث إنّه أنكر مطلق العلية ولم يعترف حتى بعلّة واحدة، وعلّل ذلك بأنّ التجربة لا تثبت إلّا التوالي والتقارن بين النار وحرارتها والشمس وضوئها، وهما غير العلّية أي نشوء شيء من شيء.

ولكنّه لما حصر أسباب المعرفة بالتجربة والاختبار عجز عن إثبات قانون العلية الذي تبتني عليه المعارف البشرية، ولو رجع إلى البراهين الفلسفية التي أقامها الفلاسفة على أنّ كل ظاهرة ممكنة تحتاج إلى سبب يخرجها من نقطة الاستواء لظهر له الحق بأجلى مظاهره.

٣٣٩

ففي هذه الآيات يصرح القرآن ـ بوضوح كامل ـ بعلية وتأثير العلل الطبيعية نفسها.

وإليك هذه الآيات :

( وَفِي الأرضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَاب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَىٰ بِمَاء وَاحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْض فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوْم يَعْقِلُونَ ) (١) .

وجملة( يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ ) كاشفة عن دور الماء وأثره في إنبات النباتات ونمو الأشجار، ومع ذلك يفضل بعض الثمار على بعض.

وأوضح دليل على ذلك قوله تعالى في الآيتين التاليتين :

( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ ) (٢) .

( أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَىٰ الأرض الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ) (٣) .

ففي هاتين الآيتين يصرح الكتاب العزيز ـ بجلاء ـ بتأثير الماء في الزرع، إذ أنّ « الباء » تفيد السببية ـ كما نعلم ـ.

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرىَ الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَد فَيُصِيبُ بِهِ مِنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ ) (٤) .

__________________

(١) الرعد: ٤.

(٢) البقرة: ٢٢.

(٣) السجدة: ٢٧.

(٤) النور: ٤٣.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672