مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن5%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154940 / تحميل: 6019
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

التوحيد في الولاية

ولا نعني من الولاية « الولاية التكوينيّة » أي الربوبيّة والتدبير، بل المراد « الولاية التشريعيّة » وتنظيم شؤون الفرد والمجتمع في عامّة مجالات الحياة.

والولاية بهذا المعنى تعني الأمارة، ولها مظاهر ثلاثة :

١. التوحيد في الحاكميّة

ولقد وجّه القرآن الكريم عناية خاصة إلى « التوحيد في الحاكمية » بحيث يتبيَّن بوضوح أنّ الحكم والولاية في منطق القرآن ليس إلّا لله تعالى وحده، وأنّه لا يحقّ لأحد أن يحكم العباد دونه، وأنّه لا شرعية لحاكميّة الآخرين إلّا إذا كانت مستمدة من الولاية والحاكمية الإلهية وقائمة بأمره تعالى، وفي غير هذه الصورة لن يكون ذلك الحكم إلّا حكماً طاغوتياً لا يتصف بالشرعية مطلقاً ولا يقرّه القرآن أبداً.

على أنّنا حينما نطرح هذا الكلام ونقول: بأنّ الحكم محض حقٍّ لله وأنّ الحاكمية منحصرة فيه دون سواه فليس يعني ذلك أنّ على الله أن يباشر هذه الحاكمية بنفسه، ويحكم بين الناس ويدير شؤون البلاد دون واسطة، ليقال إنّ ذلك محال غير ممكن، أو يقال إنّ ذلك يشبه مقالة الخوارج إذ قالوا للإمام عليعليه‌السلام رافضين حكمه وإمارته :

« أن الحكم إلّا لله، لا لك يا علي، ولا لأصحابك »(١) .

بل مرادنا هو: أنّ حاكمية أيِّ شخص يريد أن يحكم البلاد والعباد لا بد أن

__________________

(١) كان هذا شعار الخوارج يردّدونه في المسجد وغيره.

٢١

تستمد مشروعيتها من: « الإذن الإلهي » له بممارسة الحاكمية.

فما لم تكن مستندة إلى هذا الإذن لم تكن مشروعة ولم يكن لها أي وزن، ولا أي قيمة مطلقاً.

ونفس هذا الكلام جار في مسألة الشفاعة أيضاً.

فعندما يصرح القرآن بوضوح قائلاً:( قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (١) لا يعني أنّه لا يشفع إلّا الله، إذ لا معنى لأن يشفع الله لأحد.

بل المفاد والمراد من هذه الآية هو أنّه ليس لأحد أن يشفع إلّا بإذن الله، وأنّه لا تنفع الشفاعة إذا لم تكن برضاه ومشيئته(٢) .

وإن شئت قلت: إنّ أمر الشفاعة بيد الله تعالى من حيث الشافع والمشفع واللام في قوله( لله ) يدل على اختصاص خاص وهو أنّ أمر التصرّف باختياره تعالى كقوله:( وَللهِ غَيْبُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ ) (٣) .

٢. التوحيد في الطاعة

كما أنّ الحاكمية على العباد مختصة بالله سبحانه، كذلك لا يجوز لأحد أن يطيع أحداً غير الله، فالطاعة هي أيضاً حقٌّ منحصر بالله سبحانه لا يشاركه فيها ولا ينازعه أحد.

وأمّا لو شاهدنا القرآن يأمرنا ـ في بعض الموارد ـ بطاعة غير الله، مثل

__________________

(١) الزمر: ٤٤.

(٢) بحث المؤلف الشفاعة في كتاب مستقل باسم « الشفاعة بين يدي القرآن والسنّة والعقل ».

(٣) هود: ١٢٣.

٢٢

الأنبياء والأولياء، فليس لأنّ طاعة هؤلاء واجبة بالذات، بل لأنّ وجوب طاعتهم من جهة أنَّها « عين » طاعته سبحانه، وبأمره.

وبتعبير أجلى: حيث إنّ الله تعالى « أمر » بطاعة هؤلاء، لهذا وجبت إطاعتهم واتّباع أوامرهم والانقياد لأقوالهم امتثالاً لأمر الله وتنفيذاً لإرادته، فلا يكون هناك حينئذ إلّا « مطاع واحد » في واقع الحال، وهو الله جل جلاله. وأمّا إطاعة الآخرين (أي غير الله) فليست إلّا في ظل إطاعة الله تعالى شأنه، وفرع منها.

٣. التوحيد في التقنين

إنّ حق التقنين والتشريع ـ هو الآخر ـ مختص بالله في نظر القرآن الكريم، تماماً مثل الأُمور السالفة الذكر.

فليس لأحد سوى « الله » حق التقنين والتشريع وجعل الأحكام وسن القوانين للحياة البشرية.

ولذلك فإنّ الذين أعطوا مثل هذا الحق للأحبار والرهبان خرجوا من دائرة التوحيد في التقنين، ودخلوا في زمرة المشركين.

ويمكن إدراج هذا القسم ( أي التوحيد في التقنين ) تحت قسم ( التوحيد الافعالي ) ولكن من الأفضل أن نفرد له قسماً خاصاً، وبحثاً مستقلاً، لأنّ المقصود بالأفعال في « التوحيد الافعالي » هو الأفعال التكوينية أي المرتبطة بعالم الخلق والتكوين والطبيعة، في حين أنّ التقنين والتشريع نوع من الأُمور الاعتبارية والجعلية العقلائية، فليس التحليل والتحريم أمرين تكوينيين، بل من الملاحظات العرفية القائمة بذهن المعتبر واعتباره، ولهذا يكون من الأنسب التفريق بين هذين القسمين.

٢٣

وهكذا بالبحث في :

التوحيد في الحاكمية.

والتوحيد في الطاعة.

والتوحيد في التقنين.

أقول: بالبحث في هذه الأُمور تتضح صيغة الحكومة ونظام الحكم في الإسلام، وتتجلّـى لنا الصورة الواقعية للحكومة الإسلامية.

لأنّ على هذا الأساس لن تكون الحكومة الإسلامية من نوع « حكم الفرد على الشعب » ولا من نمط « حكم الشعب على الشعب » على إطلاقه، بل هي من نوع « حكومة الله على المجتمع بواسطة المجتمع »(١) أو بعبارة أُخرى: حكومة القانون الإلهي على المجتمع.

وأمّا بقية الصيغ الأُخرى للحكم التي سوف نستعرضها فيما بعد فلا توافق الصيغة القرآنية على صعيد نظام الحكم مطلقاً.

ففي كثير من الصيغ المطروحة لنظام الحكم يشار فيها ـ في العادة ـ إلى هذه الأُصول الثلاثة وهي :

١. السلطة التشريعية.

٢. السلطة القضائية.

٣. السلطة التنفيذية.

__________________

(١) على النحو الذي سيأتي بيانه موسعاً فيما بعد.

٢٤

وكل هذه السلطات الثلاث محترمة في نظر الإسلام، إلّا أنّ مهمة « السلطة التشريعية » في الحكومة الإسلامية ليست إلّا « التعريف بالقانون » والتخطيط وفق موازين الشريعة الإسلامية وليس سن القوانين، لأنّ في النظام الإسلامي يختص حق التقنين بالله، فلا مكان لمقنّن آخر فيه سوى الله الذي سن جميع ما يحتاجه البشر من القوانين وأبلغها إليهم عن طريق الأنبياء والمرسلين.

من هنا لا بد لتكميل « البحوث التوحيدية » ـ بالإضافة إلى دراسة مراتب التوحيد الأربع ـ من البحث في هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد على ضوء القرآن.

على أنّنا لا ندعي بتاتاً بأنّ مراتب التوحيد وأقسامها تنحصر في هذه المراتب السبع وتقف عند هذا الحد، بل يمكن أن يكون للتوحيد مراتب أُخرى ذكرها القرآن(١) ولكن بحثنا سيدور فعلاً حول هذه الأقسام السبعة.

ولكي نحيط إحاطة كاملة بالكثير من المسائل المرتبطة « بالتوحيد والشرك » من وجهة نظر القرآن الكريم يتعين علينا أن نتعرف على نظر القرآن الكريم في المباحث التالية التي هي موضع عناية القرآن :

١. الله والفطرة.

٢. الله وعالم الذر.

__________________

(١) مثل « التوحيد في الهداية » و « التوحيد في المالكية » و « التوحيد في الرازقية » و « التوحيد في الشفاعة » مما يمكن إدخال بعضها أو جميعها في قسم « التوحيد الافعالي ».

٢٥

٣. الله وبراهين وجوده في القرآن(١) .

٤. الله وسريان معرفته في الوجود بأسره.

٥. الله والتوحيد في الذات.

٦. الله وبساطة ذاته وعينيّة صفاته لذاته.

٧. الله والتوحيد في الخالقية(٢) .

٨. الله والتوحيد في الربوبية ( التدبير )(٣) .

٩. الله والتوحيد في العبادة.

١٠. الله والتوحيد في التقنين.

١١. الله والتوحيد في الطاعة.

١٢. الله والتوحيد في الحاكمية.

__________________

(١) ليس من الصحيح أن يؤخذ علينا استدلالنا بالقرآن على وجود الله بظن أنّ هذا يستلزم الدور الصريح بأن يقال :

إنّ القرآن حجة فيما يقول لو ثبت الوحي والرسالة، والوحي والرسالة لا يثبتان إلّا بعد ثبوت الموحي المرسل، فالاستدلال بالقرآن لثبوت الموحي المرسل استدلال بالشيء على نفسه.

أقول: لا يصح أن يؤخذ علينا إشكال كهذا، لأنّنا إنّما نستدل بالقرآن، لأنّه لا يعرض ما يتعلق بالعقائد الدينية إلّا مع الأدلة العقلية القاطعة، وهذا وحده أمر يستدعي الاهتمام بغض النظر عن كون القرآن وحياً إلهياً وكتاباً سماوياً.

فاستشهادنا واستهداؤنا بالقرآن إذن هو من قبيل استهداء التلميذ بأُستاذه الذي يريه الطريق، أي بصرف النظر عن كون القرآن كلام الله بل بالنظر إلى كونه مبيناً للأدلّة والبراهين العقلية ومشيراً إلى الأدلّة التي تستدعي من عقولنا التأمل.

(٢) و (٣) الخالقية والتدبير ( اللّذين فتحنا لهما فصلين مستقلين ) هما في الحقيقة من فروع التوحيد في الأفعال، ولكن لكثرة مباحثهما بحثنا عن كل واحد بالاستقلال.

٢٦

وسنبحث في هذا الكتاب وفق هذا الجدول الذي يؤلف فصول هذا الكتاب الرئيسية، وسيكون مستندنا الوحيد ـ طوال هذا البحث ـ هو (آيات القرآن الكريم ) ومداليل هذه الآيات ومفادها.

كما أنّنا لمزيد التوضيح ربّما استعنا ـ خلال البحث ـ بالأدلة العقلية الواضحة والتحليل الفلسفي، وربّما نستشهد ببعض الأحاديث التي رواها السنّة والشيعة عن النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله وآله: ومن الله نسأل العون والسداد.

٢٧
٢٨

الفصل الأوّل

الله والفطرة

٢٩

معرفة الله والفطرة

١. هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية.

٢. اعترافات علماء الاجتماع بأصالة التديّن.

٣. هل وجود الله أمر بديهي ؟

٤. تعاليم الدين ـ بأُصولها ـ أُمور فطرية.

٥. تجلّي الفطرة عند الشدائد.

٦. هل وحدانية الله أمر فطري وإن لم يكن الاعتقاد بذاته فطرياً ؟

٧. الإجابة عن هذا السؤال.

٨. ما هو الفرق بين التوحيد الفطري والاستدلالي ؟

٩. كيف نميز بين الفطري وغير الفطري ؟

١٠. علامات الفطرية الأربع.

١١. البعد الرابع أو غريزة التدين.

١٢. سلوك الماركسيين تجاه أُصولهم.

١٣. المعنى الآخر لفطرية الإيمان بالله.

١٤. الفطرة في الأحاديث.

٣٠

هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية

في التحوّل العلمي الأخير للغرب انطلق المكتشفون والمخترعون يعدون العالم البشري بأنّه لو تم لهم اكتشاف الضوابط والسنن المتحكمة في دنيا المادة، ولو تم لهم الوقوف والاطّلاع على العلاقات السائدة بين الظواهر الطبيعية وبالتالي لو أمكنهم أن يكبحوا جماح غول الجهل الذي يطارد البشرية دون رحمة.

لو تمَّ لهم كل ذلك لاستطاع البشر أن يحصل على « المدينة الفاضلة » التي وعد بها أفلاطون، بل لاستطاعوا أن يحصلوا على الجنّة التي طالما تحدّث عنها الأنبياء، وأخبر بها الرسل !! ولم يعد بعد ذلك أيّة حاجة إلى الدين والتعاليم الدينية !! فالتقدّم العلمي والتكنولوجي وحده كفيل بأن يحقّق للإنسانية ما يليق بها من العزة والكرامة والسعادة !!

هذا ما كان يتحدّث عنه.

بيد أنّ الحوادث المريعة التي شهدتها أوائل وأواسط القرن الأخير والتي بلغت ذروتها في الحربين العالميتين اللتين كان مجموع ضحاياهما ما يزيد عن مأة مليون إنسان ما بين قتيل وجريح ومفقود الأثر.

هذه الحوادث أفرغت اليأس في قلوب كل أُولئك المتشدّقين وفنّدت مزاعمهم، وأثبتت بقوّة بأنّ عهد الدين لم يول بعد، وأنّ الحاجة إلى التعاليم

٣١

الدينية لـمـّا، ولن ترتفع ولم تزول، وأنّ من المستحيل أن تسعد البشرية وتنال الرفاه المنشود ورغد العيش دون الأخذ بالدين، ودون التوجّه إلى الله، وأنَّها على فرض حصولها على العيش الرغيد في معزل عن الدين، فإنّها ـ ولا ريب ـ ستواجه مشكلات جديدة لا يمكن حلّها وعلاجها بأدوات التطور العلمي المادي والتقدم الصناعي، والتكنولوجي.

لأنّه ما الذي سيمنع ـ في ظل الأنظمة المعتمدة على العلم المجرّد عن الدين ـ من بروز الحروب المبيدة الساحقة، واندلاع المعارك المدمرة ؟

أم أيّ نظام حقوقي سيكون قادراً على تلبية كل احتياجات الإنسان الحقوقية ومعالجة كل المشكلات الطارئة على العلاقات الاجتماعية ؟!!

لقد أصبح عرض المبادئ والنظريات الفجة مع انتحال صفة « الآيديولوجية » لها، شعار هذا العصر، ولكن الواقع العملي أثبت أنّ كل هذه المبادئ والنظريات وما يسمّى بــ‍ « الآيديولوجيات التقدمية » عجزت، وفشلت، وسقطت على صعيد التطبيق السياسي والاجتماعي والأخلاقي، وعجزت عن تقديم نموذج أرقى للحياة وطريقة أفضل للعيش، فإذا بنا نجدها سرعان ما تختفي عن المسرح واحدة تلو الأُخرى، مسلمة نفسها إلى يد النسيان والفناء، والاندحار.

فالماركسية التي جعلت « الاقتصاد » مبدأ حركة التاريخ وغايته ومحور كل التحولات الاجتماعية لم تستطع ـ أبداً ـ أن تروي عطش الإنسان إلى القضايا الروحية والمعنوية ولم تستطع أن تشبع تلك الجوعة المتأصلة في كيان الكائن البشري إلى ما وراء المادة، وبالتالي عجزت الماركسية عن الإجابة على أبسط الأسئلة في هذا المجال !!

٣٢

فالإنسان يريد دائماً أن يعرف :

من أين جاء ؟؟

ولماذا جاء ؟؟

وإلى أين يذهب ؟؟

ولكنَّ الفكر الماركسي يلوذ بالصمت تجاه هذه الأسئلة المحرجة، ويعجز ـ تماماً ـ عن الإجابة عليها.

ومن المعلوم أنّ الإنسان ما لم يحصل على إجابات مقنعة على أسئلته حول علة خلقه والهدف منه والغاية التي تنتظره فإنّه لن تنحل عنده بقية مسائل الحياة بصورة جدية وقطعية.

وكيف ـ ترى ـ يمكن أن تنحل هذه المشاكل ويتضح جواب هذه التساؤلات والماركسية تعتبر الكون ككتاب مندرس سقط أوّله وآخره فلا أوّل له ولا آخر ولا مبدأ ولا منتهى حيث إنّها لا تعترف بالمبدأ الأوّل ولا تقرّ به ولا تعرفه كما لا تعرف الغاية من الخلق ولا تقرّ بها ولا تعترف.

من هنا يعتقد المفكرون الأحرار الواقعيون النظرة في العالم، اليوم بأنّ على البشرية أن تعود إلى أحضان الدين، وأنّ المعتقدات والتعاليم الدينية يجب أن تؤخذ في الحسبان على أنّها جانب أساسي في حياة الإنسان وأنّ أي مبدأ وآيديولوجية تريد أن تشغل الإنسان بالطبيعة فقط متجاهلة ما وراء الطبيعة فإنّها ستكون محكومة بالفشل وسيكون مآلها إلى السقوط في وجه المشاكل العويصة والطرق المسدودة التي تعترض سبيلها، وسبيل كل فكرة وعقيدة.

وصفوة القول هو ما قاله العالم المعروف: « جان ديورث » :

٣٣

كيفما فسرنا الأُمور الدينية وكيفما تصورناها، فإنّ للدين سابق عهد في الحياة البشرية وله دور فعلي الآن، ولا ريب أنّه سيكون له ذلك في المستقبل أيضاً.

إنّ كون الآيديولوجية ( إلهية ) وكون المنهج إلهياً لا يعني أنْ نوجه عنايتنا إلى ما « وراء الطبيعة » ونتجاهل عالم المادة ونهمل دنيا الطبيعة، بل إنّ الفارق بين « الإلهي » و « المادي » هو أنّ الإلهي يجعل معرفته بالطبيعة سبيلاً إلى معرفة ( ما وراء الطبيعة ) هذا إلى جانب الاستفادة الكاملة والمعقولة من عالم الطبيعة والمادة، في حين يقتصر المادي على الاستفادة من الطبيعة ويجعلها هدفه الوحيد، وغايته القصوى، ويحبس نفسه في سجن المادة دون أن يحاول اللحوق إلى آفاق ما وراء الطبيعة كما يفعل المادي.

علماء الاجتماع وأصالة التديّن

يذهب علماء الاجتماع المحقّقون المحايدون إلى أنّ للاعتقاد والإيمان بالله جذوراً عميقة، وتاريخاً عريقاً في حياة الإنسان، بحيث لم يحدث للبشر حذف الدين من منهاج حياته ولا حتى لبرهة عابرة من الزمن.

أمّا البلاد الشيوعية التي حذفت الإيمان بالله من برنامج حياتها، وتظاهرت بالإلحاد والكفر وإنكار الخالق وبكل ما يتعلق بما وراء الطبيعة « الميتافيزيقا » فلها تراجيديا واسعة سنشير إليها في خاتمة البحث.

والآن نبحث حول أصالة التديّن وتجذّره في تاريخ البشر :

إنّ حياة البشر على هذا الكوكب كنز غني وثمين متاح للإنسان المعاصر والقادم. ولكل فرد من أبناء البشر حسب رؤيته، وتبعاً لمقدار معلوماته وتخصصه

٣٤

أن يستفيد من هذا الكنز العظيم الزاخر بالعبر والدروس.

ومن أجل ذلك راح الأنبياء العظام والمصلحون العالميون، والحكماء والفلاسفة، ومن ورائهم المربون الاجتماعيون وأساتذة الأخلاق، والنفسانيون وغيرهم يلفتون نظر المجتمعات البشرية إلى « تاريخ الأسلاف » ويدعونهم إلى قراءته واستلهام الدروس منه، وراح كل واحد من هذه الطوائف التي ذكرنا يستفيد من هذا الكنز العظيم، أعني: التاريخ البشري، ما أمكنه لإنجاح مهمته، وأهدافه لما في التاريخ من أدلة وشواهد لما يقولون.

إنّ تصفح مثل هذا التاريخ ومطالعة حياة الأقوام والشعوب السالفة وعلل ظهور الحضارات « الواحدة والعشرين »(١) وأرضياتها وأُسسها، وسيلة مطمئنة للباحث الذي يريد الاطلاع على جذور التديّن في قلوب البشر وفي تاريخه الطويل.

فالمتصفح في التاريخ البشري الطويل يرى كيف أنّ البشر اختار ـ طوال آلاف السنين وخلال هذه الحضارات المتنوعة ـ عشرات المناهج والأساليب لحياته، ولكنّه سرعان ما كان ينبذها ويحذفها من حياته تماماً.

لقد كان البشر ولا يزال طالباً للجديد، وخاضعاً لسنة التطور والتحول والتغير ففيما هو يوجد لنفسه ولحياته، أو يختار، برامج وأساليب جديدة لنظامه نجده من جانب آخر يلغي أُموراً ـ تبعاً للعوامل الطبيعية والظروف المحيطية والعنصرية ـ طالما دافع عنها وأحبها إلى درجة بذل النفس في سبيلها.

لكنَّ هناك أمراً واحداً بقي ثابتاً لا يتغير في قاموس الحياة البشرية، رغم كل

__________________

(١) حسبما أحصاها بعض مؤرخي الحضارات.

٣٥

تلك التغيّرات والتحوّلات.

أمراً واحداً بالغ البشر في حفظه وصيانته وتوسيع دائرته ألا وهو: موضوع « الدين »، والإيمان بما وراء المادة الذي لم يعرف فيه مللاً ولا فتوراً ولا إعراضاً.

هذا القدم في الوجود وهذه الأصالة كاشفة ولا شك عن أنّ « التديّن » والدين يعتبر من العناصر التي تؤلِّف ذات الإنسان وتعد من غرائزه الأصيلة وحاجاته الروحية والنفسية التي كانت لا تزال معه بحيث لم تتسلل إليها يد التغيير والتبديل.

يقول « ويل دورانت » المؤرّخ المعاصر :

صحيح أنّ بعض الشعوب البدائية ليس لها ديانة على الظاهر فبعض قبائل الأقزام في إفريقية لم يكن لهم عقائد أو شعائر دينية على الإطلاق، إلّا أنّ هذه الحالات نادرة الوقوع ولا يزال الاعتقاد القديم بأنّ الدين ظاهرة تعم البشر جميعاً اعتقاداً سليماً وهذه في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية.

ثم يقول :

إنّ الفيلسوف معني بمسألة العقيدة الدينية من حيث قدم ظهورها ودوام وجودها(١) .

ويقول العالم الاجتماعي المعروف « صموئيل كونيك » في بعض كلماته حول جذور الدين في الأسلاف من البشر :

إنّ أسلاف البشر المعاصر ـ كما تشهد آثارهم التى حصل عليها في

__________________

(١) قصة الحضارة: ١ / ٩٩.

٣٦

الحفريات ـ كانوا أصحاب دين، ومتدينين، بدليل أنَّهم كانوا يدفنون موتاهم ضمن طقوس ومراسيم خاصة وكانوا يدفنون معهم أدوات عملهم، وبهذا الطريق كانوا يثبتون اعتقادهم بوجود عالم آخر، وراء هذا العالم(١) .

انّ ذلك الفريق من البشر وان كان يعيش في عصر لم يتم فيه اختراع « الخط » بعد، ولكنه مع ذلك كان الالتفات إلى الدين الذي يلازم بالضرورة « التوجه إلى الميتافيزيقيا » جزء من حياته.

وفي موضع آخر يطرح « ويل دورانت » السؤال التالي ويقول :

ما أساس هذه التقوى التي لا يمحوها شيء من صدر الإنسان(٢) ؟

ثم يجيب هو بنفسه على هذا السؤال في موضع آخر من الصفحات التالية بنحو ما إذ يقول :

إنّ الكاهن لم يخلق الدين خلقاً لكن استخدمه لأغراضه كما يستخدم السياسي دوافع الإنسان الفطرية وغرائزه، فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو ألاعيب كهنوتيّة إنّما نشأت عن فطرة الإنسان(٣) .

وقد يقال: لو كان للدين والتدين جذور عميقة في فطرة الإنسان وأعماق وجدانه، إذن فلماذا خاض أصحاب الأديان كل تلك الحروف طوال التاريخ البشري من أجل إقرار الدين في مجتمعاتهم.

وجواب هذا واضح، فإنّه لم يكن هناك خلاف في أصل « وجود الله »

__________________

(١) كتاب « جامعه شناسي »: ١٩٢.

(٢) قصة الحضارة: ١ / ٩٩.

(٣) المصدر نفسه.

٣٧

والالتفات إلى ما وراء المادة وإنّما الخلاف وقع في خصوصيات هذا الاعتقاد وليس في جوهره وأصله.

وبهذا يتضح أنّ الصراع قام حول التفاصيل والخصوصيات، وأمّا أصل العقيدة والإيمان بوجود الله فقد اتفقت عليه كلمة البشرية على مدار التاريخ الإنساني الطويل.

هل وجود الله بديهي ؟

لقد اعتبر بعض العرفاء « وجود الله » في العالم أمراً بديهياً، وادّعوا بأنّ استنباط هذه الحقيقة من آيات القرآن والوقوف عليها استنباط واضح ولا يحتاج إلى الاستدلال عليه والتفكير مطلقاً.

وكأنّ « توماس كارليل » الفيلسوف الانجليزي قد انتزع مقالته التالية من هذا التصور والاعتقاد إذ قال :

إنّ الذين يريدون إثبات وجود الله بالبرهان والدليل ما هم إلّا كالذي يريد الاستدلال على وجود الشمس الساطعة الوهّاجة بالفانوس(١) .

ولدى مراجعة الآيات القرآنية والأدعية الواردة عن أهل بيت النبي: يمكن الوقوف على إشارات جلية إلى هذا المطلب، ونعني بداهة « وجود الله »(٢) .

__________________

(١) گلشن راز: ٥١.

(٢) ليس المراد من البداهة أن لا يختلف فيه اثنان أو لا يحتاج إلى تذكير مذكر بل للبداهة مراتب بعضها يحتاج إلى تذكير مذكر أو إشارة مشير، وربما يحتاج التصديق به إلى تخلية النفس من الرواسب والآراء السابقة، ولأجل ذلك لا مانع من أن يكون وجود الله معنى بديهياً وإن اختلف فيه الناس والفلاسفة.

٣٨

ومن ذلك قوله تعالى :

( أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ والأرض ) (١) .

فما يمكن أن يكون إشارة إلى قضية « بداهة وجود الله » في هذه الآية هو قوله:( أَفِي الله شَكٌّ ) في حين أنّ المقطع التالي من الآية أعني قوله:( فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ والأرض ) يعتبر دليلاً مستقلاً على وجود الله كما سيأتي توضيحه وبيانه فيما بعد.

وكما يمكن أن تكون الآية المذكورة إشارة إلى « بداهة وجود الله » كذلك يستفاد ذلك من الآية التالية التي تصف الله بالظهور إذ تقول :

( هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ ) (٢) .

كما ويمكن استفادة إشارات واضحة إلى هذا الأمر من دعاء الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي سيد الشهداءعليه‌السلام ، ومناجاته يوم عرفة مع ربه إذ يقول :

« كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟!

أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ؟!

متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟!

ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟!

عميت عين لا تراك عليها رقيباً ».

__________________

(١) إبراهيم: ٩.

(٢) الحديد: ٣.

٣٩

ويقولعليه‌السلام في ختام دعائه :

« يا من تجلّـى بكمال بهائه، كيف تخفى وأنت الظاهر ؟!

أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر ؟ »(١) .

ولكن لابد أن نعلم أنّه لا تنافي بين « بداهة وجود الله » و « فطرية الإيمان به » فلا مانع من أن يكون وجود الله بديهياً ويكون الإيمان بوجوده فطرياً أيضاً.

وفي الحقيقة فإنّ بداهة وجود الله ما هي إلّا نتيجة فطريته، لأنّ أحد أقسام البديهي هو: « الفطريات » كما هو واضح لمن يراجع هذا البحث في محله(٢) .

ولأجل ذلك لا مانع من أن تكون مسألة وجود الله بديهية وفطرية في آن واحد وما ذلك إلّا لأنّ الإيمان بوجوده تعالى قد امتزج بوجداننا وبفطرتنا، ولذلك يبدو وجوده لنا في صورة الأمر البديهي.

الإنسان يبحث عن الله فطرياً

يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ فطرية الإيمان بالله أمر يمكن استفادته من الآيات القرآنية(٣) وإذا بهم يجعلون الإيمان بالله كسائر الغرائز المتأصلة في البشر

__________________

(١) راجع كتاب الأدعية في دعائهعليه‌السلام يوم عرفة.

(٢) بحث « مواد الأقيسة » وهذا البحث من المباحث الهامة جداً في علم المنطق، ولكنّ المتأخرين لم يهتموا به كما ينبغي مع الأسف، وقد انفرد العلاّمة الحلي فقط في كتابه « الجواهر النضيدة » بهذا المبحث.

(٣) بمعنى أنّ الآيات القرآنية تصرّح بأنّ الإذعان بوجود الله فطري لدى الإنسان.

٤٠

ويقولون: كما أنّ الإنسان يحب الخير فطرياً، أو يكره الشر فطرياً كذلك يبحث عن الله فطرياً وذاتياً، ويريد معرفة ما وراء الطبيعة فطرياً أيضاً، وما كل ذلك إلّا لأنّ البحث عن الله والتفتيش عن الخالق أمر جبل عليه الإنسان وفطر عليه تكوينه وعجنت به سريرته، فإذا به يميل إلى الإذعان بالله ذاتياً بينما يكره الإلحاد ونكران الله ذاتياً كذلك.

وفي هذا الباب نواجه نوعين من الآيات :

نوعاً يعتبر التعاليم الدينية بأُصولها ( من عقيدة وعمل ) قضايا فطرية مغروسة في جبلة البشر وخلقته، فإذا هي ( أي هذه التعاليم ) ليست سوى نداءات الضمير، ومحاكاة للفطرة.

ونوعاً آخر يصرح بأنّ الإيمان بالله وألتوجه إليه في الشدائد من الأُمور الفطرية التي ولدت مع الإنسان.

وإليك فيما يلي كلا النوعين من الآيات :

التعاليم الدينية أُمور فطرية

قال الله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلّدِينِ حَنِيفاً فِطْرةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

ففي هذه الآية لم تجعل مسألة « معرفة الله والإيمان به » فقط أمراً، فطرياً بل وصف الدين بأُصوله ( والتي تعني تلك الأُصول والكليات التي تؤلّف أساس

__________________

(١) الروم: ٣٠.

٤١

الدين الإلهي ) بكونه فطرياً جبلياً(١) .

ويشهد الواقع على ذلك إذ نرى أنّ كل التعاليم الّتي جاء بها الدين من عقيدة وعمل، تنطبق على مجموع الاحتياجات الفطرية سواء بسواء.(٢)

والإمعان في الآية المذكورة يفيدنا أنّ الدين عجن بفطرة البشر عجناً، فإذا هو منها وإذا هي منه، وجزء من كيانه.

وحقيقة الدين ليست سوى الطريق الأفضل الذي يجب أن تسلكه البشرية للوصول إلى السعادة.

وبتعبير آخر: انّ الهدف والغاية من خلق البشر ليس إلّا الحصول على السعادة والكمال، وقد هدى الله تعالى كل فرد من أفراد البشر بل وكل نوع من أنواع مخلوقاته إلى ذلك إذ جهزه بما يوصله إلى شواطئ السعادة المنشودة والكمال المطلوب بوسيلة مناسبة.

وقد أشار الكتاب العزيز بصراحة إلى هذه « الهداية التكوينية » العامة والتي لا تقتصر على بني آدم بل تشمل كل الكائنات على الإطلاق.

__________________

(١) الاستدلال بالآية في المقام موقوف على كون الدين بمعنى مجموع العقيدة والشريعة لا بمعنى الطاعة كما هو الظاهر من قوله تعالى:( وَمَا أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ( البينة: ٥ ) أي مخلصين له الطاعة.

فإنّ الدين في تلك الآية وأضرابها بمعنى الطاعة.

فلو قلنا بكون الدين في هذه الآية بمعنى الطاعة، لصارت من شواهد التوحيد في الطاعة.

غير أنّ مشاهير المفسّرين قد فسروا الدين في الآية المبحوثة هنا بمجموع العقيدة والشريعة، وجعلوا العقائد الإسلامية وأُصول الشريعة وكليّاتها ( لا جزئياتها وتفاصيلها ) من الأُمور الفطرية.

(٢) هذا بالإضافة إلى أنّنا نجد أغلبية الناس يميلون إليها طوعاً ورغبة إذا عرضت عليهم على النحو الصحيح، وإذا هم تجرّدوا عن العصبية ـ الهادي ـ.

٤٢

فقد صرح بذلك في آيات أُخرى مضافاً إلى ما سبق، إذ قال :

( رَبُّنُا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) (١) .

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) (٢) .

هذه الآيات تفيد ـ بوضوح كامل ـ أنّ الله زوّد كل كائنات هذا العالم ـ بشراً وغير بشر ـ بهداية فطرية تكوينية تتبين بموجبها طريقها في الحياة فتأخذ ما يناسبها وتدع ما لا يناسبها، وتعينها تلك الهداية الفطرية على معرفة ما هو مفيد لها وما هو مضر.

وفي خصوص الهداية الفطرية التي زود بها البشر خاصة يقول القرآن الكريم:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (٣) .

( أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ *وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (٤) .

( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ *ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ ) (٥) .

كل هذه الآيات حاكية عن أنّ جميع الموجودات ـ أعم من الإنسان وغير الإنسان ـ تعيش في ظل هداية تكوينية فطرية، هداية تقودها إلى الكمال المنشود المطلوب.

والهادي للإنسان في هذا المسير إنّما هو خلقته وتكوينه. وجميع البشر سواسية في هذه الموهبة الإلهية المعنوية ونعني الهداية الفطرية فلم يفضل الله فيها

__________________

(١) طه: ٥٠.

(٢) الأعلى: ٢ ـ ٣.

(٣) الشمس: ٧ ـ ٨.

(٤) البلد: ٨ ـ ١٠.

(٥) عبس: ١٩ ـ ٢٠.

٤٣

بعضاً على آخر، ولم يعطها لفريق ويحرم منها آخرين. إنّما هي فطرة فطر عليها عامة البشر بلا استثناء إذ يقول :

( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) .

فلم يخلق جماعة على غريزة الإيمان، وجماعة أُخرى على غريزة الإلحاد. جماعة على الميل إلى الخير، وجماعة أُخرى على الميل إلى الشر.

كلاّ، إنّما هي فطرة واحدة فطر عليها جميع الناس دون تمييز وتفضيل. إذ لا ريب أنّه لو لم يقم مجتمع ما على أساس مشترك لما أمكن سوقه إلى هدف الخلقة ( ونعني به التكامل ).

فإذا كانت التعاليم الدينية بأُصولها ذات طابع فطري وصفة جبلية، فمن الأحرى أن تكون مسألة « معرفة الله والإيمان به » التي تعد أساس كل التعاليم الدينية أمراً فطرياً كذلك.

تجلّي الفطرة عند الشدائد

من المعلوم أنّ فطرية الإيمان بالله لا تعني بالضرورة أن يكون الإنسان متوجهاً إلى الله دائماً ملتفتاً إليه متذكراً إيّاه في جميع حالاته وآونة حياته اليومية، إذ رب عوامل تتسبب في إخفاء هذا الإحساس في خبايا النفس وحناياها وتمنع من تجليه، وظهوره على سطح الذهن، وفي مجال الوعي والشعور.

وأمّا عند ما يرتفع ذلك الحجاب المانع عن الفطرة فالإنسان يسمع نداء فطرته بوضوح.

أجل هذه حقيقة لا تنكر فعندما يواجه المرء حوادث مخيفة نجده

٤٤

يتوجه إلى الله، ويستنجد به بحكم فطرته طالباً منه تيسير عمله، وتسهيل أمره.

عندما تقع للإنسان حوادث خطيرة كهجوم الأمواج العاتية على السفينة التي يركبها في عرض البحر، أو حدوث عطل فني في الطائرة التي يمتطيها في الجو، أو انحراف السيارة التي يستقلها، أو يتعرض لهجوم سيل كاسح على قريته أو مدينته.

أقول: عندما يواجه الإنسان أحد هذه المخاطر نراه يتوجه من فوره ـ وبصورة تلقائية فطرية ـ إلى الله، وتحدث لديه حالة عرفانية قلبية، يطلب فيها من الله سبحانه الخلاص والنجاة.

ففي هذه الحالة صار الخوف مذكراً له بنداء الفطرة وكاشفاً عنها لا موجداً للإيمان بالله.

فلا يصح لنا أن نستنتج من توجه البشر إلى الله في هذه الحالة وفي هذه اللحظات من حياته بأنّ الإيمان وليد الخوف والرهبة من الطبيعة الغاضبة كما يدعي الماركسيون ومن حذا حذوهم بل الخوف مجرد وسيلة تكشف الغطاء عن ذلك الإيمان المغروس في أعماق البشر، المودوع في الفطرة بيد الخالق العظيم.

إنّ غريزة حب الجمال واكتناز الثروة وطلب العلم رغم أنّها أُمور مجبولة مع فطرتنا ومعجونة مع خلقتنا فهي لا تظهر ولا تتفتّح ولا تبرز في كل الأوقات والظروف، ولا تتجلّى في عالم الذهن في كل الأزمنة والأحوال ما لم تتهيّأ الظروف المناسبة لها في وجودنا.

وكذلك تكون غريزة التديّن وفطرة الإيمان بالله.

وها هو القرآن الكريم يذكرنا بهذه الحقيقة فيخبرنا كيف أنّ فريقاً من البشر

٤٥

يذكرون الله ويتوجهون إليه في مواقع الشدة، والخطر أي عندما تواجه سفنهم طغيان الأمواج ـ مثلاً ـ.

ففي هذا الموضع ـ بالذات ـ يتذكّرون الله وينسون ما سواه من العلل المادية حتى الأصنام التي كانوا يتصورون بأنّـها مقربة لهم إلى الله، فيدعون الله ويطلبون منه بكل إخلاص أن ينجيهم مما هم فيه :

( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِريح طَيِّبَة وَفَرِحُوا بِها جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكَان وَظَنَّوا أَنَّهُمْ أُحِيْطَ بِهِمْ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَاكِرِينَ *فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحَقِّ ) (١) .

( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا الله مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَىٰ البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (٢) .

( وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَىٰ البَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إلّا كُلُّ خَتَّار كَفُور ) (٣) .

( وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .

( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ *ثمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (٥) .

__________________

(١) يونس: ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) العنكبوت: ٦٥.

(٣) لقمان: ٣٢.

(٤) يونس: ١٢.

(٥) النحل: ٥٣ ـ ٥٤.

٤٦

( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَىٰ البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُوراً ) (١) .

( وَإَذَا مَس النَّاسَ ضُرٌّ دَعوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (٢) .

هذه الآيات كلها تفيد أنّ الإيمان بالله مزروع في فطرة الإنسان، غاية ما في الأمر أنّ الإنسان قد يغفل عن ذلك بعض الأحيان بسبب ما يعتريه من سهو ولهو ولذات منسية سريعة الفوت، ولكنَّه سرعان ما يعود بحكم فطرته إلى الله ـ عندما يواجه الشدائد وتفقد الحياة رتابتها ـ فهنالك لا يرى سوى الله منقذاً ومخلصاً، ولا يرى في غيره ولياً ولا نصيراً.

هل الإيمان بوحدانية الله فطري أيضاً ؟

يعتقد فريق من العلماء أنّ الآيات المذكورة ناظرة إلى مسألة « فطرية الاعتقاد بوحدانية الله » لا إلى مسألة « فطرية الاعتقاد بوجوده تعالى ».

فقد كتب من هذا الفريق من يقول :

لو كانت هذه الآيات تتحدث عن فطرية شيء، فهي إنّما تتحدث ـ في الحقيقة ـ عن فطرية « وحدانية الله » لا عن فطرية « أصل وجوده ».

وذلك لأنّ هذه الآيات موجهة ـ أساساً ـ إلى المشركين الذين كانوا يتخذون مع الله إلهاً أو آلهة أُخرى.

__________________

(١) الإسراء: ٦٧.

(٢) الروم: ٣٣.

٤٧

وبذلك يكشف شأن نزولها عن أنّ الأمر الموصوف بالفطرية والمنعوت بكونه جبلياً هنا ليس هو « الاعتقاد بوجود الله » بل هو « الاعتقاد بوحدانيته » كما لا يخفى.

الجواب :

ويمكن الإجابة على هذا الاعتراض بجوابين :

١. أنّ هذا الكلام ـ لو صح ـ إنّما هو صادق بالنسبة للآيات التي تتحدث عن حالة راكبي الفلك(١) حينما تعتريهم الأمواج الطاغية فيتوجهون ـ في غمرة الخوف والانقطاع ـ إلى الله فيما يتوجهون في غير هذه اللحظات إلى معبوداتهم وآلهتهم المزعومة المصطنعة مشركين، حائدين عن جادة التوحيد.

وأمّا تلكم الآيات التي تصف أُصول التعاليم الدينية بالفطرية، وتعتبرها أُموراً نابعة من صميم ذاته ومنطبقة مع جبلته، ومقتضى خلقته فخارجة عن مجال هذا الكلام والاعتراض.

ففي هذه الآيات الأخيرة لم يعتبر التوحيد فقط أمراً فطرياً جبلياً بل اعتبر العلم بالمحسنات والمقبحات والعلم بالتقى والفجور كما في قوله تعالى:( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (٢) أو العلم بالدين كما في قوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله ) (٣) .

أقول: اعتبر العلم بهذه الأُمور فطرياً.

__________________

(١) يونس: ٢٣، والعنكبوت: ٦٥، لقمان ٣٢، والإسراء: ٦٧.

(٢) الشمس: ٨.

(٣) الروم: ٣٠.

٤٨

وفي هذه الصورة لا منافاة بين فطرية الاعتقاد بأصل وجود الله والاعتقاد بوحدانيته فطرياً، لأنّ كل ذلك يندرج تحت إطار « التعاليم الدينية » على السواء.

٢. وحتى لو أغمضنا النظر عن هذا الجواب وقصرنا النظر على آيات راكبي الفلك، فإنّ الاعتراض لن يصح في موردها أيضاً.

وذلك لأنّ المشركين رغم اعتقادهم بالله، فإنَّهم ما كانوا يعبدون ـ في الأوقات الاعتيادية ـ إلّا أوثانهم خاصة، فلم يكن لديهم في تلك الأحيان أي توجه إلى الله أبداً، بينما كان هذا الأمر ينعكس تماماً عند مواجهة الأخطار والشدائد فكانوا يتوجهون إلى الله وحده، يعبدونه وحده، ويتضرعون إليه وحده، وأمّا الأصنام فكانت تسلم إلى يد الإهمال والنسيان.

من هذا الأمر يمكن استنباط الحقيقة التالية، وهي أنّه كما أنّ وحدانية الله أمر فطري كذلك الاعتقاد بأصل وجوده فطري أيضاً.

لأنّ المشرك ـ كما لاحظنا ـ لم يتوجه في الشدائد إلّا إلى الله الذي كان ينسى وجوده وصفته في الحالات الاعتيادية نسياناً مطلقاً وكأنّ الله لم يكن.

ولا ريب أنّ هذه الالتفاتة بعد تلك الغفلة الشاملة للذات أيضاً، علامة أنّ الذات والصفة، ونعني ذات الله ووحدانيته كلاهما أمران فطريان.

وبعبارة أُخرى: إذا كان الاعتقاد بصفة من صفات الله فطرياً فمن الأحرى أن يكون « أصل الاعتقاد بوجوده » كذلك أمراً فطرياً لدى الإنسان، ولذلك فإنّ الآيات المذكورة حتى إذا كانت تعني فطرية التوحيد ـ حسبما ادّعوا ـ فإنّها تعني بالضرورة والأولوية فطرية الإيمان بوجود الله.

٤٩

تنبيه إلى عدّة نقاط

لقد قادنا التحقيق السابق إلى فطريّة مباني الدين وأُسسه وأُصوله، ويتعين علينا الآن أن ننبّه القارئ الكريم بعدة نقاط نراها ضرورية في المقام :

الأُولى: الفرق بين التوحيد الفطري والتوحيد الاستدلالي

يمكن البحث والتحدّث حول معرفة الله والتوصل إليها عن طريقين هما :

١. طريق الفطرة.

٢. طريق الاستدلال.

والمراد من « طريق الفطرة » هو أنّ كل إنسان يشعر في قرارة ضميره، ومن تلقاء نفسه بانجذابه نحو الله، وميله العفوي الفطري إليه دون أن يكون في ذلك متأثراً ببرهان، أو خاضعاً لدليل، أو نابعاً من تعليم معلّم، أو دعوة أحد، أو ما شابه ذلك من المؤثرات الخارجية.

والمقصود بالطريق الثاني أي التوحيد الاستدلالي، هو أن يجد المرء طريقه إلى معرفة الله عبر الاستدلال وإقامة البراهين العقليّة والفلسفيّة فلا يكون دليله في هذا السبيل، إلّا تلك البراهين ليس إلاّ.

وقد يحْدث خلط والتباس بين هذين الطريقين وهذين النوعين من « التوحيد » لذلك لا بد من التلميح إلى ما يساعدنا على التمييز بين « الفطري » و « غير الفطري » من الأُمور. وهذا هو ما نبينه في النقطة الثانية التالية :

٥٠

الثانية: كيف نميّز العمل الفطري عن غير الفطري ؟

يصدر من الإنسان في حياته نوعان من الأفعال :

١. الأفعال الفطرية.

٢. الأفعال العادية.

والأفعال الفطرية هي تلك الأفعال التي تنبع من جِبِلّة الإنسان وفطرته وغريزته كالتنفس، والدفاع عن النفس عند مواجهة الخطر.

وهذه الأعمال لا تختلف عمّا تفعله الحيوانات من أعاجيب الأفعال بحكم الغريزة وتحت هداية الفطرة وتأثير الجبلّة ودون أنْ تخضع في شيء من ذلك لأيِّ عامل خارجي عن وجودها.

والأفعال العادية هي التي لا يكون لها أيّة جذور غريزية باطنية بل يقوم بها الإنسان تحت تأثير العوامل الخارجية عن ذاته.

ولمزيد من التوضيح نمثل للأفعال الفطرية بالأمثلة التالية :

١. الغريزة الجنسية وميل كل جنس إلى مخالفه من الأُمور الفطرية التي تتجلّى لدى كل فرد من أبناء البشر في سنين متفاوتة.

فكل أبناء البشر ـ بلا استثناء ـ يميلون في هذه الفترة من العمر إلى الزواج واللقاء الجنسي دون أن يدعوهم إلى ذلك داع أو مبلّغ ودون أن يسوقهم إلى ذلك مرشد أو معلّم.

٢. الميل إلى الجاه والمكانة الاجتماعية هو الآخر من الأُمور الفطرية التي تنبع من أعماق الباطن البشري، وحنايا النفس الإنسانية.

٥١

فالحكم على الناس والحصول على المناصب ليس شيئاً لا يريده أحد أو يحتاج إلى تعليم معلّم.

٣. حب المال واكتناز الثروة وجمعها من الأُمور الفطرية كذلك.

ألا ترى كيف لا يشبع الإنسان من جمع المال، ولا يمل من تكديس الثروة وكأنّ جبلته عجنت بطلب الدنيا وحبها.

هذه هي بعض النماذج من الأفعال الفطرية، وهي كما نرى لا تخضع لأي تغيير وتبدّل، كما لا تخضع لأي عامل خارج الذات.

ويقابل ذلك مجموعة من الأفعال العادية التي تخضع لحالة التغيّر والتبدّل باستمرار.

فإذا كانت الحاجة إلى اللباس فطرية فإنّ كيفية اللباس الذي يلبسه الإنسان ليست فطرية، ولأجل هذا نرى التفاوت الكبير في كيفية الثياب والألبسة والأزياء واختلافها من شعب إلى شعب ومن أُمّة إلى أُخرى.

واليوم حيث يتزايد تقارب الشعوب بفضل المواصلات وأجهزة الإعلام بحيث يكاد يصبح العالم عائلة واحدة نجد أنّ مواصفات الأزياء وطُرُز الألبسة تتعرض للتغير والتبدل في كل عام في أغلب نقاط عالمنا، فتذهب طُرُز وتحل محلها طُرُز أُخرى جديدة بينما تبقى الحاجة إلى اللباس ثابتة لا تتغير.

وعلى غرار الأزياء تخضع أساليب تجميل النساء وطرق الزينة، وهكذا زخارف المنازل والمحلات والمخازن، للتغيّـر والتبدّل كل عام وينتخب كل شعب لنفسه زياً من الأزياء وطرازاً من الطُرُز، وشكلاً من الأشكال.

مع ملاحظة الأمثلة التي ذكرناها للنوعين يمكن تمييز الأمر الفطري عن

٥٢

الأمر غير الفطري بمعونة العلامات التالية :

١. حيث إنّ الأُمور الفطرية ذات جذور غريزية باطنية، لذلك فهي تتصف بالشمولية والعمومية، فليس هناك أحد من أبناء البشر يفقدها ويخلو منها.

٢. الأُمور الفطرية تتحقق بوحي الفطرة وهدايتها، ولا تحتاج إلى تعليم معلّم.

٣. كل فكرة أو عمل تكون له جذور فطرية لا تخضع لتأثير العوامل السياسية والاقتصادية والجغرافية، بل هي تعمل وتتحقق بعيداً عن نطاق هذه العوامل وتأثيرها.

٤. الدعايات المكثفة والمستمرة ضد الأُمور الفطرية يمكن أن تضعفها وتحد من نموها ولكن لا تتمكن ـ أبداً ـ من استئصالها والقضاء عليها بالمرة.

هكذا تكون الأُمور الفطرية بينما تكون الأُمور العادية ـ على العكس ـ.

فهي محلية.

وهي تتأثر بالعوامل والمؤثرات المحيطية والبيئية.

وهي تخضع لتعليم معلم.

وأخيراً هي مما تتمكن الدعايات المضادة من استئصالها بالمرة.

والآن علينا أن نرى ما إذا كانت غريزة التديّن تتصف بالصفات والعلامات الأربع التي ذكرناها أو لا ؟

٥٣

١. البحث عن الله ظاهرة عالمية

لقد كشف التحقيق الكلّي الذي قمنا به في مطلع هذا الفصل كشف النقاب عن « عالمية » هذا الإحساس، ونعني حس البحث عن الله والانجذاب إلى ما وراء المادة « الميتافيزيقيا ».

ونضيف هنا أنّ علماء التنقيب والآثار عثروا ويعثرون باستمرار ـ وخلال حفرياتهم ـ على معابد وهياكل للعبادة وأصنام تصور معبودات جميلة كان يتخذها البشر القدامى وتقدّسها الأجيال الغابرة البائدة، وتعود إلى أقدم العصور.

فها هو فريد وجدي يكتب في دائرة معارفه :

إنّ نتيجة التنقيبات في باطن الأرض تفيد أنّ الوثنية كانت من أظهر وأبرز الإدراكات البشرية، وكأنّ الاعتقاد بالمبدأ نشأ مع ظهور البشر جنباً إلى جنب(١) .

ويكتب « جان دايورث » الأُستاذ بجامعة كولومبيا حول الدين وأصالته في المجتمع البشري(٢) :

إنّك لن تجد أية ثقافة لدى أية أُمَّة من الأُمم وقوم من الأقوام إلّا ويكون في تلك الثقافة شكل من أشكال التديّن وأثر بارز للدين.

إنّ جذور التديّن ممتدة إلى أعماق التاريخ إلى الأعماق المجهولة من التاريخ السحيق البعيد غير المدون(٣) .

__________________

(١) دائرة المعارف: مادة « إله » و « وثن ».

(٢) الدين في التجارب.

(٣) المصدر السابق.

٥٤

٢. الفطرة هي الهادية إلى الله وليس التعليم

يستيقظ الشعور الديني في باطن كل إنسان ـ تماماً ـ كبقية الأحاسيس الباطنية دون معلم ودون إرشاد أو توصية من أحد.

فكما يحس الإنسان باطنياً وذاتياً في فترة من فترات حياته أو في كل الفترات بميل شديد إلى أُمور كالجاه أو الثروة أو الجمال أو الجنس وذلك تلقائياً ودون تعليم معلم، كذلك يستيقظ في باطنه « ميل إلى الله » وإحساس تلقائي يدفعه بدون إرادته إلى التفتيش عنه، وهو إحساس يتعاظم ويتزايد ويظهر ويتجلّى أكثر فأكثر أثناء البلوغ حتى أنّ علماء النفس يتفقون في أنّ بين « ازمة البلوغ » و « القفزة المفاجئة في المشاعر الدينية » في الفرد ارتباطاً وتلازماً لا ينكر.

ففي هذه الأوقات نشاهد نهضة قوية، واندفاعة شديدة في الشعور الديني حتى عند أُولئك الذين كانوا قبل تلك الفترة غير مكترثين بالدين وقضايا الإيمان.

ويبلغ الشعور الديني ذروته في سن السادسة عشرة حسب نظرية « استانلي هال ».

وأمّا الأشخاص الذين سبق لهم أن تلقّوا تربية دينية في عهد الطفولة، فلا توجد لديهم مثل تلك النهضة المفاجئة، بل يمتد الشعور الديني الموجود قبل البلوغ إلى ذلك الوقت دونما مفاجأة.

إنّ ظهور الميل المفاجئ إلى الدين وإلى الله ومسائل الإيمان دون تعليم أو توجيه، لهو أحد الدلائل القاطعة على فطرية هذا الأمر، وكون هذا الإحساس يظهر فطرياً شأن بقية الأحاسيس الإنسانية الفطرية الأُخرى.

٥٥

ولكن علينا أن لا نغفل عن نقطة مهمة وهي: أنّ هذا الإحساس، وكذا بقية الأحاسيس والمشاعر الإنسانية لو لم تحط بالمراقبة الصحيحة والرعاية اللازمة أمكن ـ بل من المحتم ـ أن تعروها سلسلة من الانحرافات وتتعرض للاعوجاج كما هو الحال عند الوثنيين وغيرهم ممن تركوا عبادة الله، وأخذوا بعبادة الآلهة.

٣. الشعور الديني ليس وليد العوامل المحيطية

عندما نجد الشعور الديني منتشراً وسائداً في كل مكان وكل صقع من هذا العالم، وفي كل عصر من عصور التاريخ البشري، فإنّ من البديهي أن نستنتج أنّ هذا الشعور نداء باطني فطري لا محرك له سوى الفطرة، ولا مقتضي له سوى الجبلة.

لأنّه لو كان للظروف الجغرافية أو العوامل الأُخرى دخل في نشوء هذا الشعور، لوجب أن يوجد في مكان دون مكان، ولدى شعب دون شعب، ولدى طبقة خاصة دون أُخرى.

وبتعبير آخر لوجب أن يكون هذا الشعور لدى من تتوفر لديه الظروف الجغرافية أو السياسية أو الاقتصادية الخاصة دون من لا تتوفر فيه تلكم الخصوصيات. في حين أنّ الأمر على العكس من هذا تماماً، فالشعور الديني موجود في جميع المناطق ولدى جميع الشعوب وفي جميع أدوار التاريخ البشري الطويل وهذا هو بالذات شأن كل ما لا يخضع لتأثير العوامل الخارجية وبالتالي شأن كل أمر فطري.

وفي هذا الصدد يقول « بلورتاك » المؤرخ الإغريقي الشهير منذ نحو من ألفي سنة :

٥٦

من الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب ولا مسارح ولكن لم ير قط مدينة بلا معبد، أو لا يمارس أهلها عبادة(١) .

ويقول العالم الأثري الراحل الدكتور سليم حسن :

دلت البحوث العلميّة البحتة الآن على أنّ لكل قوم من أقوام العالم عامة ـ مهما كانت ثقافتهم منحطة ـ ديناً يسيرون على هديه ويخضعون لتعاليمه(٢) .

٤. الدعايات حدّدت هذا الشعور ولم تستأصله

لا شك في أنّ الدعايات المناوئة، في مقدورها أن تحد من نمو كثير من الأحاسيس والمشاعر الدينية، ولكنّها لا تستطيع ـ بتاتاً ـ أن تقضي عليها وتستأصلها.

وحتى الآن ورغم سيطرة الأفكار اليسارية على ما يقرب من ثلث عالمنا المعاصر ومحاولة البعض لحبس « الشعور الديني » في سجن الاستعمار الشيوعي أو القضاء عليه بالمرة(٣) فإنّ هذه الجهود المناوئة للدين لم تحقق أي قسط مهم من النجاح في القضاء على الدين، أو تفريغ قلوب أكثرية سكان هذا العالم من هذا الشعور.

فها هو الشعور الديني ـ في نفس الاتحاد السوفياتي البلد الشيوعي الأُم ـ رغم مرور أزيد من ستين عاماً على الثورة الشيوعية فيها لا يزال يحتفظ بمكانته في أعماق القلوب، ولذلك عمدت السلطات ـ في الأوان الأخير ـ إلى إعطاء بعض

__________________

(١) بين العلم والدين: ٣٦.

(٢) بين العلم والدين: ٢٥.

(٣) حتى أنّ بعض الأحزاب التقدمية رفعت مؤخراً شعار: « القضاء على الدين دين ».

٥٧

الحريات للمسلمين والمسيحيين لإقامة شعائرهم الدينية.

وفعلت الصين مثل ذلك مؤخراً كما تنقل نشرات الأخبار ووكالات الأنباء.

كل ذلك برهان ساطع ودليل قاطع على أنّ الشعور الديني فطرة فطر عليها الناس، جميع الناس لا تمحوها الدعايات المناوئة، ولا أي شيء آخر، وإن كانت تقلل من اندفاعاتها وتحد من نموها، بعض الوقت، وبعض الشيء.

الثالثة: الشعور الديني أو البعد الرابع في الروح الإنسانية

إذا كان القرآن الكريم وأحاديث أئمّة الإسلام تعتبر الشعور الديني أمراً نابعاً من الفطرة، وراجعاً إليها وأمراً جبل عليه الإنسان يوم خلق فإنّ علماء النفس منهم خاصة يصفون هذا الشعور بأنّه « البعد الرابع » للروح الإنسانية.

وإذا تهافتت في الغرب نظرية الأبعاد الثلاثة للجسم إثر ظهور النظرية النسبية التي أضافت بعداً رابعاً للأجسام هو الزمان مضافاً إلى أبعاده الثلاثة المنظورة ( وهي الطول والعرض والعمق ) فقالت: كما أنّ الجسم لا يخلو من هذه الأبعاد الثلاثة كذلك لا يخلو من الزمن الذي هو وليد الحركة بما أنّ الأجسام في حركة دائمة.

أقول: كما تهافتت نظرية الأبعاد الثلاثة بظهور البعد الرابع للأجسام، كذلك مع اكتشاف الشعور الديني في الإنسان والاطلاع على أنّ هذا الشعور يمثل أحد العناصر الثابتة والطبيعية في الروح والنفس الإنسانية تهافتت النظرية القائلة بأنّ للروح الإنسانية ثلاثة أبعاد فحسب، وثبت في المآل أنّ في الروح والفطرة البشرية حسّاً آخر علاوة على الأحاسيس والغرائز الثلاث المعروفة، وهذا

٥٨

الحس هو « حس التدّين » الذي لا يقل أصالة عن بقية الأحاسيس الأصيلة والمشاعر المتأصلة في وجود الإنسان.

وإليك فيما يلي بيان الغرائز والأحاسيس الثلاث باختصار :

١. غريزة حب الاستطلاع

وهذه الغريزة هي التي دفعت وتدفع الفكر الإنساني ـ منذ البداية ـ إلى البحث وإلى دراسة المسائل والمشاكل والسعي لاكتشاف المجهولات وفك الرموز واستكناه الحقائق. وهي الغريزة التي نشأت في ظلها العلوم والصناعات وتوسعت المعارف وتطوَّرت وتقدّمت وهي الغريزة التي ساعدت المكتشفين والمخترعين منذ القدم وكانت معواناً ومشجعاً لهم على مواصلة البحث المضني لاكتشاف ألغاز الطبيعة وأسرار الحياة وكشف القناع عنها، وتحمل كل الصعوبات والمتاعب في ذلك الطريق الوعر.

٢. غريزة حب الخير

وهي منشأ ظهور الأخلاق، ومعتمد الفضائل والسجايا الإنسانية والصفات النفسانية المتعالية.

وهي الغريزة التي تدفع الإنسان إلى أن يحب بني نوعه ويطلب العدل، والحق، والسلام.

وهي التي توجد في المرء نوعاً من الميل الفطري الباطني إلى الأخلاق النبيلة والسجايا الحميدة ونفوراً من الرذائل والصفات الذميمة.

٥٩

٣. غريزة حب الجمال

وهي منشأ الفنون الجميلة قديماً وحديثاً وسبب ظهور الأعمال الفنية في شتى مجالات الحياة.

٤. غريزة التدّين

وتعني بأنّ كل فرد من أبناء الإنسان يميل بنحو ذاتي وفطري، وبحكم غريزته إلى الله ويميل إلى التدّين، وينجذب عفوياً إلى معرفة ما وراء الطبيعة والقوة الحاكمة على هذا الكون الذي يعيش ضمنه ويكون وجود الإنسان فرعاً من وجوده وجزءاً من أجزائه.

تلك القوة التي بيدها أمر العالم ويمكن أن تنقذه من البلايا، وتدفع عنه كل مكروه إن شاءت.

ولقد أوجد اكتشاف هذا الشعور وهذا البعد الأخير حركة عظيمة في الأوساط العلمية، إذ حط هذا الاكتشاف العلمي النفساني الهام من غرور ماديي القرن العشرين وكبريائهم.

فإذا كان إنكار ما وراء الحس « الميتافيزيقيا » دليلاً على الفهم والعلم والتحقيق ذات يوم، فقد أصبح هذا الأمر ـ بعد اكتشاف البعد الرابع ـ علامة الجهل والتعصب والتحجّر، والإنكار لأبده الحقائق الحاضرة.

وإذا كانت مقالة لينين حول الدين، تعتبر ذات يوم في نظر البعض أصلاً لا يقبل النقاش والجدل، وكانت جماهير السواد تتصور بأنّه قد اكتشف لغزاً وسراً عظيماً من أسرار الكون، فقد أصبحت هذه النظرية بعد اكتشاف البعد الرابع ،

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672